تفسير القرآن الكريم - المقدم

محمد إسماعيل المقدم

الفاتحة

تفسير سورة الفاتحة

مقدمة في فضل تعلم القرآن وتعليمه ومكانة أهله

مقدمة في فضل تعلم القرآن وتعليمه ومكانة أهله الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قد صح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يعطي القرآن الكريم اهتماماً عظيماً جداً، وعلى هذا ربى أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ومن مظاهر هذا الاهتمام بكتاب الله تبارك وتعالى: أن إقراء القرآن وتحفيظ القرآن كان أول ما عمد إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إبلاغ دعوته الكبرى، فكان مبعوثوه إلى مختلف الجهات أول ما يقومون بإقراء الناس القرآن. وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـ عمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمن كتاباً أمره فيه بأشياء منها: أن يعلم الناس القرآن ويفقههم فيه كما جاء في سيرة ابن هشام. وروى البخاري عن أبي إسحاق عن البراء قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا ويحفظاننا القرآن. وكان مصعب رضي الله تعالى عنه يسمى: المقرئ، يعني: الذي يقرئ الناس القرآن ويعلمهم كتاب الله تبارك وتعالى. وكان الرجل من المسلمين إذا هاجر من المدينة دفعه النبي صلى عليه وآله وسلم إلى رجل من الحفظة ليعلمه القرآن. ولما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ثم أراد الرجوع إلى المدينة استخلف عتاب بن أسيد وخلف معه معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه يقرئهم القرآن ويفقههم في دينهم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة، فبعث معهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القراء) إلى آخر الحديث كما هو في صحيح مسلم، وفيه ذكر غدر هؤلاء القوم بالقراء، حيث قتلوهم رضي الله تعالى عنهم. وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإكرام أهل القرآن إكراماً خاصاً ومتميزاً، حتى إنه صلى الله عليه وآله وسلم سماهم اسماً ينبض بأعظم المعاني، حيث سمى أصحاب القرآن وأهل القرآن: أهل الله وخاصته، كما رواه ابن ماجة وأحمد والدارمي من حديث أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه. وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يميز بين الناس ويرتبهم ترتيباً يخضع لحفظ كل منهم من القرآن الكريم، فمثلاً: في إمامة الصلاة يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، حتى عند دفن الموتى كان يقدم أكثرهم قرآناً، وعند اختيار أمير على مجموعة من الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم اختار ذلك الصحابي الذي كان يحفظ سورة البقرة وقال: (أنت أميرهم). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله -يعني: من علامات تعظيم الله سبحانه وتعالى وإجلاله- إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقصد) رواه أبو داود عن أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه. قوله: (وحامل القرآن) يعني: وإكرام حامل القرآن. قوله: (غير الغالي فيه) يعني: الذي لا يغلو في تعامله مع القرآن، حتى يضيع غير ذلك من الواجبات عليه. قوله: (والجافي عنه) وهو البعيد عن القرآن الهاجر للقرآن. وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فدل على أن أشرف الوظائف الانشغال بتعليم القرآن وتعلمه؛ ومن أجل هذا الحديث قعد الإمام الجليل أبو عبد الرحمن السلمي أربعين عاماً يقرئ الناس القرآن بجامع الكوفة مع جلالة قدره وكثرة علمه. وسئل سفيان الثوري رحمه الله تعالى أيهما أفضل الجهاد أم تعليم القرآن؟ فرجح تعليم القرآن في الثواب والفضل على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وعن عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه -كما في الحديث الذي رواه الحاكم)، والله أعلم بصحته. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤم القوم أكثرهم قرآناً، فإن كانوا في القراءة واحداً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة واحداً فأفقههم فقهاً، فإن كانوا في الفقه واحداً فأكبرهم سناً)، فهذا فيه رد على بعض الناس الذين حينما يختارون إمامهم في الصلاة يقدمون السن على ما عداه من الاعتبارات، وينبغي التقديم على الترتيب الذي دلنا عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (يؤم القوم أكثرهم قرآناً)، وهذا في حالة عدم وجود إمام راتب للمسجد. وكان القراء أصحاب مجلس عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه وأصحاب مشاورته. ففضل الاشتغال بالقرآن الكريم لا يدانيه فضل، وكل من انتسب إلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عامة، وإلى الدعوة السلفية بصفة خاصة، فينبغي أن يتميز باهتمامه بالقرآن العظيم، ووجود علاقة خاصة بكلام الله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). وقد ثبت في فضيلة حفظ كتاب الله عز وجل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقال لصحاب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). ومما يرغب في حفظ القرآن الكريم كثرة الأحاديث في فضل ذلك، ومنها: أن الله تبارك وتعالى لا يحرق أو لا يعذب بالنار صدراً هو وعاء للقرآن، فإن ضم القلب كلام الله تبارك وتعالى فيرجى من رحمة الله تبارك وتعالى ألا يعذب بالنار هذا القلب الذي وعى القرآن وتشرف به، فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وجاء في بعض التفاسير لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا) أن الإنسان إذا نال شرف القرآن فعليه أن يستغني به عما عداه، عليه ألا ينزل إلى مرتبة التنافس مع الناس في الدنيا، وألا يذل نفسه وقد حمل القرآن الكريم، وأن يكون عزيزاً، وهذا على أحد أوجه تفسير الحديث. فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، ويكفي أنك إذا شرفت بنيل إجازة من القراء المشايخ فقد نلت شرفاً عظيماً جداً لا يدانيه شرف، ويكفي أنك ستكون في سلسلة تظل تتدرج من شيخك إلى شيخ شيخك، إلى التابعين، إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم، إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى رب العزة، فكأنه حبل طرفه عندك والطرف الآخر عند الله عز وجل، فهل يعلم أحد شرف ونسب أعظم من هذا النسب؟! طرف سلسلة الإسناد تبدأ به وتنتهي بالله عز وجل! فالقرآن يغني صاحبه عن كل حسب ونسب، وشرف التفقه فيه فوق كل شرف، ألا ترى أنه لا يصد واحداً من أهل القرآن عن إمامة الناس في الصلاة، حتى لو كان أعرابياً أو عبداً مملوكاً أو حتى ولد زنا على قول الإمام أبي حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني. إذاً: شرف القرآن يرفع عنه كل وضيعة، ويؤهله لإمامة الصلاة التي هي من الوظائف الشرعية الشريفة. كذلك القيام على خدمة المصحف الشريف وتعليمه للناس هو فخر الفاخرين، وشرف من يطلب الشرف، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وفي الحقيقة نحن مقصرون تقصيراً شديداً بالنسبة للاهتمام بتحفيظ القرآن ومدارسته، وقد قال بعض السلف: عجبت لمن لم يحفظ القرآن ولا يعلم تأويله كيف يلتذ بتلاوته؟! أي: عجبت ممن يقرأ القرآن وهو لا يعرف تفسيره كيف يلتذ بتلاوته؟!

الفضائل التي اجتمعت للقرآن الكريم

الفضائل التي اجتمعت للقرآن الكريم الاشتغال بمعاني القرآن وتفسير القرآن، والاشتغال بتلاوته وحفظه وتجويده ومدارسته أمر مهم، ونحن على أعتاب هذا الشهر الكريم المبارك شهر رمضان، الذي أراد الله تبارك وتعالى أن يشرف هذا الشهر العظيم بربطه ربطاً وثيقاً بالقرآن، فقال تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، فاجتمع لهذا القرآن الشرف من كل الوجوه: شرف المكان، فقد أنزل في أشرف بقاع الأرض وهي مكة المكرمة والمدينة النبوية. شرف النبي، فقد أنزل إلى أشرف نبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام. شرف اللغة، فقد نزل باللغة العربية التي هي لغة أهل الجنة. وقد نزل به أشرف الملائكة وهو جبريل عليه السلام. وهو لأشرف أمة وهي أمة الإسلام، وأمة التوحيد. ونزل في أشرف شهر، وهو شهر رمضان. ونزل في أشرف ليلة وهي: ليلة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:1 - 2]. فاجتمع للقرآن العظيم هذا الشرف العظيم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أصحابه من بعده، ثم السلف الصالح من بعدهم إذا دخل شهر رمضان يزيدون من الاهتمام بكتاب الله تبارك وتعالى، حتى كان بعض السلف كـ سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك كل شيء من العلم، وانشغل فقط بتلاوة القرآن الكريم وتدبره.

الطريقة المثلى لحفظ القرآن وفهم معانيه

الطريقة المثلى لحفظ القرآن وفهم معانيه نبدأ بتفسير القرآن تيمناً بهذا الشهر الكريم، واستدراكاً لما نحن مقصرون فيه بالفعل، وهذه حقيقة لا تنكر، وللأسف الشديد أن بعض أهل البدع عندهم اهتمام بالقرآن الكريم حفظاً ومدارسة وتلاوة أكثر منا مع ما هم عليه من المخالفة للسنة، ونحن أولى بالقرآن منهم، فعلينا أن نستدرك ونصحح التقصير الواقع منا في حق كتاب الله تبارك وتعالى. فمن أجل ذلك نحاول أن نجتمع على هذه السنة الحسنة، وأن نشرع بإذن الله تبارك وتعالى في محاولة لتنظيم موضوع حفظ القرآن بالنسبة للإخوة الحضور إن شاء الله تبارك وتعالى، وقد تم اختيار كتاب (قرة العينين)، وهو حاشية القاضي محمد كنعان على تفسير الجلالين، وسنتكلم إن شاء الله على هذا التفسير بالتفصيل، على أساس أننا نجمع بين حفظ القرآن ودراسة التفسير دراسة مختصرة ومبسطة. وكثير من إخواننا الحضور قد حفظوا القرآن ولله الحمد، ومن الله عليهم بذلك، وحتى تكون لهم فضيلة أيضاً فإنهم يشاركوننا في المراجعة، وذلك بدراسة التفسير. ولن تكون الجرعة كبيرة، حتى نعين أكبر قدر من الإخوة مهما تفاوتت ظروفهم وإمكاناتهم في أن نكون معاً في قافلة واحدة بإذن الله تبارك وتعالى، والمجال مفتوح لمن أراد أن يسبق، فيعطى سورة أخرى أو في نفس السورة بمعدل أكبر حسب ظروفه، لكن المعدل الذي سنجتهد إن شاء الله في حفظه هو ربع حزب في كل أسبوع، وأعتقد أن هذا أقل ما ينبغي، فإذا حفظنا بمعدل ربع حزب في كل أسبوع فإن شاء الله بعد أربع إلى خمس سنوات يكون قد حفظ الإنسان القرآن كله. وقد يستبعد بعض الناس الزمن ويقول: خمس سنوات أو أربع سنوات هذا كثير! فنقول: ربما حاول شخص منذ عشر سنوات وهو إلى الآن لم يفعل شيئاً يذكر، ومعلوم أن الأيام تجري والزمان يجري، وطالب العلم يستثنى من كراهة طول الأمل، بل يستحب لطالب العلم طول الأمل؛ لأنه لولا طول الأمل لما أقدم أحد على حفظ القرآن، ولا على حفظ كتب السنة، ولا على طلب العلم الشرعي الشريف، فطول الأمل يباح لطالب العلم؛ من أجل تحصيل الفضائل، وتحصيل هذه العلوم العظيمة. نرجو من الإخوة ألا يخيبوا ظننا فيهم، فكل واحد لا يبعد نفسه عن هذه القافلة إن شاء الله تبارك وتعالى.

مميزات تفسير الجلالين وخصائصه

مميزات تفسير الجلالين وخصائصه إن المتأمل في تفسير الجلالين -إذا كان على علم بالتفسير ويراجع كتب التفسير- يجد أن فيه مميزات عظيمة جداً، فما وضعت فيه الكلمة إلا بحساب دقيق على وجازته، فكل كلمة فيه موضوعة نتيجة اختيار ودراسة وتحقيق وتمحيص، والكتاب يجمع كثيراً جداً من المميزات التي سنلمسها بأنفسنا. لكن كتاب تفسير الجلالين لا يستطيع أحد أن ينتزع منه الفائدة المرجوة إلا إذا درسه على غيره ممن يستطيع أن يوضح له سبب وجود هذه الكلمة بالذات دون غيرها في هذا الموضع، فربما كثير من الناس يقرءون فيه لوحدهم دون أن يكون لهم علم بالتفسير من قبل فيشعر أحدهم أنه كلام عادي، يعني: لا فائدة منه، والحقيقة بخلاف ذلك، ونحن لا نريد أن نتوسع في التفسير، بحيث إننا لا نزيد في التفسير على ربع حزب بحيث يواكب التفسير الحفظ. تفسير الجلالين شمل كثيراً جداً من الفوائد على وجازته، ومن أجل أن ننهي تفسيراً كاملاً للقرآن في هذا الوقت الوجيز، فإننا سنأخذ في الأسبوع ربع حزب، والكتب كثيرة جداً في التفسير، لكن العبرة بأقل حجم وأكثر فوائد. فمن مميزات تفسير الجلالين أن فيه تفسير المفردات الذي هو علم غريب القرآن، فعلم غريب القرآن موجود ضمن هذا التفسير بسهولة ويسر. تجد أسباب النزول. تجد القراءات المشهورة. تجد الناسخ والمنسوخ. تجد الإشارة إلى أحكام القرآن. تجد الأحاديث المرفوعة التي فسر بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعض الآيات. تجد الإعراب. تجد كثيراً جداً من الفوائد. وفي مقابل ذلك ستجد بعض المؤاخذات وهي تنحصر في أمور محدودة: الأمر الأول: تأويل بعض صفات الله تبارك وتعالى. الأمر الثاني: الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة. الأمر الثالث: الإسرائيليات. من أجل ذلك قام القاضي محمد كنعان بعمل حاشية سماها: (قرة العينين على تفسير الجلالين)، فإن تيسرت لكم فبها ونعمت، وإن لم تتيسر فتفسير الجلالين أشهر تفسير موجود على الإطلاق، وهذا سر من أسرار اختيارنا له، وهناك بعض طبعات المصاحف الشريفة معها تفسير الجلالين، فما نذكر من فوائد مزيدة يمكن تقييدها بقلم في الهوامش. وأرجو من الإخوة كما أنهم يجتهدون في حفظ القرآن يجتهدوا أيضاً في حفظ تفسير الجلالين بجانب حفظ القرآن، فإن هذا مما يعين على فهم التفسير.

مقدمات متعلقة بتفسير الجلالين

مقدمات متعلقة بتفسير الجلالين

مقدمة محقق ومراجع تفسير الجلالين

مقدمة محقق ومراجع تفسير الجلالين يقول القاضي كنعان: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، أحمده حمداً يوازي نعمه، ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن تفسير الجلالين من أوجز التفاسير وأدقها عبارة، قال عنه في كشف الظنون: وهو مع كونه صغير الحجم كبير المعنى؛ لأنه لب لباب التفسير-يعني: خلاصة خلاصة التفاسير- لذلك اعتبره العلماء تفسيراً للمنتهين من طلبة العلم لا للمبتدئين منهم، ولا عجب في ذلك؛ فلقد تضمن تفسيراً للآيات بعبارات مختصرة موجزة اكتفى في كثير منها بالتلميح والإشارة، واعتنى مؤلفاه رحمهما الله تعالى اعتناءً كبيراً؛ ببيان وجوه القراءات والإعراب، حتى بات هذا التفسير خلاصة من خلاصات العلوم، لا يستفيد منه الفائدة المرجوة، ولا يدرك قيمته سوى طلبة العلم بين أيدي العلماء. ولكنه مع ما فيه من فوائد لم يخل من إسرائيليات وروايات لا أصل لها، وأحاديث ضعيفة الإسناد أو موضوعة، نقلت إلى الجلالين من دون بيان ولا تنبيه، فأساءت هذه القصص والأخبار الباطلة إلى محاسن هذا التفسير ومكانته. ومع ذلك فقد انتشر انتشاراً واسعاً؛ بسبب طباعته على هوامش المصحف الشريف، الأمر الذي دفع أكثر الراغبين في الحصول على نسخة من كتاب الله تعالى الذي بهامشه تفسير الجلالين، فتهافتت مؤسسات الطباعة والنشر على طباعته وتوزيعه بأعداد كبيرة لا تحصى، من دون تنبيه أو انتباه إلى ما فيه. فلم نجد من بين دور النشر كافة من اعتنى بهذا التفسير كما هو الواجب حتى الآن، لا من حيث المعنى وذلك ببيان ما فيه من إسرائيليات وتفسيرات غير دقيقة؛ ليعرف القارئ وجه الصواب فلا يقع في اعتقاد باطل، أو يفهم معنىً غير صحيح لآية من كتاب الله عز وجل، ولا من حيث النص، وذلك بتحقيقه وضبطه وتحرير عبارة مؤلفيه الجلالين رحمهما الله تعالى، والغريب في الأمر أن ينتشر هذا التفسير كل هذا الانتشار، وتسمح السلطات في جميع بلاد المسلمين بتداوله، مع ما فيه من إسرائيليات وقصص باطلة وأخبار موضوعة! ثم يقول القاضي كنعان: لذلك رأيت واجباً علي بعد أن اطلعت على ما في تفسير الجلالين من فوائد مجهولة وغامضة، وما فيه بالمقابل من إسرائيليات وقصص وأقوال غير صحيحة، أن أقوم بمراجعته وقراءته على مهل، فأقبلت على العمل فيه بقراءة دقيقة وتحقيق هادئ، فتوقفت عند كل جملة غير مستقيمة المعنى فصوبتها، أو نقل غير محقق فبينت ما فيه ووجهته.

أسباب عدم تفسير المحقق للقرآن وتوجهه لتحقيق الجلالين

أسباب عدم تفسير المحقق للقرآن وتوجهه لتحقيق الجلالين بعض الناس قد يقول: لماذا بذل المحقق هذا الجهد الجليل في تصحيح ومراجعة تفسير الجلالين؟ فهلا وضع تفسيراً مستقلاً من البداية؟! قال كنعان: لم أرغب في ذلك لسببين: أولهما: قصور باعنا في هذا الفن، وتهيبنا الخوض في لجته؛ خوفاً من الوقوع في عثرات خطيرة كما فعل بعض المعاصرين الذين استهونوا هذا الشأن، فشت بهم الفكر، وعثرت أقلامهم عثرات جسام لا عذر لهم فيها، ولا مبرر يعفيهم من عقابها وعواقبها. فهو لا يرى من قدر نفسه أنه يستطيع أن يستبد بتصنيف كتاب مستقل في تفسير كلام الله تبارك وتعالى كما سهل ذلك على غيره ممن تسنم هذه الذروة دون أن يتأهل لها، وبالتالي تخبط وصدر منه تعد على كلام الله، وعلى معاني كتاب الله تبارك وتعالى. يقول كنعان: من ذلك قول أحدهم في تفسير قول الله تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]: ولكنه رغم ذلك ترك للناس حرية اختيار الإله الذي يرضونه مصدراً لنظام حياتهم! انظر كيف فهم معنى: (لا إكراه في الدين)! فجعل معناها أن الله سبحانه وتعالى ترك للناس حرية اختيار الإله الذي يرضونه مصدراًَ لنظام حياتهم، بل ترك لهم حرية الكفر والإلحاد في الله تبارك وتعالى، ولكل إنسان أن يختار الإله الذي يعجبه! هذا الكلام فيه هدم للإسلام، وكل دين الإسلام يتحطم بمثل هذا التفسير المنحرف، وهذا عدوان على كتاب الله وليس تفسيراً لكتاب الله تبارك وتعالى. هذا نموذج من نماذج التحريف الشديد في كلام الله، ومثله ما حصل من بعض المعاصرين أيضاً مثلاً في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] يقول: كل هؤلاء يمكن أن يدخلوا الجنة! واستدل بهذه الآية على أن الأديان كلها سواسية، فما دام أن اليهودي أو النصراني يؤمن بالله واليوم الآخر فقد يدخل الجنة! ثم يقول كنعان: وكأنه هو المفسر الذي لم يفسر قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال:39]. (فتنة) يعني: شرك، والمعنى حتى لا يبقى في الأرض شرك. وإعراب (فتنة) فاعل، ولفظة (تكون) هنا تامة وليست ناقصة أو ناسخة، ففتنة فاعل لتكون. ومعناها: أي حاربوا المشركين حتى لا يبقى على وجه الأرض شرك، وهذا هو الهدف الأسمى من رسالة الإسلام، ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. يقول أيضاً: ومن هذه النماذج تفسير أحدهم الأكل من الشجرة في قوله تعالى: {وَكُلا مِنْهَا} [البقرة:35] بقوله: إن الأكل هو العلاقة الزوجية بين آدم وحواء عليهما السلام من وطء وغيره، فهذا هو المقصود بالأكل من الشجرة! إلى غير ذلك من الأقوال التي قيلت بدافع من التسرع والعجلة وعدم التحقيق، وأحياناً بدافع التشوف إلى التجديد، وإنه لمنزلق خطير. يقول: فلم أشأ أن أنشئ تفسيراً جديداً؛ لأن تفاسير القرآن الكريم كثيرة جداً ولله الحمد، وقد أخذ بعضها عن بعض، بل الذي ينقصنا هو القراءة الدقيقة الواعية لتلك التفاسير، والرجوع في فهم النص القرآني إلى مصادره الموثوقة؛ لكي لا يقول أحد في كتاب الله برأيه. إذاً: هذا هو السبب الأول الذي منع المحقق من تصنيف مصنف مستقل في التفسير. السبب الثاني: يقول: إن أي تفسير جديد لم يحقق الغاية التي نسعى إليها ألا وهي تبصير المسلمين بكتاب الله تعالى، ومساعدتهم على فهم آياته، وتنبيههم إلى ما في هذا التفسير وأمثاله من روايات وأقوال لا يجوز اعتقاد مضمونها؛ لأن التفسير الجديد لن ينتشر بين أيدي الناس على النحو الذي بلغه تفسير الجلالين، من حيث الشهرة وثقة الناس فيه. فمهما ألف معاصر في التفسير فهل سيقبل عليه الناس كإقبالهم على تفسير الجلالين؟ لا، إذاً نستثمر شهرة هذا التفسير، وإقبال الناس عليه، بأن نقوم بتصحيحه، فنستفيد مما فيه، ونتجنب ما فيه من الأخطاء. قال كنعان: فلدينا عدد من التفاسير الحديثة لا يعرفها أكثر الناس، فيكون إصلاح هذا التفسير الواسع الانتشار مع إبقائه على نحو ما هو عليه الآن بهامش المصحف الشريف أكثر فائدة وأعم نفعاً، بل نراه واجباً وجوب كفاية، لذلك قمنا بهذا الواجب بفضل الله تعالى وتوفيقه.

اسم تحقيق تفسير الجلالين ومعناه

اسم تحقيق تفسير الجلالين ومعناه قال كنعان: تنامى هذا العمل وكبر حتى صار جزءاً يتكامل مع التفسير، فسميناه: قرة العينين على تفسير الجلالين. ومن المناسب أن نعرف ما معنى قرة العينين؟ قال: قولهم: أقر الله عينه، القر ضد الحر. يعني: القر هو البرد، ومعنى أقر الله عينه يعني: أبرد الله دمعته؛ لأن العرب عندهم أن الدموع نوعان: دموع ساخنة. ودموع باردة. فما الفرق بينهما؟ دموع الفرح تكون باردة، ودموع الحزن تكون حارة ساخنة. يقول هنا: أقر الله عينه، يعني: أبرد الله دمعته، فهذا التعبير مقصود به أن يكون مسروراً، حتى إنه من شدة سروره يبكي دموعاً باردة. وقال الأصمعي: أقر الله عينه، أي: أبرد الله دمعته؛ لأن دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، وأقر: مشتق من القرور، والقرور هو الماء البارد، وقال غير الأصمعي: معنى أقر الله عينك أي: صادفت ما يرضيك فتقر عينك من النظر إليه. وقال أبو طالب: معنى أقر الله عينه، يعني: أنام الله عينه، والمعنى: صادف سروراً أذهب سهره فنام. وقال عمرو بن كلثوم: بيوم كريهة ضرباً وطعناً أقر به مواليك العيونا يعني: نامت عيونهم لما ظفروا بما أرادوا منه، هذا معنى: قرة العينين.

ترجمة مؤلفي تفسير الجلالين وتحديد ما فسره كل منهما

ترجمة مؤلفي تفسير الجلالين وتحديد ما فسره كل منهما قولنا: تفسير الجلالين، من هما الجلالان؟ ومن الأسبق منهما؟ الجلالان كلاهما من مصر. لقد ألف هذا التفسير علمان مشهوران من أعلام الإسلام كل واحد من هذين الإمامين الجليلين لقبه جلال الدين، وهما: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد المحلي، نسبة إلى المحلة الكبرى مدينة في مصر، المتوفى عام 864 هجرية -يعني: سنة 1459 ميلادية، في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وفي النصف الثامن من القرن التاسع الهجري - والإمام المحلي هو الذي فسر فاتحة الكتاب وحدها، ثم من أول سورة الكهف حتى آخر سورة الناس. أما الإمام الآخر فهو الإمام أبو الفضل عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر الأسيوطي أو السيوطي، بضم السين، نسبة إلى أسيوط أو سيوط بضم الهمزة والسين، إحدى مدن الجنوب في مصر، وتعرف الآن بأسيوط بفتح الهمزة، المتوفى سنة 911 هجرية- الموافق سنة 1505 ميلادية- وهو الذي فسر التتمة، فكمل ما لم يفسره الإمام المحلي من البقرة إلى الإسراء، وقد وهم صاحب (كشف الظنون) في نسبة هذا القسم إلى الجلال المحلي، فكثير من الناس يظن ما دام أن هذا تفسير الجلالين: جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، فيتوهم أن المحلي فسر من الفاتحة إلى الإسراء، والسيوطي كمل؛ لأن: المحلي فسر الفاتحة، فظن أنه واصل التفسير إلى الإسراء، لكن المحلي فسر الفاتحة فقط ثم فسر من الكهف إلى الناس، أما السيوطي فمن البقرة إلى الإسراء. والإمام السيوطي رحمه الله تعالى وضع هذا التفسير وعمره اثنتان وعشرون سنة أو أقل منها بشهور، وذلك بعد وفاة الجلال المحلي بست سنين، وكتب كل هذا التفسير العظيم والدقيق دقة متناهية في أربعين يوماً! قال كنعان: لم يضع الجلالان رحمهما لله تعالى لهذا التفسير اسماً، بل عرف بين العلماء بتفسير الجلالين أو بالجلالين، وقد اعتمد الجلالان في تفسيرهما هذا على عدد من التفاسير، أشار إليها الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة، عند ترجمته للإمام موفق الدين الموصلي، فقال: وله التفسير الكبير والصغير جود فيه الإعراب وحرر أنواع الوقوف، وأرسل منه نسخة إلى مكة والمدينة والقدس، قلت: وعليه اعتمد الشيخ جلال الدين المحلي في تفسيره، واعتمدت عليه أنا في تكملته مع الوجيز وتفسير البيضاوي وابن كثير. ولم يكتب الجلال المحلي مقدمة ولا خاتمة للقسم الذي فسره، أما الجلال السيوطي فقد كتب مقدمة مختصرة في أول سورة البقرة، وكتب خاتمة للقسم الذي فسره، وقد نقلناها من حيث كانت في آخر تفسير سورة الإسراء إلى هنا في هذه المقدمة لإفساح المجال ثمة للتفسير. قال السيوطي في خاتمة ما فسره: هذا آخر ما كملت به تفسير القرآن الكريم الذي ألفه الشيخ الإمام العالم العلامة المحقق جلال الدين المحلي الشافعي رضي الله عنه، وقد أفرغت فيه جهدي وبذلت فكري فيه، في نفائس أراها إن شاء الله تعالى تجزي، وألفته في مدة قدر ميعاد الكليم -أي: في أربعين يوماً-، وجعلته وسيلة للفوز بجنات النعيم، وهو في الحقيقة مستفاد من الكتاب المكمل، وعليه في الآي المتشابهة الاعتماد والمعول، رحم الله امرأً نظر بعين الإنصاف إليه، ووقف فيه على خطأ فأطلعني عليه، وقد قلت: حمدت الله ربي إذ هداني لما أديت مع عجزي وضعفي فمن لي بالخطا فأرد عنه ومن لي بالقبول ولو بحرف. قوله: (فمن لي بالخطأ فأرد عنه) يعني: من يبحث لي عن خطأ فينصحني وأرجع عنه. قوله: (ومن لي بالقبول ولو بحرف) يعني: من يضمن لي أن يقبل الله مني حتى ولو حرفاً واحداً مما كتبت. ثم قال: هذا لم يكن قط في خلدي أن أتعرض لذلك؛ لعلمي بالعجز عن الخوض في هذه المسالك، وعسى الله أن ينفع به نفعاً جماً -وفعلاً نفع الله به نفعاً جماً-، ويفتح به قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وآذاناً صماً، وكأني بمن اعتاد المطولات وقد أضرب عن هذه التكملة وأصلها حتماً -يعني: أن بعض الناس سيعرض عن هذا التفسير؛ لأنه متعود على المطولات، مثل تفسير ابن جرير والقرطبي وغيرها من المطولات، فيصرفه عنه الحجم، دون أن يلتفت إلى المعاني العظيمة المركزة في هذا التفسير- فعدل إلى صريح العناد ولم يتوجه إلى دقائقها فهماً، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، رزقنا الله به هداية إلى سبيل الحق وتوفيقاً واطلاعاً على دقائق كلماته وتحقيقاً، وجعلنا به من الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

اهتمام العلماء بتفسير الجلالين ومكانته عندهم

اهتمام العلماء بتفسير الجلالين ومكانته عندهم لقد حظي تفسير الجلالين باهتمام عظيم جداً من العلماء منذ أن أُلف إلى يومنا هذا، وهذا دليل على مكانته عندهم، ولذلك فقد قام كثير منهم بشرحه وتوضيح دقائقه في مؤلفات وحواشي بلغت بعضها الأربعة مجلدات، وكما أشار كنعان في المقدمة أنه لطلاب العلم المنتهين وليس للمبتدئين، وأن المبتدئ يصعب أن يستقل بفهمه، بل لابد أن يقرأه على شيخ عالم بالتفسير، حتى يقف على حقائقه ودقائقه. ويكفي أن هذا الكتاب ألفت فيه كثير جداً من الشروح والحواشي، فنذكر هنا بعضها: حاشية للشيخ محمد بن عبد الرحمن العلقمي، سماها (قبس النيرين على تفسير الجلالين). حاشية للشيخ محمد بن محمد الكرخي، سماها (مجمع البحرين ومطلع البدرين على الجلالين)، في أربعة مجلدات، وله حاشية أخرى صغيرة عليه في مجلدين. حاشية للحافظ الملا علي القاري، سماها (حاشية الجمالين على الجلالين). حاشية للشيخ سليمان بن عمر الأزهري، وهي المشهورة بحاشية الجمل، سماها (الفتوحات الإلهية لتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية)، وهي في أربعة مجلدات. فانظر إلى هذا الكتاب الذي حجمه صغير كيف في أربعة مجلدات أو أكثر! فما معنى هذا؟! وإذا قرأت الشرح تجده أصعب من الأصل، فهذا يدل على أنه فعلاً لب لباب التفسير، وخلاصة خلاصات التفسير. وتوجد حاشية لتلميذ الشيخ الجمل الصاوي تسمى بحاشية الصاوي على الجلالين، وهي مشهورة هنا في مصر، ألفها الشيخ أحمد بن محمد الصاوي، وقال في مقدمتها: -ولما كان كتاب الجلالين من أجل كتب التفسير، وأجمع على الاعتناء به الجم الغفير من أهل البصائر والتنوير، وجاءني الداعي الإلهي بقراءته فاشتغلت به على حسب عجزي، ووضعت عليه كتابة ملخصة من حاشية شيخنا العلامة المحقق المدقق الورع الشيخ سليمان الجمل. وحاشية الصاوي وحاشية شيخه الجمل من أشهر الحواشي على تفسير الجلالين. وتوجد حاشية للشيخ سلام الله الدهلوي، سماها (حاشية الكمالين على الجلالين). وحاشية للشيخ محمد بن صالح آل السعود السبعي الحسنوي المصري في ثلاثة مجلدات. وحاشية للشيخ سعد الله بن غلام القندهاري، سماها (كشف المحجوبين عن خدي تفسير الجلالين). وحاشية للشيخ مصطفى الدومي، سماها (ضوء النيرين لفهم تفسير الجلالين). ثم قال كنعان: وأخيراً كتابنا المختصر الذي سميناه (قرة العينين على تفسير الجلالين). ثم ذكر في المقدمة كلاماً مفصلاً في منهجه وعمله في هذا التحقيق، وذكر لماذا لم يتوسع ولم يفصل في موضوع التفسير العلمي، وهو الاتجاه الحديث من التفسير للقرآن الذي يسمى: التفسير العلمي! وليس معنى هذا أن ما عداه ليس علمياً، لا، بل التفسير العلمي بمعنى: المعاصر للعلوم الحديثة، كعلوم الطب والتشريح والفضاء وهذه العلوم الطبيعية الحديثة، وهو محاولة لكشف وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وقد طعن القاضي كنعان على هذا المنهج، وهو منهج ربط القرآن بالاكتشافات العلمية التي هي بعد في مرحلة النظرية التي يمكن أن يثبت فشلها إلى غير ذلك من المآخذ.

تفسير سورة الفاتحة

تفسير سورة الفاتحة

الأقوال في كون البسملة من الفاتحة أم لا

الأقوال في كون البسملة من الفاتحة أم لا يقول الإمام جلال الدين المحلي رحمه الله تعالى: [سورة الفاتحة مكية، سبع آيات بالبسملة إن كانت منها، والسابعة (صراط الذين) إلى آخرها، وإن لم تكن منها فالسابعة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) إلى آخرها]. هناك إجماع على أن سورة الفاتحة سبع آيات، لكن الخلاف هل البسملة آية من الفاتحة أم ليست آية منها؟ وخلاصة الكلام في هذا: أنها آية منها في قراءة، وليست آية منها في قراءة أخرى، فعلى القول بأن البسملة آية من الفاتحة فتكون هي الآية الأولى، ثم تكون الآية الأخيرة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] إلى آخر السورة. وإن لم تكن البسملة آية من الفاتحة، فتكون الآية الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وتكون الآية السابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]. ويقدر قبل البسملة كلمة: أبدأ باسم الله أو أقرأ باسم الله، أو قولوا: باسم الله؛ لتكون مناسبة لقولنا فيما بعد: إياك نعبد، فمعناها: قولوا: (الحمد الله رب العالمين)، (الرحمن الرحيم)، قولوا: (إياك نعبد وإياك نستعين). فيقدر في أولها (قولوا) ليكون ما قبل (إياك نعبد) مناسباً له؛ لكونها من مقول العباد.

مشروعية التعوذ قبل التلاوة وبيان معنى الاستعاذة

مشروعية التعوذ قبل التلاوة وبيان معنى الاستعاذة يستحب قبل تلاوة القرآن أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فما معنى: أعوذ؟ أي: أستجير بالله دون غيره من سائر خلقه، يعني: أعوذ بالله من الشيطان أن يضرني في ديني أو أن يصدني عن حق يلزمني له. ومن هو الشيطان؟ الشيطان هو كل متمرد من الجن والإنس، فأي شيء يكون متمرداً من جنس معين يطلق عليه شيطان، لماذا؟ لأن أخلاقه وطباعه وأفعاله تفارق وتشذ عن أخلاق وصفات وأفعال باقي جنسه، ولبعده عن الخير، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112]، فدل على أن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين. ومم اشتقت كلمة شيطان؟ اشتقت من مادة شطن بمعنى: بَعُدَ، يقال: شطنت داري من دارك، يعني: بعدت داري من دارك، ويقول الشاعر: نأت بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بها رهين نوىً: يعني: رحل وسافر، وشطون يعني: بعيد، بمعنى أن سعاد رحلت إلى مكان بعيد. والرهين: فعيل بمعنى: مفعول، كما تقول: كف خضيب أي: مخضوب، ولحية دهين أي: مدهونة، ورجل لعين أي: ملعون، وكذلك الرجيم المقصود به: الملعون المشتوم، فكل مشتوم بقول رديء أو سب يطلق عليه لفظ المرجوم، والرجم هو الرمي بقول أو بفعل، وله شاهد من القرآن وهو قوله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} [مريم:46] يعني: لأرمينك، وهذا من الرمي بالقول. وسمي الشيطان رجيماً لأن الله طرده من سماواته، ورجمه بالشهب والكواكب.

أسماء سورة الفاتحة

أسماء سورة الفاتحة سورة الفاتحة لها عدة أسماء منها: أم الكتاب. السبع المثاني. الشافية. الكافية. الواقية.

فضل سورة الفاتحة

فضل سورة الفاتحة يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها -يعني: أم الكتاب-، وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته).

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله)

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله) يقول المفسر رحمه الله تعالى: [الحمد لله جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها، من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، والله علمٌ على المعبود بحق] يعني: كلمة إله تطلق على المعبود سواءً كان معبوداً بحق أم معبوداً بغير حق. لذلك يطلق على كل ما عبد من دون الله إله، فالشيطان -مثلاً- إله يعبد بدون حق، قال الله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:44]. إذاً: الشيطان يعبد من دون الله بغير حق، والمال إله يعبد من دون الله بغير حق: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، والأصنام آلهة باطلة، وهكذا، فكل ما عبد عموماً مطلقاً فهو إله سواءً في ذلك الذي يعبد بحق أم بغير حق، والله سبحانه وتعالى وحده هو الإله المعبود بحق، لا إله إلا الله، معناها: لا إله حق إلا الله. (لا) في قوله: لا إله ما إعرابها؟ (لا) نافية للجنس. فأين خبرها؟ خبرها مقدر تقديره (حق) أي: لا إله حق إلا الله، ولا يجوز أن يقدر خبر (لا) النافية للجنس بكلمة موجود؛ لأنه توجد آلهة باطلة. وجملة (الحمد لله) المقصود بها الثناء على الله سبحانه وتعالى، من أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، والحمد هنا بمعنى: الثناء على الله سبحانه وتعالى بما هو أهله من صفات الجمال والكمال.

تفسير قوله تعالى: (رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (رب العالمين) قوله تعالى: (رب العالمين) يعني: مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم، العالمين جمع عالم، فكل طائفة من هذه الأمم يطلق عليها عالم، عالم الملائكة، عالم الجن، عالم الإنس، وهكذا، كل هذه العالمين أو العوالم الله سبحانه وتعالى هو خالقها تبارك وتعالى. مم تشتق كلمة عالم؟ مشتقة من العلامة. لماذا سميت علامة؟ لأنها علامة على موجدها؛ وهو الله سبحانه وتعالى، فهي دالة عليه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (الرحمن الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) قوله تعالى: (الرحمن الرحيم) أي: ذي الرحمة، وذي إرادة الخير لأهله. وللفائدة فإن أكبر كتاب توسع في تفسير سورة الفاتحة هو كتاب (مدارج السالكين شرح منازل السائرين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين) للإمام ابن القيم، ففي الجزء الأول منه توسع جداً في تفسير الفاتحة، وعموم الكتاب هو شرح لمعنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ويقع الكتاب في ثلاثة مجلدات كبار.

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)

تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين) قوله تعالى: (مالك يوم الدين) هذه قراءة صحيحة عن عاصم وغيره أيضاً، وفي قراءة صحيحة أخرى (ملك يوم الدين). ما المقصود بالدين هنا؟ الدين هنا المقصود به الجزاء، وهو يوم القيامة. لماذا خص يوم الدين بأن الله سبحانه وتعالى يملكه، مع أن الله يملك يوم القيامة ويملك أيام الدنيا، فلماذا خص يوم الدين بذلك؟! لأنه لا ملك ظاهر في ذلك اليوم لأحد إلا لله تبارك وتعالى، والدليل من القرآن: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]؟ لا يجيب أحد، فيجيب الله عز وجل نفسه قائلاً: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]. أما قوله على القراءة الأخرى: (مالك يوم الدين) فمعناه: أنه مالك الأمر كله في يوم القيامة أو هو الموصوف بذلك دائماً كغافر الذنب، فصح وقوعه صفة لمعرفة.

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)

تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: نخصك بالعبادة من توحيد وغيره، فلا نوجه توحيدنا إلا إليك، ونطلب المعونة على العبادة منك وحدك لا من غيرك.

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين)

تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين) قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] (اهدنا) أي: أرشدنا إلى الصراط المستقيم. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وصراط إعرابها بدل. (صراط الذين أنعمت عليهم) أنعم عليهم بالهداية. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} [الفاتحة:7] وهم اليهود. {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهم النصارى. فدل على أن الهداية ليست عند اليهود ولا عند النصارى، وإنما هي عند الذين أنعم الله تبارك وتعالى عليهم. إذاً: هذه فائدة هي: أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى.

استحباب قول آمين حين الفراغ من الفاتحة في الصلاة

استحباب قول آمين حين الفراغ من الفاتحة في الصلاة في حاشية القاضي كنعان: يسن بعد قراءة الفاتحة قول: (آمين) في الصلاة وغيرها. فمن السنة إذا سمع الإنسان الفاتحة سواءً داخل الصلاة أو غيرها أن يقول: آمين، لماذا؟ لما فيها من الدعاء، وكلمة (آمين) ليست من كلمات القرآن الكريم باتفاق العلماء، وهي اسم فعل طلب أو دعاء، ولا تقل: اسم فعل أمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تقول في حقه: فعل أمر، ولكن تقول: اسم فعل دعاء أو طلب، بمعنى: اللهم استجب! وهي اسم فعل أمر مبني على الفتح. عن وائل بن حجر الحضرمي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:7]، فقال: آمين، يمد بها صوته)، وآمين فيها حركتان فقط للمد الذي في أول الكلمة، وليس ست حركات كما يفعل بعض الناس، فحينما يقول الإمام: (ولا الضالين)، فقولوا: (آمين) وتمد بمقدار حركتين فقط؛ لأنها لو كانت ست حركات في (آمين) لشدد الميم. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: آمين، فمن وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).

البقرة [1 - 2]

تفسير سورة البقرة [1 - 2]

مقدمة في تفسير سورة البقرة

مقدمة في تفسير سورة البقرة يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً موافقاً لنعمه، مكافئاً لمزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وجنوده. وبعد: فهذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الإمام المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي رحمه الله، وتتميم ما فاته، وهو من أول سورة البقرة إلى آخر الإسراء، بتتمة على نمطه، من ذكر ما يفهم به كلام الله تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه، وتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة على وجه لطيف، وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية، وأعاريب محلها كتب العربية، فالله نسأل النفع به في الدنيا، وحسن الجزاء عليه في العقبى بمنه وكرمه].

أسماء سورة البقرة وآياتها وأحكامها

أسماء سورة البقرة وآياتها وأحكامها سورة البقرة جميعها مدنية بلا خلاف، وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية. أما أسماؤها فتسمى: البقرة، وتسمى فسطاط القرآن؛ لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها، تعلمها عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه بفقهها وما تحتوي عليه من الإيمان والعلم والعمل في اثنتي عشرة سنة، أما ابنه عبد الله فقد تعلمها في ثمان سنين. يقول الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: سمعت بعض أشياخي يقول: في سورة البقرة ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر.

فضائل سورة البقرة وخصائصها

فضائل سورة البقرة وخصائصها قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة). إن الإشارة إلى فضيلة سورة البقرة مما يشجعنا على مزيد الاهتمام، واعلموا أن من تيسر له حفظ سورة البقرة سهل عليه ما عداها من القرآن الكريم، وهذه من خصائص سورة البقرة. يقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً تقرأ فيه سورة البقرة). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة). ويقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، واقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما، واقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، تلاحظ التدرج في الحديث، القرآن كله أولاً، ثم الزهراوين، ثم البقرة وحدها، يعني: إما أن تحفظ وتقرأ القرآن كله، وإن كان ولابد دون ذلك فتقرأ الزهراوين البقرة وآل عمران، فإن كنت لا تستطيع فعليك بسورة البقرة. وقوله: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، وجاء في الحديث الآخر: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار) فالقرآن شافع مشفع، أي أن القرآن إذا شفع فيمن يكثر تلاوته أو يحفظه فإن شفاعته لا ترد. وهناك سورة في القرآن ثلاثون آية، ما زالت تحاج عن صاحبها حتى أدخله الله الجنة، أو حتى غفر الله له، وهي سورة تبارك، فهي المانعة التي تمنع من عذاب القبر. إذاً: القرآن شفيع لأصحابه الذين تطول صحبتهم وتطول صلتهم بكلام الله تبارك وتعالى. قوله: (اقرءوا الزهراوين) يعني: المنيرتين، ففيه إعجاز وفيه وفرة الأحكام التي تضمنتها هاتان السورتان الجليلتان. (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -سحابتان- أو غيايتان -الغياية ما أظلك من فوقك- أو كأنهما فرقان من طير صواف) (فرقان) الفرق: هو القطعة من الشيء. يعني: مصطفة. قوله: (يحاجان عن أصحابهما) يعني: الذين يحفظونهما. (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) يعني: السحرة. قال بعض العلماء: لا يمكنهم حفظها، أي: لا يستطيع الساحر أن يحفظ سورة البقرة، وقال بعض العلماء: المقصود من قوله: (لا تستطيعها البطلة) يعني: لا يستطيع سحر البطلة النفوذ فيمن يقرأ سورة البقرة، فقارئها لا يؤثر فيه سحر السحرة. وهناك أحاديث كثيرة في فضيلة بعض الآيات من سورة البقرة كآية الكرسي، والآيتين الأخريين من سورة البقرة، نرجئهما إلى وقتهما بإذن الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (آلم)

تفسير قوله تعالى: (آلم) قال الله تعالى: {آلم} [البقرة:1]، فسرها الإمام السيوطي رحمه الله تعالى بأصح تفسير وأوجز تفسير، فقال: [الله أعلم بمراده بذلك]. ويقول القاضي كنعان: [ليس لهذه الأحرف المنزلة في أوائل بعض السور معنىً مستقل بالفهم بالنسبة إلينا، بل إنها نزلت متقطعة وتقرأ كذلك، فهي سر الله تعالى في القرآن كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (نؤمن بها ونقرؤها كما نزلت)، ولكن ذلك لا يمنع منا التماس الحكمة من نزولها هكذا، فهي تشير إلى الحروف الهجائية العربية التي بها نزلت آيات القرآن تعجيزاً للعرب؛ لأنهم زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأتي بالقرآن من عنده، وهم يعلمون أنه أمي لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، فلو كان زعمهم هذا صحيحاً لكانوا هم أقدر على الإتيان بمثله، بل بأحسن منه؛ لأنهم أهل اللغة، لكنهم عجزوا وبهتوا مع قيام التحدي إلى الآن، ولو استطاعوا لفعلوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]]، فهذا خلاصة الكلام. وبعض العلماء جمع جميع الحروف المقطعة في أوائل السور، وحذف المكرر منها، يعني: جمع (الم) مع (حم) مع (عسق) مع (طه)، ثم حذف المكرر ثم كون منها جملة، وهذه الجملة التي ذكرها هي: (نص حكيم قاطع له سر)، ولكن هذا في مجال الحجاج العلمي لا يعتبر دليلاً علمياً. وبعض العلماء يقول: هذه أسماء للسور، وبعضهم يقول: هي من أسماء الله تبارك وتعالى، لكن اختيار الإمام السيوطي رحمه الله تعالى هنا هو أفضل ما يقال: (الله أعلم بمراده بذلك)، لكن كما ذكرنا بعض العلماء أشار إلى أن هذه إشارة إلى إعجاز القرآن، واستدلوا بأن أغلب سور القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة يليها مباشرة ذكر القرآن الكريم، مثل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، وهكذا.

تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) قال الله تعالى: (ذلك الكتاب) يعني: هذا الكتاب وهو القرآن الكريم، فيستعمل (ذلك) للإشارة للبعيد، ويستعمل (هذا) في الإشارة إلى القريب، فالقرآن هنا قريب، فما السبب في أن الله سبحانه وتعالى قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ)، فأشار إليه بالبعيد؟ السبب أن (ذلك) تساوي (هذا)، ومعهود في لغة العرب التقارب بين هذا وذلك، يعني: أنه يذكر ذلك في موضع هذا وهذا في موضع ذلك، مثلاً قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [السجدة:6]، ذلك بمعنى: هذا، كذلك في قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام:83]، (تلك) بمعنى: هذه، كذلك قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [البقرة:252] بمعنى: هذه؛ لأنها قريبة. كذلك العكس يستعمل هذا مكان ذلك كقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تنبئه في ركوب بعض الصحابة البحر المجاهدين في سبيل الله: (يركبون ثبج هذا البحر) والمقصود: ذلك البحر، فهنا استعمل (هذا) مكان (ذلك). إذاً: قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2] يعني: هذا الكتاب. ومن قال: (ذلك) إشارة للبعيد على الأصل قالوا: هذه إشارة إلى بعد درجته وعلو منزلته في الهداية والشرف.

المقصود بالكتاب في قوله: (ذلك الكتاب)

المقصود بالكتاب في قوله: (ذلك الكتاب) قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ}، ما هو الكتاب؟ هو القرآن الكريم، ولا يصح أبداً أن يقال: إن كلمة (الكتاب) هنا مشار بها إلى التوراة أو إلى الإنجيل، فهذا لا يقبل بحال من الأحوال، بل هي إشارة إلى القرآن الكريم. (ذلك) أي: هذا الكتاب، يعني: الذي يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله: (لا ريب فيه)

معنى قوله: (لا ريب فيه) قوله تعالى: (لا ريب فيه) يعني: لا شك فيه، ريب مصدر رابني، والريب: هو قلق النفس واضطرابها، وقد تستعمل كلمة ريب في الشك مطلقاً، أو مع تهمة، كحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، فمعنى قوله: (لا ريب فيه) يعني: لا ريب ولا شك في أنه نزل من عند الله تبارك وتعالى. والعرب مع بلوغهم النهاية في الفصاحة عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه، وقد بلغت حجته في الظهور إلى درجة لا يمكن للعاقل الذي يعي ويفهم أن يرتاب في القرآن، لكن العقل الذي فيه آفة وفيه مرض فهذا هو الذي يرتاب؛ لأن الواقع أن الكفار يرتابون في القرآن. فالمقصود أن العاقل الذي يعي ويفهم آيات الله ويتدبر لا يقع أبداً في هذا الريب. قال بعض العلماء: (لا ريب فيه): هذا خبر بمعنى النهي، يعني: لا ترتابوا فيه، فهذا الخبر المراد به الإنشاء، يعني: لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على (ريب) يعني: يقرأ: (ذلك الكتاب لا ريب. فيه هدىً للمتقين) يعني: ذلك الكتاب لا شك، ثم يقرأ (فيه هدىً للمتقين) فأيهما أولى: أن نقول: (ذلك الكتاب لا ريب) أم أن نقول: (ذلك الكتاب لا ريب فيه. هدىً للمتقين). لو قلت: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) يعني: لا شك فيه أنه منزل من عند الله، وهذا أقوى من أن تقول: (فيه هدى)، ولذلك قال العلماء: الوقف على قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]، أولى؛ لقوله تعالى: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2]. ولأنه يصير قوله: (هدى) صفة للقرآن كله، وذلك أبلغ من كونه فيه هدى، فالأول يدل على أنه كله هدىً للمتقين. يقول: (لا ريب) لا شك فيه أنه من عند الله، وجملة النفي خبر مبتدؤه (ذلك)، والإشارة للتعظيم، (هدىً) خبر ثان، أي: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) هذا الخبر الأول، (هدىً للمتقين) خبر ثان.

معنى قوله: (هدى للمتقين) وأقسام الهداية

معنى قوله: (هدى للمتقين) وأقسام الهداية قوله تعالى: (هدىً للمتقين) المقصود أنه هاد للمتقين، وبعض العلماء قالوا: يحتمل هدىً أن تكون مرفوعة على النعت أو أن تكون منصوبة على الحال. وقوله تبارك وتعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهم يعملون الأعمال الصالحة؛ كي يقيهم ذلك عذاب النار، وأصل التقى في اللغة: قلة الكلام، ومنه قول القائل: التقي ملزم، يعني: لا يتكلم كثيراً. وهنا ملاحظة مهمة جداً: قوله تبارك وتعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، ما نوع الهدى هنا؟ هداية الإرشاد والدلالة، وهذه الهداية يقدر عليها الرسل وأتباع الرسل، فهم يوصفون بأنهم هداة من هذه الحيثية، والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] يعني: توضح وتبين وترشد. وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، (هديناهم) بمعنى: بينا وأوضحنا وأرشدنا. كذلك قوله تبارك وتعالى في سورة الرعد: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] يعني: يبين ويرشد ويوضح ويفهم ويجادل عن الحق، فمعنى هذا النوع من الهدى: هداية الضال باعتبار أنه أُرشد إلى الحق، سواءً حصل له الاهتداء أم لم يحصل. النوع الآخر من الهدى: هداية التوفيق والتسديد، وهو خلق الله تبارك وتعالى الاهتداء في قلب العبد، فالإنسان قد يرى الحق ثم لا يوفقه الله سبحانه لاتباعه كاليهود والنصارى الذين عرفوا الرسول عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون أنه رسول من عند الله، كما كان يعرف أبو طالب أنه رسول من عند الله، وكما كان يعرف فرعون أن موسى رسول من عند الله قطعاً بلا شك في هذا، لكن هؤلاء جحدوا واستكبروا وعاندوا. ففرعون هداه موسى من حيث البيان والإرشاد والتوضيح، لكن هل وفقه الله باتباع الحق؟! هل غرس في قلبه إرادة ذلك الحق وسدده وصوبه؟! لا، فهذه الهداية فضل من الله سبحانه وتعالى يختص بها عباده الصالحين. إذاً: النوع الآخر من الهدى: هو خلق الله سبحانه وتعالى الاهتداء في قلب العبد، يقول تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37]. قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فيه اختصاص للمؤمنين بالهداية الخاصة التي هي البيان والإرشاد والتوفيق والتسديد، وخلق حب الحق والانقياد إليه في قلب هذا العبد، وهذا محض فضل من الله سبحانه وتعالى، وما مفهوم المخالفة لهذه الآية؟ مفهوم المخالفة أن هذا القرآن ليس هدىً لغير المتقين، وإنما هو هدىً للمتقين، فغير المتقين ليس هذا القرآن هدىً لهم، وهناك آيات في القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى الذي استنبطناه من مفهوم قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، كقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. ويقول تبارك وتعالى أيضاً: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45]، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم أنذر من يخشى الساعة فقط أم أنذر جميع الناس؟ أنذر جميع الناس، لكن لما كان الذين ينتفعون بإنذاره هم المؤمنون المتقون، عبر بذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45]، وبقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، مع أنه كان نذيراً للعالمين صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. ويقول تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة:64]، فهؤلاء الكفار كلما ازداد نزول القرآن ازدادوا طغياناً وكفراً، فليس هو -بهذا المعنى- هداية لهؤلاء، إنما هو هداية فقط للمتقين. والهداية هنا ليست بالمعنى الأول للهداية وإنما هي هداية خلق إرادة الحق والتوفيق إليه وتسديده، فالقرآن في نفسه هدى لكن لا يناله إلا الأبرار كالدواء الموضوع في الصيدلية، بعض الناس يأخذه وينتفع به والبعض الآخر يعرض عنه، وبالتالي لا يكون سبباً في شفائه، ويتضاعف مرضه، فهل إعراض هؤلاء عن التداوي بالدواء يقدح في أنه دواء وشفاء؟ لا يقدح، لكن الذي يتعاطاه هو الذي ينتفع به، فلذلك القرآن هو هدى حتى للكفار، لكن لا يناله ولا ينتفع به إلا الأبرار، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، والمتقون هم الصائرون إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لاتقائهم بذلك النار.

البقرة [8 - 20]

تفسير سورة البقرة [8 - 20]

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) يقول الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]. الناس هنا المقصود بهم المنافقون، وكلمة الناس أصلها: أناس، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً، وإذا دخلت (أل) على كلمة أناس فإنه يلزم أن تحذف هذه الهمزة، فلا يقال: الأناس، ولكن يقال: الناس، فحذف الهمزة مع لام التعريف كاللازم. وسموا ناساً لظهورهم، ولأنهم من المخلوقات التي يؤنس بها؛ بعكس الجن، فإنهم سموا جناً لاجتنانهم واختفائهم، ومادة (جن) تأتي في كل ما خفي، يقول عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76]، والجنين في بطن أمه مستتر، والمجنون هو من غاب عقله واستتر؛ والجنة غائبة عنا لا ترى الآن. إذاً الجن سموا بالجن لاجتنانهم، والإنس سموا إنساً؛ لأنهم يؤنسون ويشاهدون. وقيل: سموا إنساً من الأُنس، وهو ضد الوحشة، والقول الأول أولى. قوله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)) يعني: يوم القيامة؛ لأنه آخر الأيام. قوله: ((وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)) جمع المؤمنين مراعاة لمعنى كلمة (مَنْ) في قوله: (ومن الناس من يقول) وأفرد الفعل (يقول) مراعاة للفظ (من).

تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)

تفسير قوله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]. (المخادعة) بوزن المفاعلة، وهي استعمال الخدع من الجانبين، وهذه المخادعة هي إظهار الخير واستبطان الشر. ومخادعة المنافقين لله سبحانه وتعالى هي مخادعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وهذه المخادعة تتمثل في أنهم يظهرون الإيمان والمحبة، ويبطنون الكفر والعداوة، من أجل إجراء أحكام الإسلام عليهم، وحقن دمائهم وتحصين أموالهم وغير ذلك، لكن عاقبتهم وخيمة، فقد فضحهم الله في الدنيا بالوحي؛ وفي الآخرة يكونون في الدرك الأسفل من النار. والفرق بين خداع المنافقين وبين خداع الله سبحانه وتعالى والمؤمنين لهم أن خداع المنافقين لا ينجح ولا يكون له مفعول ولا أثر إلا على أنفسهم، فيعود وبال هذا الخداع على أنفسهم بإهلاكها وإشقائها، أما خداع الله سبحانه وتعالى فإنه يؤثر فيهم أبلغ التأثير، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]. يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9] بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر؛ ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية. فالمنافقون يظهرون الإسلام ليدفعوا أحكام الكفر عنهم، كالقتل والأسر وضرب الجزية عليهم. قوله: ((وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ)) وفي القراءة الأخرى: (وما يخادعون إلا أَنْفُسَهُمْ) يقول السيوطي: لأن وبال خداعهم راجع إليهم، فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة. قوله: (وما يشعرون) يعني: وما يعلمون خداعهم لأنفسهم، والمخادعة هنا من واحد. فالإمام السيوطي يرجح أن المخادعة هنا ليست مفاعلة تقتضي خداعاً من الجانبين، وإنما هي من جانب واحد كقولك: عاقبت اللص، فهل المعاقبة هنا من الطرفين؟ لا، فهذه الصيغة تقتضي وقوع المعاقبة من طرف واحد. ثم يقول: وذكر الله فيها تحسين، وفي قراءة: (وما يخادعون). وهنا قاعدة لا بد أن نستصحبها: فحينما يعبر الإمامان الجلالان عن القراءة، فإذا قال أحدهما: (في قراءة)، فهذه العبارة يشير بها كل من الجلالين إلى أن القراءة سبعية أو من القراءات العشر، أما القراءة الشاذة، فيوهنان الإشارة إليها بقولهما: (قُرئ) بصيغة المجهول. فتكون إشارة إلى أن هذه قراءة شاذة؛ ولذلك أضاف القاضي كنعان في هذه الطبعة بعد كلمة (قرئ) كلمة: شذوذاً؛ حتى لا ينسى القارئ هذا المعنى.

تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)

تفسير قوله تعالى: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) يقول تبارك وتعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10]. المرض هو: السقم، وسبب هذا المرض ضعف يقينهم وضعف دينهم، وكما توصف قلوب المنافقين بالمرض والسقم، توصف قلوب المؤمنين بالسلامة، كما قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. أو المقصود من قوله: (في قلوبهم مرض) مرض الشك ومرض التردد؛ لأن المنافق متردد، كما قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]، وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام واصفاً المنافقين: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تَعِير إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة)، والعائرة هي: المترددة. فالمرض هنا المراد به التردد، فهم لا يعرفون اليقين ولا الجزم، فمرض قلوبهم هو: التردد والشك؛ لأن سمة المنافق التردد؛ ولأن المريض متردد بين الحياة والموت. قوله: ((فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)) يعني: فزادهم مرضاً آخر من حقد وحسد وغل بإعلاء كلمة دينه ونصرة رسوله والمؤمنين، فبالتالي ازداد المرض الذي في قلوبهم.

الفرق بين عذاب الكافرين وعذاب المنافقين

الفرق بين عذاب الكافرين وعذاب المنافقين قوله: (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم موجع، يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه يعلم إيثار كلمة (أليم) في عذاب المنافقين على (عظيم) المتقدم في عذاب الكافرين، فإن الله سبحانه وتعالى قال قبل ذلك عن الكافرين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] أما المنافقون فلأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولأنهم أسوأ حالاً من الكافرين، عبر عن عذابهم بالأليم، لأنه بالغ في الإيلام الغاية العظمى!!

الكذب من الأسباب الموجبة للعذاب

الكذب من الأسباب الموجبة للعذاب قوله: ((بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) هذه الباء إما للسببية، أو للمقابلة، يعني: إما أن المعنى: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) بسبب كذبهم، وهو قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر) وهم غير مؤمنين. أو ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) أي: في مقابلة كذبهم حين قالوا: (آمنا بالله وباليوم الآخر). وفي هذه الآية تقبيح للكذب وتنفير منه. قوله: ((بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) إشارة إلى أن السبب في عذابهم واستحقاقهم هذا الوعيد هو أنهم كانوا يكذبون، ومعلوم أن الكذب أحد الأسباب الموجبة لتعذيبهم، أما الأسباب الأخرى فهي كثيرة ومعروفة كما سيتضح في هذه الآيات، لكن قد يعبر الله سبحانه وتعالى عن إهلاك الكافرين أحياناً ببعض الذنوب؛ تنفيراً منها وتغليظاً في حق فاعليها واستعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها، كما قال تبارك وتعالى في شأن قوم نوح عليه السلام: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، وقوم نوح كانوا كفرة، فإهلاكهم إنما كان بسبب كفرهم بجانب المعاصي، فتعظيماً لشأن الخطايا التي تدنسوا بها جعل السبب في تعذيبهم هو الخطيئات؛ استعظاماً لها وتنفيراً عنها فقال: (مما خطيئاتهم أغرقوا) وقال: هنا: (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون). إذاً: معنى قوله: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: شك ونفاق أمرض قلوبهم وجعل اليقين فيها ضعيفاً. قوله: (فزادهم الله مرضاً) أي: بما أنزله من القرآن لكفرهم به؛ لأنه لا يجالس أحد القرآن إلا قام منه بزيادة أو نقصان، أما المؤمن فيزيد إيمانه، وأما الكافر فيزداد رجساً إلى رجسه، كما يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] إلى آخر الآيات، كذلك يقول تبارك وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]. قوله: ((بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) وفي قراءة أخرى: (بما كانوا يكذّبون) بالتشديد، أي: بما كانوا يكذبون نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبالتخفيف بما كانوا يكذبون في قولهم: ((آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ)).

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]، هذه بداية نهيهم عن المنكر، ثم ثنى بعد ذلك بأمرهم بالمعروف؛ كي تتم النصيحة، ففي هذه الآية قال: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) فهذا نهي عن المنكر، وفي الآية الثانية قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] وهذا أمر بالمعروف. وهنا شَرَعَ تبارك وتعالى في تعديد بعض مساوئهم المتفرعة والنابعة عن نفاقهم وكفرهم، فقال: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) والفساد في الأرض مثل: تهييج الحروب وإثارة الفتن، كما قال عز وجل: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ومعنى إفساد المنافقين في الأرض: أنهم يمالئون الكفار على المسلمين، ويفشون أسرار المسلمين للكفار، ويغرون الكفار بقتال المسلمين، ويجرئونهم على نصب الحرب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لطمعهم في الغلبة عليهم. قوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) يعني: بما تفعلونه من تهييج الحروب وتأليب الكافرين على المؤمنين. ((قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) يعني: هم تصوروا إفسادهم في صورة الإصلاح؛ لأن في قلوبهم مرضاً. وإذا مرض قلب الإنسان تنقلب عنده القيم وتنعكس عنده الموازيين، مثل المنافقين رأوا فسادهم إصلاحاً، وزين لهم هذا الإفساد فحسبوه إصلاحاً، ((قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) كقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8] فهذا تزيين، وكما قال تبارك وتعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]. قال بعض المفسرين: قوله: ((إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) يعني: بين المؤمنين وأهل الكتاب، وقوله تعالى عنهم: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:62] أي: نحن مصلحون بين المؤمنين وبين أهل الكتاب، فنحن نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما.

تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)

تفسير قوله تعالى: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) يقول تبارك وتعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] يعني: لا يشعرون بكونهم مفسدين، وهذه الآيات عند عامة المفسرين في المنافقين؛ وزعم بعض المشايخ المعاصرين وهو أبو الفيض الغماري في كتاب له يتحدث عن إخبار النبي عليه الصلاة والسلام ببعض الأمور الغيبية، أن هذه الآيات ليس المراد بها المنافقين الأوائل، وإنما المراد بها أهل هذا العصر من المنافقين أو العلمانيين الذين يصورون أعمالهم في الأرض بصورة الإصلاح. وذكر من وجوه كثيرة انطباق هذه الصفات كلها عليهم، خاصة أنهم مولعون باستعمال عبارة الإصلاح الديني، وإذا مدحوا واحداً سموه مصلحاً، واليوم يسمونه مفكراً إسلامياً مستنيراً. وقد أفاض في ذلك فلا نطيل بذكر التفاصيل، ويُكتفى بهذه الإشارة، أما مصطلح الإصلاح الديني فتعبير خبيث لا يجوز أبداً أن يطلق، فالذي يحتاج إلى إصلاح هو واقع الناس، أما دين الله فلا يحتاج إلى إصلاح، الإصلاح إنما يكون لما يطرأ عليه فساد، أما الدين فهو وضع إلهي سائغ لذوي العقول السليمة؛ لما فيه صلاح دنياهم وسعادة أخراهم، هذا هو الدين وكله صلاح، فعبارة (الإصلاح الديني) عبارة خبيثة، يراد بها إدخال البدع، وتحريف لمعاني الإسلام بحجة الإصلاح، فترى القوم مولعين بهذه التعبيرات، فلان مصلح ديني، أو مصلح اجتماعي مع أنه من أشد المفسدين في الأرض: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] قوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا)) يعني: هذا أمر بالمعروف بعد نهيهم عن المنكر في قوله: ((لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) [البقرة:11]. قوله: (كما آمن الناس) يعني: كما آمن الناس الكمّل وهم المؤمنون؛ لأن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، فالمقصود بالناس هنا هم المؤمنون. قوله: ((قَالُوا أَنُؤْمِنُ)) هذا استفهام فيه معنى الإنكار، أي: هم يستنكرون على من يأمرهم بذلك، ويقولون: (أنؤمن كما آمن السفهاء) فسموا المؤمنين الكمّل سفهاء! والسفه: هو خفة وسخافة في الرأي يورثهما قصور العقل، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار، وقد وصف الله تبارك وتعالى النساء والصبيان (بالسفهاء) بهذا الاعتبار؛ لعدم إحسانهم تقدير عواقب الأمور وميزانها بالميزان الصحيح حيث قال عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]. إذاً: هؤلاء المنافقون كانوا في يسار وسعة عيش، وكانوا في رياسة وجاه، وكان أكثر المؤمنين فقراء، منهم الموالي: كـ صهيب وبلال وخباب رضي الله تعالى عنهم أجمعين فدعوهم سفهاء؛ تحقيراً لشأن هؤلاء الصحابة؛ لأنهم ضعفاء، وقد ذكر أبو سفيان لـ هرقل حينما سأله: (أضعفاء الناس اتبعوه أم وجهاؤهم وأشرافهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: كذلك أتباع الأنبياء). الشاهد هنا أن قوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ)) أي: الصحابة أو المؤمنون. قوله: ((قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)) يعني: الفقراء الضعفاء كـ صهيب وبلال وخباب وغيرهم، نحن لا نفعل كفعلهم، فقال الله تبارك وتعالى رداً عليهم وذباً عن هؤلاء المؤمنين: ((أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ)) يعني: لا يعلمون ذلك، فكأن السفاهة كلها منحصرة فيهم هم، لا في غيرهم، ولا تخرج عنهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) يقول تبارك وتعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]. (لقوا) أصلها لقيوا، فحذفت الضمة للاستثقال، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو، ثم ضمت القاف للمناسبة، فأصلها لقي فصارت لقوا. قوله: ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)) يعني: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة نفاقاً ومصانعة وتَقيَّة، وليشركوهم فيما أصابوه من الخير ومن المغنم. قوله: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) يعني: إذا خلوا منهم ورجعوا إلى شياطينهم وجلسائهم: ((قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)) يقال: خلوت بفلان أو خلوت إلى فلان، يعني: انفردت معه، وخلا تكون بمعنى مضى في تفسير آخر، ومنه قولنا: القرون الخالية، يعني: السالفة والماضية. قوله: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) يعني: إلى أصحابهم أولي التمرد والعناد، والشيطان يكون من الإنس ويكون من الجن، والدليل قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]. قوله: ((وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) أضيفوا إلى الشياطين لأنهم مشتركون معهم في الكفر. قوله: ((قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)) أي: اطمئنوا نحن معكم وعلى ما أنتم عليه. قوله: ((إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)) يعني: إنما نحن في إظهارنا الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((وَإِذَا خَلَوْا)) منهم ورجعوا ((إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)) رؤسائهم. ((قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)) في الدين. ((إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)) بهم بإظهار الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)

تفسير قوله تعالى: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) يقول عز وجل: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]. (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يعني: الله سبحانه وتعالى يسخر بهم. قوله: {وَيَمُدُّهُمْ} يعني: يزيدهم على وجه الإملاء والاستدراج والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]. والطغيان هو: مجاوزة الحد، والشاهد من القرآن قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] ومنه أيضاً كلمة الطاغوت. قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ذكر الله سبحانه أنه يستهزئ بهم، لكن لم يبين هنا تفاصيل هذا الاستهزاء، وقد بينه في سورة الحديد في قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:12 - 13] فهذا هو استهزاء الله تبارك وتعالى بهم جزاء وفاقاً، والجزاء من جنس العمل. قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} العمه بالهاء مثل العمى؛ لكن الفرق أن العمى عام في البصر وفي الرأي، أي: العمى في البصيرة وفي البصر، أما العمه فهو خاص بالرأي، وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه؛ ولذلك يقول: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي: يزيدهم حيرة وتردداً وضلالاً. قوله: (في طغيانهم) فيه إشارة إلى أن هذا الطغيان غمرهم دنسُه وعلاهم رجسُه، حتى غرقوا في هذا الطغيان، فهم يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، حيثما يمموا لا يرون إلا هذا الضلال، وهذا التردد، وهذا الطغيان!

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) يقول تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]. (أولئك) إشارة للبعد؛ للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء حالهم. قوله: ((الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ)) الضلالة هي الجور عن القصد، والمقصود بها هنا العدول عن الصواب في الدين. قوله: (بالهدى) يعني: بالتوجه إلى الضلالة بدل الهدى، والمقصود بالهدى هنا الاستقامة على الدين. قوله: ((اشْتَرَوُا)) يعني: لتمكنهم من الهدى وسهولة وصولهم إلى الهدى لتيسير أسبابه عليه كأنه في أيديهم، بل إنهم يتصرفون فيه كتصرف المالك. قوله: ((فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)) معلوم أن الشراء هو استبدال السلعة بالثمن، وأخذ السلعة بدلاً من الثمن أخذاً منوطاً بالرغبة فيها، والإعراض عن الثمن. يعني: أنت إذا أردت أن تشتري أي جهاز مثلاً، وسعره غالٍ فكيف تتم عملية الشراء؟ تتم بأن تستبدل السلعة بالثمن، وما تفعل ذلك إلا لأنك تريد السلعة، فتضحي بالمال مقابل أن تنال السلعة، فهذا أصل عملية الشراء، فهذا الأخذ وهذا التبديل بين السلعة والثمن هو أخذ منوط بالرغبة في السلعة والإعراض عن الثمن، وتقبل مكانه وبدلاً منه هذه السلعة، فكذلك هؤلاء كأن الهدى كان معهم، وهم متمكنون منه، ثم زهدوا فيه ورغبوا عنه، واستبدلوه بالسلعة التي هي الضلالة، يقول عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}. قد يقول قائل: كان يكفي لو أن الله سبحانه وتعالى اقتصر على قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة:16]؛ لأنها تشير إلى نفس هذا المعنى؛ لكن بلا شك أن مثل هذا التعبير والتتميم يزيد المعنى وضوحاً، فهذه من مسالك البلغاء والفصحاء، كما في قول الخنساء، تصف أخاها صخراً فتقول: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نارُ تعني: هو إمام للهداة والأدلة كأنه علم يعني: جبل عال مرتفع شامخ، ولم تقتصر على هذا حتى أضافت قولها: في رأسه نار، فلم تكتف بوصفه بأنه جبل مرتفع حتى أضافت إلى ذلك اشتعال النار في رأسه من شدة الوضوح. فقوله تبارك وتعالى: ((فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)) هذه إشارة إلى أنهم لا يفقهون في التجارة وما يستجلب الربح؛ فهم قد خسروا أعظم خسارة؛ لأنهم خسروا رأس المال، وهو هذه الهداية وهذا الهدى؛ فلذلك قال تبارك وتعالى: ((فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)). وقال بعض المفسرين: ليس المقصود بقوله: ((وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)) الهداية الدينية فقط، فلما وصفوا بالخسارة في هذه التجارة أشير إلى عدم اهتدائهم إلى طرق التجارة الصحيحة؛ لأنهم ليسوا خبراء بالتجارة، وهي: تحصيل أقصى قدر من الربح فضلاً عن ثبات رأس المال، فشأن التجار البصراء بالأمور الحرص على أعظم ربح ممكن، أما إذا أتى رجل يدعي أنه تاجر ثم إذا به يضيع الربح من أصله ثم يفقد أيضاً رأس المال فبلا شك أن هذا دليل على أنه غير عالم بأساليب التجارة الرابحة، وليس مثل التجار البصراء الذين عندهم بصيرة وعلم وخبرة بهذا العلم.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الله يستهزئ بهم) والآية التي بعدها

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الله يستهزئ بهم) والآية التي بعدها يقول الإمام السيوطي رحمه الله تبارك وتعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي: يجازيهم باستهزائهم. (وَيَمُدُّهُمْ) أي: يمهلهم. (فِي طُغْيَانِهِمْ) بتجاوزهم الحد في الكفر. (يَعْمَهُونَ) يترددون تحيراً، والجملة في محل نصب حال. وقوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) أي: استبدلوها به. (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) أي: ما ربحوا فيها؛ بل خسروا لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم. (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) أي: فيما فعلوا.

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا)

تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) قال عز وجل: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17] ثم ضرب الله تبارك وتعالى هذين المثالين لأحوال هؤلاء المنافقين فقال تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]. قوله: (مثلهم) أي: صفتهم في نفاقهم. ((كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا)) أي: مثل من أوقد ناراً، وقدر الإمام السيوطي هنا: ناراً في ظلمة، ولا بد أن يكون المعنى كذلك حتى يتم هذا المثل، وهذا من دقة تفسيره، وهو مأخوذ من سياق الآيات: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)). قوله: ((نَارًا)) التنكير للتعظيم، يعني: أنه أوقد ناراً عظيمة في وسط هذه الظلمة. قوله: ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) أي: فلما أضاءت هذه النار ما حوله فأبصر واستدفأ وأمن مما يخافه. وهذه من فوائد النار: أنها تعطي الدفء في البرد، وتعطي الإضاءة والهداية والرؤية، وأيضاً الأمن مما يخاف. قوله: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) يعني: أطفأه، وجمع الضمير مراعاةً لمعنى: (الذي)؛ لأن معنى (الذي) الجمع. يعني: أطفأ نارهم التي هي مدار نورهم فبقوا في ظلمة وخوف. قوله: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) أي: حتى لا يبصروا ما حولهم فيبقوا متحيرين على الطريق خائفين. وتأمل قوله تبارك وتعالى: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) فقد كان يمكن أن يقول: (ذهب نورهم) لكن قال: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) فهذا فيه إشارة إلى فقدانهم معية الله سبحانه وتعالى الخاصة للمؤمنين، ولم يعد لهم حظ من قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، ولا من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، فهذه إشارة إلى فقدانهم هذه المعية الخاصة التي إنما تكون للمؤمنين. وأيضاً قال: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) ولم يقل: بنارهم؛ لأن النار لها فائدتان: الإشراق، والإحراق، فالإشراق هو النور، والإحراق هو النار، فبين هنا أن الله سبحانه وتعالى أذهب عنهم الإشراق الذي هو النور، وأبقى لهم الإحراق وهو العذاب بالنار! وقوله: ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) لم يقل: ذهب الله بضوئهم؛ لأنه لو قال: ذهب الله بضوئهم، فيحتمل أن يبقى معهم أصل النور، لكن نفى عنهم أصل النور، ومنع عنهم مادة النور بقوله تبارك وتعالى: ((ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)) أي: أطفأه. قوله: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) هنا جمع كلمة (ظلمات)، وهذا شأن الله سبحانه وتعالى في التعبير عن الحق والباطل، فالباطل لا يكاد ينحصر، وطرق الضلال كثيرة جداً، والأديان الباطلة والمذاهب الضالة لا تنحصر؛ ولذلك دائماً يعبر عنها القرآن بصيغة الجمع، تجدون في القرآن: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] دائماً تجد في القرآن الظلمات مجموعة والنور مفرداً؛ لأن الطريق إلى الله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وإنما الذي يتعدد هو الباطل. ولا يشكل على هذا قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] حيث جاءت سبل السلام بصيغة الجمع؛ لأن سبل السلام هي أنواع الخيرات وأنواع الطاعات المتعددة، وكلها تصب في طريق واحد، وهو هذا النور، وهو هذا السبيل الذي هو سبيل الله؛ ولذلك لما خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً في الأرض قال: (هذا سبيل الله، ثم رسم على جنبتيه خطوطاً متفرقة، وقال: هذه سبل على رأس كل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]). قوله: ((وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ)) يعني: لا يبصرون ما حولهم فهم متحيرون عن الطريق خائفون؛ فكذلك ارتباط المثل بصفة المنافقين الذين آمنوا بإظهار كلمة الإيمان، فاستمتعوا بها واستفادوا منها بحفظ أموالهم ودمائهم، وجريان أحكام الإسلام عليهم، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب، وأذهب الله عنهم هذا النور عند الموت؛ بحيث يجازون على ما كانوا يُكنُّون في صدورهم لا على ما كانوا يظهرون بين الناس. والمنافق ينتفع في الدنيا بهذا النور الذي هو كلمة لا إله إلا الله، وبإظهارهم الإيمان والتوحيد ومحبة المؤمنين، ((فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ)) انتهت فترة استفادته من هذا الإظهار بالموت، انطفأ نوره، ولم يعد ينتفع بهذا النور، فهذا حاله بعد الموت! فالحاصل أنهم انتفعوا بكلمة: لا إله إلا الله مدة حياتهم القليلة، ثم قطع الله هذا الانتفاع عنهم بالموت، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب.

تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون) يقول تبارك وتعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]. (صم) يعني: هم صم عن الحق، فلا يسمعونه سماع قبول. قوله: (بكم) أي: خرس عن الخير فلا يقولونه. قوله: (عمي) أي: عن طريق الهدى فلا يرونه. قوله: ((فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) يعني: عن الضلالة. فهذه إشارة إلى أن هؤلاء المنافقين قد سُدت عليهم سُبُل الهداية كلها، وهي: سمع، وبصر، وعقل، فهم صم عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول، وإذا سمعوه فكما تسمع الأنعام كما قال الله عنهم: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، قوله: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)) يعني: يرفع صوته وينادي البهائم أو العجماوات. قوله: (بما لا يسمع) أي: لا يسمع الدعاء والنداء، كالحيوان من البقر والقرود وغيرها من العجماوات، إذا ناديت سمع صوتك، لكن لا يفهم الكلام، فهذا الكافر لو تلوت عليه المعلقات السبع يفهمها ويعرف معانيها، لكن لا يفهمون ما ينفعهم! وهذا الكلام حقيقي يجب استحضاره حين نتكلم وليس مجازاً، فهؤلاء على قلوبهم أقفالٌ كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فالقلب له قفل والعياذ بالله، وضع الله سبحانه وتعالى على قلوب المنافقين أقفالاً، فلا يخرج الكفر والنفاق منها ولا يدخل الإيمان فيها، لا يسمح بالخروج ولا بالدخول، فداخلها -والعياذ بالله- هذا النفاق.

تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات)

تفسير قوله تعالى: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات) قال عز وجل: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19]. قوله: (أَوْ كَصَيِّبٍ) يعني: مثلهم كأصحاب صيِّب، والصيِّب هو المطر، أصله صيوب، اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغمتا، من صاب يصوب يعني: ينزل. قوله: ((مِنَ السَّمَاءِ)) أي: كصيب من السماء، والمقصود بالسماء هنا السحاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69] يعني: من السحاب. قوله: ((فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)) هذا التنكير للتفخيم والتهويل، كأنه قيل: في هذا السحاب ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف. قوله: (ورعد) قيل: هو الملك الموكل به، وقيل: صوته. قوله: (وبرق) يعني: لمعان بريقه الذي يلمع به، لكن الأولى أن يوصف الرعد بأنه قاصف، والبرق بأنه خاطف. قوله: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ)) يعني: أصحاب الصيب يضعون أصابعهم في آذانهم، والمقصود بأصابعهم الأنامل، فهذا من إطلاق الكل، مع إرادة الجزء. قوله: ((يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ)) يعني: من أجل الصواعق. قوله: ((حَذَرَ الْمَوْتِ)) يعني: خوف الموت من سماعها، وكذلك هؤلاء المنافقون إذا نزل القرآن وفيه ذكر الكفر المشبَّه هنا بالظلمات، والوعيد عليه المشبَّه بالرعد، والحجج البينة المشبَّهة بالبرق، يسدون آذانهم؛ لئلا يسمعوه، فيميلوا إلى الإيمان وترك دينهم، وهو عندهم موت! وهذا المثل منطبق على أحوال هؤلاء المنافقين. إذاً: المقصود بقوله تبارك وتعالى: (فيه ظلمات) يعني: أن الوحي الذي ينزل من عند الله سبحانه وتعالى وهو القرآن يحتوي على وصف الكفر بالظلمات، ويحتوي على الوعيد على الكفر، وهو الذي شبهه بالرعد بقوله: (وَرَعْدٌ) والآيات التي تنزل عليهم كالرعد، وتنذرهم عاقبة هذا الكفر. قوله: (وبرق) أيضاً في هذا الوحي برق ونور ساطع وحجج بينة، فهم يسدون آذانهم؛ لئلا يسمعوا هذه الحجج فيميلوا إلى الإيمان، ويتركوا دينهم؛ لأنهم يخافون إذا سمعوا هذا الوحي الذي فيه تنفيرٌ عن الكفر وترغيب في الإيمان أن تميل قلوبهم؛ ولذلك يضعون أصابعهم في آذانهم من هذه الصواعق؛ حذر الموت الذي هو التحول مما هم عليه إلى الإسلام، كأن هذا التحول عندهم موت، فبالتالي يسدون منافذ الهدى؛ كي لا يصل الوحي إلى أسماعهم. قوله: ((وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)) يعني: محيط بهم علماً وقدرة، فلا يفوتونه ولا يعجزونه، وهنا أظهر الله سبحانه وتعالى ما كان يمكن أن يضمر؛ لأن السياق يقتضي أن يقول: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بهم، فإظهار كلمة الكافرين في قوله: (والله محيط بالكافرين) لبيان أن ما دهمهم من البلاء وحل بهم كان بسبب كفرهم، كقوله تعالى: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} [آل عمران:117] فأظهر هذا الوصف، وهو أنهم قوم ظلموا أنفسهم؛ لأن الإهلاك الناشئ عن السخط والغضب لا عن قضاء وقدر فإنه يكون أشد على هؤلاء الكافرين؛ فلذلك أظهر وصفهم بالكافرين.

تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم)

تفسير قوله تعالى: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) يقول تبارك وتعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]. قوله: ((يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)) يعني: يأخذها بسرعة، وضوء البرق أضعاف ضوء الشمس؛ لأن ضوء البرق القاذف الذي نراه قوي جداً، ولو استدام قليلاً لربما أثر على بصر الإنسان. قوله: ((كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ)) يعني: مشوا في ضوء هذا البرق. قوله: ((وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا)) يعني: وقفوا أو جمدوا مكانهم بلا حراك، كما تقول: قام الماء إذا جمد وسكن، كذلك تقول: قامت السوق، يعني: كسدت وركدت. إذاً: الله تبارك وتعالى يبين أن ما في القرآن من الأمثلة يزعج قلوب هؤلاء المنافقين، فهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين، وبيان ما هم فيه من التحير والجهل بما يأتون وبما يذرون، إذا أضاء لهم البرق مشوا مع خوفهم من أن يخطف هذا البرق أبصارهم؛ لكنهم أيضاً يريدون أن يستفيدوا من هذه الإضاءة التي تحصل من البرق. إذاً: إذا ظهر البرق فهم بين أمرين: الأول: يخافون منه أن يخطف أبصارهم لشدة قوته. الثاني: يريدون أن ينتفعوا بهذا الضوء؛ لأنهم واقفون في ظلمات. قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)) أي: لو شاء الله في قصف الرعد أصمهم، أو في ضوء البرق أعماهم. يقول السيوطي: قوله تعالى: (وإذا أظلم عليهم قاموا) وقفوا، تمثيل لإزعاج ما في القرآن من الحجج قلوبهم، وتصديقهم لما سمعوا فيه مما يحبون، ووقوفهم عما يكرهون. يعني: هذا هو حال المنافقين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج والبراهين فهذه الحجج تزعج قلوبهم، وهي المشار إليها في آيات القرآن بالبرق، فهذا البرق يزعج قلوبهم فهم إذا سمعوا فيه الوعيد والتهديد على عاقبة الكفر والكفرة والمنافقين خافوا، وإذا سمعوا فيه أشياء يحبونها فإنهم يصدقون بها ويأنسون بها ويريدون أن يستفيدوا منها، أما إذا أتاهم ما يكرهون فإنهم يقفون عما يكرهون، بمعنى: أنهم يعبدون الله على حرف، كحال من وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] يريد أن يعبد الله على جانب واحد فقط وهو جانب الخير. {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، قال: هذا دين حسن، أصبنا فيه خيراً من كثرة الأموال والصحة ونتاج الخيل والإبل إلى غير ذلك من متاع الدنيا. ((وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ)) أي: اختبار وابتلاء. ((انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)) أي: انقلب على عقبه. {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. فإذا ابتلي في صحته بمرض أو في ماله بفقر أو بأي مصيبة في الدنيا تراه ينقلب على عقبيه ويقول: هذا دين سوء ما رأينا فيه خيراً، ويتطير ويتشاءم من هذا الدين والعياذ بالله، فهذا حال هؤلاء المنافقين. قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)) يعني: ولو شاء الله لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بالباطنة، فكما طمس بصائرهم وختم على قلوبهم وأعمى قلوبهم عن رؤية الحق، كذلك أيضاً يمكن أن يفسد عليهم حواسهم الظاهرة، كما أفسد عليهم حواسهم الباطنة. قوله: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) يعني: إن الله على كل شيء شاءه سبحانه وتعالى قدير، ومنه إذهاب ما ذكر من هذه الحواس.

البقرة [21 - 34]

تفسير سورة البقرة [21 - 34]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا الله ربكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا الله ربكم) هنا التفات في أسلوب الخطاب حيث إن الله سبحانه وتعالى التفت مباشرة في خطابه إلى الناس أجمعين آمراً إياهم بأول صيغة أمر تأتي في القرآن، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعني: كل المكلفين سواء منهم المؤمنون أو الكافرون، فكلهم مخاطبون. قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} أي: وحدوا ربكم، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يعني: يعبدونني وحدي؛ فكذلك هنا: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} يعني: اعبدوا ربكم وحده ولا تشركوا به شيئاً. قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} يعني: أنشأكم ولم تكونوا شيئاً، والذي أنعم عليكم بنعمة الوجود بعد العدم. قوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: وخلق الذين من قبلكم. قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني: لعلكم تتقون بعبادته عقابه وعذابه، و (لعل) أصلها في اللغة للترجي، لكنها في كلام الله سبحانه وتعالى لتحقيق الوقوع.

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا)

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً) قال تبارك وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22]. قوله: {جَعَلَ} يعني: خلق. قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} يعني: بساطاً يفترش، لا هي غاية في الصلابة ولا هي في غاية الليونة، حتى لا تستطيعون أن تستقروا عليها، وإنما جعلت لكم فراشاً أي: بساطاً. قوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} السماء هنا اسم جنس، أي: خلق السماوات سقفاً كالبناء يشد بعضه بعضاً، وهذه حقيقة ظهرت لمن يدرسون الفلك، فهم يعلمون هذا التناسق وهذا التماسك العجيب في تكوين هذه الأجرام السماوية، وثباتها ودورانها المحكم وغير ذلك مما يذهل العقول إذا تدبره الإنسان، فالسماوات بناء محكم يشد بعضه بعضاً، ودائماً يعبرون عن ذلك بالجاذبية، وإنما هي سنة الله سبحانه وتعالى وقوة الله وقدرة الله، وإلا فمن وراء كل هذه الخواص؟ إن المسبب الحقيقي لهذا التماسك والاتزان هو الله سبحانه وتعالى. قوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أي: أخرج من أنواع الثمرات رزقاً تأكلونه وتعلفون به دوابكم. قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} يعني: شركاء في العبادة. قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: تعلمون أن الله هو المنفرد بخلقكم ورزقكم، وتعلمون أن هذه الأنداد لا تملك لكم رزقاً ولا خلقاً ولا ضراً ولا نفعاً. فإذا كان هذا هو الحال، فإن الله سبحانه وتعالى لا يصلح أن يجعل له نداً واحداً فكيف بالأنداد الكثيرة؟! فإذا كان الأمر كذلك، وكان من يخلق ليس كمن لا يخلق، فلا يستقيم أن تجعل له شريكاً واحداً، فكيف بأنداد متعددة ومتكاثرة؟! فلا يكون إلهاً إلا من يخلق وهو الله سبحانه وتعالى. وهنا إشارة إلى حقيقة إيمانية مهمة جداً، واستدلال بثلاثة أدلة على قضية من قضايا الإيمان، وهي قضية البعث والنشور، وهذا هو الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هان عليه وسهل عليه أن ينشئنا أول مرة فإن إعادتنا بالبعث والنشور يكون أسهل مرة ثانية. الدليل الثاني: الإشارة إلى عظيم خلق السماء والأرض: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22]، والله تبارك وتعالى يقول في شأن السماوات والأرض: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] يعني: هي أعظم آية لمن علم، فمن خلق هذا كله فهو بالأولى قادر على إعادته، وهو أهون عليه وأسهل عليه. الدليل الثالث على البعث والنشور: دليل حي وحسي نلمسه جميعاً وهو إحياء الأرض بعد موتها، فالذي يحيي الأرض بعد موتها -وهو سبحانه وتعالى- هو الذي يحيي الموتى، فهذا مظهر من مظاهر عموم قدرته على كل شيء سبحانه وتعالى؛ فلذلك يقول تبارك وتعالى هنا: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22]، فهذه إشارة إلى إحياء الأرض بعد موتها، فالذي يحيي الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]. قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} أي: في شك، و (إن) كلمة تفيد الريب. قوله: {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي: عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} هذا تعجيز وتحدِّ. وقوله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] هذا التعبير للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم مع مكابرتهم وصدودهم هو الارتياب في شأنه؛ لكمال وضوحه وإعجازه كما قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]، ولا شك أنه من عند الله، فهنا يقول: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة:23] وهذه إشارة إلى أنكم لا تجرءون على تكذيبه؛ ولكن أقصى ما تصلون إليه هو الشك فقط. قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] هذا السياق إذا تأمله المؤمن يشعر أن القرآن له سلطة عليا وقاهرة هي التي تخاطب البشر، وتخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الروح التي تشعر بهذه القوى وبهذه العظمة مبثوثة في كل أجزاء القرآن، بحيث يستحيل أن يكون هذا الكلام هو كلام محمد عليه الصلاة والسلام، فتأمل نون العظمة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم: {نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47] فاستشعر بهذه القوى العظمى المسيطرة التي هي حاكمة حتى على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهيمنة على قلوب المخاطبين بهذا الكتاب المجيد، وكقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فتأملوا هذا وأنتم تقرءون القرآن، وستشعرون بأن هذه القوة هي كلام الله سبحانه وتعالى. قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] يعني: محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكره هنا فيه إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم بعنوان العبودية التي هي أشرف المقامات؛ إيماء إلى أن شرفه إنما هو بتحقيقه العبودية لله تبارك وتعالى، ولهذا الأمر قرائن في القرآن في كون وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية لله هي أشرف المقامات، ومن الشواهد ما جاء في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، وهذا في مقام الإسراء. وفي مقام الدعوة قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] يعني: كاد الجن يزدحمون عليه طبقات فوق طبقات، وهذا في مقام الدعوة. وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] في رحلة المعراج. وقوله تعالى: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] في مقام الوحي؛ لأن هذه الآية عن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] هي في عيسى عليه الصلاة والسلام، فالأنبياء يوصفون بالعبودية لله تبارك وتعالى؛ لكننا هنا نذكر ما يخص النبي عليه الصلاة والسلام، فالوصف بالعبودية يدل على التشريف العظيم. قوله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] أضافه الله سبحانه وتعالى إليه تفخيماً له وتشريفاً لمقامه صلى الله عليه وسلم، والمقصود بقوله: {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} أي: من القرآن. يعني: إن كنتم في ريب أن هذا القرآن الذي نزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله فأتوا بسورة من مثله، وهذا أسلوب تحدٍّ وتعجيز، مثل قوله تبارك وتعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]، ماذا يقول؟! وكيف يجيب؟! وكذلك هنا هو من نفس الباب: تعجيز وتحدٍّ. {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} يعني: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم -وهو رجل أميّ لا يقرأ ولا يكتب- أتى بهذا القرآن الكريم مع ما فيه من الإعجاز والفصاحة التي لم يسبق لها نظير على الإطلاق، وأنتم رءوس البلاغة ورءوس الفصاحة، والعرب مشهورون بذلك خليقة وطبيعة وفطرة؛ فنحن لا نكلفكم مع هذا بأن تأتوا بمثل القرآن كله، ولكن ائتوا بسورة من مثله، وهو رجل أمي أتى بأضعاف هذه السورة التي ستحاولون أن تفعلوها: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] أي: من مثل هذا القرآن المنزل (ومن) للبيان، يعني: ائتوا بسورة هي مثل القرآن في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب، فـ (من) هنا مثل قوله تبارك وتعالى حكاية عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، فهل {مِنْهُمْ} تبعيضية؟ لا، بل هي بيانية؛ وكذلك هنا: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} {مِنْ}: للبيان، يعني: سورة تكون مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب. والسورة قطعة لها أول وآخر، وأقلها ثلاث آيات. وليس هذا فحسب؛ لكن: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، استحضروا واستدعوا من شئتم من الجن والإنس ورؤسائكم وأشرافكم وعلمائكم وبلغائكم، وادعوا حتى آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، لتعينكم إن كنتم صادقين في أن محمداً قاله من عند نفسه، فافعلوا ذلك؛ فإنكم عربٌ فصحاء مثله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)

تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) أكبر وأقوى وأعظم معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي التحدي بالقرآن، وألفت مئات الكتب في بيان إعجاز القرآن الكريم، وقد عجز المشركون عن أن يأتوا بسورة مثله، قال الله تبارك وتعالى لهم: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] وهذا تحدٍّ، وبالفعل لم يجرؤ أحد منهم أن يواجه هذا التحدي، وكل من حاول أن يحاكي بلاغة القرآن، أتى بأشياء يضحك عليه كل من سمعه من العقلاء، فهذا مسيلمة يقول: الفيل، وما أدراك ما الفيل؟ ذو خرطوم طويل، وذنب قصير! وغير ذلك من الكلام البارد الذي إذا سمعه إنسان استخف عقل قائله وسفهه. قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] يعني: إن لم تفعلوا ما ذكر من قبل بسبب عجزكم. قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] يعني: ولن تفعلوا ذلك أبداً؛ لظهور إعجازه، وهذه الجملة {وَلَنْ تَفْعَلُوا} جملة اعتراضية. وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} تعتبر أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنهم لم يفعلوا كما أخبر الله تبارك وتعالى هذا أبداً، ولم يستطيعوا ولم يجرؤ واحد منهم مع أن التحدي قائم، وهم حريصون على الطعن في الدين بكل مستطاع؛ فلذلك لم يفعلوا، فهذا أقوى وأظهر وأوضح وأجلى دليل على صدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] يعني: بالإيمان بالله وبأن القرآن ليس من كلام البشر، اتقوا النار التي وقودها الناس، والمقصود بالناس هنا هم الكفار، والحجارة هي أصنامهم المصنوعة من الحجارة، يعني: أنها من شدة الحرارة توقد بما ذكر لا كنار الدنيا توقد بالحطب ونحوه، فالناس أنفسهم هم الذين يكونون وقوداً للنار والعياذ بالله، وكذلك الحجارة تكون وقودها. قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] أي: هيِّئت للكافرين يعذبون بها.

تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات)

تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى هذا الترهيب للكفر والكافرين ثنى بتبشير المؤمنين، والقرآن قد سُمي من هذه الحيثية مثاني؛ لأنه يثني دائماً الترغيب بالترهيب فقال سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:25] يعني: أخبرهم الخبر السار الذي يسعد ويسر، والذين آمنوا هم الذين صدقوا بالله تبارك وتعالى. قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] يعني: من الفروض والنوافل. قوله: {أَنَّ لَهُمْ} [البقرة:25] يعني: بشرهم بأن لهم. قوله: {جَنَّاتٍ} [البقرة:25] أي: حدائق ذات شجر ومساكن. قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: تجري من تحت الجنات أو من تحت الأشجار والقصور الأنهار، والذي يجري هو ماء الأنهار. قوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا} [البقرة:25] أي: كلما أطعموا من تلك الجنات. قوله: {مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25] يعني: هذا مثل الذي رزقنا قبله في الجنة؛ لتشابه ثمارها، بقرينة قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا}. قوله: {وَأُتُوا بِهِ} [البقرة:25] أي: جيئوا بالرزق. قوله: {مُتَشَابِهاً} [البقرة:25] أي: يشبه بعضه بعضاً في اللون ويختلف في الطعم. قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} [البقرة:25] يعني: من الحور وغيرها، {مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] يعني: من الحيض ومن كل قذر، {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] أي: ماكثون أبداً لا يخرجون.

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة)

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة) لما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب في قوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا} [الحج:73]، وفي قوله: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ} [العنكبوت:41] فكأن اليهود استغربوا وقالوا: كيف تزعمون أن القرآن كلام ربكم وكلام إلهكم ثم يذكر هذه الأشياء الحقيرة، مثل: الذباب والعنكبوت؟! فأنزل الله سبحانه وتعالى رداً عليهم هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] و (مثلاً) المفعول الأول و (ما) المفعول الثاني؛ لأن (ما) هذه اسمية إبهامية، وإذا دخلت كلمة (ما) الاسمية الإبهامية على اسم نكرة أبهمته إبهاماً تاماً وزادته شيوعاً وعموماً، كقولك: أعطني كتاباً ما. أي: أعطني أي كتاب كان، فمعنى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا} [البقرة:26] يعني أن يجعل أي مثل كان، أو تكون (ما) زائدة لتأكيد حقارتها. قوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} البعوض هو صغار البق قوله: {فَمَا فَوْقَهَا} يعني: ابتداء من البعوضة فما هو أكبر منها، أي: لا يترك الله سبحانه وتعالى بيانه لما في هذا المثل الذي يضربه الله من الحكم أو معنى: {فَمَا فَوْقَهَا} يعني: ما دونها، فيكون المقصود ما يكون أقل منها في الصغر، فهذا من الأضداد. إذاً: يريد الله سبحانه وتعالى أن يبين لهم أنه كما لا يستنكف الله عن خلقها كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها، وقد ضرب المثل في القرآن الكريم بالذباب فقال سبحانه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، وضرب المثل بالعنكبوت فقال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] فالتمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى، بغض النظر عن الشيء الذي ضرب به المثل هل هو حقير أم عظيم، فالمقصود كشف هذه المعاني وتجليتها؛ فلذلك لا يستحيي الله أن يضرب مثلاً بهذه الأشياء. قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ} [البقرة:26] الهاء تعود على المثل. قوله: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي: المثل الثابت الواقع موقعه {مِنْ رَبِّهِمْ}. قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] إعراب (مثلاً) هنا: تمييز، يعني: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ و (ما) اسم استفهام وإنكار، يعني: أي فائدة في هذا المثل؟ فرد الله سبحانه وتعالى عليهم استنكارهم بقوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] يعني: هذا المثل يضل الله به كثيراً عن الحق؛ لكفرهم به، ويهدي به كثيراً من المؤمنين؛ لتصديقهم به. قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] أي: الخارجين عن طاعته.

تفسير قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)

تفسير قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [البقرة:27] هذا وصف الفاسقين، والفسوق هو الخروج، تقول: فسقت الرطبة يعني: خرجت. يعني: ينقضون ما عهده إليهم في الكتب من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. قوله: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة:27]، يعني: من بعد توكيده عليهم. قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] يعني: من الإيمان بالأنبياء جميعاً دون تمييز ودون تفريق بينهم. ويوجد خلاف في معنى: (ما الله به أن يوصل) فقال بعض العلماء: أمروا أن يصلوا العلم بالعمل، وقال آخرون: أراد الله أن يوصل الرحم، أو أراد الله أن يوصل الإيمان بجميع الأنبياء، تؤمن بموسى فإذا بعث عيسى تؤمن بعيسى فإذا بعث محمد عليه الصلاة والسلام تؤمن بمحمد، ولا تفرق بين الأنبياء. إذاً: قوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وصلة الرحم وغير ذلك. قوله: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [البقرة:27] بالمعاصي والتعويق عن الإيمان. قوله: {أُوْلَئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر {هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27] يعني: أن مصيرهم إلى النار المؤبدة إن لم يؤمنوا.

تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا)

تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً) قال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] أي: كيف تكفرون -يا أهل مكة بالله- وقد كنتم نطفاً في الأصلاب فأحياكم في الأرحام وفي الدنيا بنفخ الروح فيكم؟! والاستفهام للتعجب من كفرهم مع قيام البرهان أو الاستفهام للتوبيخ. قوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [البقرة:28] أي: عند انتهاء آجالكم. قوله {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالبعث والنشور. قوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] أي: تُردون بعد البعث، فيجازيكم بأعمالكم.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض) قال تبارك وتعالى تأكيداً على البعث الذي أنكروه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]. يعني: خلق الأرض وما فيها لتنتفعوا به وتعتبروا. قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} يعني: بعد خلق الأرض قصد إلى السماء. قوله: {فَسَوَّاهُنَّ} الضمير يرجع إلى السماء؛ لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه. قوله: {فَسَوَّاهُنَّ} يعني: صيرها، وفي آية أخرى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت:12]. قوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29] يعني: يعلم على سبيل الإجمال وعلى سبيل التفصيل كل دقائق الأمور، أفلا تعتبرون أن القادر على خلق ذلك ابتداء -وهو أعظم منكم- قادر على إعادتكم؟ فخلق السماوات والأرض أعظم من خلق الناس، فمن خلق ذلك أفلا يقوى على إعادتكم أنتم؟!

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة:30] يعني: واذكر يا محمد: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] يعني: يخلفني في تنفيذ الأحكام فيها، وهو آدم عليه السلام. قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] يعني: بالمعاصي. قوله: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] يعني: يريقها بالقتل. كما فعل بنو الجان حين كانوا فيها، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال. وبعض العلماء يقول: فهمت الملائكة من كلمة (خليفة) أن الخليفة سيحكم بين الناس في أقضياتهم ونزاعهم، وفهموا أنه سيحصل فساد من هؤلاء المخلوقين، يحتاج إلى وجود خليفة يحكم بينهم في الدماء والأموال وغير ذلك، فمن ثم قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]. قوله: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} يعني: نسبح متلبسين بحمدك؛ لأن التسبيح تنزيه لله عن النقائص التي لا تليق به، والتحميد إثبات الكمال له، فلذلك دائماً يقترن التسبيح بالتحميد، فنقول: سبحان الله وبحمده. قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي: ننزهك عما لا يليق بك، ومعنى ذلك: أننا نحن أحق بالاستخلاف. قوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] أي: يقول تعالى: أنا أعلم ما المصلحة في استخلاف آدم عليه السلام، وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم، فقالت الملائكة: لن يخلق ربنا خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم منا لسبقنا له. يعني: لأننا سبقنا قبل هذا الخليفة في الخلق فنحن أفضل منه، ونحن نرى ما لم يره هذا الخليفة، فخلق الله آدم من أديم الأرض -أي: وجهها، بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها، وعجنت بالمياه المختلفة، وسواه ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً.

تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)

تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] يعني: أسماء المسميات كلها، حتى القصعة والقصيعة، والفسوة والفسية، والمغرفة، وغير ذلك، بأن ألقى في قلبه علم هذه الأسماء. قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} يعني: عرض المسميات، وفيه تغليب العقلاء وإن كانت المسميات تشمل العاقل وغير العاقل. قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة:31]، فقال لهم تبكيتاً، وإلزاماً بالحجة لإظهار مكانة آدم: {أَنْبِئُونِي} [البقرة:31] يعني: أخبروني: {بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء} [البقرة:31] يعني: المسميات. {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31] في أني لا أخلق أعلم منكم، أو أنكم أحق بالخلافة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:32]، تنزيهاً لك عن الاعتراض عليك. قوله: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] يعني: إياه. قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] أي: الذي لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.

تفسير قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم)

تفسير قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] أي: أنبئ الملائكة بأسماء المسميات، فسمى آدم كل شيء باسمه، وذكر حكمته التي خلق لها. وقوله: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ} يعني: قال تبارك وتعالى للملائكة موبخاً ومنبهاً: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ} يعني: ما غاب في السماوات والأرض. {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} يعني: ما تظهرون من قولكم: (أتجعل فيها) إلى آخره {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} يعني: ما تسرون من قولكم: لن يخلق الله أكرم عليه منا ولا أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. قوله: {وَإِذْ} يعني: واذكر إذ {قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} أي: سجود تحية بالانحناء. وقوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} وهو أبو الشياطين، وهو من الجن أو أبو الجن، لكنه كان يعبد الله سبحانه وتعالى مع الملائكة، فشمله الأمر الذي شمل جميع الملائكة؛ لأن هذا الأمر شمل جميع الملائكة، حتى جبريل وإسرافيل لقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30] وهذا تأكيد للعموم، فدل على أن جميع الملائكة وجه إليهم هذا الأمر، وإبليس كان يعبد الله سبحانه وتعالى معهم فمن ثمّ شمله هذا التكليف. وقوله: (أَبَى) أي: امتنع من السجود (وَاسْتَكْبَرَ) أي: تكبر عنه، السين هنا للمبالغة، وتفسيرها: تكبر عن أن يسجد. وقوله: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) يعني: في علم الله تبارك وتعالى، أو صار من الكافرين، لكن الأشهر أن يقال: (وكان من الكافرين) يعني: في علم الله تبارك وتعالى. وقوله عز وجل هنا: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) هذا الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم، بدليل قوله تعالى في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:28] يعني: في المستقبل؛ لأنه لم يكن قد خلق آدم عليه السلام، فالأمر بالسجود كان قبل خلقه، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29]. وفي سورة (ص) قال سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:71 - 72]. إذاً: كان أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل خلقه.

الرد على قياس إبليس الفاسد

الرد على قياس إبليس الفاسد قوله عز وجل: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) لم يبين الله تبارك وتعالى هنا موجب استكبار إبليس، فما هو الذي دفع إبليس إلى الاستكبار؟ بين الله تبارك وتعالى الأمر الذي جعل إبليس في نظره يستكبر عن السجود لآدم عليه السلام فيما حكاه عنه بقوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وفي قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62]، وفي قوله: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:33]. فهذا القياس الإبليسي هو الذي حمله على الاستكبار؛ فإبليس قاس نفسه على عنصره وهو النار، وقاس آدم على عنصره وهو الطين، ثم استنتج من ذلك أنه خير من آدم؛ لأن إبليس خلق من نار، وآدم خلق من طين، وكان ينبغي ألا يمتنع عن السجود مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تبارك وتعالى: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34]. وهذا القياس يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار. وينبغي أن يذكر هنا شيء مهم جداً وهو: أن وجود النص أدل دليل على فساد القياس. فقول تعالى: (اسجدوا) هذا نص، فهذا أول وجه ينبغي أن يقدم على غيره في إبطال هذا القياس الفاسد، ولذلك يقول الإمام أبو السعود المالكي في (مراقي السعود): والخلف للنص أو اجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعا والخلف للنص: يعني: أي نوع من القياس فيه مخالفة أو مساومة للنص من قرآن أو سنة أو إجماع فقد دعا: أي سماه ودعاه: فاسد الاعتبار كل من وعا، أي: يسميه (فاسد الاعتبار) كل من عقل ووعى وعلم. فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس، وقياس إبليس هذا باطل من وجوه: الأول: أنه فاسد الاعتبار لمخالفته النص الصريح كما بينا، فقد ورد الأمر من الله: (اسجدوا لآدم)، وواضح من سياق الآيات أن هذا الأمر شمل إبليس لعنه الله. الوجه الثاني: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين؛ لأنه بنى هذا القياس على أساس أن النار خير من الطين، بل في الحقيقة أن الطين خير من النار؛ لأن طبيعة النار الخفة والطيش والإفساد والتفريق، أما الطين فطبيعته الرزانة والإصلاح، فالطين تودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتعطيه النواة فيعطيكها نخلة مباركة، وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض النظرة وما فيها من الثمار اللذيذة والأزهار الجميلة والروائح الطيبة وستعلم أن الطين خير من النار، وإذا أردت أن تعرف أضرار النار ومفاسدها فانظر إلى عنبر الحرائق في المستشفيات، أو انظر إلى صفحة الحوادث في الجرائد تعرف أثر النار وطيشها وفسادها وخفتها. ثالثاً: لو سلمنا تسليماً جدلياً أن النار خير من الطين كما زعم إبليس فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من آدم؛ لأن شرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، بل قد يكون الأصل رفيعاً والفرع وضيعاً، كما قال الشاعر: إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا يخاطب الشاعر رجلاً ينتسب إلى أجداد وآباء شرفاء وهو بئس الرجل؛ لأنه رجل سيئ، فماذا ينفعه ذلك؟! فشرف الأصل لا يستلزم شرف الفرع، وقال الآخر: وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة وباهلة قبيلة كان عامة العرب ينشدون الأشعار في هجائها ووصفها بالدونية والاحتقار والصفات الدنيئة. فلا تنفع الإنسان أخلاقه التي تنتمي إلى باهلة وإن كان نسبه وسلالته تنتهي إلى هاشم، فكل هذا يؤكد أن شرف الأصل لا يستلزم ولا يستوجب شرف الفرع.

حكم السجود لغير الله

حكم السجود لغير الله أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام كرامة عظيمة من الله تبارك وتعالى لآدم عليه السلام، وهذا السجود اختلف المفسرون فيه، فبعضهم قال: إنه سجود تكريم لآدم، وقيل: السجود كان لله، وآدم قبلة، وقيل: إن السجود لآدم كان تحية، وقيل: كان السجود لآدم عبادة بأمر الله، وهو سبحانه الذي فرضه عليهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال أهل العلم: السجود كان لآدم بأمر الله وفرضه، وعلى هذا إجماع كل من يسمع قوله. أي: أن السجود كان لآدم بأمر وإيجاب الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله تعالى قال: (اسجدوا لآدم) ولم يقل: اسجدوا إلى آدم، وهذا يبطل قول من قال: إن آدم كان قبلة وإن السجود كان لله؛ لأنه لم يقل: اسجدوا إلى آدم أو إلى جهة آدم، لكن قال: (اسجدوا لآدم). يقول شيخ الإسلام: فإن الله تعالى قال: (اسجدوا لآدم) ولم يقل: إلى آدم. وكل حرف له معنىً، وفرق بين قولك سجد له وبين سجد إليه، قال تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت:37]، وقال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:15] قال: وأجمع المسلمون على أن السجود للأحجار والأشجار والدواب محرم، وأما الكعبة فيقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، ولا يقال: صلى لبيت المقدس ولا صلى للكعبة؛ لأننا لا نعبد الكعبة، وإنما الكعبة قبلة للعبادة فقط. فلذلك نقول: صليت إلى القبلة أو إلى الكعبة، ولا نقول: صليت للكعبة. قال: والصواب أن صاحب الخضوع بالقلب والاعتراف بالعبودية لا يصلي على الإطلاق إلا لله سبحانه وتعالى، وأما السجود فشريعة من الشرائع يتبع الأمر. يعني: أن خضوع القلب والتعبد لا يكون إلا لله، وأما السجود في حد ذاته فشريعة من الشرائع يتبع الأمر، فلو أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسجد لأحد من خلقه لسجدنا طاعة واتباعاً لأمره، ولو أمرنا الله أن نسجد لأحد من خلقه لأطعنا؛ لأنه أمر صادر من الله عز وجل. فسجود الملائكة لآدم عبادة لله وطاعة وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتعظيم وتكريم، وكذلك سجود أخوة يوسف له كان تحية وسلاماً، ولم يأتِ أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر بالسجود إلا لله رب العالمين، وبالجملة أهل السنة قالوا: إنه سجود تعظيم وتكريم وتحية لآدم عليه السلام. وقالت المعتزلة: كان آدم بالقبلة يُسجد إليه، ولم يسجدوا له، قالوا ذلك هرباً من أن تكون الآيات الكريمة حجة عليهم؛ فإن أهل السنة قالوا: وصالح البشر أفضل من الملائكة، واحتجوا بسجود الملائكة لآدم، وخالفت المعتزلة في ذلك وقالت: الملائكة أفضل من البشر، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة. ويبطله ما حكى الله سبحانه عن إبليس بقوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62] فكان هذا السجود فعلاً تكريماً لآدم، والدليل هنا في قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62].

نوعية الملائكة الذين سجدوا لآدم عليه السلام

نوعية الملائكة الذين سجدوا لآدم عليه السلام واختلف العلماء في الملائكة الذين أمروا بالسجود: فقيل: هم الذين كانوا مع إبليس في الأرض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا القول ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى، وقيل: هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل، وهذا قول عامة أهل العلم بالكتاب والسنة، أي: أن الأمر كان موجهاً إلى جميع الملائكة، والدليل قوله تبارك وتعالى في هذه الآية ونحوها، يقول ابن تيمية: ومن قال خلافه فقد رد القرآن بالكذب والبهتان؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) فانظر إلى التوكيد؛ فإنه تأكيد للعموم.

جنس إبليس

جنس إبليس اختلف العلماء في إبليس: هل كان من الملائكة أم لا؟ وفي المسألة قولان: أحدهما: أنه كان من الملائكة، وهذا قول أكثر المفسرين؛ لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم، فلولا أنه من الملائكة لما توجه الأمر إليه بالسجود، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصياً، ولما استحق الخزي واللعن. القول الثاني: أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة؛ لقوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس؛ ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، كما قال تعالى حاكياً عنه: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فهذا يدل على أنه لم يخلق مما خلقت منه الملائكة الذين خلقوا من نور، ولأن إبليس له ذرية، والملائكة لا ذرية لهم. قال في الكشاف: إنما تناوله الأمر وهو للملائكة خاصة؛ لأن إبليس كان في صحبتهم، وكان يعبد الله عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له كان الجني الذي معهم أجدر بأن يتواضع. والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، وممن صححه البغوي، وأجابوا عن قوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) أي: من الملائكة الذين هم خزنة الجنة. وعلى أي الأحوال الخلاف في هذا الأمر موجود بين العلماء، والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى لما حكى هذا الخلاف رجح ما يراه راجحاً كعادته في التحقيق، وهذا حري به، كما يعبر العلماء دائماً عنه فيقولون: قال الإمام المحقق ابن القيم الجوزية؛ لأن ابن القيم يتميز بتحقيق المسائل وتمحيصها من الناحية العلمية، ويذكر التفصيل في المسألة. فبعض العلماء يقولون: إن الصحيح: أنه كان من الملائكة، وهذا نوع من الملائكة اسمهم الجن؛ لأنهم يخفون ولا يظهرون، والبعض قال: كان هو أبو الجن أو أصل الجن، لكن كان يعبد الله مع الملائكة، وإن لم يكن من جنسهم، فلذلك شمله الأمر معهم، حتى قال بعضهم: إنه كان منافقاً يظهر موافقة الملائكة في العبادة فقط. يقول ابن القيم: الصواب التفصيل في المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان مع الملائكة بصورته يعبد الله معهم، وليس منهم بمادته وأصله، فأصله من نار وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمثبت لم يتواردا على محل واحد، فمن يقول: هو من الملائكة يشير إلى صورته أنه كان مع الملائكة في عبادة الله، والذي يقول: ليس من الملائكة يتحدث عن أن أصله من نار، وليس كالملائكة الذين أصلهم من نور. وقيل: إن فرقة من الملائكة خلقوا من النار، وإنما سموا جناً لاستتارهم عن الأعين، فإبليس كان منهم، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات:158] أي: وبين الجن؛ لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، والعياذ بالله! قيل: ولما أخرجه الله من الملائكة جعل له ذرية، وقد سئل الشعبي: هل لإبليس زوجة؟ فقال: ذلك عرس لم أشهده! أي: حفل زواج ما كنت حاضراً فيه، قال الشعبي: ثم قرأت هذه الآية فعلمت أنه لا يكون له ذرية إلا من زوجة. وقال قوم: ليس له ذرية ولا أولاد، وذريته هم: أعوانه من الشياطين.

تحديد وقت كفر إبليس

تحديد وقت كفر إبليس قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فيها قولان: أحدهما: أنه وقت العبادة كان منافقاً من الكافرين، يعني: كان يعبد الله مع الملائكة، لكن كان منافقاً كذاباً في هذه العبادة. القول الثاني: أنه كان مؤمناً ثم كفر، يعني: أنه كان من الكافرين في سابق علم الله، أو صار من الكافرين، وهذا قول الأكثرين، أي: أنه كان مؤمناً ثم كفر. والذي عليه الأكثرون أن إبليس هو أول كافر بالله. واختلف الناس بأي سبب كفر إبليس لعنه الله: فقالت الخوارج: إنما كفر بمعصية الله، وكل معصية كفر، وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، إذ ليس كل معصية كفراً. وقال آخرون: كفر بترك السجود لآدم ومخالفته أمر الله. وقال آخرون: كفر لأنه خالف الأمر الشفهي من الله، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود، ومخالفة الأمر الشفهي أشد قبحاً. وقال جمهور الناس: كفر إبليس لأنه أبى السجود واستكبر وعاند وطعن واعتقد أنه محق في تمرده؛ لأن إبليس طعن في حكمة الله وأمره، وهذا كفر لا شك، بخلاف المعصية الظاهرة، واستدل أيضاً إبليس بقوله: أنا خير منه، فكأنه ترك السجود لآدم تسفيهاً لأمر الله وحكمته، وهذا الكبر عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

الرد على من قال: إن الشجرة التي نهي آدم عنها هي شجرة العلم والمعرفة

الرد على من قال: إن الشجرة التي نهي آدم عنها هي شجرة العلم والمعرفة العلماء يقولون: إن السجود كان بعد خلق آدم، بعد أن أظهر الله شرف آدم عليهم بالعلم؛ وذلك بعد أن علم آدم الأسماء كلها، ثم عرضها على الملائكة، فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31]، ثم قال: (يا آدم أنبئهم بأسمائهم) إلى آخر الآيات، والشاهد من ذلك: أن الله شرف آدم على الملائكة بالعلم، وبعدما شرفه بالعلم أمرهم بالسجود له. وفي هذا التفسير رد على ما يدعيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فإن أصل انحرافهم في العقيدة في هذا الباب هو ابتداءً من قصة آدم عليه السلام؛ فهم اقتبسوا هذا القصة من الهنادكة والبوذيين والبراهمة وقدماء المصريين. وهم يزعمون أن الله سبحانه وتعالى أباح لآدم وحواء أن يأكلا من أي شجرة من شجر الجنة ما عدا شجرة معينة، ويزعمون أنها شجرة العلم والبصيرة والمعرفة! ويزعم هؤلاء الكفار بأن الله سبحانه وتعالى كان يخشى من آدم؛ لأن آدم لو أكل من هذه الشجرة فسيصير عنده علم ومعرفة وبصيرة، فلذلك نهاه حتى يبقى بلا معرفة وبصيرة! قالوا: ولما خالف آدم الأمر، وأكل من شجرة المعرفة والبصيرة صار عنده علم ومعرفة وبصيرة، فلذلك -والعياذ بالله- غضب الله عليه، وطرده من الجنة من أجل ذلك!

الرد عل من يزعم أن آدم وحواء ورثا البشرية الخطيئة

الرد عل من يزعم أن آدم وحواء ورثا البشرية الخطيئة ليس عند أهل الكتاب أن الله سبحانه وتعالى تاب على آدم وحواء، بل تلوثا بالخطيئة، وليس هذا فحسب، بل ورثا البشرية هذه الخطيئة، وهو ما يسمونه بسر عظيم جداً من أسرار الكنيسة، وهو الخطيئة الأصلية، يعني: أن الإنسان يولد ملوثاً بالخطيئة! مع أن كل مولود يولد نقياً طاهراً كما يبين لنا النبي عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمته) فضرب المثل في النقاء والطهارة والصفاء والبراءة بالإنسان كما ولدته أمه بلا خطيئة. وأما عند هؤلاء فأسوأ يوم وأسود يوم على الإنسان هو يوم تلده أمه؛ لأنه يولد بلا ذنب وبلا جريمة ومع ذلك يكون ملوثاً بخطيئة آدم، ولا يتطهر من هذه الخطيئة حتى الأنبياء!! وفي زعم النصارى أن الأنبياء الذين ماتوا قبل المسيح عليه السلام سوف يدخلون سجن جهنم بعد موتهم! حتى نوح وهود وكل الأنبياء؛ لأنهم يتحملون وزر وخطيئة آدم! وعليه بنوا هذه النظرية الغسانية المشركة التي اقتبسوها من قدماء المصريين، وهذا ثابت بالأدلة التاريخية، والهنود وأهل الوثنية اقتبسوا منهم نظرية أن الخطيئة لابد منها والعياذ بالله! وأن ربنا ينزل ويجسد ويذبح حتى يمحوا عن البشرية هذه الخطيئة، وهم مع ذلك يتناقضون، فإذا كان المسيح تحمل خطايا البشر فلماذا يشترطون التعميد؟! والتعميد عندهم هو: أن الطفل الذي لا يغطس في الماء الذي يسمونه مقدساً -والله أعلم هو منجس أم مقدس- يبقى حاملاً هذه الخطيئة! فمعنى ذلك: أنه رغم ما يزعمون من نزول المسيح وصلبه والعياذ بالله! فما زالت البشرية ملوثة في اعتقادهم، حتى إنهم في بعض الأراضي الموقوفة للكنيسة في بعض البلاد يمنعون دفن أي مولود أو أي إنسان إذا لم يكن قد عمد؛ لأنهم لا يعتبرونه قد دخل في النصرانية؛ لأن هذه عندهم صبغة مهمة جداً، ولابد أن يعمد بهذا الماء الذي يصفونه بأنه مقدس! وليس الآن أوان التفصيل في موضوع التعميد، لكن الشاهد أن هذه نقطة مهمة جداً في العقيدة بيننا وبين أهل الكتاب، وهذا بسبب تحريفهم كلام الله عز وجل، ولذلك انعكست هذه القضية في موقف الحضارة الغربية المعاصرة في العلاقة بين العلم والدين، فهم لهم انطباع أن هناك عداوة بين العلم وبين الدين مبنية ومأخوذة من هذا التصور الموجود في التوراة، وهو أن هذه الشجرة كانت شجرة المعرفة، فالدين هو دين الله، والعلم هو شجرة المعرفة، فالدين يكره العلم ويخاف منه، وبينهما عداوة، ولذلك الله سبحانه وتعالى حذر آدم أن يأكل من هذه الشجرة لأنه كان يخاف أن يصير لآدم بصيرة وعلم! -تعالى الله وحاشاه-. فهذا الانطباع هو السبب في العداء بينهم وبين الدين والعلم دائماً، ويعتقدون أن الدين عدو للعلم، وأنهما متناقضان، ولا يمكن أن يلتقيا. ثم جاءت التجربة الواقعية فأكدت هذا الأمر حينما حصل الصراع بين الكنيسة وبين الاكتشافات الحديثة، فكلما كان يكتشف علماؤهم نظرية أو حقيقة علمية كان القساوسة وعلماء الطبيعة والفيزياء -إن جاز هذا التعبير- يتصادمون، فلما حصل هذا الصدام حصل التمرد والكفر بالكنيسة وظهور دين العلمانية الجديد! فهم لما فقدوا الثقة في النصرانية لم يبحثوا عن الدين الحق، لكن هجروا الحق وذلك الدين المحرف معاً. فقصة آدم عليه السلام لها تأثير خطير في التصور النصراني، وهي قضية أصلية جداً في العقيدة عندهم، وأن آدم وحواء لم يتب الله عليهما، وإنما نزلا ملوثين بالخطيئة، بل ورثا الخطيئة كل البشرية من بعدهم! هذا مظهر من مظاهر الانحراف عند أهل الكتاب، وهناك انحراف آخر عند الذين يتبنون نظرية دارون أو ما يسمى بنظرية التطور أيضاً؛ فهم ينكرون هذه الحقيقة التي يصدع بها القرآن، وينكرون أن أصل البشرية شيء اسمه آدم وحواء؛ لأن العملية عندهم موضوع خلية تركبت ونمت وحصل تطور عبر آلاف سحيقة من القرون، ثم كان منها الإنسان إلى آخر هذا الكلام! وليس الأوان أوان مناقشة هذا بالتفصيل، لكن هذه إشارة واضحة إلى فساد هذه العقيدة، وكما هو معلوم فقد بين القرآن أن بداية البشرية كانت خلقاً مباشراً من الله سبحانه وتعالى لآدم، ثم بعد ذلك لـ حواء، وليس كما يزعم أصحاب نظرية التطور، وقد هزمت الآن، وليس فقط بالأدلة الدينية حتى بالأدلة العلمية وأدلة علم الجينات أو الوراثة.

البقرة [35 - 49]

تفسير سورة البقرة [35 - 49]

تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا)

تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً) قال تبارك وتعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35]. قوله: (اسْكُنْ أَنْتَ) هذا تأكيد للضمير المستتر في (اسكن) حتى يعطف عليه (وزوجك) وقوله: (وَزَوْجُكَ) يعني: حواء بالمد، خلقها الله من ضلع آدم الأيسر. وقوله: (وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا) أي: كلا منها أكلاً رغداً، يعني: واسعاً كثيراً لا حجر فيه، فمعنى (وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا): كلا منها أكلاً رغداً، ولابد من تقدير كلمة أكلاً، ورغداً هنا صفة. قوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) يعني: لا تقربا هذه الشجرة بالأكل منها، وليس المقصود الدنو في حد ذاته، إنما المقصود الأكل منها، والشجرة قيل: هي الحنطة أو الكرم، وقيل: غيرهما. وقوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) يعني: فتصيرا من العاصين. لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وخلق له زوجه وأقرهما في الجنة أباحهما الأكل منها بقوله: {وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة:35] أي: أكلاً واسعاً. وقوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا) حيث للمكان المبهم، أي: من أي مكان من الجنة شئتما. وأطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة الغاية حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه، يعني: إذا كان الله سبحانه وتعالى أباح لهما كل ما في الجنة، فإذا حرم عليهما شيئاً واحداً فقط لا يبقى لهما عذر في مخالفة هذا الأمر؛ لأن الله قد أباح لهما الكثير. وهذا حتى الآن واقع معنا، فالناس دائماً يعيبون المتدينين، ويقولون لهم: أنتم كل شيء عندكم حرام! فنقول: لا، ليس كل شيء حراماً، بل إذا تأملت في نعم الله سبحانه وتعالى علينا وجدت كل شيء حلالاً إلا أشياء يسيرة، فالماء حلال، والعصير حلال، والفواكه حلال، واللحم حلال، ودائرة الحلال واسعة جداً، ودائرة الحرام ضيقة جداً. فهنا كذلك الله سبحانه وتعالى أباح لهما كل ما في الجنة فقال: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا) أي: أكلاً واسعاً من أي مكان شئتما، فلم يبق لهما عذر إذا خالفا هذا الأمر وقد وسع الله عليهما هذه التوسعة. وقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي: هذه الشجرة الحاضرة، يعني: لا تقربا منها، ولم يقل: ولا تأكلا من هذه الشجرة، ولكن قال: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، وهذا مبالغة في تحريم الأكل منها، ووجوب الابتعاد عنها، وهذا نلاحظه في كثير من تعبيرات القرآن، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187]، وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]. وفي الحديث: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى يحوم حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)، فعلق النهي بالقربان منها مبالغة في تحريم الأكل ولزوم الاجتناب عنه؛ لأن القرب من الشيء يقتضي الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء تعمي وتصم، فالمحب لا يرى قبيحاً، ولا يسمع نهياً، فيقع في الحرام. والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، فحكمة الله سبحانه وتعالى أنه لا يحرم شيئاً إلا ويحرم كل وسيلة تسهل وتؤدي إليه، فلما حرم الزنا حرم كل سبب يقرب إليه، وسد الذرائع من بعيد، حتى يكون الناس في مأمن وفي حصن من ذلك، فأمر بغض البصر، وحرم إطلاق البصر فيما حرم الله سبحانه وتعالى، وأمر المرأة بالحجاب، ومنع مصافحة الأجنبية، ومنع الخلوة بها، ومنع سفر المرأة بدون محرم؛ لأن هذه كلها وسائل للاعتداء على الأعراض. فالسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) فلما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة تدعو إلى المحبة، وذلك مفضٍ لارتكابه؛ صار النظر مبدأ الزنا.

سبب العطف في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء

سبب العطف في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا} [البقرة:35] فعطف بالواو، وفي سورة الأعراف قال تبارك وتعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا} [الأعراف:19] وهذا عطف بالفاء يقول القاسمي رحمه الله: جاء في آية الأعراف (فكلا)، وفي آية البقرة بالواو؛ لأن كل فعل عطف عليه شيء وكان ذلك الفعل كالشرح، وذكر الشيء كالجزاء؛ عطف بالفاء دون الواو؛ لأن الفعل يقع في جواب الشرط، فإذا فهم من سياق النص عطف بالفاء لا بالواو، كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة:58] يعني: كانوا خارج القرية، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إذا دخلتم فكلوا منها، يقول: لما كان الأكل ووجود الأكل منها متعلقاً بدخولها ذُكر بالفاء، وكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، ففيها معنى فعل الشرط وجواب الشرط، فجاء فيها بالفاء فقال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} [البقرة:58]. وقال في الأعراف: {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا} [الأعراف:161] بالواو دون الفاء لأنه من السكنى، وهو المقام مع اللبث الطويل، فقوله: (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) المقصود هنا: التعبير بالإقامة فيها، فهل الإقامة فيها تستلزم الأكل؟ لا، لا تستلزم أن يظل الإنسان مقيماً في القرية لا يقوم فيها بشيء غير الأكل، فالسكون هنا هو مجرد اللبث في القرية، فلذلك يقول: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا} [الأعراف:161] بالواو دون الفاء لأنه من السكنى، وهو المقام مع اللبث الطويل، ومن دخل بستاناً قد يأكل منه وقد لا يأكل منه، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط عطف بالواو، فلذلك قال في هذه الآية: {اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا} [الأعراف:161] لكن في الآية الأخرى قال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة:58]؛ لأنهم كانوا خارج القرية، والمراد: إن دخلتموها فكلوا، أما هذه فالأمر منصب على معنى الاستقرار فيها، ولا يستلزم ذلك الأكل منها. يقول: وإذا ثبت هذا نقول: قد يراد بـ (اسكن) الزم مكاناً دخلته، ولا تنتقل عنه، وقد يراد: ادخله واسكن فيه، فقوله تعالى هنا في سورة البقرة: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا} [البقرة:35] يدل على أن آدم دخل الجنة، وكان موجوداً فيها، فلذلك عطف بالواو، فالمراد هنا: المكث، والأكل لا يتعلق به، فجيء بالواو، وفي الأعراف ورد الأمر قبل أن يدخل الجنة فقال: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19]، والمراد: الدخول، والأكل متعلق به، يعني: إن دخلت فكل، فلذلك وردت بالفاء في الأعراف وبالواو في سورة البقرة. ولم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة؛ إذ لا حاجة إليه؛ لأنه ليس المقصود أن تعرف عين تلك الشجرة، وما لا يكون مقصوداً لا يجب بيانه. وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] أي: الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تبارك وتعالى.

سبب أكل آدم من الشجرة

سبب أكل آدم من الشجرة آدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل، وإلا فإن آدم لم يقصد المعصية والمخالفة، ولم يقصد أن يكون ظالماً مستحقاً للشقاء، لكن إبليس خدعه، كما أخبر الله عنه بقوله: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] فآدم عليه السلام كان من طهارة وبراءة قلبه وسلامة نيته لا يتصور أبداً أن مخلوقاً من خلق الله يحلف بالله كاذباً، وهذا يدل على براءة آدم من تعمد المعصية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الصواب أن آدم عليه السلام لما قاسمه عدو الله -أي: حلف له أنه ناصح- وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات: أحدها: القسم: (وقاسمهما). والثاني: الإتيان بجملة اسمية لا فعلية: (إني لكما لمن الناصحين). والثالث: تصديرها بأداة التأكيد. الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر. الخامس: الإتيان به اسم فاعل لا فعلاً دالاً على الحدث. السادس: تقديم المعمول على العامل فيه. ولم يظن آدم أن أحداً يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً؛ فظن صدقه، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل وإن كان فيه مفسدة فمصلحة الخلود أرجح، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة المعصية بعد ذلك باعتذار أو توبة.

تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه)

تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (فأزلهما إبليس) أي: أذهبهما، وفي قراءة (فأزالهما) أي: نحاهما. وقوله: (عنها) أي: الجنة، بأن قال لهما: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]. وقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) أي: من النعيم. وقوله: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) يعني: إلى الأرض. وإذا قلنا: إن الخطاب هنا موجه إلى آدم وحواء فيقصد به آدم وحواء وما اشتملا عليه من ذريتهما. وقوله: (بَعْضُكُمْ) أي: بعض الذرية (لبعض عدو) يعني: من ظلم بعضكم بعضاً. وقوله: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي: موضع قرار. وقوله: (وَمَتَاعٌ) يعني: ما تتمتعون به من نباتها. وقوله: (إِلَى حِينٍ) أي: إلى وقت انقضاء آجالكم.

تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) قوله تبارك وتعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] يعني: ألهمه الله سبحانه وتعالى كلمات، وفي قراءة أخرى (فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ). وقد بين الله تعالى هذه الكلمات في سورة الأعراف في قوله: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فلما تلقى هذه الكلمات دعا بها. وقوله: (فتاب عليه) أي: قَبِلَ الله سبحانه وتعالى توبته. وهل معنى ذلك أن حواء لم تقبل توبتها؟ A كلا! وإنما لم تذكر حواء في التوبة لأنه لم يجر لها ذكر في سياق هذه الآيات، لا أن توبتها لم تقبل، بل توبتها قبلت. وقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) يعني: على عباده (الرَّحِيمُ) بهم.

تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى)

تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى) قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]. قوله: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا) يعني: من الجنة، (جميعاً) كرره ليعطف عليه: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) وهذا فيه إدغام، يعني: أصلها (فإن ما) فأدغمت نون (إن) الشرطية في (ما) الزائدة، فصارت: (فإما). وقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) يعني: كتاب ورسول. وقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) أي: فآمن بي وعمل بطاعتي. وقوله: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني: في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.

الخلاف في ماهية ومكان الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام

الخلاف في ماهية ومكان الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام هناك خلاف كبير جداً بين العلماء في هذه الجنةالتي كان فيها آدم عليه السلام؟ فبعضهم قال: إنها كانت جنة في الأرض على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء، وقالوا: الهبوط يعني: الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة:61] واستدلوا بأدلة كثيرة. وفريق آخر من العلماء قال: إن هذه الجنة هي جنة الخلد، وجنة المأوى، وليست جنة في الأرض. يقول ابن مفلح رحمه الله: أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها الله آدم جنة الخلد دار الثواب، ثم قال: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله: وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال: إنها جنة في الأرض بالهند أو جدة أو غير ذلك فهو من الملحدة المبتدعين، والكتاب والسنة يرد هذا القول. وقد استوفى الكلام فيهما الإمام العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابين هما: مفتاح دار السعادة، وكذلك كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. وابن القيم بعدما سرد بالتفصيل أدلة كل فريق من الفريقين لم يرجح، وإنما ختم كلامه ببيت شعر هو: إذا تلاقت الفحول في لجب فكيف حال الغصيص في الوسط يعني: أنه يعتذر عن الترجيح في هذه المسألة.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] (بآياتنا) يعني: كتبنا. وقوله: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: ماكثون أبداً لا يفنون ولا يخرجون.

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) لما قدم الله تعالى دعوة الناس عموماً وذكر مبدأهم في الآيات السابقة، تكلم عن بدأ الخلق، وذكر قصة آدم وحواء عليهما السلام، ودعا وخص من كل بني آدم بني إسرائيل بالذات، فخص سبحانه وتعالى بالخطاب بني إسرائيل -وهم اليهود- لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وقد جرى الكلام معهم هنا من الآية رقم (40) إلى الآية رقم (142)، فكل الخطاب في الآيات المقبلة إلى الآية رقم (142) هو في بني إسرائيل، يعني: أن مائة آية كلها في خطاب بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا أولى الناس بأن ينقادوا ويؤمنوا بهذا النبي الأمي العربي صلى الله عليه وآله وسلم. ونلاحظ في هذه الآيات المائة أنه تارة دعاهم بالملاطفة، وتارة بذكر إنعام الله سبحانه وتعالى عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وتارة بذكر عقوباتهم التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها، فقال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]. قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب عليه السلام؛ لأن إسرائيل هو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد هيجهم الله تعالى بذكر أبيهم إسرائيل، كما قال لنا في أول سورة الإسراء: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3] يخاطبنا بذلك؛ لأن الأب الثاني للبشرية هو نوح عليه السلام، وذكرنا بنوح؛ لأن نوح عليه السلام كان عبداً شكوراً؛ كان يأكل اللقمة فيحمد الله عليها، ويشرب الشربة فيحمد الله عليها، فهذا تعريض بنا نحن. فقوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] أي: كونوا كأبيكم نوح؛ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3] أي: فكونوا أنتم كذلك شاكرين لله سبحانه وتعالى كأبيكم نوح، فهذا هو المقصود بقوله: (ذرية) يعني: يا ذرية (مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) أي: فكونوا مثله. وهنا خاطب بني إسرائيل باسم أبيهم يعقوب عليه السلام تهييجاً لعواطفهم، وتذكيراً بأن هذا العبد الصالح كان مطيعاً لله، يعني: فكونوا مثله، وكأنه قيل: يا بني العبد الصالح المطيع لله! كونوا مثل أبيكم، كما تقول: يا ابن الكريم! افعل كذا، يا ابن العالم! اطلب العلم، فكذلك هنا المراد: يا بني إسرائيل العبد الصالح المطيع لله! أطيعوا الله كما أطاعه أبوكم إسرائيل عليه السلام. وقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال ابن جرير: نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل كثيرة جداً منها: اصطفاؤه منهم الرسل؛ لأن الأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام كانوا جميعاً من ذرية يعقوب عليه السلام، ولم تخرج عنهم إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو من ذرية إسماعيل عليه السلام. ومن هذه النعم إنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وألا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها وجحد صنائعه سبحانه وتعالى عنده. فالنعم نص الله عليها في كثير من الآيات مثل قوله تبارك وتعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، ومثل قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49]، ومثل قوله تعالى: {ونريد أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]. وقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ العهد هو: الميثاق، وقد أشير إليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12] فهذا هو عهده، وهذا هو عهدهم. أما عهدهم هم فهو في قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} [المائدة:12] يعني: أن هذا هو حق الله على العباد، كما جاء في حديث معاذ. إذاً: العهد الذي أخذه الله عليهم بينه الله في قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة:12]. ومن هذا العهد أيضاً ما جاء في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فهذا أيضاً داخل في عهدهم. أما عهد الله فهو: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:12] فهذا عهده، وهذا عهدهم، فعهد الله هو وصيته لهم بما ذكر في الآية، ومنها الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام؛ لأن الآية: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} [المائدة:12] ومنهم خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وعهده تعالى إياهم هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة. وقوله: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي: اخشوني واتقوني أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل! والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به، وتتبعوه، فإن لم تتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه أحل بكم عقوبتي.

تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم)

تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم) قوله: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] يعني: من القرآن، {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة:41] من التوراة، بموافقته له بالتوحيد، وإثبات النبوة: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)، يعني: من أهل الكتاب، فهذه أولية نسبية، وإلا فإن أول من كفر بالكتاب هم كفار قريش، لكن المقصود هنا: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) ممن حقهم أن يكونوا أول المؤمنين به؛ لأن عندهم خبره في التوراة من قبل، فقوله (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأن مَنْ خلفكم تبعٌ لكم، فإثمهم عليكم، فكل من يأتي بعدكم ويقتدي بكم في هذه السُّنة القبيحة، وهي التكذيب بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ فإثمه عليكم مع تحمله لإثمه. {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي} [البقرة:41] يعني: لا تستبدلوا، وهذه استعارة، (بآياتي) يعني: التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم (ثمناً قليلاً) أي: عوضاً يسيراً من الدنيا، أي: لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] أي: خافونِ في ذلك دون غيري.

تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)

تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] أي: لا تخلطوا الحق بالباطل، الحق الذي أنزلت عليكم، بالباطل الذي تفترونه (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) عطف يعني: ولا تكتموا الحق، وهو نعت وصفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي: والحال أنكم تعلمون أنه الحق، والواو هنا (وأنتم تعلمون) واو الحال. هنا يذكر القاسمي رحمه الله تعالى تنبيهاً فيقول: كثيراً ما يستدل مجادلة أهل الكتاب على عدم تحريف كتبهم بهذه الآية وأمثالها، فيقولون: أيها المسلمون يوجد في كتابكم عبارات أو نصوص أو آيات تؤكد أن التوراة هي كلام الله، وأن التوراة من عند الله كقوله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:89]، وقوله: {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس:37] وقد ثبت بالبراهين القاطعة ذهاب قدر كبير من كتبهم، واختلاط حقها بباطلها فيما بقي، كما صنفت في ذلك مصنفات عدة بما يرد استدلالهم بهذه الآية وأمثالها، ومعنى كون القرآن مصدقاً لما معهم، أي: مصدقاً لما تحتويه من صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وصحة البشائر عنه؛ لأن التوراة محتشدة بعشرات الأدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وسبق أن تكلمنا فيها من قبل في بحث الإيمان بالرسل، وأدلة صدق النبوة؛ والوقت الآن لا يحتمل التفاصيل، لكن معلوم أن الملائكة منذُ أن أتت بالبشارة إلى إبراهيم وهاجر بشرا أيضاً بخروج هذا النبي من نسل إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:101] أي: أنه جاء صدق ما عندهم في التوراة والإنجيل، بمعنى: أن أحوالهم جميعاً توافق البشائر. قوله: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] أي: لا تكونوا أول كافر به من جنسكم أهل الكتاب، بعد سماعكم بمبعثي، فهذه الأولية نسبية، فإن يهود المدينة أول من خوطب بالقرآن من بني إسرائيل، أو هو تعريض بأنه يجب عليهم أن يكونوا أول من يؤمن به؛ لمعرفتهم به ولصفته، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان من أوحي إليه، وكانوا يستفتحون على الذين كفروا بخروجه صلى الله عليه وسلم، ويقولون للعرب: نحن ننتظر نبياً يبعث فننضم إليه ونهزمكم ونغلبكم، فلما بعث كفروا به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. ثم يقول تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، وهذا تقبيح لحالهم، لأنهم إن كانوا لا يعلمون فربما عُذِر الجاهل، لكن كيف بمن يعلم أن هذا هو الحق، ويعرض عنه؟! أي: ليس لكم عذر؛ لأن الجاهل قد يعذر، أما العالم فلا يعذر في جحوده الحق.

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)

تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) قال تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، هذا دليل على أن كل الأنبياء خوطبوا بالصلاة، وما خلت شريعة من الشرائع من إقامة الصلاة، وهنا الأمر متكرر في ظاهره (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، فدار اللفظ بين التأسيس والتوكيد فيحمل هذا الأمر على التأسيس؛ لأن فيه معنىً زائداً. إذاً نقول: إن قوله تعالى: (واركعوا مع الراكعين) ليست تأكيداً لـ (أقيموا الصلاة) وإنما هي أمر زائد على مجرد إقامة الصلاة وهو: أن تكون في جماعة، فهذا أمر بصلاة الجماعة، وقوله: (وأقيموا الصلاة) أمر بتأدية الصلاة. والأمر بإقامة الصلاة لا يأتي في القرآن بكلمة (صلوا)، ولكن يأتي بـ (أقيموا) يعني: مراعاة حدودها، وآدابها، وخشوعها، وحضور القلب فيها، وليس مجرد الصلاة، ودائماً القرآن يمتدح المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة، كما قال تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3]، وقال: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162]، وقال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} [البقرة:177]، وما ذكر لفظ (صلى) إلا في المنافقين: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، إلى آخر الآيات، أما ما جاء في سورة المعارج من قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، هذه في المؤمنين فما الجواب؟ A أنه أتبعها بمعاني إقامة الصلاة، فوافقت كل ما ورد في القرآن من التعبير عن ذلك بإقامة الصلاة، فإنه لم يقل: (إلا المصلين) وسكت؛ لكن أتى بمعنى إقامة الصلاة بقوله: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22 - 23]، ثم ذكر جملاً من الصفات وختم الآيات بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، فأضاف نفس معنى إقامة الصلاة إلى وصف المصلين. يقول تبارك وتعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]، هذا أمر بالصلاة مع المصلين، يقول الإمام السيوطي هنا: هم محمد وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله تعالى عنهم، ويؤخذ من هذا: أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فهنا أمرهم بصلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) قال السيوطي رحمه الله تعالى: ونزل في علمائهم، وكانوا يقولون لأقربائهم المسلمين: اثبتوا على دين محمد فإنه دين الحق، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يعني: يا أيها اليهود! أتأمرون الناس بالبر يعني: بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، (وتنسون أنفسكم) النسيان هنا بمعنى: الترك، والنسيان يأتي بمعنى ضد التذكر، وبمعنى الترك، فهنا: (وتنسون) يعني: تتركون أنفسكم فلا تأمرونها بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم تتلون الكتاب، يعني: التوراة، وفيها الوعيد على مخالفة القول العمل؛ لكن إذا قلنا: إن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فالكتاب المقصود به هو القرآن الكريم، فإنه يستقيم أن يكون الخطاب لليهود، وذلك إذا قلنا: إن الكتاب هو التوراة، فإذا قلنا: هو القرآن فيعم كل من يخاطب بهذا القرآن الشريف. وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يعني: أفلا تعقلون سوء فعلكم، وترجعون؟! فجملة النسيان هي محل الاستفهام الاستنكاري أي: كيف يحصل منكم ذلك؟ هذا هو المقصود.

تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)

تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) يقول تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، هذا أمر بالاستعانة بالصلاة، غير أن الآيات هنا لم تبين نتائج الاستعانة بالصلاة، لكن بينت آيات أخرى نتائج الاستعانة بالصلاة، مثل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فمن نتائج الاستعانة بالصلاة: النهي عما لا يليق، ومنها: أنها تجلب الرزق، لقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، فالصلاة أفضل ما يفزع إليه الإنسان عند الكربات. قوله: {وَاسْتَعِينُوا} [البقرة:45] أي: اطلبوا المعونة على أموركم بالصبر، وهو حبس النفس على ما تكره، وأفرد الصلاة بالذكر تعظيماً لشأنها، وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة)، وقيل: الخطاب لليهود، لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة أمروا بالصبر، وهو الصوم؛ لأنه يكسر الشهوة، والصلاة بأنها تورد الخشوع وتنفي الكبر. {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] (وإنها) يعني: الصلاة، (لكبيرة) يعني: ثقيلة، {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] أي: الساكنين إلى الطاعة. {الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة:46] يعني: يوقنون، والظن يأتي بمعنى الشك وبمعنى اليقين، ومثله قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20]، (إني ظننت) يعني: أيقنت (أني ملاق حسابيه). إذاً: قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] أي: محشورون إليه يوم القيامة للجزاء، والظن هنا بمعنى: اليقين، كما في قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20]، وكذلك يقول تعالى في صفة المؤمنين: {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]، يقول ابن جرير: العرب قد تسمي اليقين ظناً، نظير تسميتهم الظلمة: سُدفة، والضياء: سدفة، فكلمة سدفة -بالسين والدال والفاء- بمعنى: الظلام وبمعنى: الضياء؛ كذلك تسمي المغيث صارخاً، والمستغيث صارخ أيضاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي سمي بها الشيء وضده، والشواهد على ذلك من أشعار العرب أكثر من أن تحصى.

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] يقول القاضي: محمد بن كنعان في قرة العينين: قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40] قد قصت الآيات من الآية: (40) إلى الآية: (123) من سورة البقرة أخبار بني إسرائيل، واليهود منهم خاصة مع موسى عليه السلام، وطرفاً من أخبار النصارى، فالتبس على بعض الناس ما فيها من ثناء على بني إسرائيل، وما في آيات أخرى من ذم اليهود ولعنهم، وسبب ذلك عدم التفريق بين بني إسرائيل واليهود، والظن بأنهما شيء واحد، وهذا خطأ واضح؛ لأن القرآن الكريم فرق بينهما، فإذا جمعنا الآيات التي تذكر بني إسرائيل في مقابلة الآيات التي نزلت في اليهود، نرى أن إسرائيل هو لقب نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وأن بني إسرائيل هم أولاده، يوسف وإخوته وذرياتهم، يعني: يوسف عليه السلام لما انتقل إلى مصر، وكان له مكان من المجد والوزارة والجاه العظيم، واستجلب إخوته ووالديه إلى مصر، كثروا كثرة عظيمة، فهؤلاء هم بنو إسرائيل، يعني: يوسف وإخوته وذرياتهم، قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران:93]، فإسرائيل وبنوه كانوا مسلمين، فعندما يذكر الله تبارك وتعالى بني إسرائيل بخبر فالمقصود أولاد يعقوب، الصالحين والطالحين من ذريتهم لا اليهود، أما اليهود فهم الذين عبدوا عجل السامري ثم تابوا، واسمهم مشتق من هادَ بمعنى: تاب ورجع، ولكن توبتهم لم تكن صادقة، قال الله حاكياً عن موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156] يعني: رجعنا وتبنا إليك، ويقول تعالى في أمرهم: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]، وهم فئة من بني إسرائيل، وليسوا كل بني إسرائيل، فليس كل إسرائيليٍّ يهودياً، كما أنه ليس كل يهودي إسرائيلياً. يقول تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) يعني: بالشكر عليها بطاعتي ((وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ)) يعني: فضلت آباءكم؛ لأن تفضيل الآباء شرف للأبناء، قال ذلك مع أنه يخاطب اليهود وبني إسرائيل الذين كانوا موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (عَلَى الْعَالَمِينَ)، هذا عام يراد به الخاص، أي: على عالَمِي زمانهم، واليهود كثيراً ما يتشدقون بهذه الآيات في المحافل الدولية، حتى كانوا في الأمم المتحدة من قبل يأتون بنصوص من القرآن لتثبت أحقيتهم بفلسطين، وبأن القرآن يمدحهم؛ ولذلك كان بعض العلماء لما كان يتناظر مع أحد اليهود وأراد أن يلزم العالم المسلم بقوله: أنا أقر بنبوة موسى، وأنت توافقني عليها، وفي نفس الوقت لا أقر بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، فيلزمك أن توافقني أنا ولا أوافقك أنت! فأجابه العالم: إن كان موسى الذي بشر بمحمد فهذا الذي أوافقك على نبوته، وإن كان موسى الذي ما بشر به فهذا لا أقر بنبوته. فالشاهد: أن هذه الآيات فيها امتنان على بني إسرائيل، على عالمي زمانهم، وليس على الإطلاق، فهذا عام أريد به الخاص؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضلهم بأن أنزل عليهم الكتب وجعل فيهم أنبياء، وجعلهم ملوكاً.

تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا)

تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً) قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48]، (واتقوا يوماً) أي: خافوا عذاب يوم، أو اتقوا ((يَوْمًا لا تَجْزِي)) يعني فيه: ((نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ)) المقصود هنا: نفس كافرة يعني: لا تجزي نفس كافرة عن نفس شيئاً، والمراد باليوم يوم القيامة، وهنا قراءتان: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ))، أو (لا تُقبل منها شفاعة) فلو أن الإمام قرأ في الصلاة: (ولا تقبل منها شفاعة) فلا ترد عليه؛ لأن هذه من القراءات المتواترة الثابتة.

نفي الشفاعة عن الكفار

نفي الشفاعة عن الكفار قوله تعالى: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)) أي: لا تجزي نفس كافرة عن نفس شيئاً، ولا يقبل منها شفاعة، وهل يفهم من هذه الآية: أن الكافر له شفاعة؟ لا، وهذا أسلوب من أساليب العرب، فإنه يوجد حذف، لذلك ننظر إلى دقة الإمام السيوطي رحمه الله حيث يقول: لا تجزي نفس عن نفس شيئاً وهو يوم القيامة، ولا تقبل منها شفاعة أي: ليس لها شفاعة فتقبل، وهذا خلاصة بحث كبير، فالمعنى: ليس لها شفاعة أصلاً حتى تقبل، فهو لا ينفي قبول الشفاعة إن وجدت بل ينفي وجود الشفاعة من أصلها، وهذا التفسير من أدق التفاسير لهذه الآية، وهذا الأسلوب له نظائر مثل قول الشاعر: على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود الديافي جرجرا هو يحكي هنا عن الجمل، فمن عادة الجمل أنه إذا طال به البعد عن المكان الذي يقيم فيه فيشم التراب، فهو يميز المسافات عن طريق رائحة التراب، فقوله هنا: على لاحب لا يهتدى بمناره: المقصود لا منار فيه أصلاً فيهتدى به، والصحراء القاحلة لا يوجد فيها منار أصلاً، لكن في الظاهر أن هناك مناراً، لكن هو يقول: على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود الديافي جرجرا (إذا سافه) يعني: شم (جرجرا) يعني: حن إلى الوطن أو إلى الأرض التي يقصدها، فمعنى: على لاحب لا يهتدى بمناره: يعني: لا منار فيه أصلاً. ومن ذلك قول الشاعر: بأرض فضاء لا يسد وصيدها عليّ ومعروفي بها غير منكر الوصيد هو الباب كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، فالشاعر يقول: بأرض فضاء لا يسد وصيدها عليّ ومعروفي بها غير منكر فمعناه: أرض فضاء ليس فيها وصيد أصلاً، لكن الظاهر أن الشاعر يثبت الوصيد. وهذا له نظير في القرآن كقوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف:44]، فمعنى ذلك: أن الأحلام الباطلة ليس لها تأويل فنكون بها عالمين، فهنا نفي لأن يكون للأحلام الباطلة تأويل، وليس إثبات أنها لها تأويل ونحن على تأويلها من الجاهلين، لكن قالوا: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، يعني: لا تأويل للأحلام الباطلة فنكون به عالمين. ومنه أيضاً في القرآن الكريم: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] المعنى: لا زينة لهن أصلاً حتى يتبرجن بها. والشاهد من هذا كله: أن قوله تعالى: (لا تقبل منها شفاعة) يعني: ليس لها شفاعة فتقبل، كما حكى عن الكفار قولهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، وهذه نكرة في النفي فتفيد العموم (فما لنا من شافعين).

أقسام الشفاعة المنفية

أقسام الشفاعة المنفية الشفاعة المنفية في قوله تبارك وتعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:48]، هي شفاعة الكفار، وهناك نوعان من الشفاعة المنفية: أولاً: الشفاعة للكفار، ثانياً: الشفاعة لغير الكفار بدون إذن رب السماوات والأرض سبحانه، فدلت الآية على أن هناك شفاعتين منفيتين في الآخرة: شفاعة للكفار، أو الشفاعة لغير الكفار بدون إذن من الله سبحانه وتعالى، أما الدليل على نفي الشفاعة للكفار فقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقد دلّت الآيات على أن الله لا يرضى لعباده الكفر، فإذاً: الكفار ليسوا من أهل الشفاعة، ولا يشفع لهم؛ وقد حكى الله عنهم في سياق التقرير أنهم يقولون: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] فلا شفاعة للكفار أصلاً. أما الشفاعة لغيرهم بدون إذن الله فدليل نفيها قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]. والشفاعة للكفار مستحيلة شرعاً مطلقاً باستثناء شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، لنقله من محل في النار إلى محل آخر منها، فهذه الصورة من صور تخصيص عموم الكتاب بالسنة. وقد تمسكت المعتزلة كعادتهم بهذه الآية على أن الشفاعة لا تقبل للعصاة، واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: ((ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع)) فعلم أنها لا تقبل الشفاعة للعصاة، و A أنها خاصة بالكفار، ويؤيده أن الخطاب للكفار من بني إسرائيل، فمعنى الآية: أنه تعالى لا يقبل ممن كفر به فدية ولا شفاعة، ولا ينقذ أحد من عذابه تعالى منقذ ولا يخلص منه أحد. الزمخشري في كتابه الكشاف ينصر مذهب المعتزلة، والكشاف مطبوع مع حاشيته لـ ناصر الدين الذي دافع فيها عن أهل السنة، وتتبع الزمخشري بكل ضلالاته وعدوانه على أهل السنة. ففي هذا الموضع: بدأ الإمام ناصر الدين بالرد على الزمخشري بعبارة -في الحقيقة- مفحمة، قال رحمه الله تعالى رداً على الزمخشري في هذا الاستدلال: من جحد الشفاعة فهو جدير بألا ينالها، وأما من آمن بها وصدقها -وهم أهل السنة والجماعة- فأولئك يرجون رحمة الله. فهذه سنة الله، أن كل من كذب بشيء يطمع فيه أن يعاقبه الله بأن يحرمه منه، فالذي يكذب برؤية الله في الآخرة لن ينالها، لأنه مكذب بها، كذلك من كذب بالشفاعة فإنه سيحرم منها، والله تعالى أعلم. وقوله في الحاشية: وأما من آمن بها وصدقها -وهم أهل السنة والجماعة- فأولئك يرجون رحمة الله، هذا من الأدب مع الله، حيث لم يقل: هم ينالون، وإنما قال: أولئك يرجون رحمة الله، يعني يطمعون في رحمة الله. قال: ومعتقدهم أنها تنال العصاة من المؤمنين، وإنما ادخرت لهم، وليست الآيات دليلاً لمنكريها؛ لأن قوله: (يوماً) في هذه الآية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48] نكرة، لم يقل: اليوم، ولكن قال: يوماً، أي يوم من الأيام، فهذا تنكيل، يقول: ولا شك أن في القيامة مواطن، ويومها معدود بخمسين ألف سنة، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت المعدود للشفاعة، وفيه المقام المحمود لسيد البشر عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد وردت آي كثيرة ترشد إلى تعدد أيامها، واختلاف أوقاتها، منها قوله تعالى: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] مع قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]. ففيها إثبات للتساؤل فيحمل على أنهم في موضع لا يتساءلون وفي موضع آخر يتساءلون، فيتعين حمل الآيتين على يومين مختلفين، ووقتين متغيرين، أحدهما محل للتساؤل والآخر ليس محلاً له، وكذلك الشفاعة في وقت من أوقات يوم القيامة لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، أي نفس حتى ولو كانت مؤمنة، حتى الأنبياء أنفسهم يقولون: نفسي نفسي! ففي فترة من فترات يوم القيامة لا تجزي نفس حتى المؤمنة عن نفس شيئاً؛ لكن في يوم آخر تجزي نفس مؤمنة عن نفس شيئاً بالشفاعة، وأدلة ثبوت الشفاعة لا تحصى كثرة، رزقنا الله الشفاعة، وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة. إذاً: قوله تبارك وتعالى: (لا تقبل منها) بالتاء والياء (منها شفاعة) أي: ليس لها شفاعة فتقبل كما قال الله عنهم: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، (وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) والمقصود به: الفداء، قيل هنا: (عدل) لأنه يساوي المفدي، والعدل هو: مال يبذل بوزن الشخص الذي تفديه؛ لأنه يعدله ويساويه (ولا هم ينصرون) يعني: لا يمنعون من عذاب الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)

تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]. قوله: (وإذ نجيناكم) أي: واذكروا إذ نجيناكم، يعني: نجيناكم أنتم المخاطبون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وآباءكم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما أنعم على آبائهم تذكيراً لهم بنعمة الله تعالى ليؤمنوا، (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، أي: يذيقونكم أشد العذاب، والجملة حال من ضمير: نجيناكم. قوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)، هذا بيان لسوء العذاب، فهو يشرح ما هو سوء العذاب، فأتى بأقسى وأشد مظاهره (يذبحون) بيان لما قبله، (أبناءكم) يعني: المولودين، (ويستحيون نساءكم) يعني: يستبقون نساءكم للإذلال والخدمة، فلم يقتلونهن كي يُتَّخذن خادمات، وقتلهم لأبنائهم هو بسبب قول بعض الكهنة لفرعون: يولد في بني إسرائيل مولود يكون سبباً لذهاب ملكك؛ فكان فرعون يقتل الذكور، ويستحيي النساء، والإمام الزجاج له تعليق طيب جداً على عقلية فرعون، فيقول هنا: فالعجب من حمق فرعون! إن كان الكاهن عنده صادقاً فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذباً فما معنى القتل؟! يعني: من حمق فرعون الغبي الأحمق الذي يقول في حق موسى عليه الصلاة والسلام: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]؛ أنه سمع كلام الكاهن، فإن كانت هذه فعلاً نبوة وخبر صادق من هذا الكاهن، أنه سيولد ولد من بني إسرائيل يكون زوال ملك فرعون على يديه؛ فماذا فعل فرعون الأحمق؟ قتل أبناءهم الذكور، فإن كان هذا كائناً لا محالة فما فائدة القتل؟! فهل سيمنع ما سبق به قضاء الله؟ لا يمنع! وإن كان الكاهن كاذباً فما معنى القتل؟! فالحالتان تدلان على ضعف عقله تماماً، كما أظلم الله قلبه وأطفأ بصيرته حينما تتبع بجنوده موسى وطارده هو وجنوده، ورأى الآية العظمى من آيات الله سبحانه وتعالى، تخيل أن البحر الأحمر يتحول إلى طرق يابسة، تخيل هذا المنظر! قال تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، ما معنى رهواً؟ يعني: ساكناً، يتحول الماء إلى أرض يابسة والناس ينظروا إليه بقدرة الله سبحانه وتعالى! فلما فلق موسى عليه السلام البحر بالعصا، انفلق فلقتين، فوقف الماء مثل الجدار كالطود العظيم أي: كالجبل العالي، وسكن الماء، (واترك البحر رهواً) يعني: ساكناً، فجدار من ماء متماسك بقوة الله وقدرته سبحانه وتعالى، ففرعون عمي قلبه أن يعتبر بهذه الآية، رأى الماء واقفاً، ورأى موسى ومن معه من بني إسرائيل ينجون ويمرون، والبحر واقف، ومع هذا لا يلتفت إلى هذه المعجزة القاهرة، وهذه الآية العظيمة، بل استمر في مطاردة موسى عليه السلام داخل البحر! قال الله: (واترك البحر رهواً) يعني: اسلكه ساكناً فإنه سينطبق عليهم حينما يدخلون، وكان ما كان، بعدما كان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، جعلها الله من فوقه، يعني: كان يفخر بأن مياه الأنهار تجري من تحته، فعاقبه بجنس عمله، فأجرى المياه من فوقه، وأغرقه في اليم. يقول تبارك وتعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فرعون لقب لمن ملك مصر كافراً، فكل من يحكم مصر وهو كافر يسمى فرعون؛ كما أن كسرى لقب لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وتبَّع لمن ملك اليمن كاملاً، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وخاقان لملك الترك؛ ولعتو فرعون اشتق من اسمه قولهم: تفرعن الرجل: إذا عتا وتمرد، وسبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم على ما روي في التوراة: خوفه من نموهم وكثرة تواجدهم، وكانت أرض مصرَ امتلأت منهم؛ فإن يوسف عليه السلام لما استقدم أباه وإخوته وأهلهم من أرض كنعان فلسطين إلى مصر، أعطاهم ملكاً في أفضل أرض مصر كما أمره ملك مصر، وكان لهم في مصر مقام عظيم؛ بسبب يوسف عليه السلام فتكاثروا وتناسلوا، ولما توفي يوسف عليه السلام والملك الذي اتخذه وزيراً عنده؛ انقطع ذلك الاحترام عن بني إسرائيل، إلى أن قام على مصر أحد ملوكها الفراعنة، فرأى كثرة الإسرائيليين فقال لقومه: أضحى بنو إسرائيل شعباً أكثر منا، فهلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيخشى أنه إذا حدث حرب أنهم يحاربوننا ويخرجونا من أرضنا، فسلط عليهم رؤساء تسخير كي يذلوهم بأثقالهم، وكان كلما اشتد تعبدهم ازدادوا كثرة وشدة، فشق على المصريين كثرتهم وخافوا منهم، فجعل أهل مصر يستعبدونهم جوراً، ويأمرونهم بالعمل الشديد بالطين واللبن وكل فلاحة الأرض وغيرها من الأعمال الشاقة. وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قص الله تعالى، ولم يزل الأمر من هذه الشدة عليهم حتى نجاهم الله بإرسال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقوله تبارك وتعالى هنا: ((وَفِي ذَلِكُمْ)) أي: في ذلك العذاب أو الإنجاء ((بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ))، كلمة (في ذلك) إشارة إما إلى ذلك العذاب أو إلى ذلك الإنجاء في قوله: ((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ)). إذاً: كلمة (بَلاءٌ) محتملة معنيين، فالبلاء إما أن يأتي بمعنى: النعمة أو بمعنى: النقمة، فإذا قلنا: (وفي ذلكم) الإنجاء (بلاء) أي: نعمة، وإذا قلنا: (وفي ذلكم) العذاب (بلاء) أي: نقمة، فبلاء بمعنى: ابتلاء أو بمعنى: إنعام؛ بحسب ما تترتب عليه الإشارة، إما إلى الإنجاء وإما إلى العذاب.

البقرة [51 - 66]

تفسير سورة البقرة [51 - 66]

تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51]، قوله تعالى: ((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) فيها قراءتان: (واعدنا) وقراءة أخرى: (وعدنا) بدون الألف. ((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً))، المقصود: واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة؛ لأن الله أخبر أنه واعده ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر في قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142]. و (موسى) كلمة معناها باللغة العبرانية: المنشول من الماء؛ لأنه انتشله آل فرعون من الماء وهو في التابوت. ((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) أي: من أجل أن نعطيه عند انقضائها التوراة لتعملوا بها؛ لأن الخطاب ما زال موجهاً لبني إسرائيل، (وإذ واعدنا) يعني: واذكروا -يا بني إسرائيل- الوقت الذي واعدنا فيه موسى تتمة أربعين ليلة؛ حتى نعطيه بعدها التوراة، لتعملوا بها. قوله: ((ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)) أي: العجل الذي صاغه لكم السامري إلهاً. وكلمة (اتخذ) تتعدى لمفعولين، المفعول الأول: هو العجل والمفعول الثاني: محذوف وتقديره: ثم اتخذتم العجل إلهاً. ((ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ)) يعني: من بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى موعد الله سبحانه وتعالى، ((وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)) أي: باتخاذه، والظلم في اللغة هو: وضع الشيء في غير محله، فهذا يسمى ظلماً، فقوله تعالى هنا: (وأنتم ظالمون) أي: باتخاذه، لوضعكم العبادة في غير محلها، فإن العبادة ينبغي أن توجه إلى الله سبحانه وتعالى وحده.

تفسير قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك)

تفسير قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) قال تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} [البقرة:52] أي: محونا ذنوبكم (من بعد ذلك) أي: من بعد ذلك الاتخاذ، فالاتخاذ هو الذي يعاتبون عليه، ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) أي: نعمتنا عليكم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون)

تفسير قوله تعالى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون) قال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53]. (والفرقان) عطف تفسير على الكتاب يعني: ((وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)) الذي هو الفرقان، فعطف الفرقان على التوراة عطف تفسير، والمقصود من ذلك الكتاب الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، فنزلت الصفات منزلة تغاير الذوات، فعطفها عليها، كما يقول الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم وهنا القاسمي زاد ذلك توضيحاً فقال: ((وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ)) يعني: الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل كقولك: (رأيت الغيث والليث)، فهذا مثال آخر غير بيت الشعر، فهل معنى ذلك (رأيت الغيث) المطر (والليث) الأسد أم أنك تقصد مدح رجل بصفتين؟ تقصد مدح رجل واحد بصفتين فقلت: (رأيت الغيث والليث) وتريد الرجل الجامع بين صفة الغيث، وصفة الليث، فالغيث صفة الكرم كما في الحديث: (كان أجود من الريح المرسلة)، ومعنى المثل: رأيت رجلاً جامعاً بين الكرم والجراءة والشجاعة، ونحو ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48]، ثلاث صفات في وصف شيء واحد وهو التوراة، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] يعني: الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً وضياء وذكرى. ((لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) يعني: لكي تهتدوا بالعمل بما فيه من الأحكام.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54]. قوله: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ)) لمَنْ مِنْ قومه؟ للذين عبدوا العجل من قومه؛ لأن بني إسرائيل ليسوا كلهم عبدوا العجل، فسبط: (بني لاوي) لم يعبدوا العجل، فالخطاب هنا موجه للذين عبدوا العجل من قومه من بني إسرائيل، والقوم: اسم للرجال دون النساء، فالأصل في كلمة (القوم) أنها تطلق على الرجال دون النساء، والدليل من القرآن آية في سورة الحجرات هي قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] فغاير بينهما، فدل على أن القوم للرجال، ويقول الشاعر: ولا أدري وسوف إخالُ أدري أقوم آل حصن أم نساءُ يعني: أرجال هم أم نساء؟ فعبر عن الرجال بالقوم، وسموا قوماً لأنهم هم الذين يقومون بالأمور: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، فهم يقومون بالأمور، ويتولون الحروب والقيادة وغير ذلك. ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ)) يعني: الذين عبدوا العجل: ((يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)) إلهاً، ما إعراب العجل؟ مفعول أول للمصدر، والمصدر هنا عامل: (باتخاذكم العجل) والمفعول به الثاني محذوف وتقديره: إلهاً، يعني: يا قوم! إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً؛ لأنهم قالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]. (فتوبوا إلى بارئكم) أي: خالقكم، يعني: توبوا من عبادة العجل: ((فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ))، ليقتل البريء منكم المجرم، والمقصود: الذين لم يعبدوا يقتلوا العجل الذين عبدوا العجل، ولم يكن الأمر موجهاً إلى جميع بني إسرائيل، وإنما كان الأمر موجهاً إلى الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوا إخوانهم ممن تلطخوا بعبادة العجل. ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ)) الإشارة هي إلى القتل، يعني: فوفقكم الله لفعل ذلك، وأرسل عليكم سحابة سوداء مظلمة؛ لئلا يرى بعضكم بعضاً فيرحمه، حتى قتل منكم نحو سبعين ألفاً. هذا هو القول الأول في تفسير: ((فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) يعني: يقتل البريء منكم المجرم، وبعض العلماء قالوا: هذا خطاب للكل، أن يقتل بعضهم بعضاً، فجعل القتل للقتيل شهادة وللحي توبة، فالذي يقتل يكون شهيداً، والشهادة تمحوا عنه عبادة العجل، والذي يبقى حياً فإن هذا يكون توبة من الله سبحانه وتعالى عليه؛ لكن الذي اعتمده هنا الإمام السيوطي: قوله: ((فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: ليقتل البريء منكم المجرم الذي عبد العجل، والذين لم يعبدوا العجل هم من سبط (بني لاوي) سبط من أسباط بني إسرائيل من أبناء يعقوب عليه السلام، فهؤلاء اللاويون هم الذين لم يعبدوا العجل، ((فَتَابَ عَلَيْكُمْ)) أي: قبل توبتكم ((إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)).

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك) قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:55] يعني: وإذ قلتم وقد خرجتم مع موسى؛ لتعتذروا إلى الله سبحانه وتعالى من عبادة العجل، وسمعتم كلامه. ((يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)) يعني: عياناً: ((فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ)) يعني: الصيحة، فمتم (وأنتم تنظرون) ما حل بكم. لكن هل قوله تبارك وتعالى: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، كان موتاً بالنسبة لموسى عليه السلام؟! لا، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، فكان نوعاً من الغشيان، غشي عليه عليه السلام، أما هنا فقال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} [البقرة:56]، فالصيحة هنا: كانت موتاً (فأخذتكم الصاعقة) فمتم؛ لذلك انظر دقة السيوطي حيث يقول: (فأخذتكم الصاعقة) يعني: الصيحة فمتم، والدليل على تفسيرها بالموت أنه بعد ذلك قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة:56]؛ انظر إلى الدقة في اختيار الكلمات: ((فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ))، الصيحة، فمتم وأنتم تنظرون ما حل بكم.

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون)

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56] ((ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ)) أي: أحييناكم ((مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) يعني: تشكرون نعمتنا لذلك الإحياء.

تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام)

تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام) قال الله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57] يعني: كانوا في فترة التيه في شدة الحر، فكان الله سبحانه وتعالى يظللهم بالغمام، وهو سحاب رقيق، فلذلك قال السيوطي: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ)) أي: سترناكم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه، ((وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)) يعني: وأنزلنا عليكم في التَّيِه المن والسلوى، يقول هما: الترنجبين، وهو شيء مثل العسل الأبيض، يقع على الشجر فيأكله الناس، ولا أستطيع أن أقطع وأجزم بأنه موجود حتى الآن؛ لكن حكى لي أحد إخواننا الأفاضل أنه منذ عشرين سنة سافر إلى العراق، فأحضر معه نوعاً من (البودرة) البيضاء وطعمها كالعسل تماماً، يقول: إنهم في تركيا والعراق في الصباح يجمعونها من فوق أوراق الأشجار، وهي تسقط من السماء، وهذه الظاهرة موجودة في تركيا والعراق، فيجمعونها ويضيفون لها بعض المكسرات ويسمونها في المحلات (مَنّ السماء)، وأنا قد أكلت منها، لكن هل هذا هو الملف الله تعالى أعلم. والطير السماني هو السلوى. ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) يعني: ونزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تدخروا، وطبيعة اليهود معروفة، فكفروا النعمة وادخروا، فقطع الله تعالى عنهم النعمة لما ادخروا. ((وَمَا ظَلَمُونَا)) يعني: ما نقصونا وما ضرونا، ((وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))؛ لأن وباله عليهم؛ هذا معنى الظلم، فهم الذين ظلموا أنفسهم بقطع هذه النعمة عنهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية وسنزيد المحسنين)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية وسنزيد المحسنين) قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58] يعني: بعدما بقوا في صحراء التيه وخرجوا منها: ((وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا)) قلنا لهم بعد خروجهم من التيه: ادخلوا هذه القرية بيت المقدس أو أريحا. ((فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا)) يعني: أكلاً واسعاً لا حجر فيه: ((رَغَدًا))، أي: لا حجر فيه: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ)) يعني: ادخلوا بابها سجداً، والباب هنا المقصود به: باب القرية ((سُجَّدًا)) يعني: منحنين أو ركعاً، والانحناء قد يسمى سجوداً ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)) أي: منحنين؛ لأجل مهمة كبرى، وهل يمكن أن يدخلوا الباب وهم ساجدون؟ سيبقى الأمر صعباً أن يزحف على الأرض وهو ساجد، فلذلك تعيَّن أن يفسر قوله: (وادخلوا الباب) أي: باب القرية (سجداً) أي: منحنين، لكي يستطيعوا أن يمشوا، والمقصود: وهم راكعون. (وقولوا حطة) يعني: مسألتنا حطةٌ؛ لأنها مرفوعة هنا، فلا بد أن تقدر كخبر، ولو قلنا إن تقديرها: (نسألك حطة) لكانت منصوبة، والمعنى: نسألك أن تحط عنا ذنوبنا، وتغفر لنا هذه الذنوب. وهنا أمرهم بفعل وقول، أما الفعل فهو: السجود، والقول: أثناء الدخول يقولون: حطة، يعني: حُطّ عنا خطايانا، فهم عكسوا الفعلين، لا امتثلوا في الأمر ولا في الفعل. وقوله: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)) في قراءة (يُغفر لكم خطاياكم). ((وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)) يعني: بالطاعة ثواباً.

تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم)

تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم) قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59]، المقصود: فبدل اللذين ظلموا أي: منهم. ((قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ))، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة، يعني: استبدلوا الكلمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها كنوع من الاستهزاء، قالوا: حبة في شعرة، بدل كلمة (حطة)، وكأنهم زادوا فيها النون كما يقولون (حنطة)! ودخلوا يزحفون على أستاههم كما في حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قيل لبني إسرائيل: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)) [البقرة:58] فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة))، وفي رواية: (قالوا: حنطة) بدل حطة؛ وذلك استهزاء منهم، فاستهزءوا بأمر الله، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حنطة، يسخرون. {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} كان يقتضي السياق أن تكون الآية: (فأنزلنا عليهم) لكن وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في توضيح شأنهم؛ حتى يتكرر وصفهم بالظلم. ((فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا)) أي: طاعوناً، وقال بعض العلماء: ظلمة وموتاً، وقيل: الثلج ((رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ))، الباء هنا باء سببية، يعني: أنزل عليهم الرجز بسبب فسقهم، وأصل الفسق: الخروج، فسقت البيضة يعني: خرجت. فهلك منهم في ساعة سبعون ألفاً أو أقل.

تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه)

تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه) قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60] يعني: واذكر إذ (استسقى) أي: طلب السقيا، لما دخلوا في التيه لم يجدوا ماء، وكان هناك حر شديد، فقالوا: يا موسى! أهلكتنا وأخرجتنا من مصر وكنا هناك في عيش أحسن من هذا، وسنموت إن بقينا من العطش، فنريد ماءً (فاستسقى موسى لقومه)، وهذه السين تسمى: سين الطلب، مثل: استخار: سأل الله الخيرة، كذلك (استسقى) أي: طلب السقيا، ((وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ)) وقد عطشوا في التيه: ((فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ)) كأن (ال) هنا للعهد الذهني، يعني: الحجر الذي هو معلوم من قبل، وهو الذي فر بثوب موسى عليه السلام، يقولون: هو صغير مربع كرأس الرجل، ((فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)). قال السيوطي: (قلنا اضرب) فضربه، (فانفجرت منه) يعني: انشقت وسالت منه (اثنتا عشرة عيناً) بعدد الأسباط. ((قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ)) أي: قد علم كل سبط منهم مشربهم، أي: موضع شربهم، فلا يشركهم فيه غيرهم، (كلوا واشربوا) يعني: وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله، ((وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ))، عثى يعني: أفسد.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61] يعني: لن نصبر على نوع واحد من الطعام، وهو المن والسلوى. ((فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ)) (يخرج لنا) يعني: شيئاً: ((مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا))، (من) هنا: للبيان، ما الذي يخرج من الأرض؟ وما الذي تنبته الأرض؟ ((مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا)) أي: حنطتها، أو (ثومها) في قراءة ابن مسعود، وهنا أشار القاسمي إشارة طيبة إلى أن العرب أحياناً يبدلون الفاء بالثاء، يقول أحد العلماء: ((فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا)) يقول: هو الثوم؛ لقراءة ابن مسعود: (وثومها) وللتصريح به في التوراة في هذه القصة، فالفوم المقصود به: الثوم، وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء، مثل الإبدال الذي في لفظ الخيل والخير، فكثيراً ما يعبر العرب عن الخيل بالخير؛ ولذلك سمى النبي عليه الصلاة والسلام زيد الخيل بـ (زيد الخير)، والحديث ربط بينهما: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة). يقول: ذكر ابن جرير شواهد إبدال الثاء فاء؛ لتقارب مخرجيهما، لذلك العرب يبدلونها كقولهم للأثاثي: أثافي، تقول: (ثالثة الأثافي)، فالعرب عندما كانوا يطبخون يأتون بحجرين صغيرين تحت القدر، ويأتون بحجر كبير وراءهما؛ لكي تكون ثلاثة أحجار، والإناء يستقر عليه، فيسمون الحجر الثالث: ثالثة الأثافي. وقولهم: (وقعوا في عاثور شر) عاثور هو الحفرة، أو يقال: (عافور شر)، كذلك المغافير يقولون فيها: المغاثير. ((وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ)) أي: قال لهم موسى ((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى)) أدنى: أخف ((بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)) أي: بالذي هو أشرف، يعني: أتأخذونه بدله؟! والهمزة استفهام للإنكار، فأبوا أن يرجعوا، فدعا موسى الله سبحانه وتعالى بما طلبوه، والسيوطي يملأ ما بين الآيات بالمعاني التي ينبغي أن تكون موهبة الفهم يعني: فدعا موسى ربه سبحانه وتعالى بما طلبوه، فقال تعالى: ((اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)). ما الفرق بين: ((اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ))، وبين قول يوسف عليه السلام: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] وبين قول فرعون لعنه الله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]. قوله: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) هذه علم على مصر المعروفة، وقوله: (اهبطوا مصراً) أي: مصراً من الأمصار، فلم تكن علماً على مكان فنونت. إذاً: قوله: ((اهْبِطُوا مِصْرًا)) أي: انزلوا مصراً من الأمصار، أيَّ بلدٍ، أنتم تسألون أشياء هينة لا تستحق هذا الذي تفعلونه كله، فانزلوا أي بلد فيها الثوم والعدس، فمعنى الكلام: اهبطوا مصراً من الأمصار فهذا شيء هيِّن، أنتم تطلبون شيئاً دنيئاً بالنسبة لما كان يعطيكم الله سبحانه وتعالى، انزلوا في أي بلد، فستجدون ما تطلبون، ولكن مصر الممنوعة من الصرف هي بلادنا، {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، أما قوله: (مصراً) بالتنوين يعني: بلداً من البلدان أو مصراً من الأمصار. ((اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ)) يعني: فإن لكم فيه ما سألتم من النبات. قوله: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ)) أي: جعلت عليهم الذلة والهوان (والمسكنة) وهو أثر الفقر؛ لأن الفقير إذا اشتد فقره وعناؤه فإنه يسكن، فالفقر يقترن بالسكون وقلة الحركة، فلذلك يعبر به عن المسكنة، (والمسكنة) أثر الفقر من السكون والخزي، فهي لازمة لليهود وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته، أي: طبعت عليهم فلا تفارقهم، مثل أي عملة معدنية عليها النقش المكتوب أو الرسم الموجود، فهذا هو السر في استعمال تعبير: (ضربت عليهم) يعني: لازمتهم فلا تفارقهم الذلة والمسكنة، كما أن الكتابة والنقوش التي تكون على المعادن -التي تسك- تكون لازمة لها لا تفارقها. وهنا القاسمي أتى بمعنى عظيم جداً، يقول رحمه الله تعالى: والمسكنة مفعلة من السكون؛ لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر، والمسكين: مفعيل منه، وفي الذلة: استعارة بالكناية، ضربت عليهم الذلة حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة، فالذل يحيط بهم، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك، وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة؛ فإن اليهود أذل الفرق وأشدهم مسكنة، وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رءوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصي في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغت الكثرة أي مبلغ فهو مرتد بأثواب المسكنة. وهذه الحقيقة لا يماري فيها أي إنسان يتعامل مع اليهود أو رأى اليهود واقترب منهم، حتى ولو كان اليهودي أغنى أغنياء العالم، فمهما يكن عنده من غنى فإنك تجد الذل والمسكنة وصفاً لازماً له لا يفارقه أبداً، أما ما هم عليه الآن فهذا خلاف الأصل، وهذا من العلو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]، ولكن سنة الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، إن عدتم إلى الإفساد عدنا لأن نسلط عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، فلا شك أنه لن يدوم لليهود ما هم فيه الآن من العلو والغلبة، وإن كنا نعتقد أنهم حتى في هذه الحالة ما زالت الذلة والمسكنة مضروبة عليهم قال الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، لا بد أن يسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب حتى ولو كانوا أطفالاً يرمونهم بالحجارة، فما بالك بمن فوقهم؟! ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) (باءوا) يعني: رجعوا ((بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)). ((ذَلِكَ)) يعني: ذلك الضرب والغضب المشار إليه بقوله: ((وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ))، (ذلك) أي: الضرب والغضب (بأنهم) أي: بسبب أنهم (كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) كزكريا ويحيى عليهما السلام. ((بِغَيْرِ الْحَقِّ)) أي: ظلماً، ومثل هذا القيد لا مفهوم له؛ لأن كل نبي قتل لا بد أنه قتل بغير حق، فهذا ليس له مفهوم مخالفة، مثل قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]، فهل يفهم من ذلك أن الإماء إن لم يردن تحصناً يجوز أن يكرهن على البغاء؟! لا مفهوم له؛ وكذلك قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فهل يمكن لإنسان أن يقتل أولاده بسبب عدم الإملاق؟ لا، كذلك قوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، هل مَنْ يأكل الربا بنسبة ضئيلة، وليس أضعافاً مضاعفة يحل له الربا؟! لا، فهذا كله مما لا مفهوم له، كذلك هنا: ((وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ))، هذا بيان بأن كل قتل للأنبياء يكون بغير حق، ولا يمكن لأحد أن يقتل الأنبياء ويكون على حق، فهو مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون:117] فهل يمكن لإنسان أن يعبد إلهاً غير الله إذا كان عنده برهان على ذلك؟! لا، فهذا لا مفهوم له. ((ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) أي: يتجاوزون الحد في المعاصي.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، هذه من الآيات التي ينبغي الرجوع إلى العلماء في تفسيرها كسائر آيات القرآن، فإن كثيراً ممن ينتسبون إلى العلم زوراً وبهتاناً في هذا الزمان يريدون هدم الإسلام بسوء تفسيرهم لهذه الآية، وتأويل المنتسب لها، فهذه الآية من الآيات التي ظهر في الأزمنة الأخيرة منحرفون انتسبوا إلى العلم زوراً وبهتاناً يستدلون بها على صحة كل العقائد الباطلة، يعني: كأن الأديان كلها حقٌّ؛ لأن كل هؤلاء سيدخلون الجنة! فهذا قطعاً وبإجماع المسلمين معنى فاسد لا يمكن أن يقصده أبداً عالم ولا إمام من أئمة المسلمين، وهذه الآية تحتمل في محاضرة كاملة مستقلة، لكن سنمر عليها مروراً سريعاً جداً بما يسمح به الوقت. ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)) قال بعض العلماء: يعني في الظاهر، وهم المنافقون، آمنوا في الظاهر، وليس إيمانهم حقيقياً؛ لأنهم عطفوا على أشكالهم، فبما أن الذين آمنوا في الظاهر من المنافقين: ((وَالَّذِينَ هَادُوا)) كفار، ((وَالنَّصَارَى)) كفار ((وَالصَّابِئِينَ))، كفار فأي إنسان من هذه الطوائف -المنافقون أو اليهود أو النصارى أو الصابئون- إذا آمن، يعني: تاب (إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً) فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أو يكون المقصود: (إن الذين آمنوا) بالأنبياء من قبل، (والذين هادوا) وهم اليهود، (والنصارى والصابئين) وهم طائفة من اليهود أو النصارى، ((مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) يعني: من آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم وعمل صالحاً بشريعته؛ لأن شريعته صارت منسوخة: ((فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)). أو: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)) وثبتوا على ذلك حتى الممات، من آمن منهم (بالله واليوم الآخر) يعني: في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، (وعمل صالحاً) أي: بشريعته، (فلهم أجرهم) أي: ثواب أعمالهم، ((عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:63] يعني: واذكر إذ أخذنا ميثاقكم أي: عهدكم بالعمل بما في التوراة، (ورفعنا فوقكم الطور) يعني: وأخذنا ميثقاكم وقد رفعنا فوقكم الطور، فأخذ الميثاق كان حالة رفع الطور، حيث اقتلع الله الجبل من أصله ورفعه فوقهم، وقال: ((خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ))، خذوا هذه التوراة، واقبلوا العمل بها. (وإذ أخذنا) يعني: واذكر إذ أخذنا ميثاقكم أي: عهدكم بالعمل بما في التوراة (ورفعنا فوقكم الطور) يعني: وقد رفعنا فوقكم الطور، أي: الجبل، واقتلعناه من أصله ورفعناه فوقكم لما أبيتم قبولها، ((خُذُوا)) أي قلنا: ((خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)) أي: بجد واجتهاد. ((وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ)) بالعمل به. ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي: النار أو المعاصي.

تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك)

تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك) قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة:64] أي: أعرضتم، {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:64] أي: من بعد ذلك الميثاق أعرضتم عن الطاعة: {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة:64] لكم بالتوبة، أو بتأخير العذاب، {لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64].

تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)

تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]، اللام هنا لام القسم: (ولقد علمتم) أي: عرفتم، (الذين اعتدوا) أي: تجاوزوا الحد، (منكم في السبت) وقصة السبت معروفة، وقد حصلت لأهل المدينة التي اسمها الآن (إيلات) على خليج العقبة، وكانت تسمى (أيلة). ((وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ)) أي: الذين تجاوزوا الحد منكم في السبت؛ لصيد السمك وقد نهيناهم عنه، ((فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) يعني: مبعدين، فمسخهم الله سبحانه وتعالى مسخاً حقيقياً فكانوا قردة، وهلكوا بعد ثلاثة أيام؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى أن القوم الذين يمسخون لا يعيشون، فيمسخون أولاً ثم يموتون، ولا يكون لهم عقب ونسل: ((فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)) (خاسئين) يعني: مبعدين، فكانوا كذلك وهلكوا بعد ثلاثة أيام.

تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها)

تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها) قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] يعني: تلك العقوبة، (نَكَالًا) يعني: عبرة لغيرهم مانعة من العمل بمثل ما عملوا: ((نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا)) أي: الأمم التي في زمانها وبعد زمانها، ((وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)) أي: المتقين لله، وخصوا بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالموعظة، بخلاف غيرهم.

البقرة [67 - 81]

تفسير سورة البقرة [67 - 81]

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] يعني: واذكر إذ قال موسى لقومه، انظر دقة السيوطي في التفسير، يقول: (وإذ قال موسى لقومه) يعني: واذكر إذ قال موسى لقومه، وقد قُتل لهم قتيل لا يدرى قاتله، وقد سألوه أن يدعو الله أن يبينه لهم فدعاه، فأصل الآية هنا كأن فيها تقديماً وتأخيراً، فالذي حصل أن قتل لهم قتيل، ولم يعرفوا من الذي قتله، ففزعوا إلى موسى وقالوا له: ادع لنا ربك يبين لنا من الذي قتل هذا القتيل، فدعاه؛ فلذلك يقول تعالى: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))، أَيَّ بقرةٍ، (قالوا أتتخذنا هزؤاً) وفي قراءة أخرى: ((قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)) أو (هزءاً) ثلاث قراءات، وقولهم: (أتتخذنا هزؤاً) هذا من سوء أدبهم مع نبيهم عليه السلام، وهذه سنتهم وأخلاقهم، وهم يرون كل هذه المعجزات، سبحان الله!! (أتتخذنا هزءاً) بالهمز مع ضم الزاي وسكونها، أو (هزواً) بضم الزاي، مع إبدال الهمزة واواً، أي: مهزوءاً بنا! حيث نأتيك ونشكو لك أنه قتل منا قتيل، ولا ندري من قاتله، ونسألك أن تسأل ربك سبحانه وتعالى أن يبين لنا الذي قتله، فتجيب علينا وتقول: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))، أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟! (أتتخذنا هزواً) أي: مهزوءاً بنا، حيث تجيبنا بمثل ذلك: ((قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))، يعني: أمتنع بالله من أن أكون من الجاهلين أي: المستهزئين، فلما علموا أن الموضوع عزم وجد وفرض لا هزل فيه، قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ فشددوا على أنفسهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة لقبل الله سبحانه وتعالى ذلك منهم؛ لكن شددوا على أنفسهم فعاقبهم الله بالتشديد عليهم؛ وذلك أن التوراة كان فيها آصار وأغلال، فقد كانت الشرائع أحياناً تنزل عقوبة لهم؛ لطبائعهم الخبيثة، فكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن بعث لهم محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]؛ لأن في التوراة أصراراً وأغلالاً شديدة جداً، وهي تتلاءم مع طبيعتهم الخبيثة واللئيمة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) فلما علموا أنه عزم أي: فرض لا هزل فيه: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] انتبهوا! هنا جاءت كلمة (ما هيَ) جاءت مرتين، في كل مرة عن سؤال مخالف لسؤال آخر، وعن موضوع غير الآخر فكيف نميز بينهما؟ ففي الحالة الأولى كان المسئول عنه سنها، والدليل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]، فالجواب يدل على أن السؤال كان عن السن. الحالة الثانية: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70]، يعني: هل هي عاملة أم سائمة؟! بدليل: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71]. ((قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ)) أي: ما سنها؟ ((قَالَ)) أي: موسى ((إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ)) يعني: ليست كبيرة السن ((وَلا بِكْرٌ)) يعني: ولا هي بكر صغيرة، ((عَوَانٌ)) أي: نَصَفٌ في سنها ((عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ)) يعني: بين ذلك المذكور من السنين {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] أي: ما تؤمرون به من ذبحها.

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها)

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] أي: شديدة الصفرة، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين إليها، وهذا معروف فعلاً، فاللون الأصفر من الألوان التي تدخل السرور على النفس، ويدخل البهجة والفرحة والسرور على النفس. وتخيل بقرة في لون أصفر صافٍ، يعني: لا يخالطه أي لون آخر، فسوف تدخل السرور على نفسك عندما تراها بهذا المنظر. (فاقع لونها) أي: شديد الصفرة، (تسر الناظرين) أي: إليها من حسنها.

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا) قال تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:70] يعني: أسائمة هي أم عاملة؟ أتشتغل في الحرث أم لا؟ {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] أي: البقر المنعوت بما ذكر، ((تَشَابَهَ عَلَيْنَا))، لكثرته؛ فلم نهتد إلى المقصود. {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70]، إليها، وفي الحديث: (لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد)، وهذا الحديث أخرجه الطبري بإسناد منقطع عن ابن جريج وقتادة السدوسي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي متصلاً. فهم في هذه المرة تأدبوا مع الله وقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، فنفعتهم. {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة:71] يعني: غير مذللة بالعمل، {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة:71] أي: لا تثير الأرض؛ فهي بقرة معززة مكرمة لا تشتغل بالحرث، ولا تسقي الحرث، وكلمة (لا) هنا تنفي الاثنين، الذل وإثارة الأرض، يعني: هي معززة مكرمة، لا تعمل في الحرث ولا الزراعة. (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ)، ما لها؟ (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ)؛ لأن التي تثير الأرض تكون مذللة بالعمل، فهذه البقرة لا تثير الأرض، أي: لا تقلبها للزراعة، والجملة (تثير الأرض) صفة لذلول داخلة في النفي أي: لا تعمل في حراثة الأرض. {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71]، المقصود بالحرث الأرض المهيأة للزراعة، فهي لا تسقي الأرض المهيأة للزراعة. {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71]، (مسلمة) يعني: من العيوب وآثار العمل، ((لا شِيَةَ فِيهَا)) يعني: لا لون آخر فيها، ولا يخالط لونها الأصفر الفاقع أي لون آخر. {قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71]، انظر إلى سوء الأدب مع نبيهم عليه السلام، وكأنه من قبل لم يأت به! (قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)، يعني: نطقت بالبيان التام. فطلبوها فوجدوها عند الفتى اليتيم المقيم مع أمه فاشتروها بملء مسكها ذهباً، والمسك هو الجلد. {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] يعني: وما كادوا يفعلون بسبب غلاء ثمنها. وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (لو ذبحوا أي بقرة كانت لجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم).

تفسير قوله تعالى: (وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها) قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة:72] أصلها: فاتدارأتم، فأدغم التاء في الدال، أي: تخاصمتم وتدافعتم فيها، واتهم بعضكم بعضاً بقتل تلك النفس. {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] أي: إن الله مظهر ما كنتم تكتمون من أمرها، وهذه الجملة اعتراضية، ومن هنا تبدأ أول قصة البقرة. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73]، الهاء تعود على القتيل، أي: اضربوا القتيل، أي: بجزء منها، فضرب بجزء منها، قيل: بلسانها أو عقب ذنبها، فحيي وصحى وأعيدت إليه الحياة، وقال: قتلني فلان وفلان لابن عمه ومات، نطق بهذا ومات، فحرم الميراث وقتل، لماذا حرم الميراث؟ لأن القاتل لا يرث، والقاعدة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، (كذلك) الإشارة هنا إلى الإحياء، يعني: كذلك مثل ذلك الإحياء الذي حصل مع هذا القتيل يحي الله الموتى، وهذا دليل رابع من أدلة البعث والنشور من الحزب الأول من سورة البقرة، والأدلة الثلاثة ناقشناها من قبل بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]. {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة:73] أي: دلائل قدرته. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] أي: تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.

تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك)

تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:74] أيها اليهود وصلبت عن قبول الحق. {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:74] أي: من بعد ذلك المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات. {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة:74] في القسوة. {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] يعني: أشد من الحجارة. {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} [البقرة:74]، هنا أيضاً إدغام حيث أدغم التاء في الشين لأن أصلها: (يتشقق) فأدغمت التاء في الشين فصارت (يشقق). {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] أي: ينزل من علو إلى سفل من خشية الله، وهذه حقائق ليست مجازاً، فالجبل قد يسقط من خشية الله، وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع، وأنتم ثابتون على هذه القسوة! {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] يعني: وإنما يؤخركم لوقتكم، وفي قراءة: (وما الله بغافل عما يعملون)، وعلى هذا يكون التفات من الخطاب إلى الغيبة.

تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)

تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) بعدما حكى الله سبحانه وتعالى بعض أحوال بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأفعالهم الذميمة، وأحوالهم الميئسة من إيمانهم، قال تبارك وتعالى مخاطباً المؤمنين: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75]، أي: أفتطمعون -أيها المؤمنون- أن يؤمن لكم اليهود بعد أن علمتم تفاصيل شئون أسلافهم الميئسة من إيمانهم، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة؟! فلا يأتي من أخلاقهم إلا مثل الذي أتى به أسلافهم، وهم يورثون طباعهم اللئيمة وخصالهم الذميمة إلى الأجيال من بعدهم، فالخطاب للمؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني: وقد كان طائفة منهم وهم أحبارهم؛ لأن سياق الآيات كما سيأتي يبين أن الذين كانوا يفعلون هذا الفعل هم الأحبار بالذات. وعبر هنا بالللام في كلمة: (لكم) لكي يضمّن الكلام معنى الاستجابة، وهي مثل قوله تبارك وتعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، ولم يقل: فآمن به لوط؛ لأن المقصود أنه استجاب له لوط، فضمن معنى الاستجابة، فيكون المعنى: أفتطمعون في إيمانهم مستجيبين لكم؟ أو أن اللام هنا للتعليل، يعني: أفتطمعون في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم؟ (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني: طائفة منهم وهم أحبارهم. (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ) أي: في التوراة. (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ)، يغيرونه. (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) من بعد ما فهموه. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وهم يعلمون أنهم مفترون كذابون. والهمزة في قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ) للاستفهام الإنكاري، والمقصود: لا تطمعوا في إيمانهم فلهم سابقة بالكفر، وبقاياهم الموجودة في العصر المحمدي على مثل ما كان عليه آباؤهم في العصر الموسوي.

تحريف اليهود للتوراة

تحريف اليهود للتوراة هذا هو أول موضع في القرآن يشار فيه إلى التحريف الذي وقع في التوراة، فقوله: (ثم يحرفونه) أي: ثم يغيرونه، يقول القاضي كنعان: لا شك أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام قد حرفت، وأن الإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام قد غير وبدل، وأن الذين فعلوا ذلك هم الأحبار والرهبان الذين يعلمون الكتاب ويقرءونه دون سواهم من عامة اليهود والنصارى. فعلماؤهم قد ضلوا وحرفوا، وعوامهم قد قلدوا كما سيأتي الكلام على الطائفتين. وهنا مسألة مشهورة جداً في مثل هذا الموضع وفي كثير من الكتب التي تتعرض لنقد عقائد النصارى وإثبات تحريف كتبهم، وهي: هل التحريف كان تحريفاً في المعاني فقط أم كان تحريفاً أيضاً في أصل كتبهم؟ حكي عن بعض العلماء وبعض السلف أن التوراة حفظت كما هي، والإنجيل حفظ كما هو، وإنما حصل تحريف في المعاني وليس في الألفاظ، وهذا القول مرجوح ومخالف لما ذهب إليه الجماهير وعامة العلماء في كافة الأعصار من أن التحريف يشمل الأمرين معاً: التحريف للمعاني بالتأويل، والتحريف أيضاً للألفاظ. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية وهو يؤيد تفسير ابن جرير الطبري: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75] يعني: يغيرونه، يقول: ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة:75]، هو الأنسب باعتبار السياق -يعني: سياق الآيات القرآنية-، ولا يتوهم من ذلك دفع التحريف اللفظي عن التوراة، يعني: في هذا الموضع يمكن أن يقال: إن التحريف هنا تحريف للمعاني، لكن هذا لا ينفي أنهم حرفوا الألفاظ، فهذا ثابت في مواضع أخرى في القرآن، لكن في هذا الموضع بالذات الأقرب لسياق الآيات أن يقال: إن التحريف هنا تحريف معنوي. ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة فإنه واقع بلا ريب، فقد بدلوا بعضاً منها وحرفوا لفظه، وأولوا بعضاً منها بغير المراد، وكذا يقال في الإنجيل، ويشهد لذلك كلام أحبارهم، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق: أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم جارية بأن يبدلوا غالباً الأسماء في تراجمهم، ويذكرون بدلها معانيها، وهذا خطأ عظيم، ومنشأ للفساد، مثلما فعلوا في كلمة: (الفراقليد) أو كلمة: (حمد)، كما قال الله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] عليه الصلاة والسلام، فإنهم ترجموا معناها فقالوا: يعني: المستحق للحمد والمجد والثناء والمديح، فحولوها وترجموها بالمعنى، وبالتالي صارت تلك الكلمة المشهورة عندهم وهي: الفراقليد أو البراقليط، بالباء والفاء، وهذه الكلمة معناها في اللغة اليونانية القديمة التي ترجم إليها الإنجيل أولاً: الذي في اسمه حمد كثير، أو الأمجد، أو الأشهر، أو الذي يستحق الثناء والحمد، وهو محمد صلى الله عليه وسلم من حيث الاشتقاق، فالفراقليد تعني: أفعل تفضيل من حمد يعني: أحمد، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى، ولكن في القوم سجية غير محدثة وهي التبديل والتحريف، هذه حرفة يهودية قديمة، وتأسى بهم في ذلك أيضاً النصارى، فحرفوها، والآن بدأت التراجم الحديثة تخلو من كلمة (الفراقليد)، لما رأوا أن هذه الكلمة قد استدل بها المسلمون، وجعلوا بدلها المعزي أو المخلص حتى يهربوا، وكل من يتابع التراجم المتعددة لكتبهم يجد عشرات الآلاف من الشواهد على هذا التحريف! يقول: وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام، فبحجة التفسير يزيدون في الكتاب الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى التفسير، ولا يفصلون بين كلام الله الأصلي وبين الكلام الذي يزيدونه! وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة، ثم ساق بعضاً منها. وبعض علماء النصارى قال: إن يد المسلمين استطاعت أن تصل إلى الأناجيل وتحرفها، والدليل على ذلك وجود كلمة الفراقليد في الأناجيل، فهذا يدل على أن المسلمين وصلوا للإنجيل وحرفوا فيه! قال: إننا لا نستطيع أن ننكر أن الفراقليد تعني أحمد، فهذا يدل على أن المسلمين هم الذين وضعوها! وهذا مسكين، إذ إن هذه الكلمة في كل الكتب القديمة والحديثة، وهذه الكلمة موجودة عندهم من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب إذا قرأوا كلامه سيضحكون منه، لكن في نفس الوقت نحن نستفيد من ذلك الدلالة الواضحة والصريحة بوجود اسم أحمد عليه الصلاة والسلام في الأناجيل. يقول أحد علماء النصارى في مسيرة البابا: إن بعضهم ذهب إلى أن روح القدس -من الوقاية- الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، وإن روح القدس تساهل معهم، يعني: أن روح القدس لم يثبت كتبة الأناجيل في كل الأحوال، لكنه أحياناً كان يتساهل معهم في التصحيح، أي: أنه لم يقهم عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم، حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات! وفيه أيضاً: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافاً عظيماً في أمر التاريخ. إذاً: تحريف الأسفار الخمسة أمر بين بشهادة أحد علمائهم. وفيه أيضاً في الفصل الواحد والثلاثين: إن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين: العتيق والجديد نيفاً وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على ثمانية آلاف خطأ، فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها، وهذا هو المقصود. إذاً: التحريف اللفظي مما لا ينكره أحد. أما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، وأن كل ما في التوراة وكل ما في الإنجيل محرف فهذا إسراف، قال الحافظ ابن حجر في أواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]: إن القول بأنها -أي: هذه الكتب- بدلت كلها مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة تدل على أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، وهذا كثير جداً، وهذا بحث في الحقيقة يطول، وسبق أن تكلمنا فيه في دراسة العقيدة في أدلة صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل قول المسيح مثلاً: (إنني يجب أن أذهب الآن، فإني إذا لم أذهب لم يأتكم الفراقليد، فإن الله سبحانه وتعالى سيبعثه ويجعل كلامه في فمه)، وهذه إشارة إلى أمية النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك القصة التي أخرجها البخاري في كتاب المناقب في باب قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، معنى ذلك: أن هذا من الحق الذي بقي في كتبهم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم! إن فيها آية الرجم؛ فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت -يا محمد- فإن فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة)، والشاهد أن هذا يدل على وجود الرجم كما قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، وهو يدل على أنه بقي في التوراة والإنجيل شيء من الحق، مع ما حصل من التحريف فيهما. ونكتفي بالإشارة إلى أن هذا البحث الطويل موجود في كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وفي مقدمة القاسمي في تفسيره من صفحة أربعين فما فوق، وفي كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وفي إغاثة اللفهان في الجزء الثاني أيضاً بحث مفصل حول موضوع التحريف الواقع في التوراة، وهل هو معنوي فقط أم لفظي ومعنوي؟

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:76]، الواو هنا تعود إلى طائفة من اليهود، جمعوا بين كفر اليهودية وبين النفاق. قال السيوطي رحمه الله: (وإذا لقوا) أي: منافقوا اليهود. {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:76]، آمنا بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي وهو مبشر به في كتابنا، فإما أنهم قالوا ذلك مجاملة لحلفائهم من الأوس والخزرج، أو أنهم قالوا ذلك باعتبار أن هذه حقيقة أجلى من أن تذكر؛ فكانوا لا يستطيعون أن ينكروها إذا قابلوا المسلمين. {وَإِذَا خَلا} [البقرة:76] أي: رجع، {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا} [البقرة:76] أي: إذا انضم اليهود بعضهم إلى بعض، (قال) رؤساؤهم الذين لم ينافقوا لليهود الذين نافقوا عاتبين عليهم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ} [البقرة:76] أي: المؤمنين، {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [البقرة:76]، أي: أتحدثون المؤمنين بما فتح الله عليكم، يعني بما عرفكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل الفتح في اللغة الحكم والقضاء، أي: بما حكم الله عليكم وقضاه، وأخذ عليكم من الميثاق بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، ومعنى هذا الفتح: أن تؤمنوا به إذا بعث. (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يعني: ليخاصموكم، واللام للصيرورة، والمقصود: ليصيروا خصماءكم عند ربكم، في الآخرة، ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه. ومقصود هؤلاء الرؤساء: أن ذلك يكون أشد خزياً وفضيحة لكم؛ لأن الذي يعلم الحق ويكتمه واضح خزيه، وفضيحته أخف ممن علم الحق وأظهره ومع ذلك عانده. إذاً: هؤلاء المنافقون اليهود يقولون: إن هذا سيكون أشد لخزيكم يوم القيامة، وأخزى لكم وأفضح؛ لأن من يعلم ويكتم أخف حالاً ممن يظهر الحق، ثم يظهر أيضاً مخالفته عناداً واستكباراً وجحوداً. (لِيُحَاجُّوكُمْ) أي: ليخاصموكم، واللام للصيرورة، يعني: ليصيروا خصماءكم، وهي أيضاً لام العاقبة، (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يعني: في الآخرة، ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76] أنهم يحاجونكم إذا حدثتموهم؟ انتهوا عن هذا؛ لأنكم إذا ناقشتموهم سيقولون لكم: ألم تعترفوا من قبل بهذه الحقيقة؟!

تفسير قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)

تفسير قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) قال الله تعالى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77]. ((أَوَلا يَعْلَمُونَ))، الاستفهام هنا للتقرير، والواو الداخلة عليها للعطف. ((أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ))، ما يخفون وما يظهرون من ذلك وغيره؛ فيرعووا عن ذلك، وينكفوا عنه. وبعد أن ساق الكلام في حق الذين حرفوا التوراة وهم الأحبار، انتقل الكلام إلى المقلدين الذين ضلوا بتقليد هؤلاء الرؤساء الضالين، فقال: {وَمِنْهُمْ} [البقرة:78] أي: اليهود، {أُمِّيُّونَ} [البقرة:78] عوام. {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:78]، أي: التوراة. {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، أي: لكن أماني، وهذا استثناء منقطع، أي: لكن يعلمون أماني، والأماني هي أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها، وقلدوهم في ذلك. {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] (إن) بمعنى: ما، يعني: ما هم إلا يظنون، وذلك في جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره مما يختلقونه، فهم يظنون ظناً ولا علم لهم، والظن لا يغني من الحق شيئاً. إذاً: قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، هذه الآية في حق المقلدين من اليهود. (منهم)، من أهل الكتاب. (أميون)، جمع أمي، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة. (لا يعلمون الكتاب)، لا يدرون ما فيه؛ لأنهم لا يستطيعون الاطلاع على الكتاب؛ لأنهم لا يحسنون الكتابة، وصفة الأمية لا تعني عدم العلم؛ لأن العلم يحصل بواسطة طرائق أخرى أعلاها وأسماها وأجلها الوحي كما حصل لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهنا وصفهم بالأمية وبعدم العلم؛ فهم لا يدرون ما فيه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنه أمي، لماذا؟ لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، فإن الله سبحانه وتعالى جعل معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من أجلى المعجزات، فمع كونه أمياً أتى بهذا الكتاب الذي أعجز الفصحاء والبلغاء، وتحدى به الإنس والجن أجمعين، فلم يقبل واحداً منهم التحدي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)، أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتنا إلى كتاب ولا حساب، وهذا ليس مدحاً للأمية لكنه إشارة إلى يسر الشريعة الإسلامية، وأنها شريعة سهلة يستطيع أن يطبقها الشخص الأمي البدوي في الصحراء وعالم الفلك سواء بسواء، إذ كلاهما يستطيع أن يعرف متى وقت الفجر والظهر والعصر عن طريق الظل والشمس، كذلك متى يدخل الشهر ومتى يخرج. هذا معنى أمة أمية، يعني: شريعتنا شريعة تخاطبنا بما هو معهود للأميين البساطة والسهولة واليسر، فكل الناس يستوون في سهولة تحصيل العلم وتطبيق هذه الشرائع، قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، عليه الصلاة والسلام. يقول ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه إشارة إلى أنه باق على أصل ولادة أمه، كما قال الله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، أي: فهو باق على أصل هذه النسبة إلى أمه من ساعة ما ولد من بطن أمه وهو باق لم يكتسب التعلم بالكتابة والحساب. وقوله: {إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، هذا استثناء منقطع، وتأتي فيه إلا بمعنى لكن، مثل قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، هل معنى ذلك: أن الله كتبها عليهم ابتغاء مرضاته؟ لا، لكن المقصود: ما أمرناهم بالرهبانية، وتحريم الطيبات، لكن كتبنا عليهم ابتغاء مرضات الله بالعبادات الشرعية، و (إلا) هنا أيضاً مثل قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157] أي: لكن اتباع الظن؛ لأن العلم يتنافى مع الظن، وكذلك قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16] يعني: لكن لم تعتزلوا عبادة الله، وليس المعنى أنهم يعبدون الله مع غيره. وما الدليل على أن الاستثناء هنا منقطع في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]؟ لأن ما يتمنى وما يختلق وما يتلى ليس من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم، فإن هذه الأماني ليست من جنس الكتاب حتى تستثنى منه ويكون استثناءً منفصلاً، بل هي أماني وأكاذيب كان يخترعها أحبارهم. فلذلك نقول: ليس ما يتمنى ويختلق ويتلى من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم. (وأماني) جمع أمنية، أصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأعلت إعلال سيد وميت مع أن الألف فيهما أصلها الواو، وقال بعض العلماء: تمنى الشيء، يعني: قدره وأحب أن يصير إليه، وتمنى الكتاب قرأه، وتمنى أيضاً تأتي بمعنى كذب، يقول عثمان: ما تمنيت منذ أسلمت، يعني: ما كذبت منذ أسلمت. فهم لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون الأماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة التي لا تستند إلى الكتاب بل هي على زعم رؤسائهم، مثلما ما حكى الله تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] فهذه أحلامهم وأمانيهم وأكاذيبهم، وقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، وقال تبارك وتعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]. أو يكون معنى الآية: لا يعلمون الكتاب لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد، وحمله البعض على القراءة، وقالوا: الأماني المقصود بها القراءة، واستشهدوا على ذلك بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي: في قراءته. وقال كعب بن مالك في عثمان رضي الله عنه: تمنى كتاب الله أول نيله وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل (تمنى) يعني: قرأ كتاب الله. على هذا يكون تفسير الآية: لا يعلمون الكتاب إلا مجرد تلاوة فقط وألفاظ يقرءونها دون إدراك معانيها، وهذا القول قول مرجوح، ولا يتناسب مع قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، فالأمي لا يقرأ، فلذلك يترجح التفسير الأول: إلا أكاذيب اختلقها لهم أحبارهم ومنوهم بها، مثل قولهم: لو دخلنا النار فلن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، أو: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، أو: نحن شعب الله المختار، إلى غير ذلك من الأماني التي يمنيهم بها رؤساءهم وأحبارهم.

تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)

تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) قال تبارك وتعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]. (ويل) شدة عذاب. (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) مختلقاً من عندهم. (ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً) من الدنيا، وهم اليهود الذين غيروا صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وآية الرجم وغيرها وكتبوها على خلاف ما أنزل. (فويل لهم مما كتبت أيديهم) يعني: من المختلق. (وويل لهم مما يكسبون) من الرشاة، جمع رشوة. هنا وقفة يسيرة مع هذه الآية فقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، هنا اتجاهان في تفسير هذه الآية: الاتجاه الأول: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)، هذا تتميم مثل قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]؛ لأن الكلام لا يخرج إلا من الفم، لكن هذا التصوير والتأكيد بمثل هذه التعبيرات يريد أن يجعل المستمع أو القارئ كأنه مشاهد لحاله وهو يكتب بيده، تأكيداً للفعل النفسي أو للحدث. (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) على التفسير الأول: كما أنزله الله بدون اختلاق وبدون تحريف. أي: أن الحجة تقوم عليهم بأيديهم. (ثم يقولون) أي: أنهم يزيدون على الكتابة باليد الشهادة باللسان، شاهدين على أنفسهم، يقولون: (هذا من عند الله)، فالكتاب هنا جعل هذا التفسير باق على أصله، وانضم إلى الكتابة الفعلية الشهادة القولية وهم صادقون في هذا، ثم يطرأ بعد ذلك التحريف. (ليشتروا به ثمناً قليلاً) من الدنيا. هذا التفسير الأول، (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)، كما يقول رجل: كتبته مقراً على نفسي، وإنني قلت هذا وأنا في كامل قواي العقلية، فكذلك هذا التصوير. (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) على أصله الذي أنزله الله، ثم يشهدون أن هذا من عند الله. وهذه حجة ثانية عليهم، (ثم يقولون هذا من عند الله) فهم يؤمنون به، ثم بعد ذلك يحرفونه، فيطرأ التحريف بعد هاتين الشهادتين القولية والعملية. الاتجاه الثاني: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) فيحرفونه ويغيرونه، ثم يكذبون على الله ويقولون: هذا من عند الله، فيزعمون أن ما كتبوه بأيديهم هو من عند الله، (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). قوله تبارك وتعالى: (فويل لهم مما كتبت أيديهم) هذه الآيات في حق المتبوعين من الرؤساء، والآيات بدئت في حق المقلدين، (ومنهم أميون) جهلة لا يعلمون الكتاب. (إلا أماني) كل ما عندهم: نحن أفضل الأمم، نحن شعب الله المختار، نحن سندخل الجنة، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً مثلنا أو نصرانياً، وهكذا. (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) الأول ماضي والثاني مضارع، تنبيهاً على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة -يعني: قالها في الإسلام ولها عموم يدل عليها- فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وحديث: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها)؛ لأنه أول من سن القتل ظلماً. فكذلك هؤلاء الذين حرفوا الكتاب أضلوا بعدهم أمماً من المقلدين والأتباع، ولما كانت الكتابة قد استغرقت زمناً في الماضي، ولذلك عبر عنها بالماضي، فقال: (ويل لهم مما كتبت أيديهم) من هذا التحريف؛ لأن كلاهما يثبت وقوع تحريف بالكتابة. وقوله: (وويل لهم مما يكسبون)، عبر عن هذا المعنى بالمضارع لإفادة استمرار الوزر، كما قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] والمقصود: الآثار التي تبقى بعد موتهم من السنن الحسنة أو السيئة. والله أتى بوصف اللنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وبإشارة مدرجة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم، وقد قال العلماء: كل كتاب منزل من السماء متضمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بإشارات، فماذا تكون بإشارات، وليست في كل الأحوال إشارة واضحة وبينة تماماً؟ لو كان ذلك متجلياً للعوام لما عوتب علماؤهم على كتمانه، ثم ازداد الأمر غموضاً بنقله من لسان إلى لسان من العبري إلى السرياني إلى العربي، إلا أن محصلته عند الراسخين في العلم جلي، وعند العامة خفي، ولذلك توجه العتاب إلى العلماء؛ لأنهم كتموا هذا الحق؛ ولأنه لا يدرك هذه الإشارات إلا العلماء الراسخون.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، وذلك لما أوعدهم النبي عليه الصلاة والسلام وخوفهم بالنار ردوا وقالوا: لن تصيبنا النار إلا أياماً معدودة قليلة، ووصفها بمعدودة وصف دقيق جداً في التعبير عن هذا المعنى، يعني: حتى لو دخلنا النار فلن نخلد فيها: هذا كلام اليهود، لماذا؟ لأن كل معدود منقضي، وانظر إلى رمضان يقول الله تبارك وتعالى فيه: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، فما دام أن له عدداً فلابد أن ينقضي، ولذلك وصفها الله تعالى بأنها أياماً معدودات، فكل معدود منقضي، ولذلك قالوا: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، فهم يريدون أن يقولوا: حتى وإن دخلنا النار فلن نخلد فيها، ولن نمكث فيها إلا أياماً معدودات، وقد اختلف المفسرون في هذه الأيام المعدودات: فقال بعضهم -كما ذكر السيوطي -: هي أربعون يوماً مدة عبادة آبائهم العجل، أي: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوماً فسيبقون في النار أربعين يوماً فقط. وبعضهم قال: سبعة أيام؛ لأن اليهود يزعمون أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وعن كل ألف سنة سيعذبون يوماً، وبالتالي يبقون في النار سبعة أيام. {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} [البقرة:80] يعني: بأن الله سبحانه وتعالى لن يعذبكم سوى هذا المقدار! (قل)، قل لهم يا محمد. (أتخذتم) أصلها: (أأتخذتم) فحذفت منها همزة الوصل استغناءً بهمزة الاستفهام، (قل أتخذتم عند الله عهداً) أي: ميثاقاً من الله بذلك. {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80] يعني: إذا كان الله فعلاً وعدكم بهذا فلن يخلف عهده، لكن هذا لم يحصل وليس عندكم عهد من الله تبارك وتعالى بذلك. {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80]، (أم) هذه منقطعة مقدرة ببل والهمزة، يعني: بل أتقولون على الله ما لا تعلمون؟! (بَلَى)، يعني بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، هذا هو المقصود. قال تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81]، ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الخلود في النار إنما هو للكفار والمشركين، لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار، فيتعين على من أخطأ خطأ واحداً أن يدخل النار، ولابد من امتحانه في الدنيا، وأما من قال بالعكس فهذا لا يعلم عقيدته، لأن هذه عقيدة الخوارج، والسنة قد تواترت بخروج عصاة الموحدين من النار؛ فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآية بالكفر والشرك، ويؤيد ذلك كونها نازلةً في اليهود، يعني: من كسب سيئة مثل سيئتكم، وكفر مثل كفركم أيها اليهود؛ فمجرد اكتساب السيئة لا يوجب الخلود في النار، بل لابد أن يكون سببه محيطاً به، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة:81] أي: غمرته من جميع جوانبه فلا تبقي له حسنة، وسدت عليه هذه الخطيئة مسالك النجاة بأن عمل مثل عملكم أيها اليهود، وكفر بما كفرتم به حتى يحيط كفره بما له من حسنة، يعني: له حسنات ولكن هذه الحسنات تغمر في هذا البحر المحيط به من كل جانب وهو هذه الخطيئة التي هي خطيئة الشرك، فتحبط كل ما عنده من أعمال صالحة. والقاعدة: أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، وهنا الخلود في النار معلق على أمرين فلا يتم بواحد منهما، حتى لو قلنا بأن السيئة معصية، لكن إذا انضمت إليها الخطيئة التي تحيط به تماماً بحيث تبطل كل عمله، وهي الشرك، حينها يقع في النار. إن اكتساب السيئة وحدها لا يتوجب به الخلود في النار إذا قلنا بأن السيئة هي المعصية، وذلك حتى تنضم إليها خطيئته بالشرك، فتحيط به من كل جانب، وتبطل كل أعماله الصالحة، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). مثلاً: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، لا تتنزل عليهم الملائكة إلا إذا جمعوا بين الأمرين: يقولون: ربنا الله، ثم يستقيمون، كذلك حديث: (قل: آمنت بالله، ثم استقم)، فالمعلق على شرطين لا يتم بواحد منهما، فلابد من انتفاء الشرطين. قال ابن جرير: قلت لـ عطاء: من كسب سيئة؟ قال: الشرك، وتلا، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل:89] أي: لا إله إلا الله وهي التوحيد، {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90]، والسيئة المقصود بها هنا الشرك، ولذلك من أسماء كلمة التوحيد: كلمة النجاة، وهي لا إله إلا الله، ولها أسماء كثيرة منها الحسنة، وكذلك السيئة تطلق على الشرك. إذاً: لابد إذا تكلمت عن تفسير هذه الآية أن تربطها بتلك الآية، {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النمل:90] يعني: من جاء بالشرك، فالسيئة هنا مثل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة:81]. وقوله تبارك وتعالى: (بلى) يعني: ليس الأمر كما ذكرتم، بل إنها سوف تمسكم النار وتخلدون فيها. و (بلى) إثبات لما بعد حرف النفي، يعني: إذا سألت رجلاً فقلت له: ألم تعط نسخة من تفسير الجلالين؟ فيجيب بقوله: بلى. يعني: أخذت، لكن لو قال: نعم، فيكون المعنى أنه لم يأخذ، فإذا كان السؤال فيه نفي بعد صيغة الاستفهام فيكون الجواب في حالة الإثبات بـ: بلى، مثل قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]، تقول: بلى. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]، بلى، ولو قالوا: نعم. لكفروا. إذاً: (بلى) إثبات لما بعد حرف النفي، فقوله: (لن تمسنا النار)، يعني: بلى ستمسكم النار، ولو قال قائل: ألم تأخذ ديناراً؟ فقلت: نعم، لكان المعنى: لم آخذ ديناراً؛ لأنك حققت النفي وما بعده، فإذا قلت: بلى، صار المعنى قد أخذت. قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك علي شيء، فقال الآخر: نعم، كان ذلك تصديقاً لئلا شيء له عليه، ولو قال: بلى كان رداً كقوله: لا، بل لي عندك شيء، وفي التنزيل: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، ولو قالوا: نعم لكفروا. الخلاصة: (بلى) يعني: ليس الأمر كما زعمتم، بلى ستمسكم النار وتخلدون فيها. (من كسب سيئة) شركاً. (وأحاطت به خطيئته) هنا بالإفراد، وفي قراءة أخرى الجمع (خطيئاته) أي: استولت عليه وأحدقت به من كل جانب بأن مات مشركاً. (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) روعي فيه معنى (من)، لا لفظ (من)، فـ: (من) قد تكون مفرداً لكن باقي الآية تراعي المعنى؛ (من) يعبر في لفظها عن واحد، لكن من حيث المعنى بالجمع، فروعي في (من) هنا معنى الجمع، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

البقرة [82 - 91]

تفسير سورة البقرة [82 - 91]

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]. (وإذ) أي: واذكر إذ، (أخذنا ميثاق بني إسرائيل) في التوراة، (لا تعبدون)، يعني: وقلنا: لا تعبدون، بالتاء والياء (لا يعبدون) خبر بمعنى النهي، وقرئ شذوذاً: (لا تعبدوا)، لكن القراءة الصحيحة بإثبات النون، فالفعل مضارع مرفوع بثبوت النون مثل قوله تعالى: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم)، جاء الفعل المضارع في المواضع الثلاثة مرفوعاً؛ لأن (لا) التي قبله ليست ناهية، فالجملة خبرية جاء النهي فيها بلفظ الخبر، وهذا أبلغ من صريح النهي، فمثلاً حديث: (لا ضرر ولا ضرار)، لا هنا نافية؛ فهو خبر لكن من حيث المعنى إنشاء، أو بعبارة أخرى: هو نفي يراد به النهي، مثل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فهذه ظاهرها الخبر، والمقصود بها الإنشاء، ولا يمكن أن يكون المقصود بها الخبر؛ إذ ليس كل الحجاج فيهم أحد يرفث أو يفسق أو يجادل. فكذلك هنا: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83]، (لا) هنا لا نافية وليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية فسوف تكون الآية هكذا (لا تعبدوا إلا الله)، فيلزم حذف النون، لكن الآية: (لا تعبدون) فالفعل مرفوع، فدل على أن: (لا) هنا هي النافية، لكن من حيث المعنى: هي خبر مقصود به الإنشاء. كل الكلام الكثير الذي قلناه الآن حول كلمة (لا تعبدون) لخصه السيوطي رحمه الله في ثلاث كلمات فقال: خبر بمعنى النفي. قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي: وأحسنوا بالوالدين إحساناً يعني: براً. (وَذِي الْقُرْبَى) يعني: القرابة، وهذا عطف على الوالدين. قوله: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، القراءة التي يعتمدها الجلال السيوطي: (حَسَناً). أي: قولوا للناس حُسنا أو حَسناً، أي: قولاً حسناً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في شأن محمد صلى الله عليه وسلم والرفق بهم. وهذه الآية نحتاجها كثيراً جداً؛ لأن كثيراً من الإخوة الملتزمين يتصورون أن الفظاظة والإساءة والغلظة وسوء الخلق جائز مع الكفار، وهذه الآية دليل على استحباب التزام الرفق وحسن الخلق مع كل الخلق حتى لو كانوا كفاراً، كما قال الله واصفاً نبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، صلى الله عليه وسلم. فهذه الآية من الآيات التي ينبغي أن يفهمها الإخوة فهماً جيداً، (قولوا للناس) تشمل المسلمين والنصارى واليهود وكل خلق الله سبحانه وتعالى، فحسن الخلق واجب مع جميع الناس خصوصاً عند النصيحة أو عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالكلمة الطيبة صدقة. فهذه الآية دليل على التزام أدب الرفق وحسن الخلق حتى مع المخالفين في العقيدة والدين، ولذلك قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، أما المبادأة بالظلم أو العدوان أو السب أو غير ذلك مما يتنافى مع حسن الخلق فلا يليق بالمسلم؛ لأن الله يقول: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، فلا يقابل القسيس ويصرخ في وجهه ويعتبر أن هذه بطولة، أو يشتمه بألفاظ قبيحة، وقد يجره ذلك إلى أن يقابله بالمثل فيسب الله أو يسب محمداً عليه الصلاة والسلام، فسداً لهذه الذريعة ينبغي تجنب ذلك.

الفرق بين الإحسان والولاء مع الكفار

الفرق بين الإحسان والولاء مع الكفار ينبغي أن نفرق بين الإحسان والولاء؛ لأننا الآن في زمان يعج بالفتن، ونحن الآن -والله تعالى أعلم- في الزمن الذي يصبح فيه الرجل مؤمناً ويمسي كافراً من الفتن والمحن التي تسلط علينا من كل جهة، وبالذات في شيء من أخطر قضايا العقيدة، بل هي القضية التي لم تتكاثر الأدلة على مسألة من مسائل التوحيد مثلما تكاثرت عليها بعد توحيد الله تبارك وتعالى، وهي قضية الولاء والبراء، ولم يعرف في الإسلام أدلة أعظم منها بعد التوحيد في أمور العقيدة من قضية الولاء والبراء، والناس الآن تذوب عقيدتها كما يذوب الملح في الماء، وحرب ليل نهار من كل الجهات سواء من الداخل أو الخارج، من الجهلة أو من علماء السوء، من الساسة أو من اليهود والنصارى، قضية تذويب قضية الولاء والبراء، ويصفون الشخص الذي يكفر اليهود والنصارى بأنه متعصب، حتى أصبحت كلمة التعصب الآن والتطرف وغيرها تطلق إطلاقاً معيباً وخطأً. فموضوع التعصب لا يمس العقيدة، ولا يوجد شيء في العقيدة اسمه تعصب، وكونه يعتقد أن الكافر مخلد في النار، أو أن من قال: عيسى ابن الله. فقد كفر، أو أن اليهود كفار، وغير ذلك من العقائد التي هي من أصول الإسلام والحد الفاصل بين الإيمان والكفر، هذا لا يمكن أن يدخل فيه تعصب، إنما التعصب يأتي في المعاملة فقط، ومتى يكون تعصباً؟ إذا كان لنصراني عندك حق، فجحدت هذا الحق أو ظلمته وضيعت ماله هذا هو التعصب، فالتعصب يكون في المعاملة، أما الاعتقاد فليس فيه تعصب؛ إنما هناك كفر وإيمان. فقولوا للناس حسناً ليس معنى ذلك أن تزيف الحقائق، أو أن تحرف العقيدة أو تتنازل عنها، لكن (قولوا للناس حسناً) في المعاملة، فالمعاملة هي مجال التعصب والتسامح. (وقولوا للناس حُسْناً أو حَسَناً) إذا قلنا: حَسَناً، نقدر كلمة: قولاً: أي قولاً حسناً، وفي القراءة التي بضم الحاء وسكون السين، على أنه مصدر وصف به مبالغة، كما تقول: رجل عدل، وممكن أن يقال: رجل عادل، لكن رجل عدل تصفه بالمصدر مبالغة في إثبات هذا المعنى له، كذلك كلمة: طول وكلمة: فطر ونحو ذلك.

خرق اليهود للعهود والمواثيق

خرق اليهود للعهود والمواثيق قوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، وقبلتم هذا الميثاق، (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) ثم بعد قبوله توليتم وأعرضتم عن الوفاء به، وهذا فيه التفات عن الغيبة والمراد آباؤهم، فالآية من أولها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، هذا كله حديث لهم، ثم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة:83]، يعني: تولى آباؤكم: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83]. الآيات التي تتكلم عن اليهود كثيرة في القرآن الكريم، وكذلك التي تتحدث عن بني إسرائيل في عصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمقصود بذلك آباؤهم، وأقصد الآيات التي تتكلم على جرائم ارتكبها آباؤهم ويخاطب بها ذريتهم من بعدهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ما زال يخاطبهم إلى يومنا هذا؛ لأن هذه إشارة إلى أن ما ركز فيهم من الطباع الخبيثة والخصال الذميمة واللئيمة لا تتغير، وينبغي أن نيئس من أن يتغير اليهود إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى؛ فهذه طبيعتهم. وقد رأينا في الأحداث الأخيرة هذه المذبحة البشعة التي قام بها جبان من اليهود، عندما كان المسلمون يصلون في بيت الله سبحانه وتعالى وفي حالة سجود، وليسوا حتى في حالة قيام -فانظر كيف الجبن- قتلهم، وهل هذه بطولة؟ هل يعجز الإنسان عن أن يقتل آلاف الناس بهذه الطريقة؟! لا، لكنه الخبث والخسة اليهودية، هذا هو اللائق باليهود، ونحن نستغرب منهم هذا؛ لأن هذا هو الأصل، وهذه هي أخلاقهم وطباعهم، أناس قتلوا الأنبياء، قتلوا يحيى عليه السلام وأهدوا رأسه إلى امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل لما طلبته، فهم قتلة الأنبياء، وأخس خلق الله سبحانه وتعالى وأرذلهم، فلن تتغير هذه الطباع فيهم. وفي التلفزيون البريطاني استضافوا بعض أحبار اليهود -لعنهم الله- من داخل فلسطين المحتلة، وسألوهم: ما رأيكم عما حصل في مسجد الخليل؟ فقالوا: هذا الإنسان بطل، لقد فعل ما نتمنى نحن جميعاً أن نفعله، ولكننا لا نجرؤ على ذلك! هذا الشخص بطل، وهذه بطولة؛ لأنه يقتل هؤلاء الأجانب الموجودين في بلاد ليست بلادهم، فهم يستحقون القتل وإلا فليخرجوا! فيصفون هذه الجرائم وهذه الخسة والنذالة بأنها بطولة. كذلك مناحن بيجن نفسه كان مشرفاً على مذبحة دير ياسين المعروفة، وكان يقول في أحد كتبه متحدثاً عن القتل الذي ارتكبه ضد المسلمين: أنا أقاتل إذاً أنا موجود، مثل الذي قال: أنا أفكر إذاً أنا موجود، فهو لا يحس بوجوده في الحياة إلا إذا قتل، فالقتل والإجرام والخسة والنذالة هذه الطباع لا تتغير في اليهود أبداً، فلذلك لا تعجبوا إذا لاحظتم أن الآيات كلها تخاطبهم على أفعال فعلها أسلافهم، ثم يعاتب بها من كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى يومنا هذا، لماذا؟ لأن طباعهم لا تتغير، {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75]، يعني: ايئسوا فلا أمل فيهم إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة:84]، وقلنا: لا تسفكون دماءكم، ولا تريقونها بقتل بعضكم بعضاً، وقلنا في قوله: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83]، إشارة إلى أن المحسنين فيهم قلة، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [البقرة:83]، يعني: هناك قلة أحسنت، فلئلا يبخس الله سبحانه وتعالى هذه القلة حقها استثناهم، ولكن في نفس الوقت أشارت هذه الآية إلى أن الخير إذا صار قليلاً في الأمة والشر هو الغالب فإن ذلك لا ينجي الصالحين من عقاب الله إذا نزل؛ فإنه يعم الصالح والطالح، فوجود قلة من الصالحين لا يمنع العقاب الإلهي إذا فشى فيهم المنكر، وقل فيهم المعروف. ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة:84]، قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم) يعني: اذكر إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم، فيقدر هنا: وقلنا: لا تسفكون دماءكم، (لا) هنا نافية، ولو كانت ناهية لقال تبارك وتعالى: (لا تسفكوا دماءكم)، لكن قال تبارك وتعالى: (لا تسفكون) بالنون كما أتى بها من قبل في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83]، وكذلك: لا تسفكون، ولا تخرجون، عبر في هذه المواضع الثلاثة بالمضارع، وأتى بالفعل مرفوعاً بثبوت النون؛ لأن (لا) التي قبل هذه الأفعال ليست ناهية بل نافية، فما بعدها جملة خبرية لكن المقصود بها الإنشاء والنهي، وهذا يكون أبلغ من صريح النهي؛ كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فهذه (لا) نافية، لكن المقصود بها النهي، ومثله حديث: (لا ضرر ولا ضرار) (لا) نافية لكن المقصود بها النهي عن الضرر، كذلك هنا: {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، (لا) نافية، والمقصود بها النهي عن سفك الدماء. قال تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة:84]، هذا مما أخذ الله سبحانه وتعالى الميثاق به على بني إسرائيل، ألا يخرجوا بعضهم بعضاً من هذه الديار. {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة:84]. (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، قبلتم ذلك الميثاق. (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، وأنتم تشهدون على أنفسكم.

تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) قال تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:85]، مع أن الميثاق سبق وأقررتم به وهو أنكم لن تقتلوا إخوانكم، (ثم أنتم هؤلاء) أي: يا هؤلاء، فيقدر (يا) في التفسير، (تقتلون أنفسكم) يعني: يقتل بعضكم بعضاً. إذاً: (تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) أي: إخوانكم، عبر عن الإخوان في الله بالأنفس، وهذه من لطائف القرآن الكريم حيث يعبر عن الإخوة في الله بعبارة الأنفس إشارة إلى قوة الرابطة على الاجتماع على الإيمان وعلى العقيدة؛ فإنها تكون أقوى من رابطة النسب، وآية ذلك: أن الرجل المسلم الميت إن لم يكن له أقرباء يرثونه إلا ولد واحد من صلبه فقط يرثه، وهذا الولد كافر فإن هذا الولد لا يستحق أن يرث أباه، بل تؤول ثروة أبيه المسلم إلى بيت مال المسلمين، وتنفق على إخوانه في العقيدة، مع أن هذا ابنه الصلبي لكنه لا يستحق الميراث، لوجود حاجز الكفر حائلاً بينه وبين ميراثه، فينقطع الولاء بسبب العقيدة، فالعقيدة أقوى رباط يكون بين المسلمين، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وتصل شدة هذه الآصارة وقوة هذه الرابطة إلى حد التعبير عن الإخوة في الله بالنفس، أخوك كأنه نفسك التي بين جنبيك، ولهذا شواهد في القرآن الكريم، منها: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11]، أي: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، على أحد التفسيرين، يعني: على إخوانكم، وقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، يعني: بعض إخوانكم، يعني: يقتل البريء منكم المجرم الذي عبد العجل. وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: بإخوانهم، وكذلك قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]. وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] يعني: أموال إخوانكم، فعبر عنها بأنها أموالكم. وقال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ} [البقرة:85]، هناك قراءة أخرى هي: (تظّاهرون)، يعني: تتظاهرون، فأدغمت التاء في الظاء، ومعنى: تَظَاهرون أو تَظَّاهرون: تتعاونون. {عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ} [البقرة:85]، بالمعصية. {وَالْعُدْوَانِ} [البقرة:85]، بالظلم.

ميثاق الله إلى بني إسرائيل بمفاداة أسراهم

ميثاق الله إلى بني إسرائيل بمفاداة أسراهم قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة:85]، وفي قراءة أخرى: (وإن يأتوكم أسرى تفادوهم) وفي قراءة: (تفدوهم)، يعني: تنقذوهم من الأسر بالمال أو بغير المال. وهذا مما أخذ عليهم في العهد: أن يخلصوا إخوانهم من الأسر بفدائهم بالمال. {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة:85]، (وهو) يعني: الشأن، (محرم عليكم إخراجهم) هذا متصل بقوله تعالى: (وتخرجون)، والجملة بينهما اعتراض، أي على قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85]. فالجملة: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم)، تعود على الأولى يعني: كما حرم ترك الفداء حرم عليكم الإخراج، كما أن الله سبحانه وتعالى في ميثاقه الذي أخذه عليكم حرم عليكم ترك الفداء، وأمر ببذل المال أو غير المال من أجل تحرير إخوانكم من الأسر؛ كذلك حرم عليكم إخراجهم من ديارهم. وكانت بنو قريظة من اليهود حالفوا الأوس، وبنو النضير حالفوا الخزرج، فكان كل فريق من اليهود يقاتل مع حلفائه، هؤلاء مع الأوس وهؤلاء مع الخزرج، فكانوا يقاتلون إخوانهم، ويخربون ديارهم ويخرجونهم، فإذا أسروا -مع أنهم كانوا يقاتلونهم- امتثلوا بحكم الله وبعهد الله الذي أخذه عليهم في بذل المال لفدائهم! وكانوا إذا سئلوا: لم تقاتلونهم وتفدونهم؟ يعني: أنتم بقتالهم تسببتم في أسرهم أو أسرتموهم بالفعل، ثم بعد ذلك تبذلون المال لفدائهم! قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أخذ علينا الأمر بفداء أسرانا، فيقال: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون: حياءً أن تستذل حلفاؤنا، فقال تعالى منكراً عليهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، بعض الكتاب هنا هو الفداء، وعرفنا أنه الفداء من السياق المتقدم، فإنه يتبين أن الذي آمنوا به هو فداء الأسرى، أما البعض الذي كفروا به فهو ترك القتل، والإخراج، والمظاهرة، فهم أخرجوا إخوانهم وقتلوهم وظاهروا عليهم، فهنا الله سبحانه وتعالى وصفهم بالكفر ببعض الكتاب وبالإيمان ببعض آخر، فقوله تعالى: (وتكفرون ببعض) أي: الكفر بهذا والإيمان بهذا، وإن كانوا قد كفروا بغير هذا من الكتاب وآمنوا بغيره، فهذه الآية دليل على أنه قد يجتمع في الشخص كفر وإيمان، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، كذلك هنا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، ولهذا بحث مستقل سبق أن ذكرناه بالتفصيل في بحوث حكم التفسير، ومن أراد التفصيل فليرجع لكتاب الصلاة وحكم تاركها لـ ابن القيم، حيث ناقش فيه تفصيل حكم الله إذا اجتمع الكفر والإيمان؛ فأيهما يغلب. {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85]، (خزي) هوان وذل، (في الحياة الدنيا)، وقد أذاقهم الله سبحانه وتعالى الخزي والهوان بقتل بني قريظة ونفي بني النضير إلى الشام وضرب الجزية عليهم. {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85]، في نار جهنم. {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]، وفي قراءة: (عما يعملون). {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة:86]، وذلك بأن آثروها على الآخرة. {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86]، لا يمنعون من العذاب، ولا يوجد من ينصرهم ويقيهم هذا العذاب.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) اللام في (ولقد) لام القسم، فصدر الكلام بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء بهذا الكلام، و (آتينا) الإيتاء هو الإعطاء، ومعنى كلمة: (موسى) في اللغة العبرانية المنشول من الماء. وقوله: (الكتاب) مفعول به ثاني، وهو التوراة، قيل: المراد فهم الكتاب، أي: أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما في هذا الكتاب، فيكون الكلام على حذف المضاف، (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني: فهم الكتاب، وهذا التفسير ليس بظاهر، ولذلك اعتمد السيوطي رحمه الله تعالى هنا التفسير الأول، وهو أن المراد بالكتاب التوراة. {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}، أي: هذا مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا} [المؤمنون:44]، ومثل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44]. (وقفينا من بعده بالرسل)، التقفية هي: الأرداف والإتباع، مأخوذ من إتباع القفاء، وهو مؤخر العنق، فكون واحد يتلو واحداً يكون وصولهم تترا، فالمقصود هو أن يتبع بعضهم بعضاً، تقول: جئته من قفاه. إذا جئته من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لأنها تتلو سائر الكلام، والقافية في اللغة هي القفاء، وفي الحديث: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) يعني: في مؤخر العنق. وكل رسول جاء بعد موسى إنما جاء بإثبات التوراة والالتزام بحكم التوراة والأمر بلزومها إلى أن جاء عيسى المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قيل: كان الأنبياء بعد موسى إلى عيسى أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفاً كلهم على شريعته عليه السلام، ومنهم: يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقوله تبارك وتعالى: (وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ)، قرأ الحسن ويحيى بن يعمر: بتسكين السين، وهذه لغة أهل الحجاز، والتحريك لغة تميم. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني: التوراة، (وقفينا من بعده بالرسل) أي: أتبعناهم رسولاً في إثر رسول، (وآتينا عيسى بن مريم البيات) أي: المعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، (وأيدناه) قويناه، وفي قراءة: (وآيدناه)، (بروح القدس) هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، يعني: الروح المقدسة وهو جبريل عليه السلام.

معنى قوله تعالى: (وأيدناه بروح القدس)

معنى قوله تعالى: (وأيدناه بروح القدس)

تأييد الله لعيسى بروح القدس

تأييد الله لعيسى بروح القدس قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] أي: قويناه، قوله: (بروح القدس) هذا من إضافة الموصوف إلى الصفة، وروح القدس هو جبريل عليه السلام. كان جبريل عليه الصلاة والسلام يسير مع المسيح عليه الصلاة والسلام حيث سار يعينه ويلهمه العلوم، فلم يستقيموا مع ذلك، يعني مع أننا أيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات وبجبريل عليه الصلاة والسلام لكنكم -أيها اليهود- لم تستقيموا ولم تؤمنوا به ولم تتبعوه عليه الصلاة والسلام. وقد قرأ مجاهد وابن محيصن: (وآيدناه) بالمد، وهما لغتان. ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)) تشمل كل معجزة أوتيها المسيح عليه الصلاة والسلام، وقيل: المقصود الإنجيل. ونلاحظ في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أفرد المسيح عليه الصلاة والسلام عن سائر رسله، فإنه يقول تبارك وتعالى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:87] مع أن عيسى من الرسل الذين أتوا بعد موسى عليه الصلاة والسلام، فخص عيسى عليه الصلاة والسلام وأفرده عن سائر الرسل الذين جاءوا بعد موسى لتميزه عنهم، لكونه من أولي العزم من الرسل، كما أنه كان صاحب كتاب وهو الإنجيل، وقيل: لأنه ليس متبعاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل الذين جاءوا بعد موسى، فإنهم ألزموا بالتوراة، أما المسيح عليه الصلاة والسلام فقد جاء بنسخ كثير من الأحكام التي كانت في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام. ويلاحظ في القرآن الكريم نسبة المسيح عليه الصلاة والسلام إلى أمه، يقول تعالى: (عيسى بن مريم)، والمقصود بذلك الرد على اليهود الذين زعموا أن له عليه الصلاة والسلام أباً، فاليهود يرمون مريم عليها السلام بالفاحشة والعياذ بالله، قال الله: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156]، فهم يزعمون أن المسيح -والعياذ بالله- ابن زنا، وأن له أباً والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى لم ينسبه إلا إلى أمه؛ إشارة إلى أنه لا أب له، وهذا هين ويسير في قدرة الله سبحانه وتعالى، فإنه لما بشرت الملائكة مريم بالمسيح عليه الصلاة والسلام قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:20 - 21]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فهذا فيه رد على اليهود -لعنهم الله- حيث زعموا أن للمسيح عليه الصلاة والسلام أباً. ومن سأل وقال: من هو أبو المسيح؟ فنقول له: من هو أبو آدم؟ فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى لإظهار كمال قدرته، فإن الله سبحانه وتعالى نوع خلقه، وإن كان كل نوع من الخلق آية من آيات الله، فآدم عليه الصلاة والسلام خلق من غير أب وأم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، وحواء خلقت من ضلع آدم عليه الصلاة والسلام، فحواء خلقت من رجل دون امرأة بقدرة الله سبحانه وتعالى، والمسيح عليه الصلاة والسلام خلق من أم بدون أب، وسائر البشر خلقوا من أب وأم، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى الدائمة في البشر. وفي الحقيقة كل صورة من صور الخلق هي في حد ذاتها معجزة، لكن الله سبحانه وتعالى نوّع الخلق، لأن الأمور العادية يعتادها الناس فلا يلتفتون إلى ما فيها من الآيات البينات، لكونهم اعتادوها، فمثلاً: خروج الكتكوت من البيضة، أليست معجزة؟! لو اجتمع كل من على ظهر الأرض من علماء وخبراء وفنيين بكل ما أوتوا من علم، وأرادوا أن يخلقوا ذبابة أو فيروس أو بكتيريا، لم يستطيعوا ذلك، لكن الله سبحانه هو الذي انفرد بالخلق. فالمقصود من ذلك أن هذه كلها آيات لله سبحانه وتعالى، وأن المسيح مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق، حيث إنه نسب إلى أمه ولا أب له عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فإذا سأل المشركون الملحدون وقالوا: فمن أبوه؟ فالجواب كما يزعم النصارى -والعياذ بالله- أن الله سبحانه وتعالى هو أبوه، بل نقول لهم: من أبو آدم؟ بل من أم آدم؟ ولذلك أجاب الله سبحانه وتعالى على هذه الشبهة بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. وعيسى بالعبرانية: (إيشور)، ومعناه: السيد، أو المبارك، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31]، أما مريم باللغة العبرية فمعناها: الخادم، سميت أم عيسى عليها السلام بهذا الاسم لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، وقيل: معناها: العابدة، أما معنى مريم في اللغة العربية فهي المرأة التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر، كالزير من الرجال، فهذان تعبيران معروفان في اللغة العربية، فالمرأة التي تتجرأ على الكلام مع الرجال بدون فجور تسمى مريم، والرجل الذي يحب الكلام مع النساء حتى لو لم يفجر يسمى زيراً، ويوجد خلاف ذلك، قال الأزهري: المريم المرأة التي لا تحب محادثة الرجال، وكأنه قيل لها ذلك تشبيهاً لها بـ مريم البتول؛ لانعزالها عن الناس وعدم اختلاطها بالرجال.

روح القدس هو جبريل عليه السلام

روح القدس هو جبريل عليه السلام ((وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة: روح القدس هو جبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا التعبير في حق جبريل عليه الصلاة والسلام كثير في القرآن والسنة كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل:102]، وقال تبارك وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] أي: جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال تبارك وتعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] وهو جبريل عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام لـ حسان بن ثابت رضي الله تعالى: (اهجهم -أي: المشركين- وروح القدس معك)، وقال له مرة: (اهجهم وجبريل معك)، فهذا تفسير واضح وصريح من النبي عليه الصلاة والسلام يدل على أن جبريل هو روح القدس. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لـ حسان بن ثابت منبراً في المسجد فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يدافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام ويدفع عنه إيذاء المشركين بشعره- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك) رواه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي موصولاً، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مر بـ حسان وهو ينشد الشعر في المسجد؛ فلحظ إليه عمر بعينه، كأنه ينكر عليه، أتنشد الشعر داخل المسجد؟! فكأن حسان فهم من هذا اللحظ وهذا النظر من عمر رضي الله عنه أنه ينكر عليه أو يهم أن يفعل به شيئاً، فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أجب عني -يعني دافع ونافح عني- اللهم أيده بروح القدس)؟ فقال: اللهم نعم، يعني أبو هريرة قال: نعم سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول ذلك، وفي بعض الروايات: (اهجهم وجبريل معك)، فهذا كله يدل على فضيلة المنافحة عن الإسلام كما في بعض الأحاديث الأخرى، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لهو أشد عليهم من النبل أو من السهام) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، أي: أن هجاء المشركين بالشعر أشد عليهم من وقع النبل، وهذه صورة من صور الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وهي الدفاع عن الإسلام ضد حملات أعدائه بالكلام، ولو بإنشاد الشعر، ولو بأي أسلوب من هذه الأساليب التي هي دون الصدام المسلح مع أعداء الله تبارك وتعالى. الشاهد: أن جبريل يطلق عليه الروح القدس كما أطلق عليه الروح الأمين. وكان حسان رضي الله تعالى عنه يقول في شعره: وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء وجبريل رسول الله فينا، يعني: رسول من عند الله يأتي بالوحي للنبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]، المقصود به في هذه الآية: جبريل عليه السلام. قال النحاس: سمي جبريل روحاً، وأضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحاً من غير ولادة والد ولده، فجبريل عليه السلام خلقه الله سبحانه وتعالى روحاً خلقاً مباشراً، لم يكن عن طريق ولادة من والد، كذلك سمي عيسى روحاً أيضاً لأجل هذا؛ لأنه خلق بكلمة: (كن)، فلذلك يسمى أحياناً كلمة الله، أو روح الله؛ لأنه ولد مباشرة بدون والد، وإنما ولد بكلمة الله، وبأمر الله.

الحكمة من تخصيص عيسى بالذكر في قوله: (وأيدناه بروح القدس)

الحكمة من تخصيص عيسى بالذكر في قوله: (وأيدناه بروح القدس) ألم يؤيد الأنبياء جميعاً بروح القدس؟ ألم يؤيد نبينا عليه الصلاة والسلام بروح القدس؟ A بلى، إذاً ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص المسيح عليه السلام هنا بأنه أيده بروح القدس؟ خص الله سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بذكر التأييد بروح القدس؛ لأنه تعالى خصه به خصيصة لم تكن مع غيره، وهي: أن جبريل عليه السلام كان مع المسيح عليه السلام مؤيداً له من وقت صباه إلى حال كبره عليه السلام، كما قال تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة:110] كيف؟ {يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [المائدة:110] فهذا ما لم يقع لغيره من الأنبياء، فالأنبياء أوحي إليهم على كبر من السن، وجبريل كان يؤيدهم، لكن فيما بعد، أما المسيح عليه السلام فخص هنا بالتأييد لأن له خصيصة ليست لغيره، وهي: أن جبريل كان يؤيده منذ كان وليداً في المهد، والدليل قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة:110] ما معنى كهلاً؟ هذه من آيات الله سبحانه وتعالى في حق المسيح عليه السلام، (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، الكلام في المهد معجزة بلا شك، وعيسى عندما يتكلم وهو في المهد هذه معجزة، لكن هل من المعجزات أن يتكلم الكهل؟! الكهل الكلام بالنسبة إليه ليست معجزة وليست آية؛ لأنها شيء طبيعي أن يتكلم، لكن الإشارة هنا إلى معجزة أخرى خاصة بالمسيح عليه السلام حيث اقترن كلامه وهو كهل هنا بشيء غير عادي، وهو أنه سيبقى في السماء إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى بنزوله من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس وهو كهل، أي كبير في السن، فالمقصود بذلك اقترانه بمعجزة نزوله من السماء في آخر الزمان حاكماً بالقرآن، فيقول تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة:110]، هذه خصيصة من خصائصه، ولأنه تعالى حفظه بجبريل حتى لم يدن منه الشيطان: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] هكذا قالت امرأة عمران أم مريم، (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا يطعنه الشيطان في خاصرته؛ فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)، وذلك استجابة لهذه الدعوة: (وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). هناك تفسير بأن (روح القدس) هو الإنجيل نفسه، قالوا: لأن الله وصف القرآن أيضاً بأنه روح، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فإن القرآن سبب الحياة الأبدية، والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش، وهذا التفسير رده الحافظ ابن كثير مستدلاً بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة:110] فذكر أنه أيده بالإنجيل، وأيده بروح القدس، فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) تكرير قول لا معنى له، فالله أعز من أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم، فيكون تكرار بلا فائدة وبلا جدوى، فدل هذا على المغايرة، وأن روح القدس في أول الكلام ليس هو الإنجيل المذكور في آخره. قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] المقصود: فلم تستقيموا، ولم تؤمنوا به، ولم تستجيبوا له، هذا هو جواب الكلام.

اليهود قتلة الأنبياء

اليهود قتلة الأنبياء قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]. (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى) أي: بما لا تحب أنفسكم من الحق، ولا بد أن نقول: من الحق لأهميتها. (اسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن اتباعه. هذا هو جواب (كلما)، وهو محل الاستفهام، والمراد بهذا الاستفهام التوبيخ. (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ) المقصود ففريقاً منهم (كذبتم) كعيسى عليه السلام، (وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)، وعبر عن الماضي بالمضارع لحكاية الحال الماضية، أي: قتلتم من الأنبياء كزكريا ويحيى. هذا الذي اعتمده السيوطي. قوله تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ) قيل: أصلها بما لا تهواه أنفسكم، وحذفت الهاء حتى لا تطول الكلمة، (اسْتَكْبَرْتُمْ) يعني: استكبرتم عن إجابة هذا الرسول احتقاراً للرسل واستبعاداً للرسالة، وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويجمع على أهواء كما جاء في التنزيل، وسمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل لفظ الهوى في الغالب إلا فيما ليس بحق، وفيما لا خير فيه، وهذه الآيات من ذلك، لكن قد يستعمل الهوى في الحق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وبعض العلماء يضعفون هذا الحديث وبعضهم يحسنه، ومنه أيضاً قول عمر رضي الله تعالى عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. أي: ولم يحب ما قلت، وقالت عائشة رضي الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) والحديثان أخرجهما مسلم، فهذه من المواضع القليلة التي يستعمل فيها الهوى في غير سياق الذم، لكن الغالب استعماله فيما لا خير فيه وفيما ليس بحق. (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) قدم فريقاً في الموضعين للاهتمام، وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، والتقديم أحياناً يكون للقصر، لكن المقصود به هنا للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم، ثم هنا محذوف وهو كلمة (منهم)، يعني: فريقاً منهم كذبتم وفريقاً منهم تقتلون، وبدأ بالتكذيب ثم بعد ذلك ثنى بالقتل، لماذا؟ لأن التكذيب هو أول ما يفعلونه بالشخص، يبدءون أولاً بالتكذيب وبعد التكذيب يقتلونه، ولأنه المشترك بين المكذوب والمقتول، فيكذبون الرسول، وحتى الذي يقتلونه فإنهم لا يقتلونه إلا بعدما يكذبونه. ويلاحظ في السياق: أن الخطاب لبني إسرائيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه قاعدة عظيمة جداً لفهم طبيعة هؤلاء المجرمين السفاحين القتلة اليهود لعنهم الله، حيث نسب الله القتل إليهم مع أن القتلة هم آباؤهم ولم ذاك؟ لأنهم يرضون بهذا القتل، ولحوق مذمته بهم، والمذمة ما زالت تلحق أيضاً بهؤلاء الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لرضاهم عن ذلك، وكما أشرنا من قبل؛ فإن نسبة هذه الأفعال إلى اليهود في عهد نبينا صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الطبيعة واحدة، الطبيعة الخبيثة اللئيمة والغدر والذل والهوان والخيانة وكل هذه الأخلاق الذميمة، فإن قلوب اليهود هي وعاء مستقر دائم لها، لا ينفك اليهودي أبداً عن هذه الأخلاق في كل الأمم -وهذه قاعدة- بغض النظر حتى عن الأدلة الشرعية، فبالاستقراء لا تزال فيهم هذه الصفات مغروسة في طباعهم لا يستطيعون منها فكاكاً ولا خلاصاً، والواقع الذي نعيشه خير شاهد على ذلك، وقد اهتم القرآن الكريم بالربط بين موسى ومحمد عليهما السلام، والربط بين القرآن وبين التوراة، وسردت كثير جداً من آيات القرآن الكريم للحديث عن بني إسرائيل، وكما تلاحظون فإن سورة البقرة بعامتها في الكلام على أحوال بني إسرائيل، إشارة إلى علاقة خصبة بين الأمة المحمدية وبين الأمة الإسرائيلية، هذه العلاقة التي ستستمر إلى آخر الزمان، حينما ينزل المسيح عليه السلام، وكل ما يحصل الآن في هذا الزمان هو عبارة عن تهيئة لما يؤمنون هم به ونؤمن نحن به، أمر واحد يؤمن به اليهود والنصارى والمسلمون، وهو أنه لا بد من صدام وملحمة عظيمة جداً، ومقتلة كبيرة تحصل بين أهل الإيمان وأهل الإسلام وبين هؤلاء الكافرين، مع اختلاف العقائد، وهم يجزمون بها قطعاً بلا شك وبلا جدال، لكن لا يظهرون لنا هذا، ويجزمون أن كل التحركات الموجودة الآن في العالم والتغييرات التي تحصل هي تهيئة لنزول المسيح المنتظر، هذا كلام اليهود في عام (2000)، وهم يحددون سنة ألفين لمجيء المسيح المنتظر الذي يحكم العالم -بزعمهم- من القدس ويعيد إليها اليهود، والنصارى يعتقدون نفس الشيء، لكن النصارى يعتقدون أن المجيء الثاني للمسيح هو بصفته -والعياذ بالله- إلهاً، والمسلمون يعتقدون أيضاً بمجيء المسيح، فالكل مجمعون على مجيء المسيح ولكن مع اختلافنا في حقيقة هذا المسيح؛ لأن اليهود يقولون: إن المسيح لم يأت بعد، والذي أتى هو ساحر وكذاب، ويسبون المسيح عليه السلام، ويقولون: إن المسيح الحقيقي هو الذي ننتظره، وسيأتي في آخر الزمان، وهم سيتبعونه، وهذا المسيح هو المسيح الدجال الأعور الكذاب، فهذا هو الذي سيتبعه اليهود كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمون يعتقدون بمجيء مسيح الضلالة المسيح الدجال، ومسيح الهدى وهو رسول الله عيسى عليه السلام ينزل من السماء ليحسم هذه المعركة، ويقتل بحربته الدجال، ويحكم بالقرآن وبالإسلام، ولا نريد التفصيل في هذا المعنى، لكن كل الأحداث التي تدور تنبع من هذه العقيدة، والتحضير لموقعة (هرم جد)، التي هي الملحمة الكبرى التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كائنة لا محالة، وستكون الكلمة العليا والظهور فيها للمسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. قلنا: نسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع للحال الماضية استحضاراً لصورتها، ولفظاعتها واستعظامها، أو يكون (وفريقاً كذبتم) في الماضي (وفريقاً تقتلون) مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، ففواصل الآيات التي سبقتها كلها أفعال مضارعة بهذه الصيغة، فهذه تكون من باب المشاكلة لهذه الأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل السابقة، أو (وفريقاً تقتلون) إشارة إلى أنكم مستمرون في ذلك كما فعل آباؤكم في عهد موسى عليه السلام ومن بعده في قتل الأنبياء، وإنكم على ما كان عليه آباؤكم، فقد حاولوا بالفعل قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى: (وفريقاً تقتلون) تحاولون قتله، ولولا أني عصمته لقتلتموه، ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال، ولا ينافيه قتل البعض، والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة، سواء ترتب عليها القتل أو لا، (فريقاً تقتلون) إما أن يكون قتلاً حقيقاً للبعض، وإما أن يكون تسبباً في القتل ومباشرة لأسبابه كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث أنهم حاولوا قتله. وقيل: لا حاجة إلى التعميم، ولا أن نقول: فريقاً قتلتم، وفريقاً باشرتم الأسباب معه؛ لأن الذي وقع منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام كان قتلاً بالحقيقة، فإنه عليه الصلاة والسلام قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ: (وهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم صرح بهذا قرب وفاته، وكأن الله سبحانه وتعالى كتب له أيضاً ثواب الشهادة عليه الصلاة والسلام؛ لأن أثر هذا السم ظل معه حتى قال: (هذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم)، أي: هذا أوان خروج روحي ومفارقة الحياة، نتيجة لذلك السم الذي وجده بعدما نهش نهشة بسيطة من هذه الذراع المسمومة. ونفهم من ذلك: أن قتل النبي عليه الصلاة والسلام لم يتحقق منهم زمان نزول الآية، بل الذي وقع مباشرة الأسباب، ولم يكن عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة، فالمقصود هنا من قوله: (فريقاً تقتلون) أيضاً مباشرة الأسباب، فلابد من التعميم بأن نقول بالقتل حقيقة أو بمباشرة الأسباب، أي: تعميم النوعين. وقال بعض العلماء: لا حاجة إلى التعميم، بل نقول: قتل حقيقي فقط؛ لأنهم بالفعل قتلوا النبي عليه الصلاة والسلام، ورد فريق آخر من العلماء بأن هذه الآيات لما نزلت لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام قد فارق الحياة بعد، ولم يكن بعد قد أفضى إلى الرفيق الأعلى، فلابد من التعميم بذكر النوعين، القتل المباشر أو التسبب في القتل كما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حياً وقت نزول هذه الآيات.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف) قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] قالوا: -أي: اليهود- للنبي صلى الله عليه وسلم استهزاءً: قلوبنا غلف، وغلف بتسكين اللام جمع أغلف، أي: مغشاة بأغطية فلا تعي ما تقول، ولا يصل إليها ما تقول من هذا الدين! قال تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:88]، بل هنا للإضراب، يعني: ليست القضية أن قلوبهم غلف، بل هي أشد من ذلك، فقد لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وخذلهم من القبول، وليس عدم قبولهم لخلل في قلوبهم. {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] (ما) زائدة لتأكيد القلة، يعني: إيمانهم قليل جداً، ويزيد هذه الآية إيضاحاً قوله تبارك وتعالى: (وقالوا قلوبنا غلف) الواو هنا واو عطف على استكبرتم، فتكون تفسيراً للاستكبار، يعني التكذيب بسبب الاستكبار، وعلى التقديرين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن استكبرتم وكذبتم فيها خطاب، فسواء كان العطف في (وقالوا قلوبنا غلف) على استكبرتم أو عطف على كذبتم ففي الحالتين يوجد صورة من صور البلاغة وهي الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، فالالتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عن مخاطبتهم وإبعاداً لهم عن عز الحضور الذي يقتضيه سياق المخاطب. وقولهم: (قلوبنا غلف) أي: لا فائدة منا، كما قال غيرهم: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136]، وقصدوا بهذا إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة، وقطع طمعه عنهم بالكلية، يعني: ليس هناك أي أمل، فلا تطمع أبداً أننا نستجيب لدينك! وقال السدي: يقولون: عليها غلاف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (غلف): قلبي عليه غلاف فلا يخلص إليه ما تقول، أي عندما تريد أن تقول لإنسان: لن يؤثر فيَّ كلامك، فتقول له: قلبي عليه غلاف فلن يصل إليه هذا الكلام الذي تقول، وقرأ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5]، وهذا هو الذي رجحه ابن جرير، واستشهد له بما روي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: (القلوب أربعة -فذكر منها-: وقلب أغلف مغضوب عليه، وذاك قلب الكافر). أي: أنه موضوع داخل غلاف. والغلف جمع أغلف، مثل كلمة حمر جمع أحمر، وهناك جمع ثانٍ غلُف، لكن الغلْف بتسكين اللام جمع أغلف، كأحمر وحمر، والأغلف هو الذي لا يفقه، وأصله في الذي لم يختن، يعني: أن قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن وصول ما جئت به إليها، وهذا مثل قولهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] أو جمع غلاف، ويجمع على غلُف، يعني: إما أن قلوبنا غلف جمع أغلف أو جمع غلاف، كخمار وخمر، ويجمع على غلف، فهي داخل أغطية وأغشية وأغلفة فلا يصل إليها ما تقول من هذا الدين، أو هي أوعية للعلم، ونحن مستغنون عما تأتينا به، ولا نحتاج إلى ما عندك من العلم أو الوحي، فيمدحون أنفسهم ويزكونها لعنهم الله، أي: فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته، فقلوبنا مملوءة علماً فلا تسع بعد ذلك شيئاً، فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، وما عندنا من التوراة نحن مستغنون به عن القرآن، فهذا تفسير آخر أنهم أرادوا أنها أوعية مملوءة بالعلم، فكيف لمثلنا أن يتبع إنساناً أمياً؟! وهذا تفسير بعيد. عن ابن عباس قال: يقولون: (قلوبنا غلف) يعني أوعية مملوءة، ولا نحتاج إلى علم محمد ولا غيره، قال ابن جرير: (وقالوا قلوبنا غلف) جمع غلاف، أي: أوعية، بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بالعلم، لا يحتاجون معه إلى علم آخر، ولهذا قال تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم) أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها، كما قال في سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155] إلى آخر الآية. وقوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)، هذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه، والمعنى: أن قلوبكم أصلاً خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الذي يوفق إلى الحق كما قال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)؛ فقلوبكم أصلاً كانت مهيئة للهداية والانقياد للحق، والنظر الصحيح الذي يئول ويؤدي إلى الحق، لكن الله تبارك وتعالى أبعدهم وأبطل استعدادهم الخلقي الفطري للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة، وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، يعني: لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم. أو المقصود: أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقاً وصدقاً، فهؤلاء اليهود رفضوا ما دعوتهم إليه من الحق ليس لأنه ليس حقاً ولا صدقاً، وإنما لأنه سبحانه وتعالى طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم. أو أن المعنى: أن الله سبحانه وتعالى أقصاهم عن رحمته؛ فأنى لهم ادعاء العلم الذي أعظم أثر له هو حصول رحمة الله، فالله سبحانه وتعالى طردهم من رحمته، فمن يطرد من رحمة الله لن يكون عالماً علماً ينفعه، فإذا كانت فعلاً قلوبكم فيها علم، فالعلم يكون سبباً لحصول الرحمة، وأنتم مطرودون من الرحمة، فالمسألة أنكم مطرودون مخذولون، وليست المسألة علماً تدعونه في قلوبكم. {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] الفاء هنا سببية، يعني: بسبب لعنة الله إياهم، (فقليلاً ما يؤمنون) المقصود أنهم يؤمنون إيماناً قليلاً و (ما) مزيدة لتأكيد معنى القلة، (فقليلاً ما يؤمنون) قيل: أي يؤمنون ببعض الكتاب، وقيل: لأن المؤمنين منهم قليلون، وقيل: زماناً قليلاً يؤمنون فيه بالحق، قيل: هو زمن الاستفتاح، كانوا يستفتحون فيه على الذين كفروا، إذا حصل بينهم وبين المشركين قتال يقولون لهم: إن هذا الزمان زمان بعثة نبي، فنأوي إليه، وسنؤمن به ونقاتلكم ونغلبكم، أو هو زمان بلوغ الروح التراقي فيؤمنون عندما تبلغ أرواحهم التراقي، وقيل: هو إيمان مؤقت، وهو المشار إليه في قوله تبارك وتعالى حكاية عنهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران:72] حرب نفسية، أي: تظاهروا بالدخول في الإسلام في الصباح ثم ارتدوا عنه في المساء، وهذا طعن في هذا الدين وتشكيك للناس فيه، يقولون: لماذا ارتدوا؟! لأنهم ما وجدوا فيه خيراً -والعياذ بالله- فهذه الفترة قليلة (فقليلاً ما يؤمنون) يعني مثل هذه الفترة الوجيزة. إذاً: (قليلاً ما يؤمنون) يعني: إيماناً قليلاً. إما أن إيمانهم ببعض الكتاب، أو أن المؤمن منهم قليل، أو زماناً قليلاً يؤمنون وهو زمن الاستفتاح، لكن لما بعث فعلاً النبي الذي كانوا يستفتحون به كفروا، فإيمانهم كان إيماناً مؤقتاً لفترة قصيرة من الزمن، أو عند بلوغ الروح التراقي يؤمنون بحقيقة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، والهاء هنا تعود على أهل الكتاب، أو: الإيمان القليل وهو المذكور في قوله: (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ) هذه الفترة فقط. وقيل: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وقال الواقدي -وهو تفسير غريب في هذه الآية-: يعني لا يؤمنون لا قليلاً ولا كثيراً، واستدل لصحة تفسيره بقوله: تقول: ما أقل ما يفعل فلان كذا! لشخص لا يفعل الشيء أبداً، ولا يفعله ألبتة، وقال الكسائي: تقول العرب: مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، يعني لا تنبت شيئاً، ورد الألوسي على الواقدي تفسيره، وقال: إنه قول بارد جداً، ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة!

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) قال تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) ما الذي معهم؟ التوراة، وما هو الكتاب؟ القرآن الكريم، (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ) قبل مجيء هذا الكتاب الكريم (يستفتحون) يستنصرون، يقولون: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث آخر الزمان، هذا أحد التفاسير لمعنى (يستفتحون)، (فلما جاءهم ما عرفوا) من الحق، وهو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم (كفروا به) حسداً وخوفاً على الرياسة، وجواب (لما) الأولى دل عليه جواب (فلما) الثانية، الذي هو: (كفروا به فلعنة الله على الكافرين). قوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب من عند الله) الواو هنا عاطفة على قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف). وقوله تعالى: (ولما جاءكم كتاب) كتاب بالتنكير للتعظيم، (من عند الله) ووصفه بأنه من عند الله أيضاً زيادة تشريف لهذا الكتاب، فمعروف أنه من عند الله، لكن ذكر هنا (كتاب من عند الله) فوصفه بأنه من عنده للتفريق والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع؛ لأنه من خالقهم وإلههم، أي: هو من عند الله الذي خلقكم، فأولى بكم أن تؤمنوا به. (مصدق لما معهم) هنا جعله مصدقاً (لما معهم) باللام، ولم يقل: مصدقاً بما معهم؛ لأنه لو قال: مصدقاً بما معهم، كان فيه إعطاء وصف التبعية للقرآن لما معهم هم، وقد آمن وصدق بما معهم، لكن (لما معهم) فيه إعطاء القرآن وصف الهيمنة، كما قال: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]. إذاً: لم يقل: مصدقاً بما معهم، فجعله مصدقاً له لا به، إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم، لكونه مشتملاً على الإخبار عنه محتاجاً في صدقه إليه، وإلى أنه في إعجازه مستغن عن تصديق الغير، فالقرآن يصدق غيره؛ لأنه نوه بالتوارة ومدحها، فهذه الحكمة من استعمال اللام بدل الباء في قوله: (مصدقاً لما معهم)، لكن لو قال: بما معهم، فكأن التوراة هي التي تشهد للقرآن، لكن الحقيقة أن القرآن مهيمن على ما عندهم من الكتب. (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) الاستفتاح هو الاستنصار، ومعنى الفتح هو الحكم والقضاء، فالاستفتاح يعني أن يحكم الله سبحانه وتعالى ويقضي بينهم وبين أعدائهم بالنصر، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين)، يعني: يستنصر بدعائهم وصلاتهم، ومنه أيضاً قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52]، وكلمة النصر تعني فتح شيء مغلق، فهو يرجع إلى قولهم: فتحت الباب. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). وروى النسائي أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم). وقيل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) أي: يستخبرون عنهم، من بين وقت وآخر وهم يسألون: هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به)، مع أنكم كنتم تستفتحون به من قبل عليه الصلاة والسلام، لكن لما جاءهم كفروا به، وهذا مثل قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، إشارة إلى أن نوع كفرهم إنما هو كفر الجحود والاستكبار. وهنا قوله تعالى: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) (ما) موصولة، أي: فلما جاءهم الذي عرفوا كفروا به، فإيراد الموصول هنا بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: فلما جاءهم كفروا به، ولكن قال: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فأورد الموصول ولم يستعمل الضمير؛ لأنه لو قال: (فلما جاءهم) سيكون الفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على الكتاب أو على الرسول، وإنما قال: (فلما جاءهم ما عرفوا) والذي كانوا يستفتحون بمجيئه من قبل كفروا به، فهذا لبيان كمال مكابرتهم وجحودهم، أو (فلما جاءهم ما عرفوا) المقصود به هنا الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الكتاب على التفسير الأول، لكن المقصود بقوله: (جاءهم ما عرفوا) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد يعبر عن العاقل (بما) إذا أريد الصفة، فأحياناً يعبر العرب (بما) عن صفات من يعقل مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الكافرون: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] يعني إلهي الذي أعبده الذي صفته كذا وكذا، فعبر عن الله سبحانه وتعالى (بما أعبد)، ويقول تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] المقصود: ومن بناها وهو الله سبحانه وتعالى، وقوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، النساء عاقل، فعبر عنهن (بما)، لكن المقصود هنا الصفة في الطيب، فلذلك قال: (فانكحوا ما طاب لكم)؛ لأنه هنا يعبر (بما) عن صفات من يعقل، وهكذا (فلما جاءهم ما عرفوا)، وعلى التفسير الآخر يكون المراد: الكتاب، أي: فلما جاءهم الكتاب كفروا به، فتكون: (ما عرفوا) اسم موصول، أو: (فلما) الثانية تكرير لطول العهد، واقتضى الأمر التكرار لما بعد العهد، كما في قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران:188]، فهذا تكرار أيضاً بسبب طول العهد أو الفصل. وقيل: (ولما جاءهم كتاب من عند الله) جوابه محذوف، وهو: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب المصدق، (فلما جاءهم كتاب) وهنا ليس تكراراً، وفي تفسير آخر: أن (لما) الثانية: (فلما جاءهم) ليست تكراراً لـ (ما) الأولى، وإنما هذه يقصد بها الأمر غير تلك، فالأولى (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم) تقديره: كذبوا به، فهذه معاملتهم مع الكتاب الذي يصدق ما معهم، أما قوله: (فلما جاءهم ما عرفوا)، فالمقصود بها الرسول عليه الصلاة والسلام، (كفروا به) فهذه معاملتهم مع الرسول المستفتح به، ورجح هذا التفسير بأن لما الأولى المقصود بها شيء غير لما الثانية؛ لأن التكرار يحتمل التوكيد، أما هنا فيكون تأسيساً وليس تكراراً للمعنى؛ فالتأسيس أولى من التأكيد. أي: أن أي كلام يحتمل أن يدور بين أمرين، إما أن يكون التكرار فيه للتوكيد أو لتأسيس معنى جديد، وما دام يحتمل الأمرين فيترجح أن يكون للتأسيس، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1]، وصدوا ممكن أن تكون بمعنى أعرضوا، فتكون توكيداً لمعنى الكفر، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:55] أي: أعرض عنه، ومثل: كلمني فصددت عنه. يعني: أعرضت عنه، لكن كلمة صدوا ربما تحتمل معنى آخر، أي: كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم، مثل أي داعية للكفر والفساد، يصد غيره عن سبيل الله، فهنا توكيد لكلمة صدوا، فعلى القول الأول تكون تكراراً، وعلى القول الثاني تكون بمعنى صدوا غيرهم، وفيها معنى التأسيس لمعنى جديد، كفروا في أنفسهم وصدوا غيرهم. كذلك هنا (ولما جاءهم كتاب من عند الله): (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فيحتمل أن التكرار للتوكيد لبعد العهد، أو للتأسيس؛ لأن هذه مقصود بها معنى غير الآخر، فقوله: (فلما جاءهم كتاب) هذه لها معنى مستقل جوابه وتقديره: كذبوا بالكتاب المصدق، (ولما جاءهم ما عرفوا) وهو الرسول المبعوث الذي كانوا يستفتحون به أيضاً كفروا به، فهنا يترجح التأسيس على التوكيد.

تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم) قال تبارك وتعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90]. (بئسما اشتروا) أي: باعوا (به أنفسهم) أي: حظهم من الثواب، و (ما) نكرة بمعنى شيئاً، تمييز لفاعل بئس، يعني بئس شيئاً، والتقدير: بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم، والمخصوص بالذم (أن يكفروا) يعني: بئس الشيء كفرهم، (بما أنزل الله) من القرآن، (بغياً) مفعول له، مفعول لفعل يكفروا، وبغياً يعني حسداً، (أن ينزل الله) حسداً للمؤمنين على أن ينزل الله فضله على من يشاء من عباده، (ينزّل الله) أو (ينزِل الله) قراءتان بالتخفيف والتشديد (من فضله) الوحي، (على من يشاء) للرسالة (من عباده فباءوا) رجعوا (بغضب) غضب من الله لكفرهم بما أنزل، والتنكير هنا للتعظيم، (على غضب) استحقوه من قبل بتضييع التوراة والكفر بعيسى، (وللكافرين عذاب مهين) أي ذو إهانة. وقوله تبارك وتعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يعني: على من يصطفيه ويختاره للرسالة، وقيل: المراد به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حسدوه؛ لأنه لم يكن منهم، وكان من العرب من ولد إسماعيل، ولم يكن من ولده نبي سواه صلى الله عليه وسلم، وإضافة العباد إلى ضميره تعالى فيه تشريف، (على من يشاء من عباده)، هذا تشريف لكل الأنبياء عليهم السلام بإضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى. (فباءوا بغضب) أي: رجعوا (بغضب على غضب) هنا تفسيران: إما أنه غضب على غضب يعني هما غضبان، وإما غضب على غضب المقصود تعدد هذا الغضب، فالذين قالوا: هما غضبان اختلفوا في تفسير ما الغضب الأول وما الغضب الثاني، قال بعضهم: الغضب الأول غضب الله سبحانه وتعالى عليهم لعبادتهم العجل، والثاني: بسبب كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الغضب الأول: هو بسبب كفرهم بالإنجيل، والثاني: بسبب كفرهم بالقرآن، أو كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو غضب أولاً بقولهم: عزير ابن الله، والغضب الثاني بقولهم: يد الله مغلولة، وبكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. القول الآخر: أنه ليس المقصود غضبين وإنما المراد به الترادف والتكاثر، وليس غضبان فقط، فهذا فيه إيذان بتجديد الحال عليهم، كما في قول الشاعر: ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ولكنه رمح وثان وثالث المقصود أنها رماح كثيرة. (وللكافرين عذاب مهين) ويلاحظ أنه قدم قوله: (وللكافرين) ولم يقل: وعذاب مهين للكافرين، وهذا التقديم يفيد أن غير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير لا للإهانة والإذلال، وهذا أمر مهم جداً، فالعذاب المهين في القرآن لا يأتي إلا في حق الكافرين فقط، أما من عداهم من عصاة الموحدين فلا يعذب للإهانة، وتلاحظ أن التقديم هنا لبيان هذا المعنى، وأن هذا النوع من العذاب -الذي يراد به الإهانة- إنما هو في حق الكافرين، ولذلك قدمه، فقال (وللكافرين عذاب مهين)، فعذاب الكافرين المقصود به إهانتهم، أما غيرهم من عصاة الموحدين فالمقصود بعذابهم تطهيرهم من أثر هذه الذنوب، وإذا استقرأت القرآن الكريم وتتبعت المواضع التي ذكر فيها: عذاب مهين، ستجد أن العذاب المهين لا يكون إلا في حق الكافرين كفراً أكبر والعياذ بالله، وتقديم هذا الخبر (وللكافرين عذاب مهين) يفيد أن غير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير لا للإهانة والإذلال، ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن، فلا متمسك للخوارج في أنه خص العذاب بالكافرين، فقد قالوا: هذا يدل على أن كل من يعذب فهو من الكافرين، فيرد عليهم بأن العذاب المهين لا يكون إلا للكافرين، ومن عدا ذلك من الموحدين يعذب عذاباً للتطهير لا للإهانة والإذلال، فالمسلم الفاسق أو الموحد العاصي فإنه سيعذب لكن ليس عذاب الإهانة. روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر) أي: الغبار الدقيق الذي يرى في ظل الشمس، (يعلوهم كل شيء من الصغار، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له: بولس، فتعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار)، وهذا الحديث صحيح.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91]. (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) جمهور العلماء على أن المقصود به القرآن الكريم، وقال بعض العلماء: المقصود به كل ما أنزل الله من الكتب الإلهية على العموم، ومع هذا فإن جل الغرض الإيمان بالقرآن، لكن سلك مسلك التعميم إشعاراً بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به في أنه منزل من عند الله، وتنبيهاً على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيماناً بما أنزل الله، ويفهم منها: أنكم لا تؤمنون بما أنزل عليكم حتى تؤمنوا بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) نعم نؤمن بما أنزل الله، لكن فقط بما أنزل علينا نحن، ونستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، ولا نقبل من قرآنكم إلا ما يوافق حكم توراتنا فحسب، (علينا)، يعني: على أنبياء بني إسرائيل، وليس عليهم أنفسهم، وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغياً وحسداً على نزوله على من ليس منهم، ولو كان من بني إسرائيل لآمنوا، وفيها إشارة إلى أن كفرهم كان حسداً للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان من ولد إسماعيل، ولذلك يقولون دائماً في تعيير العرب: إنهم أبناء الجارية، احتقاراً لهم، وهم يحسدوننا من أجل ذلك على هذا الإسلام، ولم يؤمنوا بالرسول حسداً وبغياً. أو قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) يعني على أنفسنا، أي: تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا بهذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن، أي: أنهم عندما قالوا: (نؤمن بما أنزل علينا) هذا فيه تعريض بالقرآن أنه ليس من عند الله، ودسائسهم مشهورة. أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب على غير المراد منه. (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله) يقولون: نحن نؤمن فعلاً بما أنزل الله، نحن نؤمن بما أنزل علينا، فحملوا اللفظ العام الآمر بالإيمان بكل ما أنزل الله -من القرآن وما عداه من الكتب- على ما أنزل عليهم فقط، والواجب أن يؤمنوا بجميع الكتب على وجه العموم. (ويكفرون بما وراءه) بما سواه، وقيل: بما وراءه بما بعده، والمعنى واحد، فوراء بمعنى خلف، وقد تكون بمعنى قدام، فكلمة وراء من الأضداد، تأتي بمعنى الكلمة وضدها، كما قال تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79] المقصود بها هنا: أمامهم ملك، فلو مشوا بالسفينة قليلاً فإن جنود الملك سيأخذون السفينة لصالحهم، والوراء ولد الولد، الحفيد، ويقول تبارك وتعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] يعني: ما سوى ذلك، (ويكفرون بما وراءه) يعني: بما سواه، فالهاء تعود على قوله تعالى: (قالوا نؤمن بما أنزل علينا)، ما أنزل عليهم فقط، ويكفرون بما وراء ما أنزل عليهم. (وهو الحق مصدقاً لما معهم) كلمة مصدقاً لما معهم تتضمن الرد على قولهم: (نؤمن بما أنزل علينا)؛ حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها. (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين)؟ فأنتم تزعمون أنكم تؤمنون بما أنزل عليكم، وأن آباءكم وأسلافكم قد آمنوا بما أنزل عليهم من التوارة، والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء، وأنتم تزعمون أنكم تؤمنون فقط بما أنزل عليكم، فماذا فعلتم على ما أنزل عليكم؟! هل التوراة تبيح لكم قتل الأنبياء؟! قال تعالى: (فلم تقتلون)، وعبر بالمضارع، مع أن كلمة: (من قبل) تشير إلى الماضي، فكان الأصل: فلم قتلتم الأنبياء من قبل، لكن أتى بها في صيغة المضارع للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وهذا شأنهم وديدنهم، وهذه عادتهم لا تتغير أبداً، هذه الطبيعة اللئيمة والخبيثة في القتل والغدر والخيانة، فالتعبير بالمضارع لاستمرار أسلافهم في العهد المحمدي وما بعده كما كانوا في العهد الموسوي وما بعده، فالقتل والغدر والخيانة من طبيعتهم ومن فطرهم التي لا يستطيعون منها فكاكاً، وتعلمون الحادث الذي حصل في رمضان السابق من قتل العدد الهائل غدراً وخيانة في داخل مسجد الخليل، فهذا فيهم أمر طبيبعي، ورغم أن الناس ثاروا وقاموا وكأن الأمر جديد على اليهود، إلا أن هذه هي طبيعة اليهود، تجد أحدهم في أحد كتبه يقول: أنا قاتل إذاً أنا موجود، هذا شعارهم! كما يقول الرجل: أنا أفكر إذاً أنا موجود، يعني لا يتصور وجوده بدون أن يكون سفاكاً للدماء قتالاً، ومعروف عن هؤلاء المذابح في صبرا وشاتلا ودير ياسين وغير ذلك من تاريخهم الأسود. هتلر كان يقول: أنا قتلت نصف اليهود واستبقيت النصف الآخر حتى يعلم العالم لماذا قتلت النصف الأول! يعني: حتى يذوقوا أخلاق اليهود ويعرفوا فساد اليهود في الأرض، فقتلت نصفاً وأبقيت نصفاً حتى يعلم الناس لماذا قتلت النصف الأول حينما يرون أخلاقهم وبقاياهم وماذا يفعلون! يقول العلماء: الخطاب لمن حضر محمداً صلى الله عليه وسلم والمراد أسلافهم، وإنما توجه الخطاب لأبنائهم لأنهم كانوا يتولون أولئك الذين قتلوا، كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81]، فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم، فلذلك كانوا راضين عن قتل الأنبياء، ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك نقول: (فلم تقتلون أنبياء الله) المراد به أسلافهم، وإن كان الخطاب موجهاً إلى من كانوا معاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأنهم كانوا يتولون أولئك القتلة الذين قتلوا الأنبياء، والله يقول: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ) فإذا تولوهم فهم بمنزلتهم، وقيل: إنهم رضوا فعلهم فنسب ذلك إليهم (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) يعني: إن كنتم مؤمنين فلم رضيتم بقتل الأنبياء؟! وقيل: (إن) بمعنى (ما)، أداة شرطية، أي: لم رضيتم بقتلهم إن كنتم مؤمنين؟ وقيل: (إن) بمعنى (ما) نافية. تنبيه: (فلم تقتلون أنبياء الله) لم، أصلها لما بالألف، وحذفت الألف فرقاً بين الاستفهام والخبر، ولا ينبغي أن يوقف عليها؛ لأنه إن وقف عليها بلا هاء كان لحناً، ونقف عليها بالهاء في غير القرآن، وهذا بحث متعلق بالتجويد وليس من صلب موضوعنا. نختم بكلام السيوطي في تفسير هذه الآية، يقول: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله)، القرآن وغيره، قالوا: (نؤمن بما أنزل علينا) أي: التوراة، قال تعالى: (ويكفرون بما وراءه)، الواو هنا للحال، (بما وراءه) يعني: سواه أو بعده من القرآن، (وهو الحق) حال، (مصدقاً) حال ثانية مؤكدة، (لما معهم. قل فلم تقتلون) يعني: قل لهم: (فلم تقتلون) أي: قتلتم (أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) يعني: بالتوراة وقد نهيتم فيها عن قتلهم، والخطاب للموجودين في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم لرضاهم به.

البقرة [106 - 120]

تفسير سورة البقرة [106 - 120]

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)

تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) قال الله تبارك وتعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]. قوله عز وجل: (ما ننسخ من آية) (ما) شرطية، ولذلك جزمت فعل الشرط وجواب الشرط، والنسخ هو الرفع والإزالة، تقول: نسخت الشمس الظل، أي: أزالت الظل، فقوله تعالى: (ما ننسخ من آية) أي: ما نُزل حكم آية، من الإزالة. والنسخ على أنواع: إما أن يرفع حكم الآية لكن يبقى اللفظ، وإما أن يبقى الحكم ويرفع اللفظ، وهو ما يعرف بنسخ التلاوة، ولذلك يقول السيوطي: (ما ننسخ من آية) أي: نُزِل حكمها إما مع لفظها أو لا، وفي قراءة بضم النون (ما ننسخ) من أنسخ، فيكون تفسيرها على هذه القراءة: ما نأمرك أو نأمر جبريل عليه السلام بنسخها. (أو نَنْسَأْها) وفي القراءة الأخرى: (أو نُنْسِها) وعلى قراءة (ننسأها) من النسأ، أي: نؤخرها، فلا نزل حكمها ولكن نرفع تلاوتها، أو نؤخرها في اللوح المحفوظ، وفي قراءة بلا همز (أو ننسها) أي: من النسيان، أي: نمحها من قلبك. وجواب الشرط قوله تعالى: (نأت بخير منها) أي: أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر. (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ومما يشمله عموم قدرته: النسخ والتبديل، والاستفهام هنا للتقرير، والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية: (ما ننسخ من آية) أي: ما نبدل من آية بغيرها، كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن، (أو ننسها) أي: نذهبها من القلوب، كما أخبر بقوله: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] وقرئ: (أو ننسأها) أي: نؤخرها ونتركها بلا نسخ، كما أبقى كثيراً من أحكام التوراة في القرآن، وعلى هذه القراءة الثانية: (أو ننسأها) نشر على ترتيب هذا اللف، قوله: (نأت بخير منها) أي: من المنسوخة المبدلة، وذلك كما فعل في الآيات التي شرعت في هذه الملة الحنيفية، شرع فيها اليسر ورفع الحرج والعنت، فكانت خيراً من تلك الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وجاء فيها اليسر والسماحة، ورفعت الآصار والأغلال كما جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]؛ لأن بني إسرائيل شرعت لهم أحكام مغلظة عقوبة لهم وتأديباً، فرفعت في هذه الملة السمحة الحنيفية (أو مثلها) أي: مثل تلك الآيات الموحيات من قبل، فيوحي الله عز وجل إلى نبيه مثلما أوحى من قبل، كما يرى في كثير من الآيات في القرآن الموافقة لما بين يديها مما اقتضت الحكمة بقاءه واستمراره، مثل قول الله تبارك وتعالى في سورة الأعلى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19] ويقول تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] إلى آخره.

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:107]. (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) أي: يفعل فيهما ما يشاء سبحانه وتعالى، (وما لكم من دون الله) أي من غير الله، (من ولي) (من) زائدة، والأصل أن تكون: (ما لكم من دون الله ولي ولا نصير)، (من ولي) يحفظكم (ولا نصير) يمنع عذابه عنكم إن أتاكم. يقول القاسمي: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) فهو يملك أموركم ويدبرها، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ، (وما لكم من دون من ولي) يلي أموركم (ولا نصير) أي: ناصر يمنعكم من العذاب، وقضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة هو الجزم والإيقان؛ لأنه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خير لهم، والعمل بموجبه من الثقة به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، فهذا الخطاب وربط هذا الموقف بصفة علم الله سبحانه وتعالى فيه إرشاد المؤمنين إلى أن يحسنوا ظنهم بربهم تبارك وتعالى، ويؤمنوا به حق الإيمان، ويعلموا أن الله سبحانه وتعالى لا يريد فيهم في الدين ولا في الدنيا إلا ما هو الخير والأفضل لهم. وفيه إرشاد إلى عدم الإصغاء إلى أقاويل اليهود وتشكيكاتهم التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ. ويجب أن نستصحب هنا أن هذه الآيات كلها تمهيد لما سيأتي عما قريب من الآيات التي فيها نسخ القبلة، فهنا نوع من الإرهاصات والتمهيد في القرآن الكريم لما سيأتي عما قريب من نسخ القبلة، فالسبب: تمهيد لقلوب المؤمنين كي لا تفتتن بأقاويل اليهود وتشكيكاتهم بسبب ما وقع من تغيير القبلة، كذلك أيضاً الآيات التي ستأتي عما قريب وفيها قصة إبراهيم عليه السلام وإسماعيل وبناء البيت والتنويه بعظمة البيت وشرفه وعلو مقامه، ففيها أيضاً تنويه إرهاص وتقدمة بين يدي تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام. فالمقصود: أن ينتفي عن المؤمنين الإصغاء إلى أقاويل اليهود وتشكيكاتها التي من جملتها ما قالوا في أمر النسخ، حيث أنكروا نسخ أحكام التوراة، وقالوا: إن التوارة أحكامها لا تنسخ، ولذلك جحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما من عند الله بتغيير من حكم التوارة، فأخبرهم الله سبحانه وتعالى أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء، ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، والذي حمل اليهود على منع النسخ إنما هو الكفر والعناد، وإلا فقد وجد في شريعتهم النسخ بكثرة، وقد كثرت المطاعن التي يأخذها المستشرقون والببغاوات الذين يوردون شبهاتهم من وقوع النسخ في القرآن الكريم، وقد تولى الجواب عنها برد مفحم واف العلامة ابن خليل الرحمن الهندي رحمه الله في كتابه: إظهار الحق، وهو من أروع الكتب التي فيها تفنيد عقيدة النصارى، حيث ذكر فيه أمثلة وافرة مما وقع من النسخ في التوراة والإنجيل، وهي موجودة في الباب الثالث من هذا الكتاب. قال بعض الفضلاء: نزلت هذه الآية لما قال المشركون أو اليهود: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه، يشيرون إلى ما وقع من النسخ في بعض الأحكام، وفي الآية رد عليهم؛ لأن المقصود بنسخ الحكم السابق تهيئة النفوس لأرقى منه، وحتى ترقى النفوس إلى ما هو أعلى منه وأفضل، وهو معنى قوله تعالى: (نأت بخير منها)؛ لأن الخالق تعالى ربى الأمة المسلمة في ثلاث وعشرين سنة تربية تدريجية لا تتم لغيرها بواسطة العوامل الاجتماعية إلا في قرون عديدة، لذلك كان نزول الأحكام عليها على حسب قابليتها، ومتى ارتقت قابليتها بدل الله لها ذلك الحكم بغيره، وهذه سنة الخالق عز وجل في الأفراد والأمم على حد سواء، فإنك لو نظرت في الكائنات الحية من أول الخلية النباتية إلى أرقى شكل من أشكال الأشجار، ومن أول رتبة من رتب الحيوانات إلى الإنسان؛ لرأيت أن النسخ ناموس طبيعي محسوس في الأمور المادية والأدبية معاً، فإن انتقال الخلية الإنسانية إلى جنين، ثم إلى طفل فيافع فشاب فكهل فشيخ، وما يتبع كل دور من هذه الأدوار من الأحوال الناسخة للأحوال التي قبلها يريك الدليل على أن التبدل في الكائنات ناموس طبيعي محقق، وإذا كان هذا النسخ ليس بمستنكر في الكائنات فكيف يستنكر نسخ حكم وإبداله بحكم آخر في الأمة، وهي في حالة نمو وتدرج من الأدنى إلى الأرقى، فهذا باختصار ما أشار إليه القاسمي في هذا المعنى.

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)

تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108] قوله تعالى: (أم تريدون) (أم) هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، فهي تساوي بل والهمزة، يعني: بل أتريدون، وهذه تتكرر كثيراً في القرآن، ولذلك قال السيوطي رحمه الله تعالى: (أم تريدون) بمعنى بل وبمعنى همزة الإنكار، يعني بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى؟ يعني: كما سأله قومه بنو إسرائيل، والإشارة بذلك إلى قولهم: (أرنا الله جهرة) وغير ذلك من أسئلتهم. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: لم يبين هنا الذي سئله موسى من قبل ما هو، ولكنه بينه في موضع آخر وذلك في قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]. (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) أي: من يأخذه بدله بترك النظر في الآيات البينات واقتراح غيرها، (فقد ضل سواء السبيل) أي: أخطأ الطريق الحق، والسواء في الأصل هو الوسط.

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا)

تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً) قال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109]. (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) (لو) هنا مصدرية، ولو تأتي بمعنى أن، كقوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2] أي: ودوا أن تكفروا، كذلك هنا (لو) مصدرية بمعنى أن كقول الشاعر: ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المريض المحنق (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً) هذا مفعول له (من عند أنفسهم) يعني: حسداً كائنا ًمن عند أنفسهم حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة، وهذه إشارة إلى أن الحسد إنما هو من أخلاق الكفار، وأنه يتنافى مع الإيمان، فالمؤمن ليس بحسود، ونرى في كثير من آيات القرآن أن الحسد قرين الكفر، وهو تمني زوال نعمة الله عز وجل عن الغير، (من بعد ما تبين لهم الحق) الموجود في التوراة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، (فاعفوا) عنهم، واتركوهم، وأعرضوا عنهم، (واصفحوا) أي: أعرضوا عنهم فلا تجازوهم بما يقولون، (حتى يأتي الله بأمره) فيهم من القتال، (إن الله على كل شيء قدير). يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى موضحاً بصورة أوسع المراد بقوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره): هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق، والأمر في قوله تعالى: (حتى يأتي الله بأمره) قال بعض العلماء: هو واحد الأوامر، يعني: كلمة (أمره) مفرد، جمعها أوامر أو أمور، فأتى هنا بلفظ المفرد فاحتمل أن يكون (حتى يأتي الله بأمره) المقصود به الأمر الذي جمعه أوامر، أو بأمره الأمر الذي جمعه أمور، يقول: قال بعض العلماء الأمر هو واحد الأوامر، وقال بعضهم: هو واحد الأمور، فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي فإن الأمر المذكور وهو المصرح به في قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وتكون مشابهة لقوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]، والسبيل هو ما نزل فيما بعد من الأحكام فيما يتعلق بالمرأة التي تأتي الفاحشة، فكذلك هنا: (حتى يأتي الله بأمره) إذا قلنا: أمره هو واحد الأوامر، فالمعنى اصبروا واعفوا عنهم ولا تجازوهم إلى أن يأمركم الله بجهادهم، وجهاد أهل الكتاب شرع في سورة التوبة في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وعلى القول بأن الأمر. واحد الأمور، فهو ما صرح الله سبحانه وتعالى به في الآيات الدالة على ما أوقع في اليهود من القتل والتشريد؛ كقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر:2 - 3]، والآية غير منسوخة على التحقيق، والنسخ الذي يقصده الشنقيطي رحمه الله تعالى هنا هو النسخ الاصطلاحي، فبعض الناس يقولون: إن آية براءة نسخت كل موادعة، نسخت الآيات الآمرة بالعفو والصفح والصبر والإعراض وعدم مؤاخذة المشركين والصبر على أذاهم، فيقول: الآية غير منسوخة على التحقيق، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل حدث حديثاً، ففي حالة الضعف كان هذا هو التكليف الخاص بالمؤمنين أن يصبروا ويعفوا ويصفحوا إلى أن يأتي أمر الله بجهادهم. يقول تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:110] أي: من طاعة كصلة رحم وصدقة (تجدوه) أي: تجدوا ثوابه {تجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:110] يعني: فيجازيكم به سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]. (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً) هوداً جمع هائد، (أو نصارى) قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، أي قال اليهود: لن يدخلها إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخلها إلا النصارى، وهنا تصحيح من القاضي محمد كنعان في الحاشية، يقول: قول السيوطي رحمه الله تعالى: قال ذلك يهود المدينة ونصارى نجران لما تناظروا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم. هذا سهو من الجلال السيوطي رحمه الله، فإن التي أشار إليها لم ينزل بشأنها قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، بل نزل فيها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، وذلك أن اليهود والنصارى تناظروا، فقالت اليهود للنصارى: لستم على شيء، وكفروا بعيسى والإنجيل، فقال النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، ونحن نقول للفريقين: صدقتم، لا هؤلاء على شيء ولا هؤلاء على شيء، فقال النصارى لليهود: ما أنتم على شيء وجحدوا نبوة موسى، وكفروا بالتوراة، فنزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء). وهذه الآية إخبار عما يظنه كل فريق لنفسه من النجاة وللآخر من الهلاك، وليست مرتبطة بسبب النزول؛ لأنه لا يشترط أن كل آية في القرآن يكون لها سبب نزول، لكن هذا إخبار عن اعتقاد كل فريق من هذين الفريقين. وفي قوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) أسلوب من الأساليب البلاغية، كلمة: (قالوا) فيها نوع من الإجمال، وهذا كلام ملفوف، ثم نشر وأوضح بقوله: (وقالوا) فالواو فيها لف، ثم نشر ما لفته الواو بقوله: (إلا من كان هوداً أو نصارى). {تِلْكَ} [البقرة:111]، أي: القولة (أمانيهم)، أي: شهواتهم الباطلة، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة:111]، (قل)، أي: قل لهم، (هاتوا برهانكم) حجتكم على ذلك، انظر إلى أسلوب القرآن الكريم في طلب الاعتداد بالبرهان وبالحجة، وطلب إقامة الحجة والكلام بعلم، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، فالذي يدعي دعوى هو المسئول على أن يؤديها بالبرهان، لا أن يدعي الإنسان دعوى ويلزم من يدعوه إليها بأن يثبتها له، المفروض أنت الذي تدعو تكون مسلحاً بالبرهان ولا تتكلم إلا بما قام عليه الدليل والبرهان، وإلا كنت كاذباً، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)؛ فالصادق هو من يأتي بالبرهان، (إن كنتم صادقين) فيما تقولون.

تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره)

تفسير قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره) يقول تبارك وتعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112] (بلى) المقصود بها: بلى يدخل الجنة غيرهم، اليهود قالوا: لا يدخل الجنة غير اليهود، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، ولا يشاركنا فيها غيرنا، فجاءت الآية بقوله: (بلى)، وهذا إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة، ونحن نعلم أن بلى تأتي لإثبات ما نفي، وكأن قائلاً يقول: من هؤلاء الغير؟ فيأتي A ( من أسلم وجهه لله) أي: انقاد لأمر الله سبحانه وتعالى، وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء، فإذا أسلم الإنسان وجهه لله سبحانه وتعالى فغيره من الأعضاء أولى؛ لأن الوجه هو أشرف أجزاء البدن، فحينما يسجد الإنسان على الأرض، ويضع وجهه وجبهته التي هي أشرف جزء في بدنه على الأرض تذللاً لله سبحانه وتعالى فأولى أن ينقاد لله غير ذلك من أعضاء بدنه، (بلى من أسلم وجهه لله) أي انقاد لأمره، (وهو محسن) أي: موحد لله سبحانه وتعالى موافق لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزيد حقاً من حقوق التوحيد وهو من أوكد حقوق التوحيد يقترن دائماً بتوحيد المعبود: ألا وهو توحيد الطريق الموصلة إليه، فأي إنسان لا ينجو إلا بهذين التوحيدين: توحيد العبادة، وتوحيد الاتباع، توحيد المعبود وهو الله سبحانه وتعالى، وتوحيد الطريق الموصلة إليه، وهو طريق على رأسه محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، (فله أجره عند ربه)، أي: ثواب عمله، وهو الجنة، (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)

تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113]. (وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) أي: ليسوا على شيء يعتد به، وإن كانوا هم على شيء باطل، فلذلك لا بد هنا في تفسيرها أن نقول: ليست النصارى على شيء حق، ولكنهم على شيء باطل، فبما أنه لم يذكر صفة البطلان هذه فلا بد من هذا التقدير، أن تقول: على شيء معتد به من الدين، أو على شيء له قيمة يذكر أو ينجي، لأن ما معهم مهلكهم، فهذا إخبار عن كفر اليهود، قالوا: ليست النصارى على شيء، وبالتالي كفروا بالمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من أجل ذلك، (وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) أي: شيء معتد به، وكفرت النصارى بموسى، (وهم يتلون الكتاب) الفريقان: فريق اليهود وفريق النصارى (يتلون الكتاب)، والكتاب هنا اسم جنس؛ لأنهما في الحقيقة كتابان، التوراة والإنجيل، فالمقصود هنا اسم جنس، مثل قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] على أحد التفسيرين، وفي الكتاب المنزل على اليهود تصديق عيسى، وفي كتاب النصارى تصديق موسى، والجملة (وهم يتلون الكتاب) جملة حالية. وهذه الواقعة بعينها وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كل طائفة من أهل البدع والضلال تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن، فهذا المعنى موافق لما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) يعني: من غير اليهود والنصارى؟ فمما وافق فيه الضلال من الفرق الضالة في هذه الأمة اليهود والنصارى: هذا الانقسام والتفرق في الدين بأن تكفر كل طائفة من لا يوافقها، وكفرت كل طائفة الأخرى مع اتفاقهم جميعاً على تلاوة القرآن! (كذلك قال الذين لا يعلمون) يعني: كما قال هؤلاء، والإشارة إلى اليهود والنصارى، (قال الذين لا يعلمون) المقصود بالذين لا يعلمون هم المشركون من العرب وغيرهم، (مثل قولهم) هذا بيان لمعنى كلمة (كذلك)، أي: قالوا لكل ذي دين: ليسوا على شيء، فكما قالت اليهود للنصارى: لستم على شيء، وقالت النصارى لليهود: لستم على شيء، فإن هذه العبارة التي واجهوا بها الحق ليسوا هم وحدهم في ذلك، بل قالها أيضاً المشركون سواء مشركوا العرب أو غيرهم ممن دعاهم الرسل إلى التوحيد. والآية فيها توبيخ شديد لليهود والنصارى، لماذا؟ لأنه وصفهم بأنهم أتوا بما أتى به الذين لا يعلمون، فالمشركون العرب كانوا أمة أمية، ولم ينزل عليهم كتاب من قبل، أما اليهود والنصارى فأنزلت عليهم الكتب، وفيها الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالرسل والرسالات والقدر وسائر أمور الإيمان، فكان المفترض أن يكون أهل الكتاب أول مؤمن بالقرآن، ففي هذه الآية توبيخ شديد لهم؛ لأنهم بفعلهم وبقولهم هذا نظموا أنفسهم -مع علمهم. يقول تعالى: (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) يعني من أمر الدين، فيدخل المحق الجنة والمبطل النار.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) الآيات السابقة في توبيخ أهل الكتاب، فبعد توبيخ أهل الكتاب توجه الخطاب إلى المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من مكة، ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام، وصدوهم عنه عام الحديبية، وكل هذا تخريب للمسجد الحرام، وعمارة المسجد إحياء المكان وشغله بما وضع له. عمارة المسجد لها معنيان: عمارة المساجد ببنائها، وأيضاً عمارة المسجد بإحياء هذ المكان وإشغاله بما وضع له، فالمسجد أقيم لعبادة الله، فعمارته بالاعتكاف، بصلاة الجماعة، بقرءاة القرآن، بمجالس الذكر، هذه العمارة أو أحد نوعي العمارة المشار إليها في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، والمقصود هنا توبيخ المشركين بعد توبيخ أهل الكتاب. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] يعني: لا أحد أظلم ممن صد عن بيوت الله سبحانه وتعالى كي لا يذكر فيها اسمه بالصلاة والتسبيح والذكر، (وسعى في خرابها)، خرابها إما أن يكون بالهدم أو بالتعطيل. يقول السيوطي: نزلت إخباراً عن الروم الذين خربوا بيت المقدس، أو نزلت في المشركين لما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية من البيت، وصحح القرطبي رحمه الله تعالى أنها عامة في كل مسجد إلى يوم القيامة، والآية عامة، والوعيد فيها عام لكل من يرهب أو يخيف أو يؤذي أو يتسبب في تخريب بيوت الله سبحانه وتعالى؛ فاللفظ هنا عام ورد بصيغة الجمع، فتخصيصها قول ضعيف؛ لأن الآية: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله)، فإذا جاءت بصيغة الجمع وفي سياق العموم فلا يصح تخصيصها، ويكون القول بتخصيصها بمسجد واحد كبيت المقدس أو المسجد الحرام عام الحديبية قولاً ضعيفاً، فالقول الآخر للعموم يشمل هذه الأمثلة، ويشمل كل من يخرب بيوت الله سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة. {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] (أولئك) الذين يخربونها هذا التخريب (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، قال بعض العلماء: هو خبر بمعنى الأمر، والمقصود بذلك: أخيفوهم بالجهاد، فلا يدخلها أحد منهم آمناً، يعني: لا يدخلها المشركون الذين يخربونها آمنين أبداً، فأخيفوهم فلا يدخلون بيوت الله وهم آمنون، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [البقرة:114]، يعني: هوان بالقتل والسبي والجزية، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] وهو النار. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة: قال بعض العلماء: نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ست، وعلى هذا القول فالخراب معنوي، أي أن معنى قوله: (وسعى في خرابها) خراب معنوي، وهو خراب المساجد بمنع العبادة فيها، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:25]. وقال بعض العلماء: الخراب المذكور هو الخراب الحسي بالهدم، والآية نزلت فيمن خرب بيت المقدس، وهو بختنصر أو غيره، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7].

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله)

تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:115]. يقول السيوطي: نزلت لما طعن اليهود في نسخ القبلة أو في صلاة النافلة على الراحلة في السفر حيث ما توجهت به الراحلة، لأنه في السفر يجوز للإنسان أن يصلي النافلة على الراحلة، ولا يشترط أن يستقبل القبلة في أثناء صلاة النافلة. (ولله المشرق والمغرب) المقصود من المشرق والمغرب كل الأرض؛ لأن المشرق والمغرب هما ناحيتاها؛ لأن الأرض إما شرق وإما غرب، (فأينما تولوا) وجوهكم في الصلاة بأمره، فالمفعول هنا محذوف تقديره: وجوهكم، فأينما تولوا وجوهكم في الصلاة بأمره، (فثم) هناك، (وجه الله) أي: قبلته التي رضيها، (إن الله واسع عليم) واسع يسع فضله كل شيء، عليم بتدبير خلقه.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولدا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً) قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116]. قوله عز وجل: (وقالوا) في بعض القراءات بواو: (وقالوا اتخذ الله ولداً) وفي قراءة أخرى: (قالوا اتخذ الله ولداً) وهما قراءتان سبعيتان متواتران، بالواو وبدون الواو، والمقصود بها اليهود والنصارى والمشركون، لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله، فالآية تعود على اليهود والنصارى وكل من زعم لله ولداً، {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]، وكلمة (ولد) تعم الذكر والأنثى، كما في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فأدرج الذكر والأنثى في صفة الأولاد. (وقالوا اتخذ الله ولداً) فقال الله سبحانه وتعالى رداً عليهم: (سبحانه) يعني: تنزيهاً له عن الولد، (بل له ما في السماوات والأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، ملكاً: فهو سبحانه وتعالى مالك من في السماوات ومن في الأرض، وخلقاً: فهو خالقهم سبحانه وتعالى، وعبيداً: فهو ربهم، والملكية تنافي الولادة، وعبر بما تغليباً لا يعقل، وإن دخل فيه من يعقل من الإنس والجن والملائكة. (كل له قانتون) أي: مطيعون، كل بما يراد منه، وفيه تغليب العاقل، وإن كان القنوت والخشوع والانقياد لأمر الله لا يصدر فقط من العاقل، بل يصدر مما سوى الإنس والجن والملائكة من الكائنات، وقد سبق أن عرضنا بحثاً مستفيضاً في هذا الأمر بعنوان: عبودية الكائنات، ولخصنا فيه رسالة لبعض إخواننا الأفاضل وهي رائعة جداً في هذا الباب، وفيها إثبات العبودية للجبال والأحجار وغير ذلك من الجمادات، فكل الكائنات عبيد لله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض) قال الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] أي: موجدهما على غير مثال سابق، فكل كلمات الابتداع أو البدعة أو الإبداع هي للتعبير عن الشيء الذي يوجد دون أن يوجد له نظير من قبل، فالاختراع والابتداع على غير مثال سابق، فتقول مثلاً: هذا شيء بديع، يعني حسن بالغ في الحسن مبلغاً؛ بحيث أنه لم يسبقه نظيره في الجمال أو الحسن، كذلك قوله: (بديع السماوات والأرض) يعني: أنشأهما وفطرهما وخلقهما على غير مثال سابق لهما. {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [البقرة:117] يعني: أراد أمراً، أي: إيجاد هذا الأمر، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] بالرفع، أي: فهو يكون، وفي قراءة بالنصب جواباً للأمر. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: (قالوا اتخذ الله ولداً) هذا الولد المزعوم -على زاعمه لعائن الله- قد جاء الرد عليه مفصلاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]، وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]. وهذه الآية نحتاج إلى أن نزيدها إيضاحاً، ولذلك ننقل هنا كلام القاسمي رحمه الله تعالى: يقول: (وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون) يريد هنا الذين قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، والملائكة بنات الله، هؤلاء هم المقصودون بكلمة (وقالوا) بالواو، فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم، وقولهم: إن لله ولداً، فقال سبحانه وتعالى: (سبحانه) أي: تقدس وتنزه عما زعموا تنزهاً بليغاً. (بل له ما في السماوات والأرض) (بل) هنا كلمة يراد بها الإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات، أي: ليس الأمر كما زعموا، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة، فالله سبحانه وتعالى خالق هذه الموجودات بمن فيها هؤلاء الذين زعموا أنهم أولاد الله أو بنات الله، فهو خالقهم وهو مالكهم، وهو ربهم سبحانه وتعالى. وقوله: (كل له قانتون)، التنوين في كلمة (كل) عوض عن الاسم الذي يكون مضافاً إليه، كما تقول مثلاً: كل رجل قائم، فبدل أن تكرر كلمة رجل تضع تنويناً في (كل) فينوب عن كلمة رجل، فتقول: كلٌ قائم، فالتنوين الذي يلحق كلمة كل هو تنوين التعويض عن المضاف إليه، فكذلك هنا (كل له قانتون) أي: كل ما فيهما.

حجج نفي الولد عن الله تعالى

حجج نفي الولد عن الله تعالى كل ما في السماوات والأرض كائن ما كان من أولي العلم وغيرهم (له قانتون) أي منقادون لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء، لماذا؟ لأن من حق الولد أن يكون من جنس الوالد؛ فهؤلاء الذين تعبدونهم أو الذين تزعمون أنهم أولاد الله كالمسيح وعزير والملائكة؛ كلهم قانتون لله سبحانه وتعالى منقادون له، لا يستعصي شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، فبالتالي لا يتصور أنهم يجانسون الله سبحانه وتعالى؛ لأن من حق الولد أن يكون من جنس الوالد. قال الراغب في تفسيره: نبه على أقوى حجة على نفي ذلك، أي: أن هذه الآية فيها أقوى حجة على نفي الولد لله سبحانه وتعالى، يقول: وبيانها هو أن لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله. كل مخلوق في هذا العالم سواء كان مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً، مصنوعاً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، أي: بصفة عارضة، فمثلاً: صنعت السيارة للركوب وتوصيل الناس إلى الأماكن التي يحتاجونها، لكن هل السيارة مثلاً تتخذ غرفة لاستقبال الضيوف؟ يمكن أن يحصل للإنسان أن يستقبل ضيوفه مثلاً بصفة عارضة ويجلسهم في غير مكان الجلوس المعتاد، لكن هل هذا الغرض الأساسي لها؟ فهذا مثال في المعمولات المصنوعة، أما المخلوقات الطبيعية فأيضاً كل كائن خلق لهدف أساسي له غرض وكمال أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره عرضاً، فاليد مثلاً خلقت للبطش والتناول والأخذ والعطاء، فهذه وظيفة اليد، والرجل خلقت للمشي، وإن كان الإنسان قد يمشي على يديه، ويمكن أن يتناول الأشياء بقدمه، لكن هل هذا هو الغرض الأسمى المقصود منه؟ لا، كذلك السكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر. يقول: إن لكل موجود في العالم مخلوقاً طبيعياً أو معمولاً صناعياً غرضاً وكمالاً أوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حال والرجل للتناول، لكن ليس على التمام، والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه لما لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه؛ فجعل له بذراً لحفظ نوعه. كل إنسان لابد أن يموت، له فترة حياة معينة ثم يموت بعدها، فمن أجل ذلك جعل الله سبحانه وتعالى الحكمة تعمير هذه الأرض وبقاء النوع الإنساني فجعل البذر -وهو ما يخرج من صلب الرجال- بذوراً وحرثاً كي يتوالى ويخلف بعضهم بعضاً، أجيالاً تخلف أجيالاً ولا تخرب الأرض، بل يبقى النوع الإنساني من خلال هذا التوالد ومن خلال هذا التناسل، ويقوي ذلك: أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان، فهل الشمس أو القمر تفنى وتموت كما يموت النبات والحيوان؟ لا، ولذلك لم يجعل الله للشمس والقمر بذوراً حتى إذا ما فنيت أو ماتت يخلفها غيرها، فهذه المخلوقات لما لم يجعل الله لها سبحانه وتعالى الفناء الذي هو فناء النبات والحيوان لم يجعل لها بذراً. يقول: ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم بلا ابتداء ولا انتهاء سبحانه وتعالى، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى، ولهذا قال: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:171] أي: هو منزه عن السبب المقتضي للولد، يعني: الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكون له ولد؛ لأن الله هو الأول الذي لا شيء قبله، وهو الآخر الذي لا شيء بعده، وكل شيء هالك إلا وجهه، قال الله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فالشاهد من هذا: أن الغرض من اتخاذ الولد؛ بقاء النوع الإنساني، فالله هو الباقي الذي لا يفنى ولا يزول ولا يبيد سبحانه وتعالى، فمن ثم لا حاجة لله سبحانه وتعالى الذي يتنزه عن الافتقار وعن الحاجة في الولد، فهو الغني وأنتم الفقراء إلى اتخاذ الولد، هذا هو المعنى الأول، ولذلك قال الله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً) انظر A ( سبحانه) تنزه، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] جاء A { قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116] تنزيهاً لك، هذا لا يليق بك، فكيف أقوله؟! كذلك هنا قال عز وجل: (سبحانه) هو منزه عن هذا؛ لأن هذا نقص، ولا يليق هذ النقص بالله سبحانه وتعالى. يقول: ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما يعني: أن الإنسان يقتني الأولاد لفقره؛ يريد امتداد نسله، فهذا نوع من الفقر، ونوع من الاحتياج إلى امتداد النسل وبقاء النوع، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، أو الفقر إلى أن يعينه هذا الولد ويتحمل عنه مسئوليات الحياة، أو يعينه لشدة حاجته إليه. قال: ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ما، وذلك لما تقدم أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلفه؛ لأن الإنسان غير كامل في نفسه، بين تعالى بقوله: (بل له ما في السماوات والأرض) أنه لا يتوهم له فقر، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سد لفقره، فصار في قوله: (له ما في السماوات والأرض) دلالة ثانية، إذا كان الله سبحانه وتعالى غنياً حميداً له ما في السماوات والأرض فهل يحتاج ويفتقر إلى ولد؟ ثم زاد حجة بقوله: (كل له قانتون)، فإذا كان هو يملك هؤلاء جميعاً بما فيهم المسيح وعزير والملائكة، (بل له ما في السماوات والأرض) هؤلاء عبيده، وهو ربهم ومالكهم وخالقهم، فكيف يحتاج إليهم؟! ولما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال عز وجل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72]، بين أن كل ما في السماوات والأرض مع كونه ملكاً له قانت له أيضاً: إما طائعاً وإما كارهاً وإما مسخراً، يعني كل من في السماوات والأرض قانتون بمعنى مطيعون منقادون، إما طواعية وإما رغم أنوفهم تجري عليهم أحكام الله، يمرضه إذا شاء أن يمرضه، ويميته إذا شاء أن يميته، ويبتليه إذا شاء أن يبتليه، ولا يملك دفعاً لأمره، هذا هو القنوت الاضطراري، وهو غير القنوت الاختياري الذي عليه أهل الطاعة والتوحيد، وهذا كقوله: {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15] وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، وهكذا أبلغ الحجة لمن هو على المحجة.

الشبه التي جعلت اليهود والنصارى تنسب لله الولد

الشبه التي جعلت اليهود والنصارى تنسب لله الولد قال الراغب: إن قيل: من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؟ قيل: قد ذكر في الشرائع المتقدمة: أنهم كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر، وإن الله هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك: أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب معبود الابن من وجه -يعني مخدومه؛ لأن الابن يخدم أباه- وكانوا يقولون للملائكة: آلهة، كما قالت العرب للشمس: إله، وكانوا يقصدون معنى صحيحاً، كما يقصد علماؤنا بقولهم: الله محب ومحبوب ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وكما يقال للسلطان: الملك، وقول الناس: رب الأرباب وإله الآلهة ومالك الملوك، مما يكشف عن تقدم ذلك التعارف، ويقوي ذلك: ما يروى أن يعقوب كان يقال له: بكر الله، وأن عيسى كان يقول: أنا ذاهب إلى أبي، ونحو ذلك من الألفاظ. وهذه عبارات وجدت في الشرائع السابقة بهذه المعاني، وهي معاني صحيحة، لكنها ألفاظ متشابهة أدت إلى أن الجهلة فيما بعد طوروا لجهلهم هذه الألفاظ إلى معنى الولادة الطبيعية، فصار ذلك منهياً عن التفوه به في شرعنا، فلا يصح في شرعنا أن نستعمل هذه العبارات تنزهاً عن هذا الاعتقاد، بل نهي عن ذلك في شرعنا واجتنب حتى صار إطلاقه -وإن قصد به ما قصده هؤلاء- قرين الكفر. ثم قال عز وجل: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون). (بديع السماوات والأرض)، أي: مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق، وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له: أبدعت، ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة: مبتدع؛ لأنه أتى بما لم يسبق إليه السلف الصالح، ولأنه يأتي في دين الإسلام بما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم بولادة عيسى بلا أب، وعلم عزير بلا تعلم، لأنهم قالوا: نحن نعبد عيسى لأن عيسى ليس له أب من البشر، فتشبثوا بهذا كحجة على عقيدتهم الباطلة بولادة عيسى بدون أب، وكذلك اليهود الذين عبدوا عزيراً تشبثوا بعلم عزير بلا تعلم، فقالوا: هو ابن الله، وتقرير الحجة من خلال هذه الآية وهي قوله: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) إن الله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها، فلا يبعد أن يوجد أحد بلا أب، أو يتعلم أحد بلا واسطة بشر. يقول الراغب: ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة شرحها: إن الأب هو عنصر للابن منه تكون، والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصراً للولد؛ لأن الأب عنصر الابن. يعني الابن يتكون من أبيه، والله سبحانه وتعالى هو الذي أبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصراً للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً. (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) أي: إذا أراد أمراً، والقضاء: هو إنفاذ المقدر، والمقدر: ما حد من مطلق معلوم.

خلق الله المخلوقات بكلمة كن

خلق الله المخلوقات بكلمة كن هنا بحث مفصل جداً نختصره اختصاراً شديداً: بعض الناس أورد سؤالاً على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال: إن كان هذا المخاطب (بكن) موجوداً فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدوماً فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ والجواب مفصل وطويل وممتع في نفس الوقت، لكن باختصار شديد جداً نقول: إن قوله تبارك وتعالى كما في هذه الآية: (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون) هذا السؤال يكون صحيحاً إذا كان المخاطب معدوماً بالفعل، يقول تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] لكن هل ذلك الشيء معدوم؟ ليس بمعدوم في الحقيقة، بل هو معلوم، وسبق في علم الله سبحانه وتعالى بأنه يخلق، فذلك الشيء معلوم قبل إبداعه، وقبل توجيه هذا الخطاب إليه، وبذلك كان مقدراً مقضياً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء)، كما في صحيح مسلم، فهذا الشيء الذي يخاطب هو شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي، يعني: له وجود في علم الله، وكتب الله أنه يكون، فهو له وجود كتابي، وله وجود كلامي بقوله: (كن) أي: كن كما سبق في علم الله سبحانه وتعالى، وإن كانت حقيقته -التي هي الوجود العيني- ليست ثابتة في الخارج، لكنها ثابتة في علم الله، وفي كلام الله، وفي كتابة المقادير في اللوح المحفوظ. فإذاً الخطاب هو موجه إلى من توجهت إليه الإرادة، وتعلقت به القدرة، وخلق وكون، كما قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] فالذي يقال له: كن. هو الذي يراد، وهو حين يراد قبل أن يخلق له ثبوت وتميز علمي تقديري، ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم. ومعلوم أن جميع المخلوقات لا توجد عيناً في هذا الوجود إلا بعد وجودها في العلم والإرادة، أما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه الخطاب التكويني إليه مثل توجيه الإرادة إليه فليس ذلك محالاً، بل هو أمر ممكن، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه، فيقدر أمراً في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب الذي قدره في نفسه، ويكون حصول المراد المطلوب حسب قدرته، فإن كان قادراً على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم، وإن كان عاجزاً لم يحصل، وقد يقول الإنسان: ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب، فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه، والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وقال القاسمي رحمه الله تعالى هنا: (وإذا قضى) أراد، (أمراً) إيجاد أمر، (فإنما يقول له كن فيكون) يعني فهو يكون.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:118] من كفار مكة، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} [البقرة:118] هلا يكلمنا الله، يقترحون على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم الله خطاباً مباشراً، {أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:118] يعني: مما اقترحناه على صدقك، ((كَذَلِكَ)) [البقرة:118]، كما قال هؤلاء {قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [البقرة:118] من كفار الأمم الماضية لأنبيائهم، فليست القضية قضية حجة، فإن الله سبحانه وتعالى لا يرسل نبياً إلا مؤيداً بالحجة والمعجزة والبراهين، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون جحوداً وعناداً، وإلا فجميع الأنبياء أتوا بحجج، فحتى لو استجاب الله سبحانه وتعالى لهم لما يطلبون لما ازدادوا إلا كفراً وعتواً، ولذلك أعرض الله سبحانه وتعالى عن إجابتهم. {مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:118] من التعنت وطلب الآيات، {تشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] في الكفر والعناد. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال في آية أخرى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] تشابه الكلام حتى كأن كل جيل كان يوصي الذي بعده: إذا أتاك النبي فقل له نفس هذا الكلام! كأنهم تواصوا به، وقيل: يوصي بعضهم بعضاً بها، فيكون ردهم بنفس الألفاظ والشبهات والشتائم والظلم، تشابهت قلوبهم في الكفر والعناد، وبالتالي تشابهت مواقفهم، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118] يعني: يعلمون أنها آيات فيؤمنون، فاقتراح آية معها تعنت، فهلا يوقنون بهذه الآيات التي جاءتهم، ولا يقترحون آيات جديدة؛ لأن هذا يكون تعنتاً.

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا)

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً) قال عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة:119] يا محمد صلى الله عليه وسلم، {بِالْحَقِّ} [البقرة:119] أي: بالهدى، {بَشِيرًا} [البقرة:119] أي: تبشر من أجاب إليه بالجنة، {وَنَذِيرًا} [البقرة:119] أي: تنذر من لم يجب إليه بالنار، {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119] وهي النار، وأصحاب الجحيم هم الكفار، أي: لا نسألك: ما لهم لم يؤمنوا؟ ولن نحاسبك على استجابتهم، لكن نحاسبك على البلاغ: هل بلغتهم أم لا؟ وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ، قال الله له: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]، وقوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] فسؤال المرسلين: هل بلغتم البلاغ المبين أم لا؟ ولا يحاسب الأنبياء على كفر الكافر؛ لأن الهداية لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، فمعنى قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} يعني: لن نسألك ما لهم لم يؤمنوا، إنما عليك البلاغ، وعلى هذه القراءة تكون (لا) نافية، وفي قراءة بالجزم (ولا تَسألْ) بفتح التاء على الخطاب، على أنها ناهية، ينهاه عن أصحاب الجحيم فهم هالكون، فلا تسأل عنهم ولا تهتم لهم.

تفسير قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى)

تفسير قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى) قال الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] أي: أن اليهود لن يرضوا عنك حتى تكون يهودياً، والنصارى لن يرضوا عنك حتى تكون نصرانياً، وهذا خبر الله سبحانه وتعالى، ومن أصدق من الله حديثاً؟ ومن أصدق من الله قيلاً؟ فنأخذ القضية على أنها يقينية مسلم بها، ولا نشك فيها لحظة، وأنهم بدون ذلك لن يرضوا، ومهما فعلتم لن يرضوا أبداً! ففي هذا مخرج من كثير من المضائق التي يعيشها المسلمون في هذا الزمان، يطبقون خداعهم ونفاقهم وكذبهم ودجلهم، لكن إذا استصحبنا هذه الآية، وأن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي يعلم دخائل نفوسهم، وما جبلوا عليه من الصفات الذميمة والغدر والخيانة والغش؛ لوجدنا المخرج، فالله يقول: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، وما دمت لم تصل إلى هذه الغاية فلن يرضوا عنك أبداً مهما فعلت، وهذا مشاهد محسوس كما تعلمون. {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120]، تنفي المستقبل، فهم لن يرضوا أبداً، ولهذا فإن مثل هذه المعاني جاءت في صيغة الاستمرار كثيراً، (ولا يزالون) استمرار، {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] وغيرها من الآيات في نفس هذا المعنى تفيد ثبات هذا الموقف. {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120] أي: الإسلام (هو الهدى) وما عداه الضلال، ولا يمكن أبداً أن يوجد طريق آخر غير دين الإسلام يكون فيه هدى. {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] (ولئن) هذه اللام لام القسم، أي: والله لئن اتبعت أهواءهم التي يدعونك إليها فرضاً، وإلا فإن الرسول عليه الصلاة والسلام معصوم مما هو دون ذلك بكثير، فكيف بهذا الأمر الخطير، ولكن هذا نوع من الفرض لبيان هذه المعاني، كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].

البقرة [124 - 134]

تفسير سورة البقرة [124 - 134]

تفسير قوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات)

تفسير قوله تعالى: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]. يقول السيوطي: (وإذ) واذكر إذ، (ابتلى) اختبر، (إبراهيم) إبراهيم مفعول به مقدم للاهتمام به، (ربه بكلمات) فالذي يبتلي هو الله سبحانه وتعالى، لكن قدم المفعول هنا للاهتمام؛ لأن المبتلى هو إبراهيم، وفي قراءة: (إبراهام)، وكلمة إبراهيم عليه السلام فيها ست لغات: إبراهيم وهي اللغة الفاشية المشتهرة، وإبراهُم، وإبراهَم، وإبراهِم، وإبراهام، وإبرهم كما قال عبد المطلب: عذت بما عاذ به إبرهم مستقبل القبلة وهو قائم وقال أيضاً: نحن آل الله في كعبته لم يزل ذاك على عهد إبرهم فاللغة الفاشية والمشهورة في ذلك هي إبراهيم، أما إبراهام فهي اللغة التي يتعامل بها أهل اللغات الأعجمية. وإبراهيم باللغة السريانية يعني أب رحيم، وكثيراً ما يقع الاتفاق بين اللغة السريانية واللغة العربية، فإن كلمة إبراهيم تفسيرها: أب راحم لرحمته بالأطفال، ولذلك جعل إبراهيم عليه السلام هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة، وقد دل على هذا ما خرجه البخاري في حديث الرؤيا الطويل عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في تلك الروضة العظيمة شيخاً كبيراً جالساً وحوله أطفال صغار كثيرون، فقال له الملكان: إن هذا إبراهيم عليه السلام، وحوله أولاد الناس الذين يموتون وهم صغار، فهو لرحمته بالأطفال كان كافلاً لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة.

اجتماع الأمم على حب إبراهيم

اجتماع الأمم على حب إبراهيم قوله: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) يقول السيوطي: بأوامر ونواه كلفه الله سبحانه وتعالى بها، قيل: الكلمات هي مناسك الحج، وقيل: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وفرق شعر الرأس، وقلم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، كما جاء في بعض الأحاديث: (خمس في الرأس وخمس في الجسد)، ومنها كما ترون خصال الفطرة. (فأتمهن) أي: أداهن تامات، (قال) الله تعالى له عليه السلام: (إني جاعلك للناس إماماً) أي قدوة في الدين. وهذه من دقة السيوطي رحمه الله تعالى، إمام دين لا إمام دنيا كما سيأتي، وفعلاً هذا ما كان حيث جعله الله سبحانه وتعالى محل اجتماع الأمم كلها عليه، الأمم الثلاث اليهود والنصارى والمسلمون كلهم مجتمعون على حب إبراهيم عليه السلام، واتخاذه إماماً وقدوة، والجميع يدعون أنه كان على دينهم، حتى اليهود يزعمون أن إبراهيم كان يهودياً، والنصارى يزعمون أنه كان نصرانياً، وبلا شك أن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68] كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما بعد، لكن الخلاصة: أنه إمام وقدوة لجميع الأمم، فقد اجتمعت الأمم على محبته وإمامته، واعترف به كل أهل الأديان، سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو المسلمون، ونحن نعلم الأحداث الأخيرة التي وقعت في مسجد الخليل، والمجزرة التي حصلت للمسلمين وهم يصلون في رمضان ناشئة عن اليهود، الذين يعتبرون أن لهم حقاً في هذا المكان، حيث يزعمون أن فيه قبر الخليل عليه السلام وبعض آله، فالمسجد مبني أساساً وكان فيه المسلمون، والمسجد نفسه مقفل من الداخل، فقالوا: إبراهيم هذا أبونا، وأنتم -أيها المسلمون- تقولون هو أبوكم أنتم، فلابد لنا من نصيب في المسجد، ثم قسموا المسجد من الداخل بحبل، جزء صغير لليهود يصلون فيه، وكانوا يصلون أحياناً مع المسلمين في نفس الوقت داخل المسجد، وإذا بالحبل يتسع في نصيب اليهود، وينحاز على نصيب المسلمين إلى أن بلغ تقريباً الشطر أو أكثر من ذلك، ولما وقعت هذه الحادثة كنا نقول: كيف تمكنوا وبهذه السهولة أن يدخلوا المسجد ويقتلوا هذا العدد من المسلمين وبهذه البساطة؟! ثم بعد ذلك عرف أن هذا هو الوضع، وأن المسجد مقسم بحبل من الداخل بين اليهود وبين المسلمين، وأن اليهود يدخلون في نفس الوقت يصلون مع المسلمين اعتداداً بأبيهم إبراهيم عليه السلام. (قال ومن ذريتي) يعني واجعل من أولادي أئمة، وبعض العلماء قالوا: هي على الاستفهام، يعني: ومن ذريتي ماذا يكون؟ كأن إبراهيم يسأل، وهذا تفسير آخر، (قال لا ينال عهدي الظالمين) أي: لا ينال عهدي بالإمامة الكافرين منهم، فدل على أن الإمامة تنال غير الظالم. نعود لبعض التفصيل في تفسير هذه الفقرة من الآيات، يقول تبارك وتعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم، ذكر الجميع -سواء في ذلك اليهود أو النصارى أو مشركي العرب- ما أنعم به على إبراهيم عليه السلام، تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين باطلاع هذا النبي الأمي الذي لم يخالف عالماً قط على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء، وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هنالك مصلى تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلي قدره، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر حث على الاقتداء به في توحيده وحنيفيته، كذا في ذكر الإسلام والتوحيد. وهذا الربع من هذا الجزء يشتمل على معان عظيمة جداً في قضية الإسلام والتوحيد، وفي ذكر الإسلام والتوحيد. (وإذ ابتلى) إذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التنويه، أي: واذكر لهؤلاء جميعاً من العرب واليهود والنصارى الذين يفتخرون بإبراهيم ويعتدون به عليه السلام، اذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ليتذكروا؛ لما فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم عليه من الباطل، ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا في الآية التي قبلها مباشرة: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47] أي: واذكروا -يا بني إسرائيل- إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتهون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرهم، أي: واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به، فوفوا وتمسكوا بالإسلام فكونوا مثله، فما لكم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله في إيفاء العهد، والثبات على الوعد؛ ليجازيكم الله على ذلك جزاء المحسنين؟

ابتلاء الله لإبراهيم وتوفيته بما ابتلي به

ابتلاء الله لإبراهيم وتوفيته بما ابتلي به الابتلاء في الأصل الاختبار، (وإذ ابتلى) يعني اختبر، أي: تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، هذا هو تعريف كلمة الابتلاء أو الاختبار. والاختبار تطلب الخبر بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالباً فعله أو تركه، والاختبار إذا وقع من مخلوق في حق مخلوق فإنما يختبره ليظهر له ما لا يعلمه من حاله، وهو من الله لإظهار ما قد علم، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] (لنبلوكم) أو (ليبلوكم) أو ما شابه ذلك من الكلمات فإنما المقصود من هذا الابتلاء، مثل قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] حتى نعلم علم شهادة وإظهار بعدما علمناه علم غيب، فإنه بلا شك وقطعاً أن الله سبحانه وتعالى يعلم هذه الأشياء قبل وقوعها، وإنما يبتلي العباد ليعلم علم شهادة بعد وقوعها في عالم الواقع، فالاختبار من الله لإظهار ما قد علم، وعاقبة الابتلاء: ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً، فلذا تجوز إضافة الابتلاء إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] يعني: بشرائع وأوامر ونواه، وقوله (كلمات) يرجع تحقيقها إلى كلام الباري تبارك وتعالى، يعني أن الكلمات هي كلمات الله، وكلام الله الذي تكلم الله سبحانه وتعالى به، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به، كما سمي عيسى كلمة؛ لأنه صدر عن كلمة (كن) فهذا من باب تسمية الشيء بمقدمته، يعني عيسى عليه السلام خلق بكلمة: (كن) فلما خلق بكلمة (كن) التي هي مقدمة خلقه سمي كلمة الله من باب تسمية الشيء بمقدمته، كما قال سبحانه: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء:171] كذلك أيضاً هنا (بكلمات) أي: كلام الله؛ لأن تكليف إبراهيم عليه السلام إنما تم بكلام الله، فتكلم الله مكلفاً جبريل أن يبلغ إبراهيم عليه السلام أحكاماً معينة: أوامر ونواهي، وشرائع، فتكلم الله بها فأوحاها جبريل إلى إبراهيم عليه السلام، فلذلك سماها كلمات، وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها. قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه منها أنه المراد على التعيين إلا لحديث أو إجماع، ويرجح الفاطمي فيقول: وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام؛ فأسلم لرب العالمين، وابتلاؤه بالهجرة؛ فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، وابتلاؤه بالنار؛ فصبر عليها، ثم ابتلاؤه بالختان، فصبر عليه، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز وسفر التكوين من التوراة، ففيهما بيان ما ذكرنا في شأنه عليه الصلاة والسلام من قيامه بتلك الكلمات حق القيام، وتوفيتهن أحسن الوفاء، وهذا معنى قوله تعالى: (فأتمهن) وهذا كقوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] أي: بالإسلام، أسلم ووفى؛ لأن الإسلام هو التوفية، فهنا عبر بقوله: (فأتمهن)، وفي الآية الأخرى قال: (وإبراهيم الذي وفى)، ووفى تساوي تمام الكلمة (فأتمهن) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

عهد الله بالإمامة لإبراهيم ولذريته

عهد الله بالإمامة لإبراهيم ولذريته قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]. (قال) هذه جملة مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال مقدر بعد الكلام، يعني: إذا كان إبراهيم عليه السلام أتم هذه الكلمات وامتثل هذه الشرائع التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها، (فأتمهن) كأنه قيل: فما جوزي على شكره؟ ما جوزي على هذه التوفية؟ قيل: قال له ربه: (إني جاعلك للناس إماماً)؛ فشكر الله بذلك صنيعه بإتمام هؤلاء الكلمات، ومعنى (إماماً) أي: قدوة لمن بعدك، والإمام اسم لمن يؤتم به، ولم يبعث نبي بعد إبراهيم إلا كان مأموراً باتباع ملته، فهو أبو الأنبياء جميعاً، وكان هؤلاء الأنبياء جميعاً من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]. (قال ومن ذريتي) إما أن يكون المراد: أن إبراهيم عليه السلام قال: (ومن ذريتي) يعني واجعل من ذريتي أئمة، وهذا حب الإمامة، وهناك فرق بينه وبين حب الرئاسة في الدين، والزعامة والظهور، فإن حب الإمامة إنما هو لخدمة الدين وللبذل في سبيله، والتمكن من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما التنازل عن الرياسة طلباً للظهور في الدنيا فهذا من الدنيا وليس من الدين، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في دعاء عباد الرحمن: أنهم يدعون الله تبارك وتعالى بسؤال وطلب الإمامة أيضاً، قال سبحانه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] يعني: اجعلنا نأتم بمن قبلنا، فنصلح لأن يأتم بنا من بعدنا. {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أيضاً أئمة كما جعلتني إماماً، قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] قال: قد أجبتك وعاهدتك أن أحسن إلى ذريتك، ولكن لا ينال عهدي الذي عهدته إليك بالإمامة الظالمين من هذه الذرية، وهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى علم أن من ذرية إبراهيم عليه السلام ظالمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين في مواضع أخر أن منهم ظالماً وغير ظالم، وذلك في قوله عز وجل: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، وقال أيضاً: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]. وعلى التفسير الآخر قوله: (ومن ذريتي) كأنها على الاستفاهم، يعني وذريتي كيف يكون الحال منهم؟ فأتى الجواب (لا ينال عهدي الظالمين) ولا تعارض، فقوله: (لا ينال عهدي) أي: بالإمامة الظالمين. وقد اختلف العلماء في المراد بالعهد هنا، فأصح الأقوال: أن العهد هنا هو الإمامة، وقيل: الرحمة، والدين، والنبوة، والأمان، والميثاق، وأصحها: الإمامة في الدين؛ لإن هؤلاء الظالمين هم من ذريتك، وهم أبناء صلبك، ومن ذريتك من ناحية النسل، أما من ناحية الدين فإنهم بظلمهم وكفرهم وانحرافهم قد انتفت عنهم أبوتك إياهم، فليسوا أبناءك في الدين، وإن كانوا أبناءك من ذريتك، تماماً كما قال الله عز وجل في حق نوح عليه السلام: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45 - 46] وفي قراءة: (إنه ليس من أهلك إنه عَمِلَ غير صالح)، وهو قطعاً من صلبه، ولكن ليس على دينك، وليس من المؤمنين الذين وعدتك بإنجائهم، فهؤلاء -يا إبراهيم- ليسوا من أبنائك في الدين وإن كانوا من نسلك وذريتك. وفي قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) إجابة خفية لدعوته عليه السلام، ووعد إجمالي منه تعالى بتشريك بعض ذريته بنيل عهد الإمامة، يفهم منها: أن من ذريته فعلاً من سينال الإمامة، أما الظالمون منهم الذين ليسوا أبناءه في الدين فلن ينالوا هذه الإمامة، كما قال تعالى: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)، وفي ذلك أتم ترغيب في التخلق بوفائه، يعني: إن كنتم يا عرب أو يا يهود أو يا نصارى تزعمون أن أباكم إبراهيم عليه السلام، فإن كنتم من الظالمين الذين انحرفوا عن ملته فلن تكونوا أئمة في الدين، فتخلقوا بأخلاقه، ووفوا بالذي وفى به حتى تكونوا على طريقته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهذه إشارة إلى أنهم إن شكروا أبقى رفعتهم كما أدام رفعته، وإن ظلموا لم تنلهم دعوته، فضربت عليهم الذلة وما معها، لا يجزي أحد عنهم شيئاً ولا هم ينصرون.

المراد بالإمامة في قوله: (إني جاعلك للناس إماما)

المراد بالإمامة في قوله: (إني جاعلك للناس إماماً) استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الظالم ليس بأهل للإمامة، والكشاف أوسع المقال في ذلك، وأبدع في إيراد الشواهد، كما أن الشيعة استدلت بها على صحة قولهم بوجوب عصمة الأئمة ظاهراً وباطناً، يقول القاسمي: (إن استدلال الفرقتين على مدعاهما وقوف مع عموم اللفظ، إلا أن الآية الكريمة بمعزل عن إرادة خلافة السلطنة والملك)، فالعهد هنا صحيح يراد به الإمامة، لكن ليس الإمامة التي هي السلطنة والملك والمنصب السياسي، لكنها إمامة الدين، فالمراد بالعهد تلك الإمامة المسئول عنها. قال: (وهل كانت إلا الإمامة في الدين، وهي النبوة التي حرمها الظالمون من ذريته عليه السلام، كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، ولو دلت الآية على ما ادعوا لخالفه الواقع)، لو كانت الآية بمعنى الإمامة التي هي السلطنة والملك والخلافة لا ينالها الظالم، لكان الواقع مخالفاً لذلك، لماذا؟ لأنه نال الإمامة الدنيوية كثير من الظالمين، وهذا لا يحتاج لشاهد، سواء في واقع التاريخ الماضي أو المعاصر، فقد وقعت الإمامة في أيدي الظالمين في فترات كثيرة في عهد الخلافة الأموية والعباسية وما بعدهما إلى يومنا هذا، فالواقع يشهد أن الإمامة التي لا ينالها الظالمون إنما هي إمامة الدين، مثل النبوة، أما الواقع فيشهد بأن السلطنة والخلافة والملك والحكم كثيراً ما تكون في أيدي الظالمين، فظهر أن المراد من العهد إنما هو الإمامة في الدين خاصة، والاحتجاج بها على عدم صلاحية الظالم للولاية تمحل؛ لأنه اعتبار لعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، أو ذهاب إلى أن الخبر في معنى الأمر بعدم تولية الظالم، كما قاله بعضهم وهو أشد تمحلاً. وقضية الحاكم الجائر الظالم فيها تفصيل في كتب السياسة الشرعية ليس هذا أوانه وإن كنا قد فصلنا الكلام فيه في بحث: نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية.

تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس)

تفسير قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] (وإذ جعلنا البيت) يعني الكعبة. (مثابة للناس) يقول السيوطي: مرجعاً يثوبون إليه من كل جانب، ومأمناً لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره، كان الرجل يلقى قاتل أبيه فلا يهيجه. (واتخذوا من مقام إبراهيم) اتخذوا -أيها الناس- من مقام إبراهيم عليه السلام وهو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت (مصلى) أي: مكاناً تصلوا خلفه ركعتي الطواف، وفي قراءة: (واتَخَذوا من مقام إبراهيم مصلى) على الخبر. قوله تبارك وتعالى: (وإذ جعلنا) يعني: صيرنا، (البيت) يعني الذي بناه إبراهيم بأم القرى، وهو اسم للكعبة غالباً، كالنجم للثريا، والألف واللام تدخل للمعهود، والمخاطبون هنا في هذه الآية يعلمون أنه سبحانه وتعالى لم يرد هنا جنس البيت، وإنما يقصد بيتاً معهوداً في الأذهان، كما قال: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16]، مع أنه لم يصرح باسم الرسول، لكن أل هنا للعهد الذهني، والرسول هو موسى عليه السلام، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود. (مثابة للناس) أي: مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه ويحنون ويعودون ويئوبون إليه، و (مثابة) على وزن مفعلة من الثوَب، وهو الرجوع بالكلية، وليس مجرد رجوع فقط، إنما رجوع مع انجذاب القلب كما يجذب المغناطيس الحديد، فهكذا حال القلوب مع هذا البيت المشرف، وسر هذا التفضيل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له، لم يقل: وإذ جعلنا البيت مرجعاً للناس يرجعون إليه، لكن استعمل كلمة مثابة، لأنه رجوع مع انجذاب شديد، فالقلوب ترتمي وتنجذب إليه انجذاباً قوياً؛ فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد، فهو الأولى بقول القائل: محاسنه هيولى كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال الهيولى بضم الياء مخففة أو مشددة، مادة الشيء التي يصنع منها، فهيولى الكرسي الخشب، أو هيولى المسمار الحديد، أو هيولى الملابس القطنية القطن، وهكذا. والقائل هنا يمدح أحد المخلوقين ويذكر محاسنه، وبلا شك فإن الكعبة المشرفة أولى بهذا الثناء وهذا المديح؛ فهم يثوبون إلى البيت على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً، وكلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقاً، بل بالعكس تجد الذي يزور البيت الحرام ويشرفه الله سبحانه وتعالى بذلك لا يكون كمن لم يزره في شدة الشوق إليه، فإن من ذاق وعرف ليس كمن لم يذق ولم يعرف، فتجد من زاره لا يقضي منه وطراً، ولا يشبع أبداً من مجاورة هذا البيت والحج إليه، يقول: فكلما ازدادوا له زيارة ازدادت قلوبهم به تعلقاً، وازدادوا له تعطشاً واشتياقاً. جعل البيت مثاباً لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر ويقول آخر واصفاً الكعبة المشرفة: لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً فالإنسان إذا نظر من بعيد عنها ينجذب من جديد إلى النظر إليها كي يملأ عينه منها، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. ويقول آخر: سل الله كم لها من قتيل وسليب وجريح وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ما الذي يدفع الإنسان إلى أن يبذل الآلاف؟ تجد شركات الطيران والسفارات يصعبون على الناس الحصول على تأشيرات الحج والعمرة، ومع ذلك هل يتوقف الناس؟! لا، بل يثوبون إلى البيت، ويضحي المسلم بكل شيء، بالمال الذي يدخره، وبفراق أهله وأولاده، بترك عمله، بمفارقة وطنه، بكل هذه التضحيات! هل سيجد هناك منصباً دنيوياً فيعطيه أحد مالاً؟ هل سيجد جنات وبساتين ومناظر جميلة وجبال تكسوها الثلوج كما يجد الذين يحجون إلى سويسرا وأوروبا؟! لا يجد إلا الحر الشديد، وقد يجد المعاملة الغليظة من بعض أهل تلك البلاد، فلا شيء من أمور الدنيا يجذبه، وليس إلا هذا المغناطيس الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في هذا البيت المشرف، زاده الله تشريفاً وتكريماً. فقد رضي المحب بمفارقة فلذات الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمصاعب والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه. فهذا معنى مثابة للناس، يثوبون إليه لايشبعون منه، إذا ذهبوا إليه يعودون منه من كل حدب وصوب، ومن كل جهة منجذبين إليه، هذا معنى قوله: (مثابة للناس).

معنى وصف البيت بالأمن

معنى وصف البيت بالأمن قوله تعالى: (وأمناً) أي: موضع أمن، وهنا أطلق اللفظ لكن المقصود به الموضع، كقوله تعالى: {حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، وكقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وأمناً) يريد أمن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة ألا يبايعوه ولا يطعموه ولا يسقوه ولا يئووه، ولا يكلم حتى يخرج، فإن خرج أقيم عليه الحد. يعني من أحدث حدثاً خارج الحرم ثم أوى إلى الحرم؛ يترك ولا يقرب منه أحد، حتى في الجاهلية كان الرجل يرى قاتل أبيه في الحرم -مع أنهم كانوا مشركين- فيتورع عن أن يناله بسوء إلى أن يخرج من الحرم فيقتله، لكن ما دام أنه داخل الحرم فهو آمن. قال القاضي أبو يعلى: وصف البيت بالأمن والمراد جميع الحرم، (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً)، فالبيت المقصود به الكعبة المشرفة، لكن المراد من قوله: (وأمناً) كل الحرم، كما قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] فهنا صرح بالكعبة، لكن هل المقصود الكعبة ذاتها؟ لا، لماذا؟ لأنه لا يذبح أحد الهدي داخل الكعبة؛ فالمراد: هدياً بالغ الحرم؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم لا على وجه الخبر فقط. فقوله: (مثابة للناس وأمناً) ليس فقط خبراً أنه آمن، لكنه فيه تكليف، بمعنى: أمِّنوا من يدخله، ولا تروعوا من يدخله، فهو خبر ومقصود منه أيضاً الأمر والإنشاء والتسلية، وهذا ظاهره خبر، والمراد منه الإنشاء وإصدار الحكم الشرعي لتأمين من يدخل البيت الحرام، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون، أهل مكة بالذات لا يقترب أحد منهم، ولا يؤذيهم ولا يروعهم أحد، اعتداداً بحرمة البيت، وهذا الأمان الذي شرعه الله لهم، وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له.

البيت الحرام مهوى أفئدة الناس

البيت الحرام مهوى أفئدة الناس البيت الحرام تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً، ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] وهذه آية من آيات الله سبحانه تعالى، إذ تجد القلوب تنجذب إليه مهما كانت التضحية، ومهما كانت الأموال، ومهما كانت المشقة، ومع ذلك فألذ شيء عنده أن يرحل، خصوصاً الذين يأتون من الباكستان والهند، تجد علامات الفقر الشديد بادية ظاهرة عليه، وتجد الرجل قد أتى بزوجته، وربما بأبيه وجده ونسائه وأولاده، تمشي قافلة أسرة واحدة في حالة من الفقر البادي والظاهر عليهم، ومع ذلك يأتون وهم أشد الناس فرحاً بوصولهم إلى هذا البيت الحرام، فهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي ظهور أثر استجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام. جماعة من المنصرين في أندونيسيا ظنوا أنهم أفلحوا في استعباد واستغلال الفقر والجهل والمرض عند المسلمين هناك، فأقنعوهم في الظاهر، وانقاد لهم العشرات مقابل الأدوية والأموال والملابس والإعانة؛ لأنهم في حالة فقر شديد، فاستطاعوا أن يغرروا ببعض المسلمين الجهلة، واستجابوا في الظاهر لهؤلاء المنصرين المكفرين المبشرين بالنار، حتى أفلحوا وأخذوهم إلى الكنيسة وعمدوهم في الكنيسة، فقال لهم القسيس بعدما فرغ من تعميدهم: الآن نريد أن نكافئكم على دخولكم في النصرانية، كل واحد يطلب الأمنية التي يحبها، ونحن ننفذها له مهما كانت، فبصوت واحد أجابوا جميعاً وقالوا: الحج إلى مكة! ونسوا كل شيء، لماذا؟ لأن القلوب تهوي إلى هذا البيت الحرام، وكل مؤمن في قلبه إيمان وحب لله ورسوله عليه الصلاة والسلام يجد هذا الانجذاب، وهذا أثر إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: (إن هذا بلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار)، والحرم المكي حرمه إبراهيم عليه السلام، والمدينة جعلها حرماً النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشرعه وشريعته، وما عدا ذلك فكل الأرض حلال، فليس في الأرض حرم إلا مكة والمدينة، وهناك خلاف في واد في الطائف، لكن الظاهر والمشهور أن الحرم حرمان: الحرم المكي والحرم المدني، والمسجد الأقصى لا دليل على أنه حرم، وكذا الحرم الخليلي، فليسا بحرم، ولا تنطبق عليهما أحكام الحرم، صحيح أن المسجد الأقصى من المواضع الشريفة، لكنه ليس حرماً؛ لأن كلمة حرم كلمة لها حدود وأحكام تخالف بها سائر أرجاء الأرض، فمثلاً: لا يدخلها الكافر، ولا يقطع شوكها، ولا تلتقط لقطتها، وغير ذلك من الأحكام، فلا يوجد حرم خليلي أو حرم إبراهيمي، فضلاً عن حرم الجامعة وحرم كذا وكذا، فكل هذا الكلام لا يجوز، فلا يطلق على هذه المواضع هذا اللفظ الشريف؛ لأن فيه تسوية لم يأذن بها الله سبحانه وتعالى في غير هذين البلدين.

الصلاة في المقام الإبراهيمي

الصلاة في المقام الإبراهيمي قوله تبارك وتعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) قرئ بكسر الخاء وقرئ بفتحها، إما أنه أمر معترض بين الجملتين الخبريتين أو بتقدير (واتخذوا)، أي: وقلنا اتخذوا، وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على جعلنا، فتكون (واتخذوا) معطوفاً على جعلنا، أي: اتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله كما ورد عن مجاهد، وعنه قال: جمع (مزدلفة) ومنى ومكة، ويقال: مقامه الذي هو في المسجد الحرام، فقد قال قتادة: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمة شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها، قال الراغب الأصفهاني: والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا وهو مصلى أو مدعى أو موضع صلاة، يقول القاسمي: أقول كأن الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، ذكرنا من قبل أن البيت المقصود به الكعبة، وهو يطلق على الكعبة، لكن المقصود الأمن داخل الحرم كله، فالمصلي في الحرم كله آمن، إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، فلم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصلى، مع أن هذا هو المعنى، لكنه عدل عن ذلك إلى هذا الأسلوب الحكيم في قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) ولم يقل: واتخذوا منه مصلى، لوجوه: أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه، والتعظيم لشأنها، حيث أفرده للعناية بها جملة على حدة. ثانيها: التذكير؛ لأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة، وما كان مقامه فجدير بأن يحترم ويعظم. ثالثها: التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، ولم يقل: ومصلى، وإنما قال: (واتخذوا)، فعدل عن الخبر إلى الأمر، إظهاراً أن هذا تشريع من الله سبحانه وتعالى، فالتنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر تمهيداً للأمر باستقباله، لأن هذه الأجزاء في الآيات كلها فيها إرهاصات بين يدي أمر خطير سيحصل قريباً، وهو تحويل القبلة، فالتنويه بقصة بناء البيت وتشريفه وجعله مثابة للناس وأمناً، ثم الأمر باتخاذه مصلى، إرهاص وتقديم وتوطئة وتمهيد بين يدي الأمر الذي سيأتي قريباً بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام، فهذا تمهيد للأمر باستقباله، وإلزام لمن جادل فيه وهم اليهود، فإن اليهود جادلوا في تحويل القبلة، فالله سبحانه وتعالى يبين لهم شرف هذه القبلة الجديدة، وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)) والحديث نصه في البخاري عن أنس رضي الله عنه قال عمر رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية). قال ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت. ومن ذهب إلى هناك تمكن من أن يراه، وهم يضعونه داخل تلك القبة النحاسية، ويضعون عليه حراسة، لأن كثيراً من الجهلة يعمدون إليه ويتمسحون به، وهذا من البدع والضلال، ومن دقق النظر داخل هذه القبة الزجاجية رأى الحجر بالفعل، وعليه موضع قدمي إبراهيم عليه السلام كالحفر، وموضع القدمين واضح جداً في الحجر نفسه.

تاريخ مقام إبراهيم

تاريخ مقام إبراهيم يقول ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت، فلما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار، وكان كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليه، وهكذا حتى أتم بناء جدران الكعبة، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري. قال ابن كثير: وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً. ومن تأمل في الجهة الشرقية من الكعبة يجد مكان المقام ما زال واضحاً، يقول ابن كثير: ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، يمين الداخل من الباب. والحرم كان ضيقاً جداً من قبل، وكأن الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا -والله أعلم- أمر عند الفراغ من الطواف بصلاة سنة الطواف هناك، وناسب أن تكون الصلاة عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً، وجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. قال ابن كثير: وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه، فالذي حوله من المكان اللصيق بالكعبة إلى المكان الموجود الآن هو عمر رضي الله تعالى، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: (إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه). قيل: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه.

تفسير قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل)

تفسير قوله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) قال تبارك وتعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]. (عهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أي: أمرناهما (أن) بأن (طهرا بيتي) من الأوثان (للطائفين والعاكفين) المقيمين فيه، (والركع السجود) جمع راكع وجمع ساجد، والمقصود بهم المصلون. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أي: أمرناهما ووصيناهما، (أن طهرا بيتي) عن كل رجس حسي ومعنوي، فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع، أو (طهرا بيتي) ابنياه على الطهر من الشرك به، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] الطائفين حوله، وعن سعيد بن جبير: هم الذين يأتون من الغربة، يعني الآفاقيين، يأتون فيطوفون حوله، (والعاكفين) المقصود بهم أهله المقيمون به أو المعتكفون فيه. روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: قلت لـ عبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلماً أمير المؤمنين أن يمنع الناس الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون، لأن العين وكاء السه؟ قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب. قال في الكشاف: يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين، يعني: القائمين في الصلاة، كما قال: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، جمع راكع وساجد، والمعنى للطائفين والمصلين؛ لأن القيام والركوع والسجود هيئات المصلي.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]. يقول تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا) يعني: اجعل هذا المكان ذا أمن، وقد أجاب دعاءه، فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يقطع حشيشه، ولا يعضد شجره.

رزق الله المجبى من كل مكان إلى مكة

رزق الله المجبى من كل مكان إلى مكة قوله تعالى: (وارزق أهله من الثمرات) هنا يذكر السيوطي كلاماً يحتاج إلى دليل، يقول: وقد فعل بنقل الطائف من الشام إليه كما قيل، وكان أقفر لا زرع فيه ولا ماء، والطائف بلد قريب من الحرم كان أقفر لا ماء فيه ولا زرع، كان منطقة بلقعاً، فنقلت الطائف من الشام إلى هذا المكان، وهذا يحتاج إلى دليل، والله تعالى أعلم. ولكن هل نحن نحتاج إلى بينة في تفسير هذه الآية؟! والله إنها لمن أعلام النبوة! وقوله تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولا يكاد ينكرها أحد أبداً، اذهب إلى مكة تجد كل أسواق العالم موجودة هناك، كل الثمرات، كل الفواكه، ما شيء من الثمرات والأرزاق إلا ويجبى إلى هذ البلد مع أنه واد لا زرع فيه، حتى الزرع الذي يفتعلونه الآن ويصطنعونه تشعر أن الأرض تقول: هذا ليس لي، وما أطيق هذا، فالأرض تلك ليس من طبيعتها أن تقبل الزراعة، ولذلك فإنهم يتكلفون أموالاً طائلة في إرغام الزرع على أن يتواجد في تلك التربة عندهم، ومع ذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء، ولا يعلم مكان فيه من الخيرات والبركات وسعة الرزق ما يوجد في بلد الله الحرام، وهذا أيضاً أثر إجابة دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام، فإن الله بالفعل رزق أهله من كل الثمرات، {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57]. (وارزق أهله من الثمرات) هل كل أهله؟ لا، يقول تعالى: (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) فهذا بدل من (أهلها)، وخصهم بالدعاء لهم موافقة لقوله: (لا ينال عهدي الظالمين) فإبراهيم عليه السلام كما قال الله سبحانه وتعالى من قبل، لما قال له: (ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) يعني: الظالمون من ذريتك لن يكونوا أئمة في الدين، والمحسنون منهم سيكونون أئمة في الدين، فالمحسنون هم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولذلك إبراهيم عليه السلام أبدل من قوله: (وارزق أهله من الثمرات) قال: ليسوا كل أهله، لكن أدخل في دعائه (من آمن منهم بالله واليوم والآخر) فخصهم بالدعاء كي يوافق قوله تعالى من قبل: (لا ينال عهدي الظالمين). قال تعالى: (ومن كفر) يعني: أرزق هؤلاء الصالحين المحسنين من آمن بالله واليوم الآخر وسأرزق أيضاً من كفر، ماذا أفعل معه؟ (فأمتعه) إما بالتشديد أو بالتخفيف، يعني: فأمتعه في الدنيا فقط، (قليلاً) مدة حياته القليلة، (ثم أضطره إلى عذاب النار) يعني: ألجئه إلى عذاب النار، فلا يجد عنها محيصاً، (وبئس المصير) أي: بئس المرجع فيها.

أمان البيت الحرام

أمان البيت الحرام يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنه من ذريتي، وهو مكة، (بلداً) كلمة البلد معناها المكان الذي يأنس الذي يحل به، (بلداً آمناً) أي: ذا أمن، لا يرعب أهله، وقد أجاب الله دعاءه، كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] والمقصود أمنوه، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]، إلى غير ذلك من الآيات. صحت أحاديث متعددة بتحريم القتال في مكة، ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح)، فهو آمن من الآفات، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله، كما فعل بأصحاب الفيل. وقوله تعالى في سورة إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم:35] بالتعريف، والكلام في هذا كثير ولن نفصل فيه الآن، لكن باختصار شديد: هنا قال: (اجعل هذا بلداً آمناً) بالتنكير باعتبار أنه لم يكن بنى البيت، وكان لا يزال في بداية بنائه، فلم يعمر بالحجاج والطائفين والمعتكفين وغير ذلك، وفي سورة إبراهيم قال: (رب اجعل هذا البلد)؛ لأن الكعبة كانت قد بنيت بالفعل، فقال: (هذ البلد آمناً). (وارزق أهله من الثمرات) سأل إبراهيم ذلك؛ لأن مكة لم يكن فيها زرع ولا ثمر، فاستجاب الله تعالى له فصارت يجبى إليها ثمرات كل شيء، (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) هذه بدل من أهله، وهو بدل بعض، (وارزق أهله من الثمرات) بدل بعض من كل، (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) يعني: ارزق المؤمنين من أهله خاصة، وإنما خصهم بالدعاء إظهاراً لشرف الإيمان، واهتماماً بشأن أهله، فالذي يهمه هم أهل الإيمان، وهذا من مراعاة حسن الأدب في المسألة، حيث ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة، في قوله: (لا ينال عهدي الظالمين)؛ فتأدب إبراهيم عليه السلام في الدعاء فلم يدخل الظالمين في دعوته، وإنما قال: (من آمن منهم بالله واليوم الآخر)، وفيه ترغيب لقومه في الإيمان وزجر عن الكفر، فقال الله تعالى معلماً أن شمول الرحمانية بأمن الدنيا ورزقها لجميع عمرة الأرض: (قال ومن كفر) يعني: رزقي في الدنيا أثر من آثار اسمي الرحمن، الذي هو رحمان الدنيا الذي تعم رحمته الكافرين والمؤمنين، ويرزق الجميع، ويعطي الجميع الصحة وأعراض الدنيا والأرزاق وغير ذلك مما هو مشاهد محسوس، فهذه الرحمة العامة تكون ابتلاء وفتنة للكافرين، ونعمة للمؤمنين، (قال ومن كفر) يعني: أنيله أيضاً ما ألهمتك من الدعاء بالأمن والرزق، فهو عطف على فعل محذوف دل الكلام عليه. (فأمتعه) والمقصود بالمتاع الرزق عبر عنه بكلمة المتعة وما معنى المتعة؟ المتعة هي زاد قليل وبلغة، تخسيساً لحظهم من الرزق كما قال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران:196 - 197]، وكذلك قال هنا: (ومن كفر) يعني: أرزقه وأمتعه قليلاً، فهذا تخسيس لهذا المتاع الذي ينالونه وتحقير له، وأكد ذلك بقوله: (فأمتعه قليلاً) يعني: تمتيعاً قليلاً، سواء بنعمة الأمن أو بنعمة الرزق. و (قليلاً) إما أن المعنى أن كمية المتاع تكون قليلاً أو أن زمان المتعة قليل إلى أن تنقضي آجالهم فيفضون إلى ربهم. (ثم أضطره إلى عذاب النار) يعني: ألجئه إلى عذاب النار، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، وقال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] وقرئ (فأمتعه قليلاً ثم أضطره) بلفظ الأمر فيهما على أنهما دعاء من إبراهيم عليه السلام. (وبئس المصير) يعني: عذاب النار، والمصير في اللغة هو ما ينتهي إليه الأمر.

تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل)

تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] يقول عز وجل: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد) (وإذ) أي: واذكر إذ يرفع إبراهيم القواعد والأسس، أو الجدر، (من البيت) يبنيه، متعلق بيرفع، (وإسماعيل) عطف على إبراهيم عليه السلام، وهنا يتقدر فعل: يقولان، أي: وهما يبنيان البيت يقولان: (ربنا تقبل منا) بناءنا هذا البيت الحرام، (إنك أنت السميع) للقول، (العليم) أي: بالفعل. (ربنا واجعلنا مسلمين) أي منقادين لك (ومن ذريتنا) واجعل من أولادنا (أمة) جماعة (مسلمة لك) (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) من هنا للتبعيض؛ لأنه تقدم قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) وهو نفس المعنى الذي ذكرناه في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: (وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر) كذلك ذكر هنا مراعاة لنفس هذا الأدب قالا عليهما السلام: (ومن ذريتنا)، يقصدا بذلك المحسنين من الذرية، كما في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]؛ فهي للتبعيض. (وأرنا) علمنا، (مناسكنا) شرائع عبادتنا أو حجنا، (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)، سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعاً وتعليماً لذريتهما، وإشارة إلى أن هذا البيت هو موضع غسل الذنوب، فمن أراد أن يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه فليأت هذا البيت، وليدع الله سبحانه وتعالى فيه، فإنه مقام ومحل وموضع إجابة مثل هذا الدعاء. (ربنا وابعث فيهم) أي: في أهل البيت الحرام، (رسولاً منهم) أي: من أنفسهم، وقد أجاب الله دعاءه بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكل نبي كان يدعو لنفسه ولقومه، أما إبراهيم عليه السلام فقد دعا لنفسه ولقومه ولهذه الأمة المرحومة؛ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، (يتلو عليهم آياتك) القرآن (ويعلمهم الكتاب) القرآن (والحكمة) ما فيه من الأحكام، (ويزكيهم) يطهرهم من الشرك، (إنك أنت العزيز) الغالب (الحكيم) في صنعه. يقول القاسمي رحمه الله تعالى هنا: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) أي: اذكر بناءهما البيت ورفعهما القواعد منه، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية، ولم يقل: وقد رفع إبراهيم البيت وإسماعيل ودعوا بكذا وكذا، مع أن الكلام عن الماضي، لكنه عبر بصيغة المضارع الذي يفيد الاستقبال، لماذا؟ كي يستحضر الإنسان صورتها العجيبة، والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوقه، قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده. وقد بين الله سبحانه وتعالى في سورة الحج أنه أراه موضع البيت، ولم يكن الأمر إلا تكليفاً من الله سبحانه وتعالى، حيث يقول عز وجل: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) يعني: عينا له محله وعرفنا إبراهيم به، وقد اختلف العلماء في تفصيل ذلك، قال بعضهم: الله سبحانه وتعالى دله على مكان البيت بسحابة، وكان ظلها على قدر مساحته، أي: جاءت سحابة مستطيلة فوقفت بحذاء البيت في السماء، وكان الظل موازياً لحدود الكعبة المشرفة، وقيل: دله عليه بريح تسمى الخدوج، كشفت عنه حتى ظهر أسه القديم، فبنى عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فإبراهيم ليس هو الذي أسس البيت ابتداءً، لكن القواعد كانت موجودة، والذي فعله رفع البناء على الأسس التي كانت موجودة أصلاً، ولذلك قال تعالى في سورة الحج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] أي: دللناه عليه وعرفناه به، وفي هذه الآية قال: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا) ولابد أن نقدر هنا: يقولان، مثل قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] تقدر هنا: يقولون. وهنا ترك مفعول: تقبل، ولم ينص عليه، وما هو الذي يتقبل؟ ترك هكذا ليعم الدعاء وغيره من القرب والطاعات، والتي من جملتها ما هما بصدده من البناء. (إنك أنت السميع) لدعائنا، والسميع أبلغ من السامع؛ لأنها صيغة مبالغة، والاستماع يكون بمعنى القبول والإجابة، كقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الطويل الذي رواه مسلم: (أعوذ بك من دعاء لا يسمع) أي: لا يستجاب، ومنه قول المصلي: سمع الله لمن حمده، يعني: استجاب الله لمن حمده، أو قبل الله حمد من حمده، وأنشدوا: دعوت الله حتى خفت ألا يكون الله يسمع ما أقول أي: يستجيب، وإلا فالله عالم بضمائرنا ونياتنا. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث مجيء إبراهيم عليه السلام لتفقد إسماعيل عليهما السلام، ثم قال: يا إسماعيل! إن الله قد أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان أثناء عملية البناء: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).

تفسير قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)

تفسير قوله تعالى: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) قال تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]. (ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي: مخلصين لك وجوهنا، من قوله: أسلم وجهه لله، أو مستسلمين، يقال: أسلم له وسلم واستسلم، إذا خضع وأذعن، والمعنى: أي زدنا إخلاصاً أو إذعاناً لك، (ومن ذريتنا) يعني واجعل من ذريتنا (أمة مسلمة لك). ولم يبين هنا تبارك وتعالى من هي هذه الأمة التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بقولهما: (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)، لكن الله سبحانه وتعالى بين في سورة الجمعة أن تلك الأمة هي أمة العرب، وأن الرسول هو سيد الرسل عليه الصلاة والسلام، وذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:2 - 3]؛ لأن الأميين هم العرب بالإجماع، والرسول المذكور هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إجماعاً، ولم يبعث رسول من ذرية إسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، فإن الدعاء هنا (ومن ذريتنا) من إسماعيل الذي هو ابن إبراهيم عليه السلام، وما خرج من ذرية إسماعيل إلا رسول واحد هو سيد المرسلين وأشرفهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيتحتم أن تكون الأمة هي أمة العرب، والرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يبعث رسول من ذرية رسول من ذرية إبراهيم وإسماعيل إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وثبت في الصحيح: أنه هو الرسول الذي دعا به إبراهيم، ولا ينافي ذلك عموم رسالته إلى الأسود والأحمر؛ لأنه بعث لأمة العرب، ودعوته للعالمين كلهم في كل زمان ومكان. و (من) في قوله: (ومن ذريتنا) للتبعيض أو للتبيين، كقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:55]، وإنما خص الذرية بالدعاء؛ لأنهم أحق بالشفقة، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع. (وأرنا مناسكنا) أي: عرفنا متعبداتنا، ومناسكنا جمع منسَك أو منسِك بفتح السين وكسرها، وهو المتعبد، وشرعة العبادة، يقع على المصدر والزمان والمكان، من النسك وهو العبادة والطاعة، وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، فلذلك يقال في الذبيحة التي يتقرب الإنسان بها إلى الله: النسيكة، ومن المفسرين من حمل المناسك على مناسك الحج، لشيوعها في أعماله ومواضعه، فالإراءة حينئذ لتعريف تلك الأعمال والبقاع، يعني عرفنا أعمال الحج والبقاع والأماكن التي نمارس فيها شعائر الحج، وقد رويت آثار عن بعض الصحابة والتابعين تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك، وأن الشيطان تعرض له فرماه عليه السلام، قالوا: وفي ذلك ظهور لشرف عمل الحج، حيث كان متلقى عن الله بلا واسطة، لكونه علماً على آتي يوم الدين حيث لا واسطة هناك بين الرب والعباد، والذي عول عليه أئمة اللغة ما ذكرناه أولاً من حمل المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة، وهي: العبادة والتقرب إلى الله تعالى واللزوم لما يرضيه، وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله لإبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى: علمنا كيف نعبدك، وأين نعبدك، وبماذا نتقرب إليك، حتى نخدمك كما يخدم العبد مولاه. (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) هذا الدعاء للتفريط لأصحاب التقصير، فإن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لا ينفك عن التقصير من بعض الوجوه، إما على سبيل السهو والنسيان، أو على سبيل ترك الأولى، فالدعاء منهما عليهما السلام لأجل ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك)

تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك) قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129]، وهذا إخبار عن تمام بقية دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام لأهل الحرم، أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم، يعني من ذية إبراهيم عليه السلام، وهم العرب من ولد إسماعيل، وقد أجاب الله تعالى لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته رسولاً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه دعوة إبراهيم، ومراده هذه الدعوة المذكورة في قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)، فقد أخرج الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم عليه السلام لمنجدل في طينته) يعني: في علم الله كان هو خاتم النبيين، وآدم ينفخ فيه الروح، ثم قال: (وسأنبئكم بأول ذلك؛ أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين)، وأخرج أيضاً نحوه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (قلت: يا نبي الله! ما كان أول بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه يخرج منها نوراً أضاءت منها قصور الشام) وهذا الحديث صحيح. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أول أمري دعوة أبي إبراهيم) هي المذكورة هنا في هذه الآية {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129]، (وبشرى عيسى بي) وهي قول المسيح عليه السلام تصريحاً باسمه: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، بل إن البشارة برسالة محمد عليه الصلاة والسلام من أجلِّ مقاصد رسالة عيسى، فكلمة الإنجيل معناها البشارة.

تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:130] يعني: لا يرغب عن ملة إبراهيم فيتركها {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] يعني: إلا من جهل جهلاً مركباً أنها مخلوقة لله سبحانه وتعالى يجب عليها عبادة الله، أو استخف بها وامتهنها، {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} [البقرة:130] أي: اخترناه، (في الدنيا) بالرسالة والخلة، فهو خليل الله تعالى، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130]، الذين لهم الدرجات العلى. {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة:131] يقدر قبل (إذ) واذكر (إذ قال له رب أسلم)، أي: انقد لله وأخلص له دينك، {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]. {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] (ووصى)، وفي قراءة أخرى (وأوصى بها) أي: بملة إبراهيم عليه السلام، (وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب)، ويمكن أن تكون كلمة (بها) تعود على الكلمة التي أشار إليها تعالى في سورة الزخرف: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] (إبراهيم بنيه ويعقوب) يعني: ويعقوب أيضاً أوصى بها بنيه، (يا بني) قال: يا بني (إن الله اصطفى لكم الدين) أي: دين الإسلام، (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، وهذا فيه نهي عن ترك الإسلام، وأمر بالثبات عليه إلى مصادفة الموت. قوله تبارك وتعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) بين تبارك وتعالى ملة إبراهيم عليه السلام في قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161]؛ فملة إبراهيم عليه السلام هي دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وكذا أيضاً في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123]. وقوله عز وجل هنا: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم)، كما قال السيوطي: لا يرغب، فالاستفهام هنا فيه إنكار واستبعاد أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لأن محمداً عليه الصلاة والسلام يتبع ملة أبيه إبراهيم عليه السلام، ولا يمكن أن يوجد إنسان عاقل سوي أريد به الخير يعرض ويترك ملة إبراهيم التي يدعو إليها محمد صلى الله عليه وسلم. والسياق تعريض بمعاندي أهل الكتاب والمشركين، فلا يرغب عن ملته الواضحة الغراء إلا من سفه نفسه، وحمل نفسه على السفه وهو الجهل، وسفه نفسه أبلغ من جهلها، إذ لم يقل تعالى: إلا من جهل نفسه، لكنه قال: (إلا من سفه نفسه)، لماذا؟ لأن الجهل ضربان: جهل بسيط، وجهل مركب، والجهل البسيط هو ألا يكون للإنسان اعتقاد في شيء، والجهل المركب هو أن يعتقد في الحق أنه باطل، ويعتقد في الباطل أنه حق، والسفه أن يعتقد ذلك، أي أن السفه هو عبارة عن النوع المركب من الجهل، فليس هو الجهل البسيط، لكنه النوع المركب من الجهل، فالجهل البسيط لا يعتقد صاحبه شيئاً، أي أنه لا يتخذ موقفاً محدداً، أما الجهل المركب فهو يجهل، ويجهل أنه يجهل، فيعتقد أن الباطل هو الحق، وأن الحق هو الباطل، والسفه أن يعتقد هذه العقيدة الباطلة ويرى الحق باطلاً والباطل حقاً، ثم هو في سلوكه العملي وفعله وتصرفه يتحرى الفعل بمقتضى ما اعتقده، فيدافع عن الآلهة الباطلة، ويضحي في سبيلها، ويدعو إليها بهمة ونشاط! هذا هو السفه. فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم فإن ذلك لسفه نفسه، وذلك أعظم مذمة، فهو مبدأ كل نقيصة، وذلك أن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، جهل أنه مخلوق، وإذا جهل كونه مصنوعاً جهل صانعه، كما نلاحظ ذلك جلياً ظاهراً في الكفار، فهو يجهل أنه مخلوق، ثم هو ينكر خالقه تبارك وتعالى، وإذا لم يعلم أن له صانعاً فكيف يعرف أمره ونهيه وهو أصلاً لا يعتقد وجود الله؟! وكيف يتحرى أمراً أو نهياً لله تبارك وتعالى؟! وكيف يرى الأشياء ويحكم بقبحها وحسنها؟! ولكون معرفة النفس ذريعة إلى معرفة الخالق جل ثناؤه، قال تبارك وتعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] لماذا؟ لأننا إذا عرفنا أنفسنا وأبصرنا في أنفسنا وتدبرنا آيات الله سبحانه وتعالى في خلقنا وأنفسنا؛ فإن ذلك يدلنا على خالقنا وفاطرنا سبحانه وتعالى، فالتبصر بأحوال النفس يبصرنا بخالقها، وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، وقال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فهذا معنى قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه).

معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا)

معنى قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا) قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا) أي: اخترناه من بين سائر الخلق بالرسالة والنبوة والإمامة، وتكثير الأنبياء من نسله، وإعطاء الخلة، وإظهار المناسك، وجعل بيته آمناً ذا آيات بينات إلى يوم القيامة، وكل هذه وجوه اصطفاء الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم أبي الأنبياء عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. وما وجه هذا الاصطفاء بالرسالة؟ جعله من أولي العزم من الرسل، وبالنبوة، وبالإمامة فقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، وكان إبراهيم عليه السلام إمام لجميع الناس، وكل أهل الملل يتحرون أن ينتسبوا إلى إبراهيم عليه السلام، وأكثر الأنبياء من نسله، بل كل الأنبياء الذين أتوا بعده هم من نسله، سواء في ذلك الأنبياء الذين من نسل إسحاق ويعقوب، أو من نسل إسماعيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أعطاه الله الخلة، واتخذه الله سبحانه وتعالى خليلاً: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]. أما في الآخرة يقول تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] الذين لهم الدرجات العلى، وفي هذا أكبر تفخيم لرتبة الصلاح؛ لأن هذا يدل على شرف وصف الإنسان بأنه إنسان صالح أو عبد صالح، لماذا؟ لأنه تعالى بين أن مقام إبراهيم عليه السلام المفخم المعظم في الآخرة إنما هو بكونه من الصالحين؛ فحيث جعل الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام متصفاً بالصلاح فهو حقيق بالإمامة لعلو رتبته عند الله تعالى في الدارين، فأعطاه الله سبحانه وتعالى في الدنيا أعلى المراتب؛ فلا بد أن تكون رتبة الصالحين التي جعلها أيضاً لإبراهيم في الآخرة هي أفخم المراتب وأعلاها، ففي ذلك أعظم ترغيب في اتباع دينه والاهتداء بهديه، وفي هذا أيضاً أشد ذم لمن خالفه، كل ذلك تذكير لأهل الكتاب بما عندهم من العلم بأمر هذا النبي الكريم، وإقامة للحجة عليهم؛ لأن أكثر ذلك معطوف على قوله تعالى: (اذكروا) في قوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]. فهذا تذكير، وما زلنا في سياق الكلام الذي يذكر الله سبحانه وتعالى ويعظ به بني إسرائيل وأهل الكتاب لما عندهم من أمر هذا النبي الكريم إبراهيم الخليل عليه السلام، ولما ذكر إمامته عليه السلام ذكر ما يؤتم به فيه، فإذا كان إبراهيم إماماً وإمامته شرفته بهذه الفضائل في الدنيا وفي الآخرة، ففي أي شيء نأتم بإبراهيم عليه السلام؟ وما الذي ينبغي أن نأتم بإبراهيم به حتى نحوز مثلما حاز في الدنيا والآخرة؟ وما هو سبب اصطفائه وصلاحه؟ الذي نأتم به فيه هو دينه وملته وما أوصى به بنيه، وما أوصى به بنيه سلفاً عن خلف، ولا سيما يعقوب عليه السلام المنوه بنسبة أهل الكتاب إليه؛ لأن يعقوب عليه السلام ينتسب أهل الكتاب إليه، وهو إسرائيل عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) قال تبارك وتعالى مبيناً ما يؤتم بإبراهيم فيه: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] معنى الآية: اصطفيناه؛ لأنه قال له ربه: أسلم، وذلك حين وقوع الاصطفاء، أي: انقد له، أخلص نفسك له، أو استقم على الإسلام واثبت على التوحيد، (قال أسلمت لرب العالمين) وظاهر الآيات الكريمة: أن هذا لفظ حقيقي، وأن الله سبحانه وتعالى خاطب إبراهيم بقوله: (أسلم) فأجاب إبراهيم عليه السلام بقوله: (أسلمت لرب العالمين)، وليس في كونه لفظاً حقيقياً أي مانع، وبالتالي لا يجوز تأويل كلمة: (قال أسلمت لرب العالمين) بقول بعض المفسرين: إنما هو ضرب مثل، ومعنى هذا القول: أنه أخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام، فهذا الكلام ليس بشيء، لماذا؟ لأنه لا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما، ولا يوجد أي داع ولا أي مسوغ لأن نقول بأنه ضرب مثل.

تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب)

تفسير قوله تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) قال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. (ووصى بها إبراهيم بنيه) هذا شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره، وفي الآية السابقة بين تكميله لنفسه: (إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)، وهذا هو انقياده لله سبحانه وتعالى في نفسه، فهو كمل نفسه بالإسلام ولم يقتصر على ذلك، بل سعى في تكميل غيره، وبدأ في ذلك بعشيرته الأقربين. وكلمة: (وصى بها إبراهيم) الوصية تكون بأن تتقدم إلى غيرك في شيء نافع تحمد عاقبته، والضمير في قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه) إما أنه عائد لقوله: (أسلمت لرب العالمين) فوصى إبراهيم بهذه الكلمة -وهي أسلمت لرب العالمين- بنيه ويعقوب، وعلى هذا يكون رجوع الضمير مثل رجوعه في قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] فكلمة (وجعلها) الهاء فيها تعود إلى قوله عليه السلام كما حكاه الله عنه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]، ونلاحظ هنا أن إبراهيم عليه السلام عبر عن كلمة لا إله إلا الله بمعناها، لماذا؟ لأن لا إله إلا الله تتكون من شقين، شق فيه نفي، وشق فيه إثبات، (لا إله) معنى ذلك الكفر بالطاغوت، والكفر بكل إله باطل يعبد من دون الله، ونفي لكل ما عدا الله من الآلهة الزائفة، (إلا الله): إثبات لاستحقاقه وحده تبارك وتعالى بإفراده بالعبادة والتوحيد، فعبر إبراهيم عليه السلام عن كلمة لا إله إلا الله بشرح معناها: (إنني براء مما تعبدون) هذا معنى لا إله، كفر بالطواغيت، (إلا الذي فطرني) لكن الذي فطرني هذا استثناء منقطع، أي: ربي وخالقي سبحانه وتعالى هو الإله الذي أستمسك بعبادته وتوحيده، وإنما أبرأ مما تعبدون من دونه، (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين) (وجعلها كلمة باقية في عقبه) أي: لا إله إلا الله جعلها كلمة باقية في عقبه، وكل طائفة من نسله توصي بها الذين من بعدهم، كما سيأتي بيان ذلك في وصية يعقوب عليه السلام، فلذلك أنثها، لأنها تعود إلى كلمة، (وجعلها كلمة) والمراد بها لا إله إلا الله، وكذلك هنا في قوله تبارك وتعالى: (ووصى بها إبراهيم) يعني بهذه الجملة التي قال فيها: (أسلمت لرب العالمين) وهي كلمة التوحيد وكلمة الإسلام، أو تأويل هذه الكلمة، أو أن قوله تبارك وتعالى: (ووصى بها) أي: بملة إبراهيم في قوله تبارك وتعالى الآنف الذكر: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه)؛ فتكون الهاء عائدة إلى ملة إبراهيم عليه السلام. ثم يقول تبارك وتعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه) صيغة الجمع تفيد أن إبراهيم عليه السلام رزق من الولد غير إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، وعند أهل الكتاب في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج بعد وفاة سارة أم إسحاق امرأة أخرى اسمها: قصورة، فولدت له ستة من الأولاد، فعلى هذا يكون بنوه ثمانية. (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) هذا معطوف على إبراهيم عليه السلام، والمقصود: ووصى يعقوب بنيه؛ لأن يعقوب أوصى بنيه أيضاً كما أوصى إبراهيم بنيه، والدليل قوله تبارك وتعالى: (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) كما سيأتي. وبعض القراء قرءوا: (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) بالنصب عطفاً على بنيه، ومعناه: أن إبراهيم وصى بهذه الكلمة بنيه ونافلته يعقوب الذي هو ابن ابنه، لماذا؟ لأن يعقوب ولد في حياة جده إبراهيم وأدرك من حياته خمس عشرة سنة، كما يستفاد من سفر التكوين في التوراة، فإن فيها: أن إبراهيم عليه السلام ولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة.

وصية الأنبياء لبنهيم عند الموت

وصية الأنبياء لبنهيم عند الموت قال الله على لسان كل من إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) يعني: أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام الذي لا دين غيره عند الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال أيضاً: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ} [البقرة:132]، بما أن الله سبحانه وتعالى اختاره لكم، وأعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، ولا دين غيره عند الله تبارك وتعالى، فإنه يتسبب عن هذا الاصطفاء أني أقول لكم وأوصيكم: (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) فالفاء في (فلا) سببية، يعني تسبب عن هذا الاصطفاء لهذا الدين أنني الآن أوصيكم بهذه الوصية: (لا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، والمعنى: الزموا الإسلام -لأن الموت ليس بأيدينا- واثبتوا على الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم وأنتم ثابتون على الإسلام. فالمقصود النهي عن حال بخلاف حال الإسلام وقت الموت، نظير ذلك قوله: لا تصل إلا وأنت خاشع، هل هذا نهي عن الصلاة؟ ليس نهياً عن الصلاة، ولكنك تنهاه عن ترك الخشوع في حال الصلاة، فهذه إشارة إلى أن الموت على حال غير حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، كما تقول في الأمر: مت وأنت شهيد، فليس مرادك الأمر بالموت، ولكن أن يكون على صفة الشهداء إذا مات، وهذه أشرف ميتة ينبغي أن يموت عليها الإنسان إذا أتاه الموت، وهي أن يموت على صفة الشهداء؛ لأن لها فضلية على غيرها. وقد قرر سبحانه وتعالى بهذه الآيات بطلان ما عليه المتعنتون من اليهودية والنصرانية، وبرأ خليله والأنبياء من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)

تفسير قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) لما حكى الله عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه بالدين وبالإسلام ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك، تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى، ومبالغة في البيان، لقوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]، قوله تعالى: (أم كنتم شهداء) يقول السيوطي: ولما قال اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟ فنزل: (أم كنتم شهداء) (شهداء) هنا معناها حضوراً، وهذا مثل قوله تعالى حكاية عن المنافقين: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] يعني حاضراً، كذلك هنا قوله تعالى: (أم كنتم شهداء) يعني: أكنتم حضوراً أيها اليهود ساعتها؟ وكيف تزعمون علم ما لم تشهدوه ولم تحضروه؟ (إذ حضر يعقوب الموت) إذ (قال لبنيه) بدل من (إذ) قبله، (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) يعني من بعد موتي، فهذا ما ينبغي أن يكون عليه اهتمام الإنسان إذا حضره الموت: أن يوصي أولاده وذريته بالثبات على ملة الإسلام، لا أن ينشغل بأمور الدنيا وينسى هذه الوصية الخطيرة. {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا} [البقرة:133] هذا بدل من إلهك، (ونحن له مسلمون) وقد عد إسماعيل من الآباء. قولهم: (نعبد آلهك) الخطاب ليعقوب، (وإله آبائك) من آباؤه؟ (إبراهيم وإسماعيل وإسحاق)، فإسحاق هو أبو يعقوب عليه السلام، أما إسماعيل فهو عمه، فعد إسماعيل من الآباء على سبيل التغليب؛ لأن العم بمنزلة الأب، كما أن الخالة بمنزلة الأم؛ لاجتماعهما في الأخوة، فهذه أخت الأم، وهذا أخو الأب. و (أم) هذه للإنكار في قوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت)، والمقصود بهذا الإنكار: أنكم لم تحضروه وقت موته، فكيف تنسبون إليه ما لا يليق به؟ (تلك أمة قد خلت) الإشارة هنا إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما، لكنه أنث لتأنيث خبره، (تلك أمة) فالخبر -وهو (أمة) - مؤنث، فلذلك أنث لفظ الإشارة، مع أن المقصود به إبراهيم ويعقوب وبنيهما. (خلت) أي: سلفت ومضت، (لها ما كسبت) من العمل، والمقصود: لها ما كسبت من جزاء العمل، (ولكم ما كسبتم) هذا استئناف، والخطاب هنا لليهود، (ولكم ما كسبتم) ما عملتم، أو ثواب أو جزاء ما عملتم، (ولا تسئلون عما كانوا يعملون) كما أنهم لا يسألون عن عملكم، والجملة تأكيد لما قبلها. قوله تعالى: (أم كنتم شهداء) يعني: ما كنتم حاضرين حينئذ، فهذه (أم) المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، يعني: بل أكنتم حضوراً، فهذا إنكار يفيد التقريع والتوبيخ، والشهداء جمع شهيد أو شاهد، بمعنى الحاضر. وقوله: (إذ حضر يعقوب الموت) هل كان حضر الموت بالفعل؟ المقصود مقدمات الموت. (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي) أي: أي شيء تعبدونه بعد موتي؟ والمقصود من ذلك: أن يقررهم بالثبات على الإسلام والتوحيد، وأخذ الميثاق منهم على الثبات عليهما. انظر إلى همة الأنبياء عند فراق الدنيا! اهتمامهم هو بأعظم شيء في الوجود، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.

الإسلام ملة الأنبياء قاطبة

الإسلام ملة الأنبياء قاطبة قوله تعالى: (قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) هذا العطف عطف بيان على (آبائك)، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه؛ لأن العم أب والخالة أم، لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة، إذ لا تفاوت بينهما، ومنه حديث الترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر في العباس: (إن عم الرجل صنو أبيه) أي: مثل أبيه، ولا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة، ومعنى صنوان وغير صنوان: النخلة ذات الساقين من جذر واحد، فكذلك عم الرجل صنو أبيه، يعني أنه لا تفاوت بين الأب والعم كما لا تفاوت بين صنوي النخلة، وفي الصحيحين عن البراء رفعه: (الخالة بمنزلة الأم) متفق عليه. (إلهاً واحداً) أي: نعبد إله آبائك إلهاً واحداً، والمقصود به: التبرؤ من الشرك للتصريح بالتوحيد. ثم أخبروا بعد التوحيد بإخلاصهم في عبادتهم لقولهم: (ونحن له مسلمون) أي: لله وحده لا لأب ولا لغيره، (مسلمون) أي: مطيعون خاضعون، كقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران:83]. والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة، وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، والآيات في الباب كثيرة. أما الأحاديث فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد وأمهاتنا شتى) أولاد العلات هم أولاد الضرائر، من صلب رجل واحد والأمهات مختلفة، فكذلك الأنبياء إخوة لعلات، إخوة في العقيدة، دينهم واحد، وكلهم دعاة إلى الإسلام، وإلى لا إله إلا الله، فكل رسالة أرسل بها نبي إلى قومه تتكون من شقين: شق مشترك بين جميع الأنبياء: لا إله إلا الله، ثم الشق الثاني: بيان الإيمان بالرسول الذي أرسل إليهم، فمثلاً: في عهد نوح عليه السلام: لا إله إلا الله، نوح رسول الله، وفي عهد موسى عليه السلام: لا إله إلا الله، موسى رسول الله، وفي عهد عيسى عليه السلام: لا إله إلا الله، عيسى رسول الله، فإذا كانت لا إله إلا الله تشير إلى توحيد العبادة، فإن الشهادة الثانية تشير إلى توحيد الطريق الموصل إلى الله في عهد ذلك النبي، ونوح رسول الله لقومه خاصة، لأنه لم يبعث إلى البشر كافة إلا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

عبر وفوائد من وصية إبراهيم ويعقوب لبنيهما

عبر وفوائد من وصية إبراهيم ويعقوب لبنيهما اشتمل نبأ وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لبنيهما على دقائق مرغبة في الدين، منها: أنه تعالى لم يقل: وأمر إبراهيم بنيه، وإنما قال تبارك وتعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه) فلفظ الوصية أوكد من الأمر؛ لأن الإنسان يوصي عند الخوف من الموت، كما قال الله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة:106]، فهي أخطر لحظة في حياة الإنسان، حين ينتقل إلى الدار الآخرة، حين يصدق الكاذب ويتوب المسرف، ففي هذا الوقت -وقت الخوف من حضور الموت- تكون الوصية مخلصة، وبأهم شيء يريد الإنسان أن يتركه لمن يوصيهم، وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم، لأنه مقبل على الله سبحانه وتعالى، فدل على الاهتمام بالموصى به والتمسك به. ومنها: أنهما خصصا بنيهما بذلك؛ لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم، فلما أوصياهما بذلك في آخر عمرهما علمنا أن اهتمامهما بذلك كان أشد من اهتمامهما بغيره. ومنها: أنهما عليهما السلام ما مزجا بهذه الوصية وصية أخرى، وما خلطا بالوصية بالتوحيد أي وصية أخرى، لا بمال ولا بشيء من الدنيا، ولا بأي قضية أخرى، وإنما محضا النصح بالتوحيد فقط، فهذا يدل على خطورة مثل هذه الوصية، وشدة الاهتمام بأمر التوحيد، وكان يمكن أن يوصيا أولادهما بأمور أخرى كثيرة مهمة، حتى من قضايا الدين، لكنهما اصطفيا واختارا أهم المهم، وأعلى مطالب الدين، وهو الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، ومن أجله خلقت الجنة والنار، وهو توحيد الله تبارك وتعالى، ولم يمزجا الوصية بأي وصية أخرى، لشدة الاهتمام في هذا الموقف الخطير بقضية التوحيد.

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت)

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت) قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]، أمة ترد في القرآن وفي لغة العرب بعدة معان، منها: أن تأتي بمعنى فترة من الزمان، كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45]، يعني بعد فترة زمنية، وبعد حين وزمان. ومنها: أن تأتي بمعنى الدين والملة، والدليل قوله تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، يعني ملة واحدة هي ملة الإسلام، والخطاب للأنبياء عليهم السلام، كذلك أيضاً قوله تعالى حاكياً عن المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] أي: ملة ودين. ومنها: الأمة بمعنى الشعب أو الجيل أو الجماعة كما في هذه الآية. وهناك معان في اللغة العربية لا بأس بإيرادها استطراداً: الأمة بمعنى قامة الإنسان، فتقول مثلاً: هذا رجل حسن الأمة، يعني حسن القامة. ومنها: الأمة الشجة التي تبلغ الدماغ، إذا شج الإنسان في رأسه حتى بلغت الدماغ فهذه تسمى أمة، يقال: رجل مأموم، ورجل أليم، يعني جرح جرحاً، أو شج حتى وصل أو بلغ الشج الدماغ. أيضاً الأمة بمعنى: أم، تقول: هذه أمة زيد، أي هذه أم زيد. والمقصود هنا بقوله: (تلك) إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين، (أمة) دين وجماعة، (قد خلت) سلفت ومضت، (لها ما كسبت) في إسلامها من الاعتقادات والأعمال والأخلاق، (ولكم ما كسبتم) مما أنتم عليه من الهوى الخاص بكم، ولا يسألون هم عن أعمالكم ولا تسألون أنتم عما كانوا يعملون، والمعنى: أن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم. قال الرضي: (هذه الآية دالة على بطلان التقليد؛ لأن قوله: (لها ما كسبت) يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره، ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع، فكأنه قال: إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم، ولكن لتنتبهوا على ما يلزمكم، فتستدلوا على الإيمان والتوحيد، وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق، يعني اتبعوهم لكن ببصيرة، اتبعوهم، ولكن عن طريق النظر في أدلة التوحيد)، ومعلوم أن اتباع الأنبياء عليهم السلام والإيمان بهم لا يسمى تقليداً، وهذا مما يرد به على الرضي، فاتباع الأنبياء عليهم السلام لا يسمى تقليداً؛ لأنه خارج عن حده المقرر في كتب الأصول؛ لأن كلام الأنبياء هو الدليل، لكن غير الأنبياء إذا اتبعتهم بدون دليل فهذا هو التقليد، أما الأنبياء فكلامهم نفسه حجة؛ لأنهم مؤيدون بالمعجزات التي تدل على أنهم مرسلون من قبل الله تبارك وتعالى.

البقرة [135 - 143]

تفسير سورة البقرة [135 - 143]

تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا) الإسلام كان وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب، ومع هذا لم يمتثل اليهود هذا التوجيه وهذا النصح، ولم يهتدوا بالأصفياء من أسلافهم، وإنما صاروا دعاة إلى الكفر، قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135] مع كل هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى من شأن التوحيد وملة إبراهيم عليه السلام لم يمتثلوا الهداية، وإنما صاروا دعاة إلى الكفر! يقول السيوطي رحمه الله عند قوله تعالى: (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا): أو هنا للتفصيل، يعني: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، وقائل الأول (كونوا هوداً) هم يهود المدينة، وقائل الثاني (كونوا نصارى) هم نصارى نجران. (قل بل ملة إبراهيم حنيفاً) قل لهم: بل نتبع ملة إبراهيم، يعني لن نتبعكم أنتم في دعوتكم إلى اليهودية أو النصرانية، بل نتبع ملة إبراهيم، فلذلك نصب بتقدير فعل نتبع، أي بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وحنيفاً: حال من إبراهيم، يعني مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيم. (وما كان من المشركين) هذه تبرئة لإبراهيم الخليل عليه السلام من الشرك. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وقالوا) أي: الفريقان من أهل الكتاب (كونوا هوداً) يعني قالت اليهود: كونوا هوداً تهتدوا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى تهتدوا. قوله تعالى: (قل بل ملة إبراهيم) بل نتبع ملة إبراهيم، ونهتم بسنته، ولا نتحول عنها كما تحولتم.

معنى الحنيف في اللغة

معنى الحنيف في اللغة (حنيفاً) يعني: نتبع إبراهيم حال حنيفيته، مستقيماً أو مائلاً عن الباطل إلى الحق، لأن الحنَف محركة يطلق على الاستقامة، ومنه قيل للمائل الرجل: أحنف، كما هو الحال في الطفل الذي يصاب بالكساح في عظامه، فيحصل تقوس وميل وانحراف في ساقيه، فهذا هو الحنف، فالعرب يسمون الرجل المائل أو الشيء المائل حنيفاً أو أحنف، وهذه عادة العرب كما يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً له بالسلامة، وأن تئول حاله وعاقبته إلى السلامة، فكذلك أطلقوا على الرجل المائل أحنف تفاؤلاً باستقامة حاله، وكذلك المكان المهلك يسمونه مفازة، يعني منجاة، تفاؤلاً أن تنتهي به إلى النجاة، ويطلق الحنف أيضاً في اللغة على الاستقامة، فالحنيف المستقيم على إسلامه لله تعالى؛ المائل عن الشرك إلى دين الله سبحانه وتعالى، وهذا المصطلح يتكرر كثيراً جداً في القرآن وفي السنة، فعلينا أن نهتم به اهتماماً زائداً، والحنيف فيها قولان: أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، الذي يميل عن الدنيا واللهو إلى العبادة. قال الزجاج: الحنيف في اللغة المائل إلى الشيء، أخذاً من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدمه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف ترققه وتقول له: والله لولا حنف برجله ودقة في ساقه من هزله ما كان في فتيانكم من مثله هذا المعنى الأول، الحنيف المائل إلى العبادة. المعنى الثاني: الحنيف يعني المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيفاً، نظراً له إلى السلامة. وقيل: الحنيف المخلص الذي يوحد الله ويحج ويضحي ويستقبل الكعبة.

شرك اليهود والنصارى

شرك اليهود والنصارى لما أثبت الله إسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالحنيفية نفى عنه غيره بقوله: (وما كان من المشركين)، وفيه تعريض بأهل الكتاب، وإيذان ببطلان دعواهم باتباعه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم: (عزير بن الله والمسيح ابن الله)، وهذا شرك. وقد أفادت هذه الآيات الكريمة أن ما عليه الفريقان محض ضلال وارتكاب بطلان، وأن الدين المرضي عند الله الإسلام، وهو دعوة الخلق إلى توحيده تعالى وعبادته وحده لا شريك له، ولما خالف المشركون هذا الأصل العظيم بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين بدعوة الناس جميعاً إلى هذا الأصل، ولهذا أردف الله تبارك وتعالى قولهم هذا بقوله: (قولوا آمنا) وهذا أمر بالتوحيد.

تفسير قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا)

تفسير قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (قولوا) هذا خطاب للمؤمنين (آمنا بالله) وحده (وما أنزل إلينا) من القرآن (وما أنزل إلى إبراهيم) وهي الصحف العشر (وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) التفسير المشهور في الأسباط أنهم أولاد يعقوب عليه السلام، لكن القاضي محمد كنعان صاحب حاشية قرة العينين أتى بتنبيه يتعلق بأولاد يعقوب فقال: أولاد يعقوب وهو إسرائيل عليه السلام، اتفق العلماء على أن يوسف بن يعقوب نبي، أما إخوته فقد قال بعضهم: إنهم أنبياء، ودليلهم على ذلك: أنهم هم المعنيون بقوله تعالى: (والأسباط) الذين هم أولاد يعقوب عليه السلام. ولكن الصواب: أن إخوة يوسف العشرة، ما عدا بنيامين ليسوا بأنبياء قطعاً؛ لأن ما صدر عنهم نحو أخيهم يوسف ووالديهم لا يصدر مثله من أنبياء، بل ولا يرضون بمثله، والأنبياء معصومون من مثل هذه الأشياء الشنيعة التي فعلها إخوة يوسف عليه السلام به وبأبيهم. قال القاضي عياض في الشفا: وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم، وقال ابن كثير: لم يقم دليل على نبوتهم، وبمثله قال القرطبي والرازي، وقال السيوطي في رسالة سماها: رفع التعسف عن إخوة يوسف: لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين نبوتهم، وقال ابن كثير: ومن استدل على نبوتهم بقوله تعالى: (والأسباط) فليس استدلاله بقوي؛ لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل، وكان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي من السماء. فبطون بني إسرائيل يقال لهم: أسباط، كالقبائل في العرب، وكالشعوب في العجم، ولا وجه لتفسير الأسباط بأولاد يعقوب لصلبه، بل هي تعني الجماعات الكثيرة. (وما أوتي موسى) يعني من التوراة (وعيسى) من الإنجيل (وما أوتي النبيون من ربهم) من الكتب والآيات، (لا نفرق بين أحد منهم) فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كاليهود والنصارى (ونحن له مسلمون). قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) بين الله عز وجل في سورة الأعلى أن الذي أنزل إلى إبراهيم كان صحفاً، كما قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19] أما صحف موسى فهي التوراة. (قُولُوا) يعني: أيها المؤمنون، وفيه إظهار لمزية فضل الله عليهم، حيث يلقنهم ولا يستنطقهم. (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ) يعني: آمنا بالأحكام التي كانوا متعبدين بها، (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى) من التوراة كما قال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام:154] وهي التوراة بالإجماع، {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} [الحديد:27]. (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني ذكرهم وذكر وغيرهم، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) في الإيمان، وليس هذا في التفضيل؛ لأنه ثبتت المفاضلة بين الأنبياء {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فضل على سائر الأنبياء والمرسلين في الدنيا وفي الآخرة، فمعنى (لا نفرق بين أحد منهم) يعني: في الإيمان، نؤمن بهم جميعاً، ولا نكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى حيث كفر اليهود بعيسى وبمحمد عليهما الصلاة والسلام، وكفرت النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: منقادون، وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا). وتلقين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بأن يقولوا هذه الشهادة العظيمة فيه إظهار لمزية فضل الله عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يلقنهم ماذا يقولون تعبيراً عن إيمانهم وعقيدتهم في هذه الأمور الجسيمة. وقد بين تبارك وتعالى في موضع آخر أن المؤمنين استجابوا لهذا الأمر، وفعلوا ذلك، وامتثلوا تكليف الله سبحانه وتعالى لهم، فهنا قال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]؛ فبين في آخر سورة البقرة أنهم امتثلوا هذا الأمر بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] إلى آخر الآيات، وذكر جزاءهم على ذلك في آية أخرى فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:152].

تفسير قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)

تفسير قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) يقول تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] (فإن آمنوا) أي: اليهود والنصارى، (بمثل ما آمنتم به) يقول السيوطي: مثل زائدة، والمقصود: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، (فقد اهتدوا وإن تولوا) عن الإيمان به، (فإنما هم في شقاق) أي: في خلاف معكم، (فسيكفيكهم الله) يعني: سيكفيك الله -يا محمد صلى الله عليه وسلم- شقاقهم، (وهو السميع) لأقوالهم، (العليم) بأحوالهم، وقد كفاه إياهم بقتل بني قريظة ونفي بني النضير وضرب الجزية عليهم.

تفسير قوله تعالى: (صبغة الله)

تفسير قوله تعالى: (صبغة الله) قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} [البقرة:138] هذا مصدر مؤكد لآمنا، ونصبه بفعل مقدَر، يعني صبغنا الله صبغة الله، فصبغنا الله بهذا التوحيد الذي نحن عليه، والمراد دينه الذي فطر الناس عليه، يقول السيوطي: والمراد بها دينه الذي فطر الناس عليه لظهور أثره على صاحبه كالصبغ في الثوب، أليس الثوب إذا صبغته وغمسته في لون معين ينصبغ بهذا اللون ويظهر عليه أثره؟! كذلك نحن فطرنا الله على التوحيد، وظهر علينا أثر هذا التوحيد باعترافنا بتوحيد الله تبارك وتعالى. {وَمَنْ أَحْسَنُ} [البقرة:138] يعني: لا أحد أحسن من الله صبغة، {صِبْغَةً} [البقرة:138] هنا تمييز، {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]. قوله تعالى: (صبغة الله) كأنه قيل صبغنا الله صبغة، أي: صبغ قلوبنا بالهداية والبيان صبغة كاملة لا ترتفع بالشبه، ولا تغلب صبغة غيره عليها، فصبغة الإسلام والتوحيد لا يمكن أبداً أن تتغير أو تتبدل أو يحل غيرها محلها، والصِبغة بالكسر ما يصبغ به وتلون به الثياب، فوصف الإيمان بذلك لكونه تطهيراً للمؤمنين من أوضار الكفر وحمية وتنزيهاً لهم بآثاره الجميلة، ومتداخلاً في قلوبهم، كما أن فعل الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك، يقال: صبغ يده بالماء غمسها فيه، يقول ثعلب: دع الشر وانزل بالنجاة تحرزاً إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ وقال الراغب: الصبغة إشارة من الله عز وجل إلى ما أوجده في الناس من بدائه العقول التي ميزنا بها من البهائم، ووشحنا بها. صبغنا بالفطرة وبالعقل كي يقودنا هذا العقل إلى التفكر والوصول إلى التوحيد، ووشحنا بها لمعرفته ومعرفة حسن العدالة وطلب الحق، وهو المشار إليه بالفطرة في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، وهو المعني بقوله عليه السلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، وتسمية ذلك بالصبغة من حيث أن قوى الإنسان التي ركب عليها تجري مجرى الصبغة التي هي زينة المصبوغ. ولما كانت النصارى إذا لقنوا أولادهم النصرانية يقولون: صبغناه، وهو التعميد، فهم يصبغون المولود في الماء المقدس عندهم، والذي لا يغمس في هذا الماء فإنه لا تصح نصرانيته، ولا يدخل الملكوت الأحمر! فبين تعالى أن الإيمان بمثل ما آمنتم به هو صبغة الله وفطرته التي ركزها في الخلق، ولا أحد أحسن صبغة من الله تبارك وتعالى، وقال بعض المفسرين كـ الحسن وقتادة ومجاهد: (صبغة الله) دين الله، وقال بعضهم: إنها الشريعة، وقال بعضهم: هي الختان، وهي إشارة إلى مغزى واحد؛ لأن الختان من مقتضى هذه الشريعة. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) استفهام للإنكار وللنفي، يعني لا صبغة أحسن من صبغته تعالى؛ لأنها صبغة قلب لا تزول لثباتها لما تولاها الحفيظ العليم، وهذه الصبغة من نوع الصبغات التي لا تزول أبداً؛ لأنها فطرة الله، ومن يصبغ مثل ما صبغنا الله؟! هو الذي صبغنا بالتوحيد والإسلام، بخلاف هذه الصبغة التي يفعلها هؤلاء؛ فيصبغ الله قلوبنا بالتوحيد صبغة لا تزول لثباتها؛ لأن الذي يتولاها هو الحفيظ العليم، فلا يرتد أحد عن دينه سخطة له بعد أن خالط الإيمان بشاشة قلبه، ولذلك كان من ضمن أسئلة هرقل لـ أبي سفيان في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ أي: هل يوجد من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه بعدما يدخل في الإسلام ينتكس ويرتد عنه؟ فذكرت أن لا، يعني لا أحد من الصحابة رضي الله عنهم يرتد بعد أن يدخل في الإسلام، ثم قال: وسألتك هل يرتد أحد منهم بعد أن يدخل فيه سخطة عليه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. فهذا فيه إشارة إلى نفس هذا المعنى الذي نذكره الآن. (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) يعني هذه الصفة لا تزول بتوفيق الله تبارك وتعالى، فهذا فيه معنى الابتهاج والفخر والاعتزاز بهذه الصبغة، فتباً وسحقاً للذين يريدون أن يحرفونا عن صبغة الله التي اصطفاها لنا، وهي الشرف بهذا الإسلام وباتباع خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] يعني: شكراً له على هذه النعمة أن فطرنا على التوحيد، وصبغنا بصبغة الإسلام والإيمان، فنحن نشكر الله على نعمته هذه، ونشكر له سائر نعمه بأن نكون له وحده عابدين، ولذلك قال تعالى: (ونحن له عابدون) شكراً لتلك النعمة ولسائر نعمه، فكيف تذهب عنا صبغته ونحن نؤكدها بالعبادة، ونقويها بها؟ والعبادة تزيل رين القلب فينطبع فيه صورة الهداية، وهو عطف على (آمنا) داخل معه تحت الأمر (ونحن له عابدون).

تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم)

تفسير قوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم) قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة:139] قل لهم: (أتحاجوننا) أي: أتخاطبوننا وتجادلوننا (في الله) أن اصطفى نبياً من العرب، ولم يكن هذا النبي من بني إسرائيل؟ (وهو ربنا وربكم)؛ فنحن سواء في هذه العبودية لله، فله أن يصطفي من عباده من يشاء، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، ليس لكم الخيرة، فالله سبحانه وتعالى كلنا سواء أمامه في العبودية، وكلنا مربوبون له، فله أن يصطفي من عباده من يشاء سبحانه وتعالى، وهو ربنا وربكم (ولنا أعمالنا) أي نجازى بها (ولكم أعمالكم) تجازون بها، فلا يبعد في أن يكون في أعمالنا ما نستحق به الإكرام، أو في أعمالكم ما تجازون عليه، فكلانا عبد مربوب لله تبارك وتعالى، فلا يبعد بعدما استوينا في هذه الأمور أن يكون في أعمالنا ما نستحق به إكرام ربنا، وقد كان بالفعل، فكانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، (ونحن له مخلصون) في الدين والعمل دونكم، فبالتالي نحن أولى بالاصطفاء. قوله: (قل أتحاجوننا) استفهام إنكاري، والجمل الثلاث أحوال، (أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم)، هذه جملة حال، (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم)، حال ثانية، (ونحن له مخلصون) حال ثالثة. قوله تعالى: (قل أتحاجوننا) المحاجة المخاصمة في الدين، (قل) منكراً لمحاجتهم وموبخاً لهم عليها، (أتحاجوننا في الله)، أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له، واتباع الهدى، وترك الهوى؟ (وهو ربنا وربكم) يعني المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له ونحن وأنتم في العبودية له سواء (ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم) أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم برآء منا، كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:41]، وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20]. (ونحن له مخلصون) في العبادة والتوجه لا نشرك به شيئاً، بينما أنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان.

تفسير قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق)

تفسير قوله تعالى: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) لم يبق من البهت والكذب والافتراء والدعوى إلا أن اليهود يدعون أن أسلافهم كانوا على دينهم، فقال الله تبارك وتعالى موبخاً لهم: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]، يقول تعالى: (أم تقولون)؛ (أم) هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، وفيها إضراب عما قبلها، يعني: بل أتقولون، وهي بالياء في قراءة أخرى (يقولون). (قل) قل لهم: (أأنتم أعلم أم الله) والمقصود: أن الله أعلم، وقد برأ إبراهيم بقوله: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً) فالذي أخبر هو الله سبحانه وتعالى، وهم ما شهدوا هذا الحال، فالله سبحانه وتعالى يبطل دعواهم بأن إبراهيم والمذكورين بعده من أبنائه كانوا هوداً أو نصارى (قل أأنتم أعلم أم الله) ف A أن الله أعلم، والله الذي هو أعلم منكم أخبر بأنه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] والمذكورون بعده تبع له؛ لأن المذكورين كما اتضح من سياق الآيات من يعقوب وبنيه كانوا جميعاً تبعاً لإبراهيم عليه السلام على ملة الإسلام. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:140] كتم يعني أخفى، (شهادة عنده) أي: كائنة عنده، (من الله) أي: لا أحد أظلم من هذا، وهم اليهود الذين كتموا شهادة الله في التوراة لإبراهيم بالحنيفية ولعقيدة التوحيد، (وما الله بغافل عما تعملون)، وهذا فيه تهديد لهم.

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم)

تفسير قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:141]، لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين، ولم يدع لليهود متمسكاً من جهتهم؛ أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان، وأنه لا ينفعهم إلا ما كانوا عليه بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض أحمرهم وأسودهم. معنى الكلام: عليكم بترك الكلام في تلك الأمة، لا تجادلوا هذه الأمة المحمدية، أو المقصود: عليكم بترك الكلام في تلك الأمة الماضية، ولا تشتغلوا بالكلام بعد كل هذا في إبراهيم وإسماعيل وادعاء أنهما كانوا على اليهودية أو النصرانية، دعوكم من هذا، (تلك أمة قد خلت)، والإشارة إلى المذكورين في قوله: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:140]، عليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أنفع لكم، وأعود عليكم بالنفع والفائدة، ولا تسألون إلا عن عملكم. قال الراغب: إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس صالحهم وطالحهم أنهم يفتخرون بآبائهم ويقتدون بهم في متحرياتهم، سيما في أمور دينهم، ولهذا حكى عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فأكد الله تعالى الكلام هنا بأننا ينبغي ألا نقلد الآباء والأجداد، وألا نفتخر بما كان عليه الآباء والأجداد، وقد ذكر هذا على أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك؛ تنبيهاً على أن الأمر سواء كان على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، يعني: سواء هذا الذي ذكرناه عن إبراهيم وإسماعيل وقع أو لم يقع، فأنتم غير مسئولين عن أفعالهم، فلا أنتم تثابون بأفعالهم ولا تعاقبون على مخالفاتهم إن فرض ذلك، وإنما: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، هذا لا يعنيكم أنتم، الآن انظروا فيما يدعوكم إليه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم عاب أيضاً عليهم تأكيداً وتنبيهاً على نحو ما قال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13]، وقوله: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، وقوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقوله: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم، يعني كما يقول العرب: كل شاة تناط برجليها، يعني تعلق برجليها، يعني لها حالها المستقل، ولا شأن لها بالآخرين.

تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)

تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) قال الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (سيقول السفهاء) الجهال (من الناس) الناس المقصود بهم هنا اليهود والمشركون، (ما ولاهم) يعني: أي شيء صرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي عن استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس، والإتيان بالسين في: (سيقول) دالة على الاستقبال، وهي من الإخبار بالغيب، فهذا من علامة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. (قل لله المشرق والمغرب) أي: أن الجهات كلها ملك لله، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء فلا اعتراض عليه. (يهدي من يشاء إلى صراط) أي: طريق مستقيم، وهو دين الإسلام، ومنهم أنتم، دل على هذا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] يعني: أنتم -أيها المخاطبون- خير أمة أخرجت للناس، ومن أجل ذلك جعلناكم أمة وسطاً.

أحاديث تحويل القبلة

أحاديث تحويل القبلة روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت)، كان يحن إلى قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، إلى الكعبة المشرفة، لكن في البداية صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت (وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه القوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد لله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت)، وهذا يؤخذ منه قبول خبر الواحد، وجواز العمل بخبر الواحد. وروى مسلم عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم، ولفظه: (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم صرفنا نحو الكعبة). وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينا الناس في قباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)، وهذا لفظ مسلم. فالأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متواترة، وفي هذا كفاية، وهذه الآية دليل واضح وبين على أن في أحكام الله تبارك وتعالى وفي كتابه ناسخاً ومنسوخاً، وهذا مما أجمعت عليه الأمة إلا من شذ، وإنكار الناسخ والمنسوخ هو من البدعة والضلالة ومن الشذوذ عن إجماع أمة المسلمين، فهذه الآية من أوضح الأدلة على وقوع النسخ في أحكام الله تبارك وتعالى.

رد الله على السفهاء منكري تحويل القبلة

رد الله على السفهاء منكري تحويل القبلة أعلم الله تعالى نبيه والمؤمنين أن فريقاً من الناس سينكرون تغيير القبلة، وسماهم سفهاء، فقال: (سيقول السفهاء) جمع سفيه، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقال أبو السعود (سيقول السفهاء) أي: الذين خفت أحلامهم وعقولهم بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر. (ما ولاهم) أي: أيُ شيء صرفهم (عن قبلتهم التي كانوا عليها) أي: ثابتين على التوجه إليها، وهي بيت المقدس، ومدار الإنكار يختلف، إن قلنا: إن هؤلاء السفهاء من اليهود فيكون مدار الكلام والإنكار يختلف عما لو قلنا: إن هؤلاء السفهاء هم المشركون، إذا قلنا: إن المقصودين بقوله تعالى: (سيقول السفهاء) اليهود فمدار الإنكار كراهتهم للتحول عن بيت المقدس إلى الكعبة؛ لأنها قبلتهم، واليهود كانوا يحبون ذلك الثبات، أما إذا كانوا غير اليهود من المشركين فمدار الإنكار يراد به الطعن في الدين والقذف في أحكامه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القائلين هم اليهود، وعن الحسن: أنهم مشركو العرب، وعن السدي: أنهم المنافقون، قالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. يقول الإمام الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى بعدما ذكر قول ابن عباس والحسن والسدي: ولا تنافي بين أقوالهم، فكل قد عابوا، وكل سفهاء.

إرهاصات ما قبل تحويل القبلة

إرهاصات ما قبل تحويل القبلة قوله تبارك وتعالى هنا: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) سبق أن أشرنا أن سنة الله تبارك وتعالى في الآيات العظام وفي الأمور الجسيمة أن يسبقها بإرهاصات تمهد القلوب لتقبل هذا الأمر الجديد، فهناك أمور عجيبة تحصل قبل وقوع الآية العظمى التي ستأتي، من ذلك مثلاً: إذا راجعنا سورة آل عمران تجد أن الله سبحانه وتعالى قدم بين يدي مولد المسيح عليه السلام من غير أب قصة امرأة عمران وزكريا، وكيف أنها رأت كرامات الله التي كان يكرم بها مريم عليها السلام، {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، ثم يقول تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38] وهذا تمهيد لحدوث الآية العظمى فيما بعد، فلما رأى هذه الكرامة، وأن الله قادر على أن يرزق من يشاء بغير حساب (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) فطمع في رحمة الله، فدعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له الولد فوهبه الله الولد مع أنه كان قد طعن في السن، فرزقه الله سبحانه وتعالى يحيى عليه السلام، فهذه إرهاصات ومقدمات تمهد القلوب لما هو أعظم مما سيأتي، وهو ميلاد المسيح عليه السلام، وهو من آيات الله سبحانه وتعالى. كذلك نلاحظ أن بعثة النبي عليه الصلاة والسلام حدث غير مجرى تاريخ البشرية كلها، فتجد إرهاصات كثيرة بين يدي بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك: حادثة الفيل فقد ولد في نفس السنة، إشارة إلى أن هذا البيت وهذه البلدة وهذه الكعبة يراد بها أمر عظيم، ولذلك حماها الله سبحانه وتعالى من جيش أبرهة لما أراد هذا البيت وأهله بسوء، فحصلت حادثة الفيل، وهي آية من آيات الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ كي تمهد أيضاً القلوب لحدوث مثل هذه المعجزة العظمى، وهذا الأمر المهم، وهو بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الجن وجدوا أن السماء حرست بالشهب والنيازك، وأنهم لن يستطيعوا أن يسترقوا السمع كما كان يحصل من قبل؛ وهذا أيضاً تمهيد بين يدي بعثته صلى الله عليه وسلم. ومن تلك الإرهاصات: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأت أمي كأن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام). ومن هذه الإرهاصات: هواتف الجن كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الجن كانوا ينطقون ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من الممهدات، فكلها أمور تمهد لحصول أمر أخطر منها وأعظم. وكذلك هنا أيضاً لو أننا تتبعنا الآيات السابقة في الأرباع الماضية، نجد إرهاصات وتقدمة وتوطئة وتمهيد لهذا الحدث الخطير، وهو حدث تحويل القبلة، وقد بدأت الآيات بالتنويه بدين الإسلام، ونسبة ذلك إلى ملة إبراهيم عليه السلام، وأنه كان مسلماً موحداً، وأن أبا الأنبياء الخليل عليه السلام كان على ملة الإسلام، وكذب من قال: إنه كان يهودياً أو كان نصرانياً. ثم أتت قصة بناء الكعبة المشرفة، وفضل هذه الكعبة، ودعاء إبراهيم وإسماعيل ببعثة النبي عليه السلام بعد ذلك، ثم أتت الآيات تتحدث عن النسخ في آيات الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106]، وكل هذا تمهيد للقلوب؛ حتى إذا ما حصل نسخ للقبلة تكون القلوب قد تقبلت هذا الحدث، ولم يبق حجة لأعداء الدين أن يطعنوا وينفذوا من خلال هذه الثغرة، فهذا نوع من الإرهاصات نحو الحدث، وهو الذي ينبه الله أيضاً قبل وقوعه بقوله: (سيقول السفهاء)، فقبل أن يقولوا ينبهنا ويقول: (سيقول السفهاء) ويصفهم بالسفه، وقد كان ذلك بالفعل وقالوا كما أخبر الله تبارك وتعالى، فهذا خبر حصل قبل وقوع الحدث، وفائدته: توطين النفس واستعدادها على ما بعد الحدث.

جواب الله للمشركين بصدد تحويل القبلة

جواب الله للمشركين بصدد تحويل القبلة إن الله تعالى يسلح المؤمنين بالحجج التي يهزمون بها أعداء الله من اليهود والمشركين، سيقول لكم السفهاء من الناس: (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) فاعلموا الجواب من الآن، وقولوا لهم: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142] فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب شديد على الخصم الألد، مع ما فيه من دلائل النبوة، لماذا؟ لأنه أخبر عليه الصلاة والسلام عن غيب وقد وقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة. (قل لله المشرق والمغرب) هذا جواب عن شبهتهم، وتقريره: أن الجهات كلها ملك لله، فهي لله من ناحية الملكية، وحدود الأرض من مشرقها إلى مغربها كل هذا ملك له تبارك وتعالى، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى هو الذي جعلها قبلة، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى، وما أمر به فهو الحق. (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا فيه تعظيم لأهل الإسلام، وإظهار عناية الله تبارك وتعالى بهم، وتفخيم شأن الكعبة، كما فخمه عند إضافته إليه في قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، فهذه إضافة تفخيم وتشريف وتعظيم للكعبة المشرفة، كذلك هنا قال: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إشارة كما ذكرنا لتعظيم الكعبة وشرفها، وإشارة إلى شدة عناية الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة، حيث امتن عليهم بأن هداهم إلى هذا الحكم، وهو استقبال الكعبة المشرفة.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143]. يقول السيوطي رحمه الله: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) كذلك كما هديناكم إليه جعلناكم -يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم- أمة وسطاً، يعني: خياراً عدولاً، (لتكونوا شهداء على الناس) يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم، (ويكون الرسول عليكم شهيداً) ويشهد عليكم الرسول أنه بلغكم. (وما جعلنا) يعني: ما صيرنا (القبلة) لك الآن الجهة (التي كنت عليها) وهي الكعبة. إذاً: إعراب (التي كنت عليها) مفعول ثانٍ لـ: (جعلنا)؛ لأن (جعلنا) فعل يتعدى لمفعولين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الكعبة حين يصلي بينه وبين بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة أمر أن يستقبل بيت المقدس، فصلى إليه ستة أو سبعة عشر شهراً، ثم حول عنها. {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] إلا لنعلم علم ظهور، (من يتبع الرسول) أي: يصدقه، (ممن ينقلب على عقبيه) أي: يرجع إلى الكفر شكاً في الدين، وظناً أن النبي صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره، وقد ارتد لذلك جماعة. {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] (إن) مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي: وإنها كانت كبيرة، أي: التولية والانصراف إلى الكعبة، (لكبيرة) أي: شاقة على الناس، (إلا على الذين هدى الله) منهم، (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، بل يثيبكم عليها؛ لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل؛ لأن الصحابة تساءلوا لما نزل هذا الحكم عن صلاة الذين ماتوا قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، ولم يدروا ما يقولون فيهم، فأنزل الله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا الحديث في البخاري. (إن الله بالناس) الناس المقصود بهم هنا المؤمنون، (لرءوف رحيم) في عدم إضاعة أعمالهم، والرأفة هي شدة الرحمة، وقدم الأبلغ هو الرءوف على الرحيم مراعاة لرءوس الآي.

حجية العمل بالسنة

حجية العمل بالسنة قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143]. قبل أن نستطرد في شرح هذه الآية، هل في هذه الآية دليل على حجية السنة من القرآن؟ قد نسمع بعض الضالين المنحرفين يقولون: لا حجة إلا في القرآن، ونحن لا نعترف بالسنة! فإذا أردت أن تفحمهم، وتقيم عليهم دليلاً من القرآن نفسه، لو كانوا قرآنيين فعلاً ويحترمون القرآن لالتزموا بهذا الدليل من القرآن، هل هذه الآية تثبت حجية الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها) جعلنا، النون تعود على الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن القبلة الأولى هل كانت بشرع الله أم بشرع الرسول عليه الصلاة والسلام؟ الرسول إذا شرع فإنما يشرع بإذن الله، لكنها ثبتت بمعنى آخر عن الله سبحانه وتعالى، فالذي أمر باستقبال البيت هو الله، ومن الذي أمر باستقبال بيت المقدس في أول الأمر؟ هل يوجد في القرآن دليل أو أمر يقول للمسلمين: استقبلوا بيت المقدس في الصلاة؟ أين هذا الدليل؟ الدليل على أن المسلمين كان عليهم أن يستقبلوا بيت المقدس في الصلاة لا نجده في القرآن الكريم، وإنما نجده فقط في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقول: (وما جعلنا) فمن الذي جعل؟ هو الله، جعله في السنة؛ لأن السنة وحي مثل القرآن، فهذا من أوضح الأدلة الموجودة في القرآن -وما أكثرها- على حجية سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) يعني كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وأفضلها جعلناكم أمة وسطاً، يعني عدولاً خياراً، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] خياراً عدولاً، كقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:28] يعني: أعدلهم وأفضلهم، ويقول زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) تعليل للجعل المنوه به الذي تمت المنة به عليهم، أي: ما جعلناكم أمة وسطاً إلا لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيداً.

شهادة الرسل على أقوامهم

شهادة الرسل على أقوامهم يتكرر في القرآن الكريم وصف الأمة بالشهادة، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً بالشهادة، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، فالشهود والشهادة هي الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر وإما بالبصيرة، وقد يقال للحضور كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، فكلمة الشهادة أولى بالحضور وإن كانت تقال على الحضور أو المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة، لكن الأصل فيها والأغلب أنها تكون في الحضور بالبصر، ويقال للمرأة التي يحضرها زوجها: مشهد، ولذلك سألت عائشة رضي الله عنها المرأة يوماً، قالت لها: أمشهد أم مغيب؟ يعني: زوجك حاضر أم مسافر. وجمع مشهد مشاهد، ومنه مشاهد الحج، لماذا؟ لأنها تحضرها الملائكة ويحضرها الأبرار من الناس، قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] يعني: يحضروا، وقال تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} [النور:2] يحضرون ويرون بالبصر، وقال تعالى حاكياً عن قوم صالح: {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل:49] ما حضرنا، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] أي: لا يحضرون بنفوسهم ولا يسمعون بإرادتهم مجالس الزور، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] أي: تحضره ملائكة الليل وملائكة النهار. فالشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، هذا هو تعريف الشهادة، فأنت حينما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، تعني: أنك بعدما تدبرت ورأيت الآيات واستحضرت معناها شهدت بهذه الآيات على وجود الله سبحانه وتعالى وتوحيده، فالشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، وليس عن تقليد، وقال تعالى: (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] أي: أحضروا وشاهدوا خلق الملائكة؟ ثم قال تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} [الزخرف:19]. ومن ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] أي: على هؤلاء المشركين شهيداً، وقال تبارك وتعالى: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:69 - 70]، قيل: الشهداء وصف للأنبياء أنفسهم؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فشهيد كل أمة هو رسولها، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]. وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [النحل:89]، ويقول تعالى هنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] (وسطاً) أي: خياراً عدولاً، ويدل بأن الوسط هم الخيار العدول: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وهذا المعنى معروف في لغة العرب، ومنه قول زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقوله تعالى: (ويكون الرسول عليكم شهيداً)، لم يبين هل هو شهيد عليهم في الدنيا أو في الآخرة؟ ولكنه بين في موضع آخر أنه يكون شهيداً عليهم في الآخرة، وذلك في قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42].

معنى وسطية الأمة

معنى وسطية الأمة يقول القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) المعنى: كما أن الكعبة وسط الأرض، وهذا اكتشاف علمي اكتشف حديثاً، وهناك بحوث علمية مؤكدة بأن مكة هي مركز اليابس على سطح الكرة الأرضية، فانظر كيف استنبط القرطبي هذا المعنى من القرآن، يقول: كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أيها الأمة أمة وسطاً، أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. أي: أنتم أقل من الأنبياء وفوق كل أمم الأنبياء، فأنتم خير أمة أخرجت للناس، هذا أحد معاني الوسطية. والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، وأفضل الأشياء الوسط. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) قال: (عدلاً)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وفي التنزيل الكريم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: أعدلهم وخيرهم، وقال زهير: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقال آخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن في الأمور فرطاً لا تسألن إن سألت شططاً وكن من الناس جميعاً وسطاً ووسط الوادي خير موضع فيه وأكثره كلأً وماءً، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أي هذه الأمة أمة وسط، يعني أنها مبرأة من الغلو أو التطرف كما يقولون على المصطلح الشائع الآن، فالتطرف أخذ الأشياء بطرف الأمور: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الخوادث حتى أصبحت طرفاً فالأخذ بأطراف الأمور سواء في الإفراط أو التفريط، الغلو أو الجفاء، هو التطرف، وذلك كأن تكون مغالياً في التعامل مع الأمور أو في فهمها، فهذه الأمة مبرأة من هذا الوصف، وكما ذكرنا من قبل مراراً: أن التعريف الوحيد الصحيح للمتطرف: هو كل من عدا المسلم من أهل السنة والجماعة، فكل رجل على غير ملة الإسلام فهو متطرف قطعاً ولا شك في ذلك، فاليهودي والنصراني والمجوسي والمشرك كلهم متطرف، وكل من ليس من أهل السنة والجماعة من المسلمين فهو أيضاً متطرف، فالخارجي متطرف، والمرجئ متطرف، والجبري متطرف، والقدري متطرف وهكذا، في كل قضية هناك طرفان ووسط، فالمعتدل الوحيد في هذا الوجود هو أولاً: المسلم، ثانياً: الذي يكون من أهل السنة والجماعة، وكل من خالفه في عقيدته ومنهجه فهو المتطرف.

شهادة أمة محمد على غيرها من الأمم

شهادة أمة محمد على غيرها من الأمم هذه الأمة أمة وسط لأنها لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم, ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، فالنصارى غلو حتى عبدوا المسيح عليه السلام، واليهود جفو حتى شتموا الأنبياء وسبوهم ورموهم بعظائم الأمور، وفي الأثر: (خير الأمور أوسطها)، وثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول الله سبحانه وتعالى لنوح عليه السلام: من يشهد لك؟ فيقول نوح عليه السلام: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، فذلك قوله عز وجل: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) [البقرة:143]). من أين ستشهد هذه الأمة أن نوحاً بلغ؟! لأنهم يؤمنون بالقرآن، والقرآن حكى لنا أن نوحاً عليه السلام بلغ أمته، وهو خبر الله سبحانه وتعالى الذي لا مراء فيه. وفي رواية ابن المبارك: (ستقول فيكم الأمم: كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟! فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى-يعني للمسلمين-: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا، فيقول الرب: صدقوا، فذلك قول الله عز وجل: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً)). وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب ثناء الناس على الميت، حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)، قال الحافظ: المراد بالوجوب الثبوت؛ لأن الشيء الثابت في صحة الوقوع كالواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضله والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل. وقال أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) أي: المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، والبعض خصص ذلك بالصحابة رضي الله تعالى عنهم، والصواب أن ذلك يختص بالثقات المتقين. ويقول تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا} [النحل:89]، وهذا أيضاً بنفس معنى هذه الآية الكريمة. قوله تبارك وتعالى هنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، هذه اللام إما أنها لام الصيرورة والعاقبة، وإما أنها لام التعليل، فإذا قلنا: إنها لام الصيرورة والعاقبة، فالمعنى: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً؛ فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطاً أن كنتم شهداء على الناس. والناس هنا أهل الأديان الأخرى، وإذا قلنا أنها لام التعليل وهذا هو الأصل فالمعنى: جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا: أي: لأجل أن تكونوا شهداء على الناس أي رقباء عليهم، لدعائهم إلى الحق وإرشادهم إلى الهدى، وإنجائهم مما هم فيه من الزيغ والضلال، كما كان الرسول شهيداً عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم، وعلى هذا القول، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فكذلك هنا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا} [البقرة:143]، وهذا تعليل، أي: كي تكونوا شهداء على الناس، فالوسط بمعنى الخيار، وقد صرح به في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وإلى هذا المعنى يشير مجاهد في تفسيره لهذه الآية الكريمة حيث قال: لتكونوا شهداء لمحمد عليه الصلاة والسلام على الأمم: اليهود والنصارى والمجوس، لأنكم نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على الأمم. يعني أن هذه الأمة نائبة عن الرسول عليه الصلاة والسلام في إقامة الحجة، فإذا قصرت هذه الأمة في ذلك فكيف يصلحون أن يكونوا شهداء؟ وكيف تكونون شهداء وأنتم ما بلغتموهم وقصرتم في إقامة الحجة عليهم؟ فلا بد أن نُشهِد نحن الأمم جميعاً على أحقية إرساله صلى الله عليه وسلم إليها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو وظيفة هذه الأمة كما وصفها الله تبارك وتعالى بذلك في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وكما وصف نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157]، ووصف المؤمنين بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].

هذه الأمة هي أشرف الأمم على الإطلاق

هذه الأمة هي أشرف الأمم على الإطلاق نحن في هذا الزمان لابد أن نعرف مكان هذه الأمة التي ننتسب إليها، وهذا الدين الذي ننتسب إليه، نحن لسنا من سقط المتاع، ولسنا بذيول الأمم، وإنما الموقع الطبيعي لنا أن نكون في قمة البشرية، وأن نكون مهيمنين عليها لقيادتها إلى الخير وإلى ما يرضي الله تبارك وتعالى، فهذه الأمة هي أكمل الأمم على الإطلاق، وإذا تمسكت بالقرآن والسنة فحينئذ تكون أكمل الأمم وأعلى الأمم وأشرف الأمم على الإطلاق، وليس ذلك على أساس اللون ولا العنصر ولا الأجناس ولا الغنى ولا الدنيا؛ ولذلك ذم الله هؤلاء السفهاء الذين يفتنون بالكفار ويغترون بما آتاهم الله سبحانه وتعالى من متاع الدنيا وتقلبهم في البلاد، ولا يمكن أبداً أن يكون تفضيلهم للكفار على أساس دينهم، وإنما تفضيلهم لهم على المسلمين هو على أساس أي شيء من أمور الدنيا، أو عرض من أعراضها: الغنى، المباني، الجمال، الخضرة، التفوق في أمور الدنيا، لكن لا يمكن أبداً أن يكون ذلك تكريم، قارن في أي شيء من أمور الدين وفي أمور الآخرة ستجدهم في أسفل سافلين بل أحط من البهائم والأنعام كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، ولذلك ندبنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر في الدين إلى من هو فوقنا، وننظر في الدنيا إلى من هو أسفل منا؛ كي لا نزدري نعمة الله علينا، فالذين يفتنون بهؤلاء الكفار يعكسون وصية النبي صلى الله عليه وسلم ويخالفونها، فهم ينظرون إلى من فوقهم في الدنيا، ولا ينظرون لحالهم في الدين!! فانظر لأي وجه من وجوه الافتتان بما عليه الكفار الآن، وماذا يساوي بالنسبة لبعدهم وانسلاخهم عن الدين! فهم كفار مشركون، يعبدون الشركاء والأنداد من دون الله، وانظر في أخلاقهم تجد الفساد والعناد والإجرام والانحراف، انظر إلى أخلاقهم في التعامل مع الأمم تجد الظلم والقهر والإذلال، وانظر لكل شيء من أمور الدين وأمور الآخرة تجدهم صفراً، فهم كالأنعام بل هم أضل من الأنعام، يعيشون للشهوات ويعيشون للدنيا، فالذي يفتن بهم لا يفتن إلا بسبب الدنيا، لكن إذا عظم الدين في قلبه لاحتقرهم ولعاداهم ولأبغضهم كما أرشدنا الله تبارك وتعالى، فنحن المسلمين لسنا من سقط المتاع، نحن أفضل أمة على الإطلاق إذا تمسكنا بالقرآن والسنة، فأكمل الأمم عقولاً وأهداها سبيلاً هي الأمة المحمدية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وعند المسلمين من العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين ما قد ملأ العالم نوراً وهدى) وهذا نلمسه الآن بأيدينا في ظل انحطاط هؤلاء المشركين، وكيف أن أمة المسلمين -على ما فيها من الضعف- أهدى الأمم عقولاً، وأنضجها عقولاً، وأقومها بأمر الله تبارك وتعالى.

من مظاهر وسطية وخيرية هذه الأمة

من مظاهر وسطية وخيرية هذه الأمة نقرأ الرسالة التي أرسلها شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جماعة عدي بن مسافر -فنتلوها عليكم باختصار لأن فيها فوائد عظيمة جداً متعلقة بهذه الآية ولا نستطيع أن نمر عليها مراً عابراً سريعاً- يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة كما كان الكتاب والسنة حجة، ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله وعما مضت عليه جماعة المسلمين -يعني أهل السنة، فهم ليسوا فقط أهل سنة ولكنهم أيضاً أهل جماعة يجتمعون- وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة رواه عنه أهل السنن والمسانيد كالإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم أنه قال: (ستفترق هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) هذا هو المقياس للفرق الناجية عن النارية، وهذه الفرقة الناجية هي أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين -يعني وسط في مواقفهم من هؤلاء- لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً، بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أرباباً، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]. ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح، فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة كما تقوله النصارى، ولا كفروا به وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً، حتى جعلوه ولد زنا كما زعمت اليهود، بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه. وكذلك المؤمنون وسط في شرائع الله، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]-لأن اليهود ينكرون النسخ، ويعيبون المسلمين بوقوع النسخ، وأنكروا رسالة المسيح أيضاً؛ لأن المسيح أتى بنسخ بعض الشرائع في التوراة- فاليهود يعيبون النسخ وينكرونه، ولذلك أنكروا نسخ القبلة، وحكى الله أيضاً بقوله {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، كذلك فالمسلمون لم يجوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر ذلك عنهم بقوله {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: (قلت: يا رسول الله! ما عبدوهم! قال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم) والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: إن الله يحكم بما يريد، وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيماً، كذلك في صفات الله تعالى فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقالوا -والعياذ بالله-: يد الله مغلولة، وقالوا -والعياذ بالله-: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك، والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به فقالوا: إنه يخلق ويرزق ويغفر ويرحم ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب، والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى ليس له سمي ولا ند ولم يكن له كفواً أحد، وليس كمثله شيء، فإنه رب العالمين، وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له، فقراء إليه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]. ومن ذلك أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160]، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبقر، ولا شحم الثرب -وهو شحم رقيق يغشى الكرش والأمعاء والكليتين- ولا الجدي في لبن أمه إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً من المحرمات -أما المحرمات من الطعام في الإسلام محصورة وضيقة جداً- والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت -يعني لا يعيشون معها في البيوت-، وأما النصارى فاستحلوا الخبائث، -أي: عكس التشديد الذي كان عند اليهود- أما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، ولهذا قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فإذا كان هذا حالهم أيضاً في الحلال والحرام، فكيف نعت الله المؤمنين في هذا الباب، يقول تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157]. وهذا باب يطول وصفه. وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه حتى يشبهونه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات، فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وهم في باب خلقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله وبين المفسدين لدين الله، بين المجبرة وبين القدرية إلى أن يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد الوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء) ثم ناقش بالتفصيل طرفي النقيض في هذا الموضوع بين الفرق الضالة، كما ذكر وسطية هذه الأمة أهل السنة والجماعة في شأن الصحابة بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه ويبن هؤلاء الجفاة الذين يعادونه ويعادون عثمان رضي الله تعالى عنه.

تفسير قول الله عز وجل: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)

تفسير قول الله عز وجل: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] أي ما شرعنا القبلة، كقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة:103] إلى آخره، يعني: ما شرعها، {الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] ليست هذه الجملة صفة للقبلة، وإنما هي صفة ثاني مفعولي جعل، أي: وما جعلنا القبلة والجهة التي كنت عليها أي: في مكة. تستقبلها قبل الهجرة، يعني: الكعبة، وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً، أو بمعنى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] يعني التي أنت عليها أو التي صرت إليها الآن، كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] يعني أنتم خير أمة، فكنت أنت عليها، أو التي كنت عليها حريصاً، {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:143] يعني تطلبها، أي: حريصاً عليها وراغباً فيها، والدليل على هذا قوله تعالى فيما بعد ذلك: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] يعني لشدة حرصه على أن تحول القبلة. {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] يعني الحكمة في هذا التشريع؛ لنعلم من يتبع الرسول في كل ما يؤمر به، فيثبت عند تقلب الأحكام لما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له على أي حال {مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] أي يرتد عن دينه فينافق أو يكفر ممن كان يظهر الاتباع، وأصل المنقلب على عقبيه هو الراجع مستدبراً في الطريق الذي كان قد قطعه منصرفاً عنه، استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير. قال ابن جرير: قد ارتد في محنة الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم في القبلة رجال ممن كان قد أسلم، يعني: هذا الامتحان والابتلاء بتحويل القبلة تسبب في ارتداد بعض من كان من المسلمين، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم فقالوا: ما بال محمد يحولنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا، وقال المسلمون فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت؛ لأن أول ما نسخ هو القبلة؛ فلذلك كان هذا الابتلاء وهذا الامتحان عظيماً حتى أن من المسلمين من قال: بطلت صلاتنا فيما مضى أي: التي كنا نستقبل فيها بيت المقدس، وكذلك بطلت صلاة إخواننا الذين ماتوا وهم لم يشهدوا هذا التحويل! وقال المشركون: تحير محمد في دينه، فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصاً لهم، ومعنى قوله تعالى: {عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] تثنية عقب، وهو مؤخر القدم، والانقلاب عليهما مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:23]، ومثل قوله {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [العلق:13].

علم الله تبارك وتعالى

علم الله تبارك وتعالى قوله تعالى: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] هناك خلاف في تفسير هذه الآية، وباختصار شديد نقول: إن العلم الذي ينسب إلى الله سبحانه وتعالى نوعان: علم غيب، وعلم شهادة، فعلم الغيب هو: علم الله قبل التكليف، وعلم الشهادة هو: العلم الذي يترتب عليه الجزاء، فالله سبحانه وتعالى يعلم ما سيكون منا، وكل ما يأتي فالله تعالى يعلمه، والله سبحانه لا يحاسبنا طبقاً لعلمه السابق، وإنما يحاسبنا بعد وقوع ما علمه فينا، فهذا هو الذي يترتب عليه الجزاء، فقوله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، وكذلك قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، فظاهر هاتين الآيتين قد يتوهم منه الجاهل أن الله يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!! وهذا كفر والعياذ بالله؛ لأن العلم إذا كان حادثاً في حق الله سبحانه وتعالى فمعنى ذلك أن عدم وجوده يكون صفة نقص، وإذا كان يحدث له علم من جديد فمعناه أن هذا العلم لم يكن من قبل! وهذا وصف لله سبحانه وتعالى بعكس العلم والعياذ بالله، وهذا كفر، وهو ما يتوهمه بعض الجهال، لكننا نعلم قطعاً أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، فهو يعلم ما سيعمله الخلق كما دلت عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32]، وقال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] وهذا يعني أن الله يعلمها، وبين الله تبارك وتعالى أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه فقال عز وجل: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] فانظر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] بعد قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ} [آل عمران:154] فهو دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنه إذا كان عليماً بذات الصدور فهو غني عن الاختبار، لا يعزب عنه مثقال ذرة، فنحن نتوقف عند هذا اللفظ بالذات لأن هذا يتكرر في الآيات كثيراً. فهذه الآية وهي قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] فيها بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، فقوله {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] يعني: حتى نعلم علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، وهذا لا ينفي أنه كان عالماً به قبل ذلك، بل هو يعلم قبل ذلك، لكن علم الماضي الذي هو صفة من صفات الله لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، فالله لا يعاقبك طبقاً لعلمه فيك، لكن يعاقبك طبقاً لما عملته، وهو موافق لعلمه السابق، وفائدة هذا الاختبار: ظهور الأمر للناس، والله هو عالم السر والنجوى، عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه الجزاء؛ لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم، فتأويله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31] أي: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة؛ لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء والثواب والعقاب يقع على علم الشهادة، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] أي: نختبرها ونظهرها. وقال الطبري رحمه الله: ولنبلونكم -أيها المؤمنون- بالقتل وجهاد أعداء الله، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31] يعني: حتى يعلم حزبي وأوليائي أهلَ الجهاد في الله منكم وأهلَ الصبر على قتال أعدائه، فيظهر ذلك لهم، ويَعرف ذوي البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة، وأهل الإيمان من أهل النفاق، يقول تبارك وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179] وهذه الآية تؤيد هذا التفسير، (حتى نعلم) يعني: حتى يعلم حزبي وأوليائي المؤمنين الصادقين من المنافقين الكاذبين، لأن الله تبارك وتعالى أخبر أن معرفة الناس وتمييزهم الغرض منه أن ينكشفوا لأولياء الله، فيعلم من المؤمن ومن المنافق، من الصادق ومن الكاذب، وهذا يحتمل أن يكون من طريقين: إما وقوع الابتلاءات ثم يتمايز الناس ويظهرون من خلال الابتلاء، وإما من طريق آخر هو معرفة الغيب، وليس هناك سبيل لغير الله أن يعرف الغيب، وليس هناك سبيل للاطلاع على حقائق الناس من خلال معرفة الغيب؛ لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]؛ لهذا فإن الباب مسدود في حق البشر والمخلوقين، ولا يعلم الغيب إلا الله، فلم يبق إلا طريق واحد فقط حتى يعرف الناس الخبيث من الطيب، وهو وقوع الابتلاء في الجهاد وغيره (حتى نعلم) يعني: حتى يعلم أوليائي ويتميز الناس؛ ولذلك يقول تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران:179] من اختفاء أموركم وعدم ظهور حقيقة إيمانكم {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] يعني: حتى يميّز أوليائي وحزبي الخبيث من الناس من الطيب، فلا سبيل إلى ذلك إلا بالاختبار والابتلاء وإظهار علم الشهادة حين تقع هذه الأعمال. يقول الإمام ابن جرير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وكان من شأن العرب إضافة ما فعله أتباع الرئيس إلى الرئيس، وما فعل بهم إليه، فمثلاً تقول: فتح عمر بن الخطاب سواد العراق، وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحاب عمر وجنوده، ونسب إليه لأنهم يأتمرون بأمره، فهو سبب في ذلك، كما قال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين! مصر الله بك الأمصار، وفتح بك البلاد، فقوله: (بك) لأنه كان سبباً لذلك، أما الذي فتح فهم جنوده، فهذه هي عادة العرب، ونظيره حديث أبي هريرة في مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمك أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي) فهنا نسب الله سبحانه وتعالى المرض والاستسقاء والاستطعام إلى نفسه، وكان ذلك لغيره. وحكي عن بعض العرب سماعاً: أجوع في غير بطني، وأعرى في غير ظهري، ومعنى ذلك أن بعض العرب كان يشتكي، أو أن المقصود التعبير عن جوع أهله وعياله وعري ظهورهم، كذلك قوله تعالى هنا: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ} [البقرة:143] يعني ليعلم رسولي وحزبي وأوليائي، {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] والتاء في قوله: (وإن كانت) تعود على التولية أو الجعل أو التحويل أي: التولية إليها أو الجعل أو التحويل (لكبيرة) أي: ثقيلة شاقة؛ لأن مفارقة الإلف بعد طمأنينة النفس إليه أمر شاق جداً، {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] يعني هدى الله قلوبهم فأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنهم كلما حدث أمر أحدث لهم شكاً، لكن يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق، يقول تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125]، ويقول تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].

عدم ضياع أعمال المؤمنين

عدم ضياع أعمال المؤمنين قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] هذا تطمين، طمأنة لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين. ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبيان أنهم يثابون على ذلك، يعني ما دمتم في الحالتين أطعتم أمر الله فلم تبطل صلاتكم كما توجستم، فقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق عن البراء قال: وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] أي صلاتكم، وإنما عدل إلى لفظ الإيمان الذي هو عام في الصلاة وغيرها ليوحي لهم أنه لم يضع شيء مما عملوه ومن ثم يصح منهم، فينبغي أن يكون المسئول عنه حكماً أولياً ويكون الحكم في الإجابة كلياً. وقوله عز وجل هنا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أتى بلفظ الخطاب دون الغائب ليتناول الماضين والباقين، لتغليب حكم المخاطب على الغائب في اللفظ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة، فلم يحبط الله صلاتهم إلى بيت المقدس لأنه رءوف رحيم، هذا تعليل بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة، فإن الله سبحانه وتعالى لأنه رءوف رحيم بكم لا يمكن أبداً أن يحبط صلاتكم إلى بيت المقدس، يقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن الصلاة ليست من الإيمان -فالمرجئة يعتبرون أن الإيمان هو المعرفة فقط، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان ومنها الصلاة- فهذه الآية رد على المرجئة، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فسمى الصلاة إيماناً.

البقرة [144 - 154]

تفسير سورة البقرة [144 - 154]

تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء)

تفسير قوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) لما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود؛ أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144]. هذه الآيات جاءت بعدما أخبر الله سبحانه وتعالى المؤمنين مسبقاً أنه سيحصل تحويل للقبلة، وأن السفهاء من الناس سوف يخوضون في هذا الأمر، {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:142 - 143]. فلما انطوى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة المشرفة لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وهي مفخرة العرب ومزارهم، وأيضاً لشدة حرصه على مخالفة أهل الكتاب واليهود؛ أجابه الله تبارك وتعالى إلى تطلعه بقوله عز وجل: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] و (قد) هنا للتحقيق، وليست للتقليل، وهي تأتي للتقليل وتأتي أيضاً للتحقيق كما هنا، (قد نرى) لتأكيد وقوع هذه الرؤية، يقول السيوطي: (تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) أي: في جهة السماء، متطلعاً إلى الوحي، ومتشوقاً للأمر باستقبال الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم يود ذلك لأنها قبلة إبراهيم؛ ولأنه أدعى إلى إسلام العرب؛ لأن العرب أيضاً يعظمونها، فإذا حولت القبلة إلى الكعبة المشرفة فهذا سيكون فيه تأليف لهم، وجذب لقلوبهم نحو الإسلام؛ لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام. وفي هذه الآية الجليلة بيان لحسن أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان ينتظر، ولم يسأل ربه تبارك وتعالى ذلك، وإنما كان يتطلع بقلبه ويتطلع بعينه، وينظر إلى السماء منتظراً ومتشوقاً إلى نزول الوحي بالأمر باستقبال الكعبة المشرفة. يقول تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] (فلنولينك) أي: لنحولنك إلى قبلة (ترضاها) أي: تحبها {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] (فول وجهك) يعني: في الصلاة، فاستقبل في الصلاة المسجد الحرام، (شطر) يعني: نحو (المسجد الحرام) أي: الكعبة المشرفة، وإنما لم يقل: فول وجهك شطر الكعبة؛ لأن المقصود استقبال الجهة، وليس عين الكعبة، وعين الكعبة معناه جسم الكعبة، وهذا يكون لمن هو قريب منها، أما من بعد عنها فإنه يستقبل الجهة فقط؛ ولذلك تكون الصفوف حول الكعبة مستديرة، لأنهم لو وقفوا بصورة صفوف مربعة في الجهات فإن الذين عند الأركان والزوايا لن يستقبلوا الكعبة، فلذلك لا بد على من كان مستقبلاً أحد الأركان أن يستقبل جسم الكعبة، وألّا ينعطف، بل يقع امتداد جسمه على جسم أو عين الكعبة المشرفة، فالقريب من الكعبة يجب عليه أن يستقبل عينها، ولذلك فالصفوف تكون مستديرة؛ لأنه بالاستدارة فقط يحصل هذا الاستقبال لكل المصلين. أما من بعد عن الكعبة فواجبه أن يستقبل جهتها؛ ولذلك قال تعالى هنا: ((فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ)) أي استقبل في الصلاة (شطر) أي نحو (المسجد الحرام) ولم يقل: الكعبة، وإن كان المقصود هو الكعبة. ((وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)) حتى يدفع الله تبارك وتعالى احتمال الخصوصية؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا الأمر كالأمر بقيام الليل خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك نص الله تبارك وتعالى على الأمر باستقبال الكعبة لسائر المؤمنين كي يدفع احتمال الخصوصية في ذلك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ((وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)) الخطاب هنا للأمة، والمقصود ولوا وجوهكم في الصلاة؛ لأن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة. ((وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه أي: التولي إلى الكعبة، (الحق) أي: الثابت (من ربهم) لما في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يتحول إليها. ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) والخطاب هنا للمؤمنين، أي: عما تعملون أيها المؤمنون من امتثال أمره، والقراءة الأخرى بالياء ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) يعني: اليهود، والله ليس بغافل عما يعملون مثل استنكار أمر القبلة المشرفة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أما خطابه الخاص للنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) فتشريفاً له وإجابة لرغبته، وأما خطابه العام بعده فهو خطاب للأمة (وحيث ما كنتم) أيها الأمة؛ لأنه كان يجوز أن يعتقد أن هذا أمر قد خص عليه الصلاة والسلام به كما خص بقوله تبارك وتعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2]، ولأنه لما كان الأمر في تحويل القبلة أمراً له فقط خصهم بخطاب مفرد؛ ليكون ذلك أبلغ؛ وليكون لهم في ذلك تشريف؛ ولأن في الخطاب العام تعليق حكم آخر به، وهو أنه لا فرق بين القرب والبعد في وجوب التوجه إلى الكعبة. ((وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) هذا ينطبق على ما تقدم ذكره، فإما أن يكون الضمير في (أنه) يعود إلى الرسول أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق من عند الله تبارك وتعالى، وإما أن يكون المراد القبلة نفسها، فجاز أن يكون المراد بقوله: ((لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق، فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها، ويحتمل أن يرجع الضمير في (أنه) إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة، وهذا المعنى هو الأقرب للسياق، فاليهود كانوا يعلمون مما في كتبهم أن الكعبة هي البيت العتيق التي جعلها الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق، فكان هذا التحويل حقاً، ففي هذه الحالة هم يلزمون بذلك، وعلى كلا الاحتمالين فهم يعلمون أن هذا الأمر حق من عند الله تبارك وتعالى. يقول القاسمي: وثم وجه آخر في علمهم أحقية ذلك التحويل، وأنه من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وبيانه: أن أمره تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ولكافة من اتبعه باستقبال الكعبة من جملة الاستعلان الذي هو مذكور في التوراة إشارة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية، ويسمى: سفر الاستثناء، وهذا موجود في التوراة إلى اليوم: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، -يعني: أن موسى قبل موته ذكر بني إسرائيل بهذه البشرى- فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران)، وفي بعض الألفاظ الأخرى: (واستعلن من فاران). فهذه البشارة تنبيه على موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، فالله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء وأشار إلى هذا بقوله: (جاء الرب من سيناء). وأشار إلى نزول جبريل على عيسى عليه السلام بقوله: (وأشرق لهم من ساعير)، وساعير: هي البلدة التي ولد فيها المسيح عليها السلام، وذلك في قرية تدعى الناصرة. وقوله: (وتلألأ أو استعلن من جبل فاران)، تلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، وأهل الكتاب لا يشكون أبداً أن كلمة فاران في كتبهم تعني: جبال مكة، أي: الجبال المحيطة بمكة، يقول القاسمي: ولا يخالفنا في ذلك أهل الكتاب، فأهل الكتاب يعترفون فعلاً بأن فاران هي مكة، ففي الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين يحاور إسماعيل عليه السلام هكذا: (وكان الله مع الغلام فكبر وكان ينمو رامي قوس، -كما جاء في الحديث: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) عليه السلام- وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران)، وفاران هي: الجبال المحيطة بمكة، فلا شك أن إسماعيل عليه السلام سكن في مكة، وفيها عاش وبها دفن. يقول ابن الأثير: وفي الحديث ذكر جبل فاران وهو من جبال مكة بالعبراني، له ذكر في أعلام النبوة. وفي القرآن الكريم إشارة إلى قريب من هذا المعنى في سورة التين، يقول تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3] وهذا تأييد لهذه البشارة التي بشر بها موسى عليه السلام، (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) والبلد المعروف بالتين والزيتون: فلسطين، وهي الأرض المباركة التي منها ساعير حيث ولد المسيح عليه السلام، فهذه إشارة إلى رسالة المسيح عليه السلام، (وَطُورِ سِينِينَ) وهو طور سينا، فهذه إشارة إلى رسالة موسى عليه السلام، (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) وهذه إشارة إلى مكة المكرمة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وأهل الكتاب يعلمون أن تعظيم القبلة واستقبالها في الصلاة كان فعل إبراهيم وإسماعيل، وأنها تدخل في

تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك إنك إذا لمن الظالمين)

تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك إنك إذاً لمن الظالمين) ولما ذكر تعالى أن أهل الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق أعلم أن صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة، وأن الاستكبار عن الانقياد للحق صفة راسخة ثابتة فيهم لا تتبدل ولا تتغير، فأقسم الله تبارك وتعالى بعد هذه الآيات مباشرة فقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْض} [البقرة:145] (ولئن) هذه لام القسم ((أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ)) يعني على صدقك في أمر القبلة، ((مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)) أي: لا يتبعون قبلتك، ولا يوافقونك أبداً في اتباعها عناداً واستكباراً، ((وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)) فاستقبال القبلة من الأمارات والعلامات المميزة للمسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فهو المسلم) ((وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ)) وفي هذا قطع لطمعه في إسلامهم، وطمعهم في عودته إليها، فلن يعود أبداً إلى استقبال بيت المقدس. {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أي: أن اليهود لن يتبعوا قبلة النصارى ولا العكس. ((وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ)) يعني التي يدعونك إليها ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)) يعني من الوحي ((إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)) يعني: إن اتبعتهم فرضاً فإنك من الظالمين. يقول تعالى: ((وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ)) أي: من اليهود والنصارى (بكل آية) أي: برهان قاطع على أن التوجه إلى الكعبة هو الحق، (ما تبعوا قبلتك) أي: التي حولت إليها؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة بل قد قامت عليهم الحجة، ولو كانوا تركوا اتباعك والانقياد للإسلام عن شبهة عندهم، ثم أتيت لهم بالحجج التي تزيل هذه الشبهة فقد يتبعونك، والذي ينحرف عن الحق يكون لأحد سببين: إما بسبب الجهل، أو الهوى والعناد والاستكبار والجحود، فأما الجاهل فإنه يعالج بالعلم وإقامة الحجة، وأما مرض الهوى {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]، وهنا يبين الله تبارك وتعالى أن مخالفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليست ناشئة عن شبهة عندهم، وإلا لكان يمكن أن تعالج بإقامة الحجة، لكن هي ناشئة عن عناد وجحود وتكبر عن الحق، وبالتالي لن تنفع معهم الحجج {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما} يعني مهما تأت بآية ((ما تبعوا قبلتك)) أي: لن ينقادوا إليك؛ لأنهم امتنعوا عن اتباعك لا عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، وإنما عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق، ((وما أنت بتابع قبلتهم)) وهذا حسم لأطماعهم في العود إليها، أو للمقابلة يعني: ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك، ((وما بعضهم بتابع قبلة بعض)) يعني فلا اتفاق بين فريقيهم مع كون الكل من بني إسرائيل. قال الزمخشري: أخبر تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه، فالمحق منهم -المسلمون- لا يتخلى عن مذهبه لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته في عناده، وفيه إراحة للنبي صلى الله عليه وسلم من التطلع إلى هدي بعضهم، يعني: تيئيس له وقطع لطمعه في إيمانهم. قال الراغب: إن قيل: كيف أعلن بأنهم لا يتبعون قبلته وقد آمن منهم فريق؟ -فالمعلوم أن من أهل الكتاب فريقاً قد آمنوا وأسلموا، فكيف نفهم معنى قوله تبارك وتعالى: (ما تبعوا قبلتك)؟ - قيل: إن هذا حكم على الكل دون الأبعاض، فهذا الحكم يعم الأغلب، فإذا شذ البعض فإنه لا ينافي هذا الحكم الكلي، بدلالة أنك لو قلت: ما آمنوا، وقد آمن بعضهم، لم يكن منافياً، وقيل: عني به أقوام مخصوصون. أيضاً في قوله تبارك وتعالى: (وما أنت بتابع قبلتهم) إشارة إلى أن من عرف الله حق معرفته فمن المحال أن يرتد، ولذا قيل: ما رجع من رجع إلا من الطريق، ومعنى ذلك: أن الإنسان الذي يرتد وينتكس لم يصل إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يصل إلى المعرفة بالله، أما الذي يصل حق الوصول فإنه لا يترك أبداً دين الله سبحانه وتعالى ومحبته؛ ولذلك فالذي يرجع إنما يرجع من أثناء الطريق قبل أن يصل؛ لأنه بعد أن يصل لا يمكن أبداً بعد أن يتمكن من معرفة الله سبحانه وتعالى وحبه أن يؤثر عليه غيره؛ ولذلك قالوا: ما رجع من رجع إلا من الطريق، أي ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إليه حق الوصول. وفي هذه الآية الكريمة أيضاً تنويه بفضل العلم، حيث سمى أمر النبوات والدلائل والمعجزات باسم العلم؛ فلذلك ننبه على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة، وذلك إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فأطلق لفظة العلم على الوحي والنبوة والدلائل والمعجزات، فدل على أن العلم أشرف المخلوقات لأنه ينتظم في معنى هذه الأمور الشريفة. ودلت الآية على أن توجه الوعيد إلى العلماء أشد من توجهه على غيرهم؛ لقوله تعالى: (من بعد ما جاءك من العلم).

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) قال عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] أي: يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم (كما يعرفون أبناءهم) أي: بنعته في كتبهم، قال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد صلى الله عليه وسلم أشد، يعني من شدة انطباق الصفات الموجودة في التوراة وفي الكتب السابقة في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو يعرفه أشد من معرفته ابنه مع أن ابنه رآه بنفسه، وهذا وصف عن غيب لم يره، لكنه لما رآه صارت معرفته بالرسول صلى الله عليه وسلم أشد من معرفته بابنه؛ ولذلك أسلم عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان من خيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ومن هذه البشارات قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] حتى صفات الرسول عليه الصلاة والسلام الجسدية وجدت في التوراة، ومن أبرزها ختم النبوة أو خاتم النبوة، وإلى اليوم فإن الإشارة إلى ختم النبوة وإلى العلامة التي بين كتفيه موجودة في التوراة وفي كتبهم، فهو لا يلتبس عليهم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلا تلتبس أشخاص أبنائهم بغيرهم، فشبه المعرفة العقلية الحاصلة بمطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية؛ لأن كلاً منهما يقيني لا اشتباه فيه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه: أتعرف محمداًَ كما تعرف ولدك؟ قال: نعم وأكثر، نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته، وابني لا أدري ما كان من أمه، فقبل عمر رأسه. {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة:146] وإن من أهل الكتاب مع ذلك التحقق ومع ذلك الإيقان بصفته، (ليكتمون الحق) أي يخفونه ولا يعلنونه، (وهم يعلمون) أي: وهم يعلمون الحق، ويعلمون عاقبة ترك الحق، ولم يقل تبارك وتعالى مثلاً: وإن فريقاً منهم ليكتمونه وهم يعلمون؛ لأن في إظهار كلمة الحق وتفضيلها على الضمير إشارة إلى طبيعة هذا النبي، ولكنهم ينكرونه ويجحدونه (وهم يعلمون) وفي هذا إشارة إلى فظاعة ذنبهم، لأن المرتكب ذنباً عن جهل ليس كمن يرتكبه عن علم؛ ولذلك قال تعالى: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) الحق من ربك: يعني الحق كائن من ربك، (فلا تكونن من الممترين) أي: الشاكين في هذا الأمر، فلا تكونن من هذا النوع، وهذا أبلغ من قوله: الحق من ربك فلا تمتر، ولكن قال: (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) يعني الشاكين، يقول الراغب: وليس هذا نهياً عن الشك؛ لأن الشك لا يكون بقصد من الشاك، بل قوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين) حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها، وعلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46].

تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا)

تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً) قال تبارك وتعالى: ((ولكل وجهة هو موليها)) ولكل من الأمم (وجهة) أي: قبلة (هو موليها) يعني: موليها وجهه في صلاته، وفي قراءة: (ولكل وجهة هو مولاها) أي مأمور بالتوجه إليها، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] أي: بادروا إلى الطاعات وخذوا بها، {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة:148] أي: يجمعكم يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].

تفسير قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)

تفسير قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر، فقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:149] وهنا إنشاء حكم جديد بخلاف الآيات المشابهة لذلك عما قريب، (ومن حيث خرجت) أي: لسفر (فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون) أو (عما يعملون) بالياء وبالتاء، فكرره لبيان أن حكم السفر وغيره سواء، فالمسافرون وغيرهم يستوون في اشتراط استقبال القبلة ما أمكن ذلك، فقوله عز وجل هنا: (ومن حيث خرجت) أي: ومن أي بلد خرجت للسفر، لأنه في الآية السابقة يقول تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) ثم قال (وحيث ما كنتم) أي: في حالة الإقامة، أما هنا قال: (ومن حيث خرجت) والخروج يكون في السفر، (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام). ولما عظم أمر القبلة وذكر انتفاء أقوال السفهاء وتنوع ضربهم وجدالهم كان الحال مقتضياً لما فيه تأكيد لأمرها وتعظيمٌ لشأنها، وتوهيةٌ لشبههم؛ فلذلك كرر الله تبارك وتعالى أيضاً الإشارة أو التنبيه إلى أمر استقبال القبلة فقال للمرة الثالثة: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150] يقول السيوطي رحمه الله تعالى: كرره للتأكيد، (لئلا يكون للناس) أي: اليهود أو المشركين، (عليكم حجة) أي: مجادلة في التولي إلى غيره، وتنتفي مجادلتهم لكم، من قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، وقول المشركين: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته، فهذا معنى قوله تعالى: (لئلا يكون للناس عليكم حجة) فإذا قلنا إن الناس المقصود بهم هنا اليهود لعنهم الله، فتكون الحجة هي: أن يكون لهم ما يحاجونكم ويجادلونكم به، وهو قول اليهود: يجحد ديننا ويتبع قبلتنا، أي: كيف تجحد ديننا ولا تكون مثلنا على اليهودية أو النصرانية، ثم تستقبل قبلتنا؟ فيكون في تحويل القبلة إلى البيت الحرام إبطال لهذه الحجة، فهو يخالف دينهم ويخالف قبلتهم. وإذا قلنا: المقصود بالناس هم المشركون، فإن المشركين قالوا: يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته! فكان في تحويل القبلة إدحاض لهذه الشبهة. (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) يعني بالعناد، فإنهم يقولون: ما تحول إليها إلا ميلاً إلى دين آبائه، والاستثناء هنا متصل، والمعنى: لا يكون لأحد عليكم كلام إلا كلام هؤلاء، (فلا تخشوهم) يعني: لا تخافوا جدالهم في التولي إليها، (واخشوني) أي: بامتثال أمري، (ولأتم نعمتي عليكم) وهذا العطف هنا هو على قوله: (لئلا يكون) يعني إنما عليكم أن تمتثلوا هذا الحكم وتنصاعوا إليه، أولاً: لئلا يكون للناس عليكم حجة، وثانياً: لأتم نعمتي عليكم، يعني بالهداية إلى معالم دينكم. قال العلماء في قوله: (ولأتم نعمتي عليكم) إن في هذا الجزء من الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بفتح مكة وكافة جزيرة العرب والأرض، (ولعلكم تهتدون) يعني: إلى الحق.

تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم)

تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم) قال تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:151 - 152] في الآية السابقة في قصة إبراهيم عليه السلام قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] فهنا الزاي والكاف قريبة من ختام الآية: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129] ففيها الزاي والكاف، ففي آخر دعاء إبراهيم عليه السلام أن يزكيهم، وفي آخر الآية العزيز الحكيم، والتزكية بالزاي والكاف قرينة للعزيز الحكيم، أما هنا فقال: (يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). قوله تعالى: (كما أرسلنا) هذا متعلق بأتم أي: (ولأتم نعمتي عليكم) كما أرسلنا، يعني: أتمها أتماماً كإتمامها بإرسالنا فيكم رسولاً منكم محمداً صلى الله عليه وسلم، (يتلو عليكم آياتنا) أي: القرآن، (ويزكيكم) أي: يطهركم من الشرك (ويعلمكم الكتاب) وهو القرآن الكريم (والحكمة) وهي ما فيه من الأحكام، وقد ذكرنا من قبل أن أي آية يأتي فيها ذكر الكتاب مقروناً بالحكمة في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فلا بد من تفسير الحكمة بأنها. سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا باتفاق من السلف، (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). (فاذكروني أذكركم) يعني: اذكروني بالصلاة والتسبيح وغيره (أذكركم) يعني: أجازيكم، وفي الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى قال: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه) متفق عليه. (واشكروا لي) أي: نعمتي بالطاعة (ولا تكفرون) يعني: بالمعصية. (كما أرسلنا فيكم) يعني: أيها العرب (رسولاً منكم) المراد به أيضاً من العرب، وفي إرساله فيهم ومنهم نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف، ولأن المشهور من حال العرب: الأنفة الشديدة من الانقياد إلى الغير، فهم لا ينقادون لغيرهم من الأمم، فبعث الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب. (يتلو عليكم آياتنا) أي: يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم؛ لأنه معجزة باقية، ولأنه يتلى فتؤدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ومجامع الأخلاق الحميدة، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة. (ويزكيكم) أي: يطهركم من الشرك والأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق (ويعلمكم الكتاب) يعني: القرآن، وهذا ليس بتكرار؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم، ففي صدر الآية (يتلو عليكم آياتنا) فهذا مجرد تلاوة الآيات، أما هنا (يعلمكم الكتاب والحكمة) وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها؛ ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: الحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) إشارة إلى أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل، وجهالة من الأمم، والخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم، فبعث الله تعالى النبي بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم، فصاروا أعمق الناس علماً، وأبرهم قلوباً، وأقلهم تكلفاً، وأصدقهم لهجة، وذلك من أعظم أنواع النعم، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164]، وفي هذا ذم لمن لم يعرف قدر هذه النعم، ذم للذين لا يشكرون الله سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام ونعمة القرآن والوحي الذي علمنا الله به ما لم نكن نعلم، وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] قال ابن عباس: يعني: كفراً بنعمة الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأعظم نعمة امتن الله سبحانه وتعالى بها على البشرية هي بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الأولين والآخرين، فهم بدلوا نعمة الله كفراً، أنعم الله عليهم بالرسول فكفروا به وكذبوه وجحدوه وحاربوه، (وأحلوا قومهم دار البوار)، ومن أجل ذلك ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة، ومقابلتها بذكره وشكره، فبعدما قال تعالى: (كما أرسلنا) الآية قال: (فاذكروني) يعني: كما أنعمت عليكم بهذه النعمة فاشكروها لي، فهناك ربط بين أول هذه الآية وبين الآية التالية، (فاذكروني أذكركم واشكروا لي) أي: هذه النعمة ولا تكفروا بها، (فاذكروني أذكركم) أي: اذكروني -أيها المؤمنون- بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكركم برحمتي إياكم ومغفرتي لكم، وقد كان بعضهم يتأول ذلك: أنه من الذكر بالثناء والمدح، وقال القاشاني: اذكروني بالإجابة والطاعة: أذكركم بالمجيب والثواب، وهذا هو معنى ما قبله، لأن الله تعالى يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] إذا ذكرتموني بإجابتي وبطاعتي وبعبادتي أذكركم بالمزيد من النعم وبتواليها عليكم، (واشكروا لي) يعني: فيما أنعمت عليكم من الإسلام والهداية للدين الذي شرعته لكم، (ولا تكفرون) يعني: لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم. وقال السمرقندي: النعمة في الحقيقة هي العلم، وما سواه فهو تحول من راحة إلى راحة وليس بنعمة، فالعلم لا يمل منه صاحبه، بل يطلب منه الزيادة، فأمر الله تعالى بشكر هذه النعمة وهي نعمة بعثه رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة، ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ووقائعهم جعل الله تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرً} [البقرة:200] فالانشغال بذكر الله سبحانه وتعالى بدل القعود فيما كانوا عليه في الجاهلية، فإنهم كانوا إذا انقضت المناسك يتفاخرون بالآباء والأجداد وبالعظام البالية الجاهلية، فالله تعالى يقول لهم: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً) أي: دعوكم من موضوع الافتخار بالآباء، وانشغلوا بذكر الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى هنا لما علم أن من طباع العرب: ولعهم وشغفهم بذكر آبائهم ووقائع آبائهم جعل تعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون، كما جعل كتابه عوضاً عن أشعارهم، فالقرآن عوض عن الشعر الذي كانوا يتناشدونه، وذكرهم الله وذكر الله إياهم عوض عن التفاخر الذي كانوا يتفاخرون به بآبائهم، فهز عزائمهم بذلك بما يسره به من ذكره لهم، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً، فإن أتاني يمشي أتيته هرولة) أخرجه البخاري. وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) والأحاديث في فضل الذكر متواترة، ويكفي فيه هذه الآية الكريمة: (فاذكروني أذكركم) جزاء أن تذكروا الله أن يذكركم الله، ولذلك بكى أبي بن كعب لما علم أن الله سبحانه وتعالى تكلم باسمه، قال: (أذكرني باسمي؟ قال: نعم، فبكى أبي رضي الله تعالى عنه) وهذا بلا شك شرف عظيم أن يذكرك الله، فاذكر الله يذكرك الله. أما قوله: (واشكروا لي ولا تكفرون) ففيه أمر بشكره على نعمه وعدم جحدها، فالكفر هنا كفر النعمة لا الشرك به، والكفر يطلق إما على الستر والتغطية، تقول: كفر البذر يعني: غطاه (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] والتكفير للبذرة يعني دفنها في الأرض وكذلك الكفر هنا المقصود به: لا تكفروا نعمتي، وليس المقصود به هنا: كفر التكذيب، وقد وعد الله تعالى على شكره بمزيد الخير فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] قال ابن عطية: اشكروا لي واشكروني بمعنى واحد، واشكروا لي أفصح وأبلغ من الشكر. فيمكن أن تقول: أشكرك، أو تقول: أشكر لك، وأشكر لك أفصح وأبلغ، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] والذي أتى في القرآن أن الشكر يتعدى باللام، فيكون أبلغ وأفصح.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) أرشد الله تعالى المؤمنين إثر الأمر بالشكر إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] لأن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر الله عليها، أو أن يكون في نقمة فيصبر عليها، كما جاء في حديث صحيح مرفوع: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). وذكر تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب في سبيل الله الصبر والصلاة، كما تقدم في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وفي الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى)، أي: كان إذا اشتد به الأمر أو نزل به الكرب يفزع إلى الصلاة. ثم إن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على ترك المحارم والمآثم، وصبر على فعل الطاعات، وصبر على المصائب والكربات. وذلك أن الصبر معناه حبس النفس، وبهذا المعنى فهو إما صبر على ترك المحارم والمآثم، وإما صبر على فعل الطاعات، وإما صبر على المصائب والكربات، والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود، أما الصبر الثالث -وهو الصبر على المصائب والنوائب- فهو واجب كالاستغفار من المعايب، فإنك تستغفر من المعايب والذنوب لأنك الذي تسببت فيها، أما الصبر على المصائب فإنه لا اختيار لك فيها، بل يقدرها الله سبحانه وتعالى عليك؛ ولذلك فإننا نحتج بالقدر في المصائب، ولا نحتج به في المعايب، فلا يجوز لإنسان أن يرتكب معصية ثم يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل! بل الواجب في المعاصي أن تظل إلى أن تلقى الله وأنت تستغفر وتندم وتتوب، حتى تعلم حالك عند الله، أما المصائب فهي التي تقول فيها: إنا لله وإنا إليه راجعون، وتصبر وتحتسب. وقوله: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} خص الصلاة ههنا بالذكر لتكررها وعظمها. (إن الله مع الصابرين) يعني بالمعونة. وهذه الآية من الآيات التي فيها ذكر معية الله سبحانه وتعالى لبعض خلقه: (إن الله مع الصابرين) وهذه هي المعية الخاصة؛ لأن من آيات القرآن ما تذكر فيها المعية مع الخلق كافة، ومنها ما يخصص الله سبحانه وتعالى بها بعض عباده، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وفي قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فهذه معية عامة بمعنى أن الله سبحانه وتعالى مع خلقه أجمعين، وهذه المعية ليست معية للذات -أي: ليس معناها أن ذات الله سبحانه وتعالى تختلط بذوات خلقه، معاذ الله- لكن هي معية للصفات، فهو سبحانه مع العباد بالعلم والمراقبة والشهادة والخبرة بأحوالهم. وجاء أيضاً لفظ المعية خاصاً كما في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فهذه المعية المذكورة في هذه الآية لا تشمل فرعون وجنده وسحرته فهي معية خاصة. كذلك قوله تعالى حاكياً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. فلو كان المراد: معنا بذاته، لكان التعميم يناقض التخصيص -يعني: لو أن معية الله سبحانه وتعالى هي بذاته لكان التعميم في بعض الآيات يناقض التخصيص في البعض الآخر؛ لأنه سيكون مع الجميع بذاته، تعالى الله عن ذلك- لكنه قد عرف أن قوله (لا تحزن إن الله معنا) أراد به تخصيص نفسه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار. كذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] خصهم بذلك دون الظالمين والفجار. وأيضاً فلفظ المعية ليست في لغة العرب ولا في شيء من القرآن أنه يراد به اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، فعندما تقول: سرت مع القمر، ليس معناه أن تختلط ذاتك بذات القمر، بل القمر في السماء وأنت في الأرض، وكذلك حينما ترسل ابنك أو أخاك إلى أطراف الأرض وتقول له: إنني معك، فلا تعني بذلك أن ذاتك مع ذاته، كما في قوله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] فليس فيها اختلاط الذوات. وكذلك قوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146]، وقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقوله تعالى: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال:75] ومثل هذا كثير، فامتنع أن يكون قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] دالاً على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وبين شيخ الإسلام أن لفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته لكل موقف بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصرة والتأييد، وهي المعية الخاصة لأولياء الله من الأنبياء والمرسلين والصالحين، أما المعية العامة فهي لكل الخلق، فهو معهم بالسلطان أي: بالعلم بالقدرة وغير ذلك، لكن في الحالتين ليست تقتضي اختلاط الذوات، بل هو على العرش عليم بما يفعله خلقه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)

تفسير قوله تعالى: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون) قال عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] (ولا تقولوا) هذا عطف على قوله من قبل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) يعني: لا تقولوا: هم أموات مثل غيرهم من الأموات, بل موتهم ذو صفة خاصة، فهم ليسوا كغيرهم من الأموات، وهذا هو المقصود من النهي هنا. (بل أحياء) يعني: بل هم أحياء، وأرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت كما جاء في صحيح مسلم. (بل أحياء ولكن لا تشعرون) أي: لا تعلمون ما هم فيه. ففي هذه الآية ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا للشهداء: هم أموات، بمعنى الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأصبحوا كالجمادات كما يتبادر من معنى الميت؛ ولذلك الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: (لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) يعني: لا تقولوا: هم أموات مثل غيرهم من الأموات، (بل أحياء) يعني بل هم أحياء. ويقول القاسمي: ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يقولوا للشهداء: أموات، بمعنى لا تسووهم بالأموات، لا تظنوا أنهم أموات كالأموات الذين تلفت نفوسهم وعدموا الحياة، وتصرمت عنهم اللذات، وأضحوا كالجمادات، كما يتبادر من معنى الميت، ويأمرهم سبحانه بأن يقولوا لهم: (بل أحياء) بل قولوا: هم أحياء؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، كما قال تعالى في آل عمران: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. فقوله في هذه الآية الكريمة في آل عمران: (بل أحياء عند ربهم) هذا تفسير لهذه الآية: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، (بل أحياء) نفهمها من قوله: (أحياء عند ربهم).

البقرة [178 - 188]

تفسير سورة البقرة [178 - 188]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، (كتب) أي: فرض (عليكم القصاص) القصاص مأخوذ من التتبع، اقتص الأثر يعني: تتبعه، أو من القطع؛ لأن الذي يقتص من الجاني يقطع منه مثلما قطع من المجني عليه، أو من المساواة والمعادلة، فأصل معنى القصاص العدل والتساوي والمساواة. ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)) أي: فرض عليكم المماثلة، ((فِي الْقَتْلَى)) يعني: المساواة في القتلى، والمراد في وصف القتلى، يعني: من حيث الحرية والإسلام وغير ذلك. إذاً: القصاص في القتلى بمعنى المماثلة، والسؤال الذي نريد أن نطرحه الآن: ما وجوه العدل والمساواة عند القصاص؟ في الوصف وفي الفعل، في الوصف يعني: لا يقتل الحر بالعبد، بل كما قال الله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178]، وكذا المماثلة في الإسلام، فلا يقتل مسلم بكافر. وتجب المماثلة بالفعل بأن يقتل القاتل بمثل ما قتل، فيقتص منه بنفس الطريقة التي قتل بها ذلك المقتول. (والأنثى بالأنثى) وكذلك جاءت السنة بأن الذكر يقتل بها، فقد (أمر النبي صلى الله عليه وسلم برض -أي: بدق- رأس يهودي بين حجرين لرضه رأس جارية) رواه الشيخان. كذلك تعتبر المماثلة في الدين، فلا يقتل مسلم ولو عبداً بكافر، ولو حراً؛ لماذا؟ لأن للإسلام التميز، والإسلام كمال، والكفر نقص، فلا يسوى بينهما، فلا يقتل المسلم ولو عبداً بكافر ولو كان حراً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري.

خلاف الفقهاء في القصاص

خلاف الفقهاء في القصاص هناك خلاف بين العلماء في هذه الآية، وفي ذلك أحكام مفصلة جداً، لكن نقول على وجه الاختصار: قوله تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) أي: المعادلة والمساواة بينهم، ((الْحُرُّ بِالْحُرِّ))، لكن الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى ذهب إلى أن الكلام فيما يتعلق بالقصاص انتهى عند قوله تبارك وتعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى)) يعني: العدل مطلق هنا في القتلى، فالحر يقتل بالعبد، والمسلم يقتل بالكافر. وقوله بعد ذلك: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ليس شرحاً لما تقدم، ولا ربط بين قوله: (كتب عليكم القصاص) وبين ما أتى بعدها، وعلى هذا الأساس فالإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجوز قتل المسلم بالكافر؛ أخذاً بعموم قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]. أما جمهور العلماء فذهبوا إلى قوله تبارك وتعالى: ((الْحُرُّ بِالْحُرِّ))، وقال الإمام أبو حنيفة: إن العلة في وجود كلمة: (الحر بالحر والعبد بالعبد) ليس المقصود بها المساواة، فيجوز أن يقتل الحر بالعبد أو المسلم بالكافر، لكن المقصود بها الرد على ما كان سائداً عند بعض القبائل العربية، فقد كان عندهم أن القبيلة إذا كانت في عز ومنعة وفرسان وقوة، فقتل منهم عبد؛ فيأنفون أن يقتل به عبد مثله، لكن يقولون: لا يقتل العبد منا بعبد ونحن أشهر القبائل، وأرفع القبائل، وأعزها وأمنعها، ولابد أن يقتل به حر، وإذا قتلت منهم امرأة فيقولون: لا نقبل قتل امرأة في مقابلها، لكن لابد أن يقتل بها رجل، وإذا قتل منهم وضيع يقولون: لا نقبل في مقابلته إلا شريف، وهكذا. فلهذا أبو حنيفة يذهب إلى أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} إشارة إلى إسقاط هذا المعنى الذي كان سائداً في بعض القبائل العربية. أما جمهور العلماء فقالوا: لا يقتل الحر بالعبد؛ لأن العبودية أثر من آثار الكفر، والعبد قد يكون مسلماً، لكن أصل سبب الاسترقاق هو الكفر، فالذي جلب له الرق هو الكفر، فوجود هذا الأثر منقصة فيه، فبالتالي لا يستوي مع الحر، والحر لا يقتل إلا بالحر، ولا يقتل الحر بالعبد، والأنثى بالأنثى، وبينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى؛ لأنه تعتبر المماثلة في الدين، ولابد أن يكون هناك اتفاق ومعادلة وتساوي في الدين، فلا يقتل المسلم بالكافر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري.

معنى قوله: (فمن عفي له من أخيه شيء)

معنى قوله: (فمن عفي له من أخيه شيء) قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} يعني: من القاتلين، {مِنْ أَخِيهِ} يعني: من دم أخيه المقتول، وهذا اللفظ: (مِنْ أَخِيهِ) دليل على أن القاتل لا يكفر كفراً أكبر، ولا يكفر كل من فعل فعلاً سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقال أيضاً: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ولا شك أن الذنب الذي يسمى كفراً يكون أخطر وأعظم من الذنب الذي لا يسمى كفراً، فهو كفر عملي لا يخرج من الملة إلا باستحلاله. ومما يستدل به على أن هذا الكفر كفر غير مخرج من الملة قوله تبارك وتعالى في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9]، فأثبت الإيمان مع وجود القتال، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، كذلك صدر الآيات هنا بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) فالخطاب للمؤمنين مع وقوع التقاتل بينهم، ثم قال أيضاً: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ) مع وجود القتل لكنه سماه أخاً، فهذا يدل على بقاء أخوة الإيمان مع حصول هذه الكبيرة. (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) يعني: من القاتلين، (مِنْ أَخِيهِ) أي: من دم أخيه المقتول، (شَيْءٌ) يعني: بأن ترك القصاص منه، وتنكير (شيء) يفيد سقوط القصاص بالعفو من بعض الورثة، يعني: إذا عفا بعض الورثة وبعضهم لم يعفو يسقط القصاص. كذلك إذا عفي عن بعض القصاص يسقط كل القصاص، فقوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) يفيد سقوط القصاص بالعفو عن بعضه، وبالعفو من بعض الورثة. وفي ذكر (أخيه) تعطف داع إلى العفو، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى، فإنه ذكر وصف الإخوة كي يعطف قلب الذي سيقتص على قلب أخيه الجاني لعله يعفو عنه أو يرأف به، وفيه إيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان. إذاً: فائدة التعبير بأخيه تعطف داع إلى العفو، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان.

معنى قوله: (فاتباع بالمعروف)

معنى قوله: (فاتباع بالمعروف) قوله تعالى: (فمن عفي) (من) مبتدأ شرطية أو موصولة، والخبر (فاتباع بالمعروف) يعني: فعلى العافي اتباع القاتل المعفو عنه بالمعروف، يعني: إذا قبل منه الدية فليطالبه بالدية بلا عنف، وترتيب الاتباع على العفو يفيد أن الواجب أحدهما، وهو أحد قولي الشافعي. والقول الثاني: أن الواجب القصاص، والدية بدل عنه، فله ألا يقتص على أن يأخذ الدية، فلو عفا ولم يسمها فلا شيء له، ورجح. وقوله: {وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني: وعلى القاتل (أداء) أي: للدية، (إليه) أي: إلى العافي الذي هو الوارث، (بإحسان) يعني: بلا مطل ولا بخس، يعني: يؤدي الدية إلى العافي -وهو الوارث- بإحسان بدون أن يماطله ولا يضاره ولا ينقص من حقه. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: ذلك الحكم المذكور من جواز القصاص والعفو عنه على الدية (تخفيف) أي: تسهيل (من ربكم) يعني: عليكم. {وَرَحْمَةٌ} أي: بكم، حيث وسع في ذلك، ولم يحتم واحداً منهما، كما حتم على اليهود القصاص وعلى النصارى الدية. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي: ظلم القاتل بأن قتله، (بعد ذلك) أي: بعد العفو، فبعد أن يعفو لا يجوز أن يقتل القاتل، فإن هذا من الظلم، (فمن اعتدى) يعني: ظلم القاتل بأن قتله، (بعد ذلك) يعني: بعدما عفا، فلابد أن يلتزم بالعفو. {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم في الآخرة بالنار أو في الدنيا بالقتل.

تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)

تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) قال تبارك وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أي: بقاء عظيم، بخلاف تنكير كلمة حياة في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، فالمقصود بذلك حتى لو كانت أخس حياة، وهذا من صفة اليهود لعنهم الله، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) أي حياة حتى لو كانت حياة ذليلة فهم حريصون عليها، أما قوله هنا: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) يعني: بقاء عظيم. {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] يعني: يا ذوي العقول؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل ارتدع، فأحيا نفسه وأحيا من أراد قتله، فشرع القصاص ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي: تتقون القتل لمخافة القود؛ لأن هذا فيه زجر لكم من تجاسر بعضكم على إراقة دم بعض. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: تتقون أن تقتلوا إذا قتلتم، أو يقتص منكم إذا اعتديتم على أرواح غيركم.

كلام نفيس للقاسمي في هذه الآية

كلام نفيس للقاسمي في هذه الآية هنا كلام من أنفس ما يقرؤه الإنسان في إعجاز القرآن الكريم، ذكره القاسمي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والإنسان إذا لم يرتبط بالنور الذي آتاه الله سبحانه وتعالى لأهل العلم ربما لا يستطيع أن يتدبر ويتمعن في القرآن، وهذا أنموذج من نماذج التدبر في القرآن الكريم وهو من أروع ما يكون، والإنسان مع قلة علمه، وضعف وعيه في لغة العرب ولغة القرآن الكريم يعجب حينما يسمع العلماء يقولون: هذا الكلام لا يقوى على الإتيان به بشر، وهذا في القرآن كله لكن هناك مواضع إنما تظهر عند التأمل والتدبر من أولي العلم الراسخين في العلم، مثل قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80]، فالعلماء يتكلمون عن قمة البلاغة في هذه الآية، وهذا الأسلوب ولم يعرفه العرب على الإطلاق، لم يرتق له أي مخلوق من العرب قبل القرآن الكريم. والآن سنذكر نموذجاً عملياً ونرى فعلاً أن هذا القرآن مستحيل أن يكون كلام البشر أبداً، ولا يقوى بشر على ذلك، يقول القاسمي: كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة، ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ))، كيف يكون القصاص الذي هو قتل القاتل حياة؟ حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكاناً ومرساً للحياة، وعرّف القصاص ونكّر الحياة، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، وهذا يدل على أن في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه حتى كاد يفني بكر بن وائل؟! كان يقتل بالمقتول غير قاتله كما يحصل الآن في الصعيد للأسف الشديد من عادة الثأر، يقتل القاتل فيقتلون رجلاً من العائلة يكون موازياً للمقتول في الوجاهة الاجتماعية أو غير ذلك من الأمور. فهذا من آثار الجاهلية والعياذ بالله، فيجب أن يقتل القاتل، وليس بهذه الطريقة الفوضوية الجاهلية التي نراها في الصعيد. يقول: وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة! وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل؛ لأن القاتل يمتنع من القتل، فإذا أراد أن يقتل، عرف أنه يقتل، فيرتدع وينزجر. ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) يعني: أن تقتلوا، فإذا انكف القاتل عن القتل ماذا يحصل؟ يحيا هو ويحيا الذين كان يريد أن يقتلهم، فهي حياة له ولهؤلاء؛ لأنه إذا هم بالقتل فعلم أنه يقتص منه ارتدع فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود، والقود هو القصاص؛ سمي بذلك لأن القاتل كان يقاد بحبل إلى أن يقتص منه، فالقصاص سبب حياة نفسين.

بلاغة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)

بلاغة قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني بالغة إلى أعلى الدرجات؛ لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة. فقد حاول العرب الفصحاء البلغاء أن يعبروا عن هذا المعنى بكثير من الألفاظ، وعددوها حتى تنوعت وتكاثرت، ومع ذلك لا يقوى واحد منها أبداً أن يوازى بكلام الله عز وجل. مثل قولهم: قتل البعض إحياء للجميع. وقولهم: أكثروا القتل ليقل القتل. يقول القاسمي سننتقي أجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب ونقارنها بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) فانتقى القاسمي أروع ما عند العرب في هذا الباب, وأبلغ وأفصح ما أثر عنهم في التعبير عن هذه المعاني. يقول: وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل، وقد كانوا قبل نزول القرآن متفقين على استجادة معنى كلمتهم، واستجادة لفظها، ومعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله والمخلوقين، الفرق بين قوله تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) وبين قول العرب: القتل أنفى للقتل كما بين كلام الله وبين كلام المخلوق، والفرق بينهما كالفرق بين الله وبين خلقه، وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته؟! قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أبلغ ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: القتل أنفى للقتل، وإنما كان هذا أفضل ما كان عند العرب من البلاغة لقلة الألفاظ مع سعة المعاني، فهذه أقل الألفاظ التي أثرت عن العرب: القتل أنفى للقتل، وقد فضلت هذه الآية بعشرين وجهاً أو أكثر على قولهم: القتل أنفى للقتل. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل، وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق، وهذا كلام صحيح، كيف يقارن كلام الخالق بكلام المخلوق، حتى يقال: إنه أفضل من عشرين وجهاً؟! فلا وجه للمقارنة، ولكن العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك، وإن كان يخفى عليهم أضعاف أضعاف ما ذكروه مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى من الحكم، لكن من باب تدبر القرآن نتأمل في هذه الوجوه وننظر. يقول: الأول: أن ما يناظره من كلامهم -وهو القصاص حياة- أقل حروفاً، فإن حروفه عشرة، وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر، فهذا أول الوجوه من حيث الوجازة. الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، فحينما نقول: القتل أنفى للقتل، فنفي القتل لا يستلزم الحياة، لكن حينما يقول الله تبارك وتعالى: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ))، فالقصاص حياة، فهنا نص على ثبوت الحياة، في حين أن عبارة العرب إنما تنفي القتل فقط لكنها لا تنص على ثبوت الحياة، والحياة هي الغرض المطلوب من القصاص. الثالث: أن تنكير حياة يفيد التعظيم، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة كقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96]، ذكرنا أنها حياة حتى ولو خفيفة، ويمكن أن يقال: القصاص حياة يعني: طويلة، ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس؛ ولذا فسروا الحياة فيه بالبقاء. فإذاً: حياة تنكيرها يصير تعظيماً، فيدل على أن في القصاص حياة متفاضلة، ولا كذلك المثل. الرابع: أن الآية فيه مطردة بخلاف المثل، ففي كل قصاص حياة في كل الأحوال، أما القتل فلا يشترط أن كل قتل يكون أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلماً، بل إنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، فلو قتل رجل آخر ظلماً فهل هذا القتل ينفي القتل أم أنه يكون مدعاة لمزيد من القتل؟ يكون مدعاة لحصول مزيد من القتل. فإذاً: كلامهم ليس على إطلاقه، وليس مطرداً؛ لأنه ليس كل أنواع القتل تكون أنفى للقتل بل بعضها قد تكون مجلبة للقتل، بخلاف القصاص الذي هو نوع مخصوص من القتل، فلذلك نراعي هنا الفرق بين كلمة القصاص وبين كلمة القتل. الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة، فقولهم: القتل أنفى للقتل، تكررت فيه كلمة القتل، وهذا لا يخل بالفصاحة، لكن بلا شك أن الخالي من التكرار أفضل من الذي يشتمل على التكرار. الوجه السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف (القصاص حياة)، بخلاف قولهم ففيه حذف، فتقديره: القتل أنفى للقتل من عدم القتل، فإن (أنفى) أفعل تفضيل لابد أن يقدر له محذوف. أيضاً: حذف قصاصاً مع القتل الأول، وظلماً مع القتل الثاني، ففي المثل حذف كثير، فإن الذي يقصده العرب هو: القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من عدم القتل، وحتى تفهم النص العربي لا بد أن تقدر كل هذا، أما الآية فهي مستغنية عن تقدير محذوف. السابع: أن في الآية طباقاً؛ لأن القصاص عكس الحياة، بخلاف المثل، فإن العرب قالوا: القتل أنفى للقتل، فهنا تشابه واضح، بخلاف الطباق بين القصاص والحياة، وهذا من أنواع البديع. الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلاً ومكاناً لضده الذي هو الحياة، وهذا من أروع ما يكون؛ لأن أحد الضدين الذي هو الفناء والموت جعله محلاً ومكاناً لضد الموت وهو الحياة، واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة، نقله في الكشاف، وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة، ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) كأن القصاص هو الذي تنبع منه الحياة، فهو بلا شك أروع ما يكون من البلاغة ومن البديع، فجعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال كلمة في: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ)). التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفية وهو السكون بعد الحركة وذلك مستكره، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، فالكلام الذي تكون حركاته سهلة ومتتالية غير الكلام الذي يكون فيه بين وقت وآخر السكون، كما في الآية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) لكن في المثل: القتل أنفى للقتل. يقول: فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به، وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع. يقول: نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره فهي كالمقيدة. إذاً: هذا الفرق أيضاً من حيث اللغة، فالقتل أنفى للقتل غير (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ). العاشر: أن المثل كالمتناقض من حيث الظاهر؛ لأن الشيء لا ينفي نفسه، فقولهم: القتل أنفى للقتل، هل الشيء ينفي نفسه؟! الشيء لا ينفي نفسه، فهذا فيه تناقض من حيث الظاهر. الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير القاف، وبعدها عن غنة النون.

تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت)

تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]. قوله تعالى: (كتب عليكم) يعني: فرض عليكم. (إذا حضر أحدكم الموت) المقصود: إذا حضر أحدكم الموت يعني: أسباب الموت وأمارات الموت ومقدماته، وليس الموت الحقيقي؛ لأنه إذا حضر أحدنا الموت الذي تنزع فيه الروح لن يجد وقتاً للوصية، لكن المقصود هنا: أسباب الموت ومقدماته. (إن ترك خيراً الوصية) إن ترك خيراً أي: مالاً، وهذه أحد المواضع التي سمى فيها القرآن الكريم المال خيراً، ونظيرها قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، (حب الخير) المقصود به المال، كذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:272]، المقصود به المال، وكذلك قول موسى عليه السلام كما حكاه الله تبارك وتعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] فالمقصود بالخير المال. وقوله: ((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)) إشارة إلى إن المال الذي تحصل الوصية به ما كان مجموعاً من وجه حلال محمود، فهذا هو الذي يسمى خيراً، فإن المال لا يقال له خير إلا إذا كان كثيراً ومن مكان طيب، فالمال الذي يكون خيراً ويوصف بكلمة خير لابد أن يكون كثيراً ووفيراً وليس مالاً قليلاً، ومن مكان طيب، أي: من مصدر حلال، فهذا هو الذي يوصف بالخير، لكن مال قليل من مصدر حلال أو مال كثير من مصدر غير طيب لا يسمى خيراً. فقوله تعالى هنا: ((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا)) فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا أتته علامات الموت أو أمارات الموت وليس عنده مال كثير، وورثته فقراء، فهذا لا يدخل في الأمر بالوصية هنا، إنما الوصية لمن ترك مالاً وفيراً. ((إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ)) (خيراً) يعني: مالاً، (الوصية) وهو مرفوع بِكُتِب، وتقدير الكلام: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت، يعني: وقت حضور الموت، (إن ترك خيراً الوصية) يعني: فليوص. ((لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ)) يعني: بالعدل، ولا يكون عدلاً إلا إذا لم يزد عن الثلث، ولم يفضل الغني. وهذا الجزء من سورة البقرة حافل بالأحكام الشرعية الكثيرة جداً، فنحن نكتفي بهذه الإشارات العابرة ونرجو أن تفصل في أوقات أخرى. الوصية تكون -كما ذكرنا- لمن ترك مالاً كثيراً وورثته أغنياء، فيوصي بالثلث ولا يزيد على الثلث، واستحب بعض العلماء أن يقلل عن الثلث كما نصح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وأيضاً لا يفضل الغني في إعطاء الوصية. (حقاً على المتقين) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله. (على المتقين) يعني: على المتقين الله، الذين يتقون الله. وقوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ)) يعني: فرض، وهذا الحكم منسوخ، وهذا الموضع أوضح نموذج يدل على جواز نسخ القرآن بالسنة، فإن هذه الآية منسوخة بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) والوارث هو الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فريضته في القرآن الكريم كما في سورة النساء، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى كل ذي حق حقه، فما دام الشخص يرث فليس له نصيب في الوصية، وهذا البلاء الآن منتشر للأسف بسبب جهل الناس، تجد الرجل يوصي لأولاده الذكور دون الإناث، ولا ينبغي أن يوصي للورثة ولو للذكور والإناث، والعطاء في حال الحياة هبة، أما أن يقول: إذا مت فأعطوا فلاناً كذا من أولاده فهذه وصية، والوصية لا تجوز للوارث؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطى هذا الوارث حقه بآيات الفرائض المعروفة في سورة النساء. إذاً: الوصية تكون لغير الوارثين، فيعطي -مثلاً- الأقارب الذين لا يرثون مثل أولاد ابنه المتوفى أو غيرهم من أقربائه، ويجوز أن يوصي إلى جهة من جهات الخير مثل ملاجئ أيتام مستشفيات وغير ذلك من الأعمال الخيرية. ووجوب الوصية منسوخ بآيات الميراث، وبحديث: (لا وصية لوارث) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)

تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه) قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة:181] يعني: من بدل الإيصاء من شاهد أو وصي. (بعد ما سمعه) يعني: بعد ما علمه. {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} [البقرة:181] أي: إثم الإيصاء المبدل. {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة:181]، السياق كان يقتضي أن يقال: فإنما إثمه عليهم، أي: على الذين سبق ذكرهم في قوله: ((فَمَنْ بَدَّلَهُ))، لكنه أقام الظاهر مقام المضمر إشارة إلى جريمتهم بالتبديل، وأنها التي تستوجب عقوبتهم كما سيأتي. {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة:181] لقول الموصي. {عَلِيمٌ} [البقرة:181] بفعل الوصي فمجاز عليه، ويترتب على أن الله سميع عليم أنه سيجازيه. {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا} [البقرة:182] أحياناً يطلق الخوف على العلم، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] أي: إن علمتم، كذلك هنا: (فمن خاف) يعني: توقع أو علم، تقول مثلاً: أخاف أن تمطر السماء، يعني: أتوقع وأظن أن تمطر، فالتوقع والظن الغالب الجاري مجرى العلم يطلق عليه الخوف. (فمن خاف من مُوْصٍ) أو (من مُوَصٍّ) قراءتان. (جنفاً) يعني: ميلاً عن الحق خطأً، فالجنف هو الميل عن الحق عن طريق الخطأ لا العمد. (أو إثماً) بأن تعمد ذلك بالزيادة على الثلث أو تخصيص غني مثلاً. (فأصلح بينهم) يعني: أصلح بين الوصي والموصى له بالأمر بالعدل، وهذا الإصلاح يترتب عليه تبديل الوصية؛ لأن الوصي مال عن الحق خطأ أو أَثِم بتعمد الجور والظلم في الوصية. (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم) بين الوصي والموصى له عن طريق إقامة العدل بينهم. {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:182] أي: لا يأثم بهذا التبديل، بل هذا من فروض الكفاية، فيجب على المسلمين أن يتصدوا لمن يوصي وصية جائرة بأن يصلح بينهم بإقامة العدل وهو شرع الله سبحانه وتعالى. (فأصلح بينهم فلا إثم عليه) أي: في ذلك التبديل لماذا؟ لأنه بدل الباطل بالحق الذي يوافق شرع الله، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام إن كنتم تعلمون)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام إن كنتم تعلمون) قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] (كتب) يعني: فرض عليكم الصيام. (كما كتب) كما فرض على الذين من قبلكم، يعني: لستم وحدكم من الأمم في هذه الفريضة. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: المعاصي؛ لأن الصيام يكسر الشهوة الباعثة إلى المعاصي. قال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] نصب بالصيام أو يقدر: صوموا أياماً معدودات. (معدودات) أي: قلائل أو مؤقتة بعدد معلوم وهي رمضان كما سيأتي، وقلله تسهيلاً على المكلفين، يعني: في كل السنة تصوم شهراً واحداً، لذلك قال: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، رحمة وتسهيلاً على المكلفين وتخفيفاً. {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ} [البقرة:184] يعني: حين شهود شهر رمضان. {مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184] أي: مسافراً سفر القصر، وأجهده الصوم في الحالين المرض أو السفر فأفطر {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] (عدة) يعني: فعليه عدة ما أفطر، يعني: نفس العدد الذي أفطره يقضيه. (من أيام أخر) يعني: يصوم هذا بدله. {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] يعني: وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه (مرض مزمن). {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] يعني: فدية هي طعام مسكين، يعني: قدر ما يأكله المسكين في اليوم، وفي قراءة بإضافة (فدية) وهي للبيان. وقيل: (لا) غير مقدرة في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184]، فنحن قلنا: التقدير: وعلى الذين لا يطيقونه لكبر أو مرض مزمن فدية طعام مسكين، وقيل: (لا) غير مقدرة، وكانوا مخيرين في صدر الإسلام بين الصوم والفدية، ثم نسخ التخيير بتعيين الصوم بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، قال ابن عباس: إلا الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على الولد فإنها باقية بلا نسخ في حقهما. {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة:184] يعني: بالزيادة على القدر المذكور في الفدية، بدل أن يخرج مداً أخرج صاعاً. (فهو خير له) أي: التطوع خير له وأفضل. {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] (أن تصوموا) مبتدأ مصدر مؤول من أن والفعل، وخبره (خير لكم)، والتقدير: وصيامكم خير لكم من الإفطار والفدية. {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184] أنه خير لكم فصوموا تلك الأيام.

تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)

تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] يعني: من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر منه. {هُدًى لِلنَّاسِ}، هدى حال، أي: هادياً من الضلالة. {وَبَيِّنَاتٍ} أي: آيات واضحات. {مِنَ الْهُدَى} مما يهدي إلى الحق من الأحكام. {وَالْفُرْقَانِ} يعني: ومن الفرقان الذي يفرق به بين الحق والباطل. {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ} يعني: من حضر ولم يكن مسافراً، {الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} تقدم تفسيره في الآية السابقة، فلماذا كرر؟ كرر لئلا يتوهم نسخه بتعميم (فمن شهد)؛ لأنه قد يتوهم أن قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يعني: كلكم يجب أن تصوموا حتى لو كنتم مرضى أو مسافرين، فكرر الله سبحانه وتعالى هذه الرخصة للمريض وللمسافر لأنه قد يتوهم أن هذه الآية تنسخ ما قبلها في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:184]، فكررها حتى يدفع هذا التوهم. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ولذا أباح لكم الفطر في المرض والسفر، ولكون ذلك في معنى العلة أيضاً للأمر بالصوم فقد عطف عليه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (ولتُكْمِلوا) بالتخفيف، وبالتشديد: (ولتُكَمِّلوا) في القراءة الأخرى: أي: عدة صوم رمضان. {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} يعني: عند إكمال هذه العدة. {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: ما أرشدكم لمعالم دينه. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون الله على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)

تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) سأل جماعة النبي صلى الله عليه وسلم: (أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزل: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) [البقرة:186]) يعني: قريب منهم بعلمي. ويلاحظ أن هذه الآية امتازت عن غيرها من آيات السؤال كقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:176]، يسألونك عن كذا، قل كذا، لكن في هذا الموضع بالذات لم يأت بصيغة يسألونك عن الله فقل إني قريب، لماذا؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يبادر ويخبر العباد بهذه الحقيقة، فمن رحمته بهم يفتح لهم هذا الباب من الخير الذي هو باب الدعاء. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي: قريب منهم، ويفسر القرب بالعلم بالسمع بالبصر بالإحاطة، وليس المقصود القرب بالذات، فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه لا يمتزج بهم، تعالى الله عن ذلك. {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} يعني: أجيبه ما سأل. {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} يعني: يجيبوا لي دعائي لهم بالطاعة. {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} يعني: يدوموا على الإيمان ويثبتوا عليه. {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي: يهتدون.

تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)

تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] (الرفث) بمعنى: الإفضاء، والإفضاء يعدى بإلى، أما الرفث فيعدى بالباء، يقال: رفث بالمرأة، لكن لأن الرفث هنا بمعنى الإفضاء عداه بإلى فقال: (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) يعني: بالجماع. والرفث أصله قول الفحش، قال الله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، وكنى به هنا عن الجماع، وسنة الله سبحانه وتعالى التكنية عما يستقبح ذكره صريحاً كقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف:189]، وكقوله تبارك وتعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223]. ((أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ))، نزل نسخاً لما كان في صدر الإسلام من تحريمه، وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء أو إذا نام قبل ذلك، فقد كان الإنسان إذا تعشى يحرم عليه بعد ذلك المفطرات بقية الليل، أو إذا نام قبل أن يتعشى فلا يحل له أن يأتي شيئاً من المفطرات أيضاً في الليل، كما حصل لـ قيس بن صرمة فغشي عليه نصف النهار من الجوع إذ تأخرت امرأته في تحصيل الطعام وغابت عنه ساعات، فلما رجعت وهو نائم قالت له: خيبة لك! فصام اليوم الثاني ولم يكن قد أفطر في اليوم السابق ولا تسحر، فغشي عليه في نصف النهار، رواه البخاري. {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} هذا كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه، يقول الراغب: جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء. فالمفروض أن الزوج يستر امرأته وهي أيضاً تستره، فكل منهما لباس بمعنى أنه يستر الآخر كما أن الملابس تستر البدن، فكل منهما ينبغي أن يكون ستراً للآخر، فلا يكشف عيبه، ولا يفشي سره، ولا يظهر أي عيب فيه، كما أن اللباس ستر يمنع أن يبدو منه السوءة، وعلى ذلك كني عن المرأة بالإزار، فوصفت بأنها إزار الرجل لأنها تستره. وأيضاً سمي النكاح حصناً لكونه حصناً لذويه من تعاطي القبيح، والمحصن أحياناً يأتي بمعنى المتزوج. إذاً: المعنى: (هن لباس لكم) يعني: أنتم تسترونهن وهن يسترنكم، وهذا ألطف من قول بعضهم: شبه كل واحد من الزوجين لاشتماله على صاحبه في الضم باللباس المشتمل على لابسه. قال الزمخشري: فإن قلت: ما موقع قوله: ((هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ))؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال، يعني: أشار بهذا التعبير إلى الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى أحل لهم الرفث إلى النساء في ليالي رمضان بعد أن كان قد حرم عليهم؛ لأنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن، وصعب عليكم اجتنابهن؛ فلذلك رخص لكم في مباشرتهن، ولذلك قال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ}، اختيان النفس هو نزوعها إلى رغبتها، ومنه قولهم: خانته رجلاه، إذا لم يقدر على المشي. أي: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يحل لكم ذلك، علم الله أنه إذا لم يبح لكم هذا فإنكم كنتم سوف تختانون أنفسكم، فأحله رحمة بكم ولطفاً. وفي الاختيان وجه آخر وهو أنه عنى به مخالفة الحق بنقض العهد، أي: كنتم تظلمونها بتعريضها للعقاب لو لم يحل ذلك لكم، قالوا: والاختيان أبلغ من الخيانة، ففيه زيادة وشدة. {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} أي: تخونون أنفسكم بالجماع ليلة الصيام، وقد وقع ذلك لـ عمر وغيره كما رواه أحمد وابن أبي حاتم بسند حسن وغيرهم، واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا صح هذا فعلى العين والرأس، وإن لم يصح فيكون المعنى: علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو لم يبح لكم ذلك، لشدة ومشقة ذلك عليكم. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: قبل توبتكم. {وَعَفَا عَنْكُمْ} يعني: إذ أحل لكم إتيانهن. {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} أي: جامعوهن. {وَابْتَغُوا} هذا الأمر على الإباحة ليس على الإيجاب؛ لأنه سبقه حظر، ومعنى (وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا.

معنى قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم)

معنى قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم) قوله تعالى: {وَابتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: ما أباحه لكم من الجماع أو ما قدره لكم من الولد. قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، تأكيد لما قبله، أي: ابتغوا هذه الرخصة التي أحلها لكم، و (كتب) هنا بمعنى: جعل، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] يعني: جعل في قلوبهم الإيمان، وقوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53] يعني: فاجعلنا مع الشاهدين، وقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156] يعني: سأجعلها. وقد تكون بمعنى: قضى، (ابتغوا ما كتب الله لكم) يعني: ما قضى كقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] يعني: إلا ما قضاه لنا، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] يعني قضى، وقوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] يعني: قضي. قال الراغب: في الآية إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة وهي: أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوع الإنسان إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح ما جعل الله له على حسب ما يقتضيه العقل والديانة، فمتى تحرى به حظ النفس وحصن النفس على الوجه المشروع فقد ابتغى ما كتب الله له، وإلى هذا أشار من قال: على الولد، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني: الذرية والأولاد. وقال هنا: ((وَابْتَغُوا)) أي: اطلبوا. ((مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)) أي: أباحه من الجماع أو قدره من الولد.

معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)

معنى قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} أي: الليل كله، وهذا الأمر على الإباحة، والمعنى: وكلوا واشربوا الليل كله، فهو مباح لكم. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} أي: يظهر. {لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} يعني: من الفجر الصادق، أي: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر الصادق من الخيط الأسود من الليل، فقوله: (من الفجر) متعلق بالخيط الأبيض، وحذف (من الليل) المتعلق بالخيط الأسود. شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد. {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي: ثم أتموا الصيام من الفجر إلى الليل، ولابد من تقدير كلمة (من الفجر) إلى الليل، وما الدليل على تقدير (من الفجر)؟ الدليل ما قبلها: (حتى يتبين لكم)، وقوله: (إلى الليل) يعني: إلى دخول الليل بغروب الشمس. {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} أي: نساؤكم. {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} المقصود هنا الوطء، (وأنتم عاكفون) يعني: مقيمون بنية الاعتكاف {فِي الْمَسَاجِدِ}، وهذا نهي لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود، وهذا لا يحل في الاعتكاف لا في الليل ولا في النهار. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} تلك الأحكام المذكورة حدود الله حدها لعباده ليقفوا عندها. {فَلا تَقْرَبُوهَا}، هذا أبلغ من (لا تعتدوها) في هذا الموضع؛ لأنه إذا نهى عن الاقتراب فمن باب أولى أن ينهى عن التعدي. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ} يعني: بين لكم ما ذكر. {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} يعني: يتقون محارمه.

تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)

تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) قال عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض. ((بِالْبَاطِلِ)) أي: بالحرام شرعاً كالسرقة والغصب. {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي: ولا تدلوا، فهنا (تدلوا) معطوفة على ما قبلها، فالمقصود: ولا تأكلوا ولا تدلوا، أي: لا تلقوا بها إلى الحكام، لا تلقوا بها أي: بحكومتها، وذلك: بإقامة الدعوى بها باطلاً، أو بالأموال رشوة. {لِتَأْكُلُوا} يعني: بهذا التحاكم. {فَرِيقًا} أي: طائفة. {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} أي: متلبسين بالإثم. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني: أنكم مبطلون في هذا. ونزيد هذا المعنى إيضاحاً: يقول تبارك وتعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)) قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، فجعل بذلك آكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل. وهذا إشارة إلى حرمة مال المسلمين. وقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ) جعل مال الإخوة كأنه مالك أنت؛ فلذلك يجب الاجتهاد في حفظ أموال المسلمين كما تحفظ مالك، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] أي: إخوانكم، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] يعني: لا يلمز بعضكم بعضاً، ولا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة، والعرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها؛ لأن أخا الرجل عندها كنفسه، فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه، فالفارق بين الحق والباطل في المال بين الذي يحل لك والذي لا يحل لك هو حكم الشرع، ليس الهوى وليس الاتفاق؛ لأن الناس قد يتراضون على أكل الأموال بالباطل، مثل بعض العقود المحرمة، كالذي يتعامل بالربا في عقد ربوي بالتراضي، ويقول: نحن متفقون. فنقول: التراضي أحد شروط صحة البيع، لكن هناك شروط أخرى، وأهمها وأعظمها: أن توافق الشرع. أيضاً: المال الذي يعطى لفرقة الموسيقى التي يأتون بها في الأفراح هو من أكل الأموال بالباطل، ويحرم على الرجل أن يدفع لهؤلاء مالاً، ويحرم على هؤلاء أن يأخذوا هذا المال؛ لأن الذي يحل ويحرم هو الله، والله حرم ذلك. وهكذا أي نوع من العقود المحرمة مثل: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن الذي يدفع للسحرة والعرافين، والرشوة؛ كل هذا من أكل أموال الناس بالباطل، فكل مال يعطى للرجل وهو غير حلال له شرعاً فهذا من أكل الأموال بالباطل. وقوله: ((بَيْنَكُمْ)) إما أنها ظرف (لتأكلوا) يعني: لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل، أو أنه حال من الأموال، أي: لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم، (بالباطل) يعني: متلبسين بالباطل.

تفصيل معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام)

تفصيل معنى قوله تعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام) قوله: ((وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)) المقصود أنكم تترافعون إلى الحكام، وتدعون دعاوى كاذبة في حق بعضكم حتى تأكلوا الأموال بالباطل. وقوله: (وتدلوا) مجزوم عطفاً على النهي، يعني: ولا تدلوا، وفي قراءة أبي (ولا تدلوا) بإثبات لا الناهية، والإدلاء مأخوذ من الدلو، وهو إرسال الدلو في البئر للاستقاء، ثم استعير لكل إلقاء قول أو فعل يتوصل به إلى شيء، فكل من ألقى شيئاً ليتوصل به إلى شيء يقال: قد أدلى، ومنه يقال للمحتج الذي يحتج ويقيم الحجة: أدلى فلان بحجته، كأنه يرسل الحجة حتى يصل إلى مراده، كإدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم إذا كان منتسباً إليه؛ فيطلب الميراث بتلك النسبة، يدلي إليه بقرابة، فكأنه اتخذ من هذه القرابة سبباً يوصله إلى حقه من الميراث. والباء في قوله: (وتدلوا بها) صلة الإدلاء، والمعنى: لا تلقوا أمرها والحكومة بها إلى الحكام، أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش -وهو الواسطة الذي يمشي بينهما-) رواه أهل السنن، وذلك لأن ولي الأمر إذا أكل هذا السحت -وهي: الرشوة، وتسمى أحياناً بالهدية، والإكرامية، والقهوة- احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان. وولي الأمر إنما جعل ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، هذا مقصود الولاية، وإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين، فالحاكم أو القاضي إنما جعل ليقيم العدل بين الناس، وليحمي الناس من ظلم بعضهم لبعض، فإن كان ظالماً فقد أتى بضد المقصود من ولايته، فيكون مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك. ((وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)) (بها) الهاء تعود إلى الحكومة، وكلمة حكومة معناها في مثل هذا السياق وفي كلام السلف ليس المعنى السياسي الذي يتبادر الآن إلى أذهاننا، بل المعنى رفع الدعوة إلى القاضي، هذه تسمى حكومة. ((وَتُدْلُوا بِهَا)) يعني: بهذه الحكومة والدعوة، وترفعونها إلى القضاء. ((إِلَى الْحُكَّامِ)) جمع حاكم، وهو منفذ الحكم بين الناس.

معنى قوله تعالى: (لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم)

معنى قوله تعالى: (لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم) قوله تعالى: ((لِتَأْكُلُوا)) يعني: بواسطة حكمهم الفاسد وبالتحاكم إليهم. ((فَرِيقًا)) يعني: طائفة وقطعة. {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} (بالإثم) يعني: بأمر يوجب إثماً، كشهادة الزور، واليمين الفاجرة، والحكم الفاسد الناشئ عن رشوة، وهذا لا يفيد الحل. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعني: وأنتم تعلمون أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبها أحق بالتوبيخ، فالتقييد بالعلم لزيادة تقبيح حالهم. فقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} مثل: أكل المال، سرقة الأرض، غصب أي شيء من الحقوق، فيدلي بها إلى الحكام، أي: يرفع الحكومة والدعوة الظالمة الكاذبة إلى القاضي ويعطيه الرشوة. {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا}، قطعة من أموال الناس. ((بِالإِثْمِ)) الإثم إما الرشوة للحاكم الذي يطاوعكم في هذا الظلم، أو لا يكون الحاكم ظالماً لكن أنت تأتي بشاهد زور، أو تحلف يميناً غموساً محرمة، فهذه كلها أنواع من الإثم.

معنى قوله تعالى: (وأنتم تعلمون)

معنى قوله تعالى: (وأنتم تعلمون) قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، إشارة إلى قبح حالكم؛ لأنكم لا تفعلون هذا وأنتم جاهلون بهذا، لكن أنت تعلم في قرارة نفسك أن هذا المال ليس من حقك، فأنت تعلم ولست تجهل، فهذا فيه تقبيح وتوبيخ لحالهم، والمقصود إن خفي ظلمكم على الناس، فإنهم لا يعلمون ما في نفوسكم، فأنت تعلم أن هذا حرام عليك. والناس الآن في أوضاع مؤلمة جداً،، الشيء الحرام عند بعض الناس هو الذي يعجز عنه، لكن ما قدر عليه يكون حلالاً، فالفيصل عنده ليس أن هذا الشيء حقي عند الله سبحانه وتعالى أم ليس حقي، لكن الفيصل عنده هل أقدر عليه أم لا أقدر؟ فإذا قدر عليه فهو حلال له، والحرام عنده هو الذي يعجز عنه، هذا حال كثير من الناس إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، وللأسف هذا في عامة ما حرم الله، تجد مثلاً الفروج الحرام منها عند بعض الفسقة ما عجز عنه، أما إذا قدر عليه فهو حلال عنده، وهذا بلا شك مصادمة لشرع الله تبارك وتعالى، وعدم خوف منه تبارك وتعالى. هذه الآية المقصود بها أن الحاكم يحكم بما يظهر له، والقاضي بشر يتعامل مع الوثائق بما يظهره الناس من شهادات أو يمين أو غير ذلك، فيمكن أن تعلم أن هذا ليس من حقك، والقاضي حكم لك، فلا تعتقد أن هذا حلال لك، ما دمت تعرف أنه حرام فهو حرام، وحكم الحاكم لا يحله، والحاكم أو القاضي معذور؛ لأنه حكم بما يظهر له بحسب الوثائق، لكن إن كنت تعلم أنه عند الله سبحانه وتعالى ليس حلالاً لك فسيبقى حراماً، ولا يحله لك حكم الحاكم، ولذلك قال: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: إن خفي ظلمكم على الناس فإنه لا يخفى عليكم، وهذا تنبيه على أن الاعتبار بما عليه الأمر في نفسه، وما علمتم منه، لا بما يظهر. قال ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة، فيأتي الآخر يريد حقه، فيجحد هذا المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آكل حرام، فإذا حكم له القاضي لا يحل له ذلك. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له) أي: عنده قدرة على الكلام وتأويل الكلام كحال كثير من المحامين الذين لا يخافون الله سبحانه وتعالى، وظيفته محامي، ويعتقد أنه يحل له أن يدافع عن الظالم، يكون الرجل قاتلاً ويدافع عنه، ويحاول أن يبرئه، ويفخر المحامي الظالم بأنه أخرجه من القضية كما تخرج الشعرة من العجين، وقد يكون المجرم تاجر مخدرات يحارب المسلمين أشد من الحرب النووية، ومع ذلك يفخرون بأن المحامي هذا ماهر؛ لأنه تمكن أن يبرئه تماماً من القضية، وهذا بسبب لحن القول، وقدرته على تزيين الكلام وزخرفته وتمويهه لستر هذه الجريمة أو غيرها من الجرائم، فالقاضي يحكم بما يظهر له. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إنما أنا بشر مثلكم -يعني: لا أعلم الغيب- وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له -في بعض الروايات: فأقضي له بنحو مما أسمع-، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار) إذا كنت تعلم أن هذا ليس من حقك، ولكن لأنك فصيح والآخر عيي لا يستطيع الكلام غلبته بالكلام، فأنا أحكم على ما يظهر لمن يأتيني بالبينة، فقد يكون صاحب الحق ليس عنده بينة، وضع أمانته عند خائن، ففي هذه الحالة إذا حكمت بما يظهر فاعلم أن ما تأخذه إنما هو قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها حسب خوفه من الله. فدلت الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير حقيقة الشيء في نفس الأمر، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالاً، وإنما حكم القاضي يلزم قضاءً لا ديانة في الظاهر فقط، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجره؛ لأنه اجتهد، وعلى المحتال وزره، ولهذا قال تعالى في آخر الآية: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم. قال قتادة: اعلم -يا ابن آدم- أن قضاء القاضي لا يحل لك حراماً ولا يحق لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب، واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض. يعني: القضاء حسم الخصومة في الدنيا فقط، ولكنها ستحسم يوم القيامة، فليس كل ما تقدر عليه بحكم قاضي أو بسلطة أو بغير ذلك يكون حلالاً لك، إنما الحلال ما أحله الله. يقول: واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المنكر للحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.

البقرة [189 - 195]

تفسير سورة البقرة [189 - 195]

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) قال الله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يسألونك) يعني: يا محمد صلى الله عليه وسلم. (عن الأهلة) جمع هلال، لم تبدو دقيقة ثم تزيد حتى تمتلئ ثم تعود كما بدأت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس؟! (قل هي مواقيت) يعني: قل لهم: هي مواقيت، جمع ميقات. (للناس) يعني: يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم. العدد جمع عدة، أي: ليحصوا عدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، وصيامهم وإفطارهم. (والحج) الحج يدخل فيما سبق لكن الله سبحانه وتعالى أفرد الحج بالذكر لبيان شرفه وفضيلته على ما عداه من الأعمال. (قل هي مواقيت للناس والحج) عطف على الناس، أي: ليعلم بها وقت الحج، فلو استمرت على حالة واحدة لم يعرف ذلك. (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) يعني: في الإحرام، بأن تنقبوا فيها نقباً تدخلون منه وتخرجون، وتتركوا الباب، وهم ناس من الأنصار كانوا يفعلون ذلك ويزعمونه براً. (ولكن البر) يعني: ولكن ذا البر (من اتقى) يعني: الذي يتقي الله بترك مخالفته. (وأتوا البيوت من أبوابها) يعني: في الإحرام وغيره، يعني: في حالة الإحرام كغير الإحرام ائتوا البيوت من أبوابها. (واتقوا الله لعلكم تفلحون) أي: تفوزون. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت هذه الآية. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحدة؟ يعني: لماذا القمر تعتريه هذه التغييرات زيادة ونقصاناً في حين الشمس تكون ثابتة على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية.

معنى قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس)

معنى قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس) قوله تعالى: ((قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)) يعني: معالم لهم في حل دينهم، فيعتمدون عليها في مواعيد حلول الدين، ولصومهم ولفطرهم وأوقات حجهم، وأجائرهم -يعني الإجارات- وأوقات الحيض، وعدد نسائهم، والشروط التي إلى أجل، فكل هذا مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر زيادة ونقصاً؛ ولهذا ميزها عن الشمس التي تبقى دائماً على حالة واحدة. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الأحكام الشرعية كالزكاة والعدد للنساء والحمل تتعلق بشهور الأهلة لا بشهور الفرس، أما ما يتعلق بالعقود والأفعال المتعلقة بفعل بني آدم فيتبع فيه العرف من حسابهم بالأهلة أو بشهور الفرس فهذا حكم وذاك حكم آخر. إذاً: أي فعل علق الله سبحانه وتعالى عمله على زمن معين فهذا يجب الالتزام فيه بالأهلة وليس بالتقويم الشمسي، كالزكاة مثلاً، إذا أراد الإنسان أن يبحث هل حال الحول على زكاته أم لا، فلابد أن ينتبه إلى أن المقصود الحول الهجري وليس الحول الميلادي، فلابد من اعتبار حول السنة الهجرية المعروفة. كذلك عدد النساء لا تحسب إلا بالشهور الهجرية، كذلك أيضاً الحمل، وغير ذلك، فهذه الأحكام التي لها علاقة بالأحكام الشرعية لابد من الالتزام فيها بالشهور الهلالية، أما العقود التي ينشئها الناس فيما بينهم أو غير ذلك من الأعمال التي لم تربط بأفعال شرعية فهذه يرجع فيها إلى العرف بالأهلة أو بغيرها. وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في آيات كقوله سبحانه وتعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]، وقال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]، آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12] أي: من غير افتقار إلى مراجعة المنجم وحساب الحاسب رحمة منه تعالى وفضلاً. وإفراد الحج بالذكر هنا تنويه بشأنه، وتشريف له، وقال القفال: نكتة إفراده -يعني: النكتة في إفراد الحج بالذكر رغم دخوله في عموم ما قبلها- بيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه، وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر غيرها كما كانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. والجمهور من القراء على فتح الحاء من كلمة (الحج)، والحسن على كسرها في جميع القرآن، وقال سيبويه: هما مصدران كالرد والذكر، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. والأهلة جمع هلال، وجمعه باختلاف زمانه، والمقصود هنا جمع هلال بمعنى أنه يختلف في الزمان من وقت إلى آخر، فالهلال غرة القمر إلى ثلاث ليال أو سبع، غرة القمر من أول ما يبدو الهلال من الليلة الأولى إلى ثلاث أو سبع ليال يسمى هلالاً، ثم يسمى بعد ذلك قمراً، وليلة البدر لأربعة عشرة. قال أبو العباس: سمي الهلال هلالاً؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، فالإهلال رفع الصوت بالإخبار عن الهلال، وسمي بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع كأنه يعجلها المغيب، وسمي بدراً لتمامه وامتلائه، وكل شيء تم فهو بدر.

سبب نزول هذه الآية

سبب نزول هذه الآية روى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط؟ يعني: كان يشغل السائلين تفسير هذه الظاهرة وبتعبير معاصر كأنهم كانوا يسألوه عن التفسير العلمي للزيادة والنقصان في الهلال، وكان يمكن أن يقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا ناشئ عن الظل حينما تكون الأرض بين الشمس والقمر، فإذا حجب ظل الأرض القمر لا يظهر منه شيء، ثم إذا انحسر قليلاً يبدو الهلال، وكلما مر الوقت فإنه يزيد حتى يصير بدراً ثم ينعكس كما هو معروف في دورة القمر. فهذا كأنه سؤال عما لا يغني وعما لا يفيد، فلذلك كان الجواب بما ينفع، فلم يفسر لهم هذا الذي كانوا يسألون عنه، وإنما انتقل إلى ما يفيدهم ويعود عليهم بالنفع تماماً كما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأله: متى الساعة؟ فقال: (ما أعددت لها؟) فهو انصرف عن جواب سؤاله الذي لا يعنيه إلى ما يعنيه، ليس المهم متى الساعة، الساعة آتية ولو بعد أربعمائة سنة أو خمسمائة سنة أو أكثر أو أقل، وهذا لا يعنيك أنت، أنت لن تخلد شئت أم أبيت، أنت لك ساعتك، وقيامتك أنت يوم تموت، أما عمر الدنيا فهذا لا يعنيك، وهذا مما استأثر الله بعلمه، فانتقل إلى جوابه عما يفيده وما يعنيه، فقال: (ما أعددت لها؟ قال: لا شيء غير أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت). كذلك هذان الصحابيان قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو أو يطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان، ولا يكون على حال واحدة؟ فنزلت هذه الآية: ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ))، فهنا أجاب السائل بغير ما كان يطلب، ونزل سؤاله منزلة غيره تنبيهاً للسائل على أن ذلك الغير هو الأولى بحاله، أو هو المهم له، فلما سأله عن السبب الفعلي للتشكلات النورية في الهلال، أجيب بما ترى من السبب الغائي تنبيهاً على أن السؤال عن الغاية والفائدة هو أليق بحالهم؛ لأن درك الأسباب الفاعلية لتلك التشكلات مبني على أمور من علم الهيئة لا عناية للشرع بها، وهذه تترك لأهل الدنيا يتكلمون فيها، كعادة القرآن في أن أمور الدنيا يترك الله سبحانه وتعالى الأمر فيها للناس؛ لأن الله أوضع فيهم القوة والقدرة العقلية على استنباط واكتشاف هذه الأشياء، لكن الشرع يخبرنا بالأمور المهمة التي تفيدنا، مثلاً: صراخ المولود الطبيعي حين يولد نجد الأطباء لهم تفسيرات تتواءم مع علمهم وأمور الدنيا، فيقولون مثلاً: من أجل أن يتنفس ويتفتق حلقه وغير ذلك من الأشياء التي هي من فوائد هذا الصراخ، في حين أن الوحي أخبرنا عن سبب آخر لا يتعارض مع هذه الأمور التي يمكن أن يعلمها الناس من أمور الدنيا، فتركها لهم ليكتشفوها، أما الذي لا سبيل إلى دركه فهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ما من مولود يولد إلا ويستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه)؛ وذلك استجابة لدعوة امرأة عمران وهي أم مريم عليها السلام حينما قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، فيثبت النبي عليه الصلاة والسلام أن كل مولد يولد يطعنه الشيطان في خاصرته؛ إعلاناً له بالعداوة من أول لحظة، وأنه سيتلقاه بالعداوة كما عادى أبويه من قبل، فهذا إعلان لعداوته له من أول لحظة ينزل فيها إلى الدنيا، فهذا لا يمكن أن يصل إليه العلم البشري، فلذلك تكفل الله سبحانه وتعالى بإيحائه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام. أما تفسيرات الظواهر الموجودة والمبثوثة في الآفاق وفي الكون وفي أنفسنا فتركت لأهل الدنيا يكتشفونها ويتحدثون عنها، أما الشرع فلا يهمه تفسير الهلال لماذا ينقص ويزيد وغير ذلك، فإنما يهمه الحكمة من وراء ذلك والغاية. فذكر أن الغاية هي أن ذلك مواقيت للناس والحج. يقول: فلو أجيبوا بأن اختلاف تشكلات الهلال بحسب محاذاته للشمس فإذا حاذاها طرف منه استنار ذلك الطرف، ثم تزداد المحاذاة والاستنارة حتى إذا تمت بالمقابلة امتلأ، ثم تنقص المحاذاة والاستنارة حتى إذا حصل الاجتماع أظلم بالكلية؛ لكان هذا الجواب اشتغالاً بعلم الهيئة الذي لا ينتفع به في الدين ولا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث لبيان ما يصلح ديننا ودنيانا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال علي رضي الله عنه: من طلب علم النجوم تكهن. وهو من العلم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علم لا ينفع وجهل لا يضر) وإن كان لا يصح هذا الحديث. على أي حال هذا أسلوب من الأساليب الحسنة في الجواب، إشعاراً بأن الأولى السؤال عن الحكمة فيه وليس عن كيفية تشكله، ونظيره عند العرب أن شاعراً أتته امرأته تشكو إليه من كثرة الضيفان وقرى الأضياف، ونحتاج إلى الاستشهاد بهذه الأشعار؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، يقول الشاعر: أتت تشتكي عندي مداولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي فلم يجبها فيما شكت إليه، وانتقل إلى ما يفيد ويجدي. وكما قال أيضاً تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215]، سألوا عن بيان الشيء الذي يخرجونه، فأجيبوا ببيان المصرف الذي ينفقونه؛ لأن هذا هو الذي يفيدهم، فينزل سؤال السائل منزلة غير سؤاله لتوخي التنبيه له بألطف وجه على موضع سؤال هو أليق بحاله أن يسأل عنه، أو هو أهم له إذا تأمله، وهذا بلا شك: ينشط السامع إلى ما سمعه، وهذا الأسلوب الحكيم لربما طابق المقام فحرك من نشاط السامع ما سلبه حكم الوقوف، وأبرزه في معرض المذكور، وهل ألان شكيمة الحجاج في ذلك الخارجي، وسل سخيمته حتى آثر أن يحسن على أن يسيء، غير أن سحره بهذا الأسلوب؟ إذ توعده الحجاج بالقيد في قوله: لأحملنك على الأدهم، فقال متغاضياً -أي: الرجل قالها بصيغة التغاضي-: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب! فـ الحجاج كان يتهدده أنه يركبه على الفرس الأدهم، ويطاف به في الأسواق، وهذا أسلوب من أساليب المعاقبة من قبل. فالرجل تغاضى عن ذلك وسحر الحجاج بأسلوبه حينما لجأ إلى هذا الأسلوب الحكيم الذي نتحدث عنه، فلما قال له: لأحملنك على الأدهم، أظهر له أنه فهم غير ما أراد، وهو يعلم حقيقة ذلك، ولكنه تغابى، وكأنه فهم أنه يريد أن يكرمه، وسيحمله على الفرس الأدهم، فقال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب يعني: مثلك رجل شريف ذو سلطان ولا يليق بك أن تحمل على الأدهم، بل تحملنا على شيء أعظم من ذلك، فقال متغاضياً: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، مبرزاً وعيده في معرض الوعد، مترتباً بأن يريه بألطف وجه أن امرأ مثله في مكمل الإمرة المطاعة خليق بأن يفد لا أن يوفد، وأن يعد لا أن يوعد.

معنى قوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)

معنى قوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189]. الباب: معروف، واستعير لمدخل الأمور المتوصل به إليها، فكل شيء يوصل إلى شيء يسمى باباً، ويقال في العلم: باب كذا. وقد ذكرنا أن سبب نزول الآية السابقة أنهم سألوا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يكبر ويزيد إلى أن يصير بدراً؟ وكأن هذه الآية أيضاً فيها توبيخ لهم على الاهتمام بمالا يعنيهم في أمر العلم: ((وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) يعني: انشغلوا بما يفيدكم، وهذا المعنى فصله ووضحه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى بكلام رائع في مقدمة كتابه الموافقات، وبفصل مستقل، وجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس من العلم المختص بالنبوة؛ لأن ذلك عدول عن المنهج؛ وذلك أن العلوم ضربان: ديني ودنيوي يتعلق بأمر المعاش، كمعرفة الصنائع، ومعرفة حركات النجوم، ومعرفة المعادن والنبات وطبائع الحيوانات، وقد جعل لنا سبيلاً إلى معرفته من غير طريق النبي صلى الله عليه وسلم، تصوروا لو أن الصحابة أنفقوا عمرهم مع النبي عليه الصلاة والسلام في تفسير كيف تهطل الأمطار، وكيف تدور الأفلاك، وكيف ينشأ عنها الليل والنهار، وكيف كذا وكذا مما يدرس الآن في العلوم الحديثة، فأي خسارة كانت ستعود على المسلمين إذا انشغل المسلمون والصحابة بذلك عما يصلح الدين وما يصلح الآخرة، وعن أركان هذا الدين، وعن تفاصيل العبادات والمعاملات، وتفاصيل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتفاصيل الأخلاق الإسلامية؟! هذه الأمور نعرفها بالخبرة البشرية، وبمرور الوقت تنكشف علوم الدنيا؛ لأنها متعلقة بالمعاش وبالدنيا. أما الأمور الشرعية -وهو البر- فلا سبيل إلى أخذه إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحكام التقوى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا))، فعوتبوا عندما جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما يمكنهم معرفته من غير جهته، فلو سألوا عالماً من أهل الهيئة فإنه سيشرح لهم موضوع الهلال كيف يزيد وينقص، فلما جاءوا يسألونه عما أمكنهم معرفته من غير جهته بين لهم أنه ليس البر سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس مختصاً بعلم نبوته، ولكن البر هو مجرد التقوى؛ وذلك يكون بالعلم والعمل المختص بالدين. قال أبو مسلم الأصبهاني: المراد بهذه الآية ما كانوا يعملونه من النسيء، فإنهم كانوا يؤخرون الحج عن وقته الذي عينه الله له، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام، فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. وقد روى البخاري وغيره عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء رضي الله تعالى عنه يقول: نزلت هذه الآية فينا، كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها -يعني: من النافذة أو من فتحة الجدار- قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، وخالف هذه العادة التي كانت عند الأنصار في الجاهلية، فعيروه فنزلت: ((وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا))، وقول البراء: نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا إلى آخر الأثر؛ هذا بحسب ما ظنه هو، وليس معنى ذلك أنها نزلت فيهم فقط، ولكن نقول: هي تصدق على هذا الحال، لا أن ذلك كان سبب نزولها، فأحياناً يقول العلماء: نزلت هذه الآية في كذا، وليس المقصود أن هذا هو سبب النزول، وإنما المقصود أن هذه الآية تصدق على هذا الحال، وإن لم يكن هو سبب النزول. ((وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)) أي: تحروا لكل عمل إتيان الشيء الديني منه، تنبيهاً على أن ما يطلب من غير وجهه يصعب تناوله. ثم قال: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))، حثاً لنا أن نجعل تقوى الله شعارنا في كل ما نتحراه، وبين أن ذلك ذريعة إلى تحصيل الفلاح.

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) قال تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، لما صد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية، وصالح الكفار على أن يعود العام القادم، ويخلوا له مكة ثلاثة أيام، وتجهز لعمرة القضاء؛ خاف المسلمون ألا تفي قريش بذلك ويقاتلونهم، وكره المسلمون قتالهم في الحرم والإحرام والشهر الحرام؛ فنزلت هذه الآية: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} يعني: لا تتحرجوا عن القتال إذا قاتلكم المشركون أثناء إرادتكم عمرة القضاء، حتى ولو كنتم محرمين، ولو كنتم داخل البلد الحرام، ولو كنتم في الشهر الحرام؛ لأنكم لستم البادئين بهذا العدوان. ((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: لإعلاء دينه. ((الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)) أي: من الكفار. ((وَلا تَعْتَدُوا)) أي: لا تعتدوا عليهم بابتداء القتال. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] أي: المتجاوزين ما حُد لهم، وهذا منسوخ بآية براءة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، وبقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] وقد سبق أن تكلمنا بالتفصيل في معنى النسخ هنا، وأنه ليس المقصود به المعنى الاصطلاحي المتأخر، وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، ولكن النسخ هنا رفع الإيهام والإبهام يعني: حسب حال المسلمين من القوة والضعف، فإن كانوا في حال قوة وتمكين فإنهم يبدءون المشركين بالقتال، كما قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] إلى آخر الآية، وإن كانوا لا يستطيعون إلا الدفاع فيجب عليهم الدفاع، وإن كانوا لا يستطيعون الدفاع فيصبروا ويأخذوا بآيات الإعراض عن المشركين والصفح والصبر على الأذى، وقد سبق أن تكلمنا عن هذا بالتفصيل مراراً.

تفسير قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)

تفسير قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] أي: حيث وجدتموهم، {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] أي: من مكة، وقد فعل بهم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح. {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] (الفتنة) أي الشرك الذي يقع منهم (أشد) أي: أعظم، (من القتل) أي: من قتالهم في الحرم أو في الإحرام الذي استعظمتموه؛ لأنه إن كنتم تخافون أن يقاتلوكم وتنتهكوا بقتالهم حرمة الإحرام والشهر الحرام والبلد الحرام، فما هم عليه من الشرك وهم داخل الحرم الشريف وفي الشهر الحرام أشد من قتلكم إياهم. {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] يعني: في الحرم؛ لأن المسجد الحرام يطلق على عدة إطلاقات: يطلق على الكعبة نفسها كقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:97]، ويطلق على المسجد، ويطلق على مكة ومنى، قال الله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح:25]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1]، ومعلوم أن الإسراء كان من بيت أم هانئ من داخل مكة، فقوله هنا: ((وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) يعني: في الحرم، وحدود الحرم أوسع من حدود مكة. {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] يعني: فإن قاتلوكم فيه، (فاقتلوهم) يعني: فيه، وفي قراءة: بلا ألف في الأفعال الثلاثة، يعني: (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم). {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة:191] يعني: كذلك القتل والإخراج جزاء الكافرين.

تفسير قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم)

تفسير قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) قال تعالى: {فَإِنِ انتَهَوْا} [البقرة:192] أي: عن الكفر وأسلموا، لا بد أن ننتبه لهذا؛ لأن الله قال في آخرها: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:192]، والله سبحانه لا يغفر للمشرك، أو لا يرحم المشرك، فلا بد أن نفسر الانتهاء هنا بمثل قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا: فإن الله غفور لهم، رحيم بهم.

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله)

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]، ما إعراب كلمة (فتنة). (كان) هنا ليست ناسخة، بل هي تامة، والتقدير: وقاتلوهم حتى لا توجد فتنة، فكان هنا تامة مثل كان الله ولم يكن شيء معه، فالله: لفظ الجلالة هنا فاعل، ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة:280]، ذُو: فاعل. ((حَتَّى لا تَكُونَ)) أي: حتى لا توجد، ((فِتْنَةٌ)) أي: شرك. ثم قال تعالى: ((وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) يعني: وحده لا يعبد إلا هو، ((فَإِنِ انتَهَوْا)) يعني: عن الشرك، فلا تعتدوا عليهم، دل على هذا التفسير قوله تعالى: ((فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)) يعني: فلا تعتدوا عليهم بقتل أو غيره، ومن انتهى وتوقف فليس بظالم، فلا عدوان عليه.

تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام)

تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام) قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:194]، المقصود بالشهر الحرام: الشهر المحرم، فكما قاتلوكم فيه فاقتلوهم في مثله، وهذا رد لاستعظام المسلمين ذلك؛ لأن المسلمين استعظموا أن يقاتلوا المشركين في الشهر الحرام، فبين الله سبحانه وتعالى أنه إذا كان قتالكم إياهم على سبيل المقابلة بالمثل، فلا حرج عليكم في ذلك. {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194] الحرمات: جمع حرمة، وهو ما يجب احترامه. ((قِصَاصٌ)) أي: يقتص بمثلها إذا انتهكت. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] أي: بقتال في الحرم أو في الإحرام أو في الشهر الحرام، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] هذا من باب المقابلة فقط، ولكن هو في الحقيقة لا يسمى عدواناً بل هذا من العدل، فمن اعتدى عليك فقابلته بالمثل لا يسمى عدواناً، ولكن أطلق الله سبحانه وتعالى عليه عدواناً من باب المقابلة فقط؛ لاجتماعهما في نص واحدٍ كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فهل السيئة الثانية التي تقابل أنت بها الأولى تعتبر سيئة؟ لا، بل هذا من العدل، وهي حسنة، وهذا من باب المشاكلة اللفظية لوجودهما في نص واحد، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فأطلق على الفعل الأول لفظ العقوبة من باب المشاكلة أو المقابلة. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194] يعني: في الانتصار وترك الاعتداء. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] أي: بالعون والنصر.

تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)

تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:195] أي: في طاعته كالجهاد أو في غيره، {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة:195] أي: بأنفسكم، عبر عن الأنفس بالأيدي، وهذه الباء يقول عنها النحاة: إنها زائدة، أي: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك الجهاد؛ لأن هذا يقوي العدو عليكم. {وَأَحْسِنُوا} [البقرة:195] أي: بالنفقة وغيرها، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] أي: يثيبهم على هذه النفقة.

زيادة تفسير لقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)

زيادة تفسير لقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، هذا تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، يعني: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم. ((وَلا تَعْتَدُوا)) يعني بابتداء القتال، أو (لا تعتدوا) بتعدي حدود الله، وتجاوز الآداب الشرعية في القتال، كقتل النساء أو الصبية أو الرهبان المتعبدين من أصحاب الصوامع، والذين بينكم وبينهم عهد، أو التمثيل بالجثث أو المفاجئة بالقتال من غير دعوة، فكل هذا داخل في العدوان. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: المتجاوزين حكمه في هذا. ((وَاقْتُلُوهُمْ)) يعني: هؤلاء الذي يقاتلونكم اقتلوهم، {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} يعني: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان أشد عليه من القتل، ففتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالتعذيب والإخراج من الوطن أشد قبحاً من القتل فيه، إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه في اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره. فالجملة دفع لما قد يقع من استعظام قتلهم في الحرم، وإعلام بأن القصاص منهم بالقتل دون جرمهم بفتنة المؤمنين؛ لأن الفتنة أشد من القتل. وقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}؛ لأن حرمته لذاته، وحرمة سائر الحرم من أجله، وهذا بمثابة الاستثناء من قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يعني اقتلوهم حيث ثقفتموهم إلا في المسجد الحرام فلا تبدءوهم بقتال في الحرم، إلا إذا قاتلوكم فيه، فهذا استثناء من عموم قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}، يعني: اقتلوهم في أي مكان من الأرض وجدتموهم فيه إلا في المسجد الحرام، فلا تبدءوا بقتالهم حتى يبدءوا هم بقاتلكم فيه؛ مراعاة لحرمة الحرم. ((فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ)) يعني: في الحرم، فلا تفكروا في الفرار من الحرم، ولكن اثبتوا في الحرم، وقاتلوهم فيه؛ إذ لا حرمة لهم حينئذ عند المسجد الحرام. {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}، لا يجعل لهم حرمة كما لم يراعوا حرمة الله في آياته، فدلت الآية على الأمر بقتال المشركين في الحرم إذا بدءوا بالقتال فيه؛ دفعاً لصولتهم، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لما تألب عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم وقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، وقال صلى الله عليه وسلم لـ خالد ومن معه يوم الفتح: (إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً حتى توافوني على الصفا)، فما عرض لهم أحد إلا أناموه، وأصيب من المشركين اثنا عشر رجلاً كما في السيرة، والله سبحانه وتعالى أحل لنبيه مكة ساعة من النهار كما جاء في الحديث: (وإن الله قد أحلها لي ساعة من النهار، وإن حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس) أي: أباح الله له مكة ساعة من النهار عند فتحها، وبعد ذلك عادة حرمتها، وحتى أنه يحرم حمل السلاح بمكة بعد ذلك إلى الأبد. ((فَإِنِ انتَهَوْا)) أي: عن القتال، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، قال القاسمي: فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم تخلقاً بصفتي الحق تبارك وتعالى: المغفرة والرحمة، وقال بعضهم: (فإن انتهوا) أي: عن الشرك والقتال، (فإن الله غفور) لما سلف من طغيانهم، (رحيم) بقبول توبتهم وإيمانهم. ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) أي: حتى لا توجد في الحرم فتنة، ((وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله). ((فَإِنِ انتَهَوْا)) يعني: عن قتالكم في الحرم ((فَلا عُدْوَانَ)) أي: لا سبيل لكم بالقتل ((إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)) الذين يبتدئون بالقتال. قيل لـ ابن عمر: أنت صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج معنا في هذا القتال؟ -أي: القتال في الفتنة- فقال: يمنعني أن الله حرم ذلك، قالوا: فإن الله قال: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))! فقال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله، رواه البخاري، ثم ساق رواية أخرى فيها: قال ابن عمر رضي الله عنهما: (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً وكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة).

زيادة تفسير لقوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام)

زيادة تفسير لقوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام) قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} يعني: مراعاة حرمة الشهر واجبة مع من راعى حرمة الشهر، وأما من هتكها اقتص منه، فهتك حرمته بهتكه لحرمته، فيقاتلون عند المسجد الحرام إذا قاتلوا فيه، فإن البادئ أظلم. وقوله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} القصاص بمعنى المساواة والعدل، فمعنى: (والحرمات قصاص) يعني: متساوية، فلا يفضل شهر حرام على آخر بحيث يمتنع هتك حرمته لهتكهم حرمة ما دونهم، على أنا لا نهتك حرمة الشهر الحرام والمسجد الحرام والحرم، بل نهتك حرمة من هتك حرمة أحدهما؛ لأن هؤلاء المشركين قاتلونا في المسجد الحرام أو قاتلونا في الشهر الحرام فقاتلناهم، فهل معنى ذلك أننا نهتك حرمة الحرم؟! لا، نحن لا نهتك حرمة الحرم، ولا حرمة الشهر، وإنما نهتك حرمة من لم يراع حرمة الحرم ولا حرمة الشهر. والحرمات: جمع حرمة، وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك، والقصاص المساواة، {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي: والحرمات ذوات قصاص. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، هذا أمر بالعدل حتى مع المشركين، يعني: عاقب بقدر الظلم الذي وقع بك، ولا تتجاوزه وإلا كنت ظالماً؛ ولذلك قال: ((فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ))، وذلك لأن الحرمات قصاص كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]. ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) أي: في هتك حرمة الشهر والمسجد والحرم بدون هتكهم له، واتقوا الله أيضاً بألا تزيدوا في الاعتداء. {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي: بالمعونة والنصر والحفظ والتأييد.

زيادة تفسير لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة)

زيادة تفسير لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة) قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:195] أمر بالإنفاق في سائر وجوه القربات والطاعات، ومن أهمها صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم، ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) أي: إلى ما يقود ويؤدي إلى الهلاك، للتعرض لما تستوخم عاقبته جهلاً به. يقول الراغب الأصفهاني: وللآية تأويلان بنظرين: أحدهما: أنه نهي عن الإسراف في الإنفاق وعن التهور في الإقدام، هذا هو التفسير الأول: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) يعني: لا تسرفوا في النفقة، أنفقوا ولكن لا تسرفوا في النفقة، ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) يعني: لا تتهوروا في الإقدام على مقاتلة الأعداء. الثاني: أنه نهي عن البخل بالمال، وعن القعود في الجهاد. إذاً: التفسير الأول: فيه النهي عن الإفراط في القتال وعن التهور في الإقدام. التفسير الثاني: فيه النهي عن البخل بالمال، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة لأنكم إن امتنعتم عن النفقة في سبيل الله سيضعف جيش المسلمين، وبالتالي تهلكون جميعاً الفقير والغني. قال بعض المفسرين: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) نهي عن البخل بالمال، ونهي عن القعود عن الجهاد، فإذا نكل الناس عن الجهاد فهذا إلقاء بالأيدي إلى التهلكة؛ لأن المشركين يعلون على المسلمين، فهو نهي عن البخل والإحجام عن الجهاد؛ ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29]، ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال لتجرد المهاجرين عنها اشتهر في هذه الآية استدلال العلماء بهذا الحديث الصحيح الذي رواه جمع من العلماء منهم أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن أسلم أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم، فأرسلوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيه! فصاح الناس: سبحان الله!! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه فقال: يا أيها الناس! إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار -ولم يذكر المهاجرين لأنهم تركوا الأموال والتجارة والبيوت وكل متاع الدنيا؛ ابتغاء رضوان الله سبحانه وتعالى، ونصرة لرسوله عليه الصلاة والسلام، فلما أتوا المدينة كانوا فقراء، والذين كان لهم أموال هم الذين كانوا يستوطنون المدينة من الأنصار- لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سراً -يعني: ما جهروا بهذا في المدينة، وإنما كان يستخفون به-: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها -أي: نجلس ونستثمر الأموال وننميها-؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا. مع أن الرسول ما سمع منهم ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآية يرد عليهم هذا الذي قالوه خفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو أيوب: فكانت التهلكة الإقامة على الأموال، وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، رضي الله تعالى عنه. يقول القاسمي: إنكار أبي أيوب رضي الله عنه إما لكونه لا يقول بعموم اللفظ، بل بخصوص السبب، وإما لرد زعم أنها نزلت في القتال، يعني: في حمل الواحد على جماعة العدو كما تأولوها، وهذا هو الظاهر. والأقرب -والله تعالى أعلم- في تفسير هذه الآية: ليس المقصود عدم الإسراف في النفقة؛ لأنه كما لا خير في السرف، فلا سرف في الخير، فلو أن إنساناً تصدق بماله في سبيل الله ابتغاء وجه الله فإنه لا يذم، أو أنفق المال في وجوه الخير كقرى الأضياف وإكرامهم، والنفقة على اليتامى والفقراء والمساكين أو في الجهاد في سبيل الله، فهذا لا يذم، فكما أنه لا خير في الإسراف؛ كذلك لا إسراف في الخير. إذاً: معنى قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} أي: بترك النفقة؛ لأنكم إذا تركتم النفقة يضعف جيش المسلمين ويتقوى الأعداء فيهلكوكم ويستأصلوكم، أو: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) أي: بترك الجهاد، خلاف ما يفهم بعض الناس في هذا الزمان، كلما عملت أي شيء من أعمال الدين تجد من ينكر عليك ويقول: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ))! فيقولون: لمن ينصح الناس: (لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، ويقولون للذي يصلي في المساجد: (لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)!! إذاً: من يقوم بالدين؟! ترك هذه الأعمال هو عين إلقاء الأيدي إلى التهلكة، فتضييع الواجبات الشرعية هو عين إلقاء الأيدي إلى التهلكة. هذا الرجل الذي حمل على صف الروم لا شك أنه سيكسر هؤلاء الرومان، لما يرون من شجاعة المسلمين، وبيعهم للدنيا، وكيف يخرج الواحد منهم وحده ولا يخاف منهم، ويطعن في كل هؤلاء، ويقابل كل هذا الصف، فيكفي الانكسار والهزيمة النفسية التي تحصل لأعداء الدين، فإنهم يقولون: هذا رجل واحد، فكيف بهذا الجيش العظيم من المسلمين؟! حينئذٍ تنكسر قلوبهم ويذلون، ويخافون ويرهبون من المسلمين، فهذا الرجل أدخل الرهبة والرعب في قلوب الكافرين حينما يرون هذا الاستبسال من جنود المسلمين، فهذا لا يسمى إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة؛ لأن الذي يدخل في صفوف الكفار ويقاتلهم غير منتحر، ولهذا نظائر كثيرة في التاريخ الإسلامي، كحادثة حديقة الموت المشهورة لما حملوا البراء على ترس ورموه داخل الحصن، مع تكدس الجيوش الكافرة فيه، فقاتلهم حتى تمكن من فتح الباب ودخل المسلمون. إذاً: الجهاد في سبيل الله ليس إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة، الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو أن يضيع الجهاد، والنفقة في سبيل الله ليست إلقاءً بالأيدي إلى التهلكة، بل البخل عن النفقة هو الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة. وقد استشهد بعموم الآية عمرو بن العاص فيما رواه ابن أبي حاتم بسنده أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبر أنهم حاصروه، فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقبله، فعاب ذلك عليه المسلمون، ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فرده، وقال عمرو: قال الله: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)). إذاً: هناك مذهبان في تفسير هذه الآية: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)): التفسير الأول: أنه نهي عن البخل عن النفقة في سبيل الله، ونهي عن ترك الجهاد. التفسير الآخر: أي: بالإسراف في النفقة في الجهاد، وأيضاً التهور بالإقدام في الجهاد، فمن قال بالعموم ذهب هذا المذهب، ومن قال بالخصوص ذهب إلى ما ذهب إليه أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وعلى أساس الأخذ بالعموم يكون من الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: التهور في الإقدام في الجهاد، قال الحاكم: تدل الآية -على أساس هذا التفسير- على جواز الهزيمة في الجهاد إذا خاف الإنسان على نفسه، وتدل على جواز ترك الأمر بالمعروف إذا خاف على نفسه؛ لأن كل ذلك إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وتدل على جواز مصالحة الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وكما فعله أمير المؤمنين علي عليه السلام في صفين، وكما فعله الحسن عليه السلام من مصالحة معاوية، وتدل أيضاً على جواز مصالحة الإمام الكفار بشيء من أموال الناس إذا خشي التهلكة، ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يصالح الأحزاب بثلث ثمار المدينة حتى شاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فأشارا بترك ذلك، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يعزم إلا على ما يجوز. والتهلكة والهلاك والهلك واحد، فهي مصدر، ولا أعلم في كلام العرب مصدراً على وزن التفعلة إلا التهكلة، وهو من نوادر المصادر، ولا يجرى على مثلها. قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: أي: يثيبهم عليها، يعني: على النفقة وغيرها. وهذا تأويل لصفة المحبة، حيث فسر (يحب) بمعنى: يثيب، فهو يؤول صفة المحبة التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه بالإثابة، وهذا مخالف لمنهج السلف في إمرار آيات الصفات على ما جاءت دون تأويل أو تعطيل أو تشبيه.

البقرة [196 - 199]

تفسير سورة البقرة [196 - 199]

تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)

تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) قال تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) يعني: أدوهما بحقوقهما، والإتمام هنا بمعنى: الفعل نفسه، أتموا يعني: أدوا. وتوجد قراءة غريبة وهي: (وأتموا الحج والعمرةُ لله)، فمن قرأها ذهب إلى عدم وجوب العمرة، فقال: إنما الأمر متوجه إلى الحج؛ لكن القراءة المعروفة: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)) وقد استدل بها بعض العلماء على وجوب الحج والعمرة. إذاً: (أتموا) من الإتمام، وذلك بتأديتهما تامتين بجميع مناسكهما المشروعة، لوجه الله تبارك وتعالى، أو يكون المقصود: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أن الإنسان إذا شرع في الحج أو العمرة ولو تطوعاً يجب عليه إتمامه، ولا يقطع الأداء كما قال تبارك تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فمن شرع في عبادة لزمه إتمامها، إذا كانت عبادة واجبة، أما أعمال التطوع لا يلزمه إتمامها إلا الحج والعمرة لهذه الآية: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ)). وهذه الآية اختلف العلماء فيها هل هي دليل على فرضية الحج أم لا، فمن قال: إنها دليل على فرضية الحج فإنه يفسر (أتموا) بمعنى: أدوا الحج والعمرة لله، فتكون مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]. وفريق آخر قالوا: هذه الآية ليست دليلاً على فرضية الحج، فإنها نزلت سنة خمس من الهجرة، والحج فرض بقوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] وذلك في سنة تسع من الهجرة، وأجاب عن هذه الآية بأنها لا علاقة لها بموضوع الفرضية، وإنما هي توجب إتمامهما بعد الشروع فيهما فقط، ولا علاقة لها بفرضية الحج. قال الراغب: (أتموا) خطاب لمن خرج حاجاً أو معتمراً، فأمر ألا يصرف وجهه حتى يتمهما، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى، واحتج به في وجوب إتمام كل عبادة دخل الإنسان فيها متنفلاً، وأنه متى أبطلها وجب قضاؤها، وقيل: إنه خطاب لهم ولمن لم يتلبس بالعبادة، وذكر لفظ الإتمام تنبيه على توفية حقها وإتمام شرائطها كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] وإلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله، واحتج به على وجوب العمرة، وإنما قال في الحج والعمرة: (لله) ولم يقل ذلك في الصلاة والزكاة، من أجل أنهم كانوا يتقربون ببعض أفعال الحج والعمرة إلى أصنامهم، فخصهما بالذكر لله تعالى، حثاً على الإخلاص فيهما.

معنى قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي)

معنى قوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) قوله تعالى: ((فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)) أي: إن حبستم عن إتمام الحج والعمرة فما استيسر من الهدي، وهناك خلاف مشتهر بين العلماء في الإحصار، هل الإحصار يكون بالعدو فقط؟ ذهب بعض العلماء إلى أن الإحصار لا يكون إلا بالعدو، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى بعد ذلك: {فَإِذَا أَمِنتُمْ}، فلا يقال لمن مرض: فإذا أمنتم، وإنما يقال ذلك لمن حبسه العدو. وفريق آخر من العلماء قالوا: إن الإحصار يشمل الإحصار بالعدو، ويشمل الإحصار بالمرض أو بالسلطان الظالم أو بأي سبب من الأسباب التي يحصر بها الإنسان. وقوله: (فما استيسر) أي: فاذبحوا أو فانحروا الواجب عليكم أو أهدوا ما استيسر من الهدي، والهدْي أو الهديّ جمع هدية، وهو: ما أهدي إلى مكة من النعم لينحر تقرباً إلى الله تعالى. والهدي يجب على من أحصر ما لم يشترط، فإذا اشترط الإنسان عند الإحرام فلا يجب عليه إذا أحصر أن يذبح هدياً؛ لأنه ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية -أي: مريضة- فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)، فإذا أراد الإنسان أن يحرم بالحج أو العمرة، ويخشى أنه قد يحبسه حابس من سلطان ظالم أو عدو أو مرض أو غير ذلك من الأعراض، ويريد ألا يكون عليه هدي إذا أحصر؛ فيشترط عند الأحرام بأن يقول مثلاً: لبيك اللهم بعمرة، ومحلي من الأرض حيث تحبسني أي: محلي حيث حبستني. يعني: أنا أحرم لكن بشرط: إن حبست وأحصرت فأنا محل ولست محرماً، وهذا يسمى الاشتراط في الإحرام.

معنى قوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله)

معنى قوله تعالى: (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} يعني: الموضع الذي يحل فيه نحر الهدي، والمقصود به موضع الإحصار، وهذا أقرب إلى يسر الإسلام من أن يقال: إن المحل هو أن يواعد رجلاً في الحرم ليذبحه له في موعد معين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حصره وأصحابه كفار قريش عن الدخول في الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم بالحديبية، ولم يبعثوا بالهدي إلى الحرم. قوله تعالى: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يقول السيوطي: أدوهما بحقوقهما. وهناك أقوال كثيرة في تفسيرها: القول الأول: (الإتمام) المقصود به: الأمر بالأداء كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] يعني: أداهن، ومنه أيضاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]. القول الثاني في تفسير (وأتموا) يعني: إتمامهما بعد الشروع فيهما، فمن أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه، ولا يفسخه. القول الثالث: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وهذا قول علي رضي الله تعالى عنه وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما بسفره، يعني: اجعل سفرة واحدة للحج، وسفرة واحدة للعمرة، وهذا دليل لمن فضل الإفراد على التمتع والقران، فإنهم استدلوا بهذا التفسير فقالوا: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أن تحرم بهما من دويرة أهلك، يعني: تنشئ سفراً مستقلاً لكل نسك، وقالوا: إن التمتع فيه جمع نسكين في سفر واحد، وذهبوا إلى أنه يجب على المتمتع الذبح ليجبر النقص في عبادته؛ لأنه لم يسافر لكل نسك، بل أدى الحج والعمرة في سفرة واحدة، فإنه يؤدي العمرة في أشهر الحج ثم يبقى في مكة متمتعاً حتى يوم التروية، فيهل بالحج، ففي سفرة واحدة أدى العمرة والحج وتمتع ووفر على نفسه مشقة سفر ثان، قالوا: يجب عليه الدم في حالة التمتع حتى يجبر هذا النقص الذي نشأ عن عدم سفرة أخرى، وموضوع المفاضلة بين أنواع الحج بحث طويل، وليس هو مقصود كلامنا الآن. القول الرابع في معنى قوله تعالى: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)): قال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما، لا لتجارة ولا لغير ذلك، يعني: أن تجرد النية لإرادة الحج والعمرة، وهذا لا يعني تحريم التجارة في الحج أو زيارة الأقارب أو صلة رحم أو غير ذلك، لكن قال: إتمامهما أن تكون قاصداً الحج أو العمرة فقط. القول الخامس: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) يعني: أدوهما كاملتين ظاهراً وباطناً. يقول السيوطي: ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)) أدوهما بحقوقهما، (فإن أحصرتم) أي: منعتم عن إتمامهما بعدو (فما استيسر) يعني: ما تيسر (من الهدي) عليكم، يعني: عليكم أن تذبحوا ما تيسر أو تهدوا ما تيسر، وأقل ما يجزئ شيء شاة. {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي: لا تتحللوا حتى يبلغ الهدي المذكور محله، يعني: حيث يحل ذبحه، وهو مكان الإحصار، بدلالة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر في الحديبية نحر في نفس الموضع، فيذبح المحصر في موضع الإحصار بنية التحلل، ويفرق اللحم على مساكين ذلك الموضع، ثم يحلق، وبه يحصل التحلل.

معنى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية)

معنى قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية) قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} أذى كقمل أو صداع أو أي علة مرضية أدت إلى أن يحلق رأسه وهو محرم، ومعروف أن قص الشعر أو حلقه في أثناء الإحرام من محظورات الإحرام، وفي الأثر المعروف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: من ترك شيئاً من نسكه أو نسيه فليهرق دماً. {فَفِدْيَةٌ} يعني: فعليه فدية؛ لأنه حلق {مِنْ صِيَامٍ} يعني: ثلاثة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} ثلاثة آصع من غالب قوت البلد على ستة مساكين {أَوْ نُسُكٍ} أي: ذبح شاة، و (أو) للتخيير، فيختار شيء من هذه الثلاث، وألحق به من حلق لغير عذر؛ لأنه أولى بالكفارة، وكذا من استمتع بغير الحلق كالطيب واللبس والدهن لعذر، فمن تعاطى من هذه الأشياء المحظورة في الإحرام فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك. وقوله تعالى: ((فَمَنْ تَمَتَّعَ)) أي: استمتع ((بِالْعُمْرَةِ)) أي: بسبب فراغه منها تمتع بمحظورات الإحرام، ويكون الإنسان متمتعاً بأن يؤدي عمرة في أشهر الحج، وهي من أول شوال، فمن أدى العمرة يمكث في الحرم ولا يخرج إلى مسافة قصر، واختلف العلماء إذا خرج مسافراً من مكة ثم عاد مُهلاً بالحج، والراجح أنه مفرد لا متمتع؛ لأنه سافر سفرتين للعمرة وللحج، فمن أدى -مثلاً- عمرة في شوال، ثم رجع إلى مصر، ثم أحرم بالحج من مصر وذهب ليؤدي الحج فهل هذا متمتع؟ لا ليس متمتعاً، وبعض العلماء يقولون: إنه لا ينقض تمتعه إلا إذا عاد إلى الميقات الذي أتى منه أو أي ميقات من المواقيت المعروفة أو إذا سافر مسافة قصر، وهذا أقرب الأقوال، وهو مذهب الإمام أحمد، فإذا خرج من مكة دون مسافة السفر وعاد مهلاً بالحج فلا زال متمتعاً. قال الراغب: لا يجب الدم أو بدله في التمتع إلا بأربعة شرائط: الأول: إيقاع العمرة في أشهر الحج، والتحلل منها في أشهر الحج. الثاني: أن يتمم بالحج من سنته، يعني: إذا أدى العمرة، ثم بقي في مكة حتى حج السنة القادمة، فهل هذا متمتع؟ لا، فلابد أن يؤدي العمرة في أشهر الحج. الثالث: ألا يرجع إلى الميقات لإنشاء الحج. الرابع: ألا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لأن أهل مكة ليس لهم تمتع، فلو أن رجلاً يعيش في مكة أدى العمرة في أشهر الحج، ثم أهل بالحج في يوم التروية، فهل هو متمتع؟ لا، فأهل مكة ليس لهم تمتع. وقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} أي: بسبب فراغه من العمرة بمحظورات الإحرام {إِلَى الْحَجِّ} أي: إلى الإحرام به بأن يكون أحرم بها في أشهره ((فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)) وهو شاة يذبحها بعد الإحرام به، ولا بد أن يذبح في يوم النحر؛ لقوله تعالى: ((حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)) والمحل نوعان: محل زماني، ومحل مكاني. المحل المكاني: هو الحرم، سواء في منى أو في مكة، فالحرم كله منحر يذبح فيه. المحل الزماني: هو: يوم النحر، فهذا هو المحل الزماني الذي يحل فيه ذبح الأنعام، أما الذبح قبل ذلك فهذا -والله تعالى أعلم- لا يصح.

معنى قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام)

معنى قوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام) قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي: من لم يجد الهدي، لفقد الهدي أو فقد ثمنها {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} يعني: عليه صيام ثلاثة أيام في الحج. واختلفوا في صيام هذه الأيام الثلاثة، فبعضهم قال: في أشهر الحج، وبعضهم قال: بعد الإحرام بالحج، وأقرب الأقوال -والله تعالى أعلم- أنه يكون السادس والسابع والثامن من ذي الحجة، ولا يكون في التاسع (يوم عرفة) حتى لا يضعف عن الدعاء. وبعض العلماء قالوا: يحرم بالحج، ثم يصوم وهو محرم. وقام الدليل على جواز صيام أيام التشريق الثلاثة التي هي: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهي بعد يوم العيد، وصوم أيام التشريق منهي عنه لغير المحرم الذي لم يجد الهدي. إذاً: يجوز صوم الثلاثة الأيام يوم ستة وسبعة وثمانية من ذي الحجة، ولا يجوز صومها أيام التشريق على أصح قولي الشافعي، قاله السيوطي، وقد تقدم أن هناك دليلاً يدل على جواز صيامها. {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي: إلى وطنكم مكة أو غيرها، وقيل: إذا فرغتم من أعمال الحج، وفيه التفات عن الغيبة {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، هذا تأكيد لما قبله. {ذَلِكَ} أي: الحكم المذكور، وهو الصيام على من تمتع: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني: بأن لم يكونوا على دون مرحلتين من الحرم عند الشافعي، فإن كان فلا دم عليه ولا صيام وإن تمتع. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: فيما يأمركم به وينهاكم عنه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات)

تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] يعني: وقت الحج أشهر معلومات، وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، ومذهب الإمام مالك أن كل ذي الحجة داخل في أشهر الحج؛ لأن أقل الجمع ثلاثة، والآية تقول: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ)) يعني: ثلاثة وليس اثنين. ومن العلماء من قال: لا، فالآية (فمن فرض فيهن) تدل أنه يجوز أن ينوي الإنسان فيها بالحج، وهل يجوز أن يحج إنسان في اليوم العاشر من ذي الحجة؟ لا، فاليوم العاشر هو يوم العيد، فأصح المذاهب في هذا هو قول من قال: أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة؛ لأن اليوم التاسع يجوز بدء الحج منه، فالله يقول: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}، (فيهن): ظرف لفعل الحج، وهذا لا يكون إلا من بداية شوال حتى اليوم التاسع من ذي الحجة. ((فَمَنْ فَرَضَ)) أي: على نفسه، ((فِيهِنَّ الْحَجَّ)) بالإحرام به، {فَلا رَفَثَ} يعني: لا جماع فيه، {وَلا فُسُوقَ} يعني: لا معاصي، {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} يعني: لا خصام في الحج، وفي هذه القراءة: (فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحج)، وفي قراءة: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحج)، والمراد النهي. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة:197]، فيجازيكم به. ونزل في أهل اليمن وكانوا يحجون بلا زاد، فيكونون كلاً على الناس، ويزعمون أنهم متوكلون، ويأكلون من الصدقات {وَتَزَوَّدُوا} يعني: ما يبلغكم لسفركم، {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} قيل: التقوى هنا ما يتقى به سؤال الناس، أي: المال الذي يقيك أن تسأل الناس. {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} يعني: يا ذوي العقول.

تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)

تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم) قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا} [البقرة:198] يعني: في أن تبتغوا، أي: تطلبوا. {فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] بالتجارة في الحج، نزل رداً لكراهتهم ذلك، فبعض الناس كانوا يتحرجون من التجارة في الحج، فنزلت هذه الآية لإباحة ذلك، ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) وهذه الصيغة تفيد الإباحة. {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} أي: دفعتم {مِنْ عَرَفَاتٍ} بعد الوقوف بها، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} بعد المبيت بمزدلفة للتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: المشعر الحرام هو جبل في آخر المزدلفة يقال له: قزح، وأغلب الناس لا يقفون هذه الوقفة، وهذه غير وقفة عرفات، ووقفة عرفات كل الناس يهتمون بها، أما وقفة المزدلفة فيندر من يهتم بها من الحجاج، وهي وقفة تكون بعد صلاة الفجر، فيصلي الحاج الفجر مبكراً جداً بقدر المستطاع ثم يستقبل القبلة، ويظل واقفاً يدعو حتى إذا أسفر جداً -يعني: ينتشر الضوء وتكاد الشمس أن تطلع- يتجه إلى منى لرمي جمرة العقبة الكبرى، فهذه الوقفة من المواضع المباركة في الحج، ولكن أكثر الناس يغفل عنها، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم وقف في المشعر يذكر الله ويدعو حتى أسفر جداً) رواه مسلم. {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} لمعالم دينه ومناسك حجه، والكاف هنا للتعليل، يعني: لأنه هداكم، {وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ} يعني: من قبل هداه، {لَمِنَ الضَّالِّينَ} يعني: عن هذه الشرائع.

معنى قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)

معنى قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ثم أفيضوا يا قريش، وهو عام لجميع من حج ((مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) يعني: من عرفة، بأن تقفوا بها معهم، وكانوا يقفون بالمزدلفة ترفعاً عن الوقوف معهم، و (ثم) للترتيب في الذكر {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:199] يعني: من ذنوبكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] أي: غفور للمؤمنين رحيم بهم. والإفاضة هنا: ليست من المزدلفة، بل من عرفات مع أن سياق الكلام ظاهره أن الإفاضة من المزدلفة، على أن (ثم) للترتيب، فسياق الآيات: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:198 - 199]. فالأصل أن المعنى: أفيضوا من مزدلفة، لكن الأقرب أن (أفيضوا) هنا أي: من عرفات، و (ثم) هنا ليست للتراخي، بل هي للتفاوت بين الإفاضة من عرفات والإفاضة من المزدلفة. فالأمر في قوله: (أفيضوا) إما أنه موجه إلى بعض الناس، أو أنه موجه إلى قريش بالذات؛ لأن قريشاً كانوا يترفعون على الناس ويتكبرون عليهم في الجاهلية، ويقولون: نحن أهل حرم الله، ونحن أولى بالكعبة. فيترفعون عنهم أن يخرجوا مع الناس إلى عرفات اعتداداً بحرمة الحرم، وكانوا يسمون الحمس. يقول القاسمي: في الخطاب وجهان: أحدهما: أنه لقريش، وذلك لما كانوا عليه من الترفع على الناس والتعالي عليهم، وتعظمهم أن يساووهم في الموقف، وكانوا يقولون: نحن أهل الله، وقطان حرمه -أي: سكان حرمه- فلا نخرج منه، فيقفون في المزدلفة وسائر الناس بعرفات، وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي: من عرفات، يعني: أنتم وسائر الناس سواء. إذاً: (ثم) هنا ليست لترتيب الأفعال، ولكن للتفاوت بين الإفاضتين. القول الثاني: أن قوله: ((ثُمَّ أَفِيضُوا)) أمر لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، والمقصود الناس هنا: إبراهيم عليه السلام، باعتبار أن إبراهيم عليه السلام يمثل المجتمع، وهذا على سبيل المدح لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الواحد قد يسمى باسم الجماعة تنبيهاً على أنه يقوم مقامهم في الحكم، يقول الشاعر: وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد وقال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل:120] فأطلق على إبراهيم أمة؛ ولذلك قالوا: إن الناس هنا: ((مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)) إبراهيم عليه السلام، يعني: من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام. فإن قيل: (ثم) تستلزم تراخي الشيء عن نفسه سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء أو الجزاء فقط. ف A أن كلمة (ثم) ليست للتراخي، بل لذكر التفاوت بين الإفاضتين، أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة، واختلاف الحكم بينهما، فأحدهما صواب والأخرى خطأ، فالإفاضة من عرفات صواب، والإفاضة من مزدلفة خطأ على النحو الذي كانت تفعله قريش. قال: التفتازاني: لما كان المقصود من قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} المعنى التعريضي كان المعنى لا تفيضوا من مزدلفة؛ ولكن أفيضوا من عرفة من حيث أفاض الناس، والمقصود من كلمة (ثم): التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب والأخرى خطأ. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} يعني: عما سلف من المعاصي {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وكثيراً ما يأمر الله سبحانه وتعالى في نهاية العبادات بالاستغفار وبذكره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من الصلاة استغفر ربه ثلاثاً.

البقرة [203 - 217]

تفسير سورة البقرة [203 - 217]

تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات)

تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات)

معنى التشريق

معنى التشريق التشريق في اللغة: هو تقديد اللحم، فاللحم يقطع قطعاً صغيرة ويجفف في الشمس، فهذا اللحم يسمى القديد، وتقديد اللحم اسمه عند العرب: التشريق، ومنه قيل: أيام التشريق، فبعض الحجاج يأتون باللحم -لحوم الهدي- فيقطعونها قطعاً صغيرة وينشرونها من أجل أن تجف حتى يأخذوها معهم إذا رجعوا من الحج ويأكلوها، فهذا هو التشريق. وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر، ويوم التروية هو يوم الثامن من ذي الحجة؛ لأنهم كانوا يحملون الماء في القرب حتى يرويهم، يليه يوم التاسع الذي هو يوم عرفة، ويلي يوم عرفة يوم العاشر وهو يوم النحر، أما اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر فهذه أيام التشريق. واليوم الأول من أيام التشريق يسمى: يوم القر -من القرار-، واليوم الثاني يسمى: يوم النفر الأول؛ لأنه يجوز لمن أراد أن يتعجل أن ينفر من منى ثاني يوم، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، واليوم الثالث من أيام التشريق يسمى: يوم النفر الثاني. إذاً: التشريق هو تقديد اللحم، ومنه سميت أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحوم الأضاحي تشرّق فيها أو لأن الهدي لا ينحر حتى تشرق الشمس.

معنى قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)

معنى قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]. قوله: (من تعجل) أي: بالنفر من منى بعد رمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث، واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام فلا يأثم بهذا التعجيل. فيرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة، كل جمرة يرميها بسبع حصيات، ثم من رمى اليوم الثاني، وأراد أن يدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمي يومها فهذا سائغ له، بشرط ألا تغرب عليه الشمس وهو في منى، أي: إذا رمى الجمرات ونوى أن يتعجل لكنه قبل أن يخرج من منى ويغادرها غربت الشمس عليه، فيجب عليه في هذه الحالة أن يبيت، فمن أراد التعجل يجب عليه أن يخرج من منى قبل غروب الشمس. (ومن تأخر) يعني: من أخر الرمي أو بقي في منى حتى رمى في اليوم الثالث (فلا إثم عليه)، أي: في تأخره، والسُّنة هي التأخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة. ولا يقال هذا اللفظ -أي: (فلا إثم عليه) - في حق من أتى بتمام العمل، والأصل أن كلمة (فلا إثم عليه) تقال في حق المقصر، ولا تقال أصلاً في حق من كمّل العمل وأتى بكماله، فقوله: (ومن تأخر فلا إثم عليه) هي مجرد مشاكلة للفظ الأول في قوله: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه)، وإلا فإن الذي يأتي بالعبادة على أكمل وجوهها لا يقال في حقه: (فلا إثم عليه)، ولكن هذا من باب المشاكلة، ولها نظائر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، هل السيئة التي تعاقب أنت فيها بالمثل تسمى سيئة؟ لا، فمثلاً: القصاص أو العقوبة بالمثل هي عدل، وسميت سيئة فقط لمجرد المشاكلة؛ لاشتمالهما في لفظ واحد مشاكلة للفظ الثاني. كذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، (عوقبتم به) هذه يراد بها الإيذاء الذي بدئ به، فهل هذا الابتداء للإيذاء يسمى عقوبة؟ كلا! لا يسمى عقوبة، لكن هذا من باب المشاكلة. كذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، هل مقابلة المعتدي بمثل عدوانه يسمى عدواناً؟ في الحقيقة ليس عدواناً، لكنه عدل، لكن تسميته بالاعتداء من باب المشاكلة اللفظية، ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا عدوان، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى؛ لأن المقصود نفي الاسم عنه، يعني: أنه من حيث المعنى صحيح، فمن تأخر فلا إثم عليه. وقيل: رفع الإثم عن المتعجل والمتأخر على وجه الإباحة، أي: المقصود: فلا إثم في الحالتين، بمعنى: إباحة التعجل وإباحة التأخر. وقيل: رفع الإثم أنه حق ظهورهما بإقامتهما الحج، فعجل أو تأخر، (فلا إثم عليه) يعني: ستغفر له ذنوبه، أو ستحط عنه آثامه بسبب أنه أدى الحج بشرطه. (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى سيغفر له ذنوبه وآثامه. كذلك: (ومن تأخر فلا إثم عليه) أيضاً له نفس هذا الثواب، وعلى ذلك دل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والشرط في ذلك هو التقوى، لذلك قال: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فما دام الأول اتقى الله، والثاني اتقى الله، فحج ولم يرفث ولم يفسق كان جزاءه رفع الآثام عنه وتطهيره منها. (لمن اتقى) أي: أن الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام إنما هو لمن اتقى؛ لأنه هو الذي ينتفع بهذا الحج، فالذي ينتفع بالحج هو الذي يتقي الله تبارك وتعالى، كما في قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:38]، وكذلك قوله تعالى: (هدى للمتقين)، فكذلك هنا قوله: (فلا إثم عليه) إنما يكون هذا (لمن اتقى). (واتقوا الله) أي: في جميع أموركم. (واعلموا أنكم إليه تحشرون) أي: للجزاء على أعمالكم، وهذا تأكيد للأمر بالتقوى، وحث على التشديد في أمرها؛ لأن من تصور أنه لابد له من حشر ومحاسبة ومساءلة، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى تقوى الله عز وجل. والحشر: اسم لما يقع من أحداث ابتداء من خروج الموتى من الأجداث -من القبور- للبعث والنشور إلى انتهاء موقف الحساب ودخول الناس الجنة أو النار، هذا هو ما يطلق عليه اسم: الحشر. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (واذكروا الله): بالتكبير عند رمي الجمرات. (في أيام معدودات): وهي أيام التشريق الثلاثة. (فمن تعجل) أي: استعجل بالنفر من منى. (في يومين) أي: في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار، و (تعجل) أي: بأن يرمي الجمار ثم ينفر. (فلا إثم عليه): لا إثم عليه في التعجيل. (ومن تأخر) أي: بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره، (فلا إثم عليه) يعني: بذلك. والمقصود: أنهم مخيرون في ذلك، ونفي الإثم في قوله: (فلا إثم عليه لمن اتقى) أي: اتقى الله في حجه. (واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) يعني: في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم.

تفسير قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)

تفسير قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا والله لا يحب الفساد)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا والله لا يحب الفساد) يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205]. قوله تعالى: (يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي: يعظم في نفسك حلاوة حديثه وفصاحته في أمر الحياة الدنيا التي هي مبلغ علمه. (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يحلف بالله على الإيمان به، يقول: الله يشهد أن في قلبي الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، الله يشهد أنني صادق في ذلك، الله يشهد أنني مؤمن بالقرآن! فهو يحلف بالله على الإيمان به والمحبة له، وأن الذي في قلبه موافق للسانه؛ لئلا يُتفرس فيه الكفر والعداوة. أو أن معنى: (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، وهذا معنى دقيق ينبغي التنبه له. فحظك أنت منه الكلام المعذور والإقرار بالإيمان والتصديق، فهو يخبئ في قلبه ما الله مطلع عليه، وحظ الله منه أنه مطلع على ما في قلبه، فيجعل الله يرى في قلبه النفاق، وحظك أنت التصديق باللسان! يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (ويشهد الله على ما في قلبه) أي: يحلف بالله على الإيمان به والمحبة له، وأن الذي في قلبه موافق للسانه؛ لئلا يُتفرس فيهم الكفر والعداوة. أو معناه: يظهر لك الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، على نحو ما وصف به أهل النفاق، كما وصف الله أهل النفاق بقوله حاكياً عنهم حين قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]، كقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء:108]. وقوله عز وجل: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] أي: شديد الخصومة والجدل بالباطل. ثم يقول تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. (وإذا تولى) أي: إذا انصرف عمن خدعه بكلامه، سواء الرسول عليه السلام أو غيره، وانصرف من أمام هذا الذي قال له هذا الكلام المعقول، وأشهده على ما في قلبه من الإيمان والتصديق كاذباً. (سعى) أي: مشى. (سعى في الأرض ليفسد فيها): ليدخل الشُّبه في قلوب المسلمين، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر، وهذا المعنى يسمى: فساداً، وهو إثارة الشبهات والتشويش على الناس بإيمانهم. كذلك أيضاً: استخراج الحيل والأساليب التي بها يقوي الكفار على المسلمين فهذا فساد، كقول الله عز وجل حاكياً عن الملأ من قوم فرعون قولهم: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف:127] أي: يردوا قومك عن دينهم ويفسدوا عليهم عقيدتهم. إذا حصل هذا التشويش والتشكيك بإثارة الشبهات في الدين وفي العقيدة وفي غير ذلك من أمور الدين، فيحصل بذلك أن الناس ينقسمون ويختلفون، وبالتالي تتفرق كلمتهم، ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض، فتنقطع الأرحام، وتسفك الدماء، وبيان هذا كثير في القرآن المجيد. (ويهلك الحرث) أي: الزرع، (والنسل) أي: النواسل الناتجة. قال بعض المحققين: إن إهلاك الحرث والنسل كناية عن الإيذاء الشديد، والتعبير به عن ذلك صار من قبيل المثل. أي: إذا أردت أن تعبر عن شخص تمادى في الإفساد فإنك تذكر أن هذا قد أدى إلى إهلاك الحرث والنسل. (والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى فعله. فكل فساد يبغضه الله سبحانه وتعالى ولا يرضى عنه، ولذلك نقول: إنه لا ينبغي أن يسمح بوجود الفساد حتى في الكفار، وبعض الناس يقول: عندي جهاز خبيث مثلاً كالدش أو هذه الأجهزة المعروفة بالفجور، فهل أعطيها لرجل نصراني؛ لأني أريد أن أتوب، فلو أعطيتها لمسلم فسيفسد أهله وأولاده؟! ف A إن الله سبحانه وتعالى لا يحب الفساد سواء أتى من مسلم أو أتى من كافر، وتقليل الفساد ما أمكن هو أمر يحبه الله عز وجل، سواء كان المفسد مسلماً أو كافراً. وأنت تلاحظ في أوائل الآيات في سورة البقرة حينما حكى الله سبحانه وتعالى صفات هؤلاء المنافقين، بدأ أولاً بنهيهم عن الفساد، ثم ثنى بأمرهم بالإيمان، فدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة على التفصيل الذي نذكره في مناسبات أخرى، فالله سبحانه وتعالى قبل أن يأمرهم بالإيمان قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:11 - 12]، ثم قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13]. إذاً: (والله لا يحب الفساد) عامة، فكل فساد لا يحبه الله سبحانه وتعالى، سواء كان الذي قام به مسلماً أم مشركاً.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]. (إذا قيل له) أي: تذكيراً وموعظة له، (اتق الله) يعني: في النفاق، واحذر سوء عاقبته، أو (إذا قيل له اتق الله) أي: في هذا الإفساد الذي تفسده في الأرض، وهذا الإهلاك، وهذا الجدال بالباطل. (أخذته العزة بالإثم) أي: حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم وهو: التكبر. فيقول مثلاً: نحن في حضارة منذ سبعة آلاف سنة، ولا يمكن أن يعقب طارئ يغيرنا عن عقيدتنا! فقوله تبارك وتعالى: (أخذته العزة) أي: يتكبر عن الانقياد للحق، تحمله الأنفة وحمية الجاهلية، يحمى ويحمر أنفه، أي: بحمية الجاهلية على الفعل بالإثم، وتدفعه هذه الحمية إلى إثم التكبر وعدم الانقياد للحق. أو المعنى، (أخذته العزة بالإثم) أي: أخذته الحمية للإثم الذي في قلبه فمنعته عن قبول الناصح. (فحسبه جهنم) أي: فتكفيه جهنم إذا صار إليها واستقر فيها جزاءً وفاقاً. (ولبئس المهاد) أي: الفراش الذي يستقر عليه بدل فراش عزته، والمهاد والمهد معروف، وكل شيء وطيء يطلق عليه: ممهد، كطريق ممهد، والمهاد يجعل تارة جمعاً وتارة يجعل الآلة، (مهاد) جمع مهد، أو (مهاد) الآلة التي هي الفراش. وجعل جهنم مهاد الظالم كما جعل العذاب مبشراً به في قوله تبارك وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]، فكلمة التبشير أو البشارة أو البشرى مأخوذ من البشرة؛ لأن الإنسان إذا سمع الخبر الحسن الطيب يظهر على بشرته السرور والانشراح، فلذلك سميت البشرى لأثرها على البشرة وعلى الجلد والملامح. كذلك في هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى يتهكم بهم ويقول: (فبشرهم) وهم إذا سمعوا كلمة تبشرهم ينشرحون، فإذا صدموا بكلمة: (بعذاب أليم) يكون أمعن وأوغل في معاقبتهم وتوبيخهم والتنكيل بهم. فكذلك هنا قال تبارك وتعالى: (ولبئس المهاد)، والمهاد: هو المكان الذي ينام عليه الإنسان أو يستريح أو يفترشه، فمهادهم هو جهنم، فهذا من نفس الباب. وقال الحاكم عبارة ينبغي حفظها والاهتمام بها جداً وهي قوله: هذه الآية تدل على أن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله فيقول: عليك نفسك. وهذا حال أغلب الناس، وبعضهم إذا قلت له: اتق الله، يقول لك: أنا أتقي الله أحسن منك! أو يقول: عليك بنفسك، أو: هذا لا يخصك. إلى غير ذلك من العبارات الغليظة. فمن صور أخذ العزة بالإثم عند المنصوح أنه إذا قيل له: اتق الله، يقول: عليك نفسك. فالإنسان إذا قيل له: اتق الله. عليه أن يحمر وجهه ويصفر وتنتابه الرعدة والخوف والوجل والخشية من هذا التحذير، لا أن يتكبر على من يقول له: اتق الله، فقد قيلت لأشرف خلق الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، بل جعلها الله وصية لجميع الأمم الأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية من الأعمال الصالحة. قال الزمخشري: ومنه: رد قول الواعظ. فهو يدخل في هذا الإثم العظيم. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحج:72]. ولما أتم تعالى الإخبار عن هذا الفريق من الناس الضال أتبعه بقسيمه المهتدي، ليبعث العباد على تجنب صفات الفريق الأول والتخلق بنعوت الثاني، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى في الآية السابقة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] أي: ولا يعجبك في الآخرة لمخالفته لاعتقاده. إذا تكلم في الدنيا فيحسن الكلام ويعجبك كلامه جداً في الدنيا، كما يتكلم كثير من الناس في السياسة في الرياضة في الفن في أسماء الممثلين أو أسماء اللاعبين، تجده موسوعة في هذه الأمور الدنيوية، وإذا سمعت له في الآلات والأجهزة وكافة عروض الدنيا فتسمع منه ما يعجبك فقط في الدنيا ولو كانت حراماً، بخلاف الآخرة، فإذا أتى أمر الآخرة فكالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون شيئاً من أمور الآخرة مع أنها خير وأبقى، وهذا هو مفهوم هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204]، إذا تكلم في الآخرة لا يعجبك، إما لأنه معرض عن الآخرة، وإما لفساد اعتقاده في الآخرة، كأن يكون عابداً للمسيح، أو يكون عابداً للأوثان أو غير ذلك من العقائد الفاسدة في الآخرة. (وهو ألد الخصام) أي: شديد الخصومة لك ولأتباعك بعداوته لك، وهو الأخنس بن شريق كان منافقاً حلو الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، يحلف أنه مؤمن به ومحب له، فيدنو من مجلسه، فأكذبه الله في ذلك، ومر بزرع وحمر -أي: حمير لبعض المسلمين- فأحرقه وعقرها ليلاً، كما قال تعالى: (وإذا تولى) أي: إذا انصرف عنك، (سعى) أي: مشى، (في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) وهذا من جملة الفساد. (والله لا يحب الفساد) أي: لا يرضى به. (وإذا قيل له اتق الله) أي: في فعله. (أخذته العزة) أي: حملته الأنفة والحمية على العمل بالإثم الذي أمر باتقائه. (فحسبه جهنم) أي: كافيه جهنم. (ولبئس المهاد) أي: لبئس الفراش هي.

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)

تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. قوله: (يشري) أي: يبيع نفسه بأن يبذلها في طاعة الله عز وجل. (ابتغاء مرضاة الله) أي: طلب رضا الله عز وجل. (والله رءوف بالعباد) حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة مع كفرهم به وتقصيرهم في أمره، وهذا يتعلق برحمة العباد في الدنيا وهي عامة للمؤمن والكافر. تنبيه مهم: قال بعض العلماء: كان مقتضى المقابلة للفريق الأول أن يوصف هذا الفريق بالعمل الصالح، مع عدم الدعوى والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله، وموافقة لسانه لما في جنانه. فالآية: (ومن الناس من يشري نفسه) تتضمن عكس الصفات السابقة كلها، وإن لم تنص عليها صراحة، فإن من يبيع نفسه لله، ويجود بها، فهذا يدل على أقصى غاية الجود، فالجود بالنفس يدل على أقصى وأعلى درجات الإيمان واليقين التي تستلزم ما عداها وما دونها من صفات الإيمان، فإن من يبيع نفسه لله لا يريد ثمناً لها غير مرضاته، فلا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق والإخلاص في القلب، فلا يتكلم بلسانين، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يؤثر على ما عند الله عرض الحياة الدنيا، وهذا هو المؤمن الذي يعتز بالقرآن وبإيمانه. فهذه تتضمن الصفات المقابلة لصفات الفريق الأول، إلى أن يأتي في الدلالة على اتصاف المؤمن بهذه الصفات قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)، إذ بلغ اجتهاده في إرضاء الله إلى حد أنه حمل روحه على كفيه وجاد بها إرضاء لله، فهل مثل هذا يكون ذا وجهين؟! وهل مثل هذا يتكلم بلسانين؟! وهل مثل هذا يرتضي عرض الدنيا بدلاً عن الآخرة؟! إذاً: هذا الوصف يتضمن كل الصفات المقابلة لصفات الفريق الأول. وقد أخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وأخرج ما في كنانته - أي: أخرج السهام من الكنانة- ثم قال: يا معشر قريش! لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً، وايم الله! لا تصلون إلي حتى أرمي كل سهم معي في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم -ثم بعد هذا الإرهاب لهم يقول-: وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فالباطل أمام المال يسيل لعابه، نسوا أنهم خرجوا يطاردون هذا المهاجر إلى الله سبحانه وتعالى وإلى رسوله، فبعدما أرهبهم بهذه الطريقة أغراهم بالمال فخضعوا أمام المال وسال لعابهم، فنسوا ما عندهم من العقائد الباطلة التي خرجوا يقاتلونه من أجلها، فلما قال لهم: وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي؟ قالوا: نعم، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى!) ونزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. وهناك قول لبعض العلماء وهو: أن هذه الآية نزلت في قصة قريش، فإذا صحت فلا يعني ذلك أنها بالفعل نزلت في هذا الحديث بالذات، وإنما يعني أنها تصدق على هذه الواقعة، فإن من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في وجودها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع في أسباب النزول التي يدخلها قدر من الاجتهاد، لكن لا يعول في أسباب النزول إلا على ما صح منه، وارتفع عن درجة الضعف. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه) أي: يبيع نفسه. والبيع قد يطلق على الشراء، والشراء يطلق على البيع، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، (البيعان) يعني: البائع والمشتري، فهو يطلق على البائع والمشتري. (ومن الناس من يشري) أي: يبيع نفسه ويبذلها في طاعة الله. (ابتغاء) أي: طلب. (مرضاة الله) أي: رضاه، وهو صهيب لما آذاه المشركون هاجر إلى المدينة وترك لهم ماله. (والله رءوف بالعباد): حيث أرشدهم لما فيه رضاه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208]. (السلم): بكسر السين وفتحها -إما السِّلم أو السَّلم- وكلاهما قراءة متواترة في السبع، والمقصود به الإسلام. قال امرؤ القيس بن عابس: فلست مبدلاً بالله رباً ولا مستبدلاً بالسلم دينا يعني: بالإسلام، ومنه قول أخي كندة: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا يعني: للإسلام. قال الرازي: أصل هذه الكلمة من الانقياد، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: انقدت وخضعت، والإسلام إنما سمي إسلاماً لهذا المعنى؛ لأن معنى الإسلام يعني: الخضوع والانقياد لأمر الله تبارك وتعالى. وغلب اسم السَّلم على الصلح وترك الحرب، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61]، وهذا -أيضاً- راجع إلى هذا المعنى؛ لأن المتخاصمين إذا رضوا بالصلح فكل طرف ينقاد للطرف الثاني ولا ينازعه، فهي من نفس هذا المعنى. ومعنى الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: ادخلوا في الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا لله وأطيعوه، ولا تخرجوا عن شيء من شرائعه كافة. فهذا أمر بالالتزام بكل أحكام الإسلام، وكل شريعة نزل بها القرآن أو جاء بها المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ يجب عليكم أن تطيعوها وتنقادوا لها، وتستسلموا لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون أن تقولوا: هذا ظاهر وهذا باطن، وهذا قشر وهذا لب، وهذه أمور مهمة وهذه سفاسف، كما يقول بعض الجهلة، فإنه لا يجوز أبداً أن يطلق هذا على شيء تناوله النبي صلى الله عليه وسلم بأمر أو بنهي ودخل من العادة إلى العبادة بهذا الأمر أو النهي، لا يمكن أن يكون هذا من السفاسف، والسفاسف هي أمور الدنيا، أما شيء من أمور الدين فلا يجوز أبداً أن يطلق عليه سفاسف، صحيح هناك أصول وهناك فروع، وهناك مهم وهناك ما هو أهم منه، لكن لا يوصف أبداً أي حكم شرعي ثابت بالقرآن أو بالسنة بأنه سفاسف كما يقول بعض الجهلة من أفراخ هذا الزمان، ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها)، وسفاسف الأمور: هي أمور الدنيا لحقارتها، أما أمور الدين فكلها معالي. نعم؛ هناك مراتب وهناك أصول وهناك فروع، وهناك ما هو أهم، وهناك ما هو مهم، فيراعى فعلاً مراتب الأعمال بالذات عند تناقضها أو اصطدامها، ويرجح الأهم، لكن لا يوصف شيء من أمر الدين أبداً بأنه قشور، وأننا ينبغي أن نهتم باللب؛ لأن الذي تراه أنت لباً يراه غيرك قشراً، فتصبح الأمور فوضى، فهذه الآية من أعظم ما يستدل به على إبطال هذه البدعة والضلالة، وهي تقسيم الدين إلى قشور ولباب، أو إلى مظاهر وجواهر. ثم يتبع ذلك التقسيم المناداة بإهمال هذه القشور، والتمسك باللباب والروح! فبعضهم يقول لك: كن مع روح النص! فكأنه يقول: علينا أن نستمسك بروح النصوص لا بحرفيتها! وهم يريدون أن يهلكوا روح النصوص لا أن يتبعوا أرواح النصوص. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: التزموا بجميع شرائع الإسلام، وأنت -أيها المسلم- ادفع بهذه الآية في نحر كل من يعاندك أو يعارضك، إذا نصحته بقول الله أو بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورددت على قوله بأن هذه سفاسف أو أنها أمور تافهة، أو أنها قشور، فقل له: يقول الله عز وجل: (ادخلوا في السلم كافة) يعني: التزموا بكل وجميع شرائع الإسلام دون استثناء. {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208] أي: طرقه التي يأمركم بها. وقد جاء التعبير بخطوات الشيطان؛ لأن الشيطان خبير في استدراج الإنسان إلى المحرمات، فلا يأمره مباشرة أن يرتكب الفاحشة، لكن يسهل الأمر، يسهل له النظر في البداية، وربما زين له هذا بقوله: تأمل في خلق الله وإبداع الله في خلقه، كما يزيغ بذلك بعض زنادقة العصر فيقول: إن غض البصر لابد أن نفهمه فهماً عصرياً، أنت تنظر للمحرمات مثلاً من النساء المتبرجات أو غير ذلك وقلبك سليم، بنية التأمل في إبداع خلق الله وغير ذلك من الكلام! فهذا من خطوات الشيطان حيث يستدرج الإنسان خطوة خطوة. كذلك أيضاً: الفسق والفجور يسمونه فناً، وأن الموضوع بعيد جداً عن هذا التفكير الحيواني الذي تتهموننا به يا معشر المتدينين!! وهم أشد الناس فساداً وغرقاً فيما حرم الله سبحانه وتعالى. إذاً: الشيطان يضل الإنسان عن طريق خطوات يتم فيها استدراج الإنسان خطوة خطوة، فلو أتى بك من أعلى السلم وقال لك: ارمِ نفسك! فستقول: لا، سأهلك! لكنه يأخذك خطوة خطوة، درجة درجة، وهذه حيلته: نظرة فابتسامة فكلام فسلام فموعد فلقاء! والله أعلم ما يكون من البلاء بعد ذلك! فهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى أنه يقول: (خطوات الشيطان)، عندما يستدرجك إلى الحرام. وضمّ الطاء من (خُطُوات) وإسكانها لغة، أي: في اللغة يمكن أن تكون: (خُطُوات) أو (خُطْوات)، وقد قرئ بهما في القراءات السبع. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] أي: ظاهر العداوة أو مظهر لها. كما أخبرناكم عن قصته مع أبيكم آدم عليه السلام وغيره مما شواهده ظاهرة. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) (السلم) بفتح السين وكسرها يعني: الإسلام. (كافة) حال من السلم أي: في جميع شرائعه. (ولا تتبعوا خطوات) أي: طرق (الشيطان) أي: تزيينه بالتفريق بين أمور الدين. (إنه لكم عدو مبين) أي: بيّن العداوة.

تفسير قوله تعالى: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات)

تفسير قوله تعالى: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) يقول تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209]. (إن زللتم) يعني: عن الدخول في السلم. (من بعد ما جاءتكم البينات) أي: الآيات الظاهرة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق (فاعلموا أن الله عزيز حكيم). يقول السيوطي: (فإن زللتم) أي: مِلْتم عن الدخول في جميعه. (من بعد ما جاءتكم البينات) أي: الحجج الظاهرة على أنه حق. (فاعلموا أن الله عزيز) لا يعجزه شيء عن انتقامه منكم. (حكيم) أي: في صنعه.

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) يقول تبارك وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]. (هل ينظرون) يعني: هل ينتظرون، وكلمة: (نظر) تماماً ككلمة: (انتظر) يقال: نظرت وانتظرت إذا ارتقبت حضوره، وهذا استفهام إنكاري في معنى النفي، (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) يعني: لا ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة بعد طول الحلم عنهم (إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام). ظلل: جمع ظلة، كقُلل جمع قلة، أي: في ظلة داخل ظلة، وهي ما يستر من الشمس، كما يقال: الشمسية لكل ما يسترك من الشمس، فهي عبارة عن طبقات بعضها داخل بعض، فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة؛ لما لها من الكثافة التي تحجب على الرائي ما فيها، وتجعله لا يرى ما فيها من شدة كثافتها. {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] عطف على لفظ الجلالة أي: ويأتي جند الله من الملائكة الذي لا يعلم كثرتهم إلا هو، وهذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة أبي جعفر بالخفض يعني: (والملائكة) فهو عطف على ظلل أو الغمام. (وقضي الأمر) أي: أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه. قال الراغب: نبه به على أنه لا يمكن في الآخرة تلاقي ما فرط منهم في الدنيا. (وإلى الله ترجع الأمور) أي: فمن كانوا نافذي الملك والتصرف في الدنيا فإن ملكهم وتصرفهم مسترد منهم يوم القيامة، وراجع إليه تعالى؛ لأن الله مالك يوم الدين، يقول يوم القيامة: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16]، فلا يجيبه أحد سبحانه وتعالى، فيجيب نفسه عز وجل قائلاً: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، فكذلك هؤلاء الذين كانوا نافذي الملك، وكان لهم قدرة على التصرف والرياسة والملك والحكم والتحكم في الناس؛ فكل هذا راجع إلى الله تعالى يوم القيامة. (وإلى الله ترجع الأمور) يقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي: استرد ما كان فوضه إليهم، فلو أن ملكاً مثلاً خرج من بلاده واستناب مثلاً ولي العهد، فبعد أن يقضي الزيارة ويرجع يقال: رجع الأمر إلى الأمير أو رجع الأمر إلى الملك، بمعنى أنه أخذ ما كان قد وكله فيه، أو فوضه فيه، فبنفس هذا المعنى يكون قوله: (وإلى الله ترجع الأمور) ولله المثل الأعلى سبحانه. وقيل: (الأمور) هي الأرواح والأنفس دون الأجسام، وهذا تفسير آخر، وسماها أموراً من حيث أنها إبداعات مشار إليها بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فكأن معنى (الأمور) على التفسير الثاني: الأرواح كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]. وقد قرئ في السبع: (تُرجعُ الأمور) بمعنى: تُرد، وبفتحها: (تَرجِعُ الأمور) بمعنى: تصير، كقوله تعالى: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:53]، والمعنى في القراءتين متقارب؛ لأنها ترجع إليه تعالى، وهو سبحانه يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة.

بيان خطأ السيوطي في تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله)

بيان خطأ السيوطي في تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) يقول السيوطي رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: (هل ينظرون) أي: ما ينتظر التاركون الدخول فيه، (إلا أن يأتيهم الله) يعني: إلا أن يأتيهم أمر الله، كقوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل:33] أي: عذابه. اهـ. وفي مثل هذه المواضع في التفسير لا يجوز الاعتماد على كلام الجلالين، أي: في مواضع التأويل المخالف لمنهج السلف، وهذا من المواضع التي خالف فيها السيوطي منهج السلف، ولابد من الاعتماد في مثل هذه المواضع على منهج السلف، فلا نقول مثلاً: (والله يحب المتقين) أي: يثيبهم! أو {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، أي: يثيبهم! بل هذه صفة من صفات الله لا يجوز تأويلها وتعطيلها. كذلك قوله هنا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] هذه الآية لها أسباب تدل على أن هذا الوعيد أخروي، ولذلك قال ابن كثير في معنى هذه الآية: يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] يعني: يوم القيامة؛ لفصل القضاء بين الأولين والآخرين، فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. ولهذا قال تعالى: (وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور) كما قال تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 - 23]، وقال عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، فوصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالإتيان في ظلل من الغمام كوصفه بالمجيء في آيات أخر، ونحوهما مما وصف به نفسه في كتابه أو صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم. والقول في الصفات كالقول في الذات، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فمن قال: كيف يجيء الله سبحانه وتعالى؟ فيقال له: كيف ذاته؟ فسيقول: لا أعلم كيفية ذاته، فيقال له: وكذلك لا نعلم كيفية صفاته؛ فالكلام على الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلأنك تثبت ذاتاً لا كذوات المخلوقين، كذلك تثبت صفات لا كصفات المخلوقين، فالسلف يقولون: نحن نجري هذه الصفات على ظاهرها، ويعنون أن ظاهرها هو ما يليق بالله سبحانه وتعالى، والظاهر لائق بالله سبحانه وتعالى، يعني: إذا سمعت صفة من صفات الله كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، أو: {يَدُ اللَّهِ} [المائدة:64] أو غير ذلك من الصفات، مثل: أن الله يحب أو يفرح أو يعجب، أو غير ذلك من الصفات، فظاهرها هو كما يليق به سبحانه وتعالى، وليس ظاهرها مشابهة المخلوقين، فمن قال كما قال السلف: ظاهرها على ما يليق بالله، فبالتالي لن يحتاج لها إلى تأويل ولا إلى تعطيل، ولا إلى غير ذلك من المسالك الضالة. ومن العلماء من فهم أن ظاهرها هو مشابهة المخلوقين، فاحتاج إلى أن ينفي الصفة ليحترز من ذلك فقال: الظاهر غير مراد، ومعنى القول بأن الظاهر غير مراد، أي: إذا قال: (استوى على العرش) يكون ظاهر الكلام غير مقصود؛ لأن ظاهره يقتضي التشبيه، وهو مشابهة المخلوقين كما يزعمون. وهذا المسلك يترتب عليه كثير من المخاطر، وأول شيء أنه لما سمع صفات الله لم يقل: هي كما يليق بالله سبحانه وتعالى، وإنما قال: كالمخلوقين، فانصرف ذهنه إلى التشبيه، فأراد الهروب من هذا التشبيه فوقع في حفرة أخرى وهي حفرة التعطيل، فعطل الصفة وأنكرها، فبالتالي يكون قد حرف الكلام؛ لأنه نفى عن الله ما وصف به نفسه. أما منهج السلف ففيه السلامة من هذا؛ لأنك لا تقع في التشبيه، بل أنت تقول: ظاهرها هو كما يليق بالله سبحانه وتعالى، وتؤكد ذلك بقولك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فكما أننا لا نعلم كيفية ذات الله، كذلك لا نعلم كيفية صفاته، وقد مر الكلام في هذا مرات كثيرة. ومجيء الملائكة في ظلل من الغمام أمر مألوف، فقد جاء في الصحيح عن البراء رضي الله عنه قال: (كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بخطمين، فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن). وعن أسيد بن حضير قال: (بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس -يعني: هاجت وتحركت ومالت- فسكت عن القراءة فسكنت، فقرأ فجالت، فسكت فسكنت، ثم قرأ فجالت، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره رفع رأسه إلى السماء حتى لا يراها حتى اختفت، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: اقرأ يا ابن حضير -المقصود: يا ليتك لم تتوقف عن القراءة- قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً، فانصرفت إليه، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم). يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (هل ينظرون) يعني: ما ينتظر التاركون الدخول فيه (إلا أن يأتيهم الله): أمره، كقوله: (أو يأتي أمر ربك) أي: عذابه. واللفظ أنه يأتي الله، فكيف يصح هذا التأويل وفيه نفي لصفة الإتيان؟! أما المنهج السلفي فسيثبت ما وصف الله به نفسه كما يليق به سبحانه. (في ظلل): جمع ظلة (من الغمام) أي: السحاب (والملائكة وقضي الأمر) يعني: تم أمر هلاكهم (وإلى الله تُرجَع الأمور) وفي قراءة أخرى: (تَرجِع الأمور) يعني: سيجازي كلاً بعمله في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة)

تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) يقول تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة:211] أي: (سل) يا محمد! (بني إسرائيل)، وهذا تبكيت لهم وإلزام لهم بالحجة، (كم آتيناهم) (كم) استفهامية، وهي معلَّقة بـ (سل) عن المفعول الثاني، فـ (كم) ثاني مفعولي لـ (آتينا)، ومميزها قوله: (من آية بينة) أي: ظاهرة كفلق البحر، وإنزال المن والسلوى؛ فبدلوها كفراً. ولذلك قال تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:211] أي: يبدل ما أنعم الله به عليه من الآيات؛ لأنها سبب الهداية (من بعد ما جاءته) أي: يبدلها كفراً بدل أن يتعظ بها ويستدل بها على الإيمان والتوحيد والرسالة. (من بعد ما جاءته): كفراً. (فإن الله شديد العقاب) ولذلك قال تعالى في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28]. يقول البقاعي: لما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام، لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر، وفي جبل الطور، وقبة الزمان، وما في ذلك على ما نقل إليهم من وفور الهيئة وتعاظم الجلال؛ قال تعالى جواباً لمن قال: كيف يكون هذا؟ وهو إشارة إلى إتيان الله سبحانه وتعالى والملائكة في ظلل من الغمام، فجاء الجواب مباشرة: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:211]، فإن بني إسرائيل عندهم علم من هذا، وهذا موجود ومكتوب في كتبهم، وهو مجيء الله سبحانه وتعالى في ظلل من الغمام والملائكة.

تفسير قوله تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) قال عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة:212]، الذين كفروا: سواء من أهل مكة أو غيرها (الحياة الدنيا) أي: لزخارفها الظاهرة بالتمويه، فأحبوها لهذه الزينة الظاهرة. (ويسخرون من الذين آمنوا) أي: وهم يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم كـ بلال وعمار وصهيب، فيستهزئون بهم ويتعالون عليهم بالمال. يقول الحرابي: ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر بالله، واستحباب زينة الدنيا نوع من أنواع الكفر؛ لقوله قبل ذلك قال: (ومن يبدل نعمة الله) يعني: كفراً (من بعد ما جاءته)، ثم قال هنا: (زين للذين كفروا) فالافتتان بزينة الدنيا من خصال الكفار، حيث أن نظر العقل والإيمان يبصر غايتها، ويشهد جيفتها، فلا يغتر بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق. (ويسخرون من الذين آمنوا) يهزءون منهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، إلى آخر الآيات. ثم يقول تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212] (الذين اتقوا): وهم المؤمنون، وإنما ذكروا بعنوان التقوى؛ لحضهم عليها، وإيذاناً بترقب الحكم عليه، فلم يقل: والذين آمنوا، لكن قال: (الذين اتقوا) حتى يلفت نظر المؤمنين إلى أنهم إنما نالوا ذلك بصفة التقوى. (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) يقول: (والذين اتقوا) الشرك، وهم هؤلاء الفقراء. (فوقهم يوم القيامة) أي: أنهم في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين، أو: لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]، وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:22 - 23]، فالمهم أن المؤمنين يضحكون أخيراً، ولذلك قال بعض العلماء: يحتمل قوله تعالى: {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212] وجهين: الأول: أن حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا. الثاني: أن المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، والكفار في الدرك الأسفل من النار. ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، والمقصود: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40]، فإن كل ما دخل تحت الحساب والحق والتقدير فهو مُتناهٍ، وما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب، فهو ثواب إلى ما لا نهاية؛ لأنه إذا دخل في الحساب صار محصوراً معدوداً، أما إذا كان بغير حساب فلا نهاية له ولا حصر.

تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة)

تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) يقول تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال السيوطي: أي: على الإيمان، فاختلفوا بأن ثبت بعضهم على الإيمان وكفر البعض الآخر، وكلمة: (فاختلفوا) ليست من كيس السيوطي، بل هي من فقهه، حيث إنه قدر الكلام: (كان الناس أمة واحدة) فاختلفوا (فبعث الله النبيين)؛ لأنه لو لم نقدر كلمة (فاختلفوا) قبل بعثة الأنبياء فكأن الآية تعني أن الأنبياء بعثوا كي يفرقوا الناس بعد أن كانوا متوحدين! وهذا مستحيل. إذاً: معنى الآية: (كان الناس أمة واحدة) فاختلفوا، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]. والدليل على صحة تقدير هذه الكلمة موجود في الآية نفسها، في قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} [البقرة:213] إلى آخر الآية. (فبعث الله النبيين) يعني: إليهم. (مبشرين) يعني: من آمن بالجنة. (ومنذرين) يعني: من كفر بالنار. (وأنزل معهم الكتاب): (الكتاب) هنا اسم جنس بمعنى: الكتب. (بالحق) يعني: أنزله بالحق. (ليحكم بين الناس) يعني: يحكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه، أي: من الدين. (وما اختلف فيه) أي: في الدين. (إلا الذين أوتوه) يعني: الكتاب، فآمن بعض وكفر بعض. (من بعد ما جاءتهم البينات) يعني: الحجج الظاهرة على التوحيد. (بغياً) من الكافرين (بينهم). (فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق) (من) هنا للبيان وليست للتبعيض؛ لأن كل ما أنزل في الكتاب هو حق. (بإذنه) أي: بإرادته. (والله يهدي من يشاء) أي: هدايته. (إلى صراط مستقيم) وهو طريق الحق.

تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة)

تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214]. أنزلت هذه الآيات لما أصاب المسلمين الجهد والمشقة يوم الأحزاب، حيث أصاب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاء شديد بعد حصار المدينة، فقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} [البقرة:214] يعني: بل حسبتم. {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا} [البقرة:214] و (لما) تنفي إلى وقت التكلم، أي: ولما {يَأْتِكُمْ مَثَلُ} [البقرة:214] أي: شبه ما أتى الذين خلوا من قبلكم من المؤمنين والمحسنين، فتصبروا كما صبروا. وكأن سائلاً يقول: ما مثل الذين خلوا من قبلهم؟ ما الذي حصل لهم؟ فأتى A { مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [البقرة:214] أي: شدة الفقر. {وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214] أي: المرض. {وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214] أي: أزعجوا بأنواع البلاء. {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة:214]، بالنصب أو الرفع (حتى يقولَ) أو (حتى يقولُ). {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:214]، استبطاءً للنصر؛ لتناهي الشدة عليهم. {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] أي: متى يأتي نصر الله الذي وعدَنَاه؟ فأجيبوا من قبل الله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] أي: قريب إتيانه.

تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون)

تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون) قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215] أي: الذي ينفقونه، والسائل هو: عمرو بن الجموح وكان شيخاً ذا مال، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما ينفق وعلى من ينفق. (قل) يعني: قل لهم: {مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215]، بيان شامل للقليل والكثير، وفيه بيان الشيء المنفق، الذي هو أحد شِقّي السؤال، وأجاب عن المصرف الذي هو الشق الآخر بقوله: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215]، وكلمة: (من خير) تطلق على المال {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة:215] أي: هؤلاء أولى بهذا الجانب. {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215] يعني: إنفاق أو غيره. {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، فيجازي عليه.

تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)

تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) قال عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] يعني: فرض عليكم القتال للكفار. {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] يعني: مكروه لكم طبعاً لمشقته. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216]، لميل النفس إلى الشهوات الموجبة لهلاكها ونفورها عن التكليفات الموجبة لسعادتها، فلعل لكم في القتال -وإن كرهتموه- خيراً؛ لأن فيه إما الظفر والغنيمة أو الشهادة والأجر، وفي تركه -وإن أحببتموه- شراً؛ لأن فيه الذل والفقر وحرمان الأجر. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [البقرة:216] يعني: ما هو خير لكم. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] يعني: ذلك، فبادروا إلى ما يأمركم به.

وقفة عند قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)

وقفة عند قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] هذا في قتال المتعرضين لقتال المسلمين، كما قال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]. والمراد بقتالهم: جهادهم بما يبيدهم أو يقهرهم ويخذلهم ويضعف قوتهم. قال بعض الحكماء: سيف الجهاد والقتال هو آية العز -أي: علامة العز-، وبه مُصّرت الأمصار، ومُدّنت المدن، وانتشرت المبادئ والمذاهب، وحفظت الشرائع والقوانين، وبه حمي الإسلام من أن تعبث به أيدي العابثين في الغابر، وهو الذي يحميه من طمع الطامعين في الحاضر، وبه امتدت سيطرة الإسلام إلى ما وراء جبال الأورال شمالاً، وخط الاستواء جنوباً، وجدران الصين شرقاً، وجبال البرانس غرباً، فيجب على المسلمين ألا يتملصوا من قول بعض الأوروبيين: إن الدين الإسلامي قد انتشر بالسيف، فإن هذا القول لا يضر جوهر الدين شيئاً، فإن المنصفين منهم يعلمون أنه قام بالدعوة والإقناع، وأن السيف لم يجرد إلا لحماية الدعوة، وإنما التملص منه يضر المسلمين. أي: التبرؤ من الجهاد، فبعضهم يجعل الإسلام كأنه وضع داخل قفص الاتهام، وكأنه هو المحامي الذي يدافع ويبرر جريمة الجهاد، ويقولون: لا، كل الغزوات كانت دفاعاً ورداً للعدوان، ولم يكن هناك مبادأة، وغير ذلك من هذا الكلام الاستسلامي الانهزامي! وأخطر ما في التملص من هذا الكلام هو أنهم يضرون المسلمين؛ لأن هذا سيقعدهم عن نصرة الدين بالسيف، ويقودهم إلى التخاذل والتواكل، ويحملهم على الاعتقاد بترك الوسائل، فيخلدون إلى الضعف كما هي حالتهم اليوم، وتقتلعهم الأمم القوية التي جعلت شعار تمدنها: السيف أو الكوخ، ولعلكم سمعتم كلمة كلينتون أو قرأتموها في الأيام الأخيرة حينما قال: إننا اتفقنا -هو وميتران - على ألا تقوم قائمة لإسلام قوي، وسنستعين على ذلك بالدول الإسلامية ذات الموارد الفقيرة! يقول هذا العالم: فيجب على المسلمين أن يدرسوا آيات الجهاد صباح مساء، ويطيلوا النظر في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] لعلهم يتحفزون إلى مجاراة الأمم القوية. {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] المقصود هنا: الكراهة الجِبِلّية الطبعية، وهي أن الإنسان يكره أن يُقتل أو يموت، لكن شرعاً: المؤمن يحب الجهاد، فلا تناقض. {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} [البقرة:216] كالجهاد في سبيل الله. {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] كما ذكرنا. {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، بعض العلماء قال: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] المقصود صنف معين من الأعراب وغيرهم، فهم الذين يصدق عليهم أنهم لا يعلمون، وأما المؤمنون الراسخون فقد أعلمهم الله من عنده ما علموا أن القتال خير لهم، وأن التخلف شر لهم، حتى إن علمهم ذلك ظهر على ألسنتهم بما يسيل الدموع وينير القلوب من شدة علمهم بهذه الحقيقة، فحين شاورهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى غزوة بدر، قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! امض بما أمرك الله فنحن معك، والله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)) [المائدة:24]، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت إلى برك الغماد -وهو مكان وراء مكة بخمس ليالي مما يلي البحر- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له) ثم قام سعد بن معاذ فقال: (امض -يا رسول الله- لما أردت ونحن معك، فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً). فقوله: (ما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً) يدل على أن الصحابة من الراسخين في الإيمان، وهم برآء من هذه الكراهة، بل تضلعوا من علم الوحي حتى أيقنوا بمحبة هذا الجهاد، ولم يكرهوه. ثم قال سعد: (إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، فلعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله). ونحن إذا توسعنا في هذا الكلام سنجد نماذج عظيمة جداً من السلف رضي الله تعالى عنهم في الجهاد؛ لأنه لا يمكن أن هؤلاء يكرهون الجهاد في سبيل الله أبداً، بل كما قال خالد بن الوليد لبعض قواد الكفار: جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة! وكما في قصة عبد الله بن حذافة رضي الله تعالى عنه لما أسر مع مجموعة من المسلمين، وأغراه ملك الروم أن يتنصّر ويخلي سبيله فأبى، فأتى بأسير ووضع في إناء زيت يفور ويغلي ثم أخرج وهو عظام تلوح. فعرض عليه الدخول في النصرانية فأبى، فعُلق عبد الله بن حذافة رضي الله عنه وأمر الملك أن يرمى بالسهام قريباً من يديه ورجليه ورأسه؛ إخافة له وإرهاباً فأبى، ولما وضعوا في هذا الإناء الذي يغلي أحد الأسرى وأخرج فإذا هو عظام تلوح بكى في هذه اللحظة، فطمع الملك في تنصّره لما رآه يبكي، فعرض عليه النصرانية فقام فأبى، فقالوا: إذاً ما يبكيك؟! قال: حينما رأيت هذا الأسير الذي قد فعل به كذا، تذكرت أن لي نفساً واحدة، وكنت أود أن لي سبعين نفساً تعذب كلها في الله كما عذبت هذه النفس! فبكى لأن له نفساً واحدة فقط ستعذب هذا العذاب في سبيل الله. هل يمكن أن هذا يكره الجهاد في سبيل الله؟!! إذاً: هناك نماذج في الحقيقة تطول جداً من سير السلف تثبت أنهم ما كرهوا القتال في سبيل الله. فهذان تفسيران للآية: الأول: إما أن يكون {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] يعني: كراهة طبعية كقول عائشة: كلنا يكره الموت. الثاني: أن قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] أي: في طبقة معينة من الناس كالأعراب وغيرهم، أما الذين رسخ إيمانهم وتعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الوحي فهم لا يكرهون الجهاد، بل بعضهم كان يبكي لما اعتذر لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حملهم معه للجهاد كما قال الله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)

تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]. اختلف المفسرون في هؤلاء الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هم أهل الشرك أفضوا إلى تعيير المسلمين لما تجاوزوه من القتل في الشهر الحرام، وقيل: هم أهل الإسلام. (يسألونك) فإما أن الواو تعود إلى أناس من المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم القتال في الشهر الحرام، وإما أنها تعود إلى المشركين؛ لأن المشركين كانوا يعيرون المسلمين ويقولون لهم: ما حكم القتال في الشهر الحرام في شرعتكم وفي دينكم وقد تجاوزتم هذا الحكم بإجراء القتال في الشهر الحرام؟ والمقصود بالشهر الحرام: شهر رجب، وكان شهر رجب يدعى عند العرب: الشهر الأصم؛ لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً لهذا الشهر، وكانوا يعظمونه أكثر من بقية الأشهر الحرم، فكانوا يسمونه الشهر الأصم؛ لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح ولا قتال. وقد أخرج الطبراني في الكبير والبيهقي في سننه وابن جرير وابن أبي حاتم عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً واستأمر عليهم أبا عبيدة، فلما انطلق ليتوجه طاعة لأمر الرسول عليه السلام ولشدة خوفه وحبه للرسول عليه السلام فلم يملك نفسه أن بكى صبابة وشوقاً إلى الرسول عليه السلام وحزناً على فراقه، فبعث مكانه عبد الله بن جحش واستبقى أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه، وهذا كان قبل غزوة بدر الكبرى، وسمي عبد الله بن جحش في هذه الغزوة: أمير المؤمنين؛ لكونه أميراً على جماعة من المؤمنين، وهذا يرويه ابن مسعود، فلقي الصحابة ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب، وكانوا يظنون أنه ليس من الشهر الحرام، وكان ذلك اليوم يحتمل أن يكون آخر يوم من جماد الآخرة أو أول رجب، وهم لم يقطعوا بذلك، وظنوا أنه من جماد الآخرة، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام. فأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217]، فبعض الناس قالوا: هؤلاء الصحابة الذين قتلوا في الشهر الحرام إن كانوا قد فعلوا ما عليهم بسبب جواز وإباحة القتال في هذه الظروف التي كانوا فيها، فهم على أقل تقدير ليس لهم أجر لفعلهم هذا، فأنزل الله تعالى الآية التي تليها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، لإثبات أن لهم أجراً في هذا. وأخرج ابن مندة في الصحابة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يظنون تلك الليلة من جمادى وكانت أول رجب. وفي رواية ابن أبي حاتم وصححها الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش الأسدي في جيش على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير، فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيراً لقريش، وبعث معه كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فلما سار يومين فتح الكتاب فوجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة -موضع بين مكة والطائف- ارصد بها عيراً لقريش، وتعلم لنا من أخبارهم)، فقال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، ولم يستكرههم بل خيرهم من شاء أن يستمر معه فليستمر، ومن شاء أن يعود فليعد، قال: فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، أما أنا فناهض، فنهضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة، فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، ولئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على مقاتلتهم، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل فأعجزهم، ثم أقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عزلوا من ذلك الخمس، وهو أول خمس كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه، واشتد تعييب قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالاً، فقالوا: قد أحلّ محمد الشهر الحرام، ويروى أن اليهود أيضاً دخلوا في هذه المعمعة ولم يفوتوا الفرصة، بل ضلوا يخوضون في التشنيع على المسلمين، واستعملوا بعض العبارات كنوع من التفاؤل بإثارة الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: عمرو أي: عُمرت الحرب، الحضرمي: حضرت الحرب، قتله واقد: وقدت الحرب، فجعل الله عليهم ذلك وبهم، ولما كثر الكلام في هذه الحادثة، وأكثر الناس في ذلك القيل والقال أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة. قوله تعالى: (قتال فيه) هذا بدل من الشهر وهو بدل اشتمال: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) فهو بدل اشتمال من الشهر؛ لأن السؤال اشتمل على الشهر وعلى القتال، وسؤالهم إنما كان عن الشهر؛ لأجل القتال فيه، فأبدل (قتال) من (الشهر) كما أنشد سيبويه: فما كان قيس ملكه ملك واحد ولكنه بنيان قوم تهدّما قوله: ملكه ملك واحد بدل اشتمال. تقول مثلاً: أعجبني زيد علمه، فـ (علمه) بدل اشتمال؛ لأن زيداً يشتمل على العلم ويشتمل على غيره، فأبدل منه هذا، كذلك تقول مثلاً: نفعني زيد كلامه، فـ (كلامه) بدل اشتمال من زيد، ومثله قولك: سُرق زيد ماله، أو: سلب زيد ثوبه، وهكذا. فقوله: (قتالٍ فيه) بدل من الشهر؛ لأن القتال يقع في الشهر.

البقرة [229 - 242]

تفسير سورة البقرة [229 - 242]

تفسير قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)

تفسير قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229]. قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا) يعني: إلا أن يخاف الزوجان. (أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ) يعني: ألا يأتيا بما حده لهما من الحقوق. وفي قراءة (إلا أن يُخافا) بالبناء للمفعول، أي: يخافا من قبل ولاة الأمور. فـ (أن لا يقيما) بدل الاشتمال من الضمير فيه، وقرئ شذوذاً بالفوقانية في الفعلين، أي: (إلا أن تخافا أن لا تقيما) وهذه قراءة شاذة. قوله تعالى: ((فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)) هذه الآية دليل على جواز الخلع، والخلع هو: أن تختلع المرأة من زوجها، وهذا جائز إذا كان بعذر وبسبب، أما المرأة التي تطلب من زوجها الخلع من غير ما سبب فقد ورد فيها وعيد شديد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المختلعات أو المنتزعات هن المنافقات)، فلا يجوز للمرأة أن تطلب من زوجها الطلاق بين الحين والآخر لأتفه الأسباب أو بدون سبب أو بسبب اختلاف، لكن إن كان هناك سبب وجيه وبأس وعذر فلها أن تطلب الطلاق ولا حرج عليها، أما أن تطلبه لغير ذلك فقد ثبت في ذلك هذا الوعيد الشديد. يقول تعالى: ((فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)) لا جناح على الرجل ولا على المرأة فيما افتدت به نفسها من المال ليطلقها، فلا حرج على الزوج في أخذه، فهذا معنى (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) أي: ليس على الزوج حرج في أن يأخذ هذا المال الذي تفتدي نفسها به، وليس هناك حرج -أيضاً- على الزوجة أن تبذل هذا المال لتفتدي نفسها به. (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي: تلك الأحكام المذكورة حدود الله: (فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

تفسير قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره)

تفسير قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره) قوله تعالى: (فإن طلقها) هذا مرتبط بما قبله، حيث قال تعالى: (الطلاق) يعني: التطليق (مرتان)، ثم قال: (فإن طلقها) يعني: إن طلقها الزوج بعد الثنتين (فلا تحل له من بعد) يعني: من بعد الطلقة الثالثة لا تحل له (حتى تنكح زوجاً غيره) أي: حتى تتزوج زوجاً غيره ويطأها، للحديث الذي رواه الشيخان، فلا تحل له بعد الطلقة الثالثة حتى تتزوج زوجاً غيره ويطأها؛ لأن كلمة (تنكح) كما هو معلوم لفظ مشترك بين العقد وبين الوطء، فبالتالي نص هنا في التفسير على الوطء كي لا يظن أنه يكفي مجرد العقد؛ لأن الحديث دل على ذلك، ودلت الشريعة على تحريم نكاح المحلل، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له، وسماه النبي عليه الصلاة والسلام بالتيس المستعار، فمن الحيل المحرمة نكاح التحليل. فلذلك قال: (حتى تنكح) يعني: تتزوج (زوجاً غيره) ويطأها، ولابد من وطئها؛ لحديث رواه الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي -أي: طلقني الطلاق البتة ثلاثاً- فتزوجني عبد الرحمن بن الزَّبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوبة -أي: هو عنين- فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)، وهذا كناية عن الوطء. فيجب أن يكون النكاح الثاني مقصوداً لذاته، لا لتحليل المرأة للزوج الأول، فأي نكاح لابد أن يكون الزوج ناوياً فيه التأبيد، لابد أن ينوي التأبيد، وأي عقد زواج يكون مؤقتاً فهو نكاح متعة، وهذا قد نسخ وحرم، فعقد النكاح لمدة معينة لا يجوز عندنا أهل السنة، وإنما يجب أن يكون على التأبيد، والتأبيد أن ينوي أن يعيش معها إلى الأبد ويتزوجها إلى الأبد. فلذلك ينبغي أن يكون هذا النكاح الثاني مقصوداً لذاته لا لمجرد التحليل، فمن وطأها لابد أن ينوي، لا أن ينوي بالوطء أن يحللها لزوجها، لكن ينوي بالعقد أن يتزوجها إلى الأبد. يقول: يجب أن يكون النكاح الثاني مقصوداً لذاته لا لتحليل المرأة للزوج الأول، فإن قصد به التحليل كان الطرفان آثمين بالإجماع مع خلاف في صحة العقد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لعن الله المحلل والمحلل له) رواه النسائي والترمذي. قوله تعالى: (فإن طلقها) الفاعل هنا الزوج الثاني، (فإن طلقها) أي: الزوج الثاني طلقها لأي سبب، فهو نوى التأبيد لكن حصل بينهما نزاع أو أي شيء حتى طلقها لا لقصد التحليل، لكن طلقها لمشاكل عائلية. (فإن طلقها) أي: الزوج الثاني (فلا جناح عليهما) يعني: الزوجة والزوج الأول (أن يتراجعا) يعني: أن يتراجعا إلى النكاح بعد انقضاء العدة، ولابد من هذا الشرط، لابد أن يكون النكاح بعد انقضاء العدة. {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230] أي: تلك المذكورات حدود الله. (يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: يتدبرون.

تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن)

تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن) قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231]. قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: قاربن انقضاء عدتهن {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. وإنما كان معنى (بلغن) قاربن لأنه لو كانت العدة قد انقضت بالفعل فلا يمكنه أن يمسكها، بل تكون قد بانت منه بينونة صغرى، لذلك فسر قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن) بأن معناه: قاربن انقضاء عدتهن. فقوله تعالى: (فأمسكوهن) الإمساك لابد أن يكون في جزء من العدة، وهو الذي يكون عند اقتراب نهاية العدة. قوله تعالى: (فأمسكوهن بمعروف) أي: أمسكوهن بأن تراجعوهن. وقوله تعالى: (بمعروف) أي: من غير إضرار. وقوله تعالى: (أو سرحوهن بمعروف) أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن. وقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا) أي: ولا تمسكوهن بالرجعة. (ضراراً) مفعول له. (لتعتدوا) أي: تعتدوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء والتطليق وتطويل العدة، وذلك أن ينوي الرجل بمراجعتها تطويل العدة، فإذا قاربت العدة الانتهاء يراجعها، ويتعسف في استعمال هذا الحق الذي أعطاه الله إياه كي يطيل عليها عدتها، يعني فيراجعها من جديد ثم يطلقها لتطول عليها العدة؛ لأنها إذا طلقت منه ستكون لها الحقوق المادية من المتعة أو المهر، أو مؤخر الصداق، لكن هو يمسكها بنية أن يضايقها ويؤذيها كي تطلب هي الافتداء فتبرئه من حقوقها، فيمسكها بنية الضرار. ولا شك أن هذه الأشياء متفشية إلى الآن، حتى إن بعض الذين يزعمون أنهم متدينون نجد أن الإنسان منهم إذا غلبه الهوى والظلم والتعسف لا يلتفت إلى هذه الأمور الشرعية، وقد رأينا ذلك في أناس كثيرين. إلا أن التقي -كما قال بعض السلف- ملجم، فليس كل ما يقدر عليه يفعله، فالتقوى تلجمه وتكبح هواه وبغيه. وبعض الناس الحلال عنده هو ما قدر عليه، والحرام هو ما عجز عنه، فإن قدر على مال كان عنده حلالاً له، وإن قدر على عرض كان حلالاً له، والحرام هو الذي عجز عنه، وليس الحرام عنده ما حرم الله، وليس الحلال عنده ما أحله الله سبحانه وتعالى! فإذا كنت قادراً على الظلم فتذكر أن الله أقدر عليك منك على المظلوم، حتى ولو كانت المرأة لا يوجد لها من يدافع عنها أو يحميها أو يتولى صيانة حقوقها، وبالتالي يُعدُّ هذا التصرف منه منافياً لما أوصى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم) يعني: أسيرات عندكم. وقوله عليه الصلاة والسلام: (إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة) يعني: أنتم في حرج إذا ضيعتم حق هذين الضعيفين: اليتيم والمرأة. فالشاهد أن الرجل لا يجوز له أن يمسكها ضراراً. تجد الرجل يتزوج مثلاً، ثم يطلق مرتين ويبقي الثالثة، ثم يتزوج امرأة أخرى، ويضعها على ذمته دون أن يراجعها، فتصبح معلقة لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة، ولا شك أن هذا يتنافى مع الأخلاق الإسلامية، ومثل هذه التصرفات لا يأتي بها من يخاف الله سبحانه وتعالى أو يستحيي من الله، فليس كل ما تقدر عليه أو ما يوفره لك القانون أو يحرره لك المحامي يكون حقاً لك، فإذا كنت تتقي الله فينبغي أن تلتزم بشرع الله عز وجل. قال تعالى: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ)) أي: بالرجعة (ضِرَارًا) أي لأجل الضرار لتعتدوا عليهن بالإلجاء إلى الافتداء، فيضيق عليها حتى تفتدي نفسها بالمال، أو تتنازل عن حقوقها عنده. قال تعالى: ((وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)). هنا عدة قراءات، فقد قرئ (هُزواً) بالهمزة مع ضم الزاي (هُزُءًا)، وبالهمزة مع سكون الزاي (هُزْءًا)، وفي قراءة بضم الزاي وإبدال الهمزة واواً، وهي رواية حفص عن عاصم أي: مهزوءاً بها. والمعنى: لا تهزءوا بآيات الله بأن تخالفوها ولا ترفعوا بها رأساً ولا تلقوا لها بالاً. ثم يقول تعالى: ((وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) يعني: بالإسلام. ((وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ)) [البقرة:231] أي: القرآن. (والحكمة) يعني: ما في القرآن من الأحكام. وحيث ما وردت الحكمة مقترنة بالكتاب في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فالمقصود بها السنة، وهذا لا يتعارض مع تفسير السيوطي للحكمة هنا بما في القرآن من الأحكام، ولكن المعروف أن الحكمة هنا هي السنة كما سبق الاستدلال على ذلك. ((يَعِظُكُمْ بِهِ)) يعني: اذكروا هذه النعمة بأن تشكروها وتعملوا بهذه الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى وامتن بها عليكم. ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) أي: لا يخفى عليه شيء.

تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجهلن فلا تعضلوهن)

تفسير قوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجهلن فلا تعضلوهن) ثم يقول تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة:232] ليس المقصود ببلوغ الأجل هنا مقاربة انقضاء عدتهن، بل المراد بـ (بلغن أجلهن) هنا انقضاء العدة بالفعل، حيث بانت من زوجها بينونة صغرى. فـ (إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) أي: انقضت عدتهن (فلا تعضلوهن) الخطاب هنا للأولياء، والعضل: هو مضارة المرأة بأن يمنعها من زوجها. أي: أن يأتيها زوج كفء فلا يزوجها، فهذا هو العضل، وهو صورة من صور التعسف أو سوء استعمال السلطة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى الأولياء. وهذه الآية من أوضح الأدلة على أن الولي هو صاحب الحق في تزويج المرأة، فالنهي عن العضل يثبت أن له سلطة، وأن الولي أبا المرأة -مثلاً- أو وليها الشرعي هو الذي يتولى تزويجها؛ لأنه لو كان الأمر إليها لما احتيج إلى النهي عن العضل، فالنهي عن العضل لأن سلطة التزويج من سلطة الولي فقط، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا نكاح إلا بولي)، والآيات في هذا كثيرة، منها الآية التي أشرنا إليها سابقاً في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221]، و (تُنكِح) فعل مضارع، وماضيه (أنكح). وأما (ولا تَنكَحوا المشركات) فهو من (نَكَح) بمعنى: تزوج، أي: فلا تتزوجوا المشركات، أما حينما نزوج نحن بناتنا فيقول تبارك وتعالى: (ولا تُنكحوا) يعني: لا تُزوجوا بناتكم المشركين، فلم يقل: لا يَنكَحن هن المشركين حتى يؤمنوا؛ لأنه لا سلطة للمرأة في التزويج، فالسلطة هي للرجل، ولذلك قال: (ولا تُنكِحوا المشركين) يعني: لا تزوجوهن بناتكم حتى يؤمنوا. وهذا أيضاً دليل على اشتراط الولي في النكاح. وقوله تبارك وتعالى: ((فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن))، والخطاب هنا للأولياء، أي: لا تمنعوهن من أن ينكحن أزواجهن، وليس المراد: أي أزاوج! وإنما أزواجهن المطلقون لهن، وهو الزوج الذي طلقها فيما مضى حتى انقضت عدتها منه وبانت منه بينونة صغرى. يقول السيوطي: (فلا تعضلوهن) خطاب للأولياء، أي: لا تمنعوهن من أن ينكحن أزواجهن المطلقين لهن؛ لأن سبب نزولها أن أخت معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه طلقها زوجها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، وأخته هذه كان يتقدم إليها كثير من أشراف الناس ووجهائهم، فكان يتأبى عليهم، وفضله هو بتزويجها. فلما تزوجها طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فأراد أن يراجعها فمنعه معقل بن يسار وأبى وأخذته الحمية وقال: أكرمتك وزوجتك إياها فطلقتها ثم لم تراجعها حتى انقضت العدة، وبعد ذلك تطلب أن تراجعها! فأصر ألا يعيدها إليه، وهي ترغب أن تعود إلى زوجها، فلما نزلت هذه الآية قال معقل: سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك تعظيماً لأمر الله سبحانه وتعالى. وهكذا الإيمان {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]. ولا شك أن قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) إنما هو إذا تراضوا بينهم بالمعروف؛ لأن المرأة إذا امتنعت عن العودة إلى زوجها الذي بانت منه بينونة صغرى فلا تلزم بالقبول إذا خطبها بعد ذلك. وقد رغب الله في إرجاع المرأة إلى زوجها الأول إذا خطبها بعد انقضاء عدتها؛ لما كان بينهما من العلاقة القائمة والمعاشرة الطويلة، فلا يؤمن أن يقع نوع من العلاقة والمواصلة المحرمة بينهما؛ لما كان بينهما سابقاً من الارتباط والعلاقة، فإذا سد الباب الحلال عليهما قد ينفتح باب الريبة في العلاقة بينهما لقوة العلاقة بينهما فيما مضى، ولذلك كان هذا الحكم سداً لهذا الباب من أبواب الفتنة. قوله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) أي: المطلقين لهن. (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (إذا تراضوا) الواو تعود على الأزواج والنساء. (بينهم بالمعروف) أي: المعروف شرعاً؛ لأن المعروف هو ما عرفه الشرع، والمنكر هو ما أنكره ونهى عنه. (ذلك) أي: ذلك النهي عن العضل (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)؛ لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويخشى الله سبحانه وتعالى ويتقيه هو الذي ينتفع بهذه الموعظة. (ذلكم) يعني: ترك العضل (أزكى لكم وأطهر) (أزكى) أي: خير لكم وأطهر لكم ولهن، أي: للأزواج والزوجات، فهو أطهر لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة السابقة بينهما. (والله يعلم) أي: ما فيه من مصلحة. (وأنتم لا تعلمون) أي: ذلك، فاتبعوا أمره.

تفسير قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن)

تفسير قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن) قال تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة:233]. (يرضعن) الكلام فيها مثل (يتربصن)، فظاهرها الخبر ولكن المقصود الأمر، يعني: ليرضعن. (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) (حولين): يعني عامين (كاملين) هذه صفة مؤكدة. (لمن أراد) يعني: ذلك الحكم لمن أراد (أن يتم الرضاعة)، ولا زيادة عليها، فلا تزيد الرضاعة على سنتين هجريتين. وقوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهم بالمعروف) (وعلى المولود له) أي: الأب (رزقهن) يعني: إطعام الوالدات، فينفق عليها، فـ (رزقهن) أي: الإطعام، (وكسوتهن) يعني: النفقة والكسوة عن الإرضاع إذا كن مطلقات. (بالمعروف) أي: بقدر طاقته. {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:233] أي: إلا طاقتها. (لا تضار والدة بولدها) الباء هنا سببية، يعني: لا يجوز أن تضار امرأة بسبب ولدها، كأن تكره -مثلاً- على إرضاعه إذا امتنعت، أو تمنع من إرضاعه إذا رغبت، وهذا -أيضاً- من الأخلاق السيئة الموجودة الآن في كثير من الرجال والنساء، تجد البعد عن شرع الله سبحانه وتعالى وضعف اليقين في القلوب، نجد الذي يستطيع أن يفعل فعلاً لا يتورع أبداً، والشيطان يربي هذه الأخلاق السيئة، وقل من تجده يفارق زوجته بالتي هي أحسن؛ لأن ضعيف التقوى إذا قدر فإنه لا يرحم ولا يتورع عن أي نوع من الأذى، تجد المرأة وأسرتها يحاربون على أن يحجبوا الابن عن أبيه، وتجد الرجل -أيضاً- يحاول أن ينكر بقدر استطاعته مصادر دخله، بحيث إذا رفعت القضية إلى القاضي لا يستطيع القاضي أن يفرض عليه مبلغاً كبيراً من المال بسبب قلة دخله. لماذا لا تتراضوا بينكم بالمعروف؟! ولماذا لا تُحكِّموا شرع الله سبحانه وتعالى بصدق، فتعطى المرأة حقها ويعطى الزوج حقه؟! وقوله تعالى: (لا تضار والدة بولدها) يعني: بسبب ولدها بأن تكره -مثلاً- على إرضاعه إذا امتنعت. (ولا مولود له بولده) أي: ولا يضار -أيضاً- الأب بولده أي: بسبب ولده- بأن يكلف فوق طاقته. وإضافة الولد إلى كل منهما في الموضعين للاستعطاف، فأضاف الله سبحانه وتعالى الولد إلى الأم فقال تعالى: (لا تضار والدة بولدها)، وهذه الإضافة المقصود بها الاستعطاف يعني: لتتذكر أن هذا هو ولدها فكيف تجعله سبباً لشقائها وسبباً في تعذيبها؟! كذلك قوله تعالى: (ولا مولود له بولده) ليعلم الطرف الآخر من النساء أن هذا ولده، فهذا نوع من الاستعطاف، فهو ولده فكيف تجعلونه سبباً في شقائه بمضارته؟! وهذا يفيد أن الولد لأبيه؛ لقوله تعالى (ولا مولود له بولده)، أما الأم فقال: (والدة)، وقال: (والوالدات)، وحين ذكر الأب قال: (مولود له)، فالولد مختص بأبيه، فهو له، وهو من كسبه. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) فاختص الأب بهذا. قال تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) الذي يرث الأب إذا مات هو الصبي ابنه، فقوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) يعني: يجب على الوارث -الذي هو الصبي- أن ينفق على الأم التي ترضعه، فيعطيها الكسوة والطعام في أثناء فترة الرضاع مثلما يجب على المولود له المتوفى أيضاً، والذي يرضع -وهو الوارث- لا يتمكن من أن يعطي الأم نفقتها حال رضاعه، فإذاً لابد أن يكون المقصود ولي هذا الصبي؛ لأنه هو الذي يكون متمكناً من المال ويرعاه ويقوم بحاجاته منه. فالمقصود بقوله هنا: (وعلى الوارث) أي: وارث الأب وهو الصبي، أي: على وليه في ماله. و (على) هنا تطلق بمعنى الوجوب، فيجب على الولي أن ينفق من مال الصبي على أمه في الرضاع. (مثل ذلك) يعني: مثل الذي على الأب للوالدة من النفقة والكسوة. قال تعالى: (فإن أرادا) أي: الوالدان (فصالاً) أي: فطاماً له قبل الحولين، (فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور). فانظر كيف الإسلام يراعي مستقبل الأطفال حتى في حال فراق الوالدين، فتصور أن الأب والأم في حالة طلاق، لكن أوجب الله عليهما أن يتشاورا ويتحاورا فيما هو الأصلح لهذا الولد، ما هي مصلحته في الناحية البدنية وغيرها. (فإن أرادا فصالاً عن تراض) من غير أجبار وإكراه (وتشاور) يوجد أخذ ورد وشورى لأجل مصلحة هذا الصبي. (فإن أرادا) أي: الوالدان (فصالاً) أي: فطاماً له قبل الحولين (عن تراض) أي: اتفاق منهما (وتشاور) يعني: بينهما لتظهر مصلحة الصبي فيه. (فلا جناح عليهما) يعني: لا جناح عليهما في ذلك إن رأيا أن المدة إذا قلت يكون في ذلك مصلحة الولد، فلا جناح عليهما ولا يتحرجا من قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)، ما دام في هذا مصلحة لهذا الصبي. قوله تعالى: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) (إن أردتم) هذا خطاب للآباء فقط (أن تسترضعوا أولادكم) يعني: تطلبون لهم مراضع غير الوالدات، فإذا كنت تريد أن ترضع ولدك غير هذه الأم المطلقة (فلا جناح عليكم إذا سلمتم) يعني: لا جناح عليكم في هذا الاسترضاع، وهو طلب المرضع غير الأم. (فلا جناح عليكم) أي: فيه (إذا سلمتم) أي: إليهن (ما آتيتم بالمعروف)، أي: إلى المرضعة غير الأم. أي: إذا سلمتم إلى هذه المرضعة التي تسترضعونها ما آتيتم -أي: أردتم إيتاءه- لهن من الأجرة (بالمعروف) أي: بالذي تطيب به النفس. (واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) يعني: لا يخفى عليه شيء مما تعملون.

تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشرا)

تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهم أربعة أشهر وعشراً) قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]. قوله تعالى: (والذين يتوفون) يعني: يموتون، والفعل مبني لما لم يسم فاعله (يُتَوفون)، وليس (يَتوفون) بالبناء للفاعل، ولذلك يحكى أن الخليل بن أحمد مشى في جنازة، فسأله سائل فقال: من المُتوفي؟ قال: الله. فغضب، ومن هنا بدأ في تدوين علوم النحو وضبط علوم اللغة، فنذر نفسه لحفظ اللسان العربي وقواعد اللغة العربية وفهم اللغة العربية؛ لأن الرجل قال له: من المتوفي؟ فرد عليه وقال: الله هو الذي يتوفى. فالله يتوفى الأنفس، أما الميت فيسمى "متوفى"، فهذا هو الصحيح، أن تقول: (متوفى) أو: (توفي فلانٌ)، أو تقول: (توفاه الله)، ولا تقول: (تَوَفَّى). يقول: (والذين يتوفون منكم) يعني: يموتون. (ويذرون) يتركون (أزواجاً يتربصن بأنفسهن) (يتربصن) أيضاً هنا ظاهره الخبر والمقصود به الإنشاء وهو الأمر، يعني: ليتربصن بأنفسهن يعني بعدهن عن النكاح، فيحبسن أنفسهن عن الزواج لمدة أربعة أشهر وعشر ليال، فهذه الآية موضوعها مدة إحداد المرأة على زوجها المتوفى. والمدة أربعة أشهر وعشر ليال، لا وعشرة أيام؛ لأنه لو كانت وعشرة أيام لقال: (أربعة أشهر وعشرة). وهذا في غير الحوامل، فالمرأة إما أن تكون حاملاً أو حائلاً، فالمرأة الحامل عدتها أن تضع حملها، ودليله آية الطلاق، وهي قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فلو أنها بعد وفاة الزوج -مثلاً- بيومين أو ثلاثة وضعت حملها فقد انقضت عدتها، فيمكن أن تكون العدة أياماً قليلة، ويمكن أن تقارب تسعة أشهر، فأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن. أما المرأة الحائل فعدتها أربعة أشهر وعشراً، والأمة على النصف من ذلك بالسُنَّة. (فإذا بلغن أجلهن) أي: انقضت عدة تربصهن فانقضت الأربعة الأشهر والعشر الليالي. (فلا جناح عليكم) يعني: أيها الأولياء (فيما فعلن في أنفسهن) أي: فيما فعلن في أنفسهن من التزين والتعرض للخطاب، وقد وردت السنة ببيان جواز هذا كما في حديث سبيعة الأسلمية وقول أبي السنابل بن بعكك لها. (بالمعروف) أي: شرعاً. (والله بما تعملون خبير) أي: عالم بباطنه كظاهره.

تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء)

تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235] هذا أيضاً من أحكام إحداد المتوفى عنها زوجها، وهو أنه لا يجوز لأحد أن يصرح بطلب زواجها، لكن يعرض. فقوله: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم) المقصود: ما لوحتم به من خطبة النساء، والمراد النساء المتوفى عنهن أزواجهن وهن في العدة، أما إذا انقضت العدة فيجوز التصريح، لكن المقصود هنا في أثناء العدة. (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به) أي: لوحتم. (من خطبة النساء) أي: المتوفى عنهن أزواجهن في العدة، كقول الإنسان مثلاً: إنك لجميلة، ومن يجد مثلك؟ وربَّ راغب فيك، هذا كله تعريض. (أو أكننتم في أنفسكم) فأنتم إما أن تُعرِّضوا، وإما أن تضمروا في أنفسكم قصد نكاحهن، (أو أكننتم) يعني: أضمرتم. (في أنفسكم) أي: من قصد نكاحهن. (علم الله أنكم ستذكرونهن) يعني: بالخطبة فلا تصبرون عنهن، فأباح لكم التعريض، فنفس لكم ووسع لكم في هذا الأمر؛ لأن الله علم أنكم قد لا تمسكون أنفسكم عن الاقتراب من هذا الأمر فأباح لكم التعريض. (ولكن لا تواعدوهن سراً) يعني: نكاحاً. (إلا أن تقولوا قولاً معروفاً) (إلا) هنا بمعنى (لكن)، فهو استثناء منقطع، أي: لكن يباح لكم أن تقولوا قولاً معروفاً والمعروف هو ما عرف شرعاً، والذي عرف شرعاً هنا هو إباحة التعريض. (إلا أن تقولوا) يعني: لكن أن تقولوا قولاً معروفاً. أي: ما عرف شرعاً من التعريض فلكم ذلك. (ولا تعزموا عقدة النكاح) يعني: لا تعزموا على عقد النكاح. (حتى يبلغ الكتاب) يعني المكتوب من العدة (أجله) أن ينتهي. (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) يعني: ما في أنفسكم من العزم وغيره فاحذروه أن يعاقبكم إذا عزمتم، فلا تعزم عقدة النكاح، فإذا عزمت فهذا مخالف لهذا التشريع. (واعلموا أن الله غفور) أي: لمن يحذره (حليم) بتأخير العقوبة عن مستحقها.

تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن)

تفسير قوله تعالى: (ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن) قال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:236]، وفي قراءة (ما لم تُماسُّوهن) بضم التاء، أي: تجامعوهن. {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236] يعني: أو لم تفرضوا لهن فريضة. والفريضة هي المهر؛ لأن أحد أسماء المهر: الفريضة، فهو الأجر أو المهر أو الفريضة. والمقصود: لا تبعة عليكم في الطلاق -عدم المسيس والفرض- بإثم ولا مهر. فقوله تعالى هنا: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}، الكلام هنا في النساء اللاتي عقد عليهن، كمن تزوج امرأة فعقد عليها ولم يبن بها (ما لم تمسوهن) يعني: لم تطئوهن. وأيضاً إذا لم يفرض لها مهراً، ومعروف أن العقد لا يكون إلا بمهر، ولا يجوز بحال من الأحوال التعاقد على إسقاط المهر، فلا يجوز أبداً إسقاط المهر قبل العقد، لكن يمكن للمرأة بعد العقد أن تتنازل عن المهر، لكن لا يجوز أبداً أن يتزوج الإنسان ويسقط المهر الذي فرض شرعاً لإظهار خطر المحل، لكن لا يشترط، فيصح العقد إذا لم يسم المهر ولم يحدد مهر معين. ويصح العقد بتقديم جزء من المهر وتأخير الجزء الآخر، لكن لا يجوز أبداً العقد على أن يسقط المهر، بل لابد من مهر وإن لم يعين، ولم تحدد قيمته. والدليل هذه الآية: ((لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)) يعني: لم تحددوا الفريضة التي هي المهر. فهذه حالة امرأة معقود عليها لم يسم مهرها. فقوله تعالى: (ما لم تمسوهن) أي: تجامعوهن (أو تفرضوا) يعني: أو لم تفرضوا لهن فريضة. أي: مهراً. و (ما) مصدرية ظرفية، أي: لا تبعة عليكم -في الطلاق زمن عدم المسيس وعدم الفرض- بإثم ولا مهر. (ومتعوهن) يعني: أعطوهن ما يتمتعن به. (على الموسع قدره) أي: على الغني الموسر منكم قدره (وعلى المقتر قدره) أي: الضيق الرزق عليه قدره فلا ينظر إلى قدر الزوجة ولكن ينظر إلى استطاعة الزوج؛ لأنه لم ينسب القدر إلى المرأة. (متاعاً بالمعرف) (متاعاً) المقصود به: (تمتيعاً)؛ لأن الفعل (متعوهن) مصدره (تمتيعاً) (بالمعروف) أي: شرعاً. و (بالمعروف) متعلق بـ (متاعاً) أو متعلق بصفة (متاعاً) المقدرة. (حقاً) صفة ثانية أو مصدر مؤكد. (على المحسنين) أي: المطيعين.

تفسير قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن)

تفسير قوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) قال تعالى مبيناً حالة أخرى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:237] هذه حالة أخرى، وهي حالة معقود عليها لم يمسها زوجها -أي: لم يطأها- لكنه فرض لها فريضة المهر، فحدد قدره بالضبط، والفريضة من الفرض، وهو القطع، أي: محددة. (فإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) أي: قبل أن تطئوهن. (وقد فرضتم لهن فريضة) أي: المهر (فنصف ما فرضتم) يعني يجب لهن، ويرجع لكم النصف، وهذا في المعقود عليها التي لم يدخل بها ومهرها محدد معلوم، فأنتم لكم النصف وهي تعطى النصف أو يجب لهن النصف، فنصف ما فرضتم يجب لهن، ويرجع لكم النصف. (إلا أن يعفون) (إلا) بمعنى لكن (أن يعفون) أي: الزوجات فيتركنه، فإذا عفت عنك وسامحتك في هذا النصف؛ فلا حرج في ذلك. (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) وهو الزوج، إما أن تعفو الزوجة وإما أن يعفو الزوج فيترك لها الكل. وعن ابن عباس قال: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) يعني: الولي، فإذا كانت محجورة فلا حرج في ذلك، يعني أنه إذا كانت المرأة محجوراً عليها ولا تملك التصرف فلا حرج أن يعفوا الذي بيده عقدة النكاح الذي هو وليها، فله أيضاً أن يفعل ذلك. (وأن تعفوا أقرب للتقوى) (أن تعفو) مبتدأ، فهو مصدر مؤول في محل رفع مبتدأ، و (أقرب) خبره. (ولا تنسوا الفضل بينكم) أي: أن يتفضل بعضكم على بعض. (إن الله بما تعملون بصير) يعني سيجازيكم به.

تفسير قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)

تفسير قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) قال تبارك وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]. (حافظوا على الصلوات) أي: الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها. (والصلاة الوسطى) وهي العصر أو الصبح أو الظهر أو غير ذلك، وأقواها الأول، فأقوى الأقوال أن الصلاة الوسطى هي العصر، وأفردها بالذكر لفضلها (حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى) فبعد أن عمم خصص. (وقوموا لله قانتين) (قوموا لله) يعني: في الصلاة، وهذه الآية دليل على فرضية القيام في صلاة الفريضة (وقوموا لله قانتين) قيل: مطيعين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل قنوت في القرآن فهو طاعة) أخرجه الطبراني في الأوسط. وقيل: (قانتين) أي: ساكتين؛ لحديث زيد بن أرقم: (كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: (وقوموا لله قانتين)، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) رواه الشيخان. (فإن خفتم) يعني: خفتم من عدو أو من سبع (فرجالاً) الرجال: جمع راجل. أي: صلوا مشاة (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً)، وهذا اللفظ مثل قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] أي: يأتون مشاة وراكبين على الجمال الهزيلة التي هزلت من طول السفر، فكذلك هنا (رجالاً) جمع راجل، أي: مشاة، والمقصود: صلوا رجالاً. يعني: وأنتم واقفون على أرجلكم. (أو ركباناً) جمع راكب، أي: صلوا وأنتم راكبين مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، ويومأ بالركوع والسجود، (فإن خفتم فرجالاً) يعني: فصلوا رجالاً أو ركباناً. (فإذا أمنتم) يعني: من الخوف الذي ذكرنا أمثلة منه، كخوف من عدو أو من سبع أو السيل. (فإذا أمنتم فاذكروا الله) يعني: صلوا. فـ (اذكروا الله) هنا بمعنى: صلوا. (كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) يعني: كما علمكم ما لم تعلموه قبل تعليمه من فرائضها وحقوقها، والكاف بمعنى مثل، و (ما) مصدرية أو موصولة.

تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول)

تفسير قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول) قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]. قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية) يعني: فليوصوا وصية. أي: يوصي الزوج لزوجته بعد موته أن يكون لها هذا القدر من المتاع. و (وصية) منصوب بفعل محذوف تقديره (فليوصوا وصية)، وفي قراءة: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجاً وصيةٌ) أي: عليهم وصية. قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية) يعني: فليوصوا وصية. (لأزواجهم متاعاً) يعني: وليعطوهن متاعاً، يعني ما يتمتعن به من النفقة والكسوة. (متاعاً إلى الحول) يعني: إلى تمام الحول الواجب عليهن تربصه؛ لأن هذا هو الحكم الماضي في فترة الإحداد، فقد كانت سنة كاملة كما سيأتي في هذه الآية. (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً) يعني: يوصون وصية لأزواجهم متاعاً، فـ (وصية لأزواجهم) أولاً، وثانياً: (متاعاً) يعني: يعطوهن متاعاً، وهو ما يتمتعن به من النفقة والكسوة. (إلى الحول) يعني: إلى تمام الحول من بعد موتهم الواجب عليهن تربصه. (غير إخراج) هذه حال، يعني: غير مخرجات من مسكنهن. وهذه قمة البلاغة في الحقيقة، والإنسان إذا تأمل هذا يظهر له أنه لا يمكن أن يكون كلام البشر، والحمد لله. (غير إخراج) يعني: غير مخرجات من مساكنهن، بل تقر في البيت. (فإن خرجن فلا جناح عليكم) يعني: إن خرجن بأنفسهن (فلا جناح عليكم) يعني: يا أولياء الميت (فيما فعلن في أنفسهن من معروف) يعني: شرعاً. كالتزين وترك الإحداد وقطع النفقة عنها. (والله عزيز حكيم) يعني: عزيز في ملكه، حكيم في صنعه. والوصية المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية الميراث، وهي قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء:12]، فهذه الآية تنسخ آية الوصية هنا، فهذه الوصية نسختها آية الميراث. إذاً: الوصية الواجبة هنا في هذه الآية منسوخة بآية الميراث. وكذلك تربص الحول المذكور في قوله تبارك وتعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، فتربص سنة كاملة إذا مات زوجها من أول الموت إلى حول سنة هجرية كاملة بعد موته منسوخ بآية البقرة السابقة، وهي قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فنلاحظ في ترتيب الآيات أن الناسخ مقدم على المنسوخ، وأما من حيث الوقوع في الواقع فهذا الحكم كان أولاً ثم أتى الحكم الآخر في الآية الناسخة، وهي: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً)، فهذه الآية السابقة هي المتأخرة في النزول، والسكنى ثابتة عند الشافعي رحمه الله تعالى، فيثبت لها حق السكنى.

تفسير قوله تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف)

تفسير قوله تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف) قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] (متاعاً) يعني: يعطين متاعاً (بالمعروف) أي: بقدر الإمكان. (حقاً على المتقين) يعني: يُعطَيْنهُ حقاً على المتقين أي: المتقين الله تعالى، كرره ليعم المنسوخة أيضاً؛ إذ الآية السابقة في شأن المطلقة التي لم تمس، فالمتاع في قوله تبارك وتعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] هو في شأن المرأة التي طلقت ولم تمس، فهذه الآية تشمل جميع النساء، سواءٌ المبتوتة أو التي لم تبت؛ ولذلك قال: (حقاً) أي: متاعاً بالمعروف حقاً على المتقين. كرره ليعم هذه المرة كل المطلقات، وليس اللائي لم يبتتن فحسب. (كذلك) أي: كما يبين لكم ما ذكر (يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) أي: تتدبرون.

خلاصة أحكام المطلقات

خلاصة أحكام المطلقات هنا فائدة من روائع البيان للصابوني نختم بها الكلام فيما يتعلق بحكم المطلقة قبل الدخول، فأحكام المطلقات ذكرتها الآيات وذكرت أنواعهن، وهن كالآتي: الأولى: مطلقة مدخول بها مسمىً لها المهر، ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها أن عدتها ثلاثة قروء، ولا يسترد منها شيء من المهر، فقال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)، فهذا هو الدليل على أن المدخول بها المسمى لها المهر عدتها إذا طلقت ثلاثة قروء، ولها المهر لا يسترد منها شيء من المهر، والدليل: ((وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)). الثانية: مطلقة غير مدخول بها ولا مسمى لها المهر، فهذه ذكر الله سبحانه وتعالى حكمها أنه ليس لها مهر وليس عليها عدة، وإنما لها المتعة بالمعروف؛ لقوله تعالى: ((لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ))، وليس عليها عدة لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]، ولها المتعة لقوله تعالى: (ومتعوهن). الثالثة: مطلقة غير مدخول بها، أي: معقود عليها، لكن فرض لها المهر، فهذه لا عدة عليها، ولها نصف المهر، والدليل قوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]. الرابعة: مطلقة مدخول بها وغير مفروض لها المهر، ذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]، فهذه المطلقة المدخول بها يجب لها مهر المثل، وإذا كانت موطوءة بشبهة فيفرض لها مهر المثل، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى أن يثبت لها مهر المثل. وهل المتعة واجبة لكل مطلقة؟ دل قوله تعالى: ((وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)) على وجوب المتعة للمطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، وقد اختلف الفقهاء: هل المتعة واجبة لكل مطلقة؟ ذهب الحسن البصري إلى أنها واجبة لكل مطلقة؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]. وقال مالك: إنها مستحبة للجميع وليست واجبة؛ لقوله تعالى: ((حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)) وقوله: ((حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ))، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين. وذهب الجمهور -الحنفية والشافعية والحنابلة- إلى أنها واجبة للمطلقة التي لم يفرض لها مهر؛ لأن هذه هي التي قال الله في شأنها: (ومتعوهن)، وأما التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة، وهذا مروي عن ابن عمر وابن عباس وعلي رضي الله عنهم، ولعله يكون الأرجح وفيه الجمع بين الأدلة، والله أعلم. والحكم الأخير: ما معنى المتعة؟ وما هو قدرها؟ المتعة: ما يدفعه الزوج من مال أو كسوة لمطلقته إيناساً وإكراماً ودفعاً لوحشة الطلاق الذي وقع عليها، وتقديرها مفوض إلى الاجتهاد. قال مالك: ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها. وقال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً، وعلى المقتر مقنعة. وقال أبو حنيفة: أقلها درع وخمار وملحفة، ولا تزاد على نصف المهر. وقال أحمد: فيها درع وخمار بقدر ما تجوز فيه الصلاة، ونُقل عنه أنه قال: هي بقدر يسار الزوج وإعساره لقوله تعالى: (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)، وهي مقدره باجتهاد الحاكم، ولعل هذا الرأي الأخير أرجح، والله تعالى أعلم.

البقرة [243 - 252]

تفسير سورة البقرة [243 - 252]

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:243]. (ألم تر) بمعنى: ألم تعلم، والرؤية إما تكون رؤية بصرية، وإما أن تكون بمعنى الرؤيا العلمية، كقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] يعني: ألم تعلم، وكذلك هنا (ألم تر) يعني: ألم تعلم. (ألم ترى إلى الذين خرجوا) يعني: ممن تقدمكم من الأمم، خرجوا من ديارهم التي ألفوها لما وقع فيها مالا طاقة لهم به من الموت، وقع بهم كرب وبلاء، إما أنه الطاعون كما جاء في بعض الروايات، وإما أنهم دعوا إلى الخروج من ديارهم التي اعتادوا عليها وألفوها إلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، والأظهر أنهم دعوا إلى الخروج إلى الجهاد. ولفظة (ألم تر) قد تذكر لمن تقدم علمه بالفعل، وقد تذكر لمن لم يتقدم له علم بالفعل. فيمكن أن يكون المعنى ألم تعلم. ويمكن أن تقال لشخص علم بالفعل وقُصد من هذه الصياغة التعجب أو التعجيب، والتقرير والتذكير، كما تقول -مثلاً-: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟! ويكون قد علم ما يصنع فلان، لكن المقصود منه التعجب من فعله ومن حاله. فقوله عز وجل هنا: (ألم تر) تقال لمن تقدم علمه، فتكون للتعجيب والتقرير، كإخبار من يعرف التاريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه. وفعل (رأى) متعدٍّ أصلاً، ولا يحتاج إلى حرف الجر (إلى)، لكن لما ضمن الفعل معنى (تنظر) عدي بـ (إلى)، يعني: ألم تنظر إلى، وفائدة استعارته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له. (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) ألوف في العدد جمع ألفٍ، أو ألوف جمع آلف، كشاهد جمعها شهود، كذلك (وهم ألوف)، وهذا قول آخر، بمعنى أنهم خرجوا وهم مؤتلفون، لم يدفعهم إلى الخروج من ديارهم أنهم كانوا متقاتلين فيما بينهم أو متناحرين أو متخاصمين، إنما كانوا مؤتلفين. فقوله تعالى: (وهم ألوف) إما أن يكون في العدد جمع ألف، أو: وهم ألوف مؤتلفون ومجتمعون جمع آلف بالمد كشاهد وشهود. أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم وخصام، ولكن حذر الموت، و (حذر) مفعول له، أي: فراراً من الموت.

قدرة الله تعالى على الإماتة والإحياء

قدرة الله تعالى على الإماتة والإحياء قوله تعالى: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) كان يمكن أن يقول الله تبارك وتعالى: فأماتهم الله بدل قوله: (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم)، وإنما جيء به على هذا التركيب للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد لأمر الله ومشيئته، وتلك مشيئة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف، فلذلك قال: (فقال) ولم يقل: (فأماتهم) إنما قال: (فقال لهم الله موتوا) يعني: ماتوا في الحال في وقت واحد أجمعين. كأنهم أمروا بالموت فامتثلوه في الحال دون توقف ودون إباء أو اعتراض، فلذلك أتى بهذه الصيغة كي يبين قدرته تبارك وتعالى ومشيئته التي لا راد لها، قال لهم الله: موتوا. فماتوا في الحال! وهذا كقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. (ثم أحياهم) هذا عطف بـ (ثم) إما على مقدر يستدعيه المقام، والمعنى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا فماتوا ثم أحياهم، فتكون (أحياهم) معطوفة على (فماتوا). وحذف قوله: (فماتوا) للدلالة على الاستغناء عن ذكره، فإنه لا أن يتخلف مراد الله تبارك وتعالى عن إرادته، فالله أراد منهم أن يموتوا، فلا يتخلف أبداً مراد الله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلما قال لهم: موتوا كان لابد أن يموتوا كما أراد الله، وقد ماتوا بالفعل، ولشدة اليقين بوقوع هذا المراد من الله سبحانه وتعالى لم يذكر (فماتوا)؛ لأن هذا واقع ولابد، لاستحالة عدم وقوعه، فاستغني عن ذكره باستحالة عدم وقوع مراد الله. أو تكون (ثم أحياهم) معطوفة على (قال) (فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) والتقدير: (قال ثم أحياهم)، فهي معطوفة على (قال) فهذه فعل ماض وهذه فعلٌ ماض.

فضل الله تعالى على الناس

فضل الله تعالى على الناس قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} قاطبة بما في ذلك أولئك الذين قال لهم الله: موتوا ثم أحياهم، فتفضل الله عليهم بذلك ليعتبروا بما جرى عليهم من قدرة الله سبحانه وتعالى في إماتتهم ثم إحيائهم، فيعتبروا بهذه العبرة فيفوزوا بالسعادة. وأما الناس الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضل على الجميع ليشكروه. (إن الله لذو فضل على الناس) هؤلاء الذين أماتهم ثم أحياهم وكل من يسمع قصتهم أيضاً الله ذو فضل عليهم لما هداهم إليه من الاعتبار والاستبصار بقصتهم. فتفضل الله على الجميع ليشكروه {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243] يعني: لا يشكرون فضله كما ينبغي.

الحث على الجهاد

الحث على الجهاد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فكأنها ذكرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله). ومعلوم أن سورة البقرة نزلت في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة، وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأُمِر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وقص لهم من الأنباء ما فيه باعث لهم على الجهاد، وتبشير لهم بالفوز والعاقبة وإن كانوا في قلة وضعف، حتى لو كانوا في قلة وضعف فلا يمنعنهم ذلك من الخروج في سبيل الله، ما داموا مستمسكين بحبل الوثاق والصبر والمصابرة، وما قص الله من حوادث الإسرائيليين كان معروفاً في الجملة؛ لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة.

الحكمة من ذكر القصص في القرآن

الحكمة من ذكر القصص في القرآن قال الدهلوي ولي الله في الفوز الكبير: واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله -يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى- كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة ما قرع سمعهم، وهذا من مقاصد القرآن، تذكر القصص كي تكون عبرة للجميع. وذكر لهم إجمالاً قصص قوم نوح وعاد وثمود، وكانت العرب تتلقى هذه القصص أباً عن جد، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل، فإنها كانت مألوفة عند العرب، مألوفة لأسماعهم؛ لأنهم كانوا يخالطون اليهود العرب في قرون كثيرة. وانتزع من القصص المشهورة ما ينفع في تذكرهم، ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها، والحكمة في ذلك أن القرآن الكريم لو سرد تفاصيل القصص وتفاصيل كل الأحداث التي تتعلق بهذه القصص فإن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو سمعوا الخصوصيات يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر والاعتبار الذي هو الغرض الأصلي هنا. فإذا ذكرت القصة كلها من أولها إلى آخرها بجميع ما يتعلق بها من أحداث ووقائع، فالناس ينجرون إلى متابعة تسلسل الأحداث، وينبهرون به، وينجذبون إليه، ويفوتهم الاعتبار، فلذلك القرآن الكريم ما ذكر كل تفاصيل قصصهم، وإنما ذكر ما ينفعهم لأجل الاعتبار. وهذا يظهر لنا إذا قارنا بين كثير من قصص القرآن الكريم وبين نفس القصص إذا ذكرت في التوراة مثلاً، فنجد القصص في التوراة موجودة بتفاصيل عجيبة جداً، وتفاصيل كثيرة جداً، بما في ذلك الأسماء، ومواقع البلاد، وأنواع الضيوف، والطيور وغير ذلك من تفاصيل وخصوصيات القصة، أما القرآن الكريم فحذراً وتجنباً لما يحصل من العوام، لأنهم إذا سمعوا القصص بجميع خصوصياتها وتفصيلاتها يميلون إلى هذه الخصوصيات وتسلسلها، وينسون وينشغلون عن موضع العبرة، مع أن العبرة والاعتبار والتذكر هو الغرض الأصلي من سردها، فيذكر الله من القصة في القرآن. ونظير هذا الكلام في موضوع القصص ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة! ولذلك ينبغي أن ينتبه الإنسان إذا درس علم التجويد ألا يلبس عليه الشيطان بأن يصرف كل همه إلى مراعاة قواعد التجويد ومخارج الحروف دون الاعتبار بالمعاني.

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم)

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) قال تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] من المخاطبون هنا في قوله: (وقاتلوا)؟ إما أن يكون المخاطبون هم الذين أماتهم الله ثم أحياهم، فبعدما أحياهم أمرهم قائلاً: (وقاتلوا في سبيل الله)، وإما أن يكون الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون المقصود تحذيرهم، أي: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فلا ينفعكم الهرب، ولكن قاتلوا في سبيل الله إذا استنفرتم إلى الجهاد. قال المفسرون: في إتباع القصة المتقدمة الأمر بالقتال دليل على أنها سيقت بعثاً على الجهاد، فحرض على الجهاد بعد الإعلام بأن الفرار من الموت لا يغني، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]. وقوله: (سبيل الله) السبيل أصلاً هو الطريق، سميت المجاهدة سبيلاً إلى الله تعالى من حيث إن الإنسان يسلكها ويتوصل إلى الله بها ليتمكن من إظهار عبادته تعالى ونشر الدعوة إلى توحيده وحماية أهلها والمدافعة عن الحق وأهله. فالجهاد سبيل الله لأنه يحمي الحق وينشره في ربوع الأرض، والقتال في سبيل الله شرع لإزالة الضرر العام، والضرر العام هو منع الحق وتأييد الشرك، فالجهاد هو لإزالة هذا المانع. وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244] باعث على صدق النية والإخلاص، (سميع عليم) سميع لأقوالكم عليم بأحوالكم وضمائركم. فهذا حث على أن يكون الجهاد في سبيل الله لا رياء ولا سمعة ولا لطلب الغنيمة، كما في الصحيحين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]. هذا حث من الله تعالى لعباده على الصدقة، وهذه الآية مكررة في الكتاب الكريم في أكثر من موضع، يقول القرطبي: (من ذا الذي يقرض الله) طلب القرض في هذه الآية هو تقريب للناس بما يفهمون، هذا هو الأسلوب الذي يفهم به الناس، وهذا نوع من البساطة في التعبير حتى يفهموا عن الله سبحانه وتعالى آياته، والله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، لكنه تعالى شبه إعطاء المؤمنين وإنفاقهم في الدنيا بالقرض، كما شبه إعطاء النفوس والأموال في طلب الجنة بالبيع والشراء كما يأتي في سورة براءة، وكنى الله سبحانه وتعالى عن الفقير بنفسه العلية المنزهة عن الحاجات ترغيباً في الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع والعطشان بنفسه المقدسة كما في الحديث المعروف. وأشير هنا إلى أن قوله سبحانه وتعالى: (من ذا الذي يقرض الله) لا نفهم منه كما فهم اليهود -لعنهم الله- حينما قالوا: (إن الله فقير ونحن أغنياء) يسخرون من القرآن الكريم، فقالوا: الله -سبحانه وتعالى- يستقرضنا ويسألنا القرض، فالله فقير ونحن أغنياء. وقد علم ما رد الله سبحانه وتعالى عليهم في مقالتهم الشنيعة هذه. ففي حديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!)، إذاً معنى قله: (مرضت فلم تعدن)، أنك لو أتيته لنلت ثواب عيادة المريض. (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! قال: استسقاك -سألك سقيا الماء- عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟!). فمن نفس هذا الباب جاء قوله تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا))، فهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كني عنه ترغيباً لمن خوطب به. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله! وإن الله يريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح. قال: أرني يدك يا رسول الله! فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وكان له حائط فيه ستمائة نخلة، وفيه أم الدحداح وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح! قالت: لبيك. قال: اخرجي؛ فقد أقرضته ربي عز وجل. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رب عرق لـ أبي الدحداح مدلل في الجنة)، وفي رواية: (كم من عذق رداح في الجنة لـ أبي الدحداح). قوله تعالى: ((مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)) يعني: طيبة به نفسه بغير من ولا أذى، (فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)، وهذا كقوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]. ولما رغب رهب، فرغب أولاً في إقراضه سبحانه وتعالى بهذه الآية، ثم أتبعه جملة مرهبة مرغبة فقال: ((وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ)) أي: يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على من يشاء. وما دام الذي يبسط ويقبض والذي يوسع ويضيق الرزق هو الله سبحانه وتعالى إذاً فلا تبخلوا بما وسع عليكم؛ لئلا يبدل الله سبحانه وتعالى السعة التي أودعها فيكم بالتضييق. ((وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) يعني: يوم القيامة فيجازيكم. قال المهايمي: وكيف ينكر بسط الله وقبضه وهو الذي يعطي الفقير الملك ويسلبه من أهله الملوك الذين هم سلالة الملوك وأبناء الملوك؟! فالله سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، فالملك الذي هو سبط الملوك ومن سلالتهم يمنعه الله الملك ويؤتيه للفقير! وهو أيضاً سبحانه وتعالى يقوي الضعفاء في الجمع القليل ويضعف الأقوياء في الجمع الكثير، فلا ينكر هذا، وهذا تمهيد بين يدي هذه القصة التي حكاها الله سبحانه وتعالى عن الملأ من بني إسرائيل، حيث آتى طالوت الملك مع أنه لم يكن من سبط الملوك ولم يكن من سلالة الملوك، وأيضاً نصر جنوده الذي كان فيهم داود عليه السلام على قوم جالوت رغم قلة عَدَدِهم وعُدَدِهم بالنسبة إليهم.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (أم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف)

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (أم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) يقول السيوطي رحمه الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [البقرة:243] استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده، يعني: ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف أربعة يعني إما أربعة آلاف، أو ثمانية، أو عشرة آلاف، أو ثلاثون، أو أربعون أو سبعون ألفاً، كلها أقوال. (حذر الموت) هذا مفعول له، وهم قوم من بني إسرائيل وقع الطاعون ببلادهم ففروا، وهذا الذي قاله السيوطي مرجوح، والأرجح أنه دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا من وجه عدوهم حذر الموت، وهذا القول أقرب، ويشير إليه قوله تعالى: {وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] فخافوا القتال مع كثرة عددهم، فالفرار من الطاعون لا يستدعي الإشارة إلى أنهم ألوف، بل الذي يستدعي الإشارة إلى أنهم كانوا ألوفاً هو دعوتهم إلى القتال. (فقال الله لهم موتوا ثم أحياهم) ماتوا ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل، فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت. وقوله: (عليهم أثر الموت) هذه المبالغة لا دليل عليها؛ لأنه يقول: عاشوا دهراً بعدما أحيوا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن! واستمرت في أسباطهم، وهذا القول -كما ترى- حكاه السيوطي بغير دليل، فلا ينبغي التعويل عليه. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:243] ومن هذا الفضل إحياء هؤلاء، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [البقرة:243] وهم الكفار {لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243]. والقصد من ذكر خبر هؤلاء تشجيع المؤمنين على القتال، ولذا عطف عليه {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:244] أي: لإعلاء دينه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة:244] لأقوالكم {عَلِيمٌ} [البقرة:244] بأحوالكم فيجازيكم. {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} [البقرة:245] يعني: بإنفاق ماله في سبيل الله {قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] يعني: بأن ينفقه لله عز وجل عن طيب قلب -كما ذكرنا- بغير من ولا أذى، {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245]، وفي قراءة أخرى: (فيُضعِّفه له). {أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245] من عشرة إلى أكثر من سبعمائة. {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} [البقرة:245] أي: يمسك الرزق عمن يشاء ابتلاء {وَيَبْسُطُ} [البقرة:245] تقرأ بالصاد أو السين، أي: يعطيه لمن يشاء سبحانه. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245] يعني: في الآخرة بالبعث فيجازيكم بأعمالكم.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل) قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]. (ألم تر إلى الملأ) الملأ هم القوم ذوو الشارة والتجمع. (من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم) نكر اسم هذا النبي، فلم يقل: لنبيهم أو النبي وإنما قال: (لنبي لهم)؛ لعدم وجود مقتض لتعريفه، ولن نستفيد شيئاً إذا عرفنا اسمه، والذي يفيدنا هو العبرة، وزعم الكتابيون أنه (سموائيل). (ابعث لنا ملكاً) أي: أقم لنا أميراً. (نقاتل) أي: معه وعن أمره، فيقودنا ويأمرنا بالجهاد وينظمنا في الجهاد. (في سبيل الله) وذلك حين ظهرت العمالقة قوم جالوت على كثير من أرضهم. (قال هل عسيتم) يعني: قال لهم نبيهم لما قالوا له ذلك: (هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا)، والمعنى: أنا أتوقع أنكم أناس غير جادين في هذا الطلب، فأتوقع منكم أنكم لا تقاتلون، فهذا مجرد كلام منكم. فأراد أن يقول: (هل عسيتم أن لا تقاتلوا) بمعنى: أنا أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل (هل) مستفهماً عما هو متوقع عنده ومضمون، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن؛ لأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] يعني: (قد أتى) فهو تقرير، وفي (عسيتم) قراءة أخرى بكسر السين سبعية. (قالوا وما لنا أن لا نقاتل) يعني: أي سبب لنا في ترك قتال عدونا أن لا نقاتل في سبيل الله؟ (وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) أي: والحال أنه قد عرض ما يوجب القتال إيجاباً قوياً مِنْ أخذ بلادنا وسبي أولادنا. (فلما كتب عليهم القتال) يعني: بعد إلحاحهم (تولوا) أي: أعرضوا عن قتال عدوهم جبناً، (إلا قليلاً منهم) من المؤمنين. (والله عليم بالظالمين) وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وترك الجهاد عصياناً لأمره تعالى. وثمرة هذه الآية الكريمة أنها دلت على جملة من الأحكام: الأول: وجوب الجهاد؛ لأن الله تعالى إنما ذكر هذه القصة المشهورة في بني إسرائيل وما نالهم تحذيراً من سلوك طريقهم، ولأن شرائع من قبلنا تلزمنا. الثاني: أن الأمير يحتاج إليه في أمر الجهاد لتدبير أمورهم، لذلك قالوا لنبيهم: (ابعث لنا ملكاً) أي: أميراً يأمرنا، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أمر عليها أميراً، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، وفي رواية: (إذا كان ثلاثة في سفر). الثالث: مما تدل عليه الآية: وجوب طاعة الأمير في أمر السياسة وتدبير الحرب؛ لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، وقد ذكر أهل علم المعاملة أنه ينبغي في الأسفار أن يجعل أهل السفر لهم أميراً ودليلاً وإماماً، وهذا محمود؛ إذ بذلك ينقطع الجدال، وينتظم أمرهم، ويلزم مثل هذا في كل أمر يحتاج فيه إلى ترداد في الآراء نحو أمور الأوقاف والمساجد والإمامة لكل مسجد ونحو هذا. قال الحاكم: وفيه دلالة على أن للأنبياء تشديد العهود والمواثيق فيما يلزمهم، ووجه ذلك أنه قال: ((هَلْ عَسَيْتُمْ))، وهذا نوع من التأكيد عليهم، وكذا يأتي في الإمام قياس ما ذكر الحاكم في النبي، وكذلك أن الإمام أو الخليفة ينبغي له أن يجدد عهده مع جنده على السمع والطاعة، ويؤكد مواثيقهم معه.

تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا)

تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً) قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]، هذا شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال، إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم، يعني: قال لهم بعدما أوحي إليه ما أوحي: ((إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)) يعني: ملَّكه عليكم، فانتهوا في تدبير الحرب إلى أمره، وكان طالوت من سبط لم يكن الملك فيهم، وطالوت اسم أعجمي كـ جالوت وداود؛ لذلك لم ينصرف، وإن كان بعض العلماء زعم أنه اسمٌ عربي مأخوذ من الطول، لما وصف به من البسطة في الجسم؛ لكن هذا البناء ليس من أبنية العرب، فمنع صرفهُ؛ للعلمية وشبه العجمة، وقد زعم الكتابيون أنه المعروف عندهم: بـ شاءول. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] ثلاث جرائم، جريمة إثر جريمة -لعنهم الله- فهذا اعتراض على نبيهم؛ بل على الله تعالى بعدما أوحى الله إليه ما أوحى؛ لأن نبيهم لا يتكلم لهم من قبل نفسه، وإنما بالوحي، وهذه هي عادة القوم في سوء الأدب مع الأنبياء ومع الله عز وجل، قالوا: ((أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا)) يعني: كيف يكون له الملك علينا ((وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))؟! يعني: لأن فينا من هو من سلالة الملوك الذين توارثوا الملك، وهذا ليس من أبناء الملوك، قال الحرالي: فثنوا اعتراضهم، يعني: هم أولاً اعترضوا فقالوا: ((أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا))، ثم ثنوا بجريمة ثانية فقالوا: ((وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))، فافتخروا بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم، فكان فيهم حظ من فخر إبليس حيث قال حين أُمر بالسجود لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، وهؤلاء أيضاً قالوا: ((وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))، قال الحرالي: وثلثوا جرائمهم بقولهم: ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ))، فهذا كما عبر عنه بعض العلماء: استصنام للمال، جعلوا المال صنماً يعبد: ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ))، فصار لهذا الملك مانعان من استحقاق الملك في نظرهم: الأول: أنه ليس من سبط الملوك. الثاني: أنه مملق، أي: فقير ليس عنده مال، والملك لا بد له من مال يعتضد به. قال الحرالي: فكان في هذه الثالثة -يعني قولهم: ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)) -: استصنام المال -أي: اتخاذ المال صنماً يعبد- وأنه مما يقام به الملك، وإنما الملك بإيتاء الله، وليس بالمال، فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم. {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] لما استبعدوا تملكه بسقوط نسبه وفقره رد عليهم أن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فهذا هو الجواب الأول على باطلهم وهو: أن ملاك الأمر إنما هو اصطفاء الله تعالى وقد اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم. ثانياً: أن العمدة في الملك وفور العلم، ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، وبسطة البدن؛ ليعظم خطره في القلوب، ويقدر على مقاومة الأعداء، ومكابدة الحروب، وقد خصه الله تعالى منهما بحظ وافر، فالله الذي آتاه الملك، زاده بسطة في العلم والجسم، فصار في غاية الوفرة من القوة العلمية، والقوة العملية، التي هي أساس القائد والأمير. {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:247] يعني: من غير إرث ولا مال، إذ لا يشترط على الله تعالى شيء، فهو الفعال لما يريد، فلا رادَّ لحكمه، ولا معقب لقضائه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]؛ وليس لأحد أن يشترط على الله شروطاً، فيقول: يشترط في الملك أن يكون من سلالة كذا أو من سبط الملوك أو يشترط أن يكون ذا مال، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يصطفي، وهو الذي يؤتي الملك، فهو الذي اصطفاه عليكم، وهو الذي زاده بسطة في مؤهلات الملك، فزاده بسطة في العلم والجسم (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} فهو الفعال لما يريد، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247] أي: يوسع على الفقير ويغنيه، وهو يعلم من يليق به الملك ممن لا يليق به، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، يعني: لم يقل تعالى: (والله يؤتي ملكه من يشاء وهو واسع عليم) وإنما قال: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]، فكرر لفظ الجلالة لتربية المهابة في قلوبهم من الله سبحانه وتعالى. وثمرة هذه الآية: أن النبوة والإمامة لا تستحق بالإرث، وأن الحِرف الدنيئة لا تمنع الغنى والسيادة؛ لأنه روي أن طالوت كان دباغاً أو سقاءً مع فقره. وتدل هذه الآيات على أنه يشترط في الأمير ونحوه القوة على ما تولى، فيكون سليماً من الآفات، عالماً بما يحتاج إليه؛ لأن الله تعالى ذكر البسطة في العلم والجسم؛ رداً على ما اعتبروه، فدائماً يشير القرآن إلى مؤهلات الإمامة، وهي: القوة العلمية والعملية كما في قوله تبارك وتعالى حاكياً عن يوسف على السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وكذلك في قوله تبارك وتعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45]، وكذلك في قول بنت الرجل الصالح: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ)) يعني: الجماعة ((مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)) أي: من بعد موت موسى، يعني: ألم ينته علمك إلى قصتهم وخبرهم؟ ((إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ)) هو شمويل، وأحياناً يقولون: صاموئيل ((ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا)) أي: أقم لنا ملكاً ((نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: نقاتل معه في سبيل الله، يعني: تنتظم به كلمتنا، ونرجع إليه. ((قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ)) قال النبي لهم: (هل عسيتم) بالفتح والكسر، ((إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)) والاستفهام لتقرير التوقع بها يعني: أنا أتوقع منكم جبنكم هذا ما قاله لهم نبيهم ((قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)) يعني: بسبيهم وقتلهم، وقد فعل بهم ذلك قوم جالوت، أي: لا مانع منه مع وجود مقتضيه، يعني: لا يوجد مانع، وفي نفس الوقت المقتضي موجود، فيجب أن يوجد الفعل وهو القتال، قال تعالى: ((فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ)) لما فرض عليهم القتال ((تَوَلَّوْا)) عنه وجبنوا ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) وهم الذين عبروا النهر مع طالوت كما سيأتي إن شاء الله ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) فمجازيهم. وسأل النبي -أي: المذكور في الآية السابقة- ربه إرسال ملك، فأجابه إلى إرسال طالوت: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى)) يعني: كيف ((يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ))؛ لأنه ليس من سبط المملكة ولا النبوة، وكان دباغاً أو راعياً ((وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)) يعني: يستعين بها على إقامة الملك ((قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ)) قال النبي لهم: (إن الله اصطفاه عليكم) أي: اختاره للملك ((وَزَادَهُ بَسْطَةً)) أي: سعة، بالسين والصاد ((فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)) وكان أعلم بني إسرائيل يومئذ، وأجملهم وأتمهم خلقاً {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} إيتاءه، لا اعتراض عليه، ((وَاللَّهُ وَاسِعٌ)) أي: فضله ((عَلِيمٌ)) بمن هو أهل له.

تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت)

تفسير قوله تعالى: (وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت) قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248] يعني: لما طلبوا منه آية على ملكه، قال: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة:248] يعني: الصندوق، يقول السيوطي: كان فيه صور الأنبياء أنزله الله على آدم إلخ هذه من المآخذ الشديدة على السيوطي في تفسير الجلالين، وهي التساهل في سرد مثل هذه الإسرائيليات بلا سند وبلا دليل، كما سبق أن أشرنا إلى قوله رحمه الله تعالى في قوله تبارك وتعالى: ((فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)) حيث قال: فعاشوا دهراً عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن! ما الدليل على هذا؟ أيضاً قال السيوطي هنا: إن التابوت -وهو الصندوق- كان فيه صور الأنبياء أنزله الله على آدم واستمر إليهم فغلبتهم العمالقة عليه، وأخذوه، وكانوا يستفتحون به على عدوهم، ويقدمونه في القتال ويسكنون إليه! وقد رد القاضي كنعان على قول السيوطي: كان فيه صور الأنبياء، فقال: لقد تساهل السيوطي رحمه الله في هذا من غير دليل، ثم إن قوله هذا مخالف لإخباره تعالى عما في التابوت؛ لأن الله ما قال: فيه صور الأنبياء، وإنما قال: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:248]، وأيضاً ففي تصوير الأنبياء بعد وغرابة، بالإضافة إلى أن حكم التصوير في الشرائع السابقة غير معلوم لدينا، فلنقف عند حدود ما أخبر الله تعالى به، ولنترك المبالغة؛ فإنها غير محمودة. وهذه الملاحظات أنتم مسئولون عنها في التفسير؛ حتى لا تعتمد كلام السيوطي فيها، فتذكر الكلام الأصح. {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:248] يقول: (فيه سكينة) أي: طمأنينة لقلوبكم {مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة:248] أي: تركاهما، وهي نعلا موسى، وعصاه، وعمامة هارون، وقفيز من المنّ الذي كان ينزل عليهم، ورضاض من الألواح يعني: فتات من الألواح {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248] هذا حال من فاعل يأتيكم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ} [البقرة:248] يعني: على ملكه {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248]، فحملته الملائكة بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت؛ فأقروا بملكه وتسارعوا إلى الجهاد، فاختار من شبابهم سبعين ألفاً. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ)) أي: إن علامة أن ملكه من الله تعالى ((أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ)) أن يرد الله إليكم التابوت الذي أخذ منكم، وهو صندوق التوراة: ((فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)) فيه وقار وجلال وهيبة، أو فيه سكون نفوس بني إسرائيل، يتقوون به على الحرب، (وبقية) أي: جملة مما ذهب جلها ((مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ)) يعني: من آثارهم الفاضلة. ((تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ)) أي: في رد التابوت إليكم، ((لَآيَةً لَكُمْ)) لعلامة لكم على أنه ملكه الله ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: بآيات الله وأنبيائه. قال البقاعي رحمه الله: التابوت -والله أعلم- الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات، ويسمى تابوت الشهادة، وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم، ويتقدمون به أمام الجيش، فيكون ذلك سبب انتصارهم، وكان العمالقة أصحاب جالوت قد أخذوه منهم في جملة ما أخذوا من نفائسهم، وقد ذكرهم بمآثره ترغيباً فيه وحملاً لهم على قبول قيادة طالوت لهم، قال: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

تفسير قوله تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود)

تفسير قوله تعالى: (فلما فصل طالوت بالجنود) ثم قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249] أي: فلما التقى الجيشان قال لهم طالوت: ((إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)) وهذا فيه إشعار بأنه محذور تناوله ولو مع الطعام؛ فمنعهم من تناوله كشراب، ومنعهم أيضاً من تناوله ولو مع الطعام. ثم قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) من اغترف غرفة واحدة فلا يخرج عن كونه مني؛ لأنه في معنى من لم يشربه، وبلا شك فإن هذا امتحان وابتلاء شديد؛ ليميز الله سبحانه وتعالى الخبيث من الطيب الذي ينقاد لشرع الله، وبلا شك أن الذي يغترف غرفة ففتنته أشد مع شدة الحر، فعند أن يتناول غرفة واحدة من الماء، يكون شوقه إلى المزيد أكثر. وفي قراءة: (إلا من اغترف غَرْفةً بيده) يعني: أي غرفة سواء كانت قليلة أو كثيرة، أما على قراءة: (غُرفة بيده) فهي إعلام بملئها. ((فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) يعني: شربوا منه إلى حد الارتواء، ولم يكتفوا بغرفة واحدة، وإنما شربوا وتمادوا في الشرب إلى حد الارتواء، قال تعالى: ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) لم يشربوا إلا بما أذن الله تعالى. ((فَلَمَّا جَاوَزَهُ)) الهاء تعود على النَّهر أو النهَر ((فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ))، المشار إليه طالوت ((وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) الذين شربوا غرفة واحدة أو لم يشربوا، ((قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)) فقد سلبت شجاعتهم، يظنون هنا بمعنى: يوقنون. ((قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ)) أي: أنهم يرجعون إليه بعد الموت، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((فَلَمَّا فَصَلَ)) أي: خرج طالوت بالجنود من بيت المقدس، وكان الحر شديداً، وطلبوا منه الماء (قال إن الله مبتليكم) أي: مختبركم (بنهر) يعني: ليظهر المطيع منكم والعاصي، وهذا النهر هو: النهر الذي بين الأردن وفلسطين: ((فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)) من مائه؛ لأن النهر المقصود به ماء النهر؛ لأن النهر هو الأخدود نفسه. ((فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)) أي: من مائه ((فَلَيْسَ مِنِّي)) أي: من أتباعي ((وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ)) يعني: يتركه ((فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) بالضم أو بالفتح غُرفة أو غَرفة بيده، فاكتفى بها ولم يزد عليها فإنه مني ((فَشَرِبُوا مِنْهُ)) يعني: لما وافوه شربوا بكثرة ((إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)) فاقتصروا على الغرفة التي اغترفها كل واحد منهم كما تقدم، روي أنها كفتهم لشربهم ودوابهم، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، وهذه الحكاية ضعيفة جداً. ((فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) الذين اقتصروا على الغرفة، ((قَالُوا))، أي: الذين شربوا ((لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ)) يعني: لا قوة ((لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)) أي: بقتالهم، وجبنوا ولم يجاوزوه. (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يوقنون ((أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ)) أي: بالبعث، وهم الذين جاوزوه، (كم) بمعنى: كثير ((كَمْ مِنْ فِئَةٍ)) أي: جماعة ((قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بإرادته، ((وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) أي: بالعون والنصح.

تفسير قوله تعالى: (ولما بروزا لجالوت وجنوده)

تفسير قوله تعالى: (ولما بروزا لجالوت وجنوده) ثم قال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250] أي: ظهروا لقتالهم وتصافوا يعني: وقفوا صفوفاً {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا} [البقرة:250] أفرغ أي: أصبب {عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250] بتقوية قلوبنا على الجهاد، {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:250 - 251] أي: كسروهم بإذن الله وبإرادته: {وَقَتَلَ دَاوُدُ} داود كان في عسكر طالوت، وهذا خير دليل على أن داود بعد موسى عليه السلام؛ لأن في صدر القصة ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)) قال الله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:251] الهاء تعود إلى داود عليه السلام ((وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)) آتاه الله الملك في بني إسرائيل، (والحكمة) أي: النبوة بعد موت شمويل وطالوت، ولم يجتمعا لأحد قبله أي: الملك والنبوة لم يجتمعا معاً لأحد قبل داود عليه السلام. {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251] كصنعة الدروع. {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] هذا بدل بعض من الناس {لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251] بغلبة المشركين، وقتل المسلمين، وتخريب المساجد {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] وسنة التدافع من سنن الله سبحانه وتعالى، يدفع الناس بعضهم ببعض؛ كي لا تفسد الأرض.

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] أي: هذه الآيات (آيات الله نتلوها) أي: نقصها، (عليك) يا محمد صلى الله عليه وسلم {بِالْحَقِّ} [البقرة:252] أي: بالصدق {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] التأكيد بإن وغيرها ردٌّ لقول الكفار له صلى الله عليه وسلم: (لست مرسلاً) فالله سبحانه وتعالى يحامي عنه ويقول: ((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ))، يشهد له بصدق رسالته صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده)

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَلَمَّا بَرَزُوا)) أي: ظهروا ((لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) أي: صبه علينا، حتى نثبت لقتالهم فلا نجزع للجراحات، وإنما طلبوه أولاً؛ لأنه ملاك الأمر: ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا)) أي: في ميدان الحرب، فلا نهرب منه ((وَانْصُرْنَا)) أي: لأننا مؤمنون بك، ((عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) أي: بك، وهم: جالوت وجنوده، وهذه الآية تدل على أن من حَزَبَهُ أمرٌ فإنه ينبغي له سؤال المعونة والتوفيق من الله والانقطاع إليه تبارك وتعالى. ونلاحظ في سياق هذه الآيات وصف طالوت وجنوده بأنهم معسكر الإيمان، ووصف جالوت وجنوده بأنهم معسكر الكفر؛ ولذلك قال هنا: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250]، وجالوت وجنوده هم العمالقة الفلسطينيون الذين كانوا كافرين في ذلك الوقت، فانظر كيف يجعل القرآن مقياس الولاء والبراء هو الإيمان أو الكفر، ليست الجنسية أو الوطنية أو القومية، فتجد هنا أن القرآن يربينا على الولاء للمؤمنين أياً كانوا، وعلى شريعة أي نبي، ما داموا تابعين له على الإسلام، فهؤلاء الذين كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام كانوا مسلمين موحدين، أما جالوت وجنوده مع أنهم كانوا فلسطينيين فقد كانوا كافرين، ولا شك أن الفلسطينيين مسلمون اليوم، أما اليهود فهم أخبث أعداء الله سبحانه وتعالى، وأكفر خلق الله، فينبغي أن يدور الإنسان مع القرآن حيث دار، فالولاء والبراء على أساس الإيمان والكفر، لا على أساس الانتماء للوطن. قال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251] (فهزموهم) أي: هؤلاء القليلون هزموا أولئك الكثيرين (بإذن الله) أي: بنصره، إذ شجع القليلين وجبن الكثيرين (وقتل داود) وكان داود في جيش طالوت (جالوت) الذي كان رأس الأقوياء، (وآتاه الله الملك) أي: أعطى الله داود ملك بني إسرائيل (والحكمة) أي: الفهم والنبوة (وعلمه مما يشاء) من صناعة الدروع وغيرها. ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ)) الذين هم أهل الشر (ببعض) من أهل الخير، أي: بغلبة الكفار، وظهور الشرك والمعاصي كما قال تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40] {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] أي: مَنَّ عليهم بالدفع، فالله سبحانه يدفع عن الضعفاء فساد الأقوياء بالسيف. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة:252] أي: تلك المذكورات من إماتة الألوف وإحيائهم وتمليك طالوت وإتيان التابوت، وانهزام جالوت، وقتل داود إياه وتملكه؛ آيات الله؛ إذ هي أخباره بالمغيبات، وتدل على كمال قدرته سبحانه وحكمته. ((نَتْلُوهَا عَلَيْكَ)) أي: ينزل عليك جبريل بها ((بِالْحَقِّ)) أي: اليقين الذي لا يرتاب فيه ((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) بما دلّت عليه هذه الآيات من علمك بها من غير مُعلِّم من البشر، ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر. وفي هذه القصص معتبر لهذه الأمة في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة، كما أن فيها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين، كأنه يقال له: لقد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخلاف عليهم والرد لقولهم، فلا يعظمنَّ عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك؛ لأنك مثلهم، وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة، ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والطوع لا على سبيل الإكراه، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم، والوبال في ذلك يرجع عليهم. ((وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)) هي كالتنبيه على ذلك، فستجري عليك السنة التي جرت على إخوانك السابقين من المرسلين.

قصة طالوت وجالوت في التوراة

قصة طالوت وجالوت في التوراة يقول القاسمي رحمه الله تعالى: هذه القصة مسوقة في الإصحاح السابع عشر من سفر صاموئيل الأول، ولا حرج في تلاوة هذه الإسرائيليات التي تكون موافقة لما عندنا، جاء في هذا السفر في التوراة: وجمع الفلسطينيون جيوشهم للحرب، فاجتمعوا في (سوكاه) التي ليهوذا ونزلوا بين (سوكيا) و (هريقاء) في (آكفيدميل)، واجتمع شاءول ورجال إسرائيل ونزلوا في وادي البطن، واصطفوا للقاء الفلسطينيين، وكان الفلسطينيون وقوفاً على جبل من هنا، وإسرائيل وقوفاً على جبل من هناك، والوادي بينهم، فخرج مبارز من جيوش الفلسطينيين اسمه جليات من (جتا)، طوله ستة أذرع وشبر -يعني: ثلاثة أمتار تقريباً؛ لذلك كانوا يسمون العماليق- وعلى رأسه خوذة من نحاس، وكان لابساً درعاً وزنه خمسة آلاف شاقل، وجرموق نحاس، ورمحه ستمائة شاقل حديد، وحامل الترس كان يمشي قدامه، فوقف ونادى صفوف إسرائيل وقال لهم: لماذا تخرجون لتصطفوا للحرب، أما أنا الفلسطيني وأنتم عبيد لـ شاءول؟ اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إليّ، فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيداً، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيداً وتخدموننا، وقال الفلسطينيّ: أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم، أعطوني رجلاً سنتحارب معاً -تلاحظون الفرق الشاسع بين أسلوب القرآن وبلاغته وبين هذا الكلام! وأنا أظن أن النسبة إلى فلسطين ليست فلسطيني، بل فلسطي- ولما سمع شاءول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني هذا ارتاعوا وخافوا جداً، وداود هو ابن ذلك الرجل الأفراتي من بيت لحم يهوذا الذي اسمه يفتى، وله ثمانية بنين، وقد شاق وكبر بين الناس، وذهب بنو يفتى الثلاثة الكبار، وتبعوا شاءول إلى الحرب، وأسماء بنيه الثلاثة الذين ذهبوا إلى الحرب: إليائاب -وهو البكر- وأبينا دابو وشمتو، وداود هو الصغير، والثلاثة الكبار ذهبوا وراء شاءول، وأما داود فكان يذهب ويرجع من شاءول ليرعى غنم أبيه في بيت لحم، وكان الفلسطيني يتقدم ويقف صباحاً ومساءً أربعين يوماً، وكان شاءول هو وجميع رجال إسرائيل في وادي البطن يحاربون الفلسطينيين، فبكَّر داود صباحاً وترك الغنم مع حارس، وحمل وذهب كما أمره يفتى إلى الجيش خارج إلى الحرب، واصطف الإسرائيليون والفلسطينيون صفاً مقابل صف، فقال رجل من إسرائيل: أرأيتم هذا الرجل الصاعد، ليعير إسرائيل، فيكون الرجل الذي يقتله يغنيه الملك، ويعطيه بنته، ويجعل بيت أبيه حراً في إسرائيل، فكلم داود الرجال الواقفين معه قائلاً: ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل؟ ومن هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعير صفوف الله الحي؟ فكلمه الشعب مثل هذا الكلام قائلين: كذا يفعل بالرجل الذي يقتل، يعني: يثاب بكذا وكذا. وسمع أخوه الأكبر إليائاب كلامه مع الرجال فحمي غضبه على داود وقال: لماذا نزلت؟ فقال داود: ماذا عملت الآن؟ أما هو كلام؟ -يعني: أنا ما شاركت في الحرب، وما خالفت كلام أبي، لكن أنا الآن أتكلم-، فتحول من عنده نحو آخر وتكلم بمثل هذا الكلام، فرد له الشعب جواباً كالجواب الأول، وسمع الكلام الذي تكلم به داود وأخبروا به أمام شاءول فاستحضره، فقال داود: عبدك يذهب ويحارب هذا الفلسطيني، فقال شاءول لداود: لا تستطيع أن تذهب إلى هذا الفلسطيني فهو رجل حرب منذ صباه، فقال داود لـ شاءول: كان عبدك يرعى لأبيه غنماً فجاء أسد مع دب -يعني: أراد أن يقيم له الدليل على أنه شجاع وأنه يستطيع القتال- وأخذ شاة من القطيع فذهبت وراءه، ولما قام عليّ أمسكته من ذقنه وضربته فقتلته، قتل عبدك الأسد والدب جميعاً، وهذا الفلسطيني الأغلف يكون لواحد منهما ليرى صفوف الله الحي، وقال داود: الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني، فقال شاءول لداود: اذهب وليكن الرب معك. وألبس شاءول داود ثيابه، وجعل خوذة من نحاس على رأسه، وألبسه درعاً، فتقلد داود ذلك ولم يكن من قبل قد جرب، فقال داود لـ شاءول: لا أقدر أن أمشي بهذه لأني لم أجربها، ونزعها داود عنه -أي: خلع الدرع، لأنه لا يستطيع أن يمشي بها- وأخذ عصاه، وانتقى له خمسة حجارة ملساء من الوادي، وجعلها في كنف الرعاء الذي له -أي: في الجراب-، ومقلاعه بيده، ليتقدم نحو الفلسطيني، ولما نظر الفلسطيني ورأى داود استحقره؛ لأنه كان غلاماً أشقر جميل المنظر، فقال الفلسطيني لداود: ألعلي أنا كلب حتى تأتي إليّ بعصا؟! ولعن الفلسطيني داود! وقال الفلسطيني لداود: تعال إليّ لأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية، فقال داود للفلسطيني: أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم، هذا اليوم يحبسك الرب في يدي، فأقتلك وأقطع رأسك وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل، وتعلم هذه الجماعات كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب؛ لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا، وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني، ومد داود يده إلى الكنف وأخرج منه حجراً، ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته، فارتز الحجر في جبهته، وسقط على وجهه إلى الأرض فتمكن داود من الفلسطيني بالمقلاع والحجر، وضرب الفلسطيني وقتله، ولم يكن سيف بيد داود، فركض داود ووقف على الفلسطيني وأخذ سيفه واخترطه من غمده -يعني أخذ سيف جالوت - وقطع به رأسه، فلما رأى الفلسطينيون أن جبارهم قد مات هربوا، فقام رجال إسرائيل ويهوذا وهتفوا ولحقوا الفلسطينيين إلى الوادي وحتى أبواب عقرون إلى آخر القصة. تلاحظون الفرق الشاسع بين القرآن الكريم والتوراة، والقرآن لا يذكر كل هذه التفاصيل، ويكتفي بذكر موضع العبرة.

البقرة [253 - 256]

تفسير سورة البقرة [253 - 256]

تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)

تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]. قوله تعالى: (تلك الرسل) تلك: مبتدأ، والرسل: صفة، والخبر: (فضلنا بعضهم على بعض) يعني: بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)) كموسى، ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ)) أي: محمداً صلى الله عليه وسلم (درجات) يعني: رفعه على غيره درجات، بعموم الدعوة والنبوة، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة، والخصائص العديدة. وهذا فيه إشارة إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة). وليست هذه الخمس فقط هي خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي كثيرة جداً، وقد خصها بعض الأئمة بعلم مستقل من علوم الدين يسمى: الخصائص النبوية، وأشهر ما ألف في ذلك وأقدمه: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض، والخصائص الكبرى للسيوطي، وظهر مؤخراً مختصر لأحد العلماء، وقد حقق أحاديثه بعمل جيد، فهذا علم مستقل من علوم الدين وهو معرفة خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تكلمت هذه المصنفات على مئات الخصائص، وأيضاً الغماري له كتاب في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ)) أي: قويناه ((بِرُوحِ الْقُدُسِ)) يعني: الروح المقدسة وهو جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار. ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ)) يعني: لو شاء الله أن يهدي الناس جميعاً ((مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)) من بعد الرسل من أممهم ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ))؛ لاختلافهم، وتضليل بعضهم بعضاً، ((وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا))؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك ((فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ)) أي: ثبت على إيمانه ((وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)) دعوى المسيح ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)) هذا تأكيد، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) يعني: من توفيق من شاء، وخذلان من شاء.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) قوله تبارك تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم، وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، وقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، فهذه الآيات توضح ما أجمله في قوله: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ))، فبينت آيات أخر أن ممن كلم الله موسى عليه السلام. وقال ابن كثير: (منهم من كلم الله) موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه. قال مقيدة -أي: الشنقيطي - عفا الله عنه: تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبنيه قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] وأمثالها من الآيات، فإنه ظاهر بأنه غير واسطة الملك، وإنما كان تكليماً مباشراً من الله سبحانه وتعالى. ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها بذلك، يعني: الله سبحانه وتعالى كلم آدم عليه السلام، وآدم بلغ حواء كما قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة:35]، فالتكليف لآدم. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ))، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مرسل هو؟ فقال: (نعم، نبيٌّ مكلم)، فهذا يدل على دخول آدم عليه السلام في قوله تعالى: ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)) يعني: بلا واسطة. قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى عليه السلام. وقال ابن جرير: لأن آدم كان هو النبي أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنياً -وهو الرسول- بقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة:38] أي: رسل. وقد وصف نوح عليه السلام بأنه أول رسول في حديث الشفاعة: (فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]، وهذا يشكل على ما تقدم أن آدم رسول! والظاهر: أنه لا طريق للجمع بين هذه النصوص إلا من وجهين: آن آدم أرسل لزوجه في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدل على هذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة ففيه: (ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) فمفهومه: أن آدم عليه السلام أول رسول من الله إلى زوجه حواء في الجنة، وليس رسولاً إلى أهل الأرض، فلا تعارض، فقوله: (إلى أهل الأرض) لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشواً، لكن المقصود به الاحتراز عن رسالة آدم إلى زوجه في الجنة كما ذكرناه، ويستأنس له بكلام ابن عطية الذي ذكرناه سابقاً عند حديث: (نعم، نبي مكلم)، قال ابن عطية: وقد تأوّل بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا يبقى التكليم خاصية لموسى عليه السلام. أما الوجه الثاني للجمع فهو أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل إلى قوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} [يونس:19] يعني: كانوا على الدين الحنيف حتى كفر قوم نوح، وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} [البقرة:213] إلى آخر الآية. وقوله تعالى: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، فبلا شك أن من أعظم خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم عموم رسالته إلى البشر كافة، وهو الرسول الوحيد الذي بعث إلى الناس كافة، أما من قبله فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. وأشار أيضاً في مواضع أخر إلى أن من هؤلاء الذين رفعهم الله درجات إبراهيم عليه السلام كقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وإن كانت الخلة ليست خاصة لإبراهيم عليه السلام، فقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، ومن ذلك قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار في موضع آخر إلى أن من هؤلاء الأنبياء الذين فضَّلهم الله، ورفعهم درجات داود عليه السلام في قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55]. وأشار أيضاً إلى أن منهم إدريس عليه السلام في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]. وأشار إلى أن منهم عيسى لقوله: ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)).

حكم التفضيل بين الرسل وذكر أفضلهم

حكم التفضيل بين الرسل وذكر أفضلهم في قوله تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) إشكال قوي معروف، وجهه أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصعقون -أو يُصعقون- يوم القيامة فأكون من أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)، فهنا يخبر في الحديث بقوله: (لا تخيروني على موسى) يعني: لا تقولوا: أنا خيرٌ من موسى عليه السلام، وفي رواية: (لا تفضلوا بين أنبياء الله)، وفي رواية: (لا تخيروني من بين الأنبياء). قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء، ولا تفضلوا بين أنبياء الله) أي: لا تقولوا: فلان خيرٌ من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل. يعني: يحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن التفضيل كما في هذا الحديث، وكما في قوله أيضاً: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) قبل أن يوحى إليه بتفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين كقوله مثلاً: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ولا فخر). الثاني: أن هذا قاله من باب هضم النفس فقال: (لا تخيروا بين أنبياء الله). الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاتم يعني: في هذه الحال بالذات ينهى عن وقوع المفاضلة فيها؛ لأن سبب ورود الحديث: أن رجلاً يهودياً قال: والذي اصطفى موسى على العالمين! فغضب المسلم ولطمه منكراً عليه؛ لأن الله اصطفى محمداً عليه الصلاة والسلام على العالمين. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به. واختار القرطبي أن منع التفضيل إنما هو في خصوص النبوة، يعني: في أصل النبوة لا تفاضل، وإنما يحصل التفاضل في أمور أخر زائدة على النبوة، وجوز القرطبي التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات، فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص -التي هي الخصائص- والألطاف والمعجزات المتباينة، أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما يتفاضلوا بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلاً، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، وهذا قول حسن فيه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ. وقد أشار ابن عباس إلى هذا المعنى فقال: إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم -يا ابن عباس - فضله على أهل السماء؟! فقال: إن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29]، وهذا في حق الملائكة، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، فأرسله إلى الجن والإنس. وأشار أيضاً القاسمي إلى بعض الفوائد التي تتعلق بهذه الآية: ((تِلْكَ الرُّسُلُ)) فيقول: هذه إشارة إلى من ذكر منهم في سورة البقرة، أو تلك الرسل المعلومة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) بأن خص بمنقبة ليست لغيره ((مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)) هذا تفصيل للتفضيل، أي: منهم من فضَّله الله بأن كلمه من غير واسطة، وهو موسى عليه السلام، ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) يعني: كإبراهيم اتخذه الله خليلاً، وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك. والظاهر أنه أراد بقوله تعالى: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المفضل عليهم؛ حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثر المرتقية إلى ألف آية أو أكثر، ولو لم يؤت صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على مرِّ الدهر دون سائر المعجزات، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لقوله: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)) فاكتفى بهذا عن أن يقول: إنه محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا فيه زيادة تعظيم وتفخيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا فيه شهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس بغيره، فمن شدة تميزه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء لم يكن هناك داع للتصريح باسمه؛ بل قال تعالى: ((وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ))، على أساس أن هذا معروف فلا يحتاج للتنصيص على اسمه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، كما يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم. ويريد به الذي عرف واشتهر بتلك الأفعال، مثل رجل يستطيع رفع أوزان ثقيلة جداً، وهو معروف في وسط مجموعة من الناس، فتقول: من رفع هذه الأثقال؟ فيقول: أحدهم أو أحدكم أو بعضكم، وهو معروف أنه لا يفعله إلا هذا، فيكون الإيهام وعدم التصريح أفخم من التصريح به، كما سئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث؟ يعني: بذلك نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي. لم يفخم أمره، فلو صرح لكان أضعف من أن يقول: لو شئت لذكرت الثالث، فكأن الثالث هذا معروف، وليس محتاجاً أن يذكر أنه متمكن من الشعر. قالوا: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم. وقوله: ((وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ)) كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ((وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)) وهو جبريل عليه السلام. قوله تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني: من بعد الرسل؛ لاختلافهم في الدين، وتشعُّب مناهجهم، وتكفير بعضهم بعضاً ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)).

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ))، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال، (مما) من هنا: تبعيضية، يعني: من بعض ما رزقناكم، قيل: وهو أمر إيجاب، وإذا كان الأمر هنا على سبيل الإيجاب فالمراد بالنفقة الزكاة، والذي يرجح ويؤكد ويقوي القول بأن المراد هنا: النفقة الواجبة؛ الوعيد الذي عقب الله سبحانه وتعالى أمره بالنفقة هنا فقد قال: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) فوصف مانع هذه النفقة بالكفر والظلم، وهذا الوعيد يدل على أنه أراد النفقة الواجبة، وليس نفقة التطوع. فقوله: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، عنى بهم مانعوها، فالمقصود بالكافرين هنا: مانعوا الزكاة. وقال الأصم وأبو علي: أراد النفقة في الجهاد. وقال أبو مسلم وابن جريج: أراد الفرض والنفل، وهو المتجه، يعني: أن المقصود بالنفقة الواجبة والنافلة. ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ)) وهو يوم القيامة ((لا بَيْعٌ فِيهِ)) لأن الإنسان ما دام السوق قائماً يستطيع أن يبيع، فعن طريق هذا البساط التجاري يستطيع أن يحصل مالاً في الدنيا ينفع به نفسه، أما في الآخرة فيقول تعالى: ((لا بَيْعٌ فِيهِ)) يعني: لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب، فالإنسان في الدنيا يبيع ويشتري فيحصل على المال، وهذا المال إما أن ينفقه في سبيل الله وإما أن يفتدي به، أما في الآخرة فلا يستطيع أن يبيع، ولا يستطيع أن ينفق، فإذا قصر في النفقة في الدنيا لا يستطيع أن يفتدي بماله نفسه في الآخرة؛ لأنه لا بيع فيها، (ولا خلة) يعني: لا صداقة تنفع، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، والمتقون لا يمنعون الزكاة. ((وَلا شَفَاعَةٌ)) فلا تتكلوا على شفعاء {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]، وهذا الاستثناء لا بد منه؛ لأن النفي هنا ليس لمطلق الشفاعة يعني: ليست كل الشفاعات منتفية في الآخرة كما هو معلوم من مقتضى الجمع بين هذه الآية وغيرها من النصوص في القرآن أو في السنة التي تثبت أن هناك شفاعة مشروطة بأن تكون بإذن الله تبارك وتعالى كما سيأتي. ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) الكافرون هنا المراد بهم تاركوا الزكاة، وهذا الأسلوب معروف في القرآن، وله نظير في فريضة الحج قال سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] فعبر عن تارك الحج بالكفر؛ لأن هذا من فعل الكفار، وقال الله في الزكاة أيضاً في سورة فصلت: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]. إذاً: قوله: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، واستعمال لفظة (الكافرون) بدل (التاركون الزكاة) للتغليظ في هذه المعصية وللتهديد كما في قوله تعالى في آخر آية الحج: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] ولم يقل: ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين، فآثر لفظة: (من كفر) على من لم يحج، للتغليظ ولبيان أن ترك الزكاة من صفات الكفار، ويحتمل أن يكون المعنى: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) أي: لأنفسهم لوضع الأموال في غير مواضعها، فلا تكونوا -أيها المؤمنون- مثلهم في عدم الإنفاق فتضعون أموالكم في غير مواضعها. وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها بهجوم ما يمنع منها من مرض أو غيره. يوم القيامة هو يوم الموقف الأكبر، لكن كل إنسان منا له يوم القيامة موقف خاص به، وله ساعة وله يوم آخر نسبي، وهي لحظة موته التي بها يبتدئ رحلته إلى اليوم الآخر، فبمجرد خروج روحك فأنت تنتقل من الدنيا إلى الدار الآخرة؛ فلذلك ينبغي أن ننفق: كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:10 - 11]، وقال هنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. قال السيوطي: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ)) زكاته ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ)) فداء ((فِيهِ وَلا خُلَّةٌ)) يعني: صداقة تنفع ((وَلا شَفَاعَةٌ)) يعني: بغير إذنه وهو يوم القيامة، وفي قراءة بنصب الثلاثة: (من قبل أن يأتي يوم لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ). ((وَالْكَافِرُونَ)) أي: بالله أو بما فرض عليهم، ((هُمُ الظَّالِمُونَ)) لوضعهم أمر الله في غير محله.

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم)

تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) قال تبارك وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]. ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) أي: لا معبود بحق في الوجود إلا هو، فإن كلمة (الإله) تطلق على الإله الحق والإله الباطل، وهناك أدلة من القرآن تدل على أن هناك آلهة باطلة، كقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً} [مريم:81]، وقوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود:101]، قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على الإله الحق والإله الباطل، فالشيطان (إله) لكن إله باطل، والدليل قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60]، والطاغوت هو الشيطان، وقال تعالى: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه:97] وهو عجل السامري، وفي السنة حديث معروف يدل على أن المال إله يعبد: (تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالآلهة الباطلة كثيرة جداً لا تنتهي ولا تنحصر، ومنها ما يعبد برضاه، ومنها ما لا يعبد برضاه، ومنها ما لا يشعر كالأحجار والأصنام، والمسيح عيسى عليه السلام إله باطل عبده النصارى زوراً؛ وكذلك عزير عليه السلام عبده اليهود، وهما بريئان بلا شك من هذا؛ كذلك الأولياء والصالحون قد يعبدون بعد موتهم، وهم غير راضين عن هذا، أما الآلهة التي عبدت من دون الله وهي راضية فإنها تكون في النار يوم القيامة. إذاً: نحن لا نقدر: (موجود) في خبر لا التي للجنس في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فلا نقول: التقدير لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة كثيرة باطلة غير الله، لكن نقول: لا إله حق إلا الله، يعني: لا إله يعبد بحق إلا الله سبحانه وتعالى، أما كل إله دون الله عز وجل فهو إله باطل، ويجب أن تكفر به. يقول السيوطي هنا رحمه الله تعالى: (الله لا إله) أي: لا معبود بحق في الوجود (إلا هو الحي) أي: الدائم البقاء (القيوم) المبالغ في القيام بتدبير خلقه. ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ)) أي: نعاس ((وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) ملكاً وخلقاً وعبيداً. ((مَنْ ذَا الَّذِي)) يعني: لا أحد ((يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) يعني: إلا بإذنه له فيها، فلا تكون شفاعة إلا بأن يأذن الله لمن يشفع في هذه الشفاعة ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) أي: الخلق ((وَمَا خَلْفَهُمْ)) أي: من أمر الدنيا والآخرة ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)) أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته ((إِلَّا بِمَا شَاءَ)) يعني: إلا بما شاء أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل. ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) قيل: أحاط علمه بهما، وهذا القول ضعيف، وقيل: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)) أي: ملكه، وقيل: الكرسي نفسه مشتمل عليهما لعظمته، لحديث: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) يقول القاضي كنعان: هذا حديث موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يوجد مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وأخرج الآجري وأبو حاتم البستي في صحيحه والبيهقي وذكر أنه صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما السماوات السبع! في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في صحراء) يعني: صحراء شاسعة مترامية الأطراف، ألقيت فيها حلقة صغيرة، فكل السماوات السبع بما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في أرض فلاة، قال: (وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) يعني: النسبة بين العرش وبين الكرسي كالنسبة بين الكرسي وبين السماوات السبع، فالعرش غير الكرسي وأعظم منه، وبعض العلماء قالوا: إن الكرسي هو العرش، لكن هذا الحديث يثبت أن العرش غير الكرسي، وهو أعظم منه، وهذا هو الصحيح، وذهب بعضهم إلى أن العرش هو الكرسي، وعلى هذا القول مشى الجلالان في هذا التفسير، وقد نبهنا على ذلك في مواضعه.

تفسير القاسمي لآية الكرسي

تفسير القاسمي لآية الكرسي يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ)) أي: الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء (القيوم) أي: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم. وهذه الآية تثبت أن الله سبحانه وتعالى لا يغفل أبداً عن تدبير أمر هذا الكون كله، لكن هذا بطريق الالتزام المقتضي عدم الغفلة التي يتنزه الله عنها، وقد أكد ذلك بالنص الصريح فقال: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))، فهذا تأكيد لقيوميته؛ لأنه لا يكون قيوماً من كان يغفل عن تدبير مصالحه، فالله لا يغفل أبداً، وبالتالي لا تأخذه النعاس ولا النوم. و (السِّنَة) على وزن عِدَة، وهي شدة النوم أو أوله أو النعاس، قال المهايمي: السنة فتور يتقدم النوم، الفتور الذي يكون في أول مبادئ النوم هو السنة، ثم يكون النوم الذي هو أعمق، وهو: حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه تمنع الحواس الظاهرة من الإحساس. والسنة والنوم على هذا منقصان للحياة، ومنافيان للقيومية؛ لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم، ونفى النوم أولاً التزاماً، ثم نفاه تصريحاً بقوله: ((الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، فإنه يلزم من حياته وقيوميته أنه لا يغفل أبداً سبحانه وتعالى، ثم صرح فقال: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) وهذا النفي يدل على ثبوت كمال ما ينافيه. ومن كمال قيوميته اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليها بقوله: ((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ)) يعني: من الملائكة والشمس والقمر والكواكب ((وَمَا فِي الأَرْضِ)) يعني: من العوالم المشاهدات، وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:93 - 94]. قوله: ((مَنْ ذَا)) يعني: مَن مِن الأنبياء أو من مِن الملائكة فضلاً عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام؟! يعني: إذا كان الأنبياء والملائكة أنفسهم لا يملكون شفاعة إلا بإذن الله، فكيف تزعمون أنتم -أيها الكافرون الذين خاطبهم القرآن- أن أصنامكم وآلهتكم تملك الشفاعة من دون الله؟! الأنبياء والملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن الله. وإذا كان هنا نفي هذا النوع من الشفاعة، فبالأولى أن فيها نفياً لأن يقاوم الله سبحانه وتعالى أحد أو أن يناصبه أو يبطل إرادته. ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ)) أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه يعني: بتمكينه تحقيقاً للعبودية كما قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وهذا من جلاله وكبريائه عز وجل، فلا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام: (آتي تحت العرش -يعني: لا يشفع مباشرة- فأخر ساجداً فيدعني الله ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع -صلى الله عليه وسلم- قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة)، وقال له أبو هريرة: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت -يا أبا هريرة - ألا يسألني عن هذا الحديث أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فهذه الشفاعة هي لأهل الإخلاص والتوحيد بإذن الله، ولا تكون أبداً لمن أشرك بالله. المشركون يدعون لآلهتهم الشفاعة، وهم ليسوا بموحدين ولا مخلصين، فبالتالي ليسوا من أهل هذه الشفاعة. قوله: (يعلم ما بين أيديهم) يعني: ما عملوه بالفعل من أمور الدنيا أو مما يخصهم. ((وَمَا خَلْفَهُمْ)) يعني: ما حجب عنهم ولم يعلموه؛ لأن الخلف هو ما لا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم، وهو محيط بعملهم فيما علموا وما لم يعلموا، فهذه الجملة كقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام:73]، فقوله: ((يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) هو الشهادة، وقوله: ((وَمَا خَلْفَهُمْ)) هو الغيب. وقوله: ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)) أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلاً على نبوته. روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الكرسي: العلم. وقوله: ((وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)) يعني: لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض، كما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف:89]، فأخبر أن علمه وسع كل شيء فكذلك قوله: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)). قال ابن جرير: وقول ابن عباس هذا يدل على صحة قول من قال: إن العلماء هم الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني: أنهم الذين تصلح بهم الأرض، ومنه قوله الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب يعني: بذلك علمه في حوادث الأمور ونوالها، وروى ابن جرير أيضاً عن الحسن: أن الكرسي في الآية: هو العرش، وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيها مترادفان؛ ولذلك قال تعالى على لسان سليمان: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، يقول: فالعرش والكرسي هما شيء واحد.

تنبيه مهم في طبعة تفسير القاسمي

تنبيه مهم في طبعة تفسير القاسمي الغماري صوفي، وعليه ملاحظات شديدة ليست هينة، وعنده بدع غليظة، وهو ليس سلفياً، بل يحارب السلفية -سامحه الله وعفا عنه-، لكن مع ذلك لما ذكر نبذة عن التفاسير المشهورة المطبوعة ومنها تفسير القاسمي ذكر تعليقاً مهما جداً، فقال: إن الشخص الذي قام على أول طبعة لمحاسن التأويل للقاسمي كان شخصاً مخبولاً أو في عقله شيء! هكذا وصفه، ودلل على ذلك بأنه أتى إلى بعض المواضع التي لم تعجبه من كلام القاسمي فضرب عنها صفحاً وأضاف إليها كلاماً من عنده، وعلل ذلك بأن القاسمي إمام محقق لا يليق به أن يوجد هذا الكلام في كتابه، فحصل منه تحريف في الكتاب، وحرف بعض المواضع على خلاف ما ذكره القرطبي نفسه في المخطوطة الأصلية، وعلل استحلاله لهذا التحريف أن ابن القاسمي فوضه بأن يعدل ما يراه مناسباً، وقال له: إذا وجدت شيئاً لا يليق بمقام الوالد فلك أن تغيره! فنخشى أشد الخشية مما نالته يد هذا المعتدي؛ لأنا نجد القاسمي نفسه السلفي واضح جداً، وإذا قرأتم مقدمة هذا التفسير التي طبعت في الجزء الأول منه والتي سماها: تمهيد خطير في قواعد التفسير، نجد أن القاسمي ينتصر لمنهج السلف بكل وضوح، ولا يسلك أبداً مسلك الذي يمسك العصا من النصف؛ لكنه دائماً في قضايا العقيدة السلفية من الناس الواضحين جداً في هذا الباب، فيصعب جداً أن يكون كلام القاسمي الأصلي لهذه الآية التي ليس فيها إلا حكاية قولين، أنه اعتمد أن الكرسي هو العلم، وقول آخر أشار إليه عرضاً وهو: أن الكرسي هو العرش، ويبعد جداً أن القاسمي لا يذكر هذا وهو رجل مطلع على السنة، ومطلع على الأحاديث، وتغيب عنه الآثار التي دلت على أن الكرسي غير العرش وغير العلم. ويوجد هنا تعليق سأقرؤه عليكم لكي تعلموا أن هذا هو فعلاً الذي كان يليق بـ القاسمي، فالله أعلم من المسئول عن ترحيل هذا الجزء من أعلى إلى أسفل، من المتن إلى الحاشية، يقول المعلق: كان المؤلف رضي الله عنه فسر الكرسي بما يأتي: الكُرسي: -بالضم وبالكسر- السرير والعلم، كما في القاموس، قال الأزهري: والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره، وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم فقد أبطل، وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: الكرسي الذي يوضع تحت العرش إلى داخله، وبالفتح الكرسي هنا الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته، يقول: ثم إن المؤلف عدل عن ذلك إلى ما تراه. أي الكلام الأول: بأن الكرسي هو العلم، وأتى بمقولة: التراث والعلماء سلاطين الأرض إلى غير ذلك، والله أعلم من الذي عدل في الحقيقة؛ لكن أنا أحببت أن أنوه إلى هذا الأمر لئلا تغتروا بمثل هذا التأويل.

معنى قوله تعالى: (ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم)

معنى قوله تعالى: (ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) قوله تعالى: ((وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)) لا يثقله، ولا يشق عليه، يقال: آده الأمر أوداً وأووداً بلغ منه المجهود والمشقة، أي: لا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض، فلا يفتقر إلى شريك، ولا ولد، وكيف يشق عليه (وهو العلي العظيم)؟! قال ابن جرير في معنى (العلي): قال بعضهم: يعني بذلك علوه عن النظير والأشباه، تعالى أن يكون له نظير عن كذا، وقال آخرون: (العلي) على خلقه، بارتفاعه مكانه عن أماكن خلقه؛ لأنه تعالى فوق جميع خلقه، وخلقه دونه، كما وصف نفسه أنه على العرش، فهو عالٍ بذلك عليهم. (العظيم) أي: أعظم من كل شيء، ذو الجلال والكبرياء والفخر والقدرة والسلطان.

فضل آية الكرسي

فضل آية الكرسي آية الكرسي لها شأن عظيم، وفضل كبير، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أعظم آية في كتاب الله، وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم، والأحاديث كثيرة في فضل آية الكرسي، ويكفي فيها هذه الإشارة اختصاراً. فإن قلت: لم فضلت هذه الآية وورد في فضلها ما ورد؟ قلت -أي: في الجواب-: كما فضلت سورة الإخلاص وصارت ثلث القرآن، فضلت مثل هذه الآية وكانت أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت على صفة الرب تبارك وتعالى، ولاشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة، فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار، وكما أن القرآن أفضل ذكر؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، فإن أفضل ما يذكر الله به من هذا الذكر هو ما تمحض لذكر رب العزة سبحانه وتعالى. وفي القصة المعروفة لما كان يكرر الصحابي سورة الإخلاص في كل ركعة في الصلاة، وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سر ذلك فقال: (إني أحبها لأن فيها صفة الرب، قال: إن حبك إياها قد أدخلك الجنة، وإن الله يحبك بحبك إياها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وكذلك هنا: أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ لأنها تمحضت لذكر أعظم مذكور، وهو الله سبحانه وتعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، فهي إثبات للكمال ونفي للنقص.

تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) قال تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]. قال الله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) يعني: لا إكراه على الدخول فيه. وقد ذكر الإمام النحاس في ناسخه قولاً سديداً في معنى هذه الآية فقال: من العلماء من قال: هي منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام، وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا الإسلام فقال: (أمرت أن أقاتل الناس)، وقال بعض العلماء: ليست منسوخة، ولكنها نزلت في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون هم أهل الأوثان، إذ هم الذين نزل فيهم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} [التوبة:73]، واحتج لذلك: (بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تَسلمي؛ فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب، قال عمر: اللهم اشهد، ثم تلا: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، اللهم اشهد: يعني أني بلغتها، ودعوتها، فكانت الآية تعني: لا سبيل إلى إكراهها على الدخول في الدين. وممن قال: إنها مقصورة على اليهود والنصارى: ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجلي بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول بلا شك قول صحيح: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) يعني: لا يكره أحد على الدخول في الدين، فهذا إنما هو في اليهود والنصارى، وإلا فالمشركون لا يقبل منهم إلا الإسلام، ولذلك نلاحظ أن السيوف التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم تنوعت، فهناك سيف على المشركين، وسيف على أهل الكتاب، وسيف على أهل القبلة. أما سيف المشركين فهو قوله تعالى في سورة البراءة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا} أي: من الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]. أما السيف الذي على أهل الكتاب فهو المذكور في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. أما السيف الذي سُل على البغاة من أهل القبلة، فدليله في سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، والبغاة هم الذين يخرجون على الإمام المسلم بسبب تأويل فاسد كما هو معروف ومفصل في كتب الفقه. أما من أعلن قبوله للإسلام وشهد الشهادتين، ودخل في حكم الإسلام؛ فهذا لا يقال في حقه: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، فما دمت مسلماً فعليك إذاً أن تحترم قوانينه وشريعته ونظمه، فلا ينبغي لمسلم أعلن إسلامه وشهد الشهادتين أن يضيع الصلاة أو الزكاة -إن وجبت عليه- أو الحج أو غير ذلك من واجبات الدين، ويقول: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))! لا يجوز له أن يعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، فإن هذا لغير المسلم. أما المسلم فيجب عليه أن يحترم نظم هذا الدين وقوانينه وشريعته، وإن كان هذا لا تعتمده القوانين الوضعية، وأي دولة إذا أراد أحد رعاياها أن يغير نظمها ودساتيرها وقوانينها يحاكمونه بتهمة الخيانة المتعمدة، وأقل ما يكون في حقه أن يقتل؛ لأنه خرج عن النظام أو يريد أن يغيره، وإذا كان هذا في القوانين الوضعية -ولا يعد هذا إكراهاً ولا سبيلاً إلى أن يقولوا: لا إكراه في هذا- فكيف بدين الله سبحانه وتعالى؟! فمن دخل في هذا الدين يجب عليه أن يحترم شريعته، وألا يحيد عنها، فلذلك لا ينبغي أبداً الرجوع في هذا إلى بشر فمثلاً: من تركت الحجاب لا يحتج لفعلها بقوله تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ))، تقال هذه الآية في حق يهودية أو نصرانية، أما المسلمة فينبغي أن تذكر بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فالإنسان عبد لله مقيد بأوامر الله عز وجل، ليس حراً في أن يبتدع ما شاء من الشرائع بعد أن أعلن انتماءه إلى الدين. {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} يعني: لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بينٌ واضح جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله إلى الإسلام وشرح صدره ونوره بصيرته دخل فيه على بينة، ومن عمي قلبه فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرهاً مغصوباً؛ فالنفي بمعنى: النهي، وهو ما ذهب إليه في تأويل الآية كثير من العلماء. ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) ظاهر الخبر النفي، ومعناه النهي، يعني: لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين. إذاً: ما الجواب عما هو مشهور عن بعض السلف من أنه قال: نحن خير الناس للناس، نسوقهم إلى الجنة بالسلاسل؟ هل هذا إكراه في الدين؟ هذا تفسيره أن المسلمين في حالة الجهاد مع الأعداء يحصل من نتائج المعركة أنهم يأسرون بعض الكفار، فيؤخذون بالسلاسل إلى ديار الإسلام؛ فإذا عاشوا وسط المسلمين ورأوا الإسلام مطبقاً، وأنصتوا لعقيدة التوحيد؛ فإنهم يدخلون في هذا الدين أفواجاً. فمن علم الله في قلبه منهم خيراً فتح قلبه وشرح صدره للإسلام، فتكون السلاسل هي التي قادته للدخول في الإسلام، وليس المقصود بذلك الإكراه على الدين.

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) قال القاسمي: لما بين الله تعالى دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً أخبر بعد ذلك بأنه لم يبق مع إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر، والإكراه لا يتنافى مع كون الدنيا دار ابتلاء. وبعض الناس ينخرفون في فهم آيات الله، ويخدعون الناس بأن الإسلام يقدس حرية الرأي، بمعنى: حرية الكفر! ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فيظنون أنها على التخيير، يعني: أنت حر، اكفر أو آمن؟! فهذه حرية شخصية! ليس هذا هو المقصود؛ لأن هذا فيه إبطال وإفساد لمعاني كلام الله، وإنما المقصود بهذا التهديد، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]، والدليل أنه قبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]، فلا يوجد تخيير بين الحق والباطل، وللأسف أن كبار الخطباء استدل على تقديس حرية الرأي في الإسلام بما وقع بين الله سبحانه وتعالى وبين إبليس، ويقولون: حتى إبليس قد أعطاه الله حرية الرأي!! وهذا في الحقيقة إفساد لمعاني القرآن، وهذا تأثر ذميم بهذه الأفكار الإلحادية التي تشيع الآن بين المسلمين في زمن الغربة، ولا ينجو منها إلا من أراد الله سلامته من هذه الفتن التي تحيط بنا من كل جانب، إلى هذا الحد يستدل على حرية الرأي بأن إبليس ترك الله له حرية الرأي ليعبر عما في نفسه! وهذه الآية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} انظر إلى قوله بعدها: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]؛ كذلك: ((اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) [فصلت:40] أي: فسوف تحاسبون. هذا المقصود، وليس معناها: التخيير والإباحة، وإلا كان هذا تحطيماً لدين الإسلام كله، لأنه يدخل في: (اعملوا ما شئتم): عبادة الأصنام، وشرب الخمر والفواحش وغير ذلك، وليس هناك قول يفسد الإسلام أكثر من هذا التأويل القبيح. فليعلم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين، وإنما لحماية الدعوة إلى الدين، والإذعان لسلطانه، والحكم بالعدل، فحكمة الجهاد إزالة الحواجز التي تعيق وصول الدعوة إلى عباد الله لإنقاذهم من النار، فهذا الذي فعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم وجزاهم عنا خيراً، فهم فتحوا البلاد، وتركوا الأوطان، وأنفقوا الأموال، وبذلوا النفس والنفيس، وأراقوا الدماء من أجل أن ينقذوا البشرية من الخلود في نار جهنم بالكفر -والعياذ بالله-؛ وذلك بالدخول في دين الإسلام، ويكفي أن هناك أصقاعاً وبلاداً ممتدة من أطراف الأرض كشرق آسيا كلها من الهند إلى الفلبين والصين ما فتحت بسيف واحد، وإنما فتحت بأناس انتدبوا أنفسهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكانوا يتقمصون أزياء التجار -كما يقول أحد الكتاب الأوروبيين- ويتاجرون ويتجهون إلى شرق آسيا، وكان الواحد منهم داعية في لباس تاجر، ليس هدفه التجارة؛ لكن الدعوة، فكان المسلم إذا نزل بلداً من البلدان يجتمع إليه الناس من حسن خلقه، ولما يستمعون من دعوته إلى التوحيد، وإصابة الحجج والبراهين وإبطال عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وكانوا بخلقهم وحسن مسلكهم أعظم سفراء للإسلام، وعلى أيديهم أسلمت أمم كاملة، فأغلب هذه البلاد ما استعمل السيف فيها أبداً، مثل إندونيسيا والفلبين والصين وغيرها من البلاد التي فيها ملايين المسلمين كماليزيا، وغيرها أيضاً ما دخلها الإسلام بالسيف أبداً، إنما بالخلق الحسن وبالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. المقصود من الجهاد هو إزالة الجيوش التي تقف عقبة في سبيل إيصال الحق إلى عباد الله عز وجل، فإذا زالت هذه العقبة فحينئذٍ يتعاملون مباشرة مع الشعوب، لماذا؟ لأن سنة الله سبحانه وتعالى التي ذكرها في القرآن الكريم لا تتخلف، وسنة الله أن الباطل خبيث ونجس لا يتغير ولا يتطهر أبداً شيء ثبت فيه، وهذه القاعدة التي أشير إليها هي قوله تبارك وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، فالباطل لا يعرف عهوداً ولا مواثيق ولا قوانين، ولا أخلاق ولا أعراف ولا دين، ولا حقوق إنسان ولا أي شيء، وفي الغرب عندهم مثل مشهور يقولون فيه: القوة هي الحق، لا يوجد شيء اسمه حق، لكن متى كانت معك العضلات والقوة فهذا هو الحق، افرض على الناس عقيدتك وباطلك وفسادك ما دامت القوة معك! فهذا المبدأ هو الذي عليه الكفار في كل بقاع الأرض وذيولهم وأحذيتهم، {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، ولا يستحيون، ولا يوجد عندهم أدنى قدر من الاستحياء حتى فيمن يحملوا أسماء المسلمين من هؤلاء الأنذال الذين يفنون أعمارهم ويوقفون حياتهم في الصد عن سبيل الله، وإعلان الحرب على الله ورسوله وعباد الله المؤمنين، وفتنتهم في دينهم، لعنهم الله وأخزاهم وقصم ظهورهم! فالمقصود: ما أكره أحد على الدخول في دين الإسلام أبداً، لكن من دخل في الدين فإنه يكره على احترامه؛ لأن هذه شريعته وهذا نظامه. قوله تعالى: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ)) أي: بالشيطان وبما يدعو إليه من عبادة الأوثان. ((وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ)) وحده، ((فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى))، والعروة الوثقى أحد أسماء كلمة النجاة كلمة الشهادة لا إله إلا الله، ولذلك يقول هنا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] أي: فقد تمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصل؛ فهي في نفسها محكمة، مبرمة قوية، ورأسها قوي شديد. روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال: رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأني في روضة خضراء، وسطها عمود حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه، فقلت: لا أستطيع، فجاءني منصف -أي: وصيف- فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة، واستيقظت وإنها لفي يدي، وعبد الله بن سلام كان من كبار أحبار اليهود، استيقظ وهو يمسك هذه العروة في يده، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال: (أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت). {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، هذا اعتراض تذليلي حامل على الإيمان، رادع عن الكفر والنفاق؛ لما فيه من الوعد والوعيد.

البقرة [257 - 263]

تفسير سورة البقرة [257 - 263]

تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور)

تفسير قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]. بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى شأن هذه الولاية، وكيف أنه يتولى عباده المؤمنين فيخرجهم من الظلمات؛ شرع تبارك وتعالى في ذكر نماذج من هدايته للمؤمنين، وتوليه عباده وأنبياءه بالنصرة والحجة والبرهان على مناوئيهم، فبدأ أولاً بذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود، فقال تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، فهذا أنموذج لولاية الله عز وجل لأوليائه بالنصرة والتأييد والحجة والبرهان. قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ))، هذه ألف التوكيد، وهي في الكلام بمعنى التعجب أي: اعجبوا من هذا الذي (حاج إبراهيم في ربه) أي: جادل إبراهيم في ربه. ((أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)) يعني: لأن الله آتاه الملك، فحمله بطره بنعمة الله على ذلك، وهو الملك الكافر نمرود، ولا شك أن في هذا التعبير إشارة إلى أن الملك فتنة على من أوتيه؛ ((أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ))، فبدل أن يحمد الله سبحانه وتعالى حملته هذه النعمة لما آتاه الله الملك على المحاجة في الله، وهذا أقبح وجوه الكفر في موضع ما يجب عليه من الشكر، كما تقول في شخص: عاداني فلان لأني أحسنت إليه! تريد أنه فعل عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان الذي صار إليه، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]، أهذا شكر نعمي ورزقي عليكم أنكم تكذبون بآياتي وبرسلي؟! وهذا من نفس هذا الباب، قال تبارك وتعالى هنا: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ))، فمع أن الله آتاه الملك، وأنعم عليه به، إلا أنه أبدل النعمة كفراناً وبطراً وكبراً. (إذْ) بدل من (حاجّ): ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ)) يعني: لما قال له النمرود: من ربك هذا الذي تدعونا إليه؟ ((قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)) يعني: يخلق الحياة والموت في الأجساد، كان المقصود بقوله هنا: (يحيي ويميت)، نفخ الروح في الجسم، وإخراجها منه بإذن الله تبارك وتعالى، فقال النمرود: ((قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)) يعني: بالقتل والعفو، ودعا برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، فظن أن هذا يعطيه حقاً أنه يحيي ويميت! فلما رآه إبراهيم عليه السلام غبياً لا يفهم ولا يعقل ولا يعرف أصول المناظرة، قال إبراهيم: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ))، فانتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أوضح منها، فقال له: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)). فهذا الطاغية سلك مسلك التلبيس والتمويه؛ وهذا يدل على جهله، ويتضح من الآيات: أن إبراهيم عليه السلام وصف ربه بالإحياء والإماتة قال: ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ))، لكن الإحياء والإماتة أمر له حقيقة وله مجاز، وإبراهيم عليه السلام قصد الحقيقة، بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدخل الروح في البدن فيحييها أو ينزعها منه ويخرجها فيميتها، فإبراهيم ما أراد إلا الحقيقة، أما النمرود فإنه فزع إلى المجاز وموه على قومه ((قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)) يقول: إني إذا أتيت برجلين فأقتل هذا فأكون أنا الذي قد أمته، وأعفو عن هذا، فأكون قد أحييته. فسلم له إبراهيم تسليم الجدل، وليس معنى ذلك أن إبراهيم عليه السلام ما استطاع أن يبطل حجته، إلا أنه لما رآه غبياً لا يعقل ولا يفهم انتقل إلى ما لا يستطيع أبداً أن يموه به على العوام، وانتقل معه من الخصام إلى أمر لا يحتمل إلا الحقيقة، ولا مجاز فيه على الإطلاق، فقال له: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)). فلما سلك الطاغية مسلك التلبيس والتمويه على الرعاع، وكان بطلان جوازه من الجلاء -الظهور- بحيث لا يخفى على أحد؛ لأن هذا الجواب الذي أجاب به هذا النمرود واضح في بطلانه بحيث لا يحتاج إلى جهد في إبطاله، فبطلانه يغني عن إبطاله، وسقوطه يغني عن إسقاطه، فما انشغل بالجواب عنه؛ لأن هذا تمويه حيث يقول: أنا أحيي وأميت بهذا المعنى، فكان التصدي لإسقاط كلامه من قبيل السعي في تحصيل الحاصل؛ لذلك انتقل إبراهيم عليه السلام إرسالاً لعنان المناظرة معه إلى حجة أخرى لا تجري فيها المغالطة، ولا يتيسر للطاغية أن يخرج عنها بمخرج المكابرة أو المشاغبة أو التلبيس على العوام. فقال إبراهيم عليه السلام: ((فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا)) أنت ((مِنَ الْمَغْرِبِ))، ولا شك أن من قدرته تبارك وتعالى أنه لا تقوم الساعة حتى يأتي الله سبحانه وتعالى بالشمس من المغرب، فهذه من علامات الساعة الكبرى، أن تطلع الشمس من المغرب؛ لأن الله وحده هو الذي يقدر على ذلك تبارك وتعالى. ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))، لما قال له: فائت بها من المغرب، يعني: إذا كنت كما تدعي تحيي وتميت، فالذي يحيى ويميت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته، وفي تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تطلع كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهاً كما ادعيت فائت بها من المغرب: ((فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ))، تحير ودهش وأرغم بالحجة، لما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا. ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) بالكفر إلى محجة الاحتجاج، أي: أن الله لا يهديهم إلى إقامة الحجة وإلى فهم الحجج والبراهين، وما يحتج به، فلا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:16].

تفسير قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها)

تفسير قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259] إلى آخر الآية. ((أَوْ كَالَّذِي)) يعني: أو رأيت كالذي، النموذج الأول هو قصة إبراهيم عليه السلام، فيها تعهد الله سبحانه وتعالى لأوليائه بأن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويؤيدهم بالحجة والبرهان، وهذا مثال آخر أيضاً فيه إخراج الله سبحانه وتعالى لأوليائه من ظلمات الحيرة والاشتباه إلى نور الحجة والبرهان. ((أَوْ كَالَّذِي)) الكاف زائدة، والمعنى: كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظلمات الاشتباه إلى نور العيان والشهود: ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ))، والقرية سميت قريةً لاجتماع الناس فيها، ومنه قولهم: قريت الماء، أي: جمعته، فالقرية سميت قرية لاجتماع الناس فيها. ((مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ)) يقول السيوطي هنا: هي بيت المقدس، وكان راكباً على حمار، ومعه سلة تين وقدح وعصير، وهو عزير عليه السلام، وقيل غيره، قال ابن كثير في تاريخه: المشهور أنه عزير نبي من أنبياء بني إسرائيل. ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا))، (وهي خاوية) أي: ساقطة (على عروشها) والعروش هي السقوف، وذلك لما خرب بختنصر بيت المقدس، وتلاحظون أن السيوطي رحمه الله أحياناً يعتمد على بعض الإسرائيليات، لكننا إذا وقفنا على ما أوقفنا الله عليه فلن يؤثر هذا بشيء، سواء صح أنها بيت المقدس أو غيرها؛ فهذا مما لم يتعرض الله سبحانه لبيانه صراحة. ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ)) هذا الوصف يبين مفهومه ما ذكره السيوطي بقوله: راكباً على حمار ومعه سلة تين وقدح وعصير، يعني: معه طعام وشراب، وكان راكباً على حمار، وهذا وفقاً لما يأتي من الآيات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال له: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ}، وقال له: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، (وهي خاوية) أي: ساقطة حيطانها، ومعنى ذلك أنها سقطت سقوفها، وبعدما سقطت السقوف سقطت الحيطان فوق السقوف، هذا معنى: (وهي خاوية) أي: ساقطة حيطانها على عروشها أي: سقوفها، لما خربها بختنصر. ((قَالَ أَنَّى يُحْيِي)) يعني: كيف يحيي ((هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)) استعظاماً لقدرة الله تبارك وتعالى. ((يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)) بأن يعمرها ويعيد أهلها إليها ويحييها بعد موتها. ((فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ)) يعني: أبقاه ميتاً مائة عام ثم بعثه، وكان إبقاؤه ميتاً مائة عام يكفي لأن يزول بدنه تماماً ويتلاشى، (ثم بعثه) جمع أجزاؤه بعد تفرقها، وبعث روحه إلى بدنه، قال بعض المفسرين: أنه أحيا سبحانه وتعالى جزءاً من بدنه ثم أراه باقي الأجزاء وهي تجتمع بعضها إلى بعض، وينفخ الله سبحانه وتعالى فيها الروح وهي الحياة. قال: (ثم بعثه) أي: أحياه ليريه كيفية ذلك، (قال كم لبثت) يعني: قال الله تبارك وتعالى له: ((كَمْ لَبِثْتَ))، قال بعض العلماء: إن الذي قال له ذلك هو جبريل أو سمع هاتفاً من السماء، لكن سياق الآيات يظهر أن القائل هو الله سبحانه وتعالى، والدليل قوله عز وجل بعد ذلك: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}، وهذه نون العظمة إشارة إلى أن الذي قال له هو الله سبحانه وتعالى: ((قَالَ كَمْ لَبِثْتَ)) أي: كم مكثت ميتاً؟ ((قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))، وقد قال أصحاب الكهف أيضاً: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، فالمقصود هنا: أنهم قالوا ذلك على سبيل التفكير أو التخمين أو استقصاراً للمدة، يقول السيوطي: لأنه نام أول النهار فقبض، وبعث عند الغروب، يعني أول يوم من موته كان في بداية النهار في الصباح، ثم أحيي بعد مائة سنة عند الغروب، وأول ما سئل: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً، لما ظن أن الشمس قد غربت، فلما رأى أن الشمس قد بقي عليها وقت يسير للغروب، وما زال القرص ظاهراً، استدرك فقال: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)). لأنه نام أول النهار فقبض وأحيي عند الغروب فظن أنه نفس اليوم، وهل هذا يعتبر كذباً؟ ليس كذباً، ولكنه إخبار بما عنده، كما لو سألتك مثلاً: هل أخوك في البيت؟ فأنت على حسب علمك أنه ليس في البيت قلت: ليس في البيت، وهو في الحقيقة في البيت، فليس هذا كذباً، وإذا أطلق عليه كذب فهو من حيث اللغة وليس من حيث الشرع الذي يستوجب الإثم، كقوله في الحديث: (كذب أبو السنابل) يعني: أخطأ، وكل إخبار بما يخالف الواقع فهو كذب، لكن من الكذب ما يأثم به صاحبه، ومنه لا يأثم به صاحبه، فإذا سمينا هذا القول منه: ((لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) كذباً؛ لأنه يخالف الحقيقة، فنقول: هذا كذب لا يأثم عليه؛ لأنه لا يقصد الإخبار بخلاف الحقيقة، وهو غير متعمد، وإنما يقوله تقديراً وتخميناً وإخباراً بما عنده. ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى سأله هذا السؤال؟ الحكمة ليظهر له عجزه عن الإحاطة بشئونه، يعني: أنت أيها العبد لا تحيط علماً بما يخصك أنت، وبقيت ميتاً مائة عام وأنت لا تدري، وأنت غافل، حتى إنك لتظن أنك بقيت يوماً أو بعض يوم، حتى الأمور التي تخصك أنت لا تعرفها، ولا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً. وأيضاً: من الحكمة من السؤال بيان أن إحياءه لم يكن بعد مدة يسيرة؛ لأنه لو أحياه الله سبحانه وتعالى بعد مدة يسيرة ربما يحصل توهم أن البعث هين في الجملة، إذ إن جسمه ما زال باقياً، أما والأمر أنه أماته مائة عام حتى زال جسمه بالكلية وتحول إلى تراب، وتفرقت أجزاؤه، ثم يحييه الله تبارك وتعالى؛ فإحياؤه بعد مدة طويلة تنحسم به تماماً مادة استبعاد وقوع البعث والنشور، ثم يطلع في تضاعيفه على أمر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى عندما يقول: كم لبثت؟ فيقول: لبثت يوماً أو بعض يوم، فيقول الله له: ((بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)). ((فَانظُرْ)) بعدما بين له أنه لبث مائة عام نبهه إلى آية أخرى يراها الآن في هذه الحال بعد مائة عام، وهي من آثار وبدائع قدرته تبارك وتعالى، وهي إبقاء الغذاء فقال: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259]، فالطعام الذي من طبعه أن يتسارع إليه الفساد والتعفن بقي على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغير! ((فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ))، وهو التين، أو غير التين في قول آخر، ولا إشكال في ذلك، ((وَشَرَابِكَ)) أي: العصير، ((لَمْ يَتَسَنَّهْ)) يعني: لم يتغير مع طول الزمان، مع تداعيه إلى الفساد، والهاء في (يتسنه): قيل: أصل في الكلمة، من سانهت، وقيل: مشتقة من: ساميتُ، وفي قراءة بحذفها: (لم يتسن)، ويحتمل أن يكون الضمير هنا في قوله تبارك وتعالى: {فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}، إما أنه عبر عن المثنى بهاء المفرد، وهذا جائز في اللغة، ويحتمل أن يكون الضمير لأقرب مذكور، ويكون عائداً إلى الشراب؛ لأنه أقرب، ثم تكون هناك ثمّ جملة أخرى حذفت بدلالة هذه عليها، فيكون التقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنه، وإلى شرابك لم يتسنه. {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259]، انظر إلى حمارك كيف هو؟ فرآه ميتاً، ورأى عظامه بيضاً تلوح نخرة، وكأن الله عز وجل يقول له: فعلنا ذلك لتعلم أن الله على كل شيء قدير. {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً} [البقرة:259] على البعث والنشور، ونحن بلا شك إذا أردنا أن نسرد من القرآن أدلة البعث والنشور فمن الأدلة الواضحة هذه القصة التي حكاها الله سبحانه وتعالى. وروي في بعض الآثار الإسرائيلية: أنه بعدما عاد إلى قريته وجدها قد عمّرت، وأحياها الله بعد موتها، ثم لقي جارية كانت لهم، قد طعنت جداً في السن، فسألها عن عزير، فقالت: عزير قد افتقدناه من كذا وكذا سنة، فقال لها: أنا عزير، قالت: لو كنت عزيراً فإن عزيراً كان نبياً، وكان يمسح على المريض فيبرأ بإذن الله، وكانت قد عميت، فمسح على عينها فأبصرت، ثم رجعت إلى قومها تقول لهم: إن هذا هو عزير! فوجد حفيده يكبره بخمسين سنة! ولا شك أن أهل القرية لما رأوه يعود بعد مائة سنة بنفس الأمارات التي تدل على أنه هو؛ لا شك أن هذا آية للناس الذين عاصروا هذه الواقعة، وآية لمن يأتي بعدهم من الأجيال، ويسمع هذه العبرة كما قصها الله سبحانه وتعالى في كتابه. ((وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ)) أي: عظام حمارك، (كيف ننشزها) كيف نحييها، -بضم النون والزاي-، وفي القراءة الأخرى: (كيف نُنشرُها) بالراء، وقرئ شذوذاً بفتح النون، من أنشر ونشر لغتان، وعلى قراءة: (كيف نُنْشِزُها) أو (ننشُزها) أي: نحركها ونرفعها، من النشر وهو الارتفاع. {كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة:259]، فنظر إليها وقد تركبت العظام، وكسيت لحماً، ونفخ فيها الروح، فأول نوع من أنواع البعث أن الله سبحانه وتعالى نفخ الروح في الحمار، فقام الحمار ونهق علامة على عودة الحياة إليه بالصوت أيضاً! {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} [البقرة:259]، لهم بالمشاهدة والمعاينة {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] يعني: أعلم علم مشاهدة (أن الله على كل شيء قدير)، وفي قراءة: (فلما تبين له قال اعلم) على أنها أمر من الله سبحانه وتعالى له: (أن الله على كل شيء قدير).

تفسير قوله تعالى: (وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) قال الله تعالى مبيناً كيف أنه يتولى عباده فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ويؤيدهم بالحجة والبراهين: (وإذ) يعني: واذكر إذ؛ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، ليصير علمي عين يقين بالرؤية بعدما كان عندي علم يقين؛ لأن العلم درجات: علم يقين، وعين يقين، وحق يقين. لو أخبرتك بأن في هذه الحجرة عسلاً وكنت تقطع بصدقي فهذا علم يقين، فإذا فتحت لك الغرفة ودخلت ورأيت بعينك العسل فهذا عين يقين، أما إذا ذقته ووجدت طعمه ومذاقه فهذا حق اليقين؛ فالعلم نفسه على مراتب، فإبراهيم عليه السلام أراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين بالمشاهدة عياناً، وهذا أكمل، وبلا شك أن الإنسان دائماً يكون مستشرفاً إلى مطالعة ما يخبر عنه، فالذي لم ير الكعبة يكون دائماً متطلعاً إلى أن يراها، فنحن لا نرى الملائكة، ولذا تجد عندنا استشراف وتطلع إلى أن نرى الملائكة، نريد أن نرى كل ما هو غائب عنا، وهذا من فطرة الإنسان، حب الاستطلاع، والاستزادة في مراتب العلم ودرجاته. {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}، قال تعالى له: أو لم تؤمن بقدرتي على الإحياء؟! سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيبه بما سأله فيعلم السامعون غرضه، وهذا تنبيه مهم جداً سنفصله عما قريب إن شاء الله تعالى: ((قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى)) يعني: آمنت، {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، لكن سألتك ليسكن قلبي بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، يعني: أعرف أنك تحيي الموتى عن طريق الوحي، وعن طريق الاستدلال بالأدلة على البعث والنشور، فأريد أن أضيف إلى ذلك أيضاً دليل المعاينة والرؤيا. إذاً: المقصود: بلى آمنت، ولكن سألت لأزداد بصيرة وسكون قلب برؤية الإحياء، فقلبي ساكن مطمئن لحقيقة البعث والنشور لما أوتيته من العلم بالوحي، ومما يؤيد هذا التفسير، وينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام أن الله سبحانه وتعالى قال في مناقشة إبراهيم عليه السلام للنمرود: ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ))، فإبراهيم عليه السلام يعرف أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحيي ويميت، فهذه الآية بلا شك تدل على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام. لكن تضافر الأدلة وتواردها أسكن للقلوب، وأزيد للبصيرة واليقين.

سبب سؤال إبراهيم رؤية إحياء الله للموتى

سبب سؤال إبراهيم رؤية إحياء الله للموتى جمهور العلماء على أن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً قط في إحياء الموتى، ما شك إبراهيم عليه السلام، ولا ينبغي له أن يشك، وإذا كان الأنبياء معصومين من كبائر الذنوب ومن صغائر الذنوب، فكيف يجوز على الأنبياء الشك؟ وكيف يظن أن نبياً من الأنبياء يشك في الله سبحانه وتعالى؟! فجمهور العلماء أنه لم يشك قط في إحياء الله سبحانه وتعالى للموتى، وإنما طلب المعاينة لما جبلت عليه النفوس البشرية من استشراف وحب رؤية ما أخبرت عنه؛ لهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت) رواه أحمد والحاكم وغيرهما، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه أيضاً الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى. فهنا تأكيد لهذه القاعدة أنه: ليس الخبر كالمعاينة، يقول الله تبارك وتعالى عن حال أهل الكهف: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، لكن لماذا لم يول صلى الله عليه وسلم فراراً، ولم يمتلئ رعباً من هذا؟ لأن الخبر ليس كالمعاينة، فالله سبحانه وتعالى وصف له حالهم وهم رقود في الكهف، ثم قال: لو زدت إلى ذلك السماع والإخبار المعاينة بالبصر؛ لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً، فهذا يؤكد أنه ليس الخبر كالمعاينة.

تنزيه إبراهيم عن الشك

تنزيه إبراهيم عن الشك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم فيه نفي الشك تماماً عن إبراهيم عليه السلام؛ لأن الشك هو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، بحيث لا تملك أن ترجح أحدهما على الآخر، فقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) معناه: أنه لو كان شاكاً لكنا نحن أولى وأحق بالشك، ونحن لا نشك، فإبراهيم أحرى ألا يشك، فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، هذا هو المعنى المقصود، ومن شروط الإيمان: اليقين المنافي للشك والريبة، فأي تردد في قضايا الإيمان يحبط الإيمان كله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، لكن إذا آمنوا ثم ارتابوا فهذا يحبط الإيمان؛ فلذلك الشك يتنزه عنه المؤمن، فمقصود الحديث: لو كان إبراهيم قد شك، فنحن أولى منه بالشك، فبما أننا لا نشك فإبراهيم عليه السلام أولى وأحرى ألا يشك، ولا يجوز الشك على الأنبياء، هذا وهو خليل الرحمن سبحانه وتعالى، وهو إبراهيم عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقال أيضاً لما حكى عن إبليس: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40]، وإذا لم تكن لإبليس عليهم سلطنة، فكيف يشككهم؟ وإنما أراد إبراهيم عليه السلام أن يرقى من علم اليقين إلى عين اليقين، و Q كان عن كيفية الإحياء، والسؤال بكيف هو للسؤال عن الحال. ونظير هذا Q أن يقول القائل: كيف يحكم زيدٌ في الناس؟ فهل يفهم من هذا السؤال أنه يشك في أنه يحكم؟ لا يشك بأنه يحكم؛ لأن هذا مقر أن زيداً إذا كان حاكماً أو قاضياً فهو يحكم؛ لكن السؤال هنا هو عن كيفية الحكم، فهل هو حال الحكم يعدل أم يجور؟ كيف حكمه في الناس وكيف سيرته؟ فالمقصود ليس الشك في أنه يحكم، ولكن المقصود هو السؤال عن حاله من العدل والإنصاف وغير ذلك، فهو لا يشك أنه يحكم فيهم، ولكنه سأل عن كيفية حكمه لا ثبوته. قد يتلاعب الوهم ببعض الخواطر، فيطرق إلى إبراهيم شكاً من هذه الآية، فأتى هذا الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)؛ ليقطع به صلى الله عليه وسلم دابر هذا الواهم، يعني: ونحن لم نشك، فلئلا يشك إبراهيم عليه السلام أحرى وأولى. وسؤال إبراهيم عليه السلام إنما كان عن كيفية الإحياء: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى))، ولا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فإنما هو طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، يعني: أنت مطالب بأن تؤمن بالبعث والنشور والإحياء، لكنك غير مطالب بأن تؤمن بكيفية البعث والنشور، وكيفية هذا الإحياء، وهذا من السؤال عما ليس بشرط أو ما لا يتوقف الإيمان على علمه.

سبب قول الله لإبراهيم: (أولم تؤمن)

سبب قول الله لإبراهيم: (أولم تؤمن) Q إذا كان سؤال إبراهيم هو عن كيفية الإحياء، والعلم بكيفية الإحياء ليس من واجبات الإيمان، وليس من شروط صحة الإيمان، فهو سؤال ما لا يتوقف الإيمان على علمه، فلماذا قال الله تبارك وتعالى: ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ))؟ A لما كانت هذه الصيغة (كيف) تستعمل ظاهراً في السؤال عن الكيفية، لكنها قد تستعمل في الاستعجاز أيضاً، مثاله: لو أن رجلاً أتى يدعي أنه يستطيع أن يحمل الجبل فوق رأسه، فتقول له أنت: أرني كيف تحمل الجبل؟ فكيف هنا المقصود بها الاستعجاز، أو يدعي مدع أنه يحمل ثقلاً من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله، فتقول له: أرني كيف تحمل هذا؟ فالصيغة في الأصل ظاهرة في السؤال عن الكيفية، لكن لما كانت قد تستعمل في السؤال للاستعجاز، ولما كانت هذه الصيغة قد يعرض لها هذا الاستعمال، وقد أحاط علم الله تبارك وتعالى بأن إبراهيم عليه السلام مبرأ عن أن يسأل استعجازاً والعياذ بالله؛ فلذلك أراد الله سبحانه بقوله: ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)) أن ينطق إبراهيم بقوله: (بلى) وأنه مؤمن، وأن هذا ليس شكاً منه عليه السلام، وليس استعجازاً، فهو سأله حتى يأتي بهذا الجواب، فيبعد وينفي الشك عن إبراهيم عليه السلام كلما تليت هذه الآية إلى أن يرفع القرآن. قال: (أولم تؤمن)؟ قال: (بلى) يعني: آمنت، أنا مؤمن بلا شك بالبعث وبالنشور والإحياء، وبهذا يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى، وليكون إيمانه مخلصاً نص عليه بعبارة يفهمها كل من يسمعها فهماً لا يلحقه فيه شك.

سبب قول إبراهيم: (ليطمئن قلبي)

سبب قول إبراهيم: (ليطمئن قلبي) سؤال آخر: ما موقع قوله تبارك وتعالى: ((قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)) فهل كان القلب غير مطمئن؟ A أنه قال ذلك ويريد به: ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء؛ لأني إذا شاهدتها سكن قلبي عن الجولان في كيفياتها المتخيلة، وتعينت عندي بالتصوير المشاهد (ليطمئن قلبي) حينما أرى، فلا أظل أتخيل كيف يحصل هذا الإحياء؟ ويشير السيوطي رحمه الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله رحمه الله تعالى: (وإذ) يعني: واذكر: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} يعني: قال تعالى له: أولم تؤمن بقدرتي على الإحياء؟ سأله مع علمه بإيمانه بذلك، ليجيبه عما سأله فيعلم السامعون غرضه، (قال بلى)، آمنت، (ولكن) سألتك (ليطمئن) أي: يدخل بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، وكي لا أسرح وأحوم في التخيلات عن كيفية ذلك الإحياء؛ لأنني إذا رأيتها استقر قلبي إلى كيفيتها حينما أراها معاينة.

إجابة الله لدعاء إبراهيم

إجابة الله لدعاء إبراهيم قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}، أي: إذا أردت الطمأنينة (فخذ) والفاء دخلت على (خذ)؛ لأنها واقعة في جواب الشرط المقدر، أي: إذا أردت الاطمئنان ((فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ))، إما أن تقول: صُرهن، أو صِرهن يعني: أملهن إليك، يعني: هات أربعة أنواع من الطيور وضمهن إليك، ولماذا سأل الله سبحانه وتعالى أن يضمهن إليه؟ لأنه إذا ضم هذه الأنواع من الطيور سواء كانت الغراب والنسر مثلاً أو غيرها من الأنواع التي ذكرها بعض العلماء، والمهم هي: أربعة أنواع مختلفة يضمها إليه حتى تكون قريبة جداً من عينه وحسه، ويضمها إليه فيراها فيتأملها، ويعرف أشكالها وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ليعرف أنها هي التي أحياها الله سبحانه وتعالى بعد موتها، ولا يتوهم أنها غير تلك، ويعرف هذه الطيور بعلاماتها وبأسمائها، وبأشكالها وبأحجامها، وأمره أن يضمهن إليه حتى يتيقن صفاتها، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، لماذا؟ حتى يكون على يقين أنها نفس العصا التي قال فيها: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18]، ويؤكد له أنها نفس العصا، بحيث إذا رأيتها انقلبت حية آمنت بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي قلبها حية، وأعادها مرة أخرى بقدرته تبارك وتعالى؛ فكذلك هنا قال: ((فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ)) يعني: أملهن إليك، وقطعهن بعدما تتحقق منهن وتضمهن إليك، فصِّل الرءوس وخلِّط اللحم بالعظام بالعصب بالريش، يعني: صارت كتلة مسحوقة من اللحم والدم والعصب والعظام، فقد قطعها إرباً، وخلط بعضها ببعض ومزجها في كتلة واحدة. {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} [البقرة:260]، ثم اجعل على كل جبل من جبال أرضك: {مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}، ثم ادعهن إليك، بعد أن تضع كل جزء على جبل من الجبال نادي هذه الطيور بأسمائها، فتحيا بإذن الله ((يَأْتِينَكَ سَعْيًا)) أي: يأتينك مسرعات. وقوله تبارك وتعالى هنا: ((ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا))، في الأصل أن الطيور تطير، فما هي الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى عبر عنها هنا بالسعي؟ لأنها لو كانت تطير في الهواء، فقد لا يستطيع التحقق من صفاتها التي تثبت منها من قبل لما ضمهن إليه وتأمل في صفاتهن؛ ولذلك قال: ((ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا))، ولم يقل: طيراناً؛ لأنها إذا كانت ساعية كان ذلك أثبت لنظره عليها من أن تكون طائرة، ويستطيع أن يتحقق من صفاتها وهي تمشي على الأرض أكثر من أن يتحقق منها وهي تطير في السماء. {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} لا يعجزه شيء، {حَكِيمٌ} في صنعه، فأخذ طاووساً ونسراً وغراباً وديكاً، وفعل بهن ما ذكر، وأمسك رءوسهن عنده ودعاهن: فتطايرت الأجزاء إلى بعضها حتى تكاملت، حتى جاء في بعض كتب التفسير: أنه كان يمسك -مثلاً- رأس النسر وينادي الطاووس، فيأتي جسم الطاووس عند الرأس، فإذا قرب له رأس النسر اقترب إليه! والله سبحانه وتعالى أعلم.

أدلة البعث والنشور

أدلة البعث والنشور قبل أن أتجاوز هذه الآية أشير إشارة سريعة إلى أن أدلة البعث والنشور قد تكاثرت جداً في القرآن الكريم، وسبق أن ذكرناها ودرسناها بالتفصيل في كتاب (الإيمان باليوم الآخر) للدكتور عمر الأشقر حفظه الله في الجزء الثاني في صفات اليوم الآخر وهو القيامة الكبرى، فنعيد تذكرتكم بالعناوين فقط دون الأمثلة. أولاً: من أدلة البعث والنشور إخبار العليم الخبير بوقوعه يوم القيامة، وهذا له صور شتى. ثانياً: الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]. ثالثاً: الاستدلال بأن القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه. رابعاً: الاستدلال بقدرته تعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]. خامساً: إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، مثل: قوم موسى عليه السلام، وهذه القصص أكثر ما تكون في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56]، فهذا بعث ونشور بعد الموت. وكذلك قوله تبارك وتعالى في قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]، وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]. وقوله تعالى: ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)). وقوله تعالى هنا حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ((رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)). سادساً: ضربه المثل بإحياء الأرض بالنبات بعد موتها، فالذي قدر على أن يحيي الأرض بعد موتها قادر على بعث الناس ونشورهم. سابعاً: ما ذكرناه من أن حكمة الله تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، ولا يمكن أبداً أن تكون من حكمة الله عز وجل أن تنتهي الدنيا بهذه الصورة، نجد المظلوم قد ظلم الناس وأخذ حقوقهم، وآذاهم وعذبهم واضطهدهم ثم يموت الظالم والمظلوم، فالحكمة تقتضي أن هذه ليست النهاية، بل لا بد من يوم آخر ينتصف فيه المظلوم من ظالمه، ويعاد الحق إلى صاحبه.

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]. (مثل الذين) أي: صفة نفقات الذين (ينفقون أموالهم في سبيل الله) أي: طاعته، (كمثل حبة أنبتت) يعني: حبة ألقيت في الأرض ثم أنبتت ساقاً، وكانت الساق على سبع شعب، وخرج من كل شعبة سنبلة فيها مائة حبة، فصارت الحبة الواحدة سبعمائة بمضاعفة الله تبارك وتعالى لها. لا شك أن هذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة؛ لأن فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، ومصداقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه؛ حتى تكون مثل الجبل) متفق عليه. الفلو: هو المهر الصغير، وقيل: هو الفطيم من أولاد ذوات الحوافر، ولا شك أن قوله سبحانه وتعالى: ((كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)) أقوى وأبلغ وأعظم وأعجز، وهل هناك إعجاز أكثر من أن تقول: كمثل حبة صارت سبعمائة؟ لا، لماذا؟ لأن هذا التفصيل يبين أن الله ينميها ويضاعفها لصاحبها شيئاً فشيئاً ويربيها؛ فكذلك أيضاً الذي ينفق ماله في سبيل الله تبارك وتعالى ينميها الله له، فتضاعف بسبعمائة ضعف، وفي الحديث عن خريم بن فاتك الأسدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف). ((وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ)) يعني: يضاعف أكثر من ذلك لمن يشاء، وقد وردت هذه المضاعفة في السنة في عدة نصوص منها قوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)، وقال الله عز وجل: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، متفق عليه، ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) رواه الإمام أحمد ومسلم. فبلا شك أن الإنسان الذي عنده يقين بوعد الله سبحانه وتعالى وفي خبر الله لا يفرط في هذا الباب من أبواب الخير، ولا يفرط فيه إلا إنسان مغبون محروم. وإذا كنا نصدق بمثل هذه الآيات فلا ينبغي أن يكون سلوكنا على ما نحن عليه من الشح عن النفقة في سبيل الله، وانظر كيف يتهافت الناس على الأرباح إذا وجدت شركة تجارية تعطي ربحاً عشرين بالمائة والذي سيزيد فالناس إليه أزيد، ويهرع الناس إليه من كل مكان، وإذا كان سيضاعفها إلى 200% مثلاً، فكيف سيكون حال الناس؟ هم على يقين من الدنيا، ويرغبون في المضاعفة، فإذا صدّقنا الوعد منه سبحانه وتعالى بهذه المضاعفة، وأن الصدقة الواحدة بسبعمائة صدقة؛ فلا يفرط في هذا شخص يوقن به إلا مغبون أو ضعيف اليقين بما وعد الله سبحانه وتعالى؛ فلذلك مثل هذه الآيات تغسل قلوبنا من الشح الذي يصيبها بتأثير الدنيا، القرآن ينظف قلبك باستمرار إذا ربطت نفسك به، فختم القرآن وتلاوة القرآن وسماع القرآن يطهر عقلك ومفاهيمك من هذا الدرن الذي يصيبها من جراء هذه البيئة الملوثة، القرآن ينقي ويطهر قلوبنا ويعلينا إلى القيم والموازين الصحيحة. ((وَاللَّهُ وَاسِعٌ)) فضله، ((عَلِيمٌ)) بمن يستحق المضاعفة.

تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى)

تفسير قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى) قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} [البقرة:262]. قوله عز وجل: ((الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ))، لا يعقبون ما أنفقوا مناً ولا أذى، هنا عبر الله سبحانه وتعالى: بـ (ثم) {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى}، هل (ثم) هنا على بابها على التراخي وتباعد الأزمنة؟ A لا، ليست لتباعد الأزمنة، لكن استعيرت (ثم) هنا من تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، أو لإظهار التفاوت بين الإنفاق وبين ترك المن والأذى، فالسياق هنا يأبى حملها على الطرفين، والمقصود هنا: تباعد الأزمنة لتباعد المرتبة، ولإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وفي قول آخر: أن ثم لا تخرج عن الإشعار ببعد الزمن، يعني: عنصر التفاوت الزمني موجود، لماذا التفاوت الزمني؟ المقصود: الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء زمان بقائه، وهو هنا ليس لتراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، لكن لدوام وجود الفعل وتراخي زمان بقائه، يعني: أنهم ينفقون أموالهم (ثم لا يتبعون) بل يستمرون على نفقة المال محصنين هذه الصدقة من المن ومن الأذى، متمادين في ذلك إلى النهاية، حتى يلقوا الله سبحانه وتعالى دون أن يفسدوا صدقاتهم بالمن والأذى، فمعناها: ليس لتراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ولكن معناها: دوام وجود الفعل، وتراخي زمن بقائه، وعليه حمل قوله تعالى: (ثم استقاموا)، إذ معناها داوموا على الاستقامة دواماً متراخياً ممتداً، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، لا ما هو منقطع إلى ضده من الميل إلى الهوى والشهوات، فالمقصود بذلك الثبات حتى الممات: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يعني: ثبتوا على ذلك إلى الموت، وإلى الخاتمة الحسنة. والسين في قوله: (ثم استقاموا) للتنفيس، ففيها تنفيس ومد، كقوله: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، في حين أنه قال في سورة الشعراء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، فقطع أن الله سبحانه وتعالى يهدي؛ لكن المقصود هنا دوام الاهتداء، واستصحابه إلى النهاية؛ كذلك قوله: ((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى)) يعني: يداومون على تناسي الإحسان وترك الاعتداد به والامتنان، ليسوا بتاركيه في أزمنة إلى الأذية وتقليد المنن بسببه ثم يتوبون، لا، بل هم مستمرون على ستر صدقاتهم، أو المحافظة عليها وصيانتها من المن والأذى، لا ينقضون ذلك بمن ثم يتوبون منه، بل هم لا يرتكبون أصلاً المن والأذى. ((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا)) أي: لا يعقبون، ((مَا أَنفَقُوا مَنًّا)) مناً على المنفق عليه، وهو ذكره لمن أنفق عليه ليريه أنه أوجب بذلك عليه حقاً، والواجب أن يكون المنفق مخلصاً {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]؛ لكن إذا منّ عليك، فمعنى ذلك أنه يريد حقاً في مقابلة صدقته؛ ((ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى))، الأذى يكون بذكر ذلك لغيره، والمن أن تمن على الشخص الذي أنفقت عليه نفسه، والأذى أن تخبر غيره بأنك مننت عليه، وذلك مما يؤذيه، وهو يكره أن يعرف الناس أنك أديت إليه ذلك المعروف. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} يعني: ثواب إنفاقهم الموعود به من قبل وهو المضاعفة. {عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، (لا خوف عليهم) فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة، ((وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) على فائت من زهرة الدنيا؛ لصيرورتهم إلى ما هو خير من ذلك، وهذا كله في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى)

تفسير قوله تعالى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263]. (قول معروف)، كلمة طيبة ودعاء للسائل، وكلام حسن، ورد على السائل جميل. (ومغفرة) عن ظلمه القولي أو الفعلي، إذ ممكن أن السائل يسيء أحياناً في سؤاله ويلح، أو يضايقك بطريقة فيها نوع من الأذية، وهنا حث على أن تغفر له هذا الإلحاح؛ فإنك تثاب على ذلك، وقد أرشد الله تبارك وتعالى إلى هذا الأدب في قوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]. والمغفرة أن تسامحه وتعفو عنه في إلحاحه إذا فعل، أو إذا ظلمك بظلم قولي أو فعلي، (ومغفرة) ربما إذا لم تعطه يسيء إليك بكلام أو بفعل، فأنت أيضاً هنا إذا فتح الله عليك واستحضرت هذه الآية واعتبرت بها، فتحتسب الأجر بالصبر عليه، وأن تغفر له وتسامحه في هذه الإساءة. ((خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)) لماذا؟ لأن الصدقة التي يتبعها (منّ وأذى) ماذا يترتب عليها؟ لا يحصل بها ثواب الصدقة؛ ثم يحصل إثم الأذى، شخص تصدق يريد وجه الله سبحانه وتعالى، ويريد الثواب الذي يضاعفه الله من الواحد إلى السبعمائة ضعف، فهو يتصدق لأجل الله، ثم بعد ذلك منّ أو آذى الذي أحسن إليه، فعادت صدقته عليه وبالاً وشؤماً عليه؛ لأنه أولاً: أحبط ثواب صدقته، وأوقع نفسه فيما لا طائل من ورائه، وثانياً: حصل إثم الأذى؛ لأنه سيعاقب على هذا الأذى؛ فلذلك يقول تعالى: ((قَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) كلمة طيبة (ومغفرة خير) من مثل هذه الصدقة، لماذا خير؟ لأنه سيحبط ثواب الصدقة أولاً، ثم يحصل إثم الأذى. ((وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى)) بالمنّ والتعيير له بالسؤال، إذا كان الشخص ممن يحل له السؤال، ((وَاللَّهُ غَنِيٌّ)) عن صدقة العباد، ((حَلِيمٌ)) بتأخير العقوبة عن المانّ والمؤذي.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] يعني: لا تبطلوا أجور صدقاتكم، ولا تحبطوا هذا الثواب بالمنّ والأذى. ((كَالَّذِي)) يعني: إبطالاً كإبطال نفقة الذي (ينفق ماله رئاء الناس. وفي هذه الآيات الكريمة تقبيح لشأن المن، والعرب كانت تقول لمن يعطي صدقة ثم يمن بها: هذه يدٌ سوداء، وتطلق العرب على ما يعطى من غير مسألة: هذه يد بيضاء، أما الذي يعطى عن مسألة فيقولون: يد خضراء، يقول الشاعر: وصاحب سلفت منه إلي يد راثت عليه مكافاتي فعاداني لما تيقن أن الدهر حاربني أبدى الندامة فيما كان أولاني وقال آخر: أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ليس الكريم إذا أسدى بمنان وقال ثالث: أحسن من كل حسن في كل وقت وزمن صنيعة مربوبة خالية من المنن

البقرة [283 - 286]

تفسير سورة البقرة [283 - 286]

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة)

تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة) قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة:283]. قوله تعالى: (وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى، ولابد من ربط هذا الشرط بما قبله، يعني: إن كنتم على سفر وتداينتم؛ لأن صدر هذه الآية مرتبط بالآية التي قبلها، وهي أطول آية في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282] فلابد من ربط هذه الآية بما قبلها يعني: إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى وكنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة، يعني: الذي يستوثق به في هذه الحالة: رهان مقبوضة يقبضها صاحب الحق وثيقة لدينه. وهذا الرهان إنما يكون إذا لم يأمن بعضكم بعضاً بلا وثيقة، والدليل على هذا أنه سبحانه قال بعد ذلك مباشرة: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة فيه وبأمانته عن الوثيقة ((فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ)) يعني: من باب: أدِ الأمانة إلى من ائتمنك (فليؤد الذي اؤتمن) وهو الشخص المدين، وإنما عبر عنه بذلك ولم يقل: فليؤد المدين الدين وإنما قال: (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) لأن الرجل إذا وثق فيك وكان بوسعه ألا يعطيك هذا المال إلا باستيثاق برهن أو غيره، فإنه يجب ألا تخيب ظنه وقد أحسن الظن فيك. وكثيراً ما يحصل نزاع بين الناس بسبب هذا الأمر، ويشتكي كثير من الناس من أن بعض الناس لا يؤدي الحقوق إذا حان أجلها، بل منهم من يجحد ويماطل! فنذكر في هذا المقام عبارة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حينما قال: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان. فإذا كان الشخص فعلاً متصفاً بصفة الأمانة فالأمين لا يمكن أبداً أن يخون إلا أن يشاء الله، لكن الذي يحصل أنك تضع ثقتك في غير موضعها، ولكن اؤتمن غير أمين فخان، فهذا هو الواقع الذي يحصل، فالله سبحانه وتعالى كما ترون قد أنزل أطول آية في القرآن -وهي آية الدين السابقة- لأجل حفظ مال المسلم في جنيهات معدودة، فبين كيف تحفظ له؛ ولذلك يعتبرون هذه الآية من آيات الرجاء، وهناك بحث لطيف يذكره بعض العلماء وهو مبحث بعنوان: ما هي أرجى آية في القرآن؟ وفي المقابل أيضاً ما هي أخوف آية في القرآن؟ فبعض العلماء ذهب إلى أن أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي والكبائر من الموحدين هي هذه الآية آية الدين، ووجه ذلك أن هذه الآية تبين كيف أن الله سبحانه وتعالى يرعى ويحفظ ويشرع من التشريعات ما يضمن حق المسلم ويراعي شئونه حتى في أشياء دقيقة، فأنزل أطول آية في القرآن لحفظ مال يسير من الدريهمات أو الجنيهات، وإذا كان كذلك فلا شك أن عناية الله سبحانه وتعالى بعبده المؤمن في عرصات القيامة وفي أهوالها يرجى أن تكون أعظم، وأن تكون رحمته أوسع، فهذا هو وجهها. بعض الناس يستحيي في هذا المقام من كتابة الدين، وهذا غير صحيح؛ لأن الاستيثاق بالكتابة أو بالإشهاد ليس معناه أنك تخونه أو أنك لم تثق به، لكن هذا يكون لاعتبارات كثيرة، منها: أنك يمكن أن تموت أنت أو يموت هو وبالتالي ينتقل لورثته الحق، وورثته إذا قالوا: أين ما يثبت أنه كان لك دين على الميت؟ فلا شك أن التوثيق يثبت الدين ويحسم الخلاف ويضبط حقوق الناس. والأمر الآخر: أن بعض الناس قد ينسى، فبعض الناس يكون حريصاً في قلبه على أن يوثق الدين، لكنه يستحي وهذا الاستحياء لا يسمى استحياء لكنه عجز، وهو لا يدخل في الحياء المحمود وإنما هو عجز. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم - وذكر من هؤلاء الثلاثة- رجل أدان ديناً فلم يشهد عليه) أي: أقرض رجل رجلاً مالاً ولم يشهد عليه ولا كتبه، فلما جاء موعد حلول أجل الدين وطالبه به جحده وقال: ما لك عندي شيء، فهنا إذا دعا صاحب المال على هذا المدين المقترض لا يستجيب الله سبحانه وتعالى دعاءه عليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد شرع من الأحكام ما يضمن له حقه، وهو الذي بمحض إرادته تخلى عنها وتنازل عنها، أو هو الذي وضع ثقته في محل لا يستحقها، أي: ائتمن شخصاً وهو غير أمين. فالشاهد من ذلك: أنه إذا دعا عليه لا يستجاب له، وكيف يدعو عليه وقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الطويلة التي هي أطول آية في القرآن، ثم هو بمحض إرادته لم يعمل بها، فليلم نفسه ولا يلم غيره؛ فهو الذي قصر. يقول تبارك وتعالى هنا: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)) يعني: لحسن ظنه به واستغنى بالثقة والأمانة عن أن يأخذ منه رهناً. (فليؤد الذي اؤتمن أمانته) المقصود به: المدين، وإنما عبر عنه بذلك لأنه العنوان لتعينه طريقاً للإعلام؛ لأنه لا يوجد طريق للإعلام الحق سوى الائتمان والثقة ولحمله على الأداء (أمانته) أي: دينه، وإنما سمي أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان به. (وليتق الله ربه) يعني: في رعاية حقوق هذه الأمانة، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التحذير والتأكيد ما لا يخفى. (ولا تكتموا) يعني: أيها الشهود! لا تكتموا الشهادة. (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قال الزمخشري: فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فإنه آثم)، وما فائدة ذكر القلب، والجملة هي الآثمة لا القلب وحده. يعني: الرجل هو الآثم وليس قلبه فقط. قال الزمخشري: قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها في قلبه، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إلى القلب؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني، ومما عرفه قلبي؛ ولأن القلب هو رئيس الأعضاء، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: قد تمكن الاسم في أصل نفسه، وملك الاسم أشرف مكان فيه وهو قلبه، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، ولكنه أيضاً متعلق بالقلب (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه). فاللسان عبارة عن ترجمان عما في القلب؛ ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح. (وإن كنتم على سفر) يعني: إن كنتم مسافرين وتداينتم بدين إلى أجل مسمى (ولم تجدوا كاتباً فرهان) وفي القراءة الأخرى (فرهُنُ) وكلاهما جمع رهن (مقبوضة) مقبوضة أي: تستوثقون بها، وهذا القيد الذي جاء في هذا الحكم معلق بقيدين (إن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً) فالقيد الأول: أن يكونوا في السفر، والقيد الثاني: عند افتقاد الكتَّاب، لكن بينت السنة جواز الرهن في الحضر، وجواز الرهن مع وجود الكاتب، حتى لو وجدنا كاتباً وأمن بعضنا بعضاً ولم نكتب فلا حرج في ذلك. والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد) فهذا كان في الإقامة ولم يكن في السفر، وهم كانوا في المدينة، وسيجدون كاتباً، لكنه مع ذلك لم يكتب. فالتقييد بما ذكر من السفر ووجود الكتاب؛ لأن التوثيق فيه أشد؛ فالتوثيق في حالة السفر يحتاج الإنسان إليه أكثر من حالة الحضر. وأفاد قوله تعالى: (فرهان مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن يعني: أنه لابد من قبض الشيء المرهون، وأن يحوزه الشخص المرتهن. وأفاد قوله: (مقبوضة) اشتراط القبض في الرهن والاكتفاء به من المرتهن. (فإن أمن بعضكم بعضاً) أي: أمن الدائن المدين على حقه فلم يرتهن (فليؤد الذي اؤتمن) أي: المدين (أمانته) دينه (وليتق الله ربه) في أدائه (ولا تكتموا الشهادة) إذا دعيتم لإقامتها (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) خص بالذكر لأنه محل الشهادة، ولأنه إذا أثم تبعه غيره فيعاقب عليه معاقبة الآثمين.

تفسير قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]. قوله: (لا نفرق بين أحد من رسله) يعني: يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل اليهود والنصارى، ومعنى التفريق هنا هو في الإيمان، وليس معناه عدم المفاضلة بين الأنبياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى فضل الأنبياء بعضهم على بعض؛ لأن بعض الناس يتوهم أن الاعتقاد في أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء هو من التفريق بين الرسل!! ليس هذا هو المقصود، وإنما (لا نفرق بين أحد من رسله) يعني: في الإيمان، بل نؤمن بجميع الرسل. وقوله: (وقالوا سمعنا) يعني: سمعنا ما أمرنا به سماع قبول. (وأطعنا غفرانك ربنا) يعني: نسألك غفرانك ربنا. (وإليك المصير) أي: المرجع للبعث. ولما نزلت الآية التي قبلها شكا المؤمنون من الوسوسة، وشق عليهم المحاسبة بها، والآية التي قبلها هي قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] إلى آخر الآية فلما نزلت شكا المؤمنون من الوسوسة؛ لأن الوسوسة مما يشق عليهم أن يحاسبوا بها، والخواطر التي ترد على القلب ليس في طاقتهم أن يدفعوها، فأنزل الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286].

تفسير قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)

تفسير قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]. قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وهذا كلام مستأنف من الله سبحانه وتعالى أي: اطمئنوا فإن الله لن يكلفكم إلا ما في طاقتكم، ولن يحاسبكم على هذه الوساوس والخواطر ما لم تتكلموا أو تعملوا بها. ويحتمل أن تكون هذه العبارة من باقي ذكر المؤمنين ودعائهم. وقوله: (وسعها) يعني: ما تسعه قدرتها. (لها ما كسبت) يعني: من الخير، والمقصود ثوابه. (وعليها ما اكتسبت) أي: من الشر، فلا يؤخذ أحد بذنب أحد ولا بما لم يكسبه مما وسوست به نفسه. (ربنا لا تؤاخذنا) يعني: وقالوا: (ربنا لا تؤاخذنا) أي: بالعقاب، (إن نسينا أو أخطأنا) يعني: تركنا الصواب لا عن عمد، كما أخذت به من قبلنا، وقد رفع الله سبحانه وتعالى ذلك عن هذه الأمة كما ورد في الحديث الصحيح: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فسؤالهم اعتراف منهم بنعمة الله سبحانه وتعالى، وقد رفع عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. ولأن من خصال هذه الأمة رفع الآصار ورفع المشقة وإعذار الأمة بهذه الأعذار، كالإكراه والجهل والنسيان وغير ذلك، فمن خصائص هذه الأمة العذر بالإكراه، فهذه من الآصار التي كانت على من قبلنا، فمثلاً إذا تأملنا حكاية الله سبحانه وتعالى عن أصحاب الكهف، أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف:20] ثم ذكروا احتمالين فقط {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] يعني ما كان لهم عذر في أن يعودوا في ملتهم، بل كان يجب عليهم أن يثبتوا على الدين، فإما أن يرجموا وهم ثابتون عليه، وإما أن يعودوا كفاراً، فلم يكن لهم سعة في الاعتذار بالإكراه؛ وإنما هذا من خصائص هذه الأمة. (ربنا ولا تحمل علينا إصراً) يعني: أمراً يثقل علينا حمله. (كما حملته على الذين من قبلنا) يعني: بني إسرائيل، وإذا تتبعنا شرائع التوراة وجدنا من ذلك شيئاً عظيماً جداً، ففي التوراة كثير من الآصار والأغلال التي بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم برفعها، فالشرائع السابقة كانت تأتي خاصة لكل أمة تعالج العوج الذي في أخلاقها وفي قلوبها، وكانت بنو إسرائيل من أكبر الأمم عوجاً وعتواً وعناداً، فكما أنهم لما عاشوا تحت القهر بسبب فرعون وملائه أذلوهم واستعبدوهم وآذوهم واضطهدوهم؛ فمشوا على الخنوع والمذلة، فمن أجل ذلك عوقبوا بالتيه في الأرض حتى ينشأ جيل جديد يتحرر من آثار هذا الذل الذي عاشوا عليه من قبل، كذلك العوج الذي في أخلاق وطباع اليهود -لعنهم الله- أدى إلى أن الله سبحانه وتعالى كان يشرع لهم كثيراً من الآصار والأغلال عقوبة لهم، وكان يتم التشديد عليهم بسبب تنطعهم وعنادهم وعتوهم، وخبث طباعهم ولؤمهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء:160] بكذا وبكذا، هذه كلها باء السببية أي: بسبب كل هذا الإجرام من اليهود -عليهم لعائن الله- حرم الله عليهم الطيبات، وانظر في قصة البقرة، أمروا أن يذبحوا أي بقرة عندما قال لهم موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] لكن لما شددوا شدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فإذا تتبعنا هذه الأحكام سنجد كيف أن الله سبحانه وتعالى أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أجمعين، ورحمة لليهود، لكنهم أبوا وبقوا في هذه الآصار والأغلال كما سنبين إن شاء الله. فكان من هذه الآصار أن التوبة تكون بقتل النفس، فإذا أرادوا أن يتوبوا يقتل بعضهم بعضاً، كما قال الله: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] وكذلك في الزكاة كان الواحد منهم يخرج ربع المال في الزكاة، وكذلك كان الواحد منهم إذا تنجس ثوبه فإنه يقطع ويقرض موضع النجاسة من الثوب، وغير ذلك من الأحكام الشديدة. ولهذا فإن هذا اعتراف بنعمة الله سبحانه وتعالى {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] أي: الذين عاقبتهم بهذه التشريعات، وقد فعل الله سبحانه وتعالى ذلك فخفف عن هذه الأمة، وهذا الباب واسع جداً، ولضيق الوقت لا نستطيع أن نفصل فيه القول، فهذه الشريعة تميزت برفع الحرج ورفع الآثار ورفع الأغلال، وبالسماحة وباليسر حتى قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة). (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) المقصود بقوله: (لا طاقة) يعني: لا قوة لنا به من التكاليف والبلاء. (واعف عنا) أي: امح ذنوبنا. (واغفر لنا وارحمنا) الرحمة فيها الزيادة على المغفرة. (أنت مولانا) أي: سيدنا ومتولي أمورنا. (فانصرنا على القوم الكافرين) يعني: بإقامة الحجة والغلبة في قتالهم، فإن من شأن المولى أن ينصر مواليه على الأعداء، وفي الحديث (لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقب كل كلمة: قد فعلت) أي: رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأي شرف أن ننتسب إلى هذه الأمة المرحومة! فتأمل إذا قرأت هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يجيبك ويقول لك بعد كل دعاء: قد فعلت، قد فعلت، قد فعلت! وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أيتها الأمة.

تنبيهات تتعلق بالآيات الآخيرة من سورة البقرة

تنبيهات تتعلق بالآيات الآخيرة من سورة البقرة هناك بعض التنبيهات تتعلق بهذه الآيات الأخيرة: قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] قال الزجاج: لما ذكر الله عز وجل في هذه السورة فرض الصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والربا والدين ختمها بقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] آمن الرسول بتعظيمه وتصديق نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بجميع ذلك المذكور قبله وغيره، فكأن هذا تأكيد لكل ما مضى من الأحكام في هذه السورة العظيمة، أي أن موقف المؤمنين من جميع ما تقدم من هذه الأحكام وهي مئات الأحكام في سورة البقرة كان هو الإيمان والتسليم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285] فصدقه عليه الصلاة والسلام بما أنزل إليه وتخلق به حتى صار خلقه القرآن صلى الله عليه وآله وسلم. {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] قال الزمخشري: لما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي مجبولة عليه وأمارة به، كما قال عليه الصلاة والسلام: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فالشهوات النفس مجبولة عليها ووراءها النار، والجنة تحتاج إلى مجاهدة، فأسهل شيء على الإنسان أن يدخل النار؛ لأن النفس تعينه على فعل المعاصي والكبائر بل والكفر الذي يئول به إلى النار؛ ولذلك تحتاج النجاة من النار إلى مجاهدة، بخلاف الذي يريد أن يدخل النار فهذا سهل عليه؛ لأن الشهوات تجذبه كما يجذب الضوء الفراش الأحمق، ونفسه وهواه وشيطانه تسول له وتجذبه إلى هذه الشهوات، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وهي أمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد فجعلت بذلك مكتسبة فيه، فلهذا قال: (وعليها ما اكتسبت) ولم يقل: (ما كسبت)، ففي الخير قال: (ما كسبت) وفي الشر قال: (اكتسبت)، ومعروف أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فقال هنا في الشر: (اكتسبت)؛ لأنها تنجذب إلى هذا الشر وتحصله بالاجتهاد. ولما لم تكن في باب الخير كذلك لفتورها في تحصيله وصفت بما لا دلالة له على الاعتماد والتصرف فقال: (لها ما كسبت).

أمثلة من آصار اليهود

أمثلة من آصار اليهود قوله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] هو ما كلفه بنو إسرائيل مما يهد الأركان، وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى هنا حوالى خمس صفحات وهي تؤكد ما وصف به هذا التفسير (محاسن التأويل) من أنه أحياناً ينساق وراء الإسرائيليات، لكن له عذر في بعض المواضع، فإنه أراد أن يأتي بأمثلة حية من التوراة التي بين يدي القوم على هذه الآثار والأغلال التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها. فمثلاً: من ضرب أباه وأمه يقتل قتلاً! ومن سرق إنساناً وباعه أو وجد في يده يقتل قتلاً! ومن شتم أباه وأمه يقتل قتلاً. وإذا مات إنسان في خيمة -مثلاً- فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً سبعة أيام! وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس! وكل ماء مكشوف لم يسد ويربط على فمه فهو نجس!! وهناك أشياء كثيرة جداً بهذا المعنى، مثل إيجاب القتل في القصاص يعني لا تقبل دية من القاتل المذنب بل إنه يقتل! وإذا كان لرجل ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول أبيه ولا لقول أمه ويؤدبانه فلا يسمع لهما فإن أباه وأمه يمسكانه ويأتيان به إلى شيوخ مدينتهم ويقولون لهم: ابننا هذا معاند ومارد ولا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير؛ فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت!

معنى قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا)

معنى قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا) قوله تعالى: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) أي: من بليات الدنيا والآخرة، فالدعاء الأول (ربنا ولا تحمل علينا إصراً) هذا طلب رفع شدائد التكليف، أما قوله: (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) فهذا فيه رفع شدائد البليات. (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) فإن من حق المولى أن ينصر عبده وأن يتولى أمره على أعدائه، وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله تعالى حسبما مر في تضاعيف السورة الكريمة هي غاية مطلبهم. ثم تختم هذه السورة الطويلة بقوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، وهو لتمكين كل الدين، فأقصى غاية عند المؤمنين والمسلمين الصادقين إعلاء كلمة الله والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. يقول الرفاعي فتضمن ذلك وجوب قتال الكافرين وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ليس ناهياً عن قتال المشركين وأعداء الدين، وإنما هو إشارة إلى أن الدين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه، بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة دون الإحواج إلى القتال، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دل عليه عقله، ومن أبى دخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام وماطر السهام.

فضل الآيتين من آخر سورة البقرة

فضل الآيتين من آخر سورة البقرة روى البخاري والجماعة عن أبي مسعود رضي الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) قيل: كفتاه من كل سوء، وقيل: كفتاه عن قيام الليل، يعني: أنه يؤجر كأنه قام هذه الليلة كلها، فهذه من الأذكار الليلية، وتقال في أي وقت من الليل، ويفضل أن الإنسان إذا خشي أنه لا يأتي بهما أن يأتي بهما في أول الليل حتى لا يفوته هذا الثواب العظيم. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش لم يعطهن أحد قبلي). وأخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال: ((إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)) [النجم:16] قال: فراش من ذهب، قال: فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً إلا المقحمات) يعني: الكبائر. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -وهذا في مسلم - قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لما يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته) فلا يسمع بمثل هذا الثواب ويزهد فيه إلا إنسان خاسر!! وأخرج الترمذي والنسائي والدارمي والحاكم وصححه عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان). فهذه الرحلة الطويلة التي يقطعها الإنسان إذا قرأ سورة البقرة؛ كأن الله سبحانه وتعالى جعل نهاية هذه السورة العظيمة المباركة هدية للمؤمنين ومكافئة للمؤمنين إذا ختموا هذه السورة الكريمة؛ فلذلك كان الحسن البصري رحمه الله تعالى -كما أخرج عبد بن حميد في مسنده- إذا قرأ آخر البقرة يقطعها ويقول: يا لك نعمة! يا لك نعمة! إذاً: أنعم الله سبحانه وتعالى علينا بهذه السورة العظيمة، وبالذات خواتيمها، ولها من الفضل ما ذكرناه.

فضل سورة البقرة

فضل سورة البقرة رويت في فضل سورة البقرة أحاديث كثيرة منها ما أخرجه مسلم والترمذي من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران). وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) أي السحرة. وقال صلى الله عليه وسلم: (تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تجادلان عن صاحبهما) أي: تأتي هاتان السورتان تجادلان عن الإنسان الذي يكون قد استحق العذاب فتأتي هذه السورة تحامي عنه، فنعم المحامي ونعم المدافع!! تجادلان عن صاحبيهما وتشفعان له. وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت التي قرأ فيه سورة البقرة)، ولفظ الترمذي: (وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان). وينبغي أن نكف عن هذه الظاهرة الشائعة الآن، وهي أن بعض الناس يظن أنه يرضي ضميره بأن يشغل التسجيل والشرائط لسورة البقرة في البيت!! فهل التسجيل الذي يثاب أم أنت الذي تثاب؟! أما وجدت سبيلاً إلى القراءة بلسانك وبقلبك؟! فينبغي أن تقرأ أنت، أما هذا التسجيل فهو حديد، وأنت الذي تطالب بقراءة سورة البقرة، وهذا من الاستهتار الذي يدخل في العبادات، فهو لا يقرأ ويظن أنها تقرأ سورة البقرة في البيت عن طريق التسجيل، صحيح أنه من الممكن أن يكون ذلك عند العجز كرجل أو امرأة عجوز لا يستطيع أن يقرأ أو أمي أو إنسان له أي عذر من الأعذار، لكن لا ينبغي أن تكون القاعدة أن ينوب عنا التسجيل، بحيث إن الإنسان يظن أنه يثاب إذا قرأ سورة البقرة بحديد أنطقه الله سبحانه وتعالى من معدن أو جماد!! فأنت المتعبد بالتلاوة، فينبغي ألا يزحف التكاسل في حياتنا إلى حد أن نقيم هذه الجمادات التي لا تعقل مقام عقولنا وقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا. وأخرج سعيد بن منصور والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي).

خاتمة تفسير القاسمي لسورة البقرة

خاتمة تفسير القاسمي لسورة البقرة القاسمي رحمه الله تعالى ختم تفسير سورة البقرة باقتباس جميل جداً هو في الحقيقة في غاية الروعة، وما أشد مناسبته لختام سورة البقرة؛ لأنه جمع فيه الفضائل العظيمة جداً في القرآن، يقول رحمه الله تعالى: تأمل خطاب القرآن تجد ملكاً له الملك كله وله الحمد، كله يثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويحيي ويميت ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور النازلة من عنده دقيقها وجليلها والصاعدة إليه، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه. فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وصلاحهم ويرغبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم ما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوقاتهم، ويذم أعداءه بسيئ أعمالهم وقبيح صفاتهم. ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها، ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها وآلامها. ويذكِّر عباده بفقرهم إليه، وشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكر لهم غناءه عن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه لا ينال أحد ذرة من الخير فما فوقها إلا بفضله ورحمته، ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته. وتشهد من خطابه عتابه لأحبابه بألطف عتاب، وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم، وغافر زلاتهم، ومقيم أعذارهم، ومذهب فسادهم، والدافع عنهم، والحامي لهم، والناصر لهم، والكفيل لمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليهم الذي لا ولي لهم سواه، فهو مولاهم الحق وناصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير. وإذا علمت القلوب من القرآن أن الله جواد رحيم جليل، هذا شأنه؛ فكيف لا تحبه، وتتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه آثر عندها من رضا كل من سواه؟! وكيف لا تلهج بذكره وتصير حبه والشوق إليه والأنس به هو رضاؤها وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بحياتها؟! اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء حزننا، وأعنا على إكمال ما قصدناه بفضلك يا أرحم الراحمين!

آل عمران [1 - 20]

تفسير سورة آل عمران [1 - 20]

تفسير سورة آل عمران

تفسير سورة آل عمران سورة آل عمران مدنية، وآياتها مائتان، سميت بذلك لأن اصطفاء آل عمران -وهم عيسى ويحيى ومريم وأمها- نزل فيه منها ما لم ينزل في غيرها، وذلك بضع وثمانون آية، وقد جعل هذا الاصطفاء دليلاً على اصطفاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعله متبوعاً لكل محب لله ومحبوب له سبحانه. وتسمى الزهراء؛ لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتابين من شأن عيسى عليه السلام. وتسمى الأمان؛ لأن من تمسك بما فيها أمن من الغلط في شأن المسيح عليه السلام. وتسمى الكنز؛ لتضمنها الأسرار العيسوية. وتسمى المجادلة؛ لنزول نيف وثمانين آية منها في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى نجران. وتسمى سورة الاستغفار؛ لما فيها من قوله {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. وتسمى طيبة؛ لجمعها أصناف الطيبين في قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. والمراد بعمران هو والد مريم عليه السلام، كما يأتي التنويه به في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33].

تفسير قوله تعالى: (الم.

تفسير قوله تعالى: (الم. الله لا إله إلا هو الحي القيوم والله عزيز ذو انتقام) {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:1 - 4]. قال تعالى: ((ألم)) الله أعلم بمراده بذلك، حيث إن هذا من المتشابه. ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) سبق تفسيره في سورة البقرة في آية الكرسي. (نزل عليك) يعني: يا محمد. (الكتاب) أي: القرآن. (بالحق) أي: متلبساً بالحق أي: بالصدق في أخباره. (مصدقاً لما بين يديه) يعني: مصدقاً بما قبله من الكتب. (وأنزل التوراة والإنجيل) والتوراة بالعبرانية معناها: الشريعة، والإنجيل معناه: البشارة، وأصل الإنجيل بشارة؛ لأن أحد مقاصد بعثة عيسى عليه السلام الأساسية هي ما عبر عنه في قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، ولذلك تأتي في نصوص الإنجيل -حتى بعد تحريفها- كثير من النصوص التي تدل على أن هذا كان هدفاً ومقصداً أساسياً لبعثة عيسى عليه السلام. وهناك رجل من كبار أحبار الكلدانيين وهو داود الأشوري وكان من الأحبار، وقد أسلم وأنار الله قلبه بالإسلام فكتب كتباً قيمة، هي في الحقيقة من أرقى الكتب في هذا الموضوع، وأفرد بعض الفصول لهذه المسألة، وقد ناقش أن كلمة الإنجيل تعني البشارة، وقال: إن العبارة المشهورة عند النصارى عبارة محرفة وهي قولهم: المجد لله في الأعالي، وفي الناس المسرة، وعلى الأرض السلام، قال: إن حقيقة هذه الكلمة هي: المجد لله في الأعالي وفي الناس أحمد، وعلى الأرض إسلام. وأتى بالنقول التي تدل على هذا. فإذاً حتى كلمة الإنجيل تعني باللغة العبرية الأصلية: البشارة، والبشارة هي التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل) يعني: من قبل تنزيل القرآن. (هدىً للناس) هذا حال بمعنى: هاديين من الضلالة. وقوله: (للناس) يعني: لمن تبعهما، وعبر هنا في (التوراة والإنجيل بـ (أنزل)، لكن في القرآن قال: (نزل عليك الكتاب بالحق) لأن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، فكلمة (نزل) تقتضي التكرار، لأن القرآن نزل مفرقاً بحسب المناسبات والنوازل. أما التوراة والإنجيل فقد أنزل كل منهما دفعة واحدة. وقوله: (وأنزل الفرقان) بمعنى: الكتب الفارقة بين الحق والباطل، وذكره بعد ذكر هذه الثلاثة من الكتب ليعم كل ما عداها، فيعم أيضاً صحف إبراهيم عليه السلام، وكل كتاب أنزله الله على نبي. ثم قال تعالى: (إن الذين كفروا بآيات الله) أي: بالقرآن وغيره، (لهم عذاب شديد). (والله عزيز) أي: غالب على أمره، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده. (ذو انتقام) يعني: ذو عقوبة شديدة لمن عصاه لا يقدر على مثلها أحد، وليس من أسماء الله الحسنى المنتقم، لكن قال سبحانه: (والله عزيز ذو انتقام).

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء العزيز الحكيم) ((إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:5 - 6]. قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض) يعني: لا يخفى عليه شيء كائن في الأرض (ولا في السماء) لعلمه تبارك وتعالى بما يقع في العالم من كليٍّ وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يجاوزهما أعني الأرض والسماء. (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وغير ذلك. (لا إله إلا هو العزيز) أي: في ملكه (الحكيم) في صنعه.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات إن الله لا يخلف الميعاد)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات إن الله لا يخلف الميعاد) {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:7 - 9] قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) أي: واضحات الدلالة. (هن أم الكتاب) يعني: أصل الكتاب المعتمد عليه في الأحكام. (وأخر متشابهات) يعني: لا تفهم معانيها، فلها معانٍ لكن لا تفهم كأوائل السور. وفي موضع من القرآن وصف الله كل القرآن بأنه محكم، وذلك في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ومعنى كونه محكماً: أنه ليس فيه عيب في ألفاظه ولا في معانيه. وفي موضع آخر وصفه بأنه متشابه، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] ومعنى كونه متشابهاً: أنه يشبه بعضه بعضاً في الحكم والصدق. قوله تعالى: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)) أي: ميل عن الحق. ((فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)) أي: طلب الفتنة لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس. ((وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) أي: ابتغاء تفسيره أو حقيقته، فإما أن يكون تأويله بمعنى تفسيره فيفسر له تفسيراً باطلاً لا أصل له، وإما أن يكون تأويله بمعنى حقيقته وهو الأقرب؛ ومعنى حقيقته كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] يعني: حقيقته واقعاً كما هو، وهذه الأشياء التي لا يعلم تأويلها إلا الله مثل الروح {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] كذلك مفاتح الغيب الخمس المعروفة، كذلك مثلاً معاني الحروف المقطعة في أوائل السور، كذلك نعيم الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]. ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) وهنا تقف وقفاً لازماً، أي: لا يعلم تأويله إلا الله وحده، ثم تستأنف وتقول: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) أي: الثابتون المتمكنون في العلم، وهذا مبتدأ وخبره ((يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) يعني: بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه. ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) كل من المحكم والمتشابه هو من عند الله تبارك وتعالى. ((وَمَا يَذَّكَّرُ)) بإدغام التاء في الذال؛ لأن أصلها يتذكر، والمعنى: وما يتعظ (إلا أولوا الألباب) أي: أصحاب العقول. ويقولون أيضاً إذا رأوا من يتبع المتشابه: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا)) يعني: لا تزغ قلوبنا عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا، كما أزغت قلوب أولئك. ((بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)) أي: أرشدتنا إليه. ((وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ)) أي: من عندك. ((رَحْمَةً)) أي: تثبيتاً {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]. (ربنا) أي: يا ربنا. (إنك جامع الناس ليوم) يعني: تجمعهم ليوم أو في يوم. (لا ريب فيه) أي: لا شك فيه، وهو يوم القيامة، فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت بذلك. (إن الله لا يخلف الميعاد) يعني: موعده بالبعث، وهذا فيه التفات عن الخطاب. روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)) [آل عمران:7] إلى آخرها وقال: فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا والله شديد العقاب)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً والله شديد العقاب) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران:10 - 11]. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} [آل عمران:10] يعني: لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم. (من الله) أي من عذاب الله شيئاً. (وأولئك هم وقود النار) الوقود: بفتح الواو ما يوقد به. (كدأب) المقصود به: دأبهم كدأب، يعني: عادتهم كعادة (آل فرعون والذين من قبلهم) من الأمم كعاد وثمود. (كذبوا بآياتنا فأخذهم الله) أي: أهلكهم. (بذنوبهم والله شديد العقاب). ونزلت هذه الآية لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً من بدر ودعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا له: لا يغرنك منا أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون فنون القتال، لكن إذا قاتلتنا سترى أننا نحن الناس، فنزلت هذه الآيات في الرد على اليهود لعنهم الله!

تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)

تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:12 - 13]. (قل للذين كفروا) يعني: قل يا محمد (للذين كفروا) من اليهود. (ستغلبون) في قراءة أخرى (سيغلبون) يعني: في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية، وقد وقع ذلك. (وتحشرون) وفي قراءة (ويحشرون) أي: في الآخرة. (إلى جهنم) فتدخلونها. (وبئس المهاد): يعني الفراش. (قد كان لكم آية) أي: عبرة، وذكّر الفعل (كان) هنا مع أن فاعله مؤنث (آية)؛ وذلك لأنه فصل بينهما بالخبر (قد كان لكم آية). ومعنى (آية): علامة، أي: يا أيها اليهود قد ظهرت لكم آية على صحة دين الإسلام، إذ لو كان الإسلام غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة بالحق الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به. (في فئتين) أي: فرقتين (التقتا) يوم بدر بالقتال. ويوم بدر وصفه الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات بأنه بينة كما قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه فرقان كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41] وهو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل. ((قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا)) يعني: أن ما حصل في بدر كان علامة على صحة دين الإسلام. ((فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: في طاعته، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ومعهم فرسان وست أدرع وثمانية سيوف، وأكثرهم رجالة لم يكونوا راكبين. ((وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ)) أي: الكفار. (يرونهم مثليهم) يعني: يرون الكفار مثليهم، أي: مثلي المسلمين، وكانوا نحو ألف رأي العين، يعني: رؤية ظاهرة معاينة، وقد نصرهم الله مع قلتهم. (والله يؤيد بنصره من يشاء) أي: يقوي بنصره من يشاء نصره. (إن في ذلك) المذكور (لعبرة لأولي الأبصار) أي: لذوي البصائر، أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.

تفسير قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والله عنده حسن المآب)

تفسير قوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والله عنده حسن المآب) {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]. قال تعالى: ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)) وهي ما تستميل النفس وتدعو إليه، زينها الله ابتلاءً أو زينها الشيطان. (من النساء) قدم النساء لعراقتهن في الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) وقال أيضاً: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). ((وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ)) أي: الأموال الكثيرة (المقنطرة) أي: المجمعة. (من الذهب والفضة): وخصهما بالذكر من أنواع الأموال لأن من ملك الذهب والفضة وهما أصل المال يستطيع أن ينال كل ما يتحصل بهما. (والخيل المسومة) أي: الحسان. (والأنعام) أي: الإبل والبقر والغنم، وقد بين تبارك وتعالى أن الأنعام ثمانية أزواج فقال: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ثم قال: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144]، (من الضأن اثنين) أي: الذكر والأنثى ويسميان: الكبش والنعجة، (ومن المعز اثنين) التيس والعنز (ومن الإبل اثنين) يعني: الجمل والناقة. (ومن البقر اثنين) الثور والبقرة؛ ولذلك قال تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]. (والحرث) وهو الزرع. (ذلك) أي: المذكور (متاع الحياة الدنيا) يعني: يتمتع به فيها ثم يفنى. (والله عنده حسن المآب) أي: المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره.

تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها والمستغفرين بالأسحار)

تفسير قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها والمستغفرين بالأسحار) قال تبارك وتعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:15 - 17]. هذه الآيات جاءت مباشرة بعد قوله تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] فبعدما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء التي هي أصول الفتنة في الدنيا وجذورها أشار إليها جميعاً بقوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]. فهذا هو الذي زين للناس وهذا الذي يبتلى الناس بفتنته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وهذه هي التي تراد لذاتها من عباد الدنيا، أو ترغب في تحصيل ما لم يذكر من متاع الدنيا، وأشار تبارك وتعالى لكل هذا بقوله: (ذلك متاع الحياة الدنيا) أي: كالبلاغ الذي ينبغي أن يتبلغ الإنسان به لفترة وجيزة في سفر قصير. وهذا يتوافق مع ما يرد في القرآن الكريم ثم في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التحذير من فتنة الدنيا، الأمر الذي يحقق صدق تلك المقولة المشهورة: حب الدنيا رأس كل خطيئة! فإنك إذا فتشت وراء أي معصية تقع تجد حب الدنيا وراءها، فالحروب التي تقع إذا فتشت عن أسبابها تجد أنها ترجع إلى حب الدنيا، والاطمئنان لها والخلود إليها والركون إليها، فأما الشهوات فمعلوم كيف يهلك كثير من الناس بسببها، والحروب التي تقع على نطاق فردي أو على نطاق أممي وجماعي فإنما هي من أجل قطعة من الأرض فيها بترول أو معادن أو ثروات زراعية أو غير ذلك من الثروات، والتناحر والتحاسد الذي يكون بين الجار وجاره، وبين الأخ وأخيه، وبين الإنسان وشريكه كله بسبب حب الدنيا، فما يخطر ببالك شيء إلا يكون حب الدنيا هو سببه وهو من ورائه، حتى التنافس على الرئاسات وعلى الوجاهات وعلى الشهرة، وإن كان ليس تنافساً في الدنيا، فإنه تنافس في حظ من حظوظ الدنيا. فلذلك إذا أخرج الإنسان الدنيا من قلبه سلم من هذه الآفات جميعاً؛ لأنه لن يحوز شيئاً من الدنيا إلا وهناك من هو أكثر منه حظاً فيه؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ومن لم يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إليَّ عذبها وعذابها فلم أر إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها ناهشتك كلابها فالسلامة هي في ترك الدنيا والإعراض عنها إلا ما يتبلغ به ويوصله إلى الدار الآخرة، على حد قول بعض الصالحين في الشعر الذي هو ذكره النووي في مقدمة رياض الصالحين: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وقال علي رضي الله عنه للدنيا: (غري غيري، لي تشوفت أم إلي تزينتِ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيهن) أو كما قال رضي الله تبارك وتعالى عنه. وهنا أشار الله تعالى لكل هذه الفتن الدنيوية بقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] ثم لما أخبر الله تبارك وتعالى بحال الدنيا وفتنتها أخبر أن ما عنده خير مما في الدنيا وإن كان محبوباً؛ لأنه إذا كان قد زين لنا فتنة الدنيا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فهذا أيضاً قد زين لنا، وما زين لنا لابد أن نحبه وأن نميل إليه بطبعنا وبما ركب فينا من الميل لهذه الدنيا، فأشار أولاً بقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14]. وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رب! كيف وقد زينتها؟! فنزل قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15]. فأراد الله تبارك وتعالى بهذه الآيات أن يخبرنا أن ما عنده خير مما في الدنيا وإن كان محبوباً؛ لنترك ما نحبه من فتنة الدنيا لما نرجوه، حيث إنه أعظم وخير؛ لشهادة الله سبحانه وتعالى هنا في الآية: ((قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا)) إلى آخر الآية. واختلف العلماء في منتهى هذا الاستفهام: فمنهم من قال: إنه يقف عند قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) ثم يكون A ( للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) إلى آخرها. ومنهم من قال: إن الاستفهام ينتهي عند قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم) فيكون A ( جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها). قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلك) أي: بخير من الشهوات المزينة لكم من زهرة الدنيا وزينتها الزائلة لا محالة؛ ولذلك نلاحظ أن القرآن يذم من يؤثر الحياة الدنيا، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37 - 38] فالذي يؤثر الحياة الدنيا هو الخاسر كما يعلم هذا من تتبع الكثير من الآيات في القرآن الكريم. (للذين اتقوا) يعني: للذين اتقوا الله سبحانه وتعالى ولم ينهمكوا في شهواتهم. (عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) يعني: تنخرق بين جوانبها، ونحن قلنا من قبل إن النهر هو عبارة عن الشق الذي يكون في الأرض، فالأصل أن يقال: ماء النهر هو الماء الذي يجري في هذا الشق، لكن أطلق تجاوزاً استعمال النهر في المياه التي تجري، والنهر في الأصل هو الخندق المحفور، فمعنى هذا أنها تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. و (للذين اتقوا) خبر المبتدأ الذي هو (جنات) يعني: جنات للذين اتقوا، و (تجري) صفة لها، والعندية في قوله تبارك وتعالى: (للذين اتقوا عند ربهم) مفيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقاتها، لأنها أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى. (خالدين فيها) أي: ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا، والذي يعمل أعمالاً صالحة في سنوات محددة لا تساوي الحياة الخالدة إلى أبد الآباد في جنات النعيم، إنما يدخل الجنة ويخلد فيها برحمة الله سبحانه وتعالى، لكن ما هو السر في أن الكافر يخلد في جهنم مع أنه عصى الله سنوات محددة، والمؤمن يخلد في الجنة مع أن عمل كل منهما محدد، والخلود الأبدي لهما بلا نهاية؟! قد أخذنا في كتاب (فضائل النية) أن من فضائل النية أن يحصل بها الخلود في الجنة أو الخلود في النار. فالخلود في النار كان بسبب نية البقاء على الكفر، والمؤمن من كانت نيته أن يبقى على طاعة الله سبحانه وتعالى حتى لو عاش بلا نهاية، فكانت نيته تلك سبباً للخلود في جنة الرضوان. (وأزواج مطهرة) أي: أزواج مطهرة من الأرجاس والأدناس البدنية والطبيعية، مما لا تخلو منه نساء الدنيا غالباً، وتلاحظون هنا كيف أنه سبحانه وتعالى بعد ما ذكر زينة الدنيا من حب الشهوات من النساء وغيرها ذكر بعدها نعيم الجنة وما فيه من الأزواج المطهرة من الآفات والأدناس، فهن مطهرات من الحيض والنفاس وغير ذلك من الأذى الذي يوجد في نساء الدنيا، فهذه إشارة إلى أفضلية نساء الآخرة على نساء الدنيا، ولذلك يستحب علماء السلف للشباب أن يكثروا من التشوق إلى الحور العين. كان بعض السلف يقول: يا معشر الشباب! تشوقوا إلى الحور العين؛ لأنه يحرض ويحض على الأعمال الصالحة التي تبذل في خطبة الحور العين، ومن أهم وأفضل المهور للحور العين كما يقول بعض الشعراء: أيها النائم دعني لست أصغي للمنام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام الخلد والفردوس في دار السلام وعروساً فاقت الشمس مع بدر التمام أحسن الأتراب قداً في اعتدال وقوام مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام فالذي يخطب به الحور العين هو الأعمال الصالحة كالجهاد في سبيل الله وقيام الليل وقراءة القرآن، لا كما يحصل من العناء والشقاء في سبيل الحصول على الحور الطين. النساء في الدنيا خلقن من طين. قوله: (ورضوان من الله) هنا التنوين والتكبير للفظ (رضوان) أي رضوان من الله سبحانه وتعالى قدره عظيم، وهو أعظم لذة للروح والجسد وأكبرها، كما قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: أنه أكبر من كل هذا النعيم، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]، وهذا يتضمن رداً على الكفرة من المستشرقين والنصارى وغيرهم ممن يطعنون في دين الإسلام بزعم أنه دين شهواني، وذلك حين رغب في الحور العين في الجنة، قال هؤلاء: لقد أتاكم من جانب الملاذ الحسية، فهذا من جهلهم وظلمة قلوبهم؛ لأن الإنسان روح وجسد، فكما أنه يتنعم ب

تفسير قوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا)

تفسير قوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا) قال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]. (الذين يقولون) قيل: إنها بدل من قوله: (للذين اتقوا)، فإذا قلنا إنها بدل تكون مجرورة في محل رفع بتقدير (هم الذين)، أو نصب على المدح. (ربنا) أي: يا ربنا، لكن حذفت أداة النداء. (إننا آمنا) أي: صدقنا (فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار). قال الحاكم: في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته وما تقرب به إلى الله ثم يدعو. بمعنى: أن هذا نوع من التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا الأدب يؤخذ من مواضع كثيرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]، فتوسلوا هنا بإيمانهم. ومنها: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران:193]، إلى آخره، هذا توسل بالأعمال الصالحة، وأشرفها وأعظمها الإيمان. ومن الأدلة أيضاً: سورة الفاتحة، فإنها بدأت بالثناء على الله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2 - 5]، ثم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فقبل الدعاء أتى أيضاً بالتوسل بالعمل الصالح. ومن السنة حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار وتوسل كل منهم بصالح عمله، ثم فرج الله سبحانه وتعالى عنهم.

تفسير قوله تعالى: (الصابرين والصادقين والقانتين)

تفسير قوله تعالى: (الصابرين والصادقين والقانتين) قال الله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. (الصابرين) أي: على البأساء والضراء وحين البأس، وكذلك الصبر عن المعاصي والشهوات، وقيل: الصبر على الطاعات. (والصادقين) أي في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم. (والقانتين) أي: المطيعين لله الخاضعين له. (والمنفقين) أي: أموالهم في سبيل الله تعالى وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات.

اهتمام السلف بالطاعات وخاصة الاستغفار

اهتمام السلف بالطاعات وخاصة الاستغفار قوله تعالى: (والمستغفرين بالأسحار) أي: أن الله سبحانه وتعالى وصفهم بهذه الطاعات، ومع هذه الطاعات الصبر والصدق والقنوت والإنفاق في سبيل الله، وختمها بالاستغفار في الأسحار؛ وفي هذا إشارة إلى أنهم شديد والخوف من ربهم، مع أنهم يأتون بهذه الطاعات، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، ليس معنى الآية: (يؤتون ما آتوا) أي: يؤتون ما آتوا من الطاعات من صدقة وصلاة وصيام وغير ذلك ثم هم مع ذلك يخافون أن لا يتقبل الله سبحانه وتعالى منهم، فلذلك وصفهم مع الطاعات بشدة الخوف الذي يدفعهم إلى أن يستغفروا. (والأسحار) جمع سَحَر أو سَحْر، وهي الوقت الذي قبيل طلوع الفجر، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت، قال الحرالي: ويفهم من هذا أنهم يتهجدون في الليل كما قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. وقال الرازي: اعلم أن المراد منه من يصلي بالليل، ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء. أي: من يكون له ورد من قيام الليل ثم يكون له في النهاية ورد الاستغفار. يقول: لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك. وقد روى ابن أبي حاتم: (أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح). وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة). وروى ابن جرير عن حاطب قال: (سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه).

علاقة حديث النزول بالعقيدة والرد على منكر نزول الرب سبحانه

علاقة حديث النزول بالعقيدة والرد على منكر نزول الرب سبحانه ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه، عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟). وفي رواية لـ مسلم: (ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم)؟ وفي رواية: (حتى ينفجر الفجر)، يعني: أن ذلك الفضل يظل إلى أن ينفجر الفجر. سبق أن تكلمنا أن المبدأ الذي أرساه السلف في عقيدة الأسماء والصفات مقتبس من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهو سبحانه يثبت السمع والبصر، لكن ليس كمثله شيء كما بينا ذلك مراراً، فالمشكلة أن بعض الناس لم يلتزم بهذه القواعد الذهبية في فهم العقيدة السلفية في الأسماء والصفات فيقعون حتماً في إحدى الضلالتين أو كليهما معاً، فهو ينفر طبعاً من التشبيه إلى التعطيل، فينفي الصفة. أحياناً تصدر أسئلة غريبة عن مثل هذا الحديث، فإذا قلت: ينزل ربنا لا كنزول المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، تجد البعض يتصور نزولاً كنزول المخلوقين والعياذ بالله، فلذلك تجد الأسئلة الشيطانية الغريبة كقولهم مثلاً: الكرة الأرضية مستديرة، ومعروف أن الليل يكون في مكان والنهار في مكان آخر ومعنى ذلك: أن الليل يكون موجوداً مدة أربعة وعشرين ساعة، فمعنى ذلك: أن هذا النزول سيستمر طول الليل؟ وهذا السؤال صادر عن اعتقاد تشبيه الخالق بالمخلوق، أما إذا قلت: (ليس كمثله شيء) فلن تحتاج أبداً لذكر هذه الأسئلة. وبعضهم يسأل: هل هذا النزول يستلزم أن يخلو منه العرش أم لا؟ لماذا تسأل هذه الأسئلة؟ إن نزول الله عز وجل لا كنزول المخلوقين، أما أنت فنزولك يستلزم أن تنزل عن شيء، ويستلزم خلو هذا المكان منك، لكن الله سبحانه وتعالى في استوائه على عرشه ليس كمثله شيء، ونزوله في الثلث الأخير ليس كنزول المخلوقين، فلا نحتاج إذا طبقنا فهم السلف الصالح لمثل هذه الإيرادات. لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لما تكلم عن تفسير هذا الحديث في هذه الآية قال: وقد اختلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه: ما جاء في كتاب النسائي مفسراً عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر منادياً فيقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟)، والفرق في الرواية واضح! فالحديث المشهور الذي ذكرناه: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟) والمتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى. فهنا الإمام القرطبي قال: إننا نحمل هذا الحديث على ذاك الحديث ونفسره به، يقول: لو صححه أبو محمد عبد الحق فإنه يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وتكون الرواية الأولى: (ينزل ربنا) من باب حذف المضاف، وقد روي: (ينزل ملك ربنا). وهو الشاهد من هذا الكلام الذي استروح له الإمام القرطبي رحمه الله تعالى والإمام ابن عطية. واسم الإمام ابن عطية الأندلسي هو أبو محمد عبد الحق بن غالب كان من أعيان أئمة المالكية المضربين في العلم. وللإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب يسمى (شرح حديث النزول)، ناقش فيه هذه النقطة فقال رحمه الله تعالى رداً على هؤلاء الذين قالوا في تأويل الحديث: (ينزل ربنا) أنه بمعنى: أنه ينزل ملك من عند ربنا: فإن قلت: الذي ينزل ملك، قيل: هذا باطل من وجوه: الأول: أن الملائكة لا تزال تنزل بالليل والنهار إلى الأرض كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، وقال تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64]، وفي الصحيحين أيضاً في الحديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، إلى آخر الحديث، كذلك حديث (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر)، إلى آخر الحديث. فإذاً نزول الملائكة أمر مستمر فما وجه تخصيص ثلث الليل الآخر؟ الوجه الثاني: أنه قال فيه: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، وهذه العبارة لا يجوز أن يقولها الملك! بل الذي يقول الملك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وذكر في البغض مثل ذلك، فهذا فعلاً ينادي به ملك من عند الله، فالملك إذا نادى عن الله لا يتكلم بصيغة المخاطبة كما قال جبريل في الحديث هنا: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه). يقول شيخ الإسلام معلقاً على تأويل حديث نزول الله: هذا تأويل من التأويلات القديمة للجهمية، فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى عليه السلام، وقالوا: إنه أمر ملكاً فكلمه، فقالوا في قوله: (وكلمه ربه) أي: كلمه ملك ربه. يقول شيخ الإسلام: هذا من تأويلات الجهمية، وهو باطل إذا لو كلمه ملك لما قال الملك: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، فالملائكة رسل الله إلى الأنبياء، تقول كما كان جبريل عليه السلام يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64]، ويقول: إن الله يأمرك بكذا، ويقول كذا، ولا يمكن أن يقول ملك من الملائكة ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي))، ولا أن يقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، ولا يقول: (لا يسأل عن عبادي غيري) كما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما وسندهما صحيح. وهذا أيضاً مما يبطل حجة بعض الناس، فإنه احتج بما رواه النسائي في بعض طرق الحديث أنه يأمر منادياً ينادي، إشارة إلى الحديث الذي احتج به القرطبي تبعاً للإمام ابن عطية رحمه الله، فإن هذا إن كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرب يقول ذلك، ويأمر منادياً بذلك، جمعاً بين الحديثين، لا أن المنادي هو الذي يقول: (من يدعوني فأستجيب له)، ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه خلاف للفظ المتواتر، الذي نقلته الأمة خلفاً عن سلف.

فضل الاستغفار بالأسحار

فضل الاستغفار بالأسحار قال بعض الصالحين لابنه: يا بني! لا يكن الديك أحسن منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم. والحكمة في تخصيص الأسحار كونها وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية والنفحات السبحانية، ومعروف أن أفضل أوقات العبادة وقت غفلة الناس عنها، لذلك يعظم ثواب من ذكر الله سبحانه وتعالى في السوق؛ لأن السوق مكان الغفلة والاشتغال بالدنيا، فمن ذكر الله في الغافلين فإنه ينال ثواباً عظيماً، كذلك ثبتت فضيلة شهر شعبان، وعللها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهر يغفل عنه الناس ما بين رجب ورمضان، هكذا أوقات غفلة الناس تضاعف فيها الأجور، وعند ذلك تكون العبادة أشق، والنية خالصة، والرغبة وافرة من عباده مع قربه تعالى وتقدس. في الآية فضيلة الاستغفار في السحر، وأن هذا الوقت أفضل الأوقات. وجاء في كتب التفسير في قوله عز وجل: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:97 - 98] أنه أراد أن يؤخر ذلك إلى وقت السحر؛ لأنه أدعى للإجابة. يقول الرازي: واعلم أن الاستغفار في السحر له مزيد أثر في قوة الإيمان، وفي تمام العبودية، من وجوه: الأول: أن وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب. الثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية كانت الطاعة أكمل. الثالث: نقل عن ابن عباس {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، يريد المصلين صلاة الصبح. قالوا: إن الصلاة هنا سميت استغفاراً؛ لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة. إذاً: ينبغي أن نتواصى بهذا الأمر، وهو الاهتمام بالاستغفار في السحر؛ لأننا إذا كنا محتاجين إلى الاستغفار من قبل حاجة ماسة وشديدة، فنحن الآن في ظروف يعتبر الاستغفار فيها مثل سفينة نوح، فنحن في أوضاع كلها شؤم، وكلها تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتنذر بنزول عذاب من الله سبحانه وتعالى يستأصل من شاء من عباده، وقد بارزنا الله بكل أنواع المعاصي، ومن آخرها ما يسمى بمؤتمر السكان وغير ذلك من ألوان محاربة الإسلام. والآن نسوا كلمة التطرف والإرهاب وعادوا للحقيقة وهي محاربة دين الإسلام محاربة صريحة بلا خجل ولا استحياء، لا من الخالق ولا من المخلوقين، ولا يرفع هذا البلاء إلا الاستغفار، أعني: أن الاستغفار قد يحول دون نزول البلاء والعذاب؛ لأننا حشدنا كل ما يستنزل غضب الله سبحانه وتعالى، وأصبح الطعن في الكتاب والسنة وظيفة عند الملحدين كما ترون في مزبلة الصحافة المصرية المسماة روز اليوسف، ولا يجوز لأحد أن يدخل هذه المجلة في بيته، وأن يريها أولاده وبناته وزوجته؛ لما تحويه من الفسوق والفجور، ويكفي أن أمثال هؤلاء الملاحدة الزنادقة حينما يكتبون فيها يكتبون بالخط العريض مقالة عنوانها كفر بواح وردة عن الدين مثل "الأخطاء النحوية في القرآن الكريم" ومقالة مثلاً في الدفاع عن المرأة الهندية التي شتمت الرسول عليه السلام وطعنت في القرآن، وإظهارها في مظهر المظلومة، وأن هذا ضد الحريات، وأنها مضطهدة، وغير ذلك من الأشياء التي ذكرنا مقتطفات منها ومن بعض الكتب الممنوعة مثل: "آيات شيطانية" لـ سلمان رشدي ورواية "أولاد حارتنا" للخبيث نجيب محفوظ وغير ذلك من كتب الإلحاد والكفر والزندقة، والله تعالى أعلم. إذا لم يتداركنا الله سبحانه وتعالى برحمته فسيعمنا جميعاً عذاب، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء والملاحدة والزنادقة منا. يقول تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فالاستغفار قد يكون مانعاً يحول دون نزول العذاب على العامة والخاصة. ويقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ * فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32 - 32]، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، يعني: كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجوده صلى الله عليه وسلم أمن من العذاب، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، هذا هو الأمان الثاني ضد العذاب، وذكر بعض العلماء أقاويل كثيرة في تفسير هذه الآية منها: أن (هم) هنا تعود على من هو موجود في وسطهم من المؤمنين ممن يستغفر، فلما خرجوا وتزيلوا عذبهم الله سبحانه وتعالى يوم بدر وغيره. حكي: (أن رجلاً من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم رجع عما كان عليه، وأظهر الدين والنسك، فقيل له: لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك، قال: كان لي أمانان مضى واحد وبقي الآخر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فهذا أمان. والثاني: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. إذاً فهذه الأمة كان لها أمانان: الأول: في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وهو وجوده فيهم، فلا ينزل العذاب كرامة له عليه الصلاة والسلام. الثاني: هو الاستغفار، فهو سبب آخر للأمن من العذاب. فالذي بقي لنا أن نستغفر الله سبحانه وتعالى من هذه الذنوب. قال الزمخشري: الواو المتوسطة بين الصفات في قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] للدلالة على كمالهم في كل واحدة منهم.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) والآيتين بعدها

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) والآيتين بعدها يقول السيوطي رحمه الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} قل يا محمد لقومك: (أؤنبئكم) أي: أأخبركم. ((بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ)) المذكور من الشهوات، وهذا استفهام تقرير. ((لِلَّذِينَ اتَّقَوْا)) الشرك. ((عِنْدَ رَبِّهِمْ)) خبر مبتدؤه ((جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ)) أي: مقدرين الخلود (فِيهَا) إذا دخلوها. ((وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ)) من الحيض وغيره مما يستقذر. ((وَرِضْوَانٌ)) بكسر أوله وضمه، لغتان -أي: قراءتان سبعيتان- أي رضاً كثير. ((مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ)) عالم ((بِالْعِبَادِ)) فيجازي كلاً منهم بعمله. ((الَّذِينَ)) نعت أو بدل من الذين قبله في قوله تعالى: ((للذين اتقوا)). ((يَقُولُونَ)) يا ((رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا)) صدقنا بك وبرسولك صلى الله عليه وسلم. ((فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)). ((الصابرين)) على الطاعة وعن المعصية نعت. ((والصادقين)) في الإيمان. ((والقانتين)) المطيعين لله. ((والمنفقين)) المتصدقين. ((والمستغفرين)) الله بأن يقولوا: اللهم اغفر لنا. ((بالأسحار)) أواخر الليل، خصت بالذكر لأنها وقت الغفلة ولذة النوم.

تفسير قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو)

تفسير قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) قال تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. ((شهد الله)) أي: علم وأخبر، أو: قال أو بين (أنه لا إله إلا هو) معبود حقيقي. ((والملائكة)) وشهد بذلك الملائكة. ((وأولوا العلم)) وفي مقدمتهم الأنبياء عليهم السلام فإنهم أشرف أولو العلم. (وأولوا العلم) وهذه مرتبة جليلة للعلماء، إذ لو كان هناك أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء، ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ))، والعلم هنا المقصود به العلم بالدين وبالعلوم الشرعية كعلم التوحيد وغيره. هناك حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ويقل العلم ويظهر الجهل)، كما هو الحال في هذا الزمان. فإذا نظرنا في أحوال الناس نجد أن العلم بالدنيا يزيد، والعلم بالدين يقل، فدلت الآية على أنه إنما أراد بالعلم علوم الآخرة وليست علوم الدنيا. ((قائماً بالقسط)) أي: بالعدل في أحكامه تبارك وتعالى. ((لا إله إلا هو)) كرره تأكيداً. وليبني عليه قوله: ((العزيز)) فلا يضام جنابه عظمة. ((الحكيم)) فلا يصدر شيء عنه إلا على وفق الاستقامة. هذا التكرار معروف عند العرب؛ فإذا طال عهدك بالكلام تعيد ما ذكرته حتى تصل الأول بالآخر؛ لأن الكلام هنا طال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] حتى يصلها بالعزيز الحكيم. هنا يقول السيوطي: (شهد الله) أي: بيّن لخلقه بالدلائل والآيات. ((أنه لا إله)) أي: لا معبود في الوجود بحق. ((إلا هو)) شهد بذلك ((والملائكة)) بالإقرار. ((وأولوا العلم)) من الأنبياء والمؤمنين بالاعتقاد واللفظ. ((قائماً)) بتدبير مصنوعاته، ونصبه على الحال، والعامل فيها معنى الجملة أي: تفرد بذلك. ((بالقسط)) يعني: بالعدل. ((لا إله إلا هو)) كرره تأكيداً. ((العزيز)) في ملكه ((الحكيم)) في صنعه.

تفسير قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام)

تفسير قوله تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) يقول السيوطي: قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:19]. ((إن الدين)) المرتضى. ((عند الله)) هو ((الإسلام)) أي: الشرع المبعوث به الرسل أجمعون المبني على التوحيد. هل المقصود منه الإسلام العام أم الإسلام الخاص؟ المقصود الإسلام العام ((إن الدين عند الله)) الذي لا يقبل لا من الأولين ولا الآخرين سواه هو الإسلام. إذاً: الإسلام هو الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى من السماء، وهو دين آدم ونوح وموسى وإبراهيم وعيسى، وهو قاسم مشترك في دعوة جميع الأنبياء: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. ((وما اختلف الذين أوتوا الكتاب)) أي: اليهود والنصارى في الدين؛ بأن وحّد بعض وكفر بعض ((إلا من بعد ما جاءهم العلم)) بالتوحيد، ما اختلفوا بسبب عدم الحجة أو البيان، وإنما ((بغياً بينهم)) حسداً وظلماً وعدواناً. (وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) أي: المجازاة له. قوله تبارك وتعالى هنا: ((وما اختلف)) في الكلام تقديم وتأخير، والمقصود: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.

تفسير قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله)

تفسير قوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله) قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]. ((فإن حاجوك)) أي: خاصمك الكفار يا محمد في الدين. ((فقل)) أي: فقل لهم. ((أسلمت وجهي لله)) أي: انقدت له أنا ((ومن اتبعن)) وخص الوجه بالذكر لشرفه فغيره أولى. ((وقل للذين أوتوا الكتاب)) من اليهود والنصارى. ((والأميين)) مشركي العرب. ((أأسلمتم)) هذا استفهام قصد به الأمر، أي: أسلموا. ((فإن أسلموا فقد اهتدوا)) من الضلال. ((وإن تولوا)) عن الإسلام. ((فإنما عليك البلاغ)) أي التبليغ للرسالة. ((والله بصير بالعباد)) فيجازيهم بأعمالهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.

آل عمران [21 - 41]

تفسير سورة آل عمران [21 - 41]

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]. قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ))، وهم اليهود لعنهم الله، فقد قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقتلوا حزقيال عليه السلام قتله قاض يهودي لما نهاه حزقيال عن منكر فعله. وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم عليهما السلام، وسعوا بالفعل إلى قتل المسيح عليه السلام، لكن الله عز وجل أنجاه منهم. ولما كان اليهود الذين في المدينة راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم. وقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) إشارة أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق في اعتقادهم أيضاً، ومعلوم أن مثل هذا القيد لا مفهوم له، أي لا يفهم منه أنه يمكن أن يقتل رجل نبياً ويكون على حق، فمفهوم المخالفة هنا ملغي غير معتبر، بل كل من يقتل نبياً أو يؤذيه فهو بلا شك على غير الحق، ولهذا المفهوم نظائر في القرآن الكريم، وذلك مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فليس معنى ذلك أنه يجوز قتلهم لسبب آخر غير خوف الإملاق؟ ومثل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فليس معنى ذلك أنه يجوز أكل الربا إن كان قليلاً لا يصل إلى أضعاف مضاعفة. ومثل قوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، هل يحتمل أن يعبد رجل غير الله ويكون له عنده برهان عليه؟ لا يمكن، فمفهوم هذا لا يعتبر بل هو ملغي. إذاً: فكل قتل للأنبياء يكون بغير حق، ولكن الحكمة من نصه تعالى هنا على قوله: (بغير حق) الإشارة إلى أنهم يعتقدون أن قتلهم للأنبياء محرم عليهم، وأنه ليس لهم حق في قتلهم. إن رأس يحيى عليه السلام لما قطعوه أهدوه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. فقتل الأنبياء حرفة يهودية قديمة، فهم مجرمون سفاكو دماء سفاحون، لم تتغير فيهم هذه الطبيعة الخبيثة. لا شك أن ما هم عليه من قتل الأنبياء بغير حق فكذلك هم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)، وهذا وإن كان في اليهود نزوله، لكنه عام في كل من يتصف بهذه الصفات، فإن قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ بسبب أنهم يأمرونهم بالقسط، أقبح وأسوأ أنواع الكبر، كما قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، وهذا رواه مسلم، فيجمع بين التكبر على الحق وبين غمط الناس وذلك ببخسهم منازلهم وبخسهم حقوقهم، ولهذا لما تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، فلذلك قال تعالى: ((فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)). يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ))، وفي قراءة: (يقاتلون). ((بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ))، أي بالعدل. ((مِنَ النَّاسِ))، وهم اليهود روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً، فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم. (فبشرهم) أعلمهم. (بعذاب أليم) أي: مؤلم، وذكر البشارة تهكم بهم، ودخلت الفاء في خبر إن لشبه اسمها الموصول بالشرط.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حبطت أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حبطت أعمالهم) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:22] يقول السيوطي: قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ))، أي: بطلت. ((أَعْمَالُهُمْ)) ما عملوا من خير كصدقة وصلة رحم. ((فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) فلا اعتداد بها لعدم شرطها، وشرطها هو الإيمان الصحيح. ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) أي: مانعين من العذاب. فقوله تعالى هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))، أي: بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات في الدارين، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم أيضاً من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم، ولا ننخدع بالوضع الراهن الذي وصل إليه اليهود قبحهم الله في هذا الزمان، فهذا استثناء ليس هو الأصل، إذا جئنا للأصل والقاعدة: أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا، أما ما نحن فيه فهذا من الأحوال النادرة، باعتبارنا والله أعلم في آخر الزمان وهذا خلاف الأصل. وما هم عليه اليوم هو من العلو الذي عادوا إليه، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه سيعود لتسليط عباد له أولي بأس شديد عليهم، حتى يؤدبوهم ويذلوهم كما قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، أما حدوثها في الآخرة فإبدال الثواب بالعذاب المقيم. ((وما لهم من ناصرين)) أي: ليس لهم ناصرون ينصرونهم من عذاب الله. وقد دلت الآيات على عظم حال من يأمر بالمعروف وعظم مقامه وشرفه عند الله سبحانه وتعالى، ودلت أيضاً على عظم ذنب قاتله، وأن ذنب من يقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ذنب عظيم؛ وذلك لأنه قرنه بالكفر بالله تعالى وقرنه بقتل الأنبياء. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وتدل هذه الآيات على صحة ما قاله بعض العلماء: إن للإنسان أن يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه، أو كان في ذلك تلف نفسه؛ لما يكون فيه من إعزاز دين الله عز وجل وتقوية قلوب أهل الإيمان، وإضعاف قلوب الفاسقين، كما جاء في الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران:23]. قوله: ((أوتوا نصيباً من الكتاب)) أي: من التوراة، والمراد بهؤلاء أحبار اليهود. ((يدعون إلى كتاب الله)) وهو هنا القرآن. ((لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ))، هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، إذا قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله. وفي الآية تعجب واستغراب كيف للإنسان بعد أن علم أن الكتاب هو كتاب الله، وأن الحكم هو حكم الله عز وجل، ثم يتولى عن ذلك ويعرض عن حكم الله تبارك وتعالى. ((وهم معرضون)) هذا حال من ((فريق)). ((وهم معرضون)) أي: معرضون عن قبول حكمه.

وجه حمل لفظ كتاب الله في الآية على التوراة

وجه حمل لفظ كتاب الله في الآية على التوراة ومن المفسرين من حمل قوله تعالى: ((يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ))، لا على القرآن فقط كما ذكرنا وإنما حملوه على التوراة أيضاً، حيث أشاروا إلى أن هذا إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التعزير. يعني: تسويد وجوههم فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ))، المقصود بهذا التفسير به أيضاً التوراة، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ). هذه القصة مروية في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم ((فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) [آل عمران:93]، فوضع الذي كان يقرؤها منهم إصبعه على آية الرجم، فطفق يقرأ دونها وما وراءها، فنزع الرسول عليه الصلاة والسلام يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما صلى الله عليه وسلم فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد، يقول ابن عمر: فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة).

فوائد وثمرة الآية الكريمة

فوائد وثمرة الآية الكريمة قال بعض المفسرين: وللآية ثمرتان: الأولى: أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة، وقد قال العلماء رضي الله تعالى عنهم: يستحب أن يقول: سمعاً وطاعة؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]، أو يقول: نعم وكرامة، أو: على العين والرأس، أو غير ذلك من العبارات المهذبة التي تليق بالأدب مع حكم الله سبحانه وتعالى وكتابه، لا كما يقول بعض الأجلاف المعتدين الظالمين من عبارات قد تكفرهم! وزير العري والسفور لما صدر حكم المحكمة من أيام قليلة في قضية الحجاب، أول تصريح بادئ الرأي قال: سنحترم حكم القضاء. يا خبيث! وأين أنت من حكم الله الذي نزل من فوق سبع سماوات؟! آيات الحجاب التي تعبدنا الله بها في القرآن الكريم، أما تؤمن بها؟! قلها صراحة وأرحنا، ولا تخادع الناس وتقول: أنا مسلم. كيف يصدر قراراً يمنع الحجاب، ثم بعد ما يفضحه الله سبحانه وتعالى ويصدر الحكم ببطلان هذا القرار، إذا به يستأنف الحكم إصراراً وعناداً على هذه المحادة والمحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يذله وأن يقصم ظهره، وأن يريحنا من شره وأمثاله. الثمرة الثانية: أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ونزلت الآية مقررة له.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات) قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران:24]. ((ذَلِكَ)) يعني ذلك التولي وذلك الإعراض. ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) الباء هنا سببية يعني: بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم، فهم غروا أنفسهم وخدعوا أنفسهم لما دعوا إلى كتاب تبارك وتعالى ليحكم بينهم، ((ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) أي: هم يعلمون أنهم آثمون، وأنهم عاصون، لكنهم يغرون أنفسهم ويقولون: حتى لو عذبنا بسبب هذه الأشياء فنحن لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات. ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: من الكذب والقول الباطل من أنهم لن يعذبوا إلا أياماً معدودات، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل، كما مر نظير ذلك في قوله تبارك وتعالى في أوائل سورة البقرة: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، أي: يمنون أنفسهم بهذه الأماني، على ما يقوله لهم أحبارهم من هذه الأماني الكاذبة.

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه)

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:25]، أي: فكيف يصنعون أو كيف تكون حالهم -إذا جمعناهم ليوم- اللام هنا بمعنى في، يعني: في يوم. ((لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك فيه وهو يوم القيامة. ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)) أي: جزاء ما عملت من خير أو شر. ((وهم لا يظلمون)) الضمير يعود لكل نفس على المعنى، وإلا فالأصل أن يكون الضمير (وهي لا تظلم نفس شيئاً)، لكن لم ينظر إلى اللفظ وإنما نظر إلى المعنى؛ لأن كل نفس تعبر عن عدد كبير، فلذلك قال تعالى: (وهم لا يظلمون)؛ لأنه في معنى كل إنسان، أي: لا يظلمون لا بزيادة عذاب ولا بنقصان الثواب.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) والآيتين بعدها

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) والآيتين بعدها يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ)) ألم تنظر: ((إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا)) أي: حظاً. ((مِنَ الْكِتَابِ)) أي: التوراة. ((يُدْعَوْنَ)) هذا حال. ((يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ))، أي: عن قبول حكمه، نزلت في اليهود زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم عليهما بالرجم فأبوا، فجيء بالتوراة فوجد حكم الرجم فيها فرجما فغضبوا. السيوطي كأنه يميل إلى القول إلى أن لفظ (كتاب الله) في الآية المقصود به التوراة. قوله: (ذلك) أي: ذلك التولي والأعراض. ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا)) أي: بسبب قولهم. ((لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) هنا السيوطي يميل إلى تفسير هذه الأيام المعدودات بأنها أربعون يوماً مدة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم. ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) من قولهم ذلك. إذاً: إعراب كلمة ((ما)) في قوله تعالى: ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) هو أنها اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل رفع فاعل. ((فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ)) يعني: كيف يكون حالهم إذا جمعناهم في يوم. ((لا رَيْبَ)) أي: لا شك ((فِيهِ)) وهو يوم القيامة: ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ)) من أهل الكتاب وغيرهم جزاء ((مَا كَسَبَتْ)) عملت من خير وشر، ((وهم)) أي: الناس ((لا يظلمون)) بنقص حسنة أو زيادة سيئة.

تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء بغير حساب)

تفسير قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء بغير حساب) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]. (قل اللهم مالك الملك) أي: مالك جنس الملك على الإطلاق ملكاً حقيقياً، فهو المالك الحق لكل ما في هذا الوجود بحيث يتصرف فيه كيفما يشاء، إيجاداً وإعداماً، وإحياء وإماتة، وتعذيباً وإثابة، من غير مشارك ولا ممانع. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هذا بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة، فلا يوجد مالك في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، ما الذي عندك؟ لا الملك ولا الرياسة ولا الحكم، ولا حتى أرواحنا التي بين جنبينا ما هي إلا ملك لله عز وجل، إنا لله وإنا إليه راجعون. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هي تؤكد ما قبلها وتحققه وتجزم به، ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ))، يعني أنت المالك لهذا الملك كله على الحقيقة، وملكيتك له ملكية كاملة وتامة وشاملة لا يشاركك فيها أحد، ولا يمانعك فيها أحد.

أسباب الحصول على الملك وأسباب نزعه

أسباب الحصول على الملك وأسباب نزعه (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) فكلمة: (تؤتي) الذي يؤتي الملك هو الله الذي يملك كل ما في الدنيا وكل ما في هذا الوجود، فهو الذي يعطي، فلذلك أثر في النظم الكريم لفظ: (تؤتي) على لفظة (تملك) إشارة إلى أن مالكية غيره هي على سبيل المجاز، أما الملكية الحقيقية فهي لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بعض السلف إذا سئل عن شيء معين كان يملكه، يقول: هي لله عندي، ويتحرج أن يقول: هي ملكي. يقول تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]. وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، لم يقل: أن استغنى؛ لأنه في الحقيقة يظل فقيراً إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنه يرى نفسه أنه استغنى، وهو لا يملك شيئاً في الحقيقة وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بأن الملك يناله من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب؛ لأن العرب كانت من أذل الأمم قبل الإسلام، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا لله)، وفي قصة أبي سفيان مع هرقل وذلك عندما رأى كأنه ينظر في النجوم وقال لهم: إني أرى ملك الختان قد ظهر، فقالوا له: إنه لا يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم. وفسر ذلك بأنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانت الأمم كلها تحتقر العرب وكانوا في أذل الأوضاع وفي ذيول الأمم، فالله سبحانه وتعالى اصطفى أمة العرب بهذا الدين، وأعزها بهذا الدين كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، أي فيه رفعة شأنكم ومجدكم، فإذا كفرت هذه الأمة بنعمة الله سبحانه وتعالى، فمن عدل الله فيها أنه يعيدها إلى ما كانت عليه من قبل، وهو الذل والهوان والصغار، ولا يترجم لهذا المعنى شيء أبلغ مما نحن فيه الآن من الذل والصغار والدمار الذي حل على هذه الأمة لما تخلت عن دينها، وبحثت عن العزة في غير جناب ربها تبارك وتعالى، يتذللون على أعتاب أمريكا وعلى أعتاب الغرب وغيرهم الكفار، ويتمسحون بأحذيتهم، ومع ذلك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فهاهم المسلمون في البوسنة والهرسك ليس لهم من الإسلام إلا اسمه، فهم في انحراف شديد جداً عن الإسلام ما بين خمر وفواحش وفساد في النساء وفي الرجال، وعدم صلاة وغفلة عن الدين إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما رضي عنهم الغرب، وعاملهم على أنهم ما زالوا أعداء لهم. فهم لم يعودوا إلى دينهم، فكذلك كل هؤلاء الذين يبتغون العزة في غير جناب الله لم يجدوا إلا الذل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)، قد يقول قائل: كيف يعيش الغرب الكافر في ذل وصغار مع أنهم يعيشون في قصور، ويعذبون الناس، ويجولون في الأرض متكبرين مغرورين يتقلبون فيها كيفما يشاءون؟ نقول: مهما أظهروا من العزة فهم في الحقيقة مهزومون في أنفسهم. يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم الخيول، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. لا يمكن أبداً لهذا الذي يحارب دين الله سبحانه وتعالى أن يكون آمناً، لابد أن يكون في قلبه انهزام، ومهما أظهر من عناد أو تبجح أو إصرار على محاربة الله ورسوله فهو في الحقيقة ذليل حقير، ولابد أن يكون منهزماً ومغموراً بالذل، لكن عندما تكون إنساناً ضعيفاً وأنت متوكل على الله سبحانه وتعالى موحد لله، طائع لله، قائم بحق الله، أنت أقوى منه وأعز، حتى وإن كان في أبهته وغروره وزينته. فالشاهد الذي دفعنا إلى هذا: أن الله سبحانه وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أن العرب كانوا أحقر أمة، ومن آياته أنه آتاهم ملكه وائتمنهم على دينه، وجعلهم سادة العالم كله حتى امتدت دولتهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في مدة وجيزة جداً تقل عن خمسين سنة. الدولة الإسلامية انطلقت من قلب الجزيرة العربية وحطمت تماماً فارس والروم، وامتدت شرقاً وغرباً حتى تغلغلت في أحشاء سويسرا، ودخلت على حدود فرنسا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. من الذي آتى هذه الأمة الضعيفة المهينة الذليلة هذا الملك؟ إنه الله سبحانه وتعالى. وفي قوله تعالى: ((تؤتي الملك من تشاء)) إشعار بأن الله ينيل ملك فارس والروم للعرب، مع أنهم كانوا من أبعد الأمم عن الملك، حتى ينتهي الأمر إلى أن يطلب الله الملك من جميع أهل الأرض، وذلك بظهور ملك يوم الدين، فآتى الله هذه الأمة الملك والتمكين على سائر الأمم؛ بسبب تمسكها بالدين، وإقامة دين الله تبارك وتعالى. يقول عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، فكما هو معلوم أن أقوى مؤثر في الإنسان هو مؤثر البيئة المحيطة به (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، ولا يوجد شيء يغلب تأثير البيئة إلا شيئاً واحداً فقط وهو العقيدة والدين. تجد أن الناس في هذه البيئة كسالى مقصرون خاملون متخلفون، فلم يلغ هذه الصفات ولم يطهرهم من هذه الرذائل إلا الإسلام، فإذا تخلوا عن الدين فإنهم سيعودون إلى الوضع الأصلي، وهذا ما نحن فيه الآن، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يمكن لدينه ويعيد المسلمين إلى عزهم ومجدهم.

تفسير قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل)

تفسير قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27] ((تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ))، أي: تدخل أحدهما في الآخر؛ إما بالتعقيب وإما بالزيادة أو بالنقص. ((وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ))، كالحيوان من النطفة والنطفة منه، والبيض من الطير وعكسه، وقيل: ((تخرج الحي من الميت)) أي: تخرج المؤمن الحي من صلب الكافر الميت. قال القفال: والكلمة محتملة للكل، أما الكفر والإيمان فقد قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه} [الأنعام:122]، أي: كان ميتاً بالكفر فهديناه، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة، وأخرج النبات من الأرض فصارت حية وكانت قبل ذلك ميتة فقال: {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، وقال: {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر:9]، وقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]. ((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، أي: ترزق رزقاً واسعاً غير محدود من غير تضييق ولا تقصير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، يعني: لا يحسب ما يعطيه، فكذلك هنا قال تعالى: ((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك) والآية بعدها

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك) والآية بعدها يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ونزلت لما وعد صلى الله عليه وسلم أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون: هيهات! يعد أتباعه ملك فارس والروم، فنزل قوله تعالى: (قل اللهم) يعني: يا ألله (مالك الملك) أي: يا مالك الملك. (تؤتي الملك) أي: تعطي الملك (من تشاء) من خلقك. (وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء) تعزه بإيتائه الملك. (وتذل من تشاء) أي: بنزعه منه (بيدك) أي: بقدرتك. السيوطي فسر اليد بالقدرة، وهذا تأويل باطل بلا شك. (بيدك الخير) أي: والشر. قوله: أي: والشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق الخير وهو الذي يخلق الشر، وإن كان لا يحب الشر، ولا ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى. (إنك على كل شيء قدير). (تولج) أي: تدخل (الليل في النهار وتولج النهار) أي: تدخله (في الليل) فيزيد كل منهم بما نقص من الآخر. (وتخرج الحي من الميت) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة. (وتخرج الميت) كالنطفة والبيضة (من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) أي: رزقاً واسعاً.

تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء والله رءوف بالعباد)

تفسير قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء والله رءوف بالعباد) قال تبارك وتعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:28 - 30]. (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ) أولياء جمع ولي ومعانيه كثيرة منها: المحب والصديق والنصير. قال الزمخشري: نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر، وقد كرر ذلك في القرآن، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، لذلك قال بعض الصحابة محذراً: (ليحذر أحدكم أن يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر، وتلا هذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]، إلى آخر الآية). والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] إذا فقد موضوع الولاء والبراء من قلوب الناس فإنه ستقع فتنة وفساد كبير جداً، إن قضية الولاء والبراء من أكثر القضايا التي تظاهرت عليها الأدلة في القرآن والسنة بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، فهي أصل متين من أصول الدين، لكن في ظل العلمانية التي تزخر بها وسائل الإعلام الآن، وفي ظل دعاوى حقوق الإنسان المزعومة، تعتبر التفرقة على أساس الدين جريمة، أما الإسلام فيفرق -لا التفرقة العنصرية- لكنه تفريق على أساس الدين؛ لأنه يقسم الناس إلى مؤمن وكافر، فالمؤمن يحب في الله ويبغض في الله، فإذا انهار هذا الجدار وقع الفساد، كما قال تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، وذلك كما نرى اليوم، فإن انهيار هذا الحاجز بين المسلمين والكافرين أدى إلى التمييع والذوبان بين الحق والباطل بحيث يلتبس على عامة الناس. قوله: (من دون المؤمنين) أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، والمعنى: لا يتناول الولاية من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان؛ لأنه كلمة (دون) تستعمل في المكان، فتقول: مثلاً: زيد دونك، أي: تحتك، وأنت لست تريد المكان، وإنما تريد أن زيداً دونك في الشرف، فجعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخِسّة كالاستفال في المكان؛ ولذلك قال تعالى هنا: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)). وقوله تعالى: (من دون المؤمنين) أي: حال كونكم متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً، بمعنى: أن يترك المؤمنين ويوالي الكافرين، أو يوالي المؤمنين ويوالي معهم المشركين، فلا ينبغي لمؤمن أن يوالي ويحب بقلبه وجوارحه أعداء الله تبارك وتعالى. ففيه إشارة إلى أن الأحق بالموالاة هم المؤمنون، وأنهم الذين يستحقون الموالاة، وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة. قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) أي: أن من يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء، فالله سبحانه وتعالى بريء منه وهو يفعل ذلك؛ لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان، كما يقول بعض الشعراء: تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ليس النوك عنك بعازب أي: تحب عدوي ثم تزعم أنني صديقك، ليست الحماقة عنك ببعيدة. قوله تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)) أي: إلا أن تخافوا منهم محذوراً، فأظهروا لهم الموالاة باللسان دون القلب لدفعه؛ لأن البغض بالقلب فرض عين على المسلم في كل حال؛ لكن يجوز إظهار الموالاة تقية إذا خشي على نفسه بشرطه. كما روى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم)، يعني: تقية. فثمرة هذه الآية: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) هو تحريم موالاة الكفار. إذاً: هناك مسالك محددة يستنبط منها الحكم بالتحريم. والدليل على التحريم في هذه الآية هو النهي المستفاد من قوله: (لا) وهي هنا ناهية. ومن أقوى ما يستفاد منه التحريم قوله تعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) أي: من يوالي الكفار، ((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)) وقضية البراء من الكفار وبغضهم في الله سبحانه وتعالى من أخطر الفتن التي يتعرض لها الناس، فلا شك أن الناس يتأثرون كثيراً بهذا الواقع. فتضيع معالم الدين بسبب الإلحاح والتكرار على هذه المبادئ وهذه الديانة الجديدة التي طلعت تحت مسمى: حقوق الإنسان، ونحن قد ذكرنا من قبل أن أعظم حق من حقوق الإنسان هو ألا يحال بينه وبين هذا الدين، وأن من حق كل إنسان أن يسمع سماعاً صحيحاً عن الإسلام، وأن كل من يشوه الدين أو يصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى أو ينفر الناس من دين الله عز وجل، فهو منتهك لأعظم حق من حقوق الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله)

تفسير قوله تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:29]. هذا توعد لمن أراد إخفاء مودة الكفار وموالاتهم أو إظهارها، أو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أو الكفر. وهذا فيه تخويف للناس من أن يقعوا في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا)

تفسير قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]. قال تبارك وتعالى من قبل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]؛ وقال هنا أيضاً: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30] فكرره؛ ليكون على بالهم ولا يغفلون عنه. وقيل: التكرار هنا ليس للتأكيد فحسب، بل فيه إشارة إلى أن تحذير الله سبحانه وتعالى في قوله: ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ))، باعثه، والدافع له هو رأفة الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده؛ لأنه سبحانه وتعالى غني عن تعذيبهم، قال عز وجل: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147]، الله سبحانه لا يريد أن يهلككم أو يعذبكم؛ لأنه رحيم بكم، ورءوف بكم، ومن رأفته أنه يحذركم نفسه حتى لا تتعرضوا لعقابه، وكذلك قال: ((وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)).

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون) إلى قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس) الآيات

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون) إلى قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس) الآيات يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ)) أي: يوالونهم. ((مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: من غير المؤمنين. ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) أي: يواليهم. ((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)) أي: ليس من دين الله في شيء. ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)) مصدر تقيته، أي: تخافوا مخافة فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (التقاة: التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان)، رواه البيهقي في السنن والحاكم وغيرهما. وهذا قبل عزة الإسلام، ويجري حكم التقية في كل بلدة ليس الإسلام قوياً فيها. ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) أي: يخوفكم الله نفسه أن يغضب عليكم إن واليتموهم. ((وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)) أي: المرجع فيجازيكم. ((قُلْ إِنْ تُخْفُوا)) أي: قل لهم إن تخفوا. ((مَا فِي صُدُورِكُمْ)) أي: ما في قلوبكم من موالاتهم. ((أَوْ تُبْدُوهُ)) أي: تظهروه. ((يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ)) يعني: وهو يعلم ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ومنه تعذيب من والاهم. ثم يقول تعالى: ((يَوْمَ تَجِدُ)) أي: اذكر: ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ))، أي: ما عملته ((مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ)) أي: ما عملته ((مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا))، أي: أن النفس التي عملت السوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً. فإذاً: (وما عملت) ما: هنا مبتدأ خبره: (تود) ((لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا))، يعني: غاية في البعد فلا يصل إليها. ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) كرر للتأكيد: ((وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)).

تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)

تفسير قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، أي: قل لهم يا محمد: ((إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)). يقول السيوطي: إن معنى يحببكم يثيبكم، وهذا التأويل مرفوض وغير مقبول؛ لكن منهج السلف في هذا إثبات صفة المحبة لله عز وجل. ((وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) أي: إن اتبعتموني يغفر لكم ما قد سلف. ((رَحِيمٌ)) أي: رحيم بكم.

تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول)

تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله والرسول) قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32] ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ)) أي: قل لهم: أطيعوا الله والرسول فيما يأمركم به من التوحيد. ((فَإِنْ تَوَلَّوْا)) أي: أعرضوا عن الطاعة. ((فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))، فيه إقامة الظاهر مقام المضمر؛ والمقصود أن الله لا يحبهم، لكن أبرز صفة الكافرين إيماءً إلى أن سبب بغض الله سبحانه وتعالى أو عدم محبته لهم هو هذا الكفر. لم يقل: (فإن تولوا فإنه لا يحبهم)؛ لأن العرب إذا عظمت الشيء أعادت ذكره، أنشد سيبويه يقول: لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقير فحين عظم الموت فكرر ذكره. يؤخذ من هذه الآية: أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر، إذ لو كان محباً له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة قد تجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر: لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع وعمر بن أبي ربيعة المخزومي يتكلم عن محبوبته ويقول: ومن لو نهاني من حبه عن الماء عطشان لم أشرب يعني: أنه لو نهاني -من حبه- عن الماء، وقال لي: لا تشرب، وأنا عطشان وأعاني الظمأ الشديد لم أشرب؛ طاعة ومحبة لامتثال أمره. وقد أجاد من قال: قالت وقد سألت عن حال عاشقه بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ وقلت قف عن ورود الماء لم يرد فإذا كان هذا في مخلوق ضعيف يحبه إنسان فيطيعه هذه الطاعة، فكيف بطاعة الله سبحانه وتعالى؟! يقول: (قالت وقد سألت عن حال عاشقها) أي: سألت صديقاً لعاشقها يعرف أحواله وأخباره فتقول: بالله صفه ولا تنقص ولا تزد، فأجابها بهذا A ( فقلت لو كان رهن الموت من ظمأ) أي: لو كان يكاد يموت من شدة العطش، وكنت أنت حاضرة، وقلت له: قف عن ورود الماء لم يرد. أي: أنه يقدم طاعتك التي فيها الموت على الحياة التي فيها معصية لأمرك مع شرب الماء. قال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبي صلى الله عليه وسلم وحب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه، وعلامة حب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزاد والبلغة.

تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33]. قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى)) أي: اختار للنبوة، أو اصطفى بالنبوة آدم ونوحاً. (وآل إبراهيم وآل عمران)، بمعنى: أنفسهما، ولا شك أنه لا يفهم من الآية أن هذا الاصطفاء لكل من انحدر من ذرية هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وإنما المقصود الثناء على المؤمنين منهم والصالحين، ولا يدخل في هذا الثناء من كفر بالله تبارك وتعالى من ذرية إبراهيم وعمران. وآل إبراهيم: هم عشيرته وذوو قرباه، وهم: إسماعيل وإسحاق والأنبياء من أولادهما، ولا شك أن من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يدخل في الاصطفاء بطريق الأولى، وعدم التصريح به اختلف فيه المفسرون؛ ولم يصرح الله تبارك وتعالى هنا بأفضلية محمد صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الأنبياء المذكورين عليهم السلام؛ للإيذان باستغنائه صلى الله عليه وسلم عن أن يذكر في هذا السياق؛ ولكمال شهرة أمره في الخلة، فإن الله سبحانه وتعالى اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولشهرة مقامه الشريف حتى على لسان من سبقه من الأنبياء، فإنه كما قال عليه الصلاة والسلام عن نفسه: (أنا دعوة أبي إبراهيم)، والمقصود دعوته التي سبق الكلام عليها في سورة البقرة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة:129] إلى آخر الآية، فلشدة شهرته بأنه أفضل خلق الله سبحانه وتعالى أجمعين، أو أفضل بني آدم على الإطلاق لم يحتج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يذكر هنا في هذا السياق. أو لم يذكر؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم جاوز مرتبة الاصطفاء، وارتفع على جميع الأنبياء والمرسلين، فالرسل عليهم الصلاة والسلام خلقوا للرحمة، أما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد خلق بنفسه رحمة ولم يخلق للرحمة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وكما جاء في بعض الأحاديث قال صلى الله عليه وسلم: (أنا رحمة مهداة)، ولذلك جعله الله سبحانه وتعالى أماناً للخلق مؤمنهم وكافرهم؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه الله أمنت البشرية كلها من العذاب الذي يستأصل هذه البشرية، فلن يهلك الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بسنة عامة، أو بعذاب عام يستأصلهم كما حصل للأمم الكافرة من قبلهم. إذاً: هو داخل في هذا الاصطفاء بطريق الأولوية، وإنما استغني عن ذكره؛ لأن رتبته أعلى من مجرد الاصطفاء المذكور هنا. ((وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ)) اصطفى آل عمران؛ لأنه جعل فيهم عيسى عليه السلام؛ لأن من آل عمران عليه السلام عيسى، وعمران هنا هو والد مريم التي هي أم عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ((عَلَى الْعَالَمِينَ)) أي: عالمي زمانهم، أما الذي فضل على العالمين بإطلاق فهو نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قوله (عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: بجعل الأنبياء من نسل هؤلاء المذكورين، ويستدل بهذه الآية على تفضيل الأنبياء على الملائكة لدخولهم في العالمين؛ لأن العالم يشمل الأنبياء ويشمل الملائكة، فهذه الآية مما يحتج به لمذهب من فضل الأنبياء عليهم السلام على الملائكة.

تفسير قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض)

تفسير قوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض) قال تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34]. ((ذريةً)) أي: نسلاً. ((بعضها من بعض)) أي: أن هذه الذرية مسلسلة في وراثة هذا الاصطفاء؛ وأن بعضها من ولد بعض. ((وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)).

تفسير قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا)

تفسير قوله تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً) قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35] ((إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ)) أي: اذكر إذ قالت امرأة عمران، واسمها: حنة، لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله عز وجل، فلما أحست بالحمل قالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]. (إِنِّي نَذَرْتُ) أي: نذرت أن أجعل، (لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا). يقول الزجاج: كان على أولادهم فرضاً أن يطيعوهم في نذرهم، وهذا في شريعتهم، أي: لو أن الأب نذر ابنه للتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى كان على الولد أن يطيع أباه في ذلك، فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادماً في مكان العبادة. وقال القاضي أبو يعلى: والنذر في مثلما نذرت صحيح في شريعتنا، فإنه إذا نذر الإنسان إن ينشئ ولده الصغير على عبادة الله وطاعته وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح مثل هذا النذر. وانظر إلى قولها: ((ما في بطني)) ولذلك قدر السيوطي -وهذا من دقته في التفسير- في الجملة السابقة: ((إذ قالت امرأة عمران)) قال: لما أسنت واشتاقت للولد فدعت الله وأحست بالحمل، فقوله: أحست بالحمل، استنبطها من قولها: ((ما في بطني)) لأنها أحست بهذا الحمل. ((محرراً)) أي: عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس. هذا التعبير في غاية الدقة في الحقيقة، فهو يتحرر من أن يعبد الدنيا، ويتذلل في طلبها؛ ليكون خالصاً لعبادة الله وحده. معنى قولها: ((نذرت لك ما في بطني محرراً)) أي: نذرته وقفاً على طاعتك، لا أشغله بشيء من أموري، فلم تطلب منه الاستئناس به، ولا ما يطمع الناس من أولادهم؛ لأن الناس يطمعون من وجود الذرية إشباع ما في الفطرة من الاستئناس بالأولاد، كذلك أيضاً الاستنصار بهم، والاستعانة بهم، فهي تنازلت عن حظ نفسها من هذا الولد. يقول العلماء: وهكذا على كل أحد إذا طلب ولداً أن يطلبه بالوجه الذي طلبت امرأة عمران وطلب زكريا حيث قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38] أي: صالحة. وما سأل إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]. وقال تعالى في دعاء عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] هبة من الله سبحانه وتعالى. فهكذا الواجب أن يطلب الولد لا من أجل الاستئناس والاستنصار والاستعانة بأمر المعاش بهم، فانظر إلى امرأة عمران لما منّ الله تعالى عليها بالولد نظرت أن حظها من الأنس به متروك، فنذرته على خدمة الله تعالى في مكان العبادة، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. قال القرطبي رحمه الله تعالى: وأرادت بقولها: ((محرراً)) أي: محرراً من رق الدنيا وأشغالها. وهذه إشارة إلى أن من لا يشتغل بطاعة الله سبحانه وتعالى اشتغالاً محضاً فهو لا بد له من نوع من الاسترقاق لمطالب الدنيا ومآربها، ويشبه هذا ما حكاه القرطبي أيضاً عن رجل من العباد أنه قال لأمه: يا أمه! ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت: نعم، فسار حتى تبصر، ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت: من؟ فقال لها: ابنكُ فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك. هذه القصة قد يكون فيها شيء من النظر. و ((محرراً)) كما ذكرنا مأخوذ من الحرية، والحرية ضد العبودية، ومن هذا تحرير الكتاب، يقال: الكتاب الفلاني حرره المصنف الفلاني، وخلصه من الاضطراب والفساد، والمحرر: هو الخالص لله عز وجل لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، تقول: طين حر، أي طين لا رمل فيه، وهناك عبارة مشهورة عند الناس يقولون: ذهب حُر، أي: لم يخالطه النحاس ولا غيره. ((فَتَقَبَّلْ مِنِّي))، التقبل: هو أخذ الشيء على وجه الرضا. ((إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ)) أي: السميع للدعاء، والمقصود بالسميع هنا هو المجيب، كما تقول في الصلاة: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله سبحانه وتعالى. ((الْعَلِيمُ)) أي: بالنيات.

تفسير قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى)

تفسير قوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى) قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] قال بعض المفسرين: هلك عمران بعد ذلك وهي حامل، كلمة هلك تأتي في سياق الذم، كما تقول: هلك الطاغوت الفلاني مثلاً، لكن قد يعبر بها أحياناً عن الموت، كما قال تبارك وتعالى حاكياً على لسان مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]، كذلك قوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:176] أي مات؛ ولذلك يشيع في مسائل الميراث هلك هالك عن كذا وكذا. ((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا)) أي: ولدتها جارية. يعود الضمير في قوله: ((وضعتها)) إلى مذكور من قبل في الآية السابقة: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} [آل عمران:35 - 36]، الضمير يعود إلى؟ إلى ((ما)) التي في قولها: ((ما في بطني محرراً)) والأصل أنه يكون مذكراً؛ لكن أنث على المعنى؛ لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله. أو يكون على تأويل: ((فلما وضعتها)) أي: هذه النسمة أو هذه النفس، وهي مؤنث. ((فلما وضعتها)) أي: ولدتها جارية، وكانت ترجو أن يكون غلاماً، إذ لم يكن يحرر إلا الغلمان، قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36] إما أنها قالت ذلك على سبيل الاعتذار، أو أنها تحسرت؛ لأنها كانت أنثى، إذ جهلت قدرها، ولو علمت أم مريم عليها السلام قدر مريم لما تحسرت، لكن إن قلنا: إنها تحسرت فيكون ذلك على أنها جهلت قدر مريم عليها السلام. ((فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ)) أي: معتذرة أو متحسرة، إذ جهلت قدرها: ((رَبِّ)) أي: يا رب، ((إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)) أي: أن الله عالم بما وضعت. وفي قراءة: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتُ))، بضم التاء، أو: ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتِ)) بكسر التاء على أنه خطاب من الملائكة. ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ))، هذه جملة اعتراض من كلامه سبحانه وتعالى. ((وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى))، أي: ليس الذكر الذي طلبتُ كالأنثى التي وهبت؛ لأن الذكر يحرر ويقصد للخدمة، والأنثى لا تصلح لها؛ لضعفها وعورتها، وما يعتريها من الحيض ونحوه، مما يمنع أن تتفرغ لهذه العبادة. ((وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ))، ومريم في لغتهم هي العابدة، سمتها بذلك تفاؤلاً ورجاء أن يكون فعلها مطابقاً لاسمها. وهكذا ينبغي عند اختيار الأسامي أن يتفاءل الإنسان عندما يسمي ابنه أو بنته، عسى أن يكون مثل هذا المسمى. ((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا)) أي: أولادها، ولم يكن لها من الذرية سوى المسيح عليه السلام. ((مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) بمعنى: المرجوم المطرود، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها)، وهذا رواه الشيخان وغيرهما. فقوله: (ما من مولود يولد): هذا يعم كل مولود بما في ذلك الأنبياء والمرسلين، وإلا لما كان لاختصاص مريم وعيسى عليهما السلام بهذا الأمر معنى. ليس معنى ذلك: أن الشيطان إذا نزغ أو نفث في خاصرة هذا المولود أنه يكون مسلطاً عليه؛ لا يشترط ذلك؛ لأن الأنبياء معصومون من ذلك: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] لكن هو عبارة عن إعلان بالعداوة منذُ اللحظة الأولى، لا شك أن هذا الصراخ الذي يحصل من الطفل المولود عند ولادته له سببان: السبب الأول: سبب مادي يمكن التوصل إليه بالخبرات البشرية والعلم البشري، فلذلك تركه الله سبحانه وتعالى للأطباء والمتخصصين في هذا المجال، برقي علمهم يكتشفون هذه الأسباب، وفوائد الصراخ بالنسبة للمولود وغير ذلك. السبب الثاني: وهو السبب الغيبي الذي لا يمكن أن يدرك بالحواس، ولا بتجارب ولا بعلوم مادية تترقى من وقت لآخر، فهو سبب غيبي لا نراه؛ ولذلك أخبرنا عنه الله تبارك وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً)، كما جاء في بعض الروايات: (يصرخ)، لماذا يصرخ؟ السبب الذي لا نستطيع أن نعرفه إلا من طريق الوحي، هو هذا الذي ذكره عليه الصلاة والسلام، وهو: (أن الشيطان يعلن له العداوة منذُ اللحظة الأولى فينخسه ويطعنه في خاصرته أو في جنبه فيستهل صارخاً إلا ابن مريم وأمه، استجابة لدعوة امرأة عمران حينما قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، فهذا الحديث يدل على إجابة هذه الدعوة.

تفسير قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن)

تفسير قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن) قال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا)) أي: قبل مريم من أمها، والقبول هو أخذ الشيء على وجه الرضا. ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ)) يعني: أنها صالحة؛ لأن تكون محررة، وأن امرأة عمران وفت بنذرها، وذلك كما جاء في بعض التفاسير: أنها لفتها في خرقة وأرسلتها إلى المسجد، وورد أنها ربتها حتى كبرت وصلحت لخدمة المسجد فأرسلتها؛ لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لم يفته أن ينوه على شيء مهم جداً قال: حتى لو كانت تصلح في شريعتهم أن تقوم بخدمة المسجد، فلعل الحجاب لم يكن عندهم كما كان في صدر الإسلام. واستدل بالحديث المتفق عليه: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فماتت) والحديث معروف، فمعنى ذلك: أن هذا كان في بداية الإسلام، وفي صدر الإسلام؛ كذلك كانت المرأة تصلح أو الأنثى تصلح في شريعتهم لمثل هذا، ولم يكن الحجاب بنفس الصورة في الإسلام موجوداً عندهم، فلأجل ذلك كانت في المسجد، والله أعلم. بعض القضايا نريد أن نتوقف عندها قليلاً: فأولى هذه القضايا: قوله تعالى هنا: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، يخبرنا سبحانه وتعالى بهذه القضية السالبة، والكفرة والملحدون الآن يقولون: بل الذكر كالأنثى فيجعلونها موجبة، فلا شك بعد قول الله سبحانه وتعالى في صدق هذه السالبة، وكذب هذه الموجبة. ((فَتَقَبَّلَهَا رَبُهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا))، أي: أنشأها بخلق حسن. وجاء في التفسير أنها من حيث معدل النمو قد كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام، وأتت بها أمها. وهناك تفاسير أخرى لقوله تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أي: بجعل ذريتها من كبار الأنبياء. والتفسير الأول يحتاج إلى دليل مرفوع. أما التفسير الثاني فقد جعل الله من ذريتها المسيح عليه السلام من أولي العزم من الرسل ومن كبار الأنبياء. قال الزمخشري عند قوله تعالى: ((وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)) مجاز عن التربية الحسنة، هي العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها، كالصلاح والسداد والعفة والطاعة. وأتت بها أمها الأحبار سدنة بيت المقدس، فقالت: (دونكم هذه النذيرة خذوها، فتنافسوا فيها؛ لأنها بنت إمامهم وسيدهم عمران، فقال زكريا: أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع. فالأقرب أنهم تنافسوا أيهم يكفل مريم تنافساً في الخير؛ لأنهم جميعاً كانوا يحبون ذلك ويتنافسون عليه، لا كما زعم بعضهم أنهم أصابهم فقر، وتنازعوا فيمن يتحمل نفقتها كأنهم كانوا متضررين من ذلك، فحسماً للنزاع اقترعوا. هذا بعيد! فقال زكريا: (أنا أحق بها؛ لأن خالتها عندي، فقالوا: لا، حتى نقترع، فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها، ومن غرق قلمه أو ذهب مع الماء فلا حق له فيها، فثبت قلم زكريا، فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، كما قال تعالى: ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا)) [آل عمران:37])، أحد الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضاً كان له مثل هذه الكرامة، وذلك عندما كان مأسوراً عند الكفار، فكان يوجد عنده قطف من العنب في الشتاء، والله أعلم. ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)) أي: ضمها إليه، أصل كلمة: ((زكريا)) تذكار الرب، يعني: تذكر الرب سبحانه وتعالى، وهي تقرأ: ((زكريا)) أو (زكرياء) والمكفل هو الله سبحانه وتعالى: ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا))، إذاً: إعراب زكريا مفعول ثان. ((وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ))، المحراب: هو أشرف المجالس؛ لأن المحراب هو الغرفة والموضع العالي، وهو سيد المجالس ومقدمها وأشرفها. وسمي محراب المسجد بهذا الاسم؛ لانفراد الإمام فيه وبعده عن القوم يقال: فلان حرب لفلان؛ يعني: إذا كان بينهما مباغضة ومباعدة وخصام، فيعبرون عن ذلك بكلمة: (حرب) لأن فيه معنى البعد. وقيل: المحراب مأخوذ من المحاربة؛ لأن المصلي يحارب الشيطان، ويحارب نفسه بإحضار قلبه. وعلى أي الأحوال فالمحراب المقصود به أنه أشرف الأماكن وأكرم المواضع من المجلس، وأشرف المسجد هو مقام الإمام. ((كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ))، (كلما) صيغة عموم تعم الوقت كله، أي: كلما دخل الغرفة ((وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)) أي: من أين لك هذا؟ ((قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، مع أنها كانت صغيرة؛ لكنها أجابت هذه الإجابة التي تفصح عن يقينها وإيمانها، بالله عز وجل، ((هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) أي: أنه يأتيني به من الجنة. ثم ذكرت التعليل؛ حيث قالت: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، الحساب هنا بمعنى: التضييق والتقتير. فقولها: ((إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ))، فيه كرامة لـ مريم عليها السلام. ((بِغَيْرِ حِسَابٍ)) أي: رزقاً واسعاً بلا تبعة، أو ((بِغَيْرِ حِسَابٍ)) أي: بغير تقدير لكثرته، أو بغير استحقاق تفضلاً منه تبارك وتعالى ومحض فضل ومنّة من الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه)

تفسير قوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه) قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]. زكريا عليه السلام رأى هذه الآية وهذه العلامة على قدرة الله سبحانه وتعالى، فلما رآها قد رزقها الله سبحانه وتعالى شيئاً في غير حينه وفي غير أوانه وكان يتوق إلى الولد، حينها طمع في رحمة الله سبحانه وتعالى، فلما سمعها تقول له ذلك: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]. ((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ))، أي: أنه طمع في أن يحقق الله سبحانه وتعالى له ما يصبو إليه؛ لأنه لما رأى أن الله سبحانه وتعالى رزقها الفاكهة في غير حينها، وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير حينه قادر على الإتيان بالولد حين الكبر، وكان أهل بيته انقرضوا. ((هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ))، أي: لما دخل المحراب للصلاة في جوف الليل: ((قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ)) أي: من عندك، ((ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)) أي: ولداً صالحاً. ((إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)) أي: مجيب الدعاء.

وقفة مع قوله تعالى: (هب لي ذرية)

وقفة مع قوله تعالى: (هب لي ذرية) نود أن نقف وقفة عند قوله تعالى: ((هَبْ لِي)). نقول: إن الذرية هبة من الله سبحانه وتعالى، ونعمة من الله عز وجل لا ينبغي أبداً السعي في إنقاصها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: (اللهم زدنا ولا تنقصنا)، والملحدون اليوم يقولون: اللهم انقصنا ولا تزدنا، هؤلاء سفهاء العقول والأحلام، حالهم وطريقتهم في التعامل مع ما يسمونه: الانفجار السكاني، يريدون بذلك أن يستروا خيبتهم وفشلهم وتآمرهم على شعوبهم باسم الانفجار السكاني، وكأن الناس لم تخلق إلا بأفواه فقط لتأكل، ولم تخلق معها أيدي تعمل وتكتسب! قال الشاعر: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق أي: أن عقولهم هي الضيقة. فحالهم كحال شخص عنده ثوب، هذا الثوب قصير عليه جداً، فيريد أن يحل مشكلة الثوب القصير! فيقوم ببتر ساقيه حتى يناسب طول الثوب! مثلاً: في مصر بلد الخير والفضل العميم من الله سبحانه وتعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15] بكل ما فيها من الخير، فإنه لا يستثمر من أرض مصر ويستغل إلا بنسبة قد لا تصل إلى (5%) من مساحة الجمهورية كلها، ثم نشكو بعد ذلك ضيق الرزق، إنما هو ضيق العقول والتآمر على المسلمين.

تفسير قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب)

تفسير قوله تعالى: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب) قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39]. ((فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ))، قيل: الملائكة على ظاهرها، وقيل: المقصود بها: ملك واحد وهو جبريل عليه السلام. ((وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)) أي: المسجد أو مكان العبادة. ((أَنَّ اللَّهَ)): يعني: بأن الله، وفي قراءة بالكسر: بتقدير أن الملائكة أو أن جبريل قال: (إن الله). ((يُبَشِّرُكَ))، إما يُبشِّرُك، أو يَبْشُرك، البَشَرة هي ظاهر الجلد. ((بِيَحْيَى))، يحيى أصلها في لغتهم: يوحنا، ومعناها في نعمة الرب. ((مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) أي: بكلمة كائنة من الله سبحانه وتعالى، وهي كلمة: كن؛ لأن هناك آية أخرى فصلت ما هي هذه الكلمة كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]. ((بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) أي: يحيى، مصدقاً بعيسى أنه روح الله وأمره وكلمته؛ لكن روح المسيح كباقي أرواح المخلوقات، أي أن قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] ليس المقصود البعضية أو الجزئية والعياذ بالله، لا يمكن أبداً أن يكون المسيح جزءاً من الله سبحانه وتعالى معاذ الله، هذا كفر بلا شك. لكن المقصود بـ (من) هنا، مِن الابتدائية أي: أن ابتداء خلقه منه سبحانه وتعالى، وذلك كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] هل كل ما في السماوات والأرض جزء من الله؟! لا، لكن ابتداء خلقها من الله، كذلك قوله: ((بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ)) هي (كن). أما قوله: ((وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)) [السجدة:9]، فكل مخلوق ينفخ الله فيه من روحه، وهذه الروح مخلوقة بلا شك خلقها الله، كما تقول: بيت الله، ناقة الله، هذه إضافة تشريف، فروح الله يعني: الروح التي خلقها الله له. ويقول تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9]. ((وَسَيِّدًا)) أي: متبوعاً يسود قومه ويفوقهم ((وَحَصُورًا)) أي: ممنوعاً من النساء من غير علة، بمعنى: أنه لا يرغب فيهن؛ بسبب اشتغاله بطاعته لله سبحانه وتعالى وعبادته، فإنما يمتنع من ذلك عفة وزهداً واجتهاداً في الطاعة؛ لأن هذا بلا شك وارد في سياق الثناء على يحيى عليه السلام، فالثناء يكون بالأمر المكتسب، لا بالأمر الجبلي، بهذا يبطل قول بعض المفسرين: إنه كان عنيناً لا يأتي النساء. وصيغة (حصور) بوزن فعول، وهي بمعنى: حاصر، أي: أنه يحصر نفسه عن الشهوات، ونقول: إن هذا لعله كان في شرعهم، أما شرعنا فهو بخلاف ذلك، فإنه لا يمدح الإنسان بالزهد في هذا الأمر، بل بالعكس حرض نبينا صلى الله عليه وسلم على هذا، ونهى عن التبتل كما نهى عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه، وكما نهى أبا هريرة عن الاختصاء، وكما قال في حديث الرهط الثلاثة: (وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). إذاً: ديننا وشرعنا بخلاف ذلك، وإنما فيه حث وتحريض على النكاح، أما الرهبانية في هذه الأمة فهو الجهاد، وقال عليه الصلاة والسلام: (تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، وفي حديث عياض بن حمار المشهور في صحيح مسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وأهل النار خمسة)، فذكر من أهل النار: (الضعيف الذي لا زبر -أي: لا عقل- له، والذين هم فيكم تبعاً لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، أي: من لا يطمح في أن يتزوج ويكون له أهل أو يجتهد في توسيع رزقه. قوله: (لا يبغون أهلاً ولا مالاً)، هذا من دناءة الهمة وخستها، يقول: حتى لا أتحمل المسئولية، وإذا انضم إلى ذلك ما يدعو إليه من الفواحش، فإن الأمة تصير إلى المهالك والمفاسد. ((وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ))، أي: ناشئاً من الصالحين؛ لأنه من ذرية قومٍ صالحين ومن أصلابهم، أو كائناً من جملتهم، والصالح: هو الذي يؤدي لله ما افترض عليه، ويؤدي إلى الناس حقوقهم، هذا حد الرجل الصالح. وروي (أنه لم يعمل خطيئة ولم يهم بها عليه السلام).

تفسير قوله تعالى: (قال رب أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر)

تفسير قوله تعالى: (قال رب أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر) قال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]. قال عز وجل حاكياً عن زكريا عليه السلام: ((قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ))، قال بعض المفسرين: لما تحققت البشارة أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر! ((قَالَ رَبِّ أَنَّى)) أي: كيف؟ أو من أين؟ ((يَكُونُ لِي غُلامٌ)) أي: ولد. قولهم للطفل: غلام على معنى التفاؤل، أي: أنه سيكبر ويصير غلاماً، ولا يموت طفلاً، وقولهم للكهل: غلام، بمعنى: أنه كان من قبل غلاماً. ((وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ))، أي: بلغت الكبر وبلغني الكبر. قال بعض المفسرين: ليس المقصود هنا أن زكريا يستبعد هذا الأمر، وإنما كان يريد أن يستفهم عن كيفية وجود الولد، هل ستعود زوجته شابة؟ لأنها كانت عاقراً، وكان كبيراً في السن، أم يأتي وهما على هذه الحال قد بلغا من الكبر عتياً. أو أن قوله: ((رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)) كان على وجه التواضع، بمعنى: بأي منزلة أستوجب هذا وأنا لست مستحقاً لهذه الكرامة أو لإجابة هذا الدعاء. ((وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)) أي: بلغت نهاية السن مائة وعشرين سنة. ((وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ)) أي: معقورة قد بلغت ثمانية وتسعين سنة: ((قَالَ كَذَلِكَ)) أي: أن الأمر كذلك في كونه يخلق غلاماً منكما، وأنتما كبيران في السن، بمعنى: أنكما لن ترجعا شباباً. ((اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) أي: لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى سبب. ولإظهار هذه القدرة العظيمة ألهمه الله أن يسأل هذا Q (( رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)) كي يأتي المقصود من الجواب بإظهار قدرة الله عز وجل. وهنا في قصة زكريا قال: (يفعل) أما في قصة المسيح: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ} [آل عمران:47]، وسنوضح الفرق إن شاء الله.

تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية)

تفسير قوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية) قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41] ((قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً)) أي: علامة على حمل امرأتي، وسأل الآية لأن شأن الحمل في بداية وقوعه يكون خفياً، وأعراض الحمل تتأخر، فأراد أن يعلمه الله به من أوله، وأن يجعل له آية ظاهرة يعلم بها حصول الحمل من بدايته؛ كي يستصحب الشكر من بداية حصول هذه النعمة ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً. ((قَالَ آيَتُكَ))، أي: آيتك عليه. ((أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ)) أي: تمنع من كلامهم، بخلاف ذكر الله تبارك وتعالى فلا تمنع عنه. ((ثَلاثَةَ أَيَّامٍ)) يعني: بلياليها، جمعاً بين هذا وقوله تعالى: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10]. ((إِلَّا رَمْزًا)) أي: إشارة، والإشارة لا تكون إلا باليد أو بالرأس، أي: تتكلم مع الناس بالإشارة؛ ولذلك بوب الإمام البخاري في صحيحه بقوله: باب وقوع الطلاق بالإشارة، وهو يفيد وقوع الطلاق بالإشارة بالنسبة للأخرس الذي لا يتكلم. والمعنى: أنه يحال بينه وبين الكلام من غير آفة فيه، إنما هذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، بحيث إنه إذا أراد أن يتكلم كلاماً عادياً لا يستطيع أبداً، أما إذا أراد أن يذكر الله أطلق الله لسانه؛ لكن يتعامل مع الناس بالرمز وبالإشارة بالشفتين أو باليد أو بالرأس وغير ذلك، وذلك لمدة ثلاثة أيام. يقول محمد بن كعب رحمه الله تعالى: لو رخص الله لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا؛ لأنه منعه من الكلام وأمره في نفس الوقت بذكر الله تبارك وتعالى. ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ)) أي: صل؛ لأن التسبيح يطلق على الصلاة أحياناً. ((بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)) أي: أواخر النهار وأوائله.

آل عمران [42 - 51]

تفسير سورة آل عمران [42 - 51]

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم) {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42]. ((وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ)) أي: واذكر إذ قالت الملائكة، أي: جبريل عليه السلام. ((يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)). ((إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ)) أي: اختارك، بالتقريب وبالمحبة. ((وَطَهَّرَكِ))، أي: وطهرك عن الرذائل، أو وطهرك عن مسيس الرجال. ((وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ)) أي: أهل زمانك، وهذا فيه موضوع طويل ليس مقام بسطه الآن: وهو هل مريم هي أفضل نساء زمانها فقط أم هي أفضل النساء على الإطلاق؟ وهل مريم عليها السلام نبية أم ليست نبية؟ والصحيح -والله تعالى أعلم- هو المتفق عليه أن مريم ليست نبية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلا رجالاً، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل:43]، وكلام الملك لها لا يكفي دليلاً على كونها نبية؛ لأن الملك تصور لها في في صورة رجل: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] وكان جبريل يتصور في صورة دحية الكلبي، وفي حديث عمر بن الخطاب: (إذ طلع علينا رجل شديد سواد الشعر -إلى آخر الحديث- فقال: ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). فهل صار الصحابة بمجرد أن يشاهدوا جبريل عليه السلام أنبياء.

تفسير قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك)

تفسير قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك) {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]. ((يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ)) أي: أطيعيه شكراً على هذا الاصطفاء. ((وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)) أي: صلي مع المصلين. قال مجاهد: سجدت حتى تقرحت ركبها، أو جبهتها.

تفسير قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب)

تفسير قوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب) {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44]. ((ذَلِكَ)) أي: المذكور من أمر زكريا ومريم عليهما السلام: ((مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ))، أي: من أخبار ما غاب عنك. ((نُوحِيهِ إِلَيْكَ)) يا محمد عليه الصلاة والسلام، يعني: أنه ليس هناك سبيل لمعرفة هذا الغيب إلا الوحي، فهذه من علامات صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره عما كان من قبل ولم يشهده، والإتيان في ذلك بما هو مهيمن على كل ما خالفه، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام لأجل حكم كثيرة منها: أن يبين لهؤلاء اليهود والنصارى من بني إسرائيل ما اختلفوا فيه من شأن المسيح عليه السلام، حتى يأتي بالقول الفصل في كل من تنازعوا فيه، فالقرآن حاكم على ما جاء قبله ومخبر بالصدق في ذلك، فهذا كقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ نادينا) [القصص:44]، وكقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} [القصص:46]، وكقوله في قصة يوسف عليه السلام: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] وقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49]، فهذه إشارة إلى أن مصدر هذه الأخبار كلها الوحي لا غير. ((وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ)) أي: في الماء يقترعون ليظهر لهم ((أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ))، أي: أيهم يضمها إليه وأيهم يربيها. قال العلماء: هذه الآية أصل في جواز القرعة عند التنازع. ((وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ))، أي: في كفالتها، وكما ذكرنا أنهم يختصمون تنافساً في حيازة هذا الشرف، لا تدافعاً كما زعم بعض الناس.

تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك)

تفسير قوله تعالى: (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك) {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]. ((إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ)) أي: اذكر إذ قالت الملائكة وهو جبريل عليه السلام: ((يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)) أي: بولد. فالمقصود بالكلمة هو الولد يحصل بكلمة من الله بلا واسطة أب، فهذا من إطلاق السبب وإرادة المسبب. ((اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)). يجوز في غير القرآن أن تقول: بكلمة منه اسمها، لكن ذكَّر الضمير الراجع إلى الكلمة؛ لكونها عبارة عن مذكر وهو المسيح عيسى بن مريم. وبدأ باللقب لأنه أشهر، ولذلك كثير من العلماء يشتهرون بألقابهم. ((اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) المسيح معناه: المدهون بدهن القدس، أو المسيح بمعنى: أنه كان لا يوجد له أخمص قدمين، أو المسيح بمعنى: أنه كان كثير السياحة في الأرض، أو المسيح بمعنى: أنه ما مسح ذا عاهة إلا برأ بإذن الله تبارك وتعالى. والمسيح: مسيح الحق وهو المسيح عليه السلام، ومسيح الضلالة وهو الدجال الأعور. وفي قوله: ((اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) أنه ابن مريم لا ابن الله، كما يزعم الملحدون من النصارى، وصرح بنسبته إليها تنبيهاً على أنه يولد بلا أب، ولو كان له أب لنسبه إليه. فهذا فيه رد على ملاحدة النصارى الذين يزعمون أنه ابن الله. ((وجيهاً)) أي: ذا جاه. والوجيه: هو المحبب المقبول، وهو ذو الجاه والمنزلة الرفيعة عند ذوي القدر والمعرفة. ((وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا)) بالنبوة. (والآخرة) بالشفاعات والدرجات العلى. ((وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ))، أي: من المقربين عند الله تبارك وتعالى يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ويكلم الناس في المهد وكهلا)

تفسير قوله تعالى: (ويكلم الناس في المهد وكهلاً) {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:46]. ((وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ))، والمهد: هو الموضع الذي يهيأ ويوطأ للصبي لينام فيه، وهو يكلم الناس حال كونه طفلاً، ويكلمهم حال كونه كهلاً. فهو عليه السلام مجرد أن ولد تكلم كلاماً حكيماً ذا معاني سامية ورفيعة؛ لأن كلام الأنبياء أكمل وأعظم وأفصح الكلام، قال لهم وهو في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، بدأ بالإعلان عن العبودية {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:30 - 31]، إلى آخر الآيات. كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين لا شك أنه في غاية الإعجاز، وفي ذلك أيضاً بشارة ببقائه وامتداد أجله وأنه لن يموت صغيراً، بل يبقى إلى أن يشاء الله. أما الكهل: فهو من بدأ الشيب يخالط شعره، أو من جاوز الثلاثين إلى الأربعين أو من الأربعين إلى الخمسين، وقيل له: كهل؛ لانتهاء شبابه وكمال قوته، والانتهاء ليس معناه: أنه انتهت قوته، بل الانتهاء هو وصولها إلى أكمل ما يكون في هذه السن، بمعنى: أن الإنسان يكون كاملاً بدنياً وكاملاً عقلياً تتوافر قوته العقلية والبدنية، ومنه يقال: قد اكتهل النبات، أي: بلغ عنفوان قوته ونموه ونضجه. الغلام يكون طفلاً ثم بعد ذلك إذا اقترب من البلوغ يسمى: مراهقاً، فالمراهق هو من كان قبل البلوغ، ثم بعد المراهق يسمى: محتلماً، ثم إذا بدأت اللحية تنبت فيه يقال: اتصلت لحيته، ثم يوصف بأنه مجتمع، ثم كهل، والكهل هو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

الحكمة من تكليم عيسى عليه السلام الناس في المهد وعند الكهولة

الحكمة من تكليم عيسى عليه السلام الناس في المهد وعند الكهولة أما الحكمة من تكليمه الناس في تلك الحال ففيها قولان: الأول: أنه تكلم لتبرئة أمه مما قذفها به اليهود لعنهم الله من البهتان: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]. قال ابن عباس: (تكلم ساعة في مهده ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق)، أي: أنه لم يتكلم باستمرار، وإنما أنطقه الله سبحانه، ثم عاد مثل سائر الأطفال. القول الثاني: أنه تكلم لتحقيق معجزته الدالة على نبوته. فإن قيل: قد علم أن الكهل يتكلم، إذاً: ما الحكمة من قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [آل عمران:46]؟ ف A أنه يتكلم في المهد كلاماً مستوياً مع كلام الكهل، مع أن فارق السن كبير. فالمقصود أن الكهل هو الحليم، أو أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره وأنه يبلغ سن الكهولة. روي عن ابن عباس قال: (((وَكَهْلًا)) قال: ذلك بعد نزوله من السماء عليه السلام)، وهذا تفسير قوي، وقد مال إليه الدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى في كتابه (فصل المقال في رفع عيسى حياً ونزوله وقتله الدجال)، فتكلم بالتفصيل على هذا الأمر. وفي قوله: ((وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)) إشارة إلى أن المسيح عليه السلام سينزل في آخر الزمان؛ لأن كلامه في المهد معجزة؛ إذاً لا بد أن يكون هناك مظهر من مظاهر الإعجاز في كلامه كهلاً، وهو نزوله من السماء في آخر الزمان يكلمهم بهذا الكلام. وفي قوله: (وَكَهْلًا) إشارة إلى أنه يمر بالمراحل التي يمر بها سائر الأطفال، وأنه مع الأيام ينتقل من حال إلى حال، ولو كان عيسى عليه السلام إلهاً لم يدخله هذا التغيير. أي: أن الزمان ومرور الأيام تؤثر فيه بالنمو وبالزيادة وغير ذلك مما هو من صفات الحوادث من التغير والتفاعل، والله سبحانه وتعالى لا يغيره شيء. ((وَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: وجعلناه من الصالحين.

تفسير قوله تعالى: (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر)

تفسير قوله تعالى: (قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47]. ((قَالَتْ رَبِّ)) تخاطب الله سبحانه وتعالى. ((أَنَّى))، أي: كيف؟! ((يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ)) أي: بتزوج ولا غيره. والمسيس: هو الجماع. ((قَالَ كَذَلِكِ)) أي: قال جبريل: الأمر كذلك، من خلق ولد منك بلا أب، هذا أمر الله سبحانه وتعالى. ((يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)) أي: قد يخلقه بسبب وقد يخلقه بدون سبب، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لو أن الماء الذي يكون منه الولد أرقته على صخرة لكان منه الولد، وليخلقن الله نفساً هو خالقها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. ((كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يشاء)) أي: لا يحتاج إلى سبب ولا يعجزه شيء. وصرح هاهنا بالخلق بقوله: ((يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)) أما في قصة زكريا قال: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]؛ لأن الخلق المنبئ عن الإحداث للمكون أنسب بهذا المقام؛ لئلا يبقى لمبطل شبهة. ((إِذَا قَضَى أَمْرًا))، أي: إذا أراد خلقه. ((فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))، أي: فهو يكون من غير تأخر ومن غير حاجة إلى سبب، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50] أي: إنما نأمر مرة واحدة لا تثنية فيها، فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر.

تفسير قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل)

تفسير قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عمران:48]. {وَيُعَلِّمُهُ} [آل عمران:48]، بالياء، وفي قراءة: (ونعلمه) بالنون. ((الْكِتَابَ)) إما الكتابة نفسها أو الخط، أو الكتاب هنا المقصود به جنس الكتاب، أي: جنس الكتب الإلهية. ((وَالْحِكْمَةَ))، وهي تهذيب الأخلاق. ((وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ))، إذا قلنا: إن الكتاب المقصود به جنس الكتب الإلهية فيكون ذكر التوراة والإنجيل هنا من باب ذكر الخاص بعد العام، وإنما خصصا بالذكر لشرفهما وزيادة فضلهما على غيرهما.

تفسير قوله تعالى: (ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم)

تفسير قوله تعالى: (ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم) {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:49]. ((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: ونجعله رسولاً، (ورسولاً) منصوب بمضمر يقود إليه المعنى، معطوف على: ((وَيُعَلِّمُهُ)). ((إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: إلى جميع بني إسرائيل، فالمسيح عليه السلام ما أرسل إلا إلى بني إسرائيل، وهو نفسه قال ذلك حتى في الإنجيل الذي بين أيديهم: (إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل الضالة). ما أرسل نبي من الأنبياء إلى جميع البشر، إنما اختص بذلك خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما الأنبياء فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، فموسى عليه السلام كان رسولاً إلى بني إسرائيل: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:17]، كان كل طلبه من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل. كذلك المسيح عليه السلام إنما كان رسولاً إلى بني إسرائيل، وإنما بولس الخبيث أو شاول كان يهودياً وهو الذي أفسد الديانة النصرانية، وكان يعذب النصارى ويضطهدهم أشد الاضطهاد، ثم تظاهر بولس بالدخول فيها ليفسدها. فهو الذي ابتدع مسألة الذهاب في أقطار الأرض ليعمدوا النصرانية وينشروها باسم كذا وكذا، وموضوع التبشير الذي ابتدعه بولس الخبيث تحت زعم أنه حصل له رؤيا أو كشف أو شيء من هذا، فيمكن أن يكون من الشفافية، ويمكن أن يكون كذاباً؛ لأنه نفسه كان شيطاناً. على أي الأحوال فالمسيح عليه السلام ما بعث إلى البشرية كلها، وما يسمى الآن بالتبشير ودعوة الناس إلى النصرانية كله افتراء وباطل؛ لأن المسيح لم يبعث إلى القبط ولا إلى الفرنجة ولا إلى كذا وكذا، وإنما بعث إلى قومه بني إسرائيل فقط، أما الديانة التي ينبغي أن تكون عالمية فهي ديانة واحدة فقط وهي الإسلام، ودعوة واحدة وهي دعوة رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ))، أي: في الصبا أو بعد البلوغ، فنفخ جبريل في جيب درعها، وجيب درعها هو فتحة الصدر، فحملت، وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم. فلما بعثه الله إلى بني إسرائيل قال لهم: ((أَنِّي)) أي: بأني رسول الله إليكم، ((قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ))، الآية هي العلامة على صدقه، وهي ليست آية واحدة بل آيات متعددة، فالتنكير هنا للتفخيم، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي: جئتكم متلبساً ومحتجاً بآية من ربكم، وهي علامة على صدقي. قوله: (أَنِّي) وفي قراءة بالكسر استئنافاً، أي: (بآية من ربكم إني أخلق لكم). ((أَخْلُقُ)) أي: أصور. فلا يصح هنا إلا أن نفسر كلمة: (أَخْلُقُ) بمعنى: أصور؛ لأنه لا يجوز إسناد فعل الخلق بمعنى الإيجاد إلى غير الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى كما قال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]، فلا خالق على سبيل الإيجاد إلا الله سبحانه وتعالى، وما فعله المسيح عليه السلام كانت معجزات أجراها الله تعالى على يديه؛ تصديقاً له ليؤمن بنو إسرائيل برسالته ويتبعوه. ((أَنِّي أَخْلُقُ لكم)) أي: أصور لكم. ((مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)) أي: مثل هيئة الطير، فالكاف هنا اسم مفعول. ((فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ))، الضمير هنا يعود على الكاف الذي في قوله: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ). ((فَأَنفُخُ فِيه)) أي: في المصور الذي هو مثل هيئة الطير. ((فَيَكُونُ طَيْرًا)) أي: حقيقياً ذا حياة، وفي قراءة: (فيكون طائراً). ((بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بإرادته وأمره لا باستقلال مني. يقول السيوطي: فخلق لهم الخفاش؛ لأنه أكمل الطير خلقاً، يطير وهم ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً؛ ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق. وهذا الكلام يحتاج إلى خبر مرفوع إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم. ((وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ))، أي: أشفي، ((الأَكْمَهَ)) الذي ولد أعمى. ((وَالأَبْرَصَ)) وخصا بالذكر؛ لأنهما داء إعياء، وكان بعثه في زمن الطب. فأبرأ في يوم خمسين ألفاً بالدعاء بشرط الإيمان. أي: أنه اشترط عليهم إذا دعوت الله فشفاكم أن تؤمنوا، فوافقوا. فيقول: فأبرأ بإذن الله في يوم خمسين ألفاً، والله تعالى أعلم بصحة ذلك. ((وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ))، كرره لنفي توهم الألوهية فيه؛ لأن هذه معجزات قاهرة فعلية، فأحيا عاذر صديقاً له، وابن العجوز، وابنة العاشر، أي ابنة الذي كان يجبي الضرائب والعشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال. وكل هذا الكلام من الإسرائيليات التي تحتاج إلى نوع من التحفظ. ((وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ))، أي: مما تخبئون مما لم أعاينه، فكان يخبر الشخص بما أكل وبما لم يأكل بعد، ولم يقل هنا: بإذن الله؛ لأنه علم من السياق أن هذا كله إنما هو بإذن الله عز وجل، فاستغنى عن إعادته لشدة ظهوره. ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ}، أي: هذا المذكور فيه دلالة لكم على صدقي في دعوى الرسالة.

تفسير قوله تعالى: (ومصدقا لما بين يدي من التوراة صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (ومصدقاً لما بين يدي من التوراة صراط مستقيم) يقول تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [آل عمران:50]. (ومصدقاً) أي: وجئتكم مصدقاًَ. ((لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)) أي: جئت مقرراً ومثبتاً لما قبلي. ((وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ))، فهذا فيه دليل يؤيد القول بأن المسيح عليه السلام نسخ بعض شريعة موسى عليه السلام. بعض العلماء يقولون: لم يحصل نسخ وإنما كانت هناك أشياء مبهمة ومختلطة عليهم وضحها لهم، والله تعالى أعلم. فأحل لهم من السمك والطير ما لا شوكة له يؤذي بها. وقيل: أحل الجميع؛ لأن كلمة (بعض) تأتي بمعنى: كل. ((وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: جئتكم بآيات تعلمون بها صدقي، وإنما وحد الآيات وعبر عنها بكلمة آيةٍ؛ لأن الكل من جنس واحد. قوله: ((مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: من عند ربكم، كرره تأكيداً وليبني عليه: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) أي: فيما آمركم به من توحيد الله وطاعته. ((إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا))، أي: هذا الذي آمركم به ((صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))، أي: طريق مستقيم، فكذبوه ولم يؤمنوا به عليه السلام.

الأسئلة

الأسئلة

حكم اتخاذ المحاريب في المساجد

حكم اتخاذ المحاريب في المساجد Q ما حكم اتخاذ المحاريب في المساجد؟ A بالنسبة لموضوع المحراب قد يحتج بعض الناس بما هو موجود في القرآن الكريم من تكرار هذا اللفظ، فباختصار شديد نقول: إن المحراب إذا أطلق الآن فهو التجويف الذي يصنع في المساجد. واتخاذ المحاريب لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن الخلفاء الأربعة فمن بعدهم، وإنما حدث هذا في آخر المائة الأولى مع ورود الحديث بالنهي عن اتخاذه، وأنه من شأن الكنائس، وأن اتخاذه في المساجد من أشراط الساعة، فقد روى البيهقي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (اتقوا هذه المذابح) المذابح هي المحاريب. وعن ابن مسعود: (أنه كره الصلاة في المحراب وقال: إنما كانت في الكنائس فلا تتشبهوا بأهل الكتاب)، أخرجه البزار. وفي مصنف ابن أبي شيبة عن موسى الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال هذه الأمة - أو قال: أمتي- بخير، ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى) وهذا ضعيف، وفيه أيضاً عن أبي ذر قال: (إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد)، هذا مجرد اتخاذ المذابح، أي: المحاريب. إذاً: فالزخرفة للمساجد وتمويهها بالزينة وغير ذلك لا شك أن هذا كله يخالف سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه نهى عن زخرفة المساجد. ونجد أنهم يزخرفون المحاريب ويكتبون فيها قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران:37]. السيوطي له كتاب اسمه (إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب) وجزم فيه أن المحراب في المسجد بدعة، وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن إبراهيم النخعي قال: قال عبد الله بن مسعود: (اتقوا هذه المحاريب). على أي الأحوال هذا باختصار، والتفاصيل موجودة في كتاب اسمه: (المسجد في الإسلام لخير الدين والدنيا) وهو لأحد تلامذة الشيخ الألباني حفظه الله.

حكم تحديد النسل والدعوة إليه

حكم تحديد النسل والدعوة إليه Q ما حكم الدعوة إلى تحديد النسل؟ A إن دعوة تحديد النسل إن طبقت فإنما هي عملية انتحار لهذه الأمة. إن الاستجابة لهذه الدعوة الشيطانية هو الانتحار بأدق معاني الكلمة. لا شك أن من أعظم مقاصد النكاح في الإسلام: هو تكثير عدد المسلمين. فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إني أصبت امرأة ذات حسن وجمال وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فقال: لا. ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)، فهذا تحقيق لمباهاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكثرة أمته يوم القيامة، وهذا الحديث صححه أبو محمد عبد الحق وهو ابن عطية الأندلسي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السقاية، فتزوج امرأة وكان عقيماً، فقال له عمر: أعلمتها أنك عقيم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعلمها ثم خيرها). يقول الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: إن غريزة الامتداد في الذراري والأحفاد لا يستطيع المرء السوي أن ينعم بها إلا عن طريق الزواج، فكما أحسن إليك والدك فكان سبب وجودك في هذه الدنيا، فكذلك ينبغي لك أن تقابل هذا الإحسان بالبر إليه والوفاء، فتنجب للدنيا نبتة كريمة، تتعاهدها بالتربية والتهذيب تحيي اسم والدك، ويكون عملها الطيب في سجلك. ويكفي الممتنع عن الإنجاب عقوقاً أن يكون هو الشخص الأول الذي يقطع هذه السلسلة، التي تبدأ بآدم وتنتهي به. أيضاً ورد من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له في وصية جامعة: (ولك في جماعك زوجتك أجر، قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات أكنت تحتسبه؟ قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلقه، قال: فأنت هديته؟ قال: بل الله هداه، قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه؟ قال: فكذلك تضعه في حلاله وجنبه حرامه فإن شاء الله أحياه وإن شاء أماته ولك أجر) فهذا يدل على أنه يستحب أن ينوي عند إتيان أهله طلب الولد الصالح. فعلى المسلم أن يستحضر هذه النية فإنه يثاب عليها، يقول تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] المقصود ألا تباشروهن لقضاء الوطر وحده، ولكن لابتغاء ما وضع الله في النكاح من التناسل. وقال أبو هريرة وابن عباس وأنس: ((وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] يعني: من أجل طلب الولد). وقال صلى الله عليه وسلم لـ جابر رضي الله تعالى عنه: (إذا قدمت فالكيس الكيس) أي: الجماع الجماع والعقل العقل، الحديث متفق عليه. قال العلماء: المقصود بالكيس أي: الجماع لطلب الولد، فهذا فيه تحريض على طلب الذرية. وأيضاً روى البخاري في صحيحه: باب من طلب الولد للجهاد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، أو تسع وتسعين، كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)، فالشاهد هنا كما في ترجمة الباب أنه ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجر، حتى لولم يرزق الولد لكنه يثاب على هذه النية. ويقول عمر رضي الله عنه: (إني لأكره نفسي على الجماع؛ رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبح الله تعالى). وقال رضي الله عنه: (تكثروا من العيال فإنكم لا تدرون ممن ترزقون). الموضوع يحتاج إلى كلام أوسع من هذا، لكن باختصار شديد ذكرنا أن موضوع تحديد النسل أو ما إلى ذلك من المسميات، قد يباح بالجزء سواء بالإجهاض أو بتحديد النسل في حياة فردية حسب ظروف معينة ومعطيات معينة، فيباح مثل هذا الفعل خلافاً للأصل لبعض الأفراد، لكن أن يكون هناك إعلان عام للناس يرغبون في تحديد النسل أو في الإجهاض أو غير ذلك من هذه الأشياء فهذا حرام قطعاً؛ لأن هذا يخالف المقاصد العليا للشريعة الإسلامية. والمقاصد العليا للشريعة الإسلامية: هي حفظ الدين والعقل والدم والنسل والعرض والمال. إذاً: فكل ما يخل بهذه الضروريات أو هذه المصالح فإنه يحرم في الشريعة. فإذا قالوا: هذه سياسة عليا للدولة، نقول: كذلك الدولة الإسلامية عندها سياسات عليا لا تقبل النقاش، من هذه السياسات العليا للدولة الإسلامية أنه لا يجوز الجهر بأي دعوى تتصادم مع المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، فمثلاً: الشريعة الإسلامية حرضت على الزواج، وسلكت في سبيل ذلك كل ما أمكن من الوسائل لتسهيل الزواج وتيسيره والحض عليه، فهذه هي السياسة العليا للدولة الإسلامية في هذه المسألة، فلا يجوز بحال من الأحوال تبني دعوى تناقض هذه السياسة، بمعنى: أن يحرض الشباب على العزوبية، أو تأخير الزواج، أو منع الزواج المبكر أو غير ذلك من الوسائل المضادة للمقاصد العليا للشريعة الإسلامية، ولذلك لا تستعجب ولا تستغرب إذا وجدت علماء الحديث يدلون بقاعدة كلية في هذا الباب، فيقولون: أي حديث فيه التحريض على العزوبة فهو حديث لا يصح؛ لمنافاته مقاصد الشريعة، فهذا مما يستدل به على ضعف المتن؛ لأنه يخالف مقاصد الشريعة، حتى لو صح سنده، مع أنه لا يوجد أي حديث صح سنده يحرض على تقليل النسل أبداً، ولو صح وصادم المقاصد العليا للشريعة الإسلامية فيطعن في الحديث، وهذا لا يكون إلا للأئمة الكبار وليس لكل الناس نقد الحديث من جهة المتن. إذاً: أحد الأسباب التي يطعن بها في المتن مع صحة السند منافاته للمقاصد العليا للشريعة الإسلامية التي تعلم من الدين بالضرورة. هناك من الناس من يلعبون بعقول الناس، فتراهم يأتون إلى بعض الحالات الفردية التي يجوز فيها الإجهاض أو تحديد النسل ليعمموها، مع أن الحالات الفردية هذه محددة ومقيدة بظروف خاصة، ولا يجوز تبني ما يخالف المقاصد العليا للشريعة الإسلامية: ومن المقاصد العليا للشريعة الإسلامية: التحريض على الزواج. تيسير الزواج بكل وسيلة. منع أي دعوى للعزوبة. منع قضاء الوطر في خارج دائرة الزواج.

آل عمران [52 - 61]

تفسير سورة آل عمران [52 - 61]

تفسير قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله)

تفسير قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله) يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]. قوله تعالى: ((فَلَمَّا أَحَسَّ)) أي: علم وعرف عن طريق الحس والمعرفة والمعاينة. ((مِنْهُمُ الْكُفْرَ)) أي: من بني إسرائيل الذي ذكروا في الآيات السابقة في خطاب المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يقتلوه عليه السلام. ((قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)) أي: من أعواني ذاهباً ومتوجهاً وملتجئاً إلى الله؛ لأنصر دينه. وقال بعض المفسرين: ((إِلَى اللَّهِ)) أي: من أنصاري مع الله، أو من ينصرني مع الله، أو: من أعواني ذاهباً ومتوجهاً إلى الله، لأنصر دينه، كما قال بعض الأنبياء عليهم السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]. ((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)) أي: نحن أعوان دينه. هؤلاء الحواريون هم أصفياء عيسى عليه السلام، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلاً. قيل: الحواريون مأخوذة من الحور وهو البياض الخالص، قيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها. فالحواريون هم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام، فعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. والحواري هو الناصر الذي يبالغ في النصرة، وهو الوجيه والخليل والحميم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما من نبي بعثه الله إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يهتدون بهديه ويقتدون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف) إلى آخر الحديث. فدل على أن هؤلاء الأصفياء والخلص من الأصحاب ليست خاصة بالمسيح عليه السلام، وإن جاء إطلاق الحواريين على تلامذته الأقربين عليه السلام، وإنما كل نبي له حواريون وأصفياء وأنصار وأعوان من أصحابه. ((آمَنَّا بِاللَّهِ)) أي: صدقنا بالله. ((وَاشْهَدْ)) أي: يا عيسى. ((بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) أي: منقادون لرسالتك.

تفسير قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول) بعد أن أشهدوا نبيهم عليه السلام على هذا الإيمان أشهدوا الله تبارك وتعالى فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]. ((رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ)) من الإنجيل. ((وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ)) عيسى عليه السلام. ((فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) أي: فليكن جزاؤنا على إشهادنا إياك وعلى إيماننا بك أن تكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق. وهؤلاء الشاهدون يحتمل أنهم الذين تقدم ذكرهم في قوله تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، أو اكتبنا مع الشاهدين أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أنهم آمنوا بهم وصدقوهم.

تفسير قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين)

تفسير قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) قال تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]. ((وَمَكَرُوا)) أي: كفار بني إسرائيل، مكروا بعيسى عليه السلام إذ وكلوا به من يقتله غيلة. الواو هنا تعود على الذين أحس عيسى منهم الكفر من بني إسرائيل. ((وَمَكَرَ اللَّهُ)) أي: في المقابل مكر الله سبحانه وتعالى بهم، بأن ألقى شبه عيسى على من قصد قتله، وهذا التفسير هو الذي اعتمده السيوطي. يقول القاضي كنعان: الصحيح أن الذي ألقي عليه شبه عيسى كان أحد تلاميذه من الحواريين، فقتلوا هذا الذي ألقي عليه الشبه ورفع عيسى إلى السماء، ونجاه الله سبحانه وتعالى من بين أيديهم. ((وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) أي: أعلمهم به، وهذه الصفة بلا شك أنها في حق الله تبارك وتعالى على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، كقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وكقوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]. يرد علينا سؤال وهو: هل يجوز في الدعاء أن يقال: يا خير الماكرين امكر لي؟ A أجاز بعض العلماء ذلك، واستشهدوا بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (اللهم امكر لي ولا تمكر علي).

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55]. ((إِذْ قَالَ اللَّهُ)) أي: اذكر إذ قال الله: ((يا عيسى إني متوفيك)). نلاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى ينادي عامة الأنبياء بأسمائهم: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46] وقوله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] و ((يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) و {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، وهكذا. أما نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يناده الله تبارك وتعالى باسمه قط في القرآن الكريم، إنما ناداه بصفاته الشريفة كـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، وهذا من كرامته على الله سبحانه وتعالى وبلوغه في الشرف مقاماً لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ((إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) أي: قابضك. ((وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)) أي: من الدنيا من غير موت. ((وَمُطَهِّرُكَ)) أي: مبعدك. ((مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)) أي: صدقوا بنبوتك من المسلمين. وهذه تشمل طائفتين: تشمل الطائفة التي آمنت بالمسيح عليه السلام ممن أدركوا بعثته، ووافقوه على دين الإسلام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الطائفة الثانية التي شملتهم هذه الآية: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) هم الذين اتبعوا رسول الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فنحن المسلمين أيضاً ندخل في قوله تعالى: ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)) أي: الذين صدقوا نبوتك من المسلمين؛ لأننا اتبعنا المسيح عليه السلام على الحقيقة، وأما النصارى فهم أعداء المسيح عليه السلام يعاديهم ويبغضهم ويبرأ إلى الله منهم تماماً، كما أن اليهود يدعون كذباً مع اعتزازهم بموسى عليه السلام وأنهم على دينه وملته، كذلك نقول: نحن أتباع موسى على الحقيقة ونحن أولى به منهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه، فسألهم عن ذلك، فقالوا: (إنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من فرعون وقومه قال: نحن أولى بموسى منهم) وقال: (أنا أولى الأنبياء بالمسيح عليه السلام، ما بيني وبينه نبي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فإذاً: نحن أتباع المسيح، وأتباع موسى عليهما السلام؛ لأننا على نفس الدين الذي دعوا إليه، ولأننا نؤمن بالأنبياء كلهم، فالذي يكفر برسالة نبي واحد فإنه قد كفر بجميع الأنبياء، ويحبط كل إيمانه ويصير مرتداً، ومن كذب بنبوة المسيح فقد كفر، ومن كفر بالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى فقد كفر ولا ينفع إيمانه بالقرآن ولا بالتوراة، بل الإيمان حقيقة متركبة من أجزاء مرتبطة ببعضها، لا ينفك ولا ينفصل بعض منها عن البعض الآخر. ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: فوق الذين كفروا بك وهم اليهود، وكذالك ومن حرف دين المسيح من النصارى، فالذين اتبعوك يعلونهم بالحجة وكذلك بالتمكين لهم في الأرض. الذين كفروا بالمسيح قسمان: الأول: اليهود لعنهم الله فهم الذين كفروا بالمسيح وسبوه وسبوا أمه ورموها بالبهتان وبالإفك المبين. الثاني: الذين حرفوا دين المسيح من النصارى وعبدوه وألهوه. ((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)) هذا وعد لا يتخلف، وما نحن عليه من الضعف والوضع الذي يعيشه المسلمون الآن، فهذا ليس هو الأصل بل هذا من الاستثناءات؛ لأن الغالب والأصل أن المؤمنين دائماً فوق الذين كفروا، ولا يجوز أن يظن بالله سبحانه وتعالى أنه يدع المسلمين مقهورين إلى الأبد، بل لابد أن تعود الكرة كما قال تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]. فمن سوء الظن بالله أن يظن أنه يمكن للكفار أن يستأصلوا المسلمين ويبيدوهم وترتفع كلمتهم عليهم، هذا خلاف الأصل. خاصة إذا قلنا: إن أحد ركني هذه الفوقية المقصود به العلو في الحجة والبيان، فهذا بلا شك قائم في كون المؤمنين والموحدين يعلون الكفار دائماً بالحجة والبرهان، كما بيناه وكما سيأتي تفصيله إن شاء الله. وأحياناً يعلونهم بالسيف، أما ما نحن فيه من أوضاع آخر الزمان فهي تخالف في القاعدة الأصلية. ((فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) أي: من أمر الدين.

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا)

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً) {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:56]. ((فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا)) أي: بالقتل والسبي والجزية. ((وَالآخِرَةِ)) أي: بالنار. ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) أي: مانعين يمنعونهم من هذا العذاب.

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم)

تفسير قوله تعالى: (وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم) {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57] وفي قراءة (فنوفيهم) بالنون. ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) أي: يبغضهم. وهنا فسرها السيوطي بقوله: أي: يعاقبهم، (روي أن الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت، فقال لها: إن القيامة تجمعنا، وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة، وعاشت أمه بعده ست سنين)، والله أعلم بصحة ذلك؛ لأنه لم يثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وروى الشيخان: (أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا، ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية)، وفي حديث مسلم: (أنه يمكث سبع سنين) وفي حديث عن أبي داود الطيالسي: (أربعين سنة، ويتوفى ويصلي عليه المسلمون) فيحتمل أن المراد مجموع مكثه في الأرض قبل الرفع وبعده.

أقوال المفسرين في مسألة رفع المسيح إلى السماء وتوفي الله تعالى له

أقوال المفسرين في مسألة رفع المسيح إلى السماء وتوفي الله تعالى له قضية رفع المسيح عليه السلام إلى السماء وتوفي الله سبحانه وتعالى إياه، اختلف المفسرون في تفسيرها. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] أي مستوف مدة إقامتك بين قومك. والتوفي يطلق على الإماتة، وكذلك يطلق على استيفاء الشيء كما في كتب اللغة، يقول تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] أي: أنه يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وذلك بالنوم، فهذا تشبيه للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام:60]، أي: أنهم لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك. ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته، ومجاورته لملائكته، ومعدن النزاهة عن الأدناس، {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55]، أي: من مكرهم وخبث صحبتهم. هذه الآية الكريمة: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)، ظاهرها يدل على أن الله تعالى فوق سماواته، كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وفي قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]، وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، أي: من فوق السماء. وهو مذهب السلف قاطبة كما نقله الإمام الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار). قال أبو الوليد بن رشد في (مناهج الأدلة): لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة الفوق حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة، كـ أبي المعالي الجويني ومن اقتدى بقوله. إلى أن قال أبو الوليد بن رشد: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء. الشرائع هنا بالمعنى الأعم لا تقتصر فقط على الشرائع التي هي بمعنى الأحكام الفقهية؛ لأن الشريعة تطلق أحياناً على كل الدين. يقول: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول. فإثبات العلو واجب بالشرع وبالعقل، وإبطاله إبطال للشرائع. يقول الدارمي: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته. وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) فانظره. يقول القاسمي: هذا ولما كان ذوو الهمم العوالي أشد التفاتاً إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم، أراد الله تبارك وتعالى أن يبشر المسيح عليه السلام بذلك حتى يطمئنه، فقال تبارك وتعالى: ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). ثم يقول: وكذا كان ولم يزل من انتحل النصرانية فهم فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد. الحقيقة أن هذه الآية إحدى الآيات الأساسية في موضوع الإيمان برفع المسيح عليه السلام حياً، ونزوله وقتل المسيح الدجال في آخر الزمان. فهناك عدة آيات في موضوع رفع المسيح إلى السماء حياً، الآية الأولى هي هذه الآية من سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55]. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية ما ملخصه: اختلف المفسرون في قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)، فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر، وتقديره: يا عيسى إني رافعك إلي ومتوفيك، يعني بعد ذلك. أي: أن الله سبحانه وتعالى رفعه إليه وهو حي لم يمت إلى اليوم، وقد لقيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رحلة الإسراء والمعراج. قوله: ثم متوفيك بعد ذلك أي: حينما ينزل في آخر الزمان، فإنه يعيش من جديد ويحكم بالإسلام ثم يتوفاه الله تبارك وتعالى. يرد سؤال عابر: من آخر الصحابة موتاً؟ المسيح عليه السلام؛ لأن المسيح عليه السلام هو نبي وصحابي في نفس الوقت؛ لأن تعريف الصحابي ينطبق على المسيح؛ لأنه لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فترة -ولو كانت قصيرة- في ليلة المعراج مؤمناً برسالته، فهذا هو حد الصحابي وتعريف الصحابي، فلذلك عيسى نبي وصحابي، وهو لم يمت حتى الآن، فهو آخر الصحابة موتاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، أي: مميتك). وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه قال: توفاه الله ثلاث ساعات منه أول النهار حين رفعه إليه. وقال ابن إسحاق أيضاً: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه. قال إسحاق بن بشر عن إدريس عن وهب: أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه. قال مطر الوراق: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، من الدنيا، وليس بوفاة موت. وقال ابن جرير: توفيه هو رفعه. وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام:60]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من نومه: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) الحديث. وعن الحسن أنه قال: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، يعني: وفاة المنام، رفعه الله في منامه، قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: (إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة) وهذا الحديث مرسل ضعيف. ((وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: برفعي إياك إلى السماء، بعيداً عن هذه الصحبة من كفار اليهود. اختار الحافظ ابن كثير بعد هذا رأي الجمهور حيث فسر التوفي بالمنام، أي: ألقي عليه النوم، وأيده بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] معلوم أن الهاء في: (موته) يحتمل أنها تعود إلى المسيح، ويحتمل أن تعود إلى الكتابي، فإذا كانت الهاء عائدة على الكتابي فعندما يأتيه الموت يعلم بأن المسيح عليه السلام رسول الله، هذا معنى أحد القولين. (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل أن تقبض روح الكتابي سواء كان يهودياً أو نصرانياً ممن عبد المسيح، فسيكتشف الحقيقة ويعلم أن المسيح ما كان إلا عبداً رسولاً ويعلم أنه مات على الباطل وعلى الكفر. أو أن معنى قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت المسيح، وتكون هذه إشارة إلى نزوله في آخر الزمان. المسيح عليه السلام لم يمت بعد، وإنما سيموت بعدما ينزل إلى الأرض في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به في ذلك الوقت؛ لأنه سيكتشف أنه كان على ضلال وكفر مبين؛ لأن المسيح يضع الجزية عن النصارى وغيرهم من الملل الأخرى فلا يقبل منهم إلا الإسلام، فإما أن يسلم وإما أن يقتله المسيح عليه الصلاة والسلام كما ما هو معلوم في الأحاديث. على أي الأحوال فلفظ (ومتوفيك) في الآية هنا لفظ متشابه، فيحتمل أن يكون معناه التوفي بالنوم، أو التوفي بالموت، أو التوفي بمعنى القبض والاستيفاء. قوله: ((وَرَافِعُكَ إِلَيَّ))، بعض الناس فسرها بقوله: رفع روحه، أو رفع مكانته، وهذا إلحاد في آيات الله وتحريف للكلم عن مواضعه. وأقرب المعاني أن يقال: إن الآية فيها تقديم وتأخير بمعنى: إني رافعك إلي ومتوفيك، وهذا ما سيحصل حينما يتوفاه عند نزوله في آخر الزمان. أو التوفي يكون بمعنى الإنامة لا الإماتة، إذ لا معنى لرفعه إلى الله ميتاً، إذاً ما الخصيصة التي اختص بها المسيح عليه السلام إذا كان رفعه ميتاً؟! مع أن المراد بالرفع هو حفظه من اليهود وإنجاؤه من مكرهم حين أرادوا قتله. فإذا كان المسيح عليه السلام قد توفي بالإماتة، فأي إنجاء يكون في هذا؟ إنما يكون الإنجاء وتكون الآية والبشارة بأن يتوفاه الله سبحانه وتعالى ويرفعه إليه رفعاً حقيقياً. فعلى تقدير التوفي بالإماتة لا تكون تلك البشارة بالتطهير والإنجاء قد تحققت، بل يكون قد أعان اليهود على قصدهم، وهو أن يتخلصوا من عيسى عليه السلام إما بالموت أو بالقتل. وكيف يفهم خلاف ذلك من قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54] فإنه من المناسب لمكر الله المقابل لمكر اليهود أن يرفعه إليه حياً؛ لينزل في آخر الزمان فينتقم من هؤلاء الذين كادوا له وآذوه، فيقاتلهم على الإسلام وحده، فمن أبى منهم قتل. خلاصة الأقوال في هذه القضية: الأول: رأي الجمهور الذي اختاره ابن كثير ورواه عن الحسن: وهو تفسير التوفي بالإنامة، ((مُتَوَفِّيكَ)) أي: ملق عليك النوم. الثا

تفسير قوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) قال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58]. ((ذَلِكَ)) أي: المذكور من أمر عيسى عليه السلام. ((نَتْلُوهُ)) أي: نقصه. ((عَليْكَ))، يا محمد ((مِنَ الآيَاتِ)). وقوله: ((ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ)) فيه إشارة إلى أنه لا مصدر لك كي تعلم هذه الأشياء إلا ما يطلعك الله سبحانه وتعالى عليه عن طريق الوحي. ((مِنَ الآيَاتِ)) حال من الهاء في (نتلوه)، وعامله ما في (ذلك) من معنى الإشارة. ((وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)) أي: المحكم وهو القرآن الكريم، والمحكم بمعنى المعصوم من أن يتطرق إليه خلل. أو ((الْحَكِيمِ)) بمعنى: المشتمل على الحكم.

تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)

تفسير قوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى)) أي: إن مثل شأنه العجيب الغريب في إنشائه من غير أب. ((عِنْدَ اللَّهِ)) أي: في تقدير الله وحكمه. ((كَمَثَلِ آدَمَ)) أي: كشأن آدم أيضاً العجيب في خلقه من غير أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم، ولا يستطيع أن يجيب، أي: أيهما أعجب وأغرب خلق آدم أم خلق المسيح عليه السلام؟ لا شك أن خلق آدم أغرب، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إن كنتم تستدلون على ألوهية المسيح المزعومة بكونه خلق من غير أب، فكان أولى أن تعبدوا آدم؛ لأن آدم خلق لا من أب ولا من أم، فهذا هو المقصود. ثم شرع تعالى في تبيين وجه الشبه بينهما بقوله: ((خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)) أي: آدم، والمقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على هيئة الإنسان وقالبه وشكله، لم يكن قد نفخ فيه الروح؛ لأن الآية تقول: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] فكان. فالهاء هنا في قوله: ((خلقه)) تعود على قالب آدم، الذي هو العجين المعجون من طين. ((ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ)) أي: كن بشراً. ((فَيَكُونُ)) أي: فكان، وكذلك عيسى عليه السلام قال له: كن من غير أب، فكان.

تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين)

تفسير قوله تعالى: (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]. أي: أمر عيسى عليه السلام، والذي قصصناه عليك من ربك هو الحق. (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي: الشاكين فيه.

تفسير قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم)

تفسير قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]. ((فمن حاجك)) أي: فمن جادلك من النصارى في عيسى. ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)) أي: من العلم بشأنه وبأمره. ((فَقُلْ تَعَالَوْا)) أي: فقل لهم تعالوا، والمقصود من هذا أن الله سبحانه وتعالى بعدما أقام عليهم الحجج على بطلان ما هم عليه من الارتياب في شأن المسيح عليه السلام، يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: لم يبق من تفسير لما أنتم عليه من الإصرار على الكفر إلا أنكم معاندون وجاحدون؛ لأنكم إذا كنتم جهلة فقد كان ما أقمته عليكم من الحجج يستوجب زوال وصف الجهل عنكم، أما وقد أقيمت عليكم الحجج الواضحة وما استطعتم لها رداً ولا دفعاً، فلم يبق منكم إلا العناد، فلا سبيل لرفع هذا العناد إلا بالمباهلة. أي: فقل لهم: أيها المجادلون ((تعالوا)) أنا ادعوكم إلى الفيصل بيني وبينكم الذي يكشف من منا صاحب الحق ومن منا على باطل. ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)) هذا الاختيار اختيار دقيق، حيث اختار أعز أهله وألصقهم بقلبه، فهم الذين يخاطر الرجل بنفسه من أجلهم، ويحارب دونهم، فيأتي بهؤلاء ويباهل. ((ثم نبتهل)) أي: نتضرع ونجتهد في الدعاء. الابتهال يشمل الاجتهاد في الدعاء سواء كان باللعنة أو بغيرها، والمقصود بالابتهال هنا أن نلعن من يكون على باطل، كما قال: ((فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ)) أي: طرده وإبعاده من رحمته. ((عَلَى الْكَاذِبِينَ)) أي: منا ومنكم، ليهلكهم الله وينجي الصادقين، فلا يبقي بعد أن أقمنا عليكم دلائل العقل ودلائل النقل إلا المباهلة.

حقيقة المباهلة

حقيقة المباهلة المباهلة طريقتها أن يفعلوا كما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام هنا: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، أي نقول: اللهم العن الكاذب في شأن عيسى. نحن المسلمين نعتقد في عيسى أنه كلمة الله، وروح منه، وأنه عيسى بن مريم عليهما السلام، ونعتقد أن الله هو الحق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، والنصارى يقولون: هو الله أو ابن الله -والعياذ بالله- إلى آخر هذه العقائد الكفرية، فاللهم أنزل لعنتك على الكاذب منا؛ لأن الحق لا يعدو هؤلاء أو هؤلاء، فالمباهلة معناها: الدعاء بنزول اللعنة على الفريق الكاذب وإنجاء الصادقين.

ذكر الآثار الواردة في المباهلة

ذكر الآثار الواردة في المباهلة يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نصارى نجران لما قدموا المدينة، فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق وغيره، وكانوا ستين راكباً منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم: العاقب أمير القوم واسمه عبد المسيح. والسيد في مالهم وصاحب رحلهم واسمه الأيهم. وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم. وفي القصة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخبر من الله عز وجل، والفصل من القضاء بينهم وبينه، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى المباهلة، فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه ثم خلوا بـ العاقب الذي هو أميرهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا)، فلم يلاعنهم صلى الله عليه وسلم وأقرهم على خراج يؤدونه إليه. وعن جابر رضي الله عنه قال: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي ناراً، قال جابر: وفيهم نزلت: ((فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ)) [آل عمران:61] إلى آخر الآية. قال جابر: (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ)، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب (أَبْنَاءَنَا) الحسن والحسين (وَنِسَاءَنَا) فاطمة) وهكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم. وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: (جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أمين هذه الأمة) وهذا أيضاً رواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال أبو جهل قبحه الله: إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته قال: فقال: لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً)، وهذا رواه البخاري وغيره. يقول الزمخشري: فإن قلت: ما كان دعاؤه للمباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده، وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. معناه: أن الاثنين يقفان في المواجهة، فالرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه يدعون أن تنزل اللعنة على الكاذب في شأن عيسى، والآخرون أيضاً يدعون أن تنزل اللعنة على الكاذب في شأن عيسى عليه السلام، فلماذا أدخل غيره في ذلك مع أن المخاصمة كانت بين اثنين فقط؟ أدخلهم؛ لأن هذا أوكد في الدلالة على ثقته ويقينه من الحق الذي هو عليه، وأن الله سبحانه وتعالى فاطر السماوات والأرض ورب السماوات والأرض المطلع على هذا الحال معه، وسينصره، وسيخذل عدوه، بحيث إذا استجيبت الدعوة واستجيبت هذه المباهلة هلك الكافر وذووه فاستؤصلوا جميعاً ولم يبق منهم عين ولا أثر. ثم يقول: وخص الأبناء والنساء؛ لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب. ثم يقول: ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم: حماة الحقائق، وقدمهم في الذكر على الأنفس: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61] لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه دليل على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام. وأصحاب الكساء من آل البيت، وهم علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ولا يقتصر وصف آل البيت عليهم. ثم يقول: وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

حكم المباهلة

حكم المباهلة هذه الآية تدل على جواز المحاجة في أمر الدين، وأن من جادل وأنكر شيئاً من الشريعة جازت مباهلته اقتداءً بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم. والمباهلة هي الملاعنة، وهذا في الحقيقة مخرج لأصحاب الحق، إذا كان مع الإنسان حق أبلج وأوضح من الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك يعاند خصمه ويصر على باطله، ففي هذه الحالة تجوز لك المباهلة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فتحضر نفسك وأبناءك ونساءك وتقف في صف، وكذلك خصمك يحضر نفسه وأبناءه ونساءه، ثم تتباهلون وتجعلون لعنة الله على الكاذبين، فبلا شك أن هذا سيكون كفيلاً لتبرئة المظلوم، وإيضاح الحق من الباطل.

أنموذج للمباهلة

أنموذج للمباهلة في الحقيقة هناك حوادث كثيرة فيما يتعلق بموضوع المباهلة وقعت حتى مع أهل البدع، بل إن بعض الصحابة كـ ابن عباس وغيره لما اختلف مع بعض إخوانه من الصحابة في بعض القضايا الفقهية طلب المباهلة، كي يعلن وثوقه بما هو عليه من الرأي في هذه المسألة. لا أطيل في ذكر الأمثلة وإن كانت كثيرة، لكن أقتصر فقط على هذا الذي ذكره العلامة أبو المعالي محمود شكري الألوسي رحمه الله في كتابه (غاية الأماني في الرد على النبهاني) يقول في أثناء مناقشة مذهب ابن عربي الملحد: قال الإمام أحمد بن علي بن حجر الشافعي: إنه ذكر لمولانا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني أشياء من كلام ابن عربي، وسأله رجل عن ابن عربي، فقال له شيخنا: هو كافر. قال: وسمعت الحافظ شهاب الدين ابن حجر يقول: جرى بيني وبين بعض المحبين لـ ابن عربي منازعة كثيرة في أمر ابن عربي، حتى إن الرجل المنازع لي في أمره هددني بالشكوى إلى السلطان بمصر بأمر غير الذي تنازعنا فيه إذا لم أكف عن الكلام في ابن عربي، فقلت له: ما للسلطان في هذا مدخل، نحن نتناظر مناظرة علمية، فتعال نتباهل، وقلت: ما تباهل الاثنان فكان أحدهما كاذباً إلا وأصيب، فقال لي: باسم الله! هيا توكلنا على الله، قال: فقلت له: قل: اللهم إن كان ابن عربي على ضلال فالعني بلعنتك، فقال ذلك، فقلت أنا: اللهم إن كان ابن عربي على هدى فالعني بلعنتك، وافترقنا، قال: وكان يسكن الروضة، فاستضافه شخص من أبناء الهند، ثم بدا له أن يتركه وخرج في أول الليل مصمماً على عدم المبيت، فخرجوا يشيعونه إلى بيته، ففي أثناء رجوعه أحس بشيء مر على رجله، فقال لأصحابه: مر على رجلي شيء ناعم فنظروا فلم يروا شيئاً، وما رجع إلى منزله إلا وقد عمي في نفس الليلة، وما أصبح إلا ميتاً، وكان ذلك في ذي القعدة سنة سبع وسبعين، وكانت هذه المباهلة في رمضان منها، وعند وقوع المباهلة عرفت أن السنة لا تمضي عليه، وكانت بمحضر من جماعته.

آل عمران [137 - 148]

تفسير سورة آل عمران [137 - 148]

تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض) قال تبارك وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137]. هنا ندب إلى القياس أي: قيسوا بهم عاقبة اللاحقين بهم في الهلاك والاستئصال إذا فعلوا فعلهم، والأمر بالسير والنظر لمشاهدة آثار المتقدمين له أثر في الاعتبار أقوى من أثر السماع، فليس الخبر كالمعاينة.

تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)

تفسير قوله تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]. أي أن القرآن تخويف نافع للمتقين، وهو هدى لهم.

تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]. أي: لا تضعفوا عن الجهاد فيما نالكم من الجراح، ولا تحزنوا على من قتل منكم، والحال أنكم الأعلون الغالبون دون عدوكم، فإن مصير أمرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من عاقبة أسلافهم. (إن كنتم مؤمنين) أي: فلا تهنوا ولا تضعفوا إذا كنتم مؤمنين؛ لأن الإيمان يورث قوة القلب، والثقة بنصر الله تعالى، وعدم المبالاة بأعدائه، أو (إن كنتم مؤمنين) فأنتم الأعلون؛ لأن الإيمان يقتضي العلو لا محالة.

تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)

تفسير قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) يقول تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140]. ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا))، الأيام دول يوم لك ويوم عليك. وسنة الحياة عدم ثبات الأحوال، لكن العاقبة للمتقين، فلابد من استحضار هذا عند الابتلاء. في هذا الزمان الذي عم فيه الظلم وطم، وتحققت فيه كثير من أشراط الساعة على يد أعداء الدين، فما على المسلم إلا أن يستحضر مثل هذه الآيات: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، لكن الفارق هو أنكم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، مهما اشتدت المحن بالمؤمن، فما عليه إلا أن يفزع إلى الله ويستعمل سلاح الدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى؛ لأن الله سبحانه هو نصير للمؤمن ومولى لهم قال عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، وقال عز وجل: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] يكفي أن المدد مقطوع بين الظالم وبين الله سبحانه وتعالى؛ لأن ما بينه وبين الله خراب ودمار. إذاً: يكفي المؤمن في البلاء أن يفزع إلى الله؛ ولأن الحبل بينه وبين الله متصل، وإذا فزع إلى الله سبحانه وتعالى فإن الله يمده بنصره وبمعونته، كما ذكرنا من قبل: أن قوة المؤمن ليست في عضلاته، بل في قلبه واتصاله بربه. وهذا حديث يطول، ويكفي أن نتذكر قصة غلام أصحاب الأخدود، فقوة المؤمن تكون في قلبه أساساً، ولا ينافي أن يكون المؤمن قوياً في بدنه. إذاً: المؤمن قوته تكون في قلبه، بتوكله وثقته بالله تبارك وتعالى، يقول عز وجل هنا: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) إذاً: ليس جديداً علينا هذا الذي يحصل من البلاء للمسلمين الآن، وليس أمراً مفاجئاً ولا بغتة ولا فلتة، وإنما هي سنة الله التي لابد أن تمضي، ولابد أن يخضع لها جميع الخلق، فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم، فقد أصابتهم القروح والآلام في سبيل الشيطان، وأنتم أصبتم في سبيل الله وابتغاء مرضاته. ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ))، أي: أيام هذه الحياة الدنيا. ((نداولها بين الناس)) أي: نصرفها بينهم، تارة لهؤلاء، وتارة لهؤلاء، فهي عرض حاضر يقسمها بين أوليائه وأعدائه، (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، بلا شك أننا الآن نستحضر هذا الحديث أكثر من أي وقت مضى، فالدنيا سجن المؤمن انظر كيف يكون حاله في السجن، فإذا خرجت روحه انطلق إلى الرحب والسعة، وإلى رضوان الله سبحانه وتعالى والنعيم. فالمؤمن لابد أن يستحضر هذا الأمر؛ لأن الدنيا هي جنة بالنسبة للكافر، وهي في نفس الوقت سجن بالنسبة للمؤمن؛ لأنه مقيد بالأوامر والنواهي، مقيد بالبلاء وبحرب أعداء الدين وأعداء الله تبارك وتعالى. هذه سنة الله التي لن تتبدل ولن تتخلف، حتى الذي يتنازل عن دينه كي يخفف عن نفسه من وطأة هذا السجن، وكي يطلب العافية لن ينال العافية، بل سيكون أول من يعذبه هذا الذي ترك دينه من أجله، فإن الله قضى قضاء مبرماً محكماً لا ينقض ولا يخلف، أن من أطاع غيره أو أحب غيره في معصيته عذبه به ولابد، والأمثلة لا تكاد تنتهي، كم رأينا من جبار في الأرض قام بتعذيبه وزير من وزرائه، كأن ينقلب عليه بعد ذلك، أو يقتله أو يعذبه أو يسجنه أو يحاكمه، وكم رأينا من أناس شرعوا قوانين لقهر الناس وإذلالهم، ثم كانت هذه القوانين وبالاً عليهم، فمن حفر حفرة لأخيه وقع فيها، فهي سنة الله لن تتخلف أبداً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

الحكم والغايات المحمودة من معركة أحد

الحكم والغايات المحمودة من معركة أحد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد: ومنها: أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة، ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنه لو انتصر المسلمون دائماً لدخل معهم المنافقون وغير الصادقين في الإسلام، ولم يميز الصادق من غيره، ولو هزم المسلمون دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فيضيع الدين، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين، أحياناً ينتصرون وأحياناً تكون الأخرى؛ ليتميز من يتبعهم ويطيعهم على الحق وما جاءوا به، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة، ممن يعبدون الله على حرف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، إذا كثرت الأموال وعوفي في صحته ووجد السعة والرخاء والرفاهية يقول: هذا دين طيب رأينا منه الخير، فإذا كانت الأخرى فابتلي بموت أولاده أو بمرض أو بفقر أو غير ذلك، يقول: هذا دين شؤم والعياذ بالله، فمثل هذا نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] يريد ديناً لا ابتلاء فيه، فإذا ابتلي: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا} [الحج:11] حرمها وابتلي بفقدانها، والآخرة أيضاً؛ بسبب ارتداده {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]. فهذه من حكم الله سبحانه وتعالى في أن تكون الأيام دولاً بين الناس. ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا))، هذه حكمة أخرى أن يتميز المؤمنون من المنافقين، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الفتن التي تكون في آخر الزمان تفرز الناس وتقسمهم، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، وهذا ما نراه. سبحان الله! في مثل هذه الأيام التي نعيشها كل يوم ينكشف منافقون جدد، فقد كانوا يخبئون هويتهم وعداءهم للدين، فظهروا على حقيقتهم؛ ليميز الخبيث من الطيب، وهذه من حكمة الله سبحانه وتعالى أن ينكشف هؤلاء، وينكشف حقدهم على دينه وعلى عباده الصالحين، فيعلمهم الله تعالى علم رؤية ومشاهدة، بعد أن كانوا معلومين في علم الغيب، الذي هو علمه السابق وهو صفة من صفات الله. وذكرنا من قبل أيضاً حكمة هذا الابتلاء في قوله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214]، وقوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]. قوله: ((وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)) هنا حكمة أخرى من حكم الابتلاء بالجهاد، وهي أن يكرم ناساً منكم بالشهادة؛ ليكونوا مثالاً لغيرهم في التضحية بالنفس، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده، وقد أعد لهم أعلى المنازل وأفضلها، وقد اتخذهم لنفسه، فلابد أن ينيلهم درجة الشهادة. والاتخاذ منبئ عن الاصطفاء والتقريب كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]. ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) فيه تنبيه لطيف الوقع على كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخذلوا عن نبيه يوم أحد، فلم يتخذ منهم شهداء لأنه لم يحبهم، فأركسهم وردهم وخذلهم؛ ليحرمهم فضل الشهادة، فالله لا يحب الظالمين، ولذلك خذلهم وثبطهم حتى تخاذلوا وارتدوا عن الجهاد، وحرموا من أن ينالوا الشهادة في سبيل الله. فالتعريض بالمنافقين، ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم تنبيهاً على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم، بل لما ذكر من الفوائد العائدة على المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)

تفسير قوله تعالى: (وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) قال تبارك وتعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141]. ((وليمحص الله الذين آمنوا)) أي: لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ومن آفات النفوس، وأيضاً يمحصهم ويخلصهم من المنافقين الذين يخالطونهم ولا يعرفونهم، فحصل للمؤمنين تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه منهم ولكنه في الحقيقة عدو لهم. ثم ذكر حكمة أخرى وهي محق الكافرين فقال: ((وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)) أي: ويهلكهم، فإنهم إذا كانت لهم الغلبة يبغون في الأرض وينشرون الفساد ويظلمون الناس، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم، إذا أراد الله تعالى أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم، كما جاء في الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى إذا لم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، لابد من السبب وهو العمل. فلذلك إذا أراد الله سبحانه وتعالى شراً بشخص لخبث نفسه وعدائه لدينه، فإنه ييسر له الأسباب ويمهله ويمده في الغي، ويتمادى في ظلم الناس وفي محاربة دين الله عز وجل، ويظن أنه سيحقق إنجازات وانتصارات بأن غلب دين الله وغلب أولياء الله عز وجل وحقق نصراً يتباهى به ويفخر ويتيه به، وهذا المسكين لا يدري أن كل ما يوقعه من البلاء بأولياء الله فسيوقع الله به أضعاف أضعافه في جهنم وبئس المصير، فلذلك يقيض الله لهم من الأسباب كما قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] أي: تدفعهم إلى الشر دفعاً {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]، فإذاً إذا أراد الله به هذا فإنه ييسره للعسرى، كلما أراد ظلماً لا يسد عليه باب الظلم، بل يجعله يتمادى في الظلم ويتمادى في محاربة الله عز وجل؛ حتى يوقعه في سوء عاقبة هذه الأعمال. قوله تعالى: ((وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ))، المحق: هو ذهاب الشيء بالكلية حتى لا يبقى منه شيء، أو لا يرى منه شيء، وقد محق الله الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأصروا على الكفر جميعاً.

تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة)

تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) لقد أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون الجهاد في سبيله والصبر على أذى أعدائه، وأن هذا ممتنع، فقال تعالى: ((أَمْ حَسِبْتُمْ)) (أم) هنا المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي: بل أحسبتم، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، هذا لا يقع أبداً ولا يكون.

تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143]. ((تمنون)) فيه حذف إحدى التاءين، وأصلها (ولقد كنتم تتمنون). (الموت) أي: الحرب ولقاء العدو؛ لأن الحرب من مبادئ الموت ومن أسبابه. أو (تمنون الموت) أي: الشهادة في سبيل الله. ((مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ)) حيث قلتم: (ليت لنا يوماً كيوم بدر؛ فننال ما نال شهداء بدر من الأجر والثواب والشهادة). وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه أنه قال: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف). وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني وصدق أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له)، وهذا حديث صحيح، وهذا الحديث هو المعروف بحديث صلاة التوبة. صلاة التوبة هي أن الإنسان إذا أذنب ذنباً فإنه يتوضأ ويحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله سبحانه وتعالى، فإذا فعل ذلك غفر الله له. قوله تعالى: ((فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)) أي: رأيتم سبب هذا الموت، إما رأيتم سببه باستشهاد إخوانكم أو قتل إخوانكم وإما بالحرب نفسها. ((وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ))، أي: تبصرون الحال لما انهزمتم وقد كنتم تتمنون مثل هذا الموقف؛ لتنالوا مثل ما نال شهداء بدر؟!

تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)

تفسير قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) لما أشيع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل قال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم، فنزل قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]. ((وما محمد)) صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من المواضع التي ذكر فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، وكما نلاحظ أنه لا يأتي اسمه إلا في حالة الخبر عنه بالرسالة: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2]، أو هنا: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ))، لكن لم يناد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه في القرآن قط، إنما نودي بصفته؛ تعظيماً لشأنه صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، وهكذا، بخلاف غيره من إخوانه من الأنبياء فقد نودوا بأسمائهم: يا إبراهيم، يا نوح، يا موسى، يا عيسى، وهكذا، فهنا خبر عنه بصفة الرسالة: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ)) أي: مضت، ((مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ)) أي: أن المقصود ما محمد عليه الصلاة والسلام إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفتؤمنون به في حال حياته، فإن مات انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟! ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ)) أي: كغيره، والمقصود من الآية إثبات أنه لا منافاة بين الرسالة وبين القتل أو الموت؛ لأن هذه سنة الله الماضية في أنبيائه ورسله من قبل، فإنهم لابد أن يفارقوا الدنيا إما بموت وإما بقتل ظلماً، كما وقع من اليهود لعنهم الله حينما قتلوا يحيى عليه السلام وزكريا. ((أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) أي: ارتددتم ورجعتم إلى الكفر. والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري أي: ما كان محمد صلى الله عليه وسلم معبوداً فترجعوا بموته؟! لو أنكم كنتم تعبدونه لحق لكم أن ترجعوا عن عبادته إذا مات، لكن أنتم تعبدون الله تبارك وتعالى. ((وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)) أي: وإنما يضر نفسه. ((وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)). أي: سيجزي الله الذين يثبتون على الإسلام؛ لأن الكلام في حق من ينتكسون أو ينقلبون على أعقابهم ويرتدون، أو: سيجزي الذين يثبتون في القتال، والأول أقرب، والله تعالى أعلم. والله عز وجل سماهم هنا شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام التي هي أجل نعمة وأعز شيء يمن الله به على الإنسان، فهم يشكرون هذه النعمة بالثبات عليها وعدم جحودها أو النكوص على الأعقاب. وهذه الآية تلاها أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتلاها الناس كلهم، وذلك لما أنكر عمر موت النبي عليه الصلاة والسلام، فأعرض عنه أبو بكر وتلا هذه الآية في الناس، يقول عمر: (فكأني ما عرفت هذه الآية قبل يومئذ) أي: كأنه ما سمع هذه الآية من قبل، فنزلت عليه برداً وسلاماً وسكينة. معنى هذه الآية كما يقول القاسمي: أن من كان على يقين من دينه وبصيرة من ربه لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه؛ لأنه يجاهد لربه لا للرسول، كأصحاب الأنبياء السالفين، كما قال أنس بن النضر عم أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف المنافقون وأشاعوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إليه تقاول بعضهم: ليت فلاناً يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقول المنافقين أيضاً: لو كان نبياً ما قتل؛ يقول أنس بن النضر: (يا قوم! إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه). وروى ابن أبي نجيح عن أبيه: (أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان! أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ))). ومن الحكم من غزوة أحد: أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل، بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد أو يخلدوا، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لابد منه.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله)

تفسير قوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145]. ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بقضاء الله تبارك وتعالى. ((كِتَابًا)) أي: كتب ذلك كتاباً. ((مُؤَجَّلًا)) أي: مؤقتاً لا يتقدم ولا يتأخر، فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة؟! فالموت إذا كان مكتوباً لإنسان بسبب معين وبأجل معين فلابد أن يأتي، هذه عقيدة راسخة لا شك فيها على الإطلاق، ولذلك قال الشاعر: أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أو يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر فلذلك نلاحظ في آيات الجهاد عموماً كيف أن الله سبحانه وتعالى يؤكد على هذين الأمرين اللذين هما سبب نكوص كثير من الناس عن الجهاد: خوف انقطاع الرزق، أو خوف حضور الأجل، فبين الله تبارك وتعالى كما في هذه الآيات أن الأجل مكتوب، ولن يتقدم ولن يتأخر. يقول الصديق رضي الله عنه: (احرص على الموت توهب لك الحياة). وقال أبي سليمان خالد بن الوليد رضي لله تعالى عنه حينما مات على فراشه: (ما في جسدي موضع إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء). ((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أي: من يرد بعمله جزاءه من الدنيا ((نُؤْتِهِ مِنْهَا)) هذا تعريض لمن حضر الجهاد طلباً للغنائم فقط، أي: نؤته ما قسم له ولا حظ له في الآخرة. ((وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا)) أي: من ثوابها، ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير)

تفسير قوله تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير) {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. قال تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) أي: وكم من نبي قاتل، وفي قراءة: (قتل معه ربيون كثير) بالبناء للمفعول. ((قتل معه)) أي: لإعلاء كلمة الله وإعلاء دينه. ((ربيون كثير)) أي: جموع كثيرة من الأتقياء والعباد. ((فَمَا وَهَنُوا)) أي: فما جبنوا. ((لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: من الجراح وقتل أنبيائهم وأصحابهم. ((وَمَا ضَعُفُوا)) أي: عن الجهاد. ((وَمَا اسْتَكَانُوا)) أي: وما خضعوا لعدوهم، بل صبروا على قتالهم، ولم يفعلوا كما فعلتم حين قيل: قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} أي: على البلاء، أو على قتال أعدائه. إذاً: هذه الآية فيها بحث طويل عقده العلامة القرآني الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" بين فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتل في حالة الجهاد أبداً؛ وذلك لقوله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74] فهذا يدل على أن الذي يقابل الغلبة هو القتل، والله سبحانه وتعالى ضمن للأنبياء النصر وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، فالرسل لا يمكن أن يقتلوا في جهاد، وإنما يمكن أن يقتلوا بصورة أخرى كما حصل ليحيى أو لزكريا. هذا ما رجحه العلامة القرآني الشنقيطي، فيمكن مراجعة هذا البحث المستفيض في كتابه الرائع "أضواء البيان" في الجزء الأول. في هذه الآية بين تبارك وتعالى محاسن الربيين الفعلية بقتالهم مع الأنبياء وثباتهم في الجهاد.

تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا)

تفسير قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) شرع بعد ذلك في بيان محاسنهم القولية، وهو ما استنصر به الأنبياء وأممهم على قومهم من الاستغفار والاعتراف بالتقصير، ودعاء الله تبارك وتعالى والاستغاثة به، فبعد ما مدح أفعالهم مدح أقوالهم، قال عز وجل: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ)) أي: عند قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم، هذا على التفسير المرجوح بأن الأنبياء يمكن أن يقتلوا في الجهاد، وقد بينا من قبل أن هذا مذهب مرجوح. ((إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا)) الإسراف هو تجاوز الحد إيذاناً؛ بأن ما أصابهم لسوء فعلهم، وهذا اعتراف منهم بأنهم مسيئون، وقد أضافوا الذنوب لأنفسهم. ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا))، أي: بالقوة على الجهاد. ((وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)). فلما اعترفوا بأنهم مسيئون، كان هذا منهم إحساناً، فأعقبها بقوله: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))، فالتوبة والاعتراف بالذنب هو من الإحسان.

أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا)

أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا) يقول الرازي: فيه دقيقة لطيفة: وهي أن هؤلاء لما اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا))، إلى آخر الآية سماهم الله محسنين، كأن الله تعالى يقول: إذا اعترفت بإساءتك وعجزك فأنا أصفك بالإحسان، وأجعلك حبيباً لنفسي، حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد إلى الوصول إلى النصر والتمكين والعزة والرفعة إلا بإظهار الذلة والمسكنة والعجز له سبحانه. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لما علم القوم أن العدو إنما يدال عليهم بذنوبهم، وأن الشيطان إنما يستزلهم ويهزمهم بها، وأنها نوعان: تقصير في حق، أو تجاوز لحد، وعلموا أيضاً أن النصر منوط بالطاعة، حينئذ قالوا: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)) أي: الذنوب التي بسببها تصبح الدولة والغلبة لأعدائنا، كما يقول الشاعر: بذنوبنا دامت بليتنا والله يكشفها إذا تبنا فكل المصائب التي تحل بالمسلمين في كل زمان، اعتاد الناس على أن ينظروا فيها إلى ظلم الحكام، ولا يلتفت كثير من الناس إلى حقيقة أن تسليط هؤلاء الظالمين على المسلمين في كل زمان ومكان إنما هو بسبب ذنوبهم، ودليل ذلك في قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، فالله عز وجل يولي ظالماً على الظالمين، ولولا أن الناس ظالمون لما عوقبوا بهذا السلطان، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن -وذكر هذه الذنوب وعقوبتها ومنها-: إلا ابتلوا بشدة المئونة، وجور السلطان عليهم)، يعني: أن المعاصي تكون عقوبتها أحياناً تسليط الظالمين على الرعية، ولذلك لما عوتب بعض الخلفاء أنه لا يسلك بهم سنن عمر بن الخطاب وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما قال لهم: لو كنتم أنتم مثل الرعية التي حكمها أبو بكر وعمر لكنت أنا مثل أبي بكر أو مثل عمر، لكن ابتليتم بي وابتليت بكم. أو كما قال رحمه الله تعالى. ويشيع على لسان العلماء قولهم: عمالكم أعمالكم، أي: كيفما تكونوا يولى عليكم. وصف الله حال فرعون وقومه قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، فلا ينبغي أن نلتفت فقط إلى ظلم الظلمة وطغيانهم، وإنما ينبغي أن نلتفت إلى أننا سبب في ظلمهم لنا، وسر هذا الالتفات وأهمية هذا التشخيص هو أن نعرف من أين أُتينا، فنبادر إلى العلاج الصحيح، وهو كما فعل هؤلاء الربيون: ((وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا)). ((وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا))، ثم علموا أن ربهم تبارك وتعالى إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا على تثبيت أقدام أنفسهم والنصر على أعدائهم، فسألوه مغفرة ذنوبهم، وتثبيت أقدامهم ونصرهم على عدوهم، فوفوا المقامين حقهما: مقام المقتضي وهو التوحيد والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، ومقام إزالة المانع من النصرة وهو الذنوب والإسراف، وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمحن، سواء كانت المحن في الجهاد أو في غيره، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. إذاً: التحول والتغيير ينبغي أن يبدأ من أنفسنا، كل إنسان يراجع نفسه ويفتش لعل ذنباً يفعله أو معصية يرتكبها، أو إسرافاً أو تجاوزاً للحد، هو السبب في كل المصائب التي تعم المسلمين.

تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة)

تفسير قوله تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148]. ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا)) أعطاهم النصر والغنيمة وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدر بنور الإيمان، وكفارة السيئات، هذا ثواب الدنيا. ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) أي: الجنة، وحسنه هو التفضل فوق الاستحقاق، بأن يعطيك الله سبحانه وتعالى ما تستحقه ويتفضل عليك بما هو أوسع وأعظم منة منه وتكرماً. ونلاحظ هنا أنه سبحانه وتعالى لم يصف ثواب الدنيا بالحسن بل قال: ((فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا))، بينما وصف ثواب الآخرة بالحسن، قال عز وجل: ((وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ)) فهو سبحانه أراد أن يميز ثواب الآخرة بهذا الحسن؛ لأنه هو المعتد به عند الله تبارك وتعالى، أما ثواب الدنيا فغير دائم، بل ينقطع وتشوبه الأكدار والمنغصات. ثم قال: أما ثواب الآخرة فإنه دائم لا ينقطع، ولذلك قال: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).

آل عمران [149 - 167]

تفسير سورة آل عمران [149 - 167]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]. الرد على الأعقاب هو مثل للحور بعد الكور، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو في السفر ويقول: (وأعوذ بك من الحور بعد الكور)، بالراء، وروي بالنون (الكون)، ومعنى ذلك: أن الإنسان في حالة السفر يبتعد عن بيئة إخوانه وأهله الذين يعرفونه، فقد يكون الشيطان أقوى عليه، وسمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن حقيقة الشخص، فتراه يتحول إلى سبع مفترس؛ لأنه ابتعد عن المراقبة. فالإنسان قد يتكلف الأخلاق في دار الإقامة، وقد يتكلف ذلك إذا قابل إخوانه ساعة أو ساعتين، أما في السفر فإنه لابد أن تغلبه شخصيته الحقيقية وتظهر طبيعته، ولذلك لما سأل عمر عن إنسان فقال رجل: (أنا أعرفه، فقال له عمر: هل التصقت به؟ هل تعاملت معه بالمال؟ هل سافرت معه؟) فهذه الأشياء هي التي تكشف الإنسان، ومن أراد أن يشهد على إنسان لابد أن يكون قد خالطه مخالطة دقيقة ومنها السفر. والكور مأخوذ من تكوير العمامة، فالإنسان إذا أراد أن يثبت العمامة على رأسه فإنه يكورها، وإذا أراد أن يفكها فكها، وعملية الفك للعمامة تسمى التحوير، فالحور بعد الكور هذا تعبير أريد به انفراط عقد الإنسان بعد استمساكه، أو زلل قدمه عن طريق الاستقامة بعدما كان مستقيماً، فهذا معنى الحور بعد الكور، أما إذا قلنا: بعد الكون بالنون أي: بعد كونه على الطريق المستقيم يحيد عنه ويرتد على عقبيه. فقوله تعالى: ((يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) هو مثل يضرب في الحور بعد الكور. ((فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) ذكر (خاسرين) لأننا إذا أطعنا أعداء الله عز وجل فسنخسر كل شيء، وأعظم ما نخسره -كما يفهم من سياق الآية- الإسلام؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. (خاسرين) أي: خاسرين للإسلام، خاسرين لمحبة الله عز وجل ورضوانه، خاسرين لثوابه الدنيوي والأخروي. أما ثمرة هذه الآية: فهي الدلالة للمؤمنين ألا ينزلوا على حكم الكافرين، ولا يقبلوا مشورتهم؛ خشية أن يردوهم عن دينهم؛ لأن الله عز وجل الذي يعلم من خلق أخبرنا بخفايا قلوبهم ودواخل أمورهم، وأنهم لن يقصروا في إيقاع الأذى بنا.

تفسير قوله تعالى: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين)

تفسير قوله تعالى: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) يقول تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150]. أي: ناصركم فأطيعوه، فكونوا مع الله عز وجل ولا تلتفتوا إلى أعدائكم وأعداء دينكم. {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} أي: فأطيعوه دون هؤلاء الكافرين، فإنه سبحانه وتعالى ينصركم عليهم بالقتال، وينصركم بدون قتال.

تفسير قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا)

تفسير قوله تعالى: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا) {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران:151]. بين تبارك وتعالى ذلك كيف ينصرهم بدون قتال قال عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} سبق أن قلنا: إن قوة المؤمن في قلبه، وليست في بدنه، فالكافر إذا رأيته يعجبك جسمه لكن قلبه كقلب الفأر المذعور، ولذلك يقول تبارك وتعالى هنا: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وكذلك قال تبارك وتعالى في وصف اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}. ولا شك أنكم قد سمعتم ما حكاه الجنود المسلمون في حرب رمضان مما رأوا من الفزع الذي نزل على اليهود بمجرد أن كانت الصيحة تدوي: الله أكبر! ففزعوا كالفئران وولوا هاربين مذعورين كالجرذان الهاربة، وخط برليف وما أدراك ما خط برليف، كيف دك بهذه الصيحة الإيمانية؟!! فالرعب يقذفه الله تبارك وتعالى في قلب الكافر؛ لأنه على قدر الشرك يكون الرعب في القلب، وعلى قدر الإيمان يكون الثبات؛ لأن الشجاعة والثبات ورباطة الجأش لا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده، وأعلى الموحدين الموقنين في توحيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك خصه الله تبارك وتعالى بخصال، منها ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: أن العدو إذا كان بينه وبين المسلمين مسافة تقطع في شهر، فإن الله سبحانه يلقي في قلبه الرعب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعلينا ألا ننخدع بما نحن عليه الآن من ضعف ومن هوان؛ لأن خاصية رعب الكفار منه عليه الصلاة والسلام هي لأمته من بعده أيضاً، وآية ذلك أنك تجد في هذا الزمان مع شدة ضعف المسلمين أن العالم في حالة رعب وفزع وهلع وخوف من الإسلام ومن المسلمين، ويسلكون كل المسالك ليتخلصوا من هذا الذي يقض مضاجعهم. هناك تصريحات للوزير الفرنسي في حلف الأطلنطي في الأسابيع الماضية يقول فيها: إننا لا نخاف إلا الإسلام، وإننا نرعب من الإسلام، وإن المعركة القادمة ستكون مع الإسلام. ولذلك يتخذون إجراءات وقائية كثيرة حتى يتقوا خطر الإسلام، وهم يمشون إلى حتفهم، فكأن جمع اليهود بهذه الصورة من أجل أن يتحقق وعد الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، كنا ونحن صغار نسمع العجائز يقلن: لو قام لليهود ملك لقامت القيامة، والعلامات والإرهاصات تتكاثر في هذا الزمان بصورة مذهلة، وهي تنبئ أن شيئاً ما سيحصل، والله تعالى أعلم. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، وحتى يقول الحجر والشجر: يا عبد الله! يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله). إذاً: اليهود يقذف الله الرعب في قلوبهم. و (الرعب) بسكون العين وضمها وهو الخوف. لقد عزم المشركون بعد ارتحالهم من أحد على العود واستئصال المسلمين، فألقى الله في قلوبهم الرعب فلم يعودوا لقتال المسلمين كما عزموا. {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}، أي: بسبب إشراكهم ألقينا في قلوبهم الرعب؛ لأنه على قدر الشرك يكون الرعب، والشجاعة والثبات لا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده. {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}، أي: حجة على عباده، وهي الأصنام أو غيرها. {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}، أي: مأوى أو مقر أو مقام (الظالمين) أي: الكافرين.

تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه) قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152]. (ولقد صدقكم) أي: وعدكم الله تبارك وتعالى بالنصر، وقد صدقكم ولم يتخلف وعده تبارك وتعالى، فوعدكم بالنصر في قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120]. ((إِذْ تَحُسُّونَهُمْ)) أي: تقتلونهم، يقال: حسه إذا قتله، أو (إذ تحسونهم) أي: إذ تقتلونهم قتلاً كثيراً. (بإذنه) بإرادته، أو بتيسيره وتوفيقه. ((حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ))، أي: جبنتم عن القتال. ((وَتَنَازَعْتُمْ))، أي: اختلفتم. ((فِي الأَمْرِ)) إما الشأن، وإما الأمر الذي هو ضد النهي، أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمقام في سفح الجبل للرمي. يقول القاضي كنعان هنا: إن موقع الرماة لم يكن في سفح جبل أحد كما هو شائع، بل كان على تلة صغيرة مشرفة على أرض المعركة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر خمسين رجلاً من الرماة بقيادة عبد الله بن جبير رضي الله عنه بأن يثبتوا على تلك التلة؛ ليدفعوا خيل المشركين بالنبل؛ لئلا يأتوا من ورائهم. (حتى إذا فشلتم وتنازعتم) أي: اختلفتم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمقام في سفح الجبل للرمي، فقال بعضكم: نذهب للغنيمة فقد نصر أصحابنا، وقال بعضكم: لا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمر كان واضحاً حتى لو غلب المسلمون فعلى الرماة أن يثبتوا ولا يتحركوا من مواقعهم حتى يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول. ((وَعَصَيْتُمْ))، أي: عصيتم أمره فتركتم المركز؛ لطلب الغنيمة. ((مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، أي: من بعد ما أراكم الله ما تحبون من النصر والغنيمة. ,جواب (إذا) يفهم من سياق الكلام، وتقديره حتى إذا فعلتم ذلك كله منعكم الله نصره. وقوله: ((وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ))، فيه التنبيه على عظم المعصية. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}، فترك الموقع للغنيمة. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}، فثبت به حتى قتل كـ عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأصحابه. {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}، أي: منعكم نصره ثم ردكم للهزيمة عنهم؛ ليظهر المخلص من غيره فهربتم. {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، ولقد عفا عنكم ما ارتكبتموه من هذه المعصية. إذاً: ظاهر الآية أن الله عز وجل عفا عنهم من غير توبة، أي: أن الآية لم تذكر توبتهم، فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر بمشيئته، فهذا دليل على أن أصحاب الكبائر تحت المشيئة، إن شاء عفا عنهم وإن شاء عذبهم وعاقبهم. قوله: (والله ذو فضل على المؤمنين) فيه دليل أيضاً على أن صاحب الكبيرة مؤمن، فإن الذنب المذكور في الآية لاشك أنه كبيرة، ومع ذلك لم تزل عنهم صفة الإيمان، خلافاً للخوارج الذين يكفرون بالمعصية أو بالكبيرة.

تفسير قوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد)

تفسير قوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:153]. {إِذْ تُصْعِدُونَ} أي: اذكروا (إذ تصعدون) أي: تبعدون في الأرض هاربين. وقوله (تصعدون) إما متعلق بقوله: (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم)، وإما بمقدر وهو اذكروا (إذ تصعدون). والإصعاد هو الإبعاد في الأرض والجري فيها فراراً من العدو. وهنا قراءة أخرى: (إذا تَصعدون) من الفعل الثلاثي صعد أي: على الجبل. {وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي: لا تعرجون ولا تعطفون بالوقوف على أحد؛ لأنكم قد حددتم اتجاه الهرب من شدة الدهشة والروعة. {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعوكم من ورائكم يقول: (إلي عباد الله! إلي عباد الله)، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، لم يحاول أحد منكم أن يلتفت إلى الخلف،. (في أخراكم) أي: من ورائكم، أو في جماعتكم الأخرى، وهي جماعة الرماة. {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} أي: جازاكم عقوبة على هذا التولي وهذا الفرار، ولا يستعمل لفظ الثواب في الأغلب إلا في الخير، ويجوز استعماله أيضاً في الشر؛ لأنه مأخوذ من قوله: ثاب إليه عقله أي: رجع إليه، يقول تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:125]، أي: إذا ذهبوا منه رجعوا إليه، والمرأة سميت ثيباً؛ لأن الواطئ عائد إليها، وأصل الثواب هو كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيراً أو شراً، لكن في العرف اختص لفظ الثواب بالخير. فإذا كان الثواب محمولاً على أصل اللغة، فإنه يستعمل في الخير وفي الشر، فيكون الثواب هنا مستعملاً بمعنى الشر. أما إذا حملنا الثواب على مقتضى العرف، بحيث يطلق على الخير، فيكون ذلك وارداً على سبيل التهكم بهم، فقوله: (فأثابكم غماً) كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]، فهو يسمع كلمة: (فبشرهم) فيفرح ثم يصدم بكلمة: (بعذاب أليم) ففيه تهكم بهم، كقول الشاعر: تحيته الضرب وعتابه السيف. فقوله تبارك وتعالى هنا: (فأثابكم غماً بغم) أي: غماً بالهزيمة التي حصلت لهم هذا هو الغم الأول بسبب الهزيمة، أي: على غم آخر متصل بالغم الأول، وهو ما كان من صرخة الشيطان: بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل. وقيل: الباء بمعنى: على (غماً بغم) أي: غماً مضاعفاً على غم فوت الغنيمة. أو الباء تكون باء المقابلة أو العوض، أي: كما أدخلتم على المشركين الغم في يوم بدر، دخل عليكم الغم في يوم أحد، فصرتم متكافئين من هذه الحيثية. {لِكَيْلا تَحْزَنُوا} متعلق بـ (عفا) في الآية السابقة في قوله تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)) أو متعلق بأثابكم. (ولا ما أصابكم) أي من القتل والهزيمة {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا)

تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً) {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]. (أمنة) أي: أمناً. بعد نزول المسيح عليه السلام يقول عليه الصلاة والسلام: (وتقع الأمنة على الأرض) أي: الأمن (حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم). وهناك آية أخرى في القرآن استعملت فيها كلمة: (أمنة) في سورة الأنفال: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11]. فـ (نعاساً) بدل من أمنة، أي: نوماً، {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}، (يغشى) أو (تغشى) بالياء والتاء. (طائفة منكم) وهم المؤمنون، فكانوا يميلون تحت الحجف، وهي: التروس من الجلد، وتسقط السيوف منهم، فهذه من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين أنه أنزل عليهم من بعد هذا الغم الذي وقع بهم (أمنة نعاساً). روى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: (غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه). ويقول أبو طلحة: (رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس، فذلك قوله تعالى: ((ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا))). وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد: منها: أن المشركين كانوا في غاية الحرص على قتل الصحابة في ذلك الموقف ثأراً ليوم بدر، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم، ولا شك أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يحفظهم ويعصمهم من القتل، وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تبارك وتعالى. ثم أخبر عز وجل أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نجاة وسلامة نفسه، لا هم الدين ولا النبي ولا الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولذلك قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: ما بهم إلا هم أنفسهم وقصد خلاصها، فهؤلاء لم ينعموا بهذا النعاس، بل بقوا في القلق والجزع والفزع والخوف. {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه وتعالى {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}. يقول السيوطي: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي: حملتهم على الهم، فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلم يناموا، وهم المنافقون. {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} يظنون بالله ظناً غير الظن الحق. {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} أي: كظن الجاهلية، حيث اعتقدوا أن النبي قتل أو لا ينصر. في الحقيقة هنا بحث طويل جداً للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى يشرح فيه ما المقصود بظن الجاهلية، ونحن نحاول اختصاره بقدر المستطاع، يقول رحمه الله تعالى: وهكذا اعتقد هؤلاء أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفاصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة، وإذا وقع بلاء بالمسلمين ظنوا أن المسلمين سيستأصلون، وأنه لن تقوم لهم راية. فهذا ظن الجاهلية، فلنحذر هذا الظن في هذا الزمان الذي صار فيه الدين غريباً، والله سبحانه وتعالى وحده المستعان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحبط كيد أعداء هذا الدين، وهناك حرب لا تقوى الكلمات على وصفها مثل: العلمنة بالإكراه، وكذلك ما نشر في بعض الجرائد أن هناك تعميمات بتطهير المكتبات المدرسية من الكتب الدينية، خاصة كتب العقيدة والحديث، لم يصبح الأمر تطرفاً ولا إرهاباً، فقد نسوا هذه الكلمات وما عادوا بحاجة إلى استعمالها، فاليوم يعلن عن إعدام اثني عشر مليون كتاب إسلامي جمعت من المكتبات الإسلامية في المدارس، وهذه الكتب هي تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير، وكتب ابن تيمية وكتب ابن القيم وعامة علماء المسلمين، حتى كتب عبد الحليم محمود والشيخ كشك وغيرهم من المعاصرين. وتقول التقارير: إنه يجري تتبع أي كتاب فيه شائبة دينية، على حسب زعمهم، فهل يظن هؤلاء أن الأمر سيظل بهذه الصورة؟ ألا نخشى أن يقع بنا ما وقع بشعب الصومال حينما قام الملحد المرتد سياد بري وأنكر آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، فثار العلماء رحمهم الله تعالى في وجهه، فأحرق العلماء وهم أحياء في المدينة العامة وقتلهم، فما تحركت شعرة إلا ما شاء الله، وسكت الناس على هذا، ومرت السنون وابتلاهم الله سبحانه وتعالى بالأمراض، وابتلاهم بالمجاعات، وابتلاهم بالاحتلال الخارجي، وابتلاهم بالحروب الداخلية والقلاقل، فحرب الله عز وجل شؤم، فإحراق اثني عشر مليون كتاب إسلامي وإعدامها واستبدالها بكتب المواجهة والتنوير أمر ليس بالهين.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155]. {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} أي: تولوا عن القتال. (يوم التقى الجمعان) جمع المسلمين وجمع الكفار بأُحُد، وهم المسلمون إلا اثني عشر رجلاً. {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ}، يعني: أزلهم بوسوسته {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} من الذنوب، وهو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم. {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} للمؤمنين، {حَلِيمٌ} أي: لا يعجل على العصاة بل يصبر ويمهل. ولا شك أن الحليم من أعظم أسماء الله الحسنى. (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، فالله يحلم ويصبر على الأذى، يشتمه بنو آدم وينسبون إليه الولد، ويصدون عن سبيله ويحاربون أولياءه، ومع ذلك هو حليم بهم، حتى إنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. فاشترط في تعذيبهم ألا يتوبوا، بحيث لو تابوا مع ما فعلوه من الجرم الشنيع، لتاب عليهم تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا}، أي: لا تفعلوا كفعلهم، ولا تقولوا كقولهم. {وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ}، أي: المنافقين قالوا في شأنهم. {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ}، أي: سافروا فماتوا أو قتلوا. {أَوْ كَانُوا غُزًّى} جمع غاز، فقتلوا. {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} لو جلسوا معنا في المدينة وما خرجوا للجهاد ولا سافروا للجهاد لما ماتوا وما قتلوا. {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ}، أي: ذلك القول الذي قالوه في العاقبة. {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ}، هذا الكلام الذي قالوه وتفوهوا به وهو قولهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}، سيتحسرون عليه في العاقبة، وسيعاقبون عليه. {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ}، أي: لا يمنع عن الموت قعود. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ}، أو (يعملون) {بَصِيرٌ} [آل عمران:156]، فيجازيكم به.

تفسير قوله تعالى: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم)

تفسير قوله تعالى: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم) {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157]. {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، هذه لام القسم، (في سبيل الله) أي: في الجهاد. {أَوْ مُتُّمْ} بضم الميم وكسرها، أي: أصابكم الموت فيه. {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} أي: مغفرة كائنة من الله لذنوبكم، ورحمة منه لكم على ذلك، هذا هو جواب القسم، وتقدير الكلام: لئن قتلتم ليغفرن الله لكم ويرحمكم. {خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي: مما يجمعون من الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم)

تفسير قوله تعالى: (ولئن متم أو قتلتم) {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:158]. {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} أي: في الجهاد وغيره. {لَإِلَى اللَّهِ} أي: لإلى الله لا إلى غيره. {تُحْشَرُونَ} أي: في الآخرة فيجازيكم.

تفسير قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم)

تفسير قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم) {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، أي: يا محمد سهلت أخلاقك مع أنهم خالفوك وعصوا أمرك. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أي: سيئ الخلق. {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: جافياً فأغلظت لهم. {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} أي: تفرقوا. {فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي: تجاوز عنهم ما أتوه. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: ذنبهم حتى أغفر لهم. {وَشَاوِرْهُمْ} أي: استخرج آراءهم. {فِي الأَمْرِ} أي: في شأنك، سواء في الحرب أو غيرها تطييباً لقلوبهم، وكي يستن بك المسلمون ويقتدوا بك في الشورى. وكان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة لهم، ولولا ضيق الوقت لذكرنا أمثلة كثيرة من الشورى وفوائدها. {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي: على إمضاء ما تريد بعد المشاورة. {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: ثق به بعد المشاورة.

تفسير قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم)

تفسير قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]. قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} أي: يعينكم على عدوكم كيوم بدر. {فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} أي: يترك نصركم كما حصل يوم أحد. {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}، أي: بعد خذلانه لا ناصر لكم. {وَعَلَى اللَّهِ} لا على غيره. {فَلْيَتَوَكَّلِ}، أي: المؤمنون.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل)

تفسير قوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل) {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:161]. لما فقدت قطيفة حمراء يوم بدر قال بعض الناس: لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت الآية مبينة عصمته صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: ما ينبغي لنبي أن يخون في الغنيمة، فلا تظنوا به ذلك. {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: حاملاً له على عنقه كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ}، الغال وغيره، جزاء {مَا كَسَبَتْ} أي: ما عملت. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي: شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله)

تفسير قوله تعالى: (أفمن اتبع رضوان الله) {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [آل عمران:162]. ثم قال عز وجل: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ الله} فأطاع ولم يغل. {كَمَنْ بَاءَ} أي: رجع. {بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} لمعصيته وغلوله. {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: المرجع.

تفسير قوله تعالى: (هم درجات عند الله)

تفسير قوله تعالى: (هم درجات عند الله) {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163]. {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} أي: أصحاب درجات. ((عِنْدَ اللَّهِ)) أي: مختلفو المنازل، فلمن اتبع رضوانه الثواب، ولمن باء بسخطه العقاب، ودرجات الجنة تذهب علواً، ودركات النار تذهب سفلاً. {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم به.

تفسير قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا)

تفسير قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً) {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: عربياً مثلهم؛ ليفهموا عنه، وليشرفوا به؛ لأن الأمم السابقة من اليهود أو النصارى كانوا يفخرون على العرب؛ لأنهم أهل علم وأهل كتاب، فقد بعث فيهم عيسى وموسى وغيرهم من الأنبياء. هل العرب كان لهم شرف يشرفون به؟ قد يقال: كانوا يشرفون بالانتساب إلى إبراهيم عليه السلام. نقول: لكن هذا الانتساب يشترك معهم فيه اليهود والنصارى، وإنما شرفوا ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أي: آيات القرآن. {وَيُزَكِّيهِمْ} أي: يطهرهم من الذنوب. ((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)) أي: القرآن. ((وَالْحِكْمَةَ)) أي: السنة، القاعدة التي ذكرناها من قبل باتفاق السلف: أن الحكمة إذا اقترنت بالقرآن في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية فهي السنة. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} أي: وإنهم كانوا من قبل بعثه. {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: بين.

تفسير قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها)

تفسير قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]. يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} بأحد حين قتل سبعون منكم. {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} ببدر، حيث قتلتم سبعين من المشركين وأسرتم سبعين. {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} أي: تعجبتم وقلتم: من أين لنا هذا الخذلان، ونحن مسلمون، ورسول الله فينا؟! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}، قل لهم: هو من عند أنفسكم؛ لأنكم تركتم المكان فخذلتم. نعيد التذكير بهذا المعنى الخطير جداً فنقول: ما نحن فيه اليوم فهو من عند أنفسنا، فالعلاج الحقيقي لمن كان صادقاً أن يسعى إلى التغيير إلى الأحسن في واقع نفسه وفي واقع المسلمين، وأن يفتش كل واحد في نفسه، ينظر ما هي المخالفات التي يرتكبها؟ لأن ما نحن فيه هو عقوبة من الله، وإذا كان في شأن الصحابة قال الله لهم: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))، فماذا نقول نحن الآن؟ أغلب بيوت المسلمين فيها (التلفاز) و (الفيديو)، وعلى الأصح بدأ ينتشر (الدش). هؤلاء يهوديات ونصرانيات يملأن الشوارع ويرتدين البنطلونات الضيقة، وهذا الفساد الذي انتشر هل الحكومة هي التي تطلع الناس على كل مظاهر الفساد؟ أم أن القسط الأعظم من الفساد هو من عند أنفسنا؟ نتفاعل مع هذا الفساد ونهرع إليه، وهناك قسط كبير جداً من المعاصي نقع فيها طوعاً واختياراً ولا يجبرنا عليها أحد، وإذا غلب الشر وظهر الفساد في الأرض أوشك أن يعمنا الله بعذاب من عنده، نسأل الله العافية!. فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قد قال لهم الله سبحانه وتعالى: ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ))، مع أن الرسول كان فيهم، ومع أنهم خير أمة أخرجت للناس، فكيف بنا؟ هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم من الأيام كلف بعض جنوده أو عماله بأمر، فقال لهم: (هل عملتم ما أمرتم به؟ فقالوا: نعم، قال: أما إنكم لو لم تعملوا بما أمرتم لتركبن أعناقكم اليهود والنصارى عقوبة). {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] أي: ومن هذا الشيء النصر، وقد جازاكم بخلافه؛ بسبب مخالفتكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء خلف المسلمين لحماية ظهورهم.

تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان)

تفسير قوله تعالى: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان) {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:166]. يقول تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي: بأحد. {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بإرادته. {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.

تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا)

تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين نافقوا) {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:167]. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ} أي: والذين قيل لهم لما انصرفوا عن القتال وهم عبد الله بن أبي وأصحابه. {تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أعداء الله. ((أَوِ ادْفَعُوا)) أي: ادفعوا عنا القوم بتكثير سوادكم إن لم تقاتلوا، أو المعنى: حتى لو لم تشتركوا معنا في القتال تديناً فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأموالكم. {قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} لو نحسن قتالاً لاتبعناكم، لكن الأمر في نظرنا ليس إلا إلقاء بالأيدي إلى التهلكة، ونحن لا نريد أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة، قال تعالى تكذيباً لهم: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} أي: بما أظهروا من خذلانهم للمؤمنين وكانوا قبل ذلك أقرب للإيمان من حيث الظاهر. {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ولو علموا قتالاً لم يتبعوكم. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي: من النفاق.

آل عمران [169 - 185]

تفسير سورة آل عمران [169 - 185]

تفسير قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا)

تفسير قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً) يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169]. إذا رجعنا إلى سياق الآيات السابقة يقول عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:167]، إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]. فنلاحظ أن الله تبارك وتعالى بين في هذه الآيات أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر، كما ذكر أيضاً عن المنافقين في سورة النساء أنهم إذا غنم المسلمون وظفروا قال أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء:73]، هذا في حالة الغنيمة، أما إذا وقع البلاء وسقط الشهداء فيقول: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] أي: حاضراً، ليس الشهيد المذكور هنا في الآية هو الذي يقتل في سبيل الله، بل المقصود بالشهيد: هو الذي حضر المعركة، والمنافق يحمد الله أنه لم يكن حاضراً ساعة الجهاد والقتال. فلذلك هنا يبين الله تبارك وتعالى لهم أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر، بل إن كان في سبيل الله فهو من أجلَّ المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون. إن الحذر من القتل لا يجدي ولا يغني كما قال عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي: لا تحسبنهم أمواتاً تعطلت أرواحهم.

حياة الشهداء في الجنة

حياة الشهداء في الجنة {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} ليس المقصود هنا نفي حياة البدن؛ لأن البدن افتقد الحياة بالفعل، لكن المقصود هنا حياة الأرواح. يقول تعالى: ((بَلْ أَحْيَاءٌ)) أي: بل هم أحياء، فوق أحياء الدنيا؛ لأنهم مقربون من الله تبارك وتعالى. ((عند ربهم يرزقون))؛ لأنهم بذلوا له أرواحهم، فهم أحياء يرزقون، لا رزقاً معنوياً بل رزقاً حقيقياً كما روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ))). وأخرج مسلم عن مسروق قال: (سألنا عبد الله عن هذه الآية: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا))، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة خضراء، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية)، وهذا رواه الإمام أحمد، ورواه ابن جرير عن أبي كريب. قال ابن كثير: وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة. ومنهم من يكون على هذا النهر باب الجنة. وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله تعالى أعلم. ثم قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح فيها أيضاً، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم. حديث عزيز عظيم، أي: خاصية تكاد تكون غير موجودة في غيره من الأحاديث، وهي أن ذلك الحديث اجتمع في روايته ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إلى جسده يوم يبعثه). قوله: (يعلق) أي: يأكل، وفي هذا الحديث (أن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة)، وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان. يقول الواحدي: الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (من أن أرواحهم في أجواف طير خضر، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون).

علاقة الروح بالبدن

علاقة الروح بالبدن وقال البيضاوي: الآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس الذي نحسه ونراه، بل هو جوهر مدرك بذاته، لا يفنى بخراب البدن. أي: أن هذه الآية تدل أن في الإنسان غير هذا الهيكل الجسماني، وإنما له جوهر مدرك بذاته لا يفنى، عنده إحساس وإدراك؛ لأن الأرواح تتنعم وتستلذ، فلا يفنى الإنسان بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، وهذا واضح جداً في حالة النوم، فإذا كان الإنسان نائماً فإنه تطرأ عليه كل المشاعر الإنسانية من اللذة والفرح والغم والهم والسرور والبكاء، وغير ذلك من الأحاسيس التي يجدها الإنسان بروحه عند نومه، فالذي يتنعم أو ينقبض في المنام هو الروح، والبدن ساكن، فهكذا أيضاً بالنسبة للأموات. ومما يؤيد ذلك قول الله تبارك وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، وكذلك حديث: (أرواح الشهداء في جوف طير خضر). يقول الشهاب: ليس الإنسان مجرد البدن بدون النفس المجردة، بل هو في الحقيقة النفس المجردة، وإطلاقه على البدن لشدة التعلق به، وهو جوهر مدرك بذاته من غير احتياج إلى هذا البدن، فالبدن يحتاج للروح، لكن الروح في إدراكها وإحساسها لا تحتاج إلى البدن؛ لوصف هذا الإنسان أو الروح بعد مفارقة الجسد بالنعيم والسرور وغير ذلك. وقال أبو السعود: وفي الآية دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف، لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه. في الحقيقة هناك معنى مهم يتعلق بهذه الآية، سبق أن ناقشناه بالتفصيل في سورة البقرة عند قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، فهذه الآية تثبت حياة للأرواح بعد الممات. لكن تنفي أيضاً إدراكنا لكيفية هذه الحياة؛ لأنه قال: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، فنحن لا نستطيع أن ندرك كنه وكيفية هذه الحياة.

تفسير قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله

تفسير قوله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:170]. قوله: ((فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) أي: بما أعطاهم من الثواب والكرامة والإحسان. ((وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ)) أي: بإخوانهم المجاهدين الذين. ((لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ)) أي: لم يقتلوا فيلحقوا بهم حتى الآن. ((مِنْ خَلْفِهِمْ)) أي: بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم، أو لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم. ((وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) معنى الآية: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به، وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم لمن خلفهم حث للباقين من بعدهم على الجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء.

تفسير قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل)

تفسير قوله تعالى: (يستبشرون بنعمة من الله وفضل) يقول تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:171]. أي: يسرون بما أنعم الله عليهم من زيادة الكرامة وتوفير أجرهم عليهم، فكرر الاستبشار المذكور في الآية السابقة. فالبشارة الأولى تتعلق بنفي الخوف والحزن، {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:170]، أما هنا فالبشارة بشيء زائد على ذلك ((يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)) وهو ما يقارن عدم الخوف وعدم الحزن من نعمة عظيمة لا يقدر قدرها وهي ثواب أعمالهم. ((وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: الشهداء، والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان وكونه مناطاً لما نالوه من السعادة. ذكر القاسمي رحمه الله تعالى كلاماً طيباً جداً عن ابن القيم رحمه الله تعالى في فضيلة الشهداء: يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولما انقضت الحرب انكفأ المشركون في غزوة أحد، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لإحراز الذراري والأموال، فشق ذلك عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم، ثم لأناجزنهم فيها، قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؟ قال: فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة، ولما عزموا على الرجوع إلى مكة أشرف أبو سفيان على المسلمين ولم يكن قد أسلم، ثم ناداهم: موعدكم الموسم ببدر)، يعني: واعدهم العام القابل أن يلتقوا من جديد في بدر حتى يمحو المشركون المعرة التي لحقتهم في بدر، فأرادوا أن يوافوهم العام القابل في نفس المكان كي يثأروا من غزوة بدر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: نعم قد فعلنا)، يعني: نحن مستعدون لمواجهتكم في بدر، قال أبو سفيان: فذلكم الموعد. ثم انصرف هو وأصحابه، فلما كان في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئاً، أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: (لا يخرج معنا إلا من شهد القتال، فقال له عبد الله بن أبي: أركب معك؟ قال: لا). فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف، فأنزل الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172]. واستأذنه جابر بن عبد الله وقال: (يا رسول الله! إني أحب ألا تشهد مشهداً إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته، فأذن لي أسير معك فأذن له، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد، وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، فأمره أن يلحق بـ أبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال: ما وراءك يا معبد؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، إذ فاضوا عليكم ومستعدون لهزيمتكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة. فقال أبو سفيان: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك). قال البخاري: عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (((الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)) الآية، قالت عائشة لـ عروة: كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر رضي الله تعالى عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يذهب في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير).

تفسير قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)

تفسير قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) في بعض كتب السيرة: أن المشركين أرسلوا رسولاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حمراء الأسد، فأخبروه بأنهم قد جمعوا المسير إليه وإلى أصحابه؛ ليستأصلوا بقيتهم، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، هذا الرسول بلغ الرسالة، فقال الصحابة رضي الله عنهم: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فأنزل الله تعالى في ذلك: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ)) أي: الركب الذين استقبلوهم. ((إِنَّ النَّاسَ)) أي: أبا سفيان وأصحابه. ((قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)) أي: الجموع؛ ليستأصلوكم. ((فَاخْشَوْهُمْ)) فلا تأتوهم. ((فَزَادَهُمْ)) ذلك القول. ((إِيمَانًا)) أي: تصديقاً بالله ويقيناً، يعني: لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا، بل ثبت به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه، وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص ((فَزَادَهُمْ إِيمَانًا)). ((وَقَالُوا حَسْبُنَا الله)) أي: كافينا أمرهم. ((وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، أي: نعم الموكول إليه، والمفوض إليه الأمر هو الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل)

تفسير قوله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174]. ((فَانْقَلَبُوا)) أي: رجعوا من حمراء الأسد. ((بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)) أي: رجعوا بالعافية وكمال الشجاعة وزيادة الإيمان والتصلب في الدين. ((لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)) أي: لم يصبهم قتل ولا جراح، مع أنهم كانوا مستعدين للجهاد. ((وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)) بطاعته وطاعة رسوله بخروجهم. ((وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)) وفيه تحذير للمتخلف، وتخطئة رأيه، حيث حرم نفسه مما رجعوا به. وفي قوله تعالى: ((وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة، وهي الكلمة التي قالها المؤمنون هنا كما في هذه الآية حينما قيل لهم: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ))، وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار. وهذا هو الراجح في هذه الآية أن تحمل على غزوة حمراء الأسد، وهي التي تسمى: غزوة بدر الصغرى، أو غزوة بدر الثانية. روى ابن جرير: أنه لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش، فيقولون: قد جمعوا لكم، يريدون أن يكيدوهم بذلك ويرعبوهم، فيقول لهم المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى قدموا بدراً فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد، وتخلف المشركون ولم يحضروا الموعد المتفق عليه. ((فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ))، النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه. يقول ابن كثير: والصحيح أن الآية نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا) وما بعدها من الآيات

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا) وما بعدها من الآيات يقول السيوطي رحمه الله تعالى في هذه الآيات: ونزل في الشهداء -يعني: شهداء أحد قالوا: (من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم). ثم قال تعالى: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا))، بالتخفيف والتشديد. أي: قُتِلوا أو قتِّلوا. ((فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، أي: لأجل دينه. ((أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ))، يعني: بل هم أحياء حياة لا يدرك أهل الدنيا حقيقتها، كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]. ((بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت)، كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره. ((يُرْزَقُونَ)) أي: يأكلون من ثمار الجنة. ((فَرِحِينَ)) حال من ضمير يرزقون. ((بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ)) أي: يفرحون. ((بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ))، أي: من إخوانهم المؤمنين، ويبدل من الذين: ((أَلَّا خَوْفٌ)) أي: بأن لا (خوف عليهم) أي: الذين لم يلحقوا بهم (ولا هم يحزنون) أي: في الآخرة. المعنى: يفرحون بأمنهم وفرحهم. ((يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ)) أي: ثواب. ((مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ))، زيادة عليه. ((وَأَنَّ))، بالفتح عطفاً على نعمة، وبالكسر استئنافاً يعني: أنها قراءة أخرى (وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين) أي: بل يأجرهم. ((الَّذِينَ))، هذا مبتدأ. {اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي: استجابوا دعاءه بالخروج للقتال لما أراد أبو سفيان وأصحابه العود تواعدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سوق بدر العام المقبل من يوم أحد. يقول القاضي كنعان: ما ذكره الجلال السيوطي هو قول مجاهد وعكرمة. وقال القرطبي: وقد شذا في قولهما هذا. وذلك أن جمهور المفسرين على أن هذه الواقعة هي غزوة حمراء الأسد، فهي بعد أحد مباشرة. يقول: وقال ابن إسحاق والواقدي: إنها نزلت ثناء على المسلمين الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معركة أحد، ثم خرجوا معه في اليوم التالي ليوم أحد، خرجوا معه فساروا ثمانية أميال من المدينة وكانوا ستمائة وثلاثين رجلاً، ووصلوا إلى موضع يقال له: حمراء الأسد، فأقاموا به بضعة أيام، ثم رجعوا إلى المدينة من غير أن يلقوا عدوهم، فعرفت هذه بغزوة حمراء الأسد، وكانت جبراً لخللهم يوم أحد عندما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتفرقوا عنه. قال القرطبي: وتفسير الجمهور لهذه الآية أنهم سبعون رجلاً انتدبهم النبي صلى الله عليه وسلم ليذهبوا في أثر كفار مكة مخافة أن يرجعوا. فلذلك كان قول السيوطي مرجوحاً كما ذكرنا، إنما المقصود هنا غزوة حمراء الأسد؛ وذلك لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}، أي: في أحد، وخبر المبتدأ (للذين أحسنوا منهم) يعني: بطاعته (واتقوا) أي: مخالفته. (أجر عظيم) وهو الجنة. (الذين) هذه بدل من (الذين) قبله أو نعت. (قال لهم الناس) أي: نعيم بن مسعود الأشجعي، وقد أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين وهم يستعدون للقاء المشركين في موسم بدر. ((إِنَّ النَّاسَ)) أبا سفيان وأصحابه المشركين. ((قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)) الجموع ليستأصلوكم إن خرجتم للقائهم في موسم بدر. ((فَاخْشَوْهُمْ)) ولا تأتوهم. ((فَزَادَهُمْ)) أي: ذلك القول. ((إِيمَانًا)) تصديقاً بالله ويقيناً. ((وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ))، أي: هو كافينا أمرهم. إن كثيراً من الناس يقولون كلمة: (حسبنا الله) ولا يستحضرون معناها. حسبي الله معناها: الله يكفيني هذا الشر أو هذا الضر أو هذا الأذى، أو يكفيني الرزق أو غير ذلك من الأمور. ((وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) أي: نعم من يفوض إليه الأمر هو الله تبارك وتعالى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ))، قال جماعة من العلماء: المراد بالناس القائلين: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ))، نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع. ويدل لهذا التفسير الإشارة المفردة في قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175]. قال صاحب الإتقان: قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد بكلمة الناس قوله: ((إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ))، فوقعت الإشارة بقول: (ذلكم) إلى شخص واحد بعينه، ولو كان المعنى جمعاً لقال: (إنما أولئكم) فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ على أن المقصود شخص واحد. يقول: ((فَانْقَلَبُوا)) أي: رجعوا من بدر ((بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ)) بسلامة وربح. ((لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)) أي: من قتل أو جرح. ((وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ)) أي: بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في الخروج. ((وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ))، أي: على أهل طاعته.

تفسير قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)

تفسير قوله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]. قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175]. (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ) أي: إنما ذلك قول الشيطان. (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءه الكفار، وحينئذ فـ (أولياءه) تكون مفعولاً ثانياً للفعل (يخوف)، والمفعول الأول محذوف، تقديره: يخوفكم أولياءه، كما قرئ كذلك. {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. يقول السيوطي: (إنما ذلكم) أي: القائل لكم: إن الناس إلى آخره، (الشيطان يخوف) أي: يخوفكم (أولياءه) أي: الكفار. إذاً هنا المفعول الأول يكون محذوفاً وهو الضمير. ((فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ))، في ترك أمري وعصيان رسولي. ((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) حقاً، فلا تأبهوا بهذا التخويف.

تفسير قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)

تفسير قوله تعالى: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:176]. قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}، أي: لا تهتم ولا تبال بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومضرة أهله، وقرئت في السبع: (ولا يحزِنك). {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا}، أي: لأنهم لن يضروا الله شيئاً. قوله: (لن يضروا الله) أي: لن يضروا أولياء الله. قال عطاء: يريد أولياء الله، نقله الرازي. قال أبو السعود: تعليل للنهي وتكميل للتسلية بتحقيق نفي ضررهم أبداً، أي: لن يضروا بذلك أولياء الله ألبتة، وتعليق نفي الضرر به تعالى لتشريفهم، هذا معنى رائع جداً في الحقيقة، {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} أي: لن يضروا أولياء الله. لماذا عبر الله تبارك وتعالى عن أوليائه بذاته المقدسة سبحانه وتعالى، (إنهم لن يضروا الله شيئا)؟ كما قلنا: إن تعليق نفي الضرر به تعالى لتشريف أولياء الله المؤمنين، والإيذان بأن مضرتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى، فإن من يؤذي أولياء الله كأنه يؤذي الله عز وجل، وجاء هذا صريحاً في الحديث القدسي المشهور: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ففي هذا مزيد مبالغة في التسلية يعني: لن يضروا أولياء الله شيئاً، والله عبر عن أذية أوليائه بأذيته هو تبارك وتعالى. قال المهايمي: أي: لن يضروا أولياء الله؛ لأنه الله يحميهم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فلو أضروهم لأضروا الله بتعجيزهم إياه عن حمايتهم، ولا يمكنهم أن يعجزوه شيئاً، بل {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} أي: أنه يريد أن يضرهم الضرر الكلي الذي ليس بعده ضرر، ويريد الله أن يمكر بهم كي يوقع بهم الضرر الذي لا ضرر أعظم منه، وهذا الضرر هو أنه يريد ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في النار. قال بعض المفسرين: ثمرة هذه الآية أنه لا يجب الاغتمام من معصية العاصين. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يحزنك) بضم الياء وكسر الزاي، وبفتحها وضم الزاي من حزنه وهي لغة في أحزنه. ((الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)) أي: يقعون فيه سريعاً بنصرته، وهم أهل مكة أو المنافقون، أي: لا تهتم بكفرهم. {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} بفعلهم، وإنما يضرون أنفسهم. ((يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا)) أي: نصيباً ((فِي الآخِرَةِ)) أي: الجنة، فلذلك خذلهم الله. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: في النار.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان) {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:177] قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} أي: أخذوه بدله. الإيمان: إما أنه الميثاق الذي أخذ عليهم في الأزل، أو الإيمان الفطري الذي فطروا عليه من التوحيد، فكأنهم أخذوا الكفر بدل الإيمان. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} بكفرهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: مؤلم.

تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم) قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) الإملاء والاستدراج من الله سبحانه وتعالى لأعدائه المحاربين دينه وأوليائه. وقوله: ((أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ)) أي: بتطويل أعمارهم وإمهالهم وتأخيرهم دهراً طويلاً، حيث يدعهم الله سبحانه وتعالى يتقلبون في البلاد ويغترون بما هم عليه. فلا يحسبن هؤلاء أن هذا الإملاء خير لهم، بل هو في الحقيقة سبب مزيد عذابهم؛ لأنهم إذا طال عمرهم في الكفر والمعاصي والصد عن سبيل الله، فمعنى ذلك أن الزيادة في العمر شؤم عليهم يقول عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) هذا هو منطوق الحديث، أما مفهومه: (شركم من طال عمره وساء عمله)؛ لأن من طال عمره في الشر زادت سيئاته، أما من مات قبل أن يطول عمره، وعنده معاص وظلم للناس فإنه ستقل سيئاته، فلذلك يقول الله تعالى هنا: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ))، بل هو سبب مزيد عذابهم؛ لأنه ((إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا))، بكثرة المعاصي فيزادوا عذاباً. ((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) أي: لهم في الآخرة عذاب ذو إهانة، في أسفل دركات النار. قوله: ((أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ))، في (ما) وجهان: أن تكون مصدرية أو موصولة. إذا قلنا إنها موصولة فقد حذف عائدها، أي: إملاؤنا لهم، أو الذي نمليه لهم، وإذا قلنا: إنها موصولة فحق كلمة (ما) أن تكون غير متصلة بـ (أن) وعندما تكون (ما) مصدرية فتوصل بـ (إن). ولكنها وقعت في مصحف الإمام متصلة، مصحف الإمام هو مصحف عثمان رضي الله عنه، فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف، وما الثانية (إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) هذه متصلة فهي تسمى: ما الكافة؛ لأنها تمنع عمل إن، وأنا أذكر بيتين من الشعر ذكرهما أحد العلماء في شأن شخص أراد وظيفة، وكان من أراد أن ينال الوظيفة لابد أن يبذل رشوة أو هدية، فقال لهم هذا الرجل: ما أعطي، أو: ما أدفع الرشوة، فعزلوه وقالوا له: ما تستحق العمل، فكفوه عن العمل؛ فلذلك نظم أحد العلماء بيتين فقال مخاطباً هذا الرجل الشريف أو الأمين: عزلوك لما قلت ما أعطي وولوا من بذل أوما علمت بأن ما حرف يكف عن العمل ((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ))، في قوله تعالى: (مهين) معنى لطيف، وهو أنه لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها، كانت العاقبة هي النقيض، وذلك بالإهانة. وذلك أن الله سبحانه وتعالى عندما يملي للإنسان فإنه سبحانه وتعالى يعطيه المال والصحة والعافية، ثم تراه يغتر وقد يشتم الله سبحانه وتعالى ويفعل أقبح أفعال الكفر، ومع ذلك يمد له ويملي له حتى يكون نصيبه من العذاب أشد واستحقاقه له أكبر، ومثل هذا الشخص المتجبر المتكبر المغرور أخبر الله سبحانه وتعالى بأنه سيعامله بنقيض قصده، فتكون عاقبته في الدنيا المهانة. قوله: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) إذا لاحظنا هذا المعنى، فإنها معاملة له بنقيض قصده؛ لتعززه وتجبره، فهو يريد العزة لنفسه، فعاقبه الله في الآخرة بالعذاب المهين، فوصف عذاب مثل هذا الشخص بالإهانة؛ ليكون جزاؤه جزاءً وفاقاً. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في هذه الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]: ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم وشدة العذاب، وبين في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] البأساء: الفقر والفاقة، والضراء: هي المرض، {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف:95]، لما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى لم يتضرعوا، ولم يتوبوا، ولم يرجعوا إلى الله، فماذا يفعل بهم؟ يمد لهم ويملي لهم إملاء، ويستدرجهم استدراجاً، يقول تبارك وتعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} [الأعراف:95]، أي: كثر فيهم الخير والرزق والبركة {وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95]، أما نحن ففي مأمن {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. وكقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:42 - 43]، إلى قوله تعالى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]. بين سبحانه في موضع آخر أن ذلك الاستدراج من كيده المتين وهو قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183]. وبين في موضع آخر أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج، فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيراً من ذلك الذي أوتوه في الدنيا، كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون:55] * {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56]، وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]، وقوله عز وجل: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، ما دام أكرمني في الدنيا لابد أن يكرمني في الآخرة، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وقوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، ونظائر ذلك من القرآن الكريم.

تفسير قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه)

تفسير قوله تعالى: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179]. لقد أشار الله تبارك وتعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد: وهي أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وصار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأظهر المنافقون في هذه الغزوة ما كانوا يكتمونه، وظهر ما كانوا يسترونه ويخفونه، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً بين أظهرهم وهم معهم لا يفارقونهم فاستعدوا لهم وتحرجوا منهم، ولذلك قال تبارك وتعالى هاهنا: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179]. (ما كان الله ليذر) أي: ليترك (المؤمنين). (على ما أنتم عليه) من الاختلاط بالمنافقين وعدم التباين، بل لا يزال يبتليكم (حتى يميز الخبيث من الطيب) ولا يميز إلا بهذا الابتلاء؛ لأنه (ما كان الله ليطلعكم على الغيب). هناك طريقتان لمعرفة الطيب من الخبيث: الأولى: بالاطلاع على الغيب ومعرفة الغيب، وهذا لا يكون، نحن لا نستطيع أن نطلع على الغيب. الثانية: وهي أن يقع الامتحان والفتنة والابتلاء فيمتاز الناس فيظهر أولياء الله من أعدائه. (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) يعني: هذا الطريق ليس متاحاً لكم؛ لتعرفوا الطيب من الخبيث؛ لكن تأتي المحن والابتلاءات فيمتاز المؤمن من المنافق كما جاء في حديث: (فتنة الدهيماء)، إنها فتنة حرب وهرج، وجاء في آخر الحديث: (أن الفتنة تشتد حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه). يقول السيوطي: (ما كان الله ليذر) أي: (ليترك المؤمنين). (على ما أنتم) أيها الناس عليه من اختلاط المخلص بغيره (حتى يميز) بالتخفيف والتشديد قراءتان، يعني: يفصل. (الخبيث) أي: المنافق. (من الطيب) أي: المؤمن بالتكاليف الشاقة المبينة لذلك، ففعل ذلك يوم أحد. (وما كان الله ليطلعكم على الغيب) فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز. (ولكن الله يجتبي) أي: يختار. (من رسله من يشاء) فيطلعه على الغيب كما أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على حال المنافقين. (فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا) النفاق. (فلكم أجر عظيم).

تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله)

تفسير قوله تعالى: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله) {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180]. قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ}، بالياء والتاء. {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، أي: بزكاته. {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: هذا البخل خيراً لهم. أي: لا تحسبن بخل الباخلين خيراً لهم، أو لا يحسبن الباخلون بخلهم خيراً لهم. {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ}، يعني: ما بخلوا بزكاته من المال. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -اللهزمتان: جانبا الفم- ويقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية ((سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ))). {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: يرثهما بعد فناء أهلهما، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء، {خَبِيرٌ} فيجازيكم به. يقول القاسمي: اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة، شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في سبيل الله، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذله فيه، وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله، يعني: أن هذا المال ليس مالهم وإنما هو عطية من الله. (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) ليس مالهم وإنما هو مال الله تبارك وتعالى؛ للمبالغة في بيان سوء صنيعهم، فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله، أي: إذا كان الله هو الذي أعطاك فيجب عليك أن تبذل في سبيله هذا القدر البسيط، وهو نسبة الزكاة المعروفة، كما قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فلا يحسبن هؤلاء ذلك خيراً لهم بل هو شر لهم؛ لأنه سيجلب لهم العقاب (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) وقد جاءت أحاديث كثيرة في تفاصيل هذا العذاب أشرنا إلى طرف منها. ثم أشار تعالى إلى أنهم وإن لم ينفقوا أموالهم في سبيله فهي راجعة إليه: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، أي: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقون في سبيله؟ ونظيره قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فهذا على حقيقته، كما قال الزجاج: أي أن الله تعالى يفني أهلهما فيفنيان بما فيهما، فليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون؛ لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثاً ملكاً له، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، يعني: فيجازيكم على المنع والبخل، وفي قراءة أخرى (والله بما تعملون خبير) فيجازيكم به.

تفسير قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)

تفسير قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) قال عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]. لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض، فأنزل الله (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) الآية. وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس أيضاً قال: (دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس -بيت العبادات عند اليهود- فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له: أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله، قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقره، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟! فقال: يا رسول الله! إن عدو الله قال قولاً عظيماً، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه، فجحد فنحاص ذلك، وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل فيما قال فنحاص: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ))). ولما كان مثل هذا القول لا يصدر إلا عن تمرد عظيم لكونه في غاية الشناعة أشار إلى وعيده الشديد فقال تعالى: ((سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا))، أي: ما قالوه مع هذه العظيمة الشنعاء، في صحائف الحفظة. (وقتلهم الأنبياء) أي: سنكتب أيضاً قتلهم الأنبياء بغير حق، وإنما ضمه مع ما قبله إيذاناً بسوابقهم القبيحة، فلذلك ربط الله سبحانه وتعالى هذا القول الشنيع بجرائم آبائهم، ونسبها إليهم مع أنهم ليسوا هم الذين قتلوا الأنبياء اليهود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا راضين بذلك، بل هم سعوا في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فليس قولهم: ((إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)) بأول جريمة يرتكبونها، ومعلوم أن من اجترأ على قتل الأنبياء لا يستبعد منه أن يقول هذا الكلام. ((وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)).

فوائد من قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء)

فوائد من قوله تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) هنا بعض الفوائد منها: الأولى: إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون قائلها شخص واحد: ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا)) فتكلم عن هذا الواحد بصيغة الجمع؛ لرضا الباقين بذلك، ونظائره في التنزيل كثيرة. الثانية: إضافة عذاب الحريق إضافة بيانية، بمعنى: ذوقوا العذاب الذي هو الحريق. حاسة الذوق تكون لإدراك الطعم، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هاهنا لأن العذاب مترتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليه هي تحصيل المطاعم، فالذي دفعهم إلى قولهم: ((إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)) هو بخلهم، فهم يبخلون بأن يؤتوا مما آتاهم الله من فضله. المال إنما يقصد بصفة أساسية من أجل أن يأكل الإنسان منه، فأهم شيء عند الإنسان من تحصيل المال هو الطعام؛ فلذلك هم يتهالكون على هذا المال خوفاً من فقدان هذا الطعام، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال؛ لأن أغلب استعمالات المال هي في الطعام. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188].

تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] قوله تعالى: ((ذَلِكَ)) أي: العذاب. ((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)) تقديم الأيدي هو عملها؛ لأن من يعمل شيئاً يقدم يده، والتعبير بالأيدي عن الأنفس؛ لأن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهن، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار العمل عليه.

صيغة المبالغة في قوله: (ظلام) ووجه الإشكال والجواب عنه

صيغة المبالغة في قوله: (ظلام) ووجه الإشكال والجواب عنه {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] (ظَلَّامٍ) صيغة مبالغة من الظلم، تفيد كثرة الظلم، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل، فلو قيل: (وأن الله ليس بظالم) لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره، فما الجواب عن ذلك؟ الجواب من أوجه: أحدها: أن الصيغة للنسب من قبيل نسبة البزاز إلى البز والحرير، والعطار إلى العطر، لا للمبالغة. أن الله لا ينسب إلى الظلم؛ لأنه عندما تقول -ولله المثل الأعلى-: هذا ليس بعطار، فأنت لا تقصد المبالغة، وإنما تقصد نفي نسبته إلى بيع العطر. الوجه الثاني: أن صيغة (فعال) استعملت في لغة العرب لا على معنى الكثرة والمبالغة، بل تأتي على معنى الفاعل كقول طرفة: ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترشد القوم أرشد هذا في معلقة طرفة بن العبد التي مطلعها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد يقول التبريزي في قوله: ولست بحلال التلاع: (التلاع) مجاري الماء من رءوس الجبال إلى الأودية. (وقوله: (ولست بحلال التلاع) أي أنني لا أتواجد في ذلك المكان ولا أسكنه مخافة أن يراني ابن السبيل والضيف، فهو ينزه نفسه عن البخل؛ لأن الذي يريد أن يهرب من الضيوف بسبب البخل يختبئ في هذه التلاع. قوله: (ولكن متى يسترشد القوم أرشد). أي: أنني لا أحل في التلاع، بل أنزل في الفضاء وأرشد من يسترشدني، وأعين من استعانني. والرشد يكون بالعطية، ويكون بالمعونة. فمثل هذا الشخص الكريم الذي ينزه نفسه عن البخل، بقوله: (ولست بحلال التلاع) لا يقصد بذلك نفي المبالغة، لأن المعنى سيكون مقتضياً أنه في بعض الأحيان يختبئ من الضيوف أو من ابن السبيل؛ فلذا كان يقصد مجرد الحلول بدون المبالغة؛ فهنا جاءت (فعال) لا يراد بها الكثرة؛ لأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة. الوجه الثالث: هو أن المبالغة جاءت لمراعاة الجميع، كما تقول العرب مثلاً: فلان ظالم لعبده، ثم يقولون: وهو ظلام لعبيده، فتستعمل كلمة (فعال) إذا كان المتعلق به الفعل جمعاً. كذلك هنا نزه الله تعالى نفسه عن ذلك بقوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))، لرعاية صيغة الجمع في العبيد. الوجه الرابع: أنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان للظلم القليل المنفعة أترك. الوجه الخامس: أن المبالغة لتأكيد معنىً بديع؛ وذلك لأن جملة ((وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، بمعنى: أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده لغير ذنب. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم؛ لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك، ولتصويره بصورة يستحيل صدور الظلم عنها، كما يعبر عن ترك الإفادة عن الأعمال بإضاعتها، فصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى ولإبراز ما ذكر من التعبير بغير ذنب في صورة مبالغة في الظلم. ((وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) فالله سبحانه وتعالى لو عذب الناس بدون ذنب يرتكبونه هل يكون ظلاماً للعبيد؟! هذه صيغة منفرة ينزه الله سبحانه وتعالى عنها؛ بل إنما يعذبهم بسبب ما اقترفوه من الذنوب.

تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا)

تفسير قوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183]. ((الَّذِينَ قَالُوا)) نصب بتقدير: أعني، أو على الذم، أو رفع بتقدير: هم الذين قالوا. (إن الله عهد إلينا) أي: أمرنا. (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ) تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم: (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالمعجزات الواضحات. (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) أي: وبنفس هذا الذي قلتموه، وهو القربان الذي تأكله النار. (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) أي: لم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم؟! (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.

تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك)

تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك) {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184]. (فإن كذبوك) أي: بعد بطلان عذرهم المذكور. (فقد كذب رسل من قبلك) فلا تحزن وتسلَّ. (جاءوا بالبينات والزبر)، الزبر: جمع زبور أي: الكتب الموحاة منه تعالى. (والكتاب المنير) أي: الواضح الجلي. والزبور والكتاب واحد في الأصل؛ وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين، فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة.

حقيقة القربان عند أهل الكتاب وأنواعه

حقيقة القربان عند أهل الكتاب وأنواعه هنا فائدة تتعلق بقربان أهل الكتاب وتشريعه عندهم: القربان معناه لغة: ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته، وكانت ذبائح العبرانيين عجيبة جداً، وكان المستعمل لهذه الذبيحة بتعيين الله: الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام، وكانت الذبائح على نوعين عامين: الأول: كانت تقرب لتكفير الخطايا. الثاني: كانت تقرب شكراً لله على نعمة وبركاته. ثم قال صاحب كتاب (مرشد الطالبين): فالذبيحة اليومية عند أهل الكتاب كانت مشهورة جداً، كان عليهم أن يتقربوا إلى الله سبحانه وتعالى يومياً في الصباح والمساء بهذه الذبائح. الذبيحة اليومية عندهم خروف ليس فيه عيب، يقدم كفارة للخطايا، وذلك مرتان: صباحاً ومساءً طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلاً، والتي في المساء عن خطاياهم نهاراً، وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم. ولهذا ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقودا، وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان. خلاصة الكلام فيما يتعلق بهذه الآية يقول تعالى: ((تَأْكُلُهُ النَّارُ)) أي: أنه يذبح على هذه الكيفية، فبعدما يذبح تنزل نار من السماء فتأكله، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها الذبيحة، وفي عهد سليمان أيضاً كما جاء في كتبهم: (أن سليمان لما أتم الدعاء هبطت النار من السماء وأكلت الذبائح) وكان جميع بني إسرائيل يعاينون هبوط النار.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) وما بعدها

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) وما بعدها يقول السيوطي رحمه الله تعالى هنا: ((الَّذِينَ)) هذه نعت للذين قبله ((قَالُوا)) أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا)) أي: قد عهد إلينا في التوراة ((أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ)) أي: لا نصدق رسولاً ((حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ))، فلا نؤمن لك حتى تأتينا أنت أيضاً بقربان تأكله النار، وهو ما يتقرب به إلى الله من نعم وغيرها، فإن قبل هذا القربان جاءت نار بيضاء من السماء فأكلته وإلا بقي مكانه. والعهد إلى بني إسرائيل كان موجوداً، لكن في حق المسيح ومحمد لم يعهد إليهم بذلك، قال تعالى: ((قُلْ)) لهم توبيخاً: ((قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالمعجزات ((وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)) كزكريا ويحيى فقتلتموهما، والخطاب لمن في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الفعل لأجدادهم؛ لكنهم كانوا راضين بفعل أجدادهم. ((فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) أي: في أنكم تؤمنون عند الإتيان به. ((فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: المعجزات ((وَالزُّبُرِ)) كصحف إبراهيم وفي قراءة بإثبات الباء فيهما. ((وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ)) أي: الواضح وهو التوراة والإنجيل، والمعنى: فاصبر كما صبر هؤلاء الرسل الذين كُذِّبوا.

تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم)

تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم) قال تبارك وتعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]. (تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) أي: جزاء أعمالكم يوم القيامة. {فَمَنْ زُحْزِحَ} أي: أبعد عن النار {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} أي: نال غاية مطلوبه. فقد أخرج الترمذي والحاكم وصححاه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، أي: اقرءوا إن شئتم: ((فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)) [آل عمران:185]). {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: ما العيش في الحياة الدنيا. {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: الباطل الخادع الذي لا يدوم، بل يتمتع به قليلاً ثم يفنى.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم)

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم) يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) هذه كقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب. وقوله: (وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) قال الزمخشري: فإن قلت: فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار. قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم؛ لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور. أي: فما يكون في القبر هو بعض الأجر ومن مقدمات الأجر، أما إكمال الأجر وكماله وغايته فإنما تكون يوم القيامة. وقال الرازي: بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة؛ لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم، حتى الإنسان إذا جوزي في الدنيا فأي متاع في الدنيا لابد أن يصل إليه ما يكدره، ولو لم يكدره إلا خوف انقطاعه وزواله لكان كافياً في تكديره. والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة؛ لأن السرور هناك يحصل بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم، والسعادة بلا خوف انقطاع، وكذا القول في العقاب، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه. ((فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ)) أي: أبعد عن النار التي هي مجمع الآفات والشرور. ((وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ)) التي هي جامعة للذات والسرور ((فَقَدْ فَازَ)) أي: حصل له الفوز العظيم، وهو الظفر بالمراد، والنجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه) أخرجه مسلم أيضاً. {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: لذتها أو العيش فيها. {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} المتاع: هو ما يتمتع وينتفع به. والغرور: مصدر غره أي: خدعه وأقنعه بالباطل. وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنيه لذاتها من طول البقاء وأمل الدوام، فتخدعه ثم تصرعه. قال بعض السلف: الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول، فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم.

آل عمران [186 - 200]

تفسير سورة آل عمران [186 - 200]

تفسير قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) قال تبارك وتعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]. ((لتبلون)) أي: لتختبرن. ((في أموالكم)) أي: بما يصيبها من الآفات. ((وأنفسكم)) أي: بالقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد. وهذا كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] أي: لابد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة، أي: أنه تكفر خطاياه). ((وإن تصبروا)) أي: على ذلك. ((وتتقوا)) أي: مخالفة أمر الله تعالى. ((فإن ذلك)) أي: الصبر والتقوى. ((من عزم الأمور)) أي: من كمال الأمور التي يتنافس فيها المتنافسون. والمقصود من معزمات الأمور التي يجب أن يعزم عليها كل أحد؛ لما فيه من كمال المزية والشرف، أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه، فلابد أن تصبروا وتتقوا. وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الصبر، وأن الجهاد لا يسقط مع سماع ما يؤذي.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم)

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم) يقول السيوطي رحمه الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} أي: بالفرائض فيها كفريضة الزكاة، والجوائح التي تجتاحها كالسيول والعواصف والقحط وغيرها. ((وَأَنْفُسِكُمْ)) أي: بالابتلاء في الأنفس إما بالعبادات التي يكلفها الإنسان، أو بالبلاء الذي يصيب الناس. ((وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: اليهود والنصارى. ((وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا)) أي: من العرب. ((أَذًى كَثِيرًا)) أي: من السب والطعن والتشبيب بنسائكم وغير ذلك. ((وَإِنْ تَصْبِرُوا)) أي: على ذلك. ((وَتَتَّقُوا)) الله. ((فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)) أي: من معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها.

واجب المسلم تجاه الأذى الصادر من غير المسلمين

واجب المسلم تجاه الأذى الصادر من غير المسلمين إذاً الواجب مع هذه الصنوف من البلاء الصبر عليها والثبات على دين الله تبارك وتعالى، وفي هذا تهيئة لقلوب المؤمنين؛ لما قد يرد من البلاء والأذى، وهذا كائن في كل زمان وفي كل مكان، فهؤلاء الذين يصنفون الكتب من المستشرقين أو أعداء الإسلام في الطعن في الدين، وفي سب الأنبياء، وفي سب الله تبارك وتعالى، وغير ذلك مما هو مشاهد. ومن آخرها: إعادة نشر هذه الرواية الإلحادية التي لم يقل إبليس نفسه ما قال صاحبها فيها، ولم يجترئ على الله سبحانه وتعالى كما وقع في هذه الروايات، ولذلك ننبه الإخوة إلى: أنه لا يجوز لأحد بأي حال أن يقتني هذه الروايات، حتى وإن نشرت بالصورة التي ذكرت، ولا يجوز بحال من الأحوال أن تبقى في البيت ولا أن تشترى، فكيف وبعض الإخوة يقول: نحن نشتريها حتى نبين للناس الكفر والإلحاد الذي فيها. نقول: يكفي أن تقول ما قاله العلماء فيها، ممكن أن تنقل للناس خلاصة الدراسات التي قام بها من درسها أو علق عليها من العلماء، ويكفي أن العلماء من شيوخ الأزهر كان موقفهم صريحاً من هذه الروايات الإلحادية منذ الستينات. فإذاً كون الواحد يأتي بالرواية ويقول: أنا أقرؤها؛ لأعرف ما فيها من كفر وإلحاد، نقول: ما يدريك؟ قد ينتكس قلبك عند سطر من سطور الزندقة والإلحاد، وترتد عن الإسلام؟! أليست للفتن ذرائع تؤدي إليها؟! فلا تفتح باب الشر على نفسك؛ لأن هذه الرواية كلها شتائم فقراءتها وشراؤها فيه مشاركة في الأذية. فحينما تسمع أو تقرأ فإنك تقرأ كلاماً شنيعاً ترتج منه الجبال، حتى إن إبليس لم يقو على ذلك، بل إن إبليس عظم الله سبحانه وتعالى حيث قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]. أما هذا فيشتم الله ويشتم الأنبياء، هناك كثير من الناس من غير الملتزمين بالدين لما اطلعوا عليها، كان تعليقهم أنهم استفادوا معلومات لم يكونوا يطبقونها من قبل، فيما تضمنته من الكفر والإلحاد. فعلى أي الأحوال هذا من أبلغ الأذى الذي يسمعه المسلمون في هذا الزمان، وأنتم تعلمون أيضاً ما يأتي من الغرب بين وقت وآخر، مثل إحياء رواية آيات شيطانية للمدعو سلمان رشدي، وفيها أيضاً كل السب والأذى، فهذه الرواية خالية من المنهج العلمي، وليست منطقية، بل كلها خيالات وسب وتطاول وبذاءات، فكيف يرد على مثل هذا؟! لا يرد عليه إلا بالصبر على الأذى. فهذه الآية تواسي المؤمنين في كل عصر ومصر مما يلقونه من الأذى، فإن أشد ما يؤذي المؤمن أن يؤذى في الله، أو يؤذى في رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو في دينه، وهنا إرشاد للمخرج من هذا ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)).

تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]. ((وإذ)) أي: واذكر إذ ((أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)) وهم علماء اليهود والنصارى، وكما ذكرنا من قبل: الغالب أنه إذا استعملت صيغة: أوتوا، أو أورثوا، بالبناء للمجهول، فإنه يكون في سياق ذمهم، أما إذا أتت منسوبة إلى الله سبحانه وتعالى فهذا فيه مدح لأهل الكتاب، وذلك مثل قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121]، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]. ((لتبيينه للناس)) أي: لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته صلى الله عليه وسلم. ((ولا تكتمونه)) فيها نهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا صرح بالأمر بالبيان ونهى عن الكتمان، فهذا أبلغ في إيجاب هذا المأمور به. ((فنبذوه)) أي: الميثاق. ((وراء ظهورهم)) أي: طرحوه ولم يراعوه، ونبذ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية، يقول بعض الشعراء في هذا المعنى: لقد أخبرني من أرسلت أنما أخذت كتابي معرضاً بشمالكا نظرت في عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا فكلمة نبذ الشيء وراء الظهر، مثل يضرب في الاستهانة بالشيء والإعراض عنه بالكلية، كما أن جعله نصب العين دليل على كمال الاعتناء والاهتمام به. ((واشتروا به)) أي: استبدلوا به ((ثمناً قليلاً)) أي: شيئاً حقيراً من حطام الدنيا. ((فبئس ما يشترون)) أي: بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية: وجوب إظهار الحق وتحريم كتمانه، فيدخل فيه بيان الدين والأحكام والفتاوى والشهادات، وغير ذلك مما يجب إظهاره، ويفهم من ذلك أنه يجوز كتمان العلم إذا كان الشخص الذي تكلمه لا يطيقه ولا يستوعبه، أو يسيء فهمه، أو يسيء تطبيقه أو غير ذلك. ويدخل في كتمه منع الكتب المنطوية على علم الدين حيث تعذر الأخذ إلا منها.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب)

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) قال الزمخشري: كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وألا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارهم، أو لجر منفعة وحطام دنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إليه غيرهم. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار) وهذا أخرجه الترمذي، ولـ أبي داود: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة). وقال أبو هريرة: (لولا ما أخذ الله عز وجل على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)) إلى آخر الآية. يقول العلامة أبو السعود في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة: ((فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً)) هذا نوع من المعاوضة، فهم بذلوا شيئاً في مقابل شيء، وفي حالة المعاوضة يكون الشراء مؤذناً بالرغبة في المأخوذ، والزهد أو الإعراض عن المعطى. يعني: أنت معك مال تبذل هذا المال لتشتري به السلعة: آلة أو سيارة أو أي شيء، فأنت ما تعمد إلى هذه المعاوضة إلا إذا كنت ترى أن الذي تأخذه أفضل مما تعطيه. والمقصود بالمعاملة الثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعلوا الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل، وهذا يدل على فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير على الشريف الخطير، وبجعلهم المقصد الأصلي وسيلة، والوسيلة مقصداً.

تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا)

تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) بعد أن وصفهم تعالى بأنهم يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ويستعملون آيات الله وكتاب الله وسيلة لنيل مآربهم الدنيوية، ومع ذلك فهم لا يستقبحون هذا الفعل ولا يندمون عليه، بل يفرحون به ويسرون: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]. ((لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)) أي: بما فعلوا من اشتراء الثمن القليل بتغيير كلام الله تعالى. ((ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا)) أي: من وفاء الميثاق من غير تغيير ولا كتمان. ((فلا تحسبنهم بمفازة)) أي: بمنجاة من العذاب. ((ولهم عذاب أليم)) أي: بكفرهم وتدليسهم. روى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال: (اذهب يا رافع -وهو بوابه- إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: مالكم وهذه، إنما نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس رضي الله عنهما: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) إلى قوله: ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) ثم قال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه) يعني: كأنهم استحقوا أن يحمدوا على هذا الذي أخبروا به النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف الواقع والحقيقة. انظر كيف تتولى الآيات الذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حصل ذلك في مواضع من القرآن الكريم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]، وغير ذلك من النصوص. فكذلك هنا لما سألهم النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء معين أوهموه أنهم قد أجابوه، ومع ذلك أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وبما أتوا من كذبهم عليه وإخبارهم له بخلاف الذي كان يسألهم عنه، فانظر كيف نزل الوحي يفضح هؤلاء اليهود، ويكذبهم، ويذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري (أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: ((ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا))) الآية. كذا رواه مسلم. لا منافاة بين الروايتين؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، ومعنى ذلك: أنه بعدما نزلت الآية قد تحصل واقعة يصدق عليها حكم الآية، فيقول واحد من الصحابة: نزلت في كذا؛ لأن معنى سبب النزول أعم من مجرد نزول الآية في واقعة بعينها، لكن يتعدى حكمها إلى نظائرها. وهذه الآية وإن كانت محمولة على الكفار لما تقدم، ففيها ترهيب للمؤمنين مما ذم عليه أهلها من الإصرار على القبائح والفرح بها، ومحبة المدح بما ليس عندهم من الفضائل. ويدخل في ذلك المراءون المتكثرون بما لم يعطوا، وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة)، وفي الصحيحين أيضاً: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) يعني: الثوبان اللذان يلبسهما ليسا ملكه في الحقيقة، بل هما لغيره، وهو يلبسهما ويظهر للناس أنهما له. وهكذا المتشبع بما لم يعط، وهو الذي يظهر للناس ما ليس عنده من الفضائل والعلم وغير ذلك.

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وما بعدها

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وما بعدها يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) أي: واذكر (إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) أي: العهد عليهم في التوراة ((لَتُبَيِّنُنَّهُ)) أو (ليبيننه) أي: الكتاب ((لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ))، بالياء والتاء. ((فَنَبَذُوهُ)) أي: طرحوا الميثاق ((وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ)) أي: فلم يعملوا به. ((وَاشْتَرَوْا بِهِ)) أخذوا بدله ((ثَمَنًا قَلِيلًا)) من الدنيا من سفلتهم برئاستهم في العلم، فكتموه خوف فوته عليهم. ((فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) أي: فبئس شراؤهم هذا. ((لا تَحْسَبَنَّ)) أو لا يحسبن ((الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا)) أي: بما فعلوا في إضلال الناس ((وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا)) من التمسك بالحق وهم على ضلال. ((فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ)) أي: بمكان ينجون فيه ((مِنَ الْعَذَابِ)) أي: في الآخرة، بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم. ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي: مؤلم فيها.

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض) قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:189] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]. ((إن في خلق السموات والأرض)) أي: في إيجادهما على ما هما عليه من الأمور المدهشة، تلك في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص. ((إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار)) يذكر الله تعالى عناوين مما خلق من الآيات في السماوات والأرض، وهذه العناوين ينقسم الواحد منها في العلوم الحديثة إلى عشرات بل مئات التخصصات أحياناً، وهي رسائل من الله سبحانه وتعالى يتعرف إلى عباده عن طريقها، وكان حق هذا العلم الذي تطور في هذا الزمان تطوراً مدهشاً مذهلاً بفضل الله سبحانه وتعالى أن يبين آيات الله وعظمته. لكن المناهج العلمية الموجودة على مستوى العالم قائمة على العلمانية التي تعتبر إيراد الباحث لآية أو حديث خروجاً عن المنهج العلمي. وهذا جهل وجحود؛ قال بعض العلماء: كانت الجاهلية قبل الإسلام جاهلية الجهل، أما الآن فهي جاهلية العلم؛ لأنك تجد أنهم يفصلون فصلاً كاملاً بين آيات الله سبحانه وتعالى وبين خالقها تبارك وتعالى. وأيضاً كل هذه العلوم وما فيها من الآيات والبدائع ومظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته وعظمته، لا يمكن أبداً أن يجترئ أحد على أن ينسبها إلى صانعها، فهل هناك جحود أكثر من هذا؟ في الحقيقة هذا العلم علم جاحد؛ لأنه يفصل هذا المصنوع عن صانعه، ويفصل المخلوقات عن خالقها تبارك وتعالى. ونحن عندما نقرأ كتب العلماء السابقين في مثل هذه المواضع نجد أنهم كانوا يأتون بمعلومات محدودة جداً، لعلوم كاملة: نبات، حيوان تشريح، وغيرها من العلوم، لكن هذه العلوم انفتحت فيها عوالم ومجالات واسعة جداً، وانكشف فيها ما لم يصل الأوائل منه إلى شيء ولم يقفوا له على خبر، وكان مقتضى ذلك أن يزيد إيمان الناس، وأن يخضعوا لربهم تبارك وتعالى وأن يسلموا له. ولذلك نحن نقول: هذه العلوم ليست من علوم الدنيا، بل هذه العلوم هي تطبيق لهذه الآية الكريمة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] فهذه العلوم إذا درستها من هذا المنطلق فهي تماماً كعلم التوحيد، أو دراسة القرآن الكريم الذي هو آيات الله سبحانه وتعالى. الآيات إما آيات تكوينية في الكون، وإما آيات تنزيلية، فكما أن آيات القرآن تنزيلية، كذلك السماوات والأرض مملوءتان بالآيات الكونية، وكلها تشير إلى وحدانية الله تبارك وتعالى. فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فكل ما تقع عينك عليه ينطق بوحدانية الله تبارك وتعالى، وقد جاء (أن النبي عليه الصلاة والسلام قام ليلة من الليالي وظل يبكي حتى بل لحيته، ثم ظل يبكي حتى بل حجره، ثم ظل يبكي حتى بل الأرض، إلى أن جاء بلال يؤذنه بصلاة الفجر، فلما رآه يبكي بكى، ثم قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وتلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190] إلى قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]). إذاً: التفكر في هذه الآيات المذكورة في آل عمران ليس مستحباً فقط، وإنما هو فريضة، بل عدم فعل ذلك من الكبائر؛ لأن من علامات الكبيرة التوعد عليها بالويل، فهذا يدل على أن الفرض على المسلم أن يتفكر في هذه الآيات، وأن يكون له ورد تفكر كما يكون له ورد من تلاوة القرآن. قوله: ((واختلاف الليل والنهار)) لقد قام السلف بتفسير هذه الآيات طبقاً لمعلوماتهم المحدودة، لكن الآن كشفت لنا كثير من الأسرار والمعلومات، والإنسان الجاهل المسكين يظن أنه إذا اكتشف كيف يسير هذا الكون، وكيف يتدبر أموره؟!! يظن أنه صار هو المستقل بتدبير أمور الكون. لو أن رجلاً اخترع جهازاً دقيقاً وخبأه في صندوق وأغلقه بالمفتاح، ثم استطاع بعض الناس أن يفتح هذا الصندوق ويصف لنا ما بداخله، ويقول: إن هذه القطعة وضعت هنا للحكمة الفلانية، وهذه وضعت هنا من أجل استعمالها في كذا، واستطاع من خلال الدراسة أن يكتشف ما فيها من الدقة والإحكام، وسخرها بعد ذلك لفائدته ومصلحته، هل يكون له الفضل في إبداع هذه الآلة؟ أم أن الفضل هو لخالقها وصانعها. لو تفكرنا في الوظائف الدقيقة التي تجري في جسم الإنسان، سواء النشاط الهرموني، أو نظام الجهاز البولي، أو الجهاز الهضمي، أو الدوري، أو العصبي، أو العضلي أو غير ذلك من أجهزة الجسم، لعرفنا عظمة الله تعالى في إتقانها وإحكامها. وقد اكتشف العلم الحديث هذه التفصيلات وعرفت للناس، وأنت تعلم أن كل هذه الأشياء تجري في بدنك وأنت لا سلطان لك عليها، بل أغلبنا لا يعرف شيئاً عنها، فليس عنده خبر عن الإنزيمات ولا الهضم ولا الامتصاص ولا غير هذه الأشياء بتفاصيلها الدقيقة جداً، بل تفنى الأعمار قبل أن يصلوا إلى كل ما أودعه الله من الأسرار في هذا الكائن، كذلك عندما تنام أيها الإنسان في الليل فأن هذه الأجهزة تعمل بحكمة الله سبحانه وتعالى. إذا ارتفعت نسبة هرمون معين بنسبة ضيئلة جداً فإنه يحصل خلل في وظائف الجسم فمن الذي يضبط هذه الأمور كله؟! الله سبحانه وتعالى يضبطها، فما من ذرة من ذرات الكون إلا وهو يدبرها ويوجهها، وهذا هو معنى قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا يجري شيء إلا بقدرة الله سبحانه وتعالى وتوجيهه. فالناس الذين ما عرفوا شيئاً عن هذه العلوم، كان الله سبحانه وتعالى يتولاهم ويرعاهم، وتسير أبدانهم ووظائف الكون كوظائف الشمس والقمر والنجوم والكواكب منذ أن أودعها الله سبحانه وتعالى، وفق قدرة الله سبحانه وتعالى، ولم تكن تنتظر هؤلاء الجهلة في آخر الزمان لينازعوا الله في ألوهيته وربوبيته، ويفصلوا الخلق عن الخالق. إذاً: الله سبحانه وتعالى خلقنا، وليس كما زعم هؤلاء الكفار أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان فحركه ثم تركه، وانتهت وظيفة الإله وصار في غفلة عن خلقه، معاذ الله! أو كما زعموا -والعياذ بالله- أن الله سبحانه وتعالى يملك في الكون ولا يحكم مثل ملكة الإنجليز، فهذا هو تصورهم عن الإله، وهذا هو سبب معاداتهم للدين، أو بتعبير أدق إيثارهم فصل الدين عن الحياة. أما الإسلام فأتى بالتصور الشامل والعقيدة الشاملة لطبيعة العلاقة بين الله سبحانه وبين خلقه، وبين الخلق وبعضهم البعض، وبين الإنسان وبين نفسه. يقول تعالى: ((واختلاف الليل والنهار)) أي: في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها، أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر، وانتقاصه بازدياده. قوله: ((لآيات)) أفضل طريقة لتفسير هذا الجزء من الآية أن نحضر من كل تخصص من هذه العلوم من يشرح لنا أسرار هذا العلم، وحكم الله سبحانه وتعالى في تدبير الكون بهذه المواضع كلها، وبالتالي سنحول المسجد إلى جامعة شاملة لتعلم كل هذه العلوم، وهذا هو المفروض أن العلوم تدرس من هذا المنطلق الإيماني: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فهي آيات من الله سبحانه وتعالى، أما الطبيعة فهي مفتقرة إلى من يخلقها. ((لآيات)) أي: لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته، والتكثير للتفخيم كماً وكيفاً، أي: كثرة عظيمة. ((لأولي الألباب)) أي: لذوي العقول المجلوة بالتزكية والتصفية بملازمة الذكر دائماً. هنا إشارة إلى أن القلوب لا تصفو ولا تتجلى إلا بذكر الله سبحانه وتعالى؛ وذلك عقب أولي الألباب بقوله: ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا)) وهذا هو الذي يفهم ويعي ويعقل عن الله سبحانه وتعالى رسائله، فبدلاً من أن نقول: إن السيل ظاهرة طبيعية، نتذكر آيات الله سبحانه وتعالى {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] كل هذه الآيات تربط الوقائع في كونه سبحانه هو المسير الحقيقي لها. ذكرنا من قبل أيضاً: أننا عندما نقول: (آيات لأولي الألباب) أن الحقائق غير المرئية أو المغيبة عنا لا تخضع للتجربة ولا المشاهدة والاستنتاج ولكن ما لا نراه فإنه لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق الوحي؛ لأنه إذا كان كل شيء يتم عن طريق المعاينة فستنتفي حكمة هذا الوجود كله، وحكمة الابتلاء في الدنيا. وهؤلاء الذين يحاربون الله ورسوله ويحاربون الدين لو أراد الله لأمر الملائكة أن تتخطفهم وتقطعهم إرباً إربا، أو لأنزل صاعقة من السماء على بيوت الظالمين على وجه الأرض، فهو قادر على أن تستمر الآيات بصورة تكشف لنا هذه الوقائع قبل أن يكشفها لنا الغيب، فنرى الملائكة ونرى الشياطين ونرى الجنة ونرى النار، ونرى عذاب القبر ونعيمه إلى آخره. ولكن لو عاينا هذه الأشياء لا نتفت حكمة التكليف، أي: أن كل الناس في هذه الحالة سيؤمنون بالإكراه عن طريق هذه الآيات، فيكون حالهم تماماً كيوم القيامة، حينما يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] فهل ينفع هذا اليقين؟! كذلك اليقين لا ينفع عند رؤية العذاب، ولذلك يقتصر الله سبحانه وتعالى على أن تحدث بعض هذه الآيات بين وقت وآخر؛ تذكيراً للناس وتنبيهاً لهم واستعتاباً، لكن لا تستمر ولا تكون صالحة

تفسير قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا)

تفسير قوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً) قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191]. أي: أنه لا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى، لا كما يفهمه الضالون من الصوفية أن معنى قوله: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) أنهم يرقصون في أثناء الذكر، فتارة يقفون وتارة يقعدون وتارة يضطجعون، وهذه الحركات التي يفعلها هؤلاء الجهلة، إلحاد في فهم آيات الله سبحانه وتعالى. لقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، فالمراد تعميم الذكر للأوقات، وعدم الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى في لحظة من اللحظات ولا في حال من الأحوال، بل المسلم يذكر الله عز وجل دائماً. ((ويتفكرون في خلق السموات والأرض)) أي: في إنشائهما بهذه الأجرام العظام، وما فيهما من عجائب المصنوعات وغرائب المبتدعات؛ ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً؛ لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تبارك وتعالى. إنما يكون الرسام أو المصور أو الممثل ممدوحاً عند القوم، بأنه بارع ومتقن عندما يقترب من محاكاة ما يسمونه هم بالطبيعة. إذاً خلق الله سبحانه وتعالى هو أكمل الصور، والناس كأنهم يتعرفون بهذا ضمناً على عظيم صنع الله سبحانه؛ وذلك عندما يحاول الواحد في عمله أن يحاكي ما خلق الله تبارك وتعالى. فهذا الذي صنع الطائرة استفاد في تصميمها من محاكاة ما خلق الله سبحانه وتعالى من الطيور، وكيف تتم عملية الطيران مثلاً؟! فالشاهد أن خلق الله سبحانه وتعالى هو أكمل المخلوقات وأبدعها. معروف أن رسم ذوات الأرواح محرم، لكن أنا أضرب مثالاً: إذا كان الرسام يمدح بأنه قدير على الرسم والفنان على الفن والممثل على التمثيل، ويستدل على عظمته بعظمة ما صنع، فكل ما صنع هؤلاء إنما هو مجرد محاكاة لما خلق الله تبارك وتعالى، أفلا تدل أفعال الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض على عظمة خالقها؟! فعظم آثار الله سبحانه وتعالى وأفعاله تدل على عظمته سبحانه: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقال الشيخ أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى: إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة. إنها نعمة التفكر، فهو ينظر في كل شيء فيجد نعمة الله، فيشكر لله عز وجل، وكذلك على المؤمن أن يعتبر وأن يتفكر، وأنه يخصص وقتاً للتأمل والتفكر والتدبر. وهنا خصص التفكر بالخلق كما في هذه الآية: ((ويتفكرون في خلق السموات والأرض)) لم يقل: ويتفكرون في الله، وإنما يتفكرون فيما خلق الله؛ لأننا منهيون عن التفكر في ذات الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يمكن أن نصل إلى كنه ذاته تبارك وتعالى وصفاته، وإنما نتفكر في المخلوقات كما ندبنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحديث: (لا تفكروا في الله ولكن تفكروا فيما خلق).

دلائل التوحيد عند الإمام الرازي

دلائل التوحيد عند الإمام الرازي يقول الرازي: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: الأول: دلائل الآفاق. الثاني: دلائل الأنفس. قال عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، ولما كان الأمر كذلك فلا جرم أن أمر في هذه الآية بالتفكر في خلق السماوات والأرض؛ لأن دلالتهما أعجب، وشواهدهما أعظم، وكيف لا نقول ذلك، وهو هنا يضرب مثلاً، وهذا المثل إذا تأملته على ضوء العلوم الحديثة رأيت من الأسرار ما هو عظيم جداً، وتجد كم نحن مقصرون في الاعتراف بقدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته في خلقه، وقد انكشفت لنا أشياء، وعلماء المسلمين ما قصروا في جانب التفكر أبداً، بل العكس، فإذا راجعنا تراث العلماء فهذا الغزالي له كتب كثيرة في هذه الأشياء، فله كتاب مستقل في الإحياء اسمه (كتاب التفكر)، وأيضاً له كتاب آخر يدعى: (الحكمة في مخلوقات الله). وكذلك الإمام ابن القيم له عدة كتب ككتابه (مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة)، وله كتاب آخر اسمه (الاستبيان في أقسام القرآن) وغير ذلك من الكتب، كلها تفيد التدبر في مخلوقات الله، ويعطيك درساً عملياً كيف تتدبر، وإن كانت المعلومات مصدرها التجربة البشرية وليس الوحي الإلهي، فنجد في بعض المعلومات قصوراً أو أخطاء بينها علم التشريح اليوم أو غيره. لكن على أي حال فإنهم تساموا إلى أعلى مستوى ثقافي في عصرهم؛ لأنهم كانوا يهتمون بهذه العبادة وهي التفكر في خلق الله تبارك وتعالى، فنحن أولى أن نجتهد في هذا التفكر، خاصة وأنه قد كشف لنا أضعاف أضعاف ما كان عندهم، فانظر هنا إلى الرازي فهو يقوم بالتأمل في شيء من هذه الأشياء، ويقول: انظر إلى ورقة صغيرة من أوراق الشجر فسترى في تلك الورقة عرقاً واحداً ممتداً في وسطها، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين، ثم يتشعب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخرى حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر، وعند هذا تعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة وأسراراً عجيبة. من منكم درس علم النبات يعرف هذا الكلام؟! فهناك عناوين من البحوث الهائلة في علم النبات وأنواع الورق والوظائف الحيوية التي يمارسها النبات باعتباره كائناً حياً. فالآيات الآن تكشفت لنا أكثر، فنحن مطالبون بأن نتأمل فيها؛ لأن هذه رسائل من الله سبحانه تكشف لنا عن قدرته، وهذه آيات الله التكوينية التي نحن مطالبون بالتفكر فيها. انظر كيف أن كلام الرازي عن ورق الشجر يعتبر بالنسبة للعلوم الحديثة الآن سطحياً إلى حد بعيد جداً، لكن هذا الذي استطاع اكتشافه بالنسبة لما تكشف لديه من هذه العلوم، فهو لم يتحدث عن عشرات العمليات التي تحدث داخل النبات ووظائفها. كما أن كل إنسان له بصمة تختلف عن بصمة الإنسان الآخر، وهذه أيضاً قد كشفها القرآن قبل أن تكتشف بعدة قرون، حينما قال تبارك وتعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] اختار البنان بالذات؛ لأن البنان فيها البصمات المعروفة، حتى أصبحت حجة يستدل بها في معرفة مرتكب الجريمة، حتى إن بعض اللصوص والمجرمين في بريطانيا بعدما اكتشفت عملية البصمات هذه انتزع الجلد تماماً حتى يموه، لكنه ظهر له من جديد جلد فيه نفس البصمات. فكما أن لكل إنسان بصمة فكذلك كل نبات لا توجد ورقتا شجر في الدنيا كلها تتشابهان في هذا التعرق الذي يشير إليه الرازي. وهناك بصمة للصوت في كل إنسان، وهذه البصمة تختلف تماماً من إنسان إلى آخر موجود على ظهر الأرض، وفي الكمبيوتر والأجهزة الحديثة في الخارج الآن بصمة صوتية. فهذه الأشياء ليست لمجرد التسلية، ولا ينبغي أن نهجرها، فالإنسان يحاول أن يتعمق فيها بنية التعبد والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى، ادرس واقرأ في علم الفضاء وفي علم النبات وفي علوم الحيوان وفي علوم الطب وفي غير ذلك من العلوم التي تكشف آيات الله سبحانه وتعالى، حتى علوم الهندسة نفسها، إذا تأملت في علوم الذرة وتركيب المادة والقوانين التي تحكمها تجد أشياء تبهر العقول، وتنطق كلها بأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له. يقول الرازي: وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة وأسراراً عجيبة، وأن الله تعالى أودع فيها قوىً جاذبة لغذائها من قعر الأرض. حتى الآن لم يستطيعوا أن يجزموا بنظرية تفسر لنا كيف يصل الغذاء من التربة إلى كل أجزاء النبات؟! بل كلها احتمالات. ثم إن ذلك الغذاء يسمونه القوة والجاذبية الأرضية، فهم لا يريدون أن يعترفوا بقدرة الله سبحانه وتعالى، فتراهم يشمئزون من ذكر الله، ويقولون: لو افترضنا أن هناك مغناطيساً داخل الكرة الأرضية، والقطب الشمالي أعلى والقطب الجنوبي أسفل، وعلى هذا الأساس وجدوا أن كل الظواهر تفسر تفسيراً صحيحاً طبقاً لهذا. يقول الرازي: ثم إن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة، بتقدير العزيز العلم. ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلق تلك الورقة لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلق تلك الورقة الصغيرة، فحينئذٍ يقيس تلك الورقة على الشمس والقمر والنجوم، والأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، حينها سيعلم أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم، فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض. وإذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين. يقول: إذا عجز عن الورقة فالأولى ألا يعرف شيئاً عن السماوات والأرض والجبال والكواكب وغير ذلك. ثم يقول: بل يسلم أن كل ما خلقه الله ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)) وكلمة: (هذا) متضمنة لضرب من التعظيم يعني: ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة، بل منتظماً بحِكَمٍ جليلة ومصالح عظيمة، من جملتها: أن يكون دلالة على معرفتك، ووجوب طاعتك، واجتناب معصيتك، وأن يكون مداراً لمعايش العباد، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد. قوله: (سبحانك) أي: تنزيهاً لك من العبث من أن تخلق شيئاً بغير حكمة. (فقنا عذاب النار) فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء، ((ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)) وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء، ففي الدعاء تقدم الثناء على الله سبحانه وتعالى، فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم -يعني: إذا دعا- فيبدأ بتحميد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بعد بما شاء) وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه. واعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، مع أنهم يأتون بكل هذه الأشياء التي سبق ذكرها، وهو أنهم يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض إلى آخره، لكنهم مع ذلك وجلون خائفون من عذاب الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)

تفسير قوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192]. ((فقد أخزيته)) أي: أهنته، وأظهرت فضيحته لأهل الموقف، وسر إتباع الدعاء بوصف شدة النار هو عظم موقع السؤال؛ لأن من سأل ربه حاجة وعرف عظمها وقوتها كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل، وإخلاصه في طلبه أشد. ((وما للظالمين من أنصار)) أي: ليس لهم من ينصرهم ويقوم بتخليصهم. وصرح بكلمة الظالمين للإشعار بتعليل دخولهم النار، وأنه كان بسبب ظلمهم ووضعهم الأشياء في غير مواضعها. ((من أنصار)) ليس معناها إمكان وجود نصير، ولكن جمع الأنصار نظراً لجمع الظالمين، والمقصود من الآية: ((وما للظالمين من أنصار)) أي: ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار. والمراد أيضاً أنه لا يوجد أحد ينصر هؤلاء بالمدافعة والقهر، بل من يشفع مثلاً في أهل الذنوب إنما يكون بإذن الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وإن قلنا: إن المقصود بالظالمين هم الكافرون فليس في الآية دلالة على نفي الشفاعة.

تفسير قوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان)

تفسير قوله تعالى: (ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان) قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]. كلمة (ربنا ربنا) جاءت خمس مرات في هذه الآيات، لإظهار كمال الضراعة والابتهال. ((سَمِعْنَا مُنَادِيًا)) المراد بالمنادي: الرسول صلى الله عليه وسلم، والنون هنا للتفخيم: ((سَمِعْنَا مُنَادِيًا))، وهذا كقوله: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]. وفي وصفه صلى الله عليه وسلم بالمنادِي دلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى الداني والقاصي، لما فيه من الإيذان برفع الصوت: ((مُنَادِيًا يُنَادِي)) فهذا فيه مدح للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه استغرق طاقته كلها في دعوة الداني والقاصي إلى الإسلام، وأمته خليفة له في أداء هذه المهمة: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي))، ينادي: يبلغ الناس، وبقدر استطاعته يوصل صوته ودعوته إلى القاصي والداني. ((يُنَادِي لِلإِيمَانِ)) يعني: ينادي لأجل الإيمان بالله، والمقصود أو الفائدة في الجمع بين: ((مُنَادِيًا يُنَادِي)) (للإيمان) أنه ذكر النداء مطلقاً، ثم قيده بالإيمان تفخيماً لشأن المنادي؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان؛ لأن المنادي يمكن أن يكون منادياً إلى الحرب، منادياً إلى الانتقام إلى الثأر إلى بعض المنافع، فلا منفعة أعظم من النداء للإيمان. ((مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ))، فهو أشرف ما ينادى به. ((أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا)) أي: فامتثلنا أمره، وأجبنا نداءه. ((رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)) أي: استر لنا ذنوبنا ولا تفضحنا بها. ((وكفر عنا سيئاتنا)) التكفير بمعنى التغطية، يكفر البذر يعني: يغطيها بالتراب، والمعنى: أذهب عنا سيئاتنا بتبديلها حسنات. ((وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ)) أي: معدودين في جملتهم حتى نكون في درجتهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك)

تفسير قوله تعالى: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) قال تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194]. يعني: ما وعدتنا على تصديق رسلك والإيمان بهم، أو المقصود: ما وعدتنا: على ألسنة رسلك، وهو الثواب. ((وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ))، المقصود هنا ما ذكر في قوله تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8].

تفسير قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم)

تفسير قوله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم) قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195] ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي)) يعني: بأني ((لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)) أي: الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر. (منكم) وهذه الجملة معترضة مبينة سبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين في الآخرة من ثواب الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال). روى الحافظ سعيد بن منصور في سننه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)) إلى آخر الآية)، ((فَالَّذِينَ هَاجَرُوا)) أي: من أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة. ((وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ)) أي: التي ولدوا ونشئوا فيها. ((وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي))، أي: سبيل الإيمان بالله وحده، وهو متناول لكل أذى نالهم من المشركين. ((وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا)) أي: غزوا المشركين، واستشهدوا. ((لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ))، هذه جملة قسمية. ((وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) أي: تجري من تحت قصورها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ((ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)).

تفسير قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد)

تفسير قوله تعالى: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] بين تعالى قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا، وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب، ثم قال مباشرة: ((لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ)). إذا كنت تحيا من أجل الجنة، ومن أجل أن تنال هذا الثواب من تكفير السيئات وتزحزح عن النار، وتخلد في جنات النعيم، وقد صبرت في سبيله على الأذى وهاجرت، فلا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، أي: لا تغتر بتصرفهم فيها بالمتاجر والمكاسب، ولا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ودرك العاجل، أو ما هم عليه في البلاد من كل المظاهر التي تغر الناس، وكذلك افتتانهم بأحوال الكفار، خاصة أن هذه الأحوال التي تفتنهم إنما هي في الدنيا، والكفار الذين فتن بهم هؤلاء ليسوا أفضل منا في الدين قطعاً، لكن قد يكونون أفضل منا في الدنيا، وكذلك في بعض الأمور التي يفخر بها هؤلاء المفتونون بهم، ولكن حالهم في الدين أن ما بينهم وبين الله خراب، فلا خير فيهم؛ فلذلك لا يغرنك هذه المظاهر: ((لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ)) لأن ما لديهم ((مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ)) كما قال بعض السلف: (لا خير في نعيم بعده النار، ولا شر في بلاء بعده الجنة، وكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار عافية) فهذه مقاييس لأولي الألباب ولأولي العقول.

تفسير قوله تعالى (متاع قليل ثم مأواهم جهنم)

تفسير قوله تعالى (متاع قليل ثم مأواهم جهنم) قال تعالى: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197]. أي: هو متاع قليل لقصر مدته، وكونه بلغة فانية ونعمة زائلة، فلا قدر له في جانب ما أعد الله للمؤمنين. جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثلما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع؟!) ((ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ)) مصيرهم الذي يعودون إليه. ((وَبِئْسَ الْمِهَادُ))، أي: الفراش.

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات)

تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات) قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران:198]. النزل: هو ما يهيأ للضيف من منزل وما يقدم له من إكرام. ((وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ)) يعني: مما يتقلب به الفجار من المتاع القليل الزائل، فخيرٌ للأبرار أن يشعروا بأن أعمال البر هي التي جلبت لهم هذا الخير. ورد في البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة له -أي: مكان عال- متكئ على حصير، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، وعند رجليه قرظ، وعند رأسه أهب معلقة، فرأيت أثر الحصير في جنبه، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله! فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها، لئن كان براً، لقد قال الله تعالى: ((وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ)). أي: إن كان من الأبرار وانتقل إلى الدار الآخرة، فما عند الله خير وأفضل للأبرار من الدنيا، ولكن إن كان كافراً أو فاجراً فكيف يكون الموت خيراً له؟! إنه إذا كان مصراً على كفره فكلما امتد أجله زادت جرائمه، وبالتالي زاد استحقاقه للعذاب؛ ولذلك قرأ ابن مسعود رضي الله عنه قوله تعالى: ({وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (ما من مؤمن إلا والموت خيرٌ له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ}، ويقول: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178])

تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله)

تفسير قوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله) قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199]. هذه جملة مستأنفة لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت من قتل الأنبياء، ومن نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) يعني: بعض أهل الكتاب ليسوا بنفس الصفة التي سبق ذكرها، بل منهم طائفة يؤمنون بالله حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة وهم خاشعون لله أي: مطيعون له، خاضعون متذللون بين يديه. ((لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً)) أي: لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هوداً أو نصارى. لا يكون الإنسان في خير إلا إذا أسلم، لا يتصور أن القرآن يمدح أناساً لا يستحقون، كما يفعل بعض المنافقين الذين يأتون بأمثال هذه الآيات لمداهنة الكفار فيقولون: القرآن يمدحهم بكذا، وهذا يصور أن القرآن فيه تناقض، إذ كيف تصفهم آيات بالكفر ثم تمدحهم؟! نقول: إن الذين يمدحهم القرآن هم الذين آمنوا منهم بنبيهم حين كان مبعوثاً إليهم، أو آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ممن أدركوا بعثته. وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم سدت جميع الطرق المؤدية إلى الجنة، ما عدا طريقاً واحداً على رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يدخل أحد الجنة إلا إذا اتبع طريقه وأسلم لله سبحانه وتعالى، يقول تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:52 - 54]، وقال تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]، وهذه هي الطائفة الناجية. وقال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113]، وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاً، تجد عدد اليهود الذين يسلمون دائماً قليلين بالنسبة إلى عدد النصارى، كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:82 - 85]، وهكذا قال هنا: ((أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)). ومعروف أن جعفر بن أبي طالب لما قرأ سورة مريم بحضرة النجاشي، وعنده البطارقة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وصلى عليه. فالمقصود من قوله تبارك وتعالى: ((وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ)) يعني: مسلمة أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا)) يعني: اصبروا على مشاق الطاعات، وما يمسكم من المكاره والشدائد. ((وصابروا)) أي: غالبوا أعداء الله بالصبر على شدائد الجهاد، لا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً. ذكر المصابرة بعد الصبر مما يدل على شدته وصعوبته. ((وَرَابِطُوا)) أي: أقيموا على المرابطة والغزو في سبيل الله، وذلك بالترصد والاستعداد لحرب الأعداء، وكذلك برباط الخيل كما قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]. والأصل في الربط أو الرباط هو أن يربط كل من الفريقين خيولهم في الثغور، وكل معد لصاحبه، ثم صار لزوم الثغر رباطاً، مثل المناطق الساحلية -مثلاً- التي يمكن أن يغزى المسلمون من خلالها، وربما سميت الخيل نفسها رباطاً. وقد وردت الأحاديث بالترغيب في الرباط في سبيل الله وذكر فضله وأجره، منها: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) أي: أن يقف في موقعه يحرس الثغر أو بلاد المسلمين. وقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذين كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)، يعني: أمن فتنة القبر وعذاب القبر، فأحد أسباب النجاة من فتنة القبر: هو أن يموت مرابطاً في سبيل الله تبارك وتعالى. ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل ميت يختم على عمله -أي: ينتهي عمله بموته- إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر). وقيل أيضاً: ((رابطوا)) يدخل في معناها انتظار الصلاة بعد الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط). عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (أقبل عليّ أبو هريرة رضي الله عنه يوماً فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا))؟ قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه؛ ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة) يعني: لم يكن هناك ثغور في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية، ولم تكن البلاد قد فتحت، حتى يرابطوا ويحرسوا هذه الثغور، ولكنها نزلت في قوم كانوا يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: ((اصبروا)) أي: على الصلوات الخمس، ((وصابروا)) أي: أنفسكم وهواكم، ((ورابطوا)) في مساجدكم ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) فيما عليكم، ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) أي: تفوزون. (ولعل) لتغييب المآل، لئلا يتكلوا على الآمال، أي حتى لا يقطع لهم بالفلاح فيتكلوا في هذه الحالة على مجرد الآمال.

فضل خواتيم سورة آل عمران

فضل خواتيم سورة آل عمران نختم الكلام في تفسير هذه السورة الكريمة بذكر بعض ما ورد من فضائلها: فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء، فقال: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ))، ثم قام فتوضأ واستن -يعني: تسوك- ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح) وهكذا رواه مسلم. ورواه البخاري بطريق أخرى: (حتى إذا انتصف الليل، أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري، قام فمر بي، فقال: من هذا عبد الله؟ قلت: نعم، قال: فمه؟ قلت: أمرني العباس أن أبيت بكم الليل، فقال: الحق، فلما دخل قال: افرش عبد الله، فأتى بوسادة من مسوح، قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه، ثم استوى على فراشه قاعداً، قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس، ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها) وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) إلى آخر السورة، ثم قال: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن بين يدي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعظم لي نوراً يوم القيامة).

النساء [1 - 4]

تفسير سورة النساء [1 - 4]

مقدمة في فضل سورة النساء ووقت نزولها وسبب تسميتها بالنساء

مقدمة في فضل سورة النساء ووقت نزولها وسبب تسميتها بالنساء نشرع بإذن الله في تفسير سورة النساء، وقد روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت سورة النساء بالمدينة)، وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت، وقد زعم النحاس أنها مكية، مستنداً إلى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، نزلت بمكة اتفاقاً في شأن مفتاح الكعبة، وهذا المستند واهٍ، يعني: الاستناد إلى أن هذه الآية نزلت في مكة غير صحيح، حتى لو صح أن هذه الآية نزلت بمكة؛ لأنه يمكن أن تكون السورة مدنية وتكون فيها آية أو آيتان أو أكثر نزلت في مكة، خصوصاً أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبل الهجرة فهو مكي، حتى لو كان هذا الذي نزل بعد الهجرة في خارج المدينة أو في مكة نفسها كهذه الآية. فحد المكي والمدني: أن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنياً بغض النظر عن مكانه، ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه، حيث تم فتح مكة في سنة ثمان من الهجرة، والقصة معروفة وسيأتي عليها الكلام إن شاء الله. ومما يرد عليه أيضاً ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم) ودخول النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها كان بعد الهجرة اتفاقاً، وقيل: نزلت عند الهجرة. وآياتها مائة وسبعون وخمس، وقيل: وسبع، كذا في الإتقان. وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، الآية الأولى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]. الآية الثانية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]. الثالثة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]. الرابعة: قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]). وروى عبد الرزاق عنه أيضاً قال: (خمس آيات من النساء لهن أحب إليّ من الدنيا جميعاً: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء:31] إلى آخر الآية، وقوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:110]). وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ثمان آيات نزلت في سورة النساء خيرٌ لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، أولهن: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]. الثانية: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. الثالثة: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28])، ثم ذكر قول ابن مسعود سواءً في الخمسة الباقية. وسميت هذه السورة سورة النساء؛ لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

حقيقة التقوى وموجباتها

حقيقة التقوى وموجباتها ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)) أي: اخشوا أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ثم نبههم على اصطفائه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى، يعني: ما صفات هذا الإله سبحانه وتعالى الذي أنتم مأمورون باتقائه، قال عز وجل: ((الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ))، يعني: فرعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم، وهذا مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على هذا كان قادراً على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم، فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته. كذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: ((الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) إلى آخر الآية، فإنها تعني: أنه سبحانه أهل لأن يتقى؛ لأنه هو الذي خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها إلى آخره. كذلك أيضاً: جعله تعالى إيانا صنواناً مفرعة من أرومة واحدة، أي: أن أصلنا واحد وهو آدم عليه السلام، فمن موجبات هذا أن نحترز عن الإخلال بما أمرنا بمراعاته فيما بيننا من حقوق الأخوة، ومن صلة الأرحام، فحق هذه الأخوة أن تراعى حقوقها، وحق هذه الأرحام أن توصل، كذلك رعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح، فهذه كلها من الحقوق التي تستوجبها هذه الرابطة التي تربطنا بني البشر بعضنا ببعض، سيما إذا وجدت معها الرابطة الإيمانية، ولو لم توجد الرابطة الإيمانية، فمعروف أن للأرحام حرمة، والعدل يكون محموداً مع كل الناس سواء اليتامى أو الزوجات. هذا كله مما يتفرع عن ثبوت هذه الرابطة النسبية في عودتنا جميعاً إلى أصل واحد وهو آدم عليه السلام، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار -أي: من عريهم وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} حتى ختم الآية، ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]، ثم حضهم على الصدقة، فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره)، إلى آخر الحديث. كذلك أيضاً صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في حديث خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولها بين يدي كلامه وخطبه وحاجته، كان يقرأ ثلاث آيات وهذه الآية منها: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) إلى آخر الآية. ((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) أي: من نفسها وهي حواء عليها السلام. لم يجعل الله سبحانه وتعالى الزوجات من خارج أنفسنا؛ لأن ذلك يتنافى مع ما يقتضيه الزواج من السكينة والمودة والرحمة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم:21] يعني: من جنس البشر، فالإنسي لا يتزوج بجنية والجني لا يتزوج بإنسية. ثم قال تعالى: ((وَبَثَّ مِنْهُمَا)) أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها عن طريق التوالد والتناسل: ((رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)) أي: كثيرة، هنا ترك التصريح بصيغة الكثرة في حق النساء للاكتفاء بالوصف المذكور؛ لأنها تفهم من السياق: وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء كثيرة.

صلة الأرحام حكمها وفضلها

صلة الأرحام حكمها وفضلها ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)) تكرار للأمر بالتقوى، وتذكير بشيء آخر من موجبات الامتثال له؛ فإن سؤال بعضهم بعضاً بالله تعالى من موجبات تقوى الله سبحانه وتعالى، أي: اتقوا الله الذي أنتم جميعاً تعرفون قدره وتعظمونه تبارك وتعالى، حيث أن بعضكم حينما يريد أن يستعطف البعض الآخر، فإنه يقول: أسألك بالله، أو أنشدك بالله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو أعظم شيء عند المؤمن؛ وذلك لأنكم تعظمون الله في أيمانكم هذه فينبغي أيضاً أن تتقوه. ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)) أصلها (تتساءلون) فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً. وقرئت بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس. وقرئ (تسألون به) يعني من الثلاثي يعني: (تسألون به غيركم) وقد فسر به القراءة الأولى والثانية. وحمل صيغة التفاعل (تساءلون به) على اعتبار الجمع، كما في قولك: إذا كنت وحيداً تقول: رأيت الهلال، أما إذا كنتم مجموعة فتقولون: تراءينا الهلال، لكن صيغة تراءى تفاعل، تكون في الجمع فكذلك هنا؛ لأنكم جميعاً تسألون الله فلذلك عبر بصيغة التفاعل (تساءلون به) أو (تتساءلون به). ((وَالأَرْحَامَ)) قرأها حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور (به) أي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ) أي: (الذي تتساءلون به وبالأرحام) لأن عادة العرب أنهم كانوا يناشدون بعضهم بعضاً بالله والرحم، يعني: وأسألك بالرحم. أما باقي القراء غير حمزة فإنهم قرءوها بالنصب عطفاً على لفظ الجلالة: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ))، يعني: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، قرن الله عز وجل صلة الرحم باسمه الجليل دلالة على خطورة وأهمية صلة الرحم، كما في قوله تعالى: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]؛ لأن الوالدين أقرب الرحم، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36]، وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني، قطعه الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع -يعني: قاطع رحم-). وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم، والترهيب من قطيعتها كثيرة.

حكم المسألة بالله تبارك وتعالى

حكم المسألة بالله تبارك وتعالى هذه الآية تدل على جواز المسألة بالله تبارك وتعالى، ووجه ذلك: أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)). أما من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله فهذا محظور قطعاً، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، على أحد التفسيرين. إذاً لا ينبغي امتهان اسم الله عز وجل بأن تدخله في كل صغيرة وكبيرة وفي الأمور الحقيرة، أو الأمور التي ليس فيها تعظيم، بل اجعل اسم الله والحلف باسم الله في الأمور العظيمة التي لها شأن. فهذا هو الذي يحمل عليه الحديث الوارد بلعن من سأل بوجه الله (ملعون من سأل بوجه الله). ومن الأدلة على جواز السؤال بالله قوله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) والشاهد هنا قوله: (من سألكم بالله فأعطوه) لذلك فإن المتسولين إذا عرفوا هذا الحكم ظفروا به، وقد يخشى أن يسيئوا استخدامه، فإنه إذا سألك السائل بوجه الله فيجب عليك قطعاً أن تعطيه، وأن تجيبه تعظيماً لاسم الله تبارك وتعالى: (من سألكم بالله فأعطوه) لا ترده بأي حال من الأحوال. وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه). وعن ابن عمر مرفوعاً والحديث ضعيف: (من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة). وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع وذكر منها: وإبرار القسم)، يعني: إذا أقسم عليك أخوك أن تبرئ قسمه. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة)، المقصود: من سأل بوجه الله في غير بر، أو وصولاً إلى مصالح دنيوية، أو كان ذلك على غير سبيل التعظيم والإجلال. روى الطبراني عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجراً) أي: ما لم يسأل أمراً قبيحاً لا يليق وهذا الحديث فيه كلام. وفي الحديث أيضاً: (شر الناس رجل سئل بوجه الله ولم يعط). قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))، أي: مراقباً لجميع أحوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] وكما قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]، وفي الحديث: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). يقول السيوطي رحمه الله: سورة النساء مدنية وآياتها مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) أي: أهل مكة. ((اتَّقُوا رَبَّكُمُ)) أي: عقابه بأن تطيعوه. ((الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) آدم. ((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) حواء، بالمد، خلقها من ضلع من أضلاعه -أي: أضلاع آدم- اليسرى. ((وَبَثَّ)) أي: فرق ونشر ((مِنْهُمَا)) أي: من آدم ومن حواء. ((رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)) كثيرة. (واتقوا الله الذي تسَّاءلون) -بتشديد السين- فيه إدغام التاء في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي: (تساءلون). (به) أي: فيما بينكم، حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله، وأنشدك بالله. ((وَالأَرْحَامَ)) (و): واتقوا (الأرحام) أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفاً على الضمير في (به) وكانوا يتناشدون بالرحم. ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) أي: حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها، أي: لم يزل متصفاً بذلك. (كان) في مثل هذا الموضع تفيد الاستمرار، ولا تفيد التعبير عن الماضي ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) أي: وما زال عليكم رقيباً.

تفسير قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)

تفسير قوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب) قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2].

حقوق اليتامى في الإسلام

حقوق اليتامى في الإسلام (وآتوا اليتامى أموالهم) هنا شرع في تفصيل موارد التقوى ومظانها بعد الأمر بها، وقد قدم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم، ولملابستهم بالأرحام، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء، وقلما تفوّض الوصايا إلى الأجانب، بل الغالب أن الأولياء الذين يلون شئون اليتامى بعد موت آبائهم إنما يكونون من الأقارب كعمه أو جده. واليتامى لو طبقت تعاليم الإسلام في حقهم، لكانوا أعظم أو أرقى أو أغنى أو أرفه طبقة في المجتمع، فالإنسان له أب واحد، أما اليتيم فمقتضى الشرع أن المسلمين جميعاً مسئولون عنه ويحسنون إليه، ويلون أمره، فكأن كل المسلمين حوله بدلاً عن أبيه، ومع ذلك نرى ما نراه في واقعنا الآن للأسف الشديد. إن الله سبحانه وتعالى كما تلاحظون هنا قرن الكلام في حقوق اليتامى بحقوق النساء، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة) يعني: أنتم في حرج إن ضيعتم حق هذين الضعيفين. فالخطاب هنا للأولياء.

تعريف اليتم لغة وشرعا

تعريف اليتم لغة وشرعاً اليتيم هو من مات أبوه، وهو من اليتم، ويعني: الانفراد؛ ولذلك يقولون (الدرة اليتيمة) أي: التي لا نظير لها، أو التي لا أخت لها. فاليتم لغة: الانفراد. أما من حيث الشرع فاليتيم هو: الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم، أما بعد الاحتلام فلا يعد يتيماً بعد احتلام، لكن هذا هو أصل الوضع اللغوي. والقياس الاشتقاقي يقتضي وقوعه على الصغار والكبار، وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم، كما روى أبو داود بإسناد حسن عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتم بعد احتلام).

الأوجه المستنبطة من قوله: (وآتوا اليتامى أموالهم)

الأوجه المستنبطة من قوله: (وآتوا اليتامى أموالهم) هذه الآية: ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)) فيها وجوه: الوجه الأول: أن المراد باليتامى: الكبار الذين ألفي منهم رشداً، هذه إحدى الصور التي يطلق عليها المجاز الذي هو باعتبار ما كان من قبل. إذا قلنا: إن اليتيم بالمعنى الشرعي هو: الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم؛ إذا بلغ الحلم يزول عنه وصف اليتم، فبناءً على هذا المذهب، فإن المقصود باليتامى هم الكبار؛ لأن الأموال تؤتى لليتامى إذا كبروا وبلغوا سن الرشد، ويكون البلوغ والرشد معاً. عبر هنا باليتامى باعتبار الصفة التي كانت من قبل، مع أنهم الآن ليسوا يتامى، وهذا مثل قوله تبارك وتعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:46]. والمقصود: الذين كانوا سحرة منذُ وقت قريب؛ لأنه لا سحر مع السجود لله، فهم قد تابوا من السحر {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] هذا باعتبار ما كان. فالإشارة هنا بقوله: (وآتوا اليتامى) إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم متى بلغوا وآنستم منهم رشداً. إذاً: الله سبحانه عبر عنهم بوصف اليتامى مع أنه قد زال عنهم هذا الوصف، فآثر هذا التعبير باعتبار أن العهد باليتم كان قريباً جداً. الوجه الثاني: ((وَآتُوا الْيَتَامَى)) أن المراد بهم: الكبار حقيقة، فتكون واردة على أصل اللغة، بمعنى أن اليتيم في اللغة: من مات أبوه وانفرد عنه، بغض النظر صغيراً كان أم كبيراً، وهذا الوجه مبني على أصل اللغة. الوجه الثالث: ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)) المقصود بهم: اليتامى الصغار، والمراد بالإيتاء هو ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة زمن الوصاية عليهم، وليس المقصود دفع المال كله إليهم، وهذا الوجه في التفسير بعيد. الوجه الرابع: (وآتوا اليتامى أموالهم) المقصود بهم اليتامى الصغار، والمعنى أن ينفقوا عليهم وألا يطمع في الأموال الأولياء والأوصياء، وأن يكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى إذا ما بلغوا ورشدوا تؤتى إليهم أموالهم كاملة غير منقوصة، هذا هو الوجه الرابع.

صور إتلاف مال اليتيم وأكلها وحكمها

صور إتلاف مال اليتيم وأكلها وحكمها قوله تعالى: ((وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)) أي: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم، وما أبيح لكم من المكاسب التي أحلها الله من الأبواب الطبية. عندكم فرص كثيرة استثمروا أموالكم أو ازرعوا أو اصنعوا أو اتجروا، ولا تضيقوا على أنفسكم بأن تعتدوا على أموال اليتامى التي هي خبيثة في حقكم وحرام عليكم وأنتم قادرون على الطيبة. ((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ))، نهي عن منكر آخر كانوا يتعاطونه، وهو أنهم كانوا يأكلونها مضمومة إلى أموالهم مخلوطة بها للتوسعة. في الصورة السابقة يعمد المرء إلى مال اليتيم ويستولي عليه ويأكله ظلماً. ((إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا))، (إنه) الهاء هنا تعود إلى أكل أموال اليتامى. ((كَانَ حُوبًا)) أي: ذنباً عظيماً ((كَبِيرًا)) مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور. قوله تعالى هنا: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} قال بعض العلماء: إن هذا العموم مخصوص بالوصي الفقير، فإذا كان الوصي يعمل في مال اليتيم فله أن يأخذ أجرة المثل، أو كان العامل فيه أجنبياً فله أن يعطيه من مال اليتيم أجرة المثل، وليس هذا من أكل مال اليتامى ظلماً؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6]. يقول السيوطي: عندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية؛ لأن الآية هنا في الغني، وذلك قوله تعالى: ((وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)) أي: أنهم ذوو أموال. يقول السيوطي: ((وَآتُوا الْيَتَامَى)) أي: الصغار أموالهم إذا بلغوا. ((وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ)) أي: الحرام ((بِالطَّيِّبِ)) أي: الحلال، لا تأخذوه بدله، كما تفعلون من أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه. ((وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)) أي: مضمومة إلى أموالكم. (إنه): أي: أصلها. (كان حوباً) أي: ذنباً. (كَبِيرًا) أي: عظيماً.

تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى)

تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء:3] (خفتم) بمعنى علمتم. وقال بعض العلماء: الخوف هنا معناه: الخشية. وإليك شاهد لغوي للمعنى الأول الذي هو بمعنى العلم، يقول أبو محجن الثقفي: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة يروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها فقوله: (أخاف) أي: أعلم. وهذا الشاهد اللغوي موجود في أضواء البيان. {أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] المقصود باليتامى هنا: يتامى النساء. قال الزمخشري ويقال للإناث: اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل: (أيامى) والأصل (أيائم) ويتائم. فحصل قلب فصارت يتامى. {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] أي: من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن والعقل والصلاح منهن. ((مَا طَابَ لَكُمْ))، عبر هنا بـ (ما) التي هي لغير العاقل؛ لأنه يجوز التعبير بـ (ما) عن العاقل إذا أريد بها الصفة، تقول: ما زيد؟ يعني: هل هو رجل فاضل؟ هل هو رجل كريم أم بخيل؟ فإذا كان الكلام لبيان الصفة، فيجوز استعمال (ما) للعاقل كما في قوله: (فانكحوا ما طاب لكم) المقصود هنا أن (ما) صفة. هذه الآية دليل على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، إذ كانت هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى تطيب له إذا رآها. كذلك يستفاد هذا المعنى من آية أخرى في القرآن الكريم وهي قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52]، وهذا لا يكون إلا بعد النظر. وهناك إشارة ضمنية في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] (من) هنا تبعيضية؛ لأن هناك بعض الحالات يجوز فيها إطلاق البصر كحالة إرادة الزواج. {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] أي: إن خفتم يا أولياء اليتامى ألا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق، فانكحوا غيرهن من الغريبات، فإنهن كثيرات، ولم يضيق الله عليكم. هذه الآية جاءت للتحذير من التورط في الجور عليهن، والأمر هنا في قوله: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)) سوى اليتامى. ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)) أي: اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، ففي غير يتامى النساء متسع إلى الأربع. روى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق -يعني: نخلة- وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3]، أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله). وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها: (هي اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثلما يعطيها غيره، فنهو عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن). قال عروة: قالت عائشة: (وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال قالت عائشة: فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كنّ قليلات المال والجمال). روى أبو داود رحمه الله تعالى عن ربيعة في قوله تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا))، قال: أي اتركوهن إن خفتم ألا تقسطوا فقد أحللت لكم أربعاً. قوله تعالى: (ما طاب لكم) (ما) موصولة، وجاء بـ (ما) مكان (من)؛ لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر، يعني: أحياناً قد يعبر عن العاقل بـ (ما) كما يعبر عنه بـ (من) كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5]، والمعنى: (ومن بناها) وقوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3]، وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] هنا التعبير عن غير العاقل، لكن عبر عنه بـ (من) لأنهما يتعاقبان. قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصات العقول. إن في إيثار الأمر بنكاح غير اليتامى من النساء عن نكاح اليتامى مزيد لطف في استنزالهم لذلك؛ لأن الآية لو قالت: (لا تنكحوا اليتامى) كان فيها نهي، فالنفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه. ولذلك فهذه الآية قد حفت بالمرغبات لهن في غير اليتامى، حيث وصف النساء عدا اليتامى بقوله: (ما طاب) وهذا كما قلنا: فيه نوع من الحث والترغيب والاستمالة بعيداً عن اليتامى؛ حتى لا تظلمونهن. اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، بمعنى أنه يجوز لمن لم يخف عدم القسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.

حكم الزواج بأكثر من أربع

حكم الزواج بأكثر من أربع نذكر باختصار كلام الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) يقول الشوكاني: إن الاستدلال بقوله: ((مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ))، على تحريم الزيادة على الرابعة في النساء هذا غير صحيح من حيث اللغة، لكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفي وحديث نوفل بن معاوية، هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وإن كان في كل واحد من هذه الأحاديث التي وردت في شأن بعض الصحابة الذين كان تحتهم أكثر من أربع نسوة مقال. لكن أصح ما ينبغي الاعتماد عليه، في هذا الباب هو انعقاد الإجماع على تحريم نكاح ما فوق الأربع من النساء. فقد يقول بعض الناس: كيف الإجماع مع أن الآية عامة: ((فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ))، بعض الناس قالوا: (مثنى وثلاث) تجمع على خمسة وزيادة (ورباع) المجموع تسع نساء، فأجازوا نكاح التسع، ولنا في رسول الله أسوة حسنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبض عن تسع نسوة. وقال بعضهم (مثنى) أي: ثنتين ثنتين، (وثلاث) أي: ثلاث ثلاث، (ورباع) أي: أربع أربع والمجموع ثمانية عشر. فإذا كانت الآية عامة، فهل الإجماع ينتسخ؟ الإجماع لا يَنسخ ولا يُنسخ، لكن الإجماع يكشف عن وقوع الدليل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع إنما يتم بناء على دليل، حتى ولو لم نقف على عين الدليل. إذاً أقوى ما يستدل به هنا هو الإجماع، يقول الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: إجماع الأمة على تحريم ما زاد على الأربع نسوة قبل ظهور المخالف الضال، ويرمي بذلك بعض الظاهرية؛ لأنهم هم الذين انحرفوا وشذوا عن هذا الإجماع، فالإجماع انعقد قبل ظهور داود الظاهري وابن حزم وغيرهما. والإجماع هو ممن يعتد به من أهل العلم، ويريدون بكلمة: (يعتد به) الاحتراز عمن يخالفون الإجماع خاصة الظاهرية؛ لأنهم بإنكارهم القياس يصيرون ممن لا يحتج بكلامهم إذا خالفوا، وعلى أي الأحوال هناك من قال: إن النقل عن الظاهرية لم يصح. قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:3]، إن خفتم أن لا تعدلوا بين الأربع النسوة {فَوَاحِدَةً} [النساء:3]، وفي قراءة (فواحدةٌ) بالضم. أي: فحسبكم واحدة.

حكم التسري بأكثر من واحدة والعدل بينهن

حكم التسري بأكثر من واحدة والعدل بينهن {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] أي: من الإماء، بالغة ما بلغت من مراتب العدد؛ لأنه لا يجب لهن من الحقوق مثلما يجب للحرائر، ولا قسم لهن. (أو) المقصود بها التسوية والتخيير. قال الزمخشري: سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة، وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغباً وأخف مؤنة من المهائر -يعني: من الحرائر-، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، عزلت عنهن أم لم تعزل. {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] أي: الاقتصار على واحدة، أو على نكاح الإماء بالتسري، (أدنى) أي: أقرب (أن لا تعولوا) أي: ذلك أقرب ألا تميلوا، ولا تجوروا لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول، يعني: لو كانت حرة واحدة أصالة زال احتمال الجور، وانتفاء خطره في الثاني إذا نكحتم الإماء، في هذه الحالة ينتفي الخطر بخلاف اختلاف العدد في المهائر؛ لأن التعدد في الحرائر فيه الميل المحظور متوقع لتحقق أمرين: تحقق المحل، وتحقق الخطر، لتحقق المحل أم لمجرد التعدد في الحرائر، يصبح هو نفسه محل لهذه المخالفة التي هي عدم العدل، لكن إذا كانت واحدة فذلك يكون أدنى وأقرب ألا يقع في الجور والظلم والميل عن الحق، وهذا هو اختيار أكثر المفسرين {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3]. (تعولوا) من عال يعول إذا جار وعدل عن الحق. ومن الوجوه المحتملة فيه: كونه مضارعاً، بمعنى: عال فلاناً عولاً وعيالةً أي: كثر عياله كأعول وأعيل، وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايمي في تفسيره حيث قال: أي: ذلك أقرب من ألا تكثر عيالكم، فيمكن معه القناعة، بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى. تدل هذه الآية على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح، كأن يخشى الإنسان من نفسه أن يقع فيما لا يجوز فينبغي أن يسد الذرائع، مثل: أن الإنسان لا يأمن نفسه إذا التقط اللقطة أن يطمع فيها ولا يحفظها لصاحبها ولا يعرفها، ففي هذه الحالة يحرم عليه أن يلتقط اللقطة، كذلك هنا إذا خشي مع تعدد الزوجات أن يقع في الجور والظلم ففي هذه الحالة ينبغي له أن يكف عن الزواج بأكثر من واحدة، كذلك لا يجوز لمن عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها فإنه لا يجوز له قبول الوديعة. هناك إشكال وإجمال في مسألة الربط بين قوله تبارك وتعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}. وهذه الآية التي بعدها مباشرة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3]. وهو أن قوله تعالى: ((ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)) أي: أدنى ألا تكثر عيالكم فتفتقروا وتضطروا إلى الجور في مال اليتيم الذي أنتم أوصياء عليه، في هذه الصورة يظهر لنا وجه الربط بين هذه الآية والتي قبلها.

تفسير قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة)

تفسير قوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) قال تبارك وتعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]. (وآتوا النساء صدقاتهن) أي: أعطوا النساء مهورهن، جمع صدقة، أو صدُقة، والصدُقة هي: أحد أسماء المهر، فقد سمي أسماء كثيرة منها: (النحلة) أو (صدُقة) أو (مهر) أو (أجر). والمقصود بقوله: (نحلة) أي: عطاء غير مسترد بحيلة تدفعهن إلى الرد. والنحلة أو النُّحلة -بالكسر أو بالضم- اسم مصدر لـ (نَحلَ). والنُّحل: هو العطاء بلا عوض، والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة على الأزواج؛ لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وتطييب الخاطر. وهذا الخطاب في هذه الآية: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، إما للأزواج، وإما لأولياء النساء. القول الأول: أن الخطاب للأزواج؛ لأن فيما قبله خطاباً للأزواج (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ثم قال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، فمقتضى السياق أن يكون الخطاب هنا للأزواج. والقول الآخر: في قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) أن الأمر هنا موجه إلى أولياء النساء؛ لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً؛ ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك الناتجة، ومعناه: أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك، فتنتج مالك ويكثر. وقال ابن الأعرابي: الناتجة: ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته، فنهى الله تعالى عن ذلك، وأمر بدفع الحق إلى أهله؛ ولذلك المهر هو من حق المرأة، ولا يجوز التصرف فيه إلا بإذن منها، سواء من وليها أو من أقاربها. للأسف الشديد يوجد هذا الوضع في بعض البلاد إذا تزوجت المرأة فإنها توزع على العائلة كلها، على الخال والعم والأب والإخوة، هذا الوضع للأسف الشديد موجود، فهنا يأمر الله تبارك وتعالى الأولياء ألا يأخذوا أبداً من مال المرأة أو مهرها شيئاً، بل يمكنوها منه وهي حرة التصرف فيه. {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]. (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) الهاء هنا تعود على (صدقاتهن)، أي: فإن أحللن لكم من المهر شيئاً بطيبة نفس؛ جلباً لمودتكم لا لحياء عرض لهن منكم أو من غيركم، ولا لاضطرارهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم، وسوء معاشرتكم.

حكم إسقاط المهر ابتداء

حكم إسقاط المهر ابتداءً لا يجوز إسقاط المهر ابتداءً بأي حال، ولا يصح أن يعقد على امرأة ويتفق مع وليها على إلغاء شيء من المهر أو كله، بل المهر لا بد منه في النكاح. قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} أي: فخذوه وتصرفوا فيه كأنكم تملكونه، وتخصيص الأكل بالذكر؛ لأن الأكل هو معظم وجوه التصرفات المالية. ((هَنِيئًا مَرِيئًا)) صفتان: من هنأ الطعام ومرأ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه. وقيل الهنيء: هو ما أتاك بلا مشقة ولا تبعة، والمريء: هو حميد المغبة، وهما عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة؛ لأنهن كالرجال في الصدقات والتبرعات.

ثمرات الآية الكريمة

ثمرات الآية الكريمة لهذه الآية ثمرات منها: أنه لا بد في النكاح من صداق؛ وذلك لقوله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}. ومنها: أنه حق واجب للمرأة كسائر الديون. ومنها: أن لها أن تتصرف فيه متى شاءت، ولم تفصل الآية بين أن تقبضه أو لا. ومنها: أنه يسقط عن الزوج بإسقاطها له، بشرط أن تطيب به نفساً. وقد رأى شريح إقالتها إذا رجعت واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ} ويقول: إن المرأة إذا وهبت زوجها من المهر شيئاً ثم أرادت أن تسترده فللقاضي أن يحكم بإرجاعه إليها. قالوا: إن هذه أمارة على أنها حينما أخرجته أخرجته عن غير طيب نفس منها؛ لأن هناك شبهة أن تكون أعطت برغبة أو بغير رغبة لم يتحقق الشرط فيه.

النساء [12 - 21]

تفسير سورة النساء [12 - 21]

تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم)

تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) انتهينا إلى تفسير الربع الأخير من هذا الحزب، والذي يبدأ بقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12].

نصيب كل من الزوج والزوجة من بعضهما مع وجود الأولاد وعدمهم

نصيب كل من الزوج والزوجة من بعضهما مع وجود الأولاد وعدمهم قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) يعني: من المال. (إن لم يكن لهن ولد) يعني: ذكر أو أنثى منكم أو من غيركم، فكلمة (ولد) هنا تشمل الولد منكم أو من أزواج آخرين غيركم، سواء كان هؤلاء الأولاد ذكوراً أم إناثاً. (فإن كان لهن ولد) يعني: على هذا النحو الذي فصلناه {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}، أي: من المال، والباقي لباقي الورثة. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، أي: من بعد استخراج وصيتهن، ومن بعد قضاء دينهن. {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، يعني: من المال. {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ}، ذكر أو أنثى منهن أو من غيرهن. {فإن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ))، على النحو الذي فصلنا سابقاً. أي: ذكر أو أنثى، {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، يعني: هذا نوع من الحجب، وهو حجب نقصان، لا حجب إسقاط. {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}، وفي إعادة ذكر الوصية والدين دليل على الاعتناء بشأنهما ما لا يخفى، أي: تعظيم لشأن الوصية والدين، وقد سألنا من قبل: أيهما يكون مقدماً على الآخر الدين أم الوصية؟ فقلنا: يقدم الدين، لكن الله سبحانه وتعالى هنا قدم ذكر الوصية على الدين؛ للتنبيه إلى عظم شأنها والاهتمام بها. وفي الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء، فإذا تأملتم في الآية فستجدون أن الله سبحانه وتعالى ذكر الرجال على سبيل المخاطبة، وذكر النساء على سبيل المغايبة، انظر إلى قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ}، فخاطب الرجال بضمير المخاطبة، وقال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فقال: ((فلكم الربع)). أما النساء فخاطبهن بقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}، إلى آخر الآية {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فكان الخطاب للنساء بضمير الغائب. يقول القاسمي: في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء؛ لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة، وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة، وأيضاً خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات، وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك، وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء كما فضلوا عليهن في النصيب.

حقيقة الكلالة ومن يرثه ومقدار إرث كل واحد منهم

حقيقة الكلالة ومن يرثه ومقدار إرث كل واحد منهم ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ}، يعني: إن كان الرجل يورث كلالة أو امرأة تورث كلالة كذلك. {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا}، أي: هؤلاء الإخوة والأخوات من أم {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ}، يعني: أكثر من واحد {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}، شركاء في الثلث يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم، وقلنا: إن هذه حالة من الحالات التي يستوي فيها الذكر مع الأنثى. والكلالة: من لا ولد له ولا والد، أي: لا أصل له ولا فرع، الأصل كالأب، والفرع كالأبناء، أو من تكلل نسبه بنسبك كابن العم وشبهه. والكلالة في الأصل مصدر، كل الميت يكل كلاً وكلالة، يعني: فهو كلّ إذا لم يخلف ولداً ولا والداً يرثانه، وأصل كلمة كلالة أنها مصدر، ثم قد تقع الكلالة على العين دون الحدث فتكون اسماً للميت الموروث، وإن كانت في الأصل اسماً للحدث على حد قولهم: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11]، وما المقصود من: (هذا خلق الله)؟ أي: هذا مخلوق الله، وجاز أن تكون اسماً للوارث على حد قولهم: رجل عدل، أي: عادل، ورجل كلالة يعني: يرث كلالة، وماء غور أي: غائر. فالكلالة هو: الذي لم يخلف ولداً ولا والداً. ((وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً))، ذكر الله سبحانه وتعالى الكلالة في موضعين في سورة النساء: أولهما هذه الآية: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ}، والموضع الثاني: في آخر سورة النساء في قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] إلى آخر الآية، فجعل الكلالة هنا الأخت للأب والأم، والأخ للأب والأم. وعن الشعبي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: (إني قد رأيت في الكلالة رأياً، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه: أن الكلالة ما خلا الولد والوالد). واتفق العلماء على أن المراد من قوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}، أن المقصود به الأخ والأخت من الأم، وهذا باتفاق العلماء، (وإن كان رجل يورث كلالة وله أخ) من الأم. ((أَوْ أُخْتٌ))، من الأم. قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الإخوة هاهنا هم الإخوة لأم. قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا؛ لأن هذا المذكور في الآية باتفاق العلماء يخالف ميراث المذكورين هنا. يعني: أن الأخ لأم أو الأخت لأم يخالف نصيبهما نصيب الإخوة للأبوين أو الإخوة لأب. فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176]، هم الإخوة لأبوين أو لأب.

تفسير قوله تعالى: (تلك حدود الله)

تفسير قوله تعالى: (تلك حدود الله) قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء:13]، أي: تلك الأحكام محدودة لا تجوز مجاوزتها. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، يعني: في قسمة المواريث وغيرها. {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: تجري الأنهار من تحت أشجارها ومساكنها. {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: لا يموتون ولا يخرجون. {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}، أي: النعم الوافرة في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله) قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:14]، في قسمة المواريث وغيرها. {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ}، يعني: بتجاوز أحكامه وفرائضه في الميل والجور. {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}؛ لكونه غيَّر ما حكم الله به، وضاد الله في حكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم، وقد روى أبو داود في باب الإضرار في الوصية من سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية، فتجب لهما النار، وقرأ أبو هريرة قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء:11]، حتى بلغ {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ})، ورواه الإمام أحمد بسياق أتم ولفظه: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة، قال: ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ}، إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ}). ثم بين تعالى بعضاً من الأحكام المتعلقة بالنساء إثر بيانه لأحكام المواريث، وكما تعلمون فإن هذه السورة من الطوال حملت اسم النساء لتضمنها الكثير من تفاصيل أحكام النساء، فبعدما فصل الله سبحانه وتعالى أحكام المواريث، ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالنساء.

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم وله عذاب مهين)

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم وله عذاب مهين) أولاً نعود لكلام السيوطي يقول رحمه الله تعالى: ((وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ))، منكم أو من غيركم. ((فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ))، وألحق بالولد في ذلك ولد الابن بالإجماع. (ولهن) يعني: الزوجات تعددن أو لا. ((وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ))، منهن أو من غيرهن. ((فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ))، وولد الابن في ذلك كالولد إجماعاً. ((وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً)) (يورث) هذه الجملة في محل رفع صفة لرجل، والخبر أي: وخبر كان هو كلمة (كلالة). (وإن كان رجل يورث كلالة) يعني: إن كان رجل كلالة، وهذا الرجل صفته أنه يورث. ولم نقل: إن الجملة حال؛ لأن الرجل نكرة. (كلالة) مصدر كل، كل يعني: لا والد له ولا ولد. (أو امرأة) يعني: تورث كلالة لا ولد لها ولا والد. (وله) أي: للمورث كلالة سواء كان رجلاً أو أي شخص يورث كلالة. (وله أخ أو أخت) أي: من أم وقرأ ابن مسعود وغيره هذه القراءة، مثل هذه القراءة تسمى: قراءة تفسيرية، يعني: أن الصحابي عندما يقرأ الآية يزيد فيها كلمة من عنده لتفسير المعنى، وليس هذا إضافة للقرآن، لكن هذه القراءة تسمى: قراءة تفسيرية، فكذلك هنا ابن مسعود لما قرأ هذه الآية قرأها قراءة تفسير وبيان لمعناها فقال: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ}، من أم. (فلكل واحد منهما السدس) يعني: مما ترك. (فإن كانوا) أي: الإخوة والأخوات من الأم (أكثر من ذلك) يعني: أكثر من واحد، (فهم شركاء في الثلث) وكلمة (شركاء) هنا بمعنى أنه يستوي في ذلك ذكرهم وأنثاهم، فهذا من المواضع التي يستوي فيه الذكور والإناث. ((مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ))، حال من ضمير يوصى، أي: غير مدخلٍ الضرر على الورثة بأن يوصي المورث بأكثر من الثلث. والإضرار كما ذكرنا من قبل له صور كثيرة منها: الإضرار في الوصية؛ وذلك بأن يوصي أكثر من الثلث حتى يقلل نصيب الورثة من ميراثه. قوله: ((وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ))، فهذا مصدر مؤكد ليوصيكم، بمعنى: يوصيكم وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ))، أي: بما دبره لخلقه من الفرائض. ((حَلِيمٌ)) [النساء:12]، أي: بتأخير العقوبة عمن خالفه. وخصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رق. يعني: هذه موانع الإرث، فإذا وجد مانع منها فإن السنة هنا تخصص عموم القرآن، بمعنى: أن الولد يرث أباه، أو أي شخص يرث من مورثه، فإذا اختلفا في الدين فإنه يمنع من الإرث. كذلك شخص قتل مورثه ليتعجل وراثته، فهذا يعاقب بنقيض قصده؛ لأن القاعدة تقول: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. فكذلك إذا قام الوارث وقتل مورثه؛ ليتعجل ميراثه فالشرع هنا يعاقبه بالحرمان من الإرث منه، وهذا من حكمة الشارع؛ لأن هذا يسد باب اتخاذ ذلك القتل ذريعة للحصول على هذا الميراث؛ لأنه إذا علم أنه سيحرم لن يعمد إلى إراقة دمه، فإذاً السنة خصت توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل، أو اختلاف دين؛ لأنه (لا يتوارث أهل ملتين شتى) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، أو رق فلا يرث من فيه مانع من موانع الميراث الثلاثة هذه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم)، وهذا متفق عليه. (تلك حدود الله) أي: تلك الأحكام المذكورة من أمر اليتامى وما بعده حدود الله وشرائعه التي حدها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها. (ومن يطع الله ورسوله) بما حكما به. (يدخله) أو (ندخله) بالياء والنون التفاتاً. (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم). (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله) أو ندخله (ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) يعني: له فيها عذاب مهين ذو إهانة، وروعي في الضمائر في الآيتين لفظ (من)، وروعي في (خالدين) معناها.

تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة)

تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة) قال تبارك وتعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15].

حكم من أتت الفاحشة أول الإسلام قبل الجلد والرجم

حكم من أتت الفاحشة أول الإسلام قبل الجلد والرجم (واللاتي يأتين الفاحشة) أي: الخصلة البليغة في القبح وهي الزنا. (من نسائكم) يعني: حال كونهن من نسائكم. (فاستشهدوا عليهن) يعني: اطلبوا من القاذفين لهن بالفاحشة (أربعة منكم) يعني: من المسلمين، اطلبوا شهادة أربعة ممن قذفوهم أو قذفوهن. (فإن شهدوا) يعني: إن شهدوا عليهن بالفاحشة. (فأمسكوهن في البيوت) أي: احبسوهن فيها، ولا تمكنوهن من الخروج؛ صيانة لهن عن التعرض لسبب الفاحشة، وصيانة للمجتمع من شرهن، فهؤلاء يمسكن في البيوت. (حتى يتوفاهن الموت) أي: يستوفي الموت أرواحهن، وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيتها أو وتوفيها. أو (حتى يتوفاهن الموت) يعني: ملائكة الموت، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]. (أو يجعل الله لهن سبيلاً) أي: يشرع لهن حكماً خاصاً بهن، وفسرت (أو) بـ إلى أن يشرع لهن حكماً آخر، (فأمسكهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت) يعني: إلى أن يتوفاهن الموت، وقد مر بنا في تفسير مثل هذا المعنى، في آية سابقة في سورة آل عمران، حيث كانت كلمة (أو) بمعنى: إلى أن. وهي قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران:128]، ليس لك من الأمر شيء إلى أن يتوب الله عليهم، فكلمة (أو) هنا أتت بمعنى: إلى أن. فكذلك هنا (فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن) يعني: هذه الغاية، إلى أن يتوفاهن الموت (أو يجعل الله لهن سبيلا) أي: إلى أن يشرع لهن حكماً خاصاً بهن، يعني: يطبق عليهن حكم الحبس في البيوت إلى أن يشرع الله لهن حكماً خاصاً بهن.

حقيقة السبيل في قوله: أو يجعل الله لهن سبيلا

حقيقة السبيل في قوله: أو يجعل الله لهن سبيلاً قوله: (سبيلاً) أي: الطريقة المسلوكة. وقد بينت السنة أن الله تعالى أنجز وعده وجعل لهن سبيلاً، وهذه الآية من الآيات المهمة جداً في إثبات أن السنة فيها قسم يختص ببيان ما في القرآن، بل يستقل بأحكام غير موجودة في القرآن، وذلك فيما رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أنزل الوحي كرب له وتربد وجهه، وإذا سري عنه قال: خذوا عني خذوا عني) يعني: ثلاث مرات، ففي هذه المرة قال بعدما سري عنه قال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة والرجم، والبكر جلد مائة ونفي سنة). وهذا مذهب الإمام أحمد أن الثيب بالثيب، والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة والرجم، والبكر جلد مائة ونفي سنة. وكذا رواه أبو داود الطيالسي ولفظه عن عبادة رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك فيه، فلما نزلت قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} وارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة). إذاً هذا هو المقصود بقوله: (أو يجعل الله لهن سبيلاً).

تفسير قوله تعالى: (واللذان يأتيانها منكم)

تفسير قوله تعالى: (واللذان يأتيانها منكم) قال تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16].

حكم من أتى الفاحشة من الرجال أول الإسلام قبل الجلد والرجم

حكم من أتى الفاحشة من الرجال أول الإسلام قبل الجلد والرجم (واللذان) بتخفيف النون وتشديدها (واللذانِّ). (يأتيانها) أي: الفاحشة. (منكم) أي من الرجال. (فآذوهما) بالسب والتعيير؛ ليندما على ما فعلا. (فإن تابا وأصلحا) أي: أصلحا أعمالهما. (فأعرضوا عنهما) بقطع الأذية والتوبيخ لهما، فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب. (إن الله كان تواباً) يعني: على من تاب. (رحيماً) أي: واسع الرحمة، وهو تعيين للأمر بالإعراض. وكما هو معلوم أن هذا الحكم في الآيتين بعضه منسوخ بالكتاب وبعضه منسوخ بالسنة. يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين؛ لحديث عبادة بن الصامت. ثم قال: فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين. ثم قال: لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، أول ما نزل فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين، فلما رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً ولم يجلده، وأمر أنيساً أن يغدو إلى امرأة الأسلمي فإن اعترفت رجمها، دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين، وثبت الرجم عليهما. خلاصة الكلام: أن جلد مائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، والرجم ثابت على الثيبين الحرين.

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة إن الله كان توابا رحيما)

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة إن الله كان تواباً رحيماً) يقول السيوطي في الآيات السابقة (واللاتي يأتين الفاحشة) أي: الزنا. (من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) أي: من رجالكم المسلمين. (فإن شهدوا) عليهن بها. (فأمسكوهن) احبسوهن. (في البيوت) وامنعوهن من مخالطة الناس. (حتى يتوفاهن الموت) أي: ملائكة الموت. (أو) بمعنى: إلى أن. (يجعل الله لهن سبيلاً) طريقاً إلى الخروج منها، أمروا بذلك أول الإسلام ثم جعل لهم سبيلاً بجلد البكر مائة وتغريبها عاماً، ورجم المحصنة، وفي الحديث لما بين الحد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب ترجم، والبكر تجلد)، وهذا رواه مسلم. (واللذان) بتخفيف النون وتشديدها. (يأتيانها) أي: الفاحشة من الزنا أو اللواط. (منكم) أي: من الرجال. (فآذوهما) بالسب والضرب بالنعال. (فإن تابا) أي: منها. (وأصلحا) أي: العمل. (فأعرضوا عنهما) ولا تؤذوهما. (إن الله كان تواباً) على من تاب. هذا أمر مهم جداً، انظر إلى دقة التفسير، تواباً على من تاب، وإنما أُخذ هذا من الآية التي بعدها: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، فالتوبة على من تاب وقال: يا ألله! تاب الله عليه. (رحيماً) به، وهذا منسوخ بالحد إن أريد به الزنا، وكذا إن أريد به اللواط عند الشافعي.

تفسير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة)

تفسير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) يقول تبارك وتعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17].

عدم إطلاق قبول التوبة في قوله: فإن تابا وأصلحا

عدم إطلاق قبول التوبة في قوله: فإن تابا وأصلحا (إنما التوبة على الله) هنا استئناف لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه، كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً، قد يفهم شخص من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} في خاتمة الآية السابقة أن الله تعالى تواب على الإطلاق لكل من عصى، فجاءت هذه الآية لتبين أن هذا الإطلاق مقيد بما سينطق به النص الكريم، ولذلك قدرها وحصرها بكلمة: (إنما) وهي مسوقة لبيان الاستئناف أو لرفع هذا الإيهام الذي قد يتوهمه البعض من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} فاستأنف قائلاً: (إنما التوبة) لأن التوبة فقط لهؤلاء المذكورين في الآية. فقبول التوبة من الله ليس على إطلاقه كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً، بل هو مقيد بما سيأتي بعد كلمة (إنما) بما سينطق بها النص الكريم. (إنما التوبة) (التوبة) مبتدأ، وجملة: (للذين يعملون السوء) هذا هو الخبر.

معنى: (التوبة على الله) في الآية

معنى: (التوبة على الله) في الآية قوله: (إنما التوبة على الله) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، ومعنى كون التوبة عليه سبحانه في قوله: (إنما التوبة على الله) أي: إنما التوبة التي يقبلها الله. كلمة: (على) للدلالة على التحقق لحكم سبق الوعد، حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه وتعالى.

المقصود بالجهل في الآية

المقصود بالجهل في الآية قوله: (إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة) السوء هو المعصية صغيرة كانت أو كبيرة. (بجهالة) يعني: يعملون السوء متلبسين بالجهالة، يعني: وهم جهلاء سفهاء، والباء للسببية، يعني: بسبب الجهالة، والمراد بالجهل: السفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، فالجهالة هنا ليس المقصود بها عدم العلم، وإنما المقصود الجهل العملي، فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة، لكن المقصود هنا بالجهل: السفه، وذلك بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، كذلك الجهل بهذا المعنى الذي هو الجهل العملي السلوكي حقيقة واردة في كلام العرب، كقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا يعني: نعاقبه ونهلكه بما هو أعظم من جهله، وكان صلى الله عليه وسلم يقول إذا خرج من بيته: (اللهم إني أعوذ بك أن أجهل أو يجهل علي).

معنى قوله: (ثم يتوبون من قريب)

معنى قوله: (ثم يتوبون من قريب) (ثم يتوبون من قريب) يعني: من زمان قريب، وظاهر الآية اشتراك وقوع التوبة عقب المعصية بلا تراخ، يعني: أن التوبة من أي معصية واجبة على الفور لا على التراخي. وهذا ما عبر عنه ابن القيم في كتابه الرائع (مدارج السالكين) الجزء الأول حينما قال: تأخير التوبة أو تسويف التوبة ذنب يجب التوبة منه. تأخير التوبة في حد ذاته ذنب، يجب التوبة منه على الفور، فكذلك هنا قوله: (ثم يتوبون من قريب) يعني: يجب أن يسارع إلى التوبة مباشرة بعد المعصية، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده. فإذا كانت التوبة من زمان قريب فهي بذلك تنال درجة قبولها المحتم تفضلاً، إذ بتأخير التوبة وتسويفها يدخل في زمرة المصرين. فيكون في الآية إرشاد إلى المبادرة بالتوبة عقب الذنب، والإنابة إلى المولى بعده فوراً. ووجوب التوبة على الفور مما لا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من صميم الإيمان، وهو واجب على الفور، أما ما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: (من قريب) يعني: ما قبل حضور الموت فهو بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه. فهنا القاسمي رحمه الله تعالى يذهب إلى مرجوحية القول بأن قوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} يعني: من زمن قريب من زمن المعصية، يعني: أنه يبادر فوراً إلى التوبة؛ لأنه إذا سوف التوبة وأخرها فهذا معناه أنه داخل في زمرة الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون. يقول: إنما ذكره كثير من المفسرين من أن المراد من قوله تعالى: (من قريب) ما قبل حضور الموت فهو بعيد من لفظ الآية وسرها التي أرشدت إليه، وإنما تعني: المبادرة إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عياذاً بالله تعالى، لكن هل المعنى الآخر هو أن التوبة تقبل ما لم يغرغر العبد؟ هل هذا المعنى صحيح أم غير صحيح؟ قطعاً هو صحيح، لكن نقول: لا يصح الاستدلال بهذه الآية على قبول التوبة قبل حضور الأجل وبالحديث الذي فيه: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) الحديث دليل واضح في المسألة، وكذلك بهذه الآية التي تلي السابقة مباشرة وهي قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]. قلنا: يستفاد من الآية السابقة، ومن الأحاديث الوافرة في ذلك، لا من قوله تعالى: (من قريب)؛ وذلك لأن الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}، صريحة بأن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراءه في حيز القبول، كل ما قبل حضور الموت داخل في حيز قبول التوبة، أما إذا حضر الموت فليست هناك توبة؛ فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: (من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه قال أيوب فقلت له: إنما قال عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، فقال: إنما أحدثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم). وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، أجل التوبة في عمر الدنيا كلها تنتهي بطلوع الشمس من مغربها، {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، يغلق باب التوبة إذا طلعت الشمس من مغربها، فهذا في حق عمر الدنيا كلها، أما في حق عمر كل إنسان فالتوبة تقبل ما لم يغرغر، وهي واجبة عليه بمجرد الوقوع في المعصية، لا يجوز له تأخيرها وتسويفها؛ لأن تسويفها ذنب جديد، بل يجب المبادرة إلى التوبة. وروى الحاكم مرفوعاً: (من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه). وروى ابن ماجة عن ابن مسعود بإسناد حسن: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له). (فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي: يقبل توبتهم. (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).

تفسير قوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات)

تفسير قوله تعالى: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}، يعني: عند النزع. {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ}، قال ذلك عند مشاهدة ما هو فيه، حينما تنكشف الحجب، ويرى الملائكة، وتحضر الغرغرة، ففي هذه الحالة يقول: إني تبت الآن لا ينفعه ذلك ولا يقبل منه. قوله: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} أي: لا تقبل توبة الذين يموتون وهم كفار، فلا ينفعهم ندمهم ولا توبتهم؛ لأنهم بمجرد الموت يعاينون العذاب، ولهذا قال تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18]، يعني: أعددنا لهم عذاباً مؤلماً. في هذه الآية دليل على أن الذي يموت على الكبائر وهو مصر عليها ولم يتب أنه غير كافر، وأنه يكون تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له. والدليل كما قلنا في قوله تعالى: {وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161]، فدل على أنهم ليسوا بكفار، خلافاً للخوارج -ومن قال بقولهم- الذين يقولون: إن الإنسان إذا مات على كبيرة ولم يتب منها فهو كافر مخلد في جهنم، أما هذه الآية فتنفي التوبة عنه، لكن لا تثبت له وصف الكفر كما قال في شأن الكافرين: ((وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ)).

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله أعتدنا لهم عذابا أليما)

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (إنما التوبة على الله أعتدنا لهم عذاباً أليماً) يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله: (إنما التوبة على الله) أي: كتب على نفسه قبولها بفضله. (للذين يعملون السوء) أي: المعصية. (بجهالة) يعني: حال كونهم جاهلين إذا عصوا ربهم. (ثم يتوبون من قريب) أي: من زمن قريب قبل أن يغرغروا. هنا السيوطي نحا منحى عامة المفسرين في تفسير ثم يتوبون من قريب وقد ذكرنا ما فيه. (فأولئك يتوب الله عليهم) يعني: يقبل توبتهم. (وكان الله عليماً) أي: بخلقه. (حكيماً) في صنعه بهم. (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) يعني: الذنوب. (حتى إذا حضر أحدهم الموت) يعني: أخذ في النزع. (قال) عند مشاهدة ما هو فيه. (إني تبت الآن) فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه. (ولا الذين يموتون وهم كفار) إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب لا تقبل منهم. (أولئك أعتدنا) أي: أعددنا. (لهم عذاباً أليماً) أي: مؤلماً.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) شرع تبارك وتعالى في بيان جملة أخرى من أحكام النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء:19]، نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم.

حال المرأة القريبة والمتوفى عنها زوجها في الجاهلية

حال المرأة القريبة والمتوفى عنها زوجها في الجاهلية روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا إذا مات الرجل -هذا كان في شأن أهل الجاهلية- كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، يمسكها أهل الرجل). حتى ابنه يمكن أن يتزوجها، فكانوا أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الرجل كان يرث امرأته لقرابته فيعضلها حتى تموت). يعضلها يعني: يمنعها من الزواج حتى تموت، أو ترد إليه صداقها، فنهى الله عن ذلك. قال السيوطي: ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد، ولا يجري مجرى الأموال بوجه. لأن هناك فرقاً بين المرأة الحرة وبين المال، فالمرأة ليست مالاً موروثاً يرثه أقرباء الميت كما يرثون المال، كما كان يفعل أهل الجاهلية، وإنما لا يجوز بحال استعباد الحر أو تملكه أو دخوله تحت اليد كما يفعل بالأموال. قوله تعالى: ((لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا))، (كرهاً) بفتح الكاف وضمها كَرهاً أو كُرها، قراءتان، والمقصود هنا لا يحل لكم أن ترثوا النساء حال كونهن كارهات لذلك، أو مكرهات على ذلك، والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه، يعني: التقييد بالكره لا يدل أنها عند حالة الرضا يكون ذلك جائزاً؛ لأن تخصيص الشيء للذكر لا يدل على نفي ما عداه، بل يجري هذا مجرى الغالب، ويخرج مخرج الغالب كما في قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31]، فالتقييد بخشية الإملاق هنا لا يدل على جواز قتل الأولاد عند عدم الإملاق.

سبب نزول قوله تعالى: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء)

سبب نزول قوله تعالى: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن هذه الآية في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به) أي: أنه يؤذيها ويضايقها ويحرج عليها ويستفزها، حتى تطلب هي الإبراء أو تطلب الخلع، فتتنازل له عن صداقها. هو الذي كرهها وهو الذي لا يرغب في بقائها زوجة له أو الاستمرار معها، فبدل من أن يطلقها بالحسنى وبالمعروف، فإذا به يلجأ إلى هذه الحيلة اللئيمة، بأن يضيق عليها ويؤذيها حتى تطلب هي الطلاق، فانظر كيف يقول الله تعالى ((لا يَحِلُّ لَكُمْ)) ثم عطف على ذلك بقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، وللأسف الشديد نرى الآن كثيراً من الناس يتفننون في أذية المرأة، مثل هذه الحال هو يكرهها ولا يريد صحبتها، وفي نفس الوقت يريد ألا يعطيها حقها من الصداق أو مؤخر الصداق، فيستفزها ويضيق عليها من أجل أن تفتدي نفسها، وتطلب هي الطلاق مقابل التنازل عن المهر، فهذا يفعله من لا يتقون الله، ومن لا يخافون حساب الله، ولا يرجون لله وقاراً، فكون هذا الفعل يصدر من مسلم فهذه ليست أخلاق المسلمين، هذا العضل وهذه الأذية مما أنزل الله سبحانه وتعالى تحريمه صراحة في القرآن كما ترون. يقول ابن عباس: (إن هذه الآية في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به) والعضل هو: الحبس والتضييق. (ولا تضاروهن) يعني: ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن. (لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن) يعني: من الصداق، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن.

جواز مضايقة المرأة المرتكبة للفاحشة

جواز مضايقة المرأة المرتكبة للفاحشة (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) يعني: زنا، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين، في هذه الحالة إذا ارتكبت الفاحشة يجوز له أن يضيق عليها كي تقتدي وتختلع. يعني: إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها، وتضيق عليها حتى تتركه لك، كما قال تعالى في سورة البقرة: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]، وقال ابن عباس: (الفاحشة المبينة: النشوز والعصيان). واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله؛ الزنا والعصيان والنشوز وبذاءة اللسان وغير ذلك، يعني: أن هذا كله يبيح مضايقتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها. وقال ابن كثير: وهذا جيد والله تعالى أعلم.

حقوق صحبة الزوج مع زوجته ومعنى المعاشرة بالمعروف

حقوق صحبة الزوج مع زوجته ومعنى المعاشرة بالمعروف بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، في الحقيقة إن الآية الواحدة من سورة النساء مثل هذه الآية قد تستغرق حتى نحاول أن نوفيها بعضاً من حقها شهوراً كاملة، لكن التزامنا بالاختصار حتى نقطع الورد المطلوب أسبوعياً هو الذي يجعلنا نضطر إلى الإيجاز أحياناً، فمثل هذه الآية {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وغيرها من آيات الأحكام لا تكاد تنحصر معانيها، وتستغرق عمراً طويلاً إذا أردنا أن نستوفي ما فيها من المعاني. قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: صاحبوهن بالمعروف، يعني: الإنصاف في الفعل والإجمال في القول. حتى لا تكونوا سبب الزنا بتركهن، أو سبب النشوز، أو سوء الخلق فلا يحل لكم حينئذ. يقول السيوطي. في الآية: وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم واللين في القول، وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب. (وعاشرهن بالمعروف) فالحقوق التي تجب طبقاً لهذه الآية حقوق كثيرة جداً مادية وأدبية، استدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها، فيجب على الزوج أن يأتي لها بخادمة تخدمها؛ لأن هذا من المعاشرة بالمعروف. {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]، يعني: إن كرهتم الصحبة معهن. {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، كلمة (عسى) في القرآن واجبة، يعني: وعد منجز من الله سبحانه وتعالى، والمقصود من الآية: أن اصبروا عليهن وأمسكوهن لعل الله سبحانه وتعالى يجعل فيهن خيراً كثيراً، بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً يكون فيه خير كثير، وبأن تنالوا الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن على خلاف الطبع؛ لأن هذا يكون من المجاهدة التي تثابون عليها. قال إلكيا الهراسي: في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس. حتى لو كان إبقاء المرأة والإمساك عليها مخالف لهواه، فإن التقي يمسكها ويعاملها بالمعروف، وهذا ومن المروءة، وفي الآية دليل على أن الطلاق مكروه، ونحن لا نستدل بالحديث الضعيف المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، لكن نستدل على كراهة الطلاق بقوله تعالى هنا: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، في هذه الآية دلالة على كراهة الطلاق. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)، الفرك: هو البغض من كل وجه، يعني: تبغضه من كل وجه بحيث لا ترى فيه حسنة. فيبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الزوج المؤمن لا يفرك زوجته المؤمنة؛ لأن الرجل المؤمن فيه الوقار والعقل الكامل والعدل والرزانة بحيث أنه يزن الأمور ويحسن تقديرها، فإنه إذا أبغض يكون معتدلاً في بغضه، فيحكم العقل والمروءة وقبل ذلك الشرع، فلا يبغضها من كل وجه، وإنما إذا كره منها خلقاً سرعان ما يتذكر أن لها خلقاً آخر يرضاه ويحبه، فهو يزن الأمور، لذلك لا يبغض المؤمن بغضاً من كل وجه، بخلاف المرأة فإنها إذا أبغضت تنسى كل ما مضى؛ لأنها لا تزن الأمور كما يفعل الرجال، هذا في الغالب إلا من رحم الله، وفي ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، فإن رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط)، فهذه طبيعة عموم النساء إلا من رحم الله، أنها إذا أبغضت فإنها تكفر بالعشير، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بكفران العشير، أي: كفران نعمة الزوج أو فضل الزوج عليها، فتنسى كل ما مضى بمجرد أن تغضب أو تنفعل، بخلاف الرجل فهو يعلم أن العوج الذي في المرأة هو عوج فطري ليس عوجاً متكلفاً، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وكسر المرأة طلاقها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وهي على هذا العوج)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن يزن الأمور بهذه الطريقة بحيث يعلم أن العوج الذي في المرأة ليس من تكلفها، بل قسم كبير جداً منه يكون فطرياً جبلت عليه، فينبغي الصبر عليها، وعلى العموم في ضوء هذا الكلام ينبغي أن لا يغضب النساء من هذا؛ لأن هذا فيه عذر لهن، وتخفيف من وقوع الحرج عليهن، على أي الأحوال هذا هو الفرق بين الرجل والمرأة في البغض. ذكر الفعل الأول قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}، كان يمكن في غير القرآن الكريم الاستغناء عن هذا الفعل كأن يقال: فإن كرهتموهن فعسى أن يكون فيهن خير كثير، وحصر عليه هذا الحكم في الفعل الثاني الذي هو ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا))، لماذا؟ للتوصل إلى تعميم مفعوله، فكرر فعلين، يعني: إذا قال: فإن كرهتموهن فعسى أن يجعل الله فيهن خيراً كثيراً. فتكون هنا الكراهة تتعلق بالمرأة فقط التي يبغضها، لكن كرر الفعل فقال: ((فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ))، ثم قال: ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا))، يدل على عموم هذه القاعدة: أن الأمر ليس فقط مختصاً بكراهية الزوجات، ولكن المقصود به في عامة أحوالك وفي كل شئونك، هذه سنة من الله سبحانه وتعالى (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، كما نلاحظ عامة الناس يستدلون بها في كل مناسبة ولا يحصرونها في شأن النساء. يقول أبو السعود: ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه وحصر العلية في الثاني للتوصل إلى تعميم مفعوله؛ ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروه، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق حسب اقتضاء الحكمة، وإنما نحن في جزء من جزئياتها الذي هو أمر النساء، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ما لا يخفى، يعني: لو لم يكرر الفعل لم تأت كلمة: (شيئاً)، ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا))، فصارت فيها عموم لكل الأحوال. في الحقيقة يذكر هنا تنبيهاً جليلاً في الوصية بالنساء والإحسان إليهن، نحاول أن نقتصر منه على ما نستطيع يقول: كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة وهي قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. قال ابن كثير: أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله، يعني: من صور المعروف هنا طيب الأقوال والألفاظ، وحسن الأفعال، والتزين بأن يلبس ما تستحسنه بحسب القدرة، فإن هذا من المعاشرة بالمعروف. يقول تبارك وتعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]، وهي درجة القوامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي). وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم -عوان يعني: أسيرات- ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً)، بعض الناس يفهمون هذا الأمر فهماً خاطئاً، ويطبقونه تطبيقاً خاطئاً، ويجهلون أن ضرب النساء مكروه، وهو إنما يباح بشروطه وضوابطه.

بعض آداب عشرة النساء

بعض آداب عشرة النساء قال الغزالي في الإحياء: الأدب الثاني: حسن الخلق معهن، واحتمال الأذى منهن ترحماً عليهن؛ لقصور عقلهن قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقال في تعظيم حقهن: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21]، (ميثاقاً غليظاً) لبيان حرمة هذه المعاشرة، وقال: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]، قيل: هي المرأة. ثم قال الغزالي رحمه الله تعالى: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، يعني: أن تحتمل الأذى الذي يصدر منها، والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أزواجه يراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل. وراجعت امرأة عمر عمر رضي الله تعالى عنه فقال: (أتراجعيني؟! فقالت: إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه وهو خير منك). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة (إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك)، صلى الله عليه وسلم. ثم قال الغزالي رحمه الله تعالى: الأدب الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن، وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال، حتى روي: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسابق عائشة في العدو، فسبقته يوماً، وسبقها في بعض الأيام، فقال صلى الله عليه وسلم: هذه بتلك). وقالت عائشة رضي الله عنها: (سمعت أصوات أناس من الحبشة وهم يلعبون في يوم عيد، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحبين أن تري لعبهم؟! قالت: قلت: نعم فأرسل إليهم فجاءوا، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البابين فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه، وجعلوا يلعبون وأنا أنظر، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حسبك؟ وأقول: لا، لا تعجل مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: يا عائشة حسبك؟ فقلت: نعم). وفي رواية للبخاري قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو). وفي بعض الروايات بينت أنها ما كانت تقصد فقط أن ترى لعب الحبشة، لكنها أرادت أن تنظر النساء وتعلم الأخريات قدرها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عمر رضي الله عنه: (ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجدوه رجلاً). وقال صلى الله عليه وسلم لـ جابر: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)، وهذا رواه الشيخان. ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله لقد كان ضحوكاً إذا ولج، سكوتاً إذا خرج، آكلاً ما وجد، غير سائل عما فقد.

تفسير قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج)

تفسير قوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) لقد نهى تبارك وتعالى عن أخذ شيء من صداق النساء ممن أراد فراقهن، نهى الذي يريد فراق امرأة أن يأخذ منها شيئاً من صداقها، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20]. (وإن أردتم استبدال زوج) أي: إن أردتم تزوج امرأة ترغبون فيها. (مكان زوج) ترغبون عنها، بأن تطلق زوجتك وتتزوج أخرى مكانها. وكلمة: (زوج) هنا المقصود بها الزوجات يعني: هي هنا مفرد لكن المقصود بها الجمع، ولذلك قال بعدها: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) أي: مالاً كثيراً مهراً. (فلا تأخذوا منه شيئاً) يعني: لا تأخذوا منه شيئاً يسيراً فضلاً عن الكثير، فإذا نهى عن القليل فهو يشمل بالأولى الكثير. (أتأخذونه بهتاناً) يعني: باطلاً. (وإثماً مبيناً) أي: بيناً، والاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: أتأخذونه باهتين وآثمين؟!

تفسير قوله تعالى: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض

تفسير قوله تعالى: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] في الآية إنكار لأخذه إثر إنكار على سبيل التعجب، أي: بأي وجه تستحلون المهر. (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) أي: وصل بعضكم إلى بعض فأخذ عوضه. (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) أي: عهداً وثيقاً مؤكداً، هذا كله مزيد تأكيد، يعسر معه نقظه كالثوب الغليظ يعسر ويصعب جداً أن تشقه، فكذلك هنا الله سبحانه وتعالى يشير إلى أن العهد الوثيق الغليظ المؤكد هو الذي أخذه النساء من الرجال. قال الزمخشري: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة. ووصفه بالغلظ؛ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، بمعنى: أنك إذا صحبت قوماً عشرين يوماً فقد صارت لهذه الصحبة حرمة، ألسنا نسمع العوام يقولون: عيش وملح؟ وهذا الكلام كله في حق شخص سافر مع واحد في قطار ساعات أو أياماً، فكيف بما يكون بين الزوجين فهو أعظم حرمة من هذا الذي تعارف الناس على احترامه والوفاء بحقه؟! فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟! وقال الشهاب الخفاجي: قلت: بل قالوا: صحبة يوم نسب قريب، وذمة يعرفها اللبيب. صحبة يوم واحد نسب قريب تجعل لهذا الذي صحبته يوماً حرمة عندك، وذمة يعرفها اللبيب، يعني: حسن العهد من الإيمان. فهذا المعنى ينبغي أن يحيا وأن يجدد في قلوب الناس، وإلا فقد صرنا في هذه الأزمان نرى من التنكر للأخوة ولهذه الصحبة، وصار منتشراً الآن في أخلاق الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى، فالمؤمن يكون حسن العهد يراعي حرمة ما مضى. والسياق هنا في شأن النساء. قوله: (وكيف تأخذونه) يعني: كيف بك بين يوم وليلة إذا حصل بينك وبينها نزاع أو تريد أن تطلقها وتتزوج غيرها، وتقلب لها ظهر المجن وتنقلب رأساً على عقب بعدما كان لها هذه الحرمة وهذه الصحبة وهذه الحقوق وهذا العهد الغليظ الذي أخذه الله سبحانه وتعالى عليك؟! ثم بعد ذلك تنقلب إلى شخص لا ينظر إلا نظرة مادية يريد أن يستحوذ على حق هذه المرأة، وأن يأخذ من مالها الكثير؟ يقول تعالى: ((وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا))، يعني: وكنتم آتيتم إحداهن قنطاراً، يعني: مالاً كثيراً ومهراً (فلا تأخذوا منه شيئاً) هذا هو أول نهي وتنفير (شيئاً) يعني: ولو يسيراً فما بالك بالكثير؟! ثم يقول ثانياً: (أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبينا) يعني أتأخذونه آثمين باهتين ظالمين مبطلين؟ ثم مزيد من التعجب والاستغراب لهذا التطرف قوله تعالى: ((وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ)) يعني: وأنتم بينكم من الحرمة ما ليس له نظير. {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} يعني: ما يكون بين الزوجين من علاقة لا يمكن أن توجد بين شخصين آخرين. (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) فهذا مما يوجب مزيداً من الحرمة. (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) الميثاق الغليظ هو العهد الوثيق المؤكد، الذي يعسر نقضه كالثوب الغليظ يعسر شقه، أو هو التأكيد الذي أتاكم في القرآن الكريم وفي السنة إثر التأكيد بالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، فإن كنت ستمسكها فبمعروف، وإن كنت ستطلقها فبإحسان. لا ترتكب الفجور في الخصومة بأن تنقلب إلى إنسان مادي لا يبحث إلا عن المال حتى ولو تعدى حدود الله. وقيل: إن الميثاق الغليظ هو قول الولي عند العقد: أنكحتك على ما في كتاب الله من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

حكم المغالاة في المهور وآثاره

حكم المغالاة في المهور وآثاره قوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطاراً) فيها دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك. كما روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء السلمي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (ألا لا تغلوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدق امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليبتلى بصداق امرأته). وقال: (إن الرجل ليغلي بصداق امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه)، قد يشق عليه الولي ويغالي في المهر حتى يذوق الويل من أجل جمع هذا المهر العسير، الذي كلف بأن يجمعه إلى أن يكون هذا المهر سبباً في وجود عداوة بينه وبين زوجته. ثم ذكر القاسمي رحمه الله تعالى قصة المرأة التي راجعت عمر في ذلك إلى آخره، وهذه القصة لا تصح سنداً والله تعالى أعلم. رغم إباحة الإكثار من المهر كما في هذه الآية {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} يعني: مالاً وفيراً مهراً صداقاً، لكن ورد ما يفيد الندب إلى تخفيف المهر وكراهة المغالاة فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير الصداق أيسره)، وذكر اليسير من المال هنا: (فلا تأخذوا منه شيئاً) تنبيه بالأعلى على الأدنى، خص تعالى ذكر من أتى القنطار من المال بالنهي، وذلك تنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال منهياً عن أخذ الشيء اليسير الحقير منها على هذا الوجه. يعني: إذا كان الذي دفع قنطاراً منهياً عن أن يأخذ منه شيئاً يسيراً، فالذي دفع شيئاً حقيراً هو أولى أن لا يطلب منها شيئاً على الإطلاق.

معنى الإفضاء في الآية وما يستقر به المهر

معنى الإفضاء في الآية وما يستقر به المهر (وآتيتم إحداهن) معناها: وكنتم من قبل قد آتيتم إحداهن، إذ إرادة الاستبدال في ظاهر الأمر واقعة بعد إيفاء المال وبعد استقرار الزوجية. وقد اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة، ومنشأ ذلك أن (أفضى) في قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} يجوز حملها على الجماع كناية جرياً على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيا من ذكره، والخلوة لا يستحيا من ذكرها، فلا تحتاج إلى كناية، ويجوز إبقاؤها على ظاهرها. على أي الأحوال هذا فيه بحث طويل يتعلق بمعنى الإفضاء هنا، يعني: هل هو مجرد الخلوة أم أن المقصود به الوطء؟!

وجه الاستدلال بالآية في منع الخلع والأقوال في ذلك

وجه الاستدلال بالآية في منع الخلع والأقوال في ذلك قوله: ((وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)) بعض العلماء استدل بها على منع الخلع مطلقاً، وقالوا: إن هذه الآية ناسخة لآية البقرة التي تبيح الاختلاع. وقال غيرهم: بل إن هذه الآية منسوخة بآية البقرة. القول الثالث: لا ناسخ ولا منسوخ، بل إن هذه الآية تحرم أخذ الشيء من مال المرأة بدون طيب نفس منها، وآية البقرة تبيح أن تفتدي بأن يأخذ من مهر المرأة أو صداقها ما تطيب بها نفسها فلا تعارض إذاً بين الآيتين. والله تعالى قال في سورة البقرة: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، هذا صريح في أن الزوجة إذا كرهت خُلُقَ زوجها أو خَلْقَهُ أو نقص دينه أو خافت إثماً بترك حقه أبيح لها أن تفتدي منه، وحل له أخذ الفدية منها؛ لقوله تعالى: ((وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ))، يجوز في هذه الحالة أن تفتدي وتبرئه. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ)) أي: ذاتهن ((كَرْهًا)) بالفتح والضم لغتان وقراءتان، كانوا في الجاهلية يرثون نساء أقربائهم، فإن شاءوا تزوجوهن بلا صداق أو زوجوهن وأخذوا صداقهن، أو عضلوهن، يعني: منعوهن من الزواج حتى يفتدين بما ورثنه أو يمتن فيرثوهن، فنهوا عن ذلك. ((وَلا تَعْضُلُوهُنَّ)) يعني: ولا أن تعضلوهن أي: تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهن، ولا رغبة لكم فيهن وإنما تمسكوهن ضراراً. ((لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)) يعني: من المهر. ((إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)) الفاحشة المبينة: هي الزنا، أو نشوز فلكم في هذه الحالة أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن. ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) أي: بالإجمال في القول، والنفقة، والمبيت. ((فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ)) فاصبروا. ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)) ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً. ((وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ)) أي: أخذ بدلها بأن طلقتموها. ((وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ)) يعني: وقد آتيتم إحداهن أي: الزوجات. (قنطارا)

النساء [24 - 30]

تفسير سورة النساء [24 - 30]

تفسير قوله تعالى: (والمحصنات من النساء)

تفسير قوله تعالى: (والمحصنات من النساء) قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24]. قال الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى آخر الآية، ثم أضاف تبارك وتعالى إلى هؤلاء اللائي حرمن ممن ذكر، قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ)) يعني: وحرمت عليكم أيضاً المحصنات من النساء. والمحصنات تأتي بعدة معانٍ في القرآن الكريم، فتأتي بمعنى المتزوجات، كما في هذه الآية، وتأتي بمعنى العفائف، وتأتي بمعنى الحرائر. ومعلوم أن الأصل في الفروج هو التحريم، وليس الإباحة، ولذلك نعجب كثيراً حينما نلاحظ بعض الإخوة يتساءل مثلاً يقول: هل أخو الزوج يعتبر أجنبياً على زوجة أخيه؟ نعم، يعتبر أخو الزوج أجنبياً على زوجة أخيه. كذلك يحرم عليه أن يجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. والعبرة في الحكم على امرأة بالمحرمية، هو أن تحرم عليه على التأبيد، أما التحريم المؤقت فكل النساء حرام على الرجل إلا زوجته وما ملكت يمينه، كما سيأتي. فالأصل في الفروج التحريم، فالمرأة التي تمشي في الشارع هذه محرمة، وزوجة الجار محرمة، وهكذا. يقول تعالى هنا: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: حرمت عليكم أيضاً المحصنات، وهي في غير هذا الموضع تقرأ: المحصِنات أو المحصَنات، أما في هذا الموضع فباتفاق القراء لا تقرأ إلا بالفتح، ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج أو المزوجات، حرائر كن أو إماء، مسلمات أو غير مسلمات. الحكمة من هذا التحريم هو حفظ الأنساب، فإذا لم تراع هذه الحدود فإنه ستختلط الأنساب وتضيع. ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، يعني: ذوات الأزواج من النساء، وقد حرم عليكم أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن، يعني: ما دامت هي في عصمة رجل آخر، فكي لا يختلط النسب يحرم عليكم أن تتزوجوهن إلا بعد أن يتوفى زوجها أو بعد أن يفارقها بالطلاق.

معنى قوله تعالى: (إلا ما ملكت أيمانكم)

معنى قوله تعالى: (إلا ما ملكت أيمانكم) قوله: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نفهمها فهماً صحيحاً، ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، لابد أن نقول: إلا من النساء اللائي سبين في الحرب ولهن أزواج. فقوله: (إلا ما ملكت أيمانكم) ليست على إطلاقها، وليس المقصود هنا إلا من سبين ولهن أزواج، ولذلك قال السيوطي هنا: ((إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، من الإماء بالسبي، يعني: ملكتموهن بالسبي، فلكم وطؤهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب، لكن بعد الاستبراء، يعني: بعد تبين براءة رحمها من الحمل وذلك بحيضة. والسبب في هذا التقدير الذي ذكرناه أن الآية تتكلم على المحصنات، وهن ذوات الأزواج، فذوات الأزواج كما ذكرنا مسلمات أو غير مسلمات، حرائر أو إماء لا يجوز نكاحهن، فالكلام هنا في ذوات الأزواج من النساء اللائي سبين في الحرب فصرن ملك يمين لكم، فهؤلاء يجوز لكم أن تتزوجوهن، حتى ولو كن ذوات أزواج في دار الحرب. لكن بشرط استبراء الرحم بأن تحيض حيضة فيستبين براءة رحمها من الحمل.

معنى قوله: (كتاب الله عليكم)

معنى قوله: (كتاب الله عليكم) قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24]، هنا نصب على المصدر، يعني: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، فكتاب الله هو مصدر مؤكد. (كتاب الله عليكم) يعني: كتب الله عليكم تحريم هؤلاء كتاباً وفرضه فرضاً فالزموه ولا تخرجوا عن حدوده وشرعه. {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، وأحل لكم قراءتان: إما بالبناء للفاعل أو بالبناء للمفعول، يعني: (وأُحل لكم) والقراءة الأخرى: (وأَحَلَّ لكم ما رواء ذلكم) يعني: وأحل لكم الله سبحانه وتعالى ما وراء ذلكم سوى ما حرم عليكم من النساء المحرمات المعدودات في هذه الآية.

معنى قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وما يستثنى من ذلك

معنى قوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وما يستثنى من ذلك قوله: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: أحل لكم سوى من ذكرنا من النساء غير الأم والبنت والأخت وهكذا، إلى هذه الآية: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، ما سوى هؤلاء المذكورات في الآيتين فهن حلال لكم. ولا شك أن (ما) في هذه الآية تفيد العموم، لكن هذا العموم مخصوص بما استثناه الشرع، كالجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، كما صح ذلك في السنة. أما الجمع بين الأختين فقد ورد التحريم لذلك في القرآن كما في قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]، هذه في القرآن. إذاً: عموم قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)) مخصوص بمحرمات أُخر دلت عليها دلائل أخر، فمن ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وإن كان بعض المفسرين ذهب إلى أن العمة والخالة داخلة في قوله تبارك وتعالى: ((وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ)). لكن على كل حال فقد صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، فلا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وبين عمتها، ولا بين المرأة وبين خالتها، وقد حكى الترمذي المنع من ذلك عن كافة أهل العلم، وقال: لا نعلم بينهم اختلافاً في ذلك. ومن هذا التخصيص لهذا العموم: نكاح المعتدة، هذه المرأة التي تكون في العدة يحرم نكاحها أثناء العدة. كذلك أيضاً: القادر على الحرة لا يجوز له أن يتزوج الأمة كما سيأتي إن شاء الله، فالقادر على التزوج من حرة لا يجوز له أن يتزوج أمة. من ذلك أيضاً: الرجل الذي عنده أربع زوجات لا يحل له الخامسة وذلك بالإجماع، فهذا أيضاً تخصيص لهذا العموم. من ذلك أيضاً: الملاعنة، ونوع تحريم الملاعنة مؤبد، يعني: الرجل إذا لاعن امرأته وحصلت الملاعنة من الطرفين كما في سورة النور، في هذه الحالة بمجرد وقوع الملاعنة تحرم عليه إلى الأبد. والدليل على ذلك هو من السنة، لكن هل هناك دليل من القرآن الكريم؟ نعم، بل جملة من الأدلة من القرآن الكريم التي تدل على حجية سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في التشريع. هذا فيما يتعلق بالعموم في قوله تعالى: ((وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ))، يعني: من النساء المحرمات المعدودات، وهذا عموم خصصته السنة كما بيناه.

معنى قوله: (أن تبتغوا بأموالكم)

معنى قوله: (أن تبتغوا بأموالكم) قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا)) أي: أن تطلبوا النساء. ((بِأَمْوَالِكُمْ))، أي: بصداق أو ثمن، ((مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)). قوله تعالى: ((أَنْ تَبْتَغُوا))، (أن) بدل من (ما). وهذا قول من الأقوال الصحيحة. هناك قول آخر: أنه مفعول لأجله، (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا) يعني: أحل لكم إرادة أن تبتغوا، أي: تطلبوا النساء. قوله تعالى: (بِأَمْوَالِكُمْ) يعني: أن تطلبوا ما رواء هؤلاء المحرمات من النساء تزوجهن ببذل الأموال وبصرفها في مهورهن بالصداق.

معنى الإحصان والمسافحة

معنى الإحصان والمسافحة قوله: (مُحْصِنِينَ) يعني: متزوجين. إعراب (محصنين) حال من فاعل (تبتغوا) يعني: حال كونكم محصنين. والإحصان: هو العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم. قوله: ((غَيْرَ مُسَافِحِينَ))، المقصود: غير زانين. والسفاح: هو الزنا والفجور، وهو مشتق من السفح وهو الصب؛ لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة، وكان أهل الجاهلية إذا خطب الرجل المرأة قال: أنكحيني، فإن أراد الزنا قال: سافحيني، والمسافحة: أن تقيم امرأة مع رجل على الفجور من غير تزويج صحيح.

حكم تعجيل المهر وتأجيله والإسقاط منه قبل فرضه وبعده

حكم تعجيل المهر وتأجيله والإسقاط منه قبل فرضه وبعده ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ))، يعني: فما تمتعتم به منهن ممن تزوجتم بالوطء. ((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: مهورهن التي فرضتم لهن. ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم أنتم وهن به من بعد الفريضة، يعني: من الحط منه إذا حصل بعدما أثبتم المهر، حصل أن رجلاً أعسر أو المرأة أرادت أن تسامحه في المهر كله، برضا نفس لا بأس، أو بأن تحط عنه بعضه فلا بأس، أو بالزيادة عليه فلا بأس. لكن هل يجوز ابتداءً الاتفاق على إسقاط المهر؟ لا يجوز بحال أن يتم زواج بدون مهر، لكن يمكن بعدما يستقر المهر في ذمته أن تحط عنه كله أو بعضه برضاها. قد يحصل أن يتزوج بدون أن يحدد مهراً، وهو جائز، لكن يجب عليه المهر بعد العقد، لكن هناك فرق بين من يتزوج ولا يحدد المهر، وبين من يتزوج ويتفق على إسقاط المهر قبل الزواج، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال باتفاق العلماء، لكن يمكن أن يتزوج ويبقى المهر إما مؤجلاً، أو معجلاً بعضه ومؤجلاً بعضه إلى آخره، فإن فرضتم المهر ورضيت المرأة وطابت عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً كما جاء في الآيات الأخرى مثل قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، كذلك هو مثل قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237]. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:24]، (عليماً) أي: بخلقه، (حكيماً) أي: فيما دبره لهم. وقبل أن نتجاوز قوله تعالى: ((وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ))، قلنا: إنها تقرأ أحياناً بالفتح، وأحياناً بالكسر، لكن هنا في هذه الآية بالذات لا تقرأ إلا بالفتح باتفاق القراء، فإذا قرئت بالفتح فتكون هذه مشتقة من أحصَن، ومحصن مشتقة من أحصن، يعني: من الفعل المبني للمعلوم يشتق اسم الفاعل، أحصَن فهو محصن يعني: أحصن نفسه، أو محصَن فهو أحصن، يعني: أحصنه غيره. أما القراءة بالكسر: (وَالْمُحْصْنَاتُ) فتكون مشتقة من أحصنَّ، يعني: أحصن فروجهن أو أحصن أزواجهن، واشتقاق الكلمة من الإحصان الذي هو المنع.

حكم نكاح المتعة ووجه الاستدلال بالآية

حكم نكاح المتعة ووجه الاستدلال بالآية قبل أن أتجاوز هذه الآية فيها كلام مفصل وكلام كثير يتعلق بكلام بعض المفسرين حيث فسر قوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) بأنها نزلت في نكاح المتعة. فقوله تعالى: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) أي: من اللائي تزوجتموهن. ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) معنى ذلك: أن المهر يلزم الرجل ويتأكد في حقه بدخوله بالزوجة. فقوله: ((فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ)) قالوا: إن هذه إشارة إلى نكاح المتعة. ((فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً))، يعني: الأجر الذي يبذله لها. ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ))، يعني: إن انتهى أجل هذا النكاح؛ لأن نكاح المتعة يكون مؤجلاً، فإذا انتهى ذلك الأجل فإنها في حل، وإذا مات هو لا ترثه، وإذا ماتت هي لا يرثها إلى آخره. ونكاح المتعة: هو الزواج إلى أجل معلوم بلفظ المتعة كمتعتك، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى نكاح المتعة، ثم نسخت هذه الآية بما روى ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع -يعني: في نكاح المتعة- ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها -أي: من كان عنده امرأة ممن نكحها نكاح المتعة فليخل سبيلها- ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً). وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه خطب وقال: (ما بال رجال ينكحون هذه المتعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، لا أوتى بأحد نكحها إلا رجمته). وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيره عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأنسية -يعني: الحمير الأهلية-). اختلف العلماء في بيان متى تم تحريم نكاح المتعة على أقوال: فمن قائل: يوم خيبر، استدلالاً بهذه الرواية المتفق عليها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومنهم من قال: إنه تم تحريم المتعة في عام فتح مكة. ومنهم من قال: بل هو عام حنين، وهذا القول الثالث هو بنفسه الثاني؛ لأن معركة حنين وفتح مكة متصلتان. القول الرابع: أن نكاح المتعة حرم عام حجة الوادع، وهو وجه من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوادع، وسفر الوهم من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن واقعة إلى واقعة كثيراً ما يعرض للحفاظ، يعني: هذه الحالة تعرف عند علماء الحديث بسفر الوهم، وهو أن الراوي يسافر بوهمه وبخياله من موقع إلى موقع، فيبدل الأسماء أو الأماكن أو الوقائع. والعلماء لهم طرائف في الترجيح عند هذه الحالات، ومنها: هذا الذي نحن بصدده، والصحيح أن المتعة حرمت عام فتح مكة كما في صحيح مسلم، ولو كان التحريم زمن خيبر للزم النسخ مرتين، وهذا لا عهد لمثله في الشريعة ألبتة، ولا يقع مثله في هذه الشريعة. كما أن خيبر لم يكن فيها مسلمات، بل كان فيها يهوديات، ولم تكن قد نزلت آية المائدة التي فيها إباحة نكاح الكتابيات، {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5]، لأن آية المائدة نزلت في حجة الوداع يوم النحر، وهي في سياق قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فلو كان التحريم في خيبر فمعنى ذلك أن النسخ حصل مرتين، وهذا لا يقع في الشريعة. أما ما جاء في رواية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية أو الأنسية) فهذا الحديث ثبت بلفظين: أحدهما: هذا اللفظ الذي الذي سبق. وهناك لفظ آخر: وهو الاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. يعني: اللفظ الآخر: (أنه نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية يوم خيبر). فإذاً يكون يوم خيبر فيه بيان تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية، وليس فيه بيان تحريم نكاح المتعة. فإذاً هذا الجواب على من يستدل بأن تحريم المتعة حصل في خيبر. والصحيح أنه حصل في فتح مكة، وهذا الحديث كما ذكرنا ثبت في الصحيحين بهذا اللفظ، وثبت أيضاً في رواية أخرى بالاقتصار على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، فكلمة (يوم خيبر) ليست لبيان تحريم المتعة، وإنما لتحريم لحوم الحمر الأهلية، فتوهم بعض الرواة أن يوم خيبر ربط بين تحريم الاثنين معاً. ليس هذا فحسب، بل بعض الرواة اقتصر على رواية الحديث: (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعة زمن خيبر)، فقصرها على هذه المرتبة الثانية من الخطأ الذي وقع ومن الغلط البين. فإن قيل: فما سر جمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الحديث بين الأمرين؟ يعني: علي جمع في الحديث بين النهي عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الأنسية. فنقول: سر ذلك أنه كان يناظر ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما؛ لأن ابن عباس كان يبيحهما، فناظره في المسألتين، وروى له التحريمين، وقيد تحريم الحمر بزمن خيبر وأطلق تحريم المتعة، وقال له: (إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر). إذاً: كلمة يوم خيبر جاء في تحريم لحوم الحمر الأهلية وليست في تحريم نكاح المتعة كما قاله سفيان بن عيينة وعليه أكثر الناس. فروى علي رضي الله عنه الأمرين محتجاً عليه بهما لا مقيداً لهما بيوم خيبر. لكن هل تحريم نكاح المتعة هو من باب تحريم الفواحش، أم أنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها للمضطر؟ هي حرمت كتحريم الفواحش تماماً، والفواحش لا تباح بحال. أما القول بأنه حرمها عند الاستغناء عنها وأباحها فقط في حالة الاضطرار، فهذا القدر هو الذي نظر فيه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ ابن عباس لم يبحها بإطلاق كما يزعم الشيعة، والشيعة إلى الآن يتمادون في موضوع نكاح المتعة كما هو معلوم عنهم، وهو من خبائثهم. إذاً ابن عباس نظر إلى أنها لم تحرم تحريماً مطلقاً كتحريم الفواحش، والفواحش لا تباح بحال، وإنما ذهب إلى أنها تحرم عند الاستغناء عنها وتباح للمضطر، فهذا هو الذي نظر فيه ابن عباس وقال: أنا أبحتها للمضطر كالميتة والدم، فلما توسع فيها من توسع ولم يقف عند الضرورة أمسك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الإفتاء بحلها ورجع عنه، وكان ابن مسعود يرى مثل قوله، أو قريباً منه. وقد روي أن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال لـ ابن عباس رضي عنهما: (أتدري ما صنعت بفتواك -فتواه التي هي إباحة نكاح المتعة-؟ فقد سارت بها الركبان وقيل فيها الشعر، وكان من الشعر الذي قيل: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال ابن عباس: إنا لله وإنا إليه راجعون ما بهذا أفتيت، ولا أحللت إلا مثلما أحل الله الميتة والدم). إذاً معنى هذا الكلام: أن هذا هو القدر الذي اجتهد فيه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكما ذكرنا: فالإجماع منعقد على خلاف ذلك، يعني: الإجماع على تحريم نكاح المتعة.

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات)

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات) لقد شرع الله بعد ذلك في بيان نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، يعني: على قول ابن عباس أو على قول من يرى أنه في حالة الاضطرار يباح للمسلم المتعة، فكأن الله سبحانه وتعالى هنا يبين لنا ما يستباح للضرورة، لكن الفرق بين هذه الضرورة وما يأتي الآن هو أن الضرورة التي أبيح لأجلها نكاح المتعة كانت ضرورة مؤقتة انقطعت إلى يوم القيامة، بحيث عاد حراماً تحريماً شاملاً كاملاً أبدياً. فيشرع عز وجل هنا في بيان نكاح ما يستباح للضرورة كنكاح المتعة، لكنها ضرورة مستمرة لا تنقطع بكثرة الإسلام، أما الضرورة التي أبيح لأجلها نكاح المتعة فهي ضرورة مؤقتة انقطعت في ذلك الوقت وانتهت. أما الضرورة التي ستأتي فهذه مستمرة كما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} [النساء:25]. ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا))، (طولاً) يعني: غنىً. ((أَنْ يَنكِحَ))، يعني: غنىً لأن ينكح. (من لم يستطع منكم) من لم يقدر، (منكم). (ومن لم يستطع منكم) الخطاب هنا للأحرار، أي: ومن لم يستطع منكم أيها الأحرار طولاً، يعني: لم يقدر أن يحصل غنىً يمكنه أن ينكح المحصنات المؤمنات.

معنى المحصنات في قوله: (طولا أن ينكح المحصنات)

معنى المحصنات في قوله: (طولاً أن ينكح المحصنات) المحصنات هنا بمعنى: الحرائر، لماذا قلنا: المحصنات هنا بالذات بمعنى: الحرائر؟ لأن الآية تبين أن من عجز عن نكاح الحرائر يجوز له نكاح الإماء، أي: لابد أن نفسر المحصنات بعكس الإماء، وهن الحرائر. يقول عز وجل: ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ))، أي: لم يستطع منكم غنىً أن يتزوج الحرائر. إذاً المحصنات هنا: الحرائر، والحرائر معروفات بالعفة، فالمحصنات المتعففات بخلاف الزواني، فإنه لا عبرة بهن، ويكن أيضاً مؤمنات؛ لأن الكوافر أيضاً لا عبرة بهن؛ لأن العفة عنوان الحرية، ولذلك لما بايعت هند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعها على الصيغة المعروفة: (ولا يزنين) لما سمعت هذا الكلام اضطربت وقالت: (أوتزني الحرة؟) واستحيت من ذلك، فمعروف أن الحرة عفيفة.

معنى الإدناء من الجلابيب والحكمة منه

معنى الإدناء من الجلابيب والحكمة منه كما تعلمون في سبب نزول قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59]، هل المقصود أن يعرفن بأن فلانة زينب أو فلانة عائشة أو فلانة كذا، أم أن المقصود أن يعرفن بالصفة؟ المقصود: أن يعرفن بالصفة؛ لأن هناك قرينة في الآية واضحة جداً، وهي أن الخطاب هنا موجه لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ))، هل أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام كن يكشفن وجوههن؟ لا، بل معروف بالإجماع أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن محجبات حجاباً كاملاً يغطي جميع البدن بما في ذلك الوجه والكفين. ((قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ))، الإدناء شيء زائد على لبس الجلباب، يقال: أدن الثوب من وجهك، يعني: غطه به. هذا كلام العلماء في غير زمان الغربة الذي نحن فيه الآن، حيث صار كل من هب ودب يتطاول على الدين، ويسترسل مع الموجة الشيطانية -التي نحن فيها- حيث صرنا نسمع نوعاً من الافتراء على الله وعلى كتاب الله تبارك وتعالى في تفسيره، فهذه الآية باتفاق المفسرين في هذا المعنى. قوله تعالى: ((يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ))، يعني: هن في الأصل لابسات الجلباب، لكن أمرن بشيء زائد على الجلباب ألا وهو الإدناء بتغطية الوجه. ((ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ))، ذلك أدنى أن يعرفن بأنهن حرائر فلا يتعرض لهن المنافقون بالأذية، ولذلك (كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى أمة متقنعة أو مغطية وجهها كان يعلوها ضرباً بالدرة ويقول: تتشبهين بالحرة يا لكع) يضربها كي لا تشابه الحرائر في لبسهن وهيئتهن.

المرأة بين منافقي الأمس ومنافقي اليوم

المرأة بين منافقي الأمس ومنافقي اليوم ونحن في الحقيقة نعجب من هذا الزمان الذي نحن فيه! كانت علامة الحرية فيما مضى هي العفة والحشمة والتستر، أما الآن فصارت علامة الحرية أن المرأة تتعرى وتتكشف وتتبرج!! هل هذه حرة؟! فيقولون: تحرير المرأة حرية المرأة، فالحرية أصبحت علامة على التهتك والتبرج والسفور. في المقاييس الأولى كانت علامة الحرية أن المرأة تتعفف وتتصون؛ لأن التي تبالغ في ستر بدنها إلى هذا الحد لا يمكن أن يطلب منها الفاحشة أو يطمع فيها، فإنا لله من هذا الزمن العجيب الذي نعيشه الآن!! والمنافقون في ذلك الزمان كانوا أحسن وأفضل من المنافقين في أيامنا هذه، لماذا؟ لأن المنافقين فيما مضى إذا علموا أن المرأة حرة ووجدوها محجبة ففي هذه الحالة يكفون عنها، أما الآن فيسلطون سهامهم على المرأة الحرة المتعففة باسم الحرية، والحقيقة ليست حرية بل شيطانية. يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ}، يعني: الحرائر، والحرائر يستلزم كونهن عفيفات. {الْمُؤْمِنَاتِ}، هذا القيد جرى على الغالب فلا مفهوم له، بتعبير آخر هو ليس قيداً في الحقيقة وإنما هو تعبير غالبي، أن أغلب المحصنات الحرائر اللاتي يتزوجهن المسلمون يكن مؤمنات، فيجوز نكاح المحصنات من أهل الكتاب أيضاً جمعاً بين ذلك وبين آية المائدة.

وجه تقييد نكاح الإماء بالإيمان

وجه تقييد نكاح الإماء بالإيمان قوله: ((فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ))، يعني: الذي يعجز عن نكاح الحرائر من المؤمنات فيجوز له أن ينكح مما يملكه أيمان إخوانكم، (فمن ما ملكت أيمانكم) يعني: من عجز ولم يجد غنىً كي يتزوج الحرائر المؤمنات فله أن ينكح بعض ما يملكه أيمان إخوانه المسلمين. {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ}، يعني: الإماء حال الرق، ليس حال الحرية أو العتق. {الْمُؤْمِنَاتِ}، يعني: لا يجوز نكاح الإماء الكتابيات، لماذا؟ حتى لا يجتمع عار الرق إلى عار الكفر كما سنبين إن شاء الله. {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ}، يعني: فاكتفوا بظاهره وكلوا السرائر إليه، فإنه العالم بتفصيلها، ورب أمة يكون عندها من قوة الإيمان ما يجعلها أفضل من الحرة عند الله تبارك وتعالى الذي هو أعلم بالإيمان. {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}، يعني: أنتم وهؤلاء الإماء أو الفتيات المؤمنات بينكم نوع من المناسبة، وهي أنكم تنتمون إلى أبيكم آدم عليه السلام، وكما أن دينكم هو دين الإسلام فبعضكم من بعض في الانتساب لآدم وفي ملة الإسلام، فلا تستنكفوا من نكاحهن، فهذا نوع من التسلية والتعزية لمن عجز على نكاح الحرة، واضطر إلى نكاح الأمة.

شروط نكاح الإماء

شروط نكاح الإماء قوله: ((فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ))، المقصود هنا: بإذن مواليهن لا استقلالاً. ((وَآتُوهُنَّ))، أي: أعطوهن. ((أُجُورَهُنَّ))، أي: مهورهن. ((بِالْمَعْرُوفِ))، يعني: من غير مطل ونقص، ومن غير ضرار. يقول تبارك وتعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ}، إعراب (محصنات) هنا: حال، يعني: حال كونهن عفائف من الزنا أو عن الزنا. ((غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ))، هذه حال مؤكدة لصفة الإحصان. ((مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ))، أي: غير زانيات جهراً. ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ))، الأخدان هم الأخلاء الذين يزنون بهن سراً، والأخدان هم الذين يجمعهم الفحش والفجور، يعني: واحدها خدن أو خدين ((وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ)). إذاً: هذه الآية الكريمة تبين شروط نكاح الإماء، ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ))، فكلمة المؤمنات قلنا: إن المقصود بها: الإماء المؤمنات لا الكتابيات، أي: لا يجوز لكم أن تنكحوا الأمة الكتابية، لكن الأمة التي تكون مسلمة؛ لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر، ولأن عار الكفر بلا شك أشد من عار الرق. قوله تبارك وتعالى: ((ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، (ذلك) يعني: هذه الإباحة، (لمن خشي العنت منكم) العنت هو خوف الوقوع في الزنا والفاحشة. ((وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، وأن تصبروا عن نكاح الإماء حتى تحصلوا على المهر الذي به تستطيعون نكاح الحرة فهو خير لكم، وسنذكر إن شاء الله وجوه هذه الخيرية أو الأفضلية. إذاً هذه الآية نستطيع أن نستنبط منها ثلاثة شروط لجواز نكاح الإماء، اثنان منها في الشخص الناكح وواحدة في المنكوحة، أما الشرطان اللذان يشترطان في الناكح المتزوج فهما: الشرط الأول: أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا))، أي: لم يجد غنىً، ((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ))؛ لأن العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة أسيادهن ومواليهن. الشرط الثاني: أن يخشى الوقوع في الزنا، والدليل قوله: (ذلك) يعني: هذه الإباحة (لمن خشي العنت منكم) أما من لم يخش الوقوع في الزنا فلا يحل له نكاح الأمة. ومعنى: (خشي العنت منكم) يعني: بلغ الشدة في العزوبة. الشرط الثالث هو شرط في المنكوحة من الإماء: أن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، يعني: حتى لو كانت أمة كتابية فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية، لماذا؟ لأن الأمة الكافرة ناقصة من وجهين: ناقصة من جهة الرق. وناقصة من جهة الكفر. والولد تابع للأم في الحرية والرق، إذا نكح الرجل أمة فالأولاد الذين تلدهم يكونون تبعاً لها، فإن كانت حرة فسيكونون أحراراً، وإن كانت أمة فالأولاد سيكونون أيضاً أرقاء لسيد أمهم. لو تزوج المسلم بأمة يهودي أو نصراني فالأولاد سيكونون تابعين لأمهم، وخاضعين لسيدهم النصراني أو اليهودي. فالأمة الكافرة ناقصة من وجهين: الرق، والكفر. والولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذٍ لو كانت الأمة كتابية وهي ملك للكافر فالولد سيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكاً للكافر، فهذا فيه هذان العيبان.

حد الأمة بعد إحصانها وتزوجها

حد الأمة بعد إحصانها وتزوجها قال تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ}، (فإذا أحصن) يعني: إذا زوجن، هنا انتقال لحكم آخر يتعلق بالإماء وهو: أن الأمة إذا تزوجت وبعد الزواج أتت بفاحشة مبينة فما حدها؟ هذا هو السؤال الذي تجيب عليه هذه الآية، يقول تعالى: ((فَإِذَا أُحْصِنَّ))، يعني: إذا أحصن هؤلاء الإماء بالزواج، وفي قراءة أخرى بالبناء للفعل، (فإذا أحصن) يعني: تزوجن. ((فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ))، أي: بزنا. ((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ))، قوله تعالى: ((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ))، (المحصنات) المقصود بهن هنا: الحرائر الأبكار إذا زنين. ((مِنَ الْعَذَابِ))، يعني: من الحد، إذا كانت الأمة متزوجة فإنها لا تستوي مع الحرة في كونها ترجم؛ لأنهن من أهل المهانة. وإن كان كلام السيوطي: (فعليهن نصف ما على المحصنات) يعني: حدهن مثل نصف حد الحرائر الأبكار. هذا الوجه الذي ينبغي أن يفهم عليه كلام السيوطي. إذا زنت الحرة البكر يكون حدها مائة جلدة، فهذا لبيان الحد فقط. يعني: بما أن حد الحرة البكر مائة جلدة، فإن الأمة إذا كانت متزوجة فحدها نصف هذا الحد الذي هو خمسون جلدة، هذا لبيان النسبة فقط، والمقصود: أنه ليس هناك رجم على الأمة المتزوجة، وليس حدها مثل نصف حد الحرة المحصنة؛ لأن الحرة المحصنة حدها الرجم. الخلاصة: أن عليهن نصف ما على المحصنات الحرائر الأبكار إذا زنين، ويكون حدهن خمسين جلدة.

الحكمة من عدم رجم الأمة المحصنة

الحكمة من عدم رجم الأمة المحصنة لماذا لا ترجم الإماء؟ قال بعض المفسرين: لأن الإماء من أهل المهانة، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر، والحكمة من الرجم هو المبالغة في زجر الناس عن الفاحشة، قال عز وجل: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، لزجر قوة هذا الدافع في الناس. وأيضاً فإنها إذا قتلت فسيعود ذلك بالضرر على سيدها الذي يملكها. ((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ))، أي: الحرائر الأبكار إذا زنين.

الحكمة من التغريب للزاني البكر

الحكمة من التغريب للزاني البكر قوله: ((مِنَ الْعَذَابِ))، أي: الحد، فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة، هذا على مذهب من يقول بالجمع بين الجلد والتغريب، كي يجمع بين عقوبة البدن وعقوبة القلب؛ لأن الغربة عذاب على القلب، ولذلك لما قالوا لبعض العلماء: لماذا كان السفر قطعة من العذاب؟ قال: لأن فيه فراق الأحباب، فهذا عذاب للقلب. كذلك أيضاً هناك حكمة أخرى من تشريع التغريب، وهي تغيير البيئة التي تذكر العاصي بأصحابه الذين يؤزونه أزاً، وذكريات الفساد أو المعاصي التي كان يرتكبها، فإذا غيرت البيئة كان ذلك أعون له على فتح صفحة جديدة من حياته، وهذا الأسلوب تلجأ إليه بعض الجماعات -مثل جماعة التبليغ- في تربية أفرادها، فتراهم يعزلون الشخص عن بيئته حتى إنه مهما كان فاسداً في بيئته فهم يجعلونه يعيش معهم في حالة تعبد وذكر وغير ذلك فترة معينة، بحيث تتغير بالفعل صفاته وأخلاقه.

الاعتداد بمفهوم الشرط وعدمه وما يترتب عليه

الاعتداد بمفهوم الشرط وعدمه وما يترتب عليه قوله: ((فَإِذَا أُحْصِنَّ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ))، هنا مسألة تتعلق بهذا القيد وهو: (فَإِذَا أُحْصِنَّ): وهو مفهوم الشرط. معنى ذلك: أن الأمة إذا ارتكبت الفاحشة قبل الزواج هل عليها حد أم ليس عليها حد؟ هذا هو الخلاف الذي ترتب على مدى الاعتداد بمفهوم الشرط، هل مفهوم الشرط هنا يعتد به؟ بمعنى: إذا أحصن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، لكن إذا لم تحصن الأمة وأتت بالفاحشة هل عليها حد أم لا؟ يؤخذ من ظاهر الآية أن الأمة بعد التزويج حدها نصف حد الحرة البكر من الجلد، أما قبل التزويج فقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجلدها، لكن بلا شك مهما كان خلاف العلماء في هذه الآية أو في هذا الشرط فإنه طبقاً لهذه الآية لابد أن يخالف حالها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد بالإحصان فائدة، (فإذا أحصن) لاشك أن هذه الكلمة لها مفهوم مهم جداً، وحكم شرعي ينبني عليها، وإلا لو كان الأمر يستوي قبل الإحصان مع ما بعد الإحصان لما كان في التقييد بهذا الشرط فائدة.

حد الأمة قبل الإحصان

حد الأمة قبل الإحصان هنا احتمالات ذكرها العلماء: الكلام هنا الآن في الأمة إذا ارتكبت الفاحشة قبل أن تحصن وتتزوج فهل عليها حد أم لا؟ بعض العلماء قالوا: لا حد عليها، ويجاب عن ذلك بأن السنة الصحيحة تبطل ذلك، بل ثبت في السنة أن الأمة التي لم تتزوج وزنت أنها تجلد، لكن يأتي سؤال بعد هذا هل هو حد أم تعزير؟ فلذلك لن نقول: حدت لكن نقول: جلدت. الاحتمال الثاني: أن يقال: حدها قبل الإحصان حد الحرة وبعد الإحصان نصف حد الحرة، وهذا باطل قطعاً؛ لأنه مخالف لقواعد الشرع وأصوله، ولأن المحصن الذي أعفه الله بالزواج ومع ذلك يرتكب الفاحشة فهذا يستحق عذاباً أشد من عذاب العزب، ولذلك شرع في حق المحصن الرجم وفي حق غير المحصن الجلد فقط؛ لأنهما لا يستويان في قوة الدافع إلى هذا الفعل، فكيف هنا تأتي في الأمة فتقول: إن حدها قبل الإحصان مائة جلدة فإذا أحصنت وزنت يكون حدها خمسين؟! هذا يتعارض مع قواعد الشرع في تغليظ العقوبة طبقاً لقوة الدافع. الاحتمال الثالث: أنه يعتبر قبل الإحصان تعزيراً وبعد الإحصان يعتبر حداً شرعياً، وهذا القول أقوى من سابقيه.

من يقيم الحد على الأمة

من يقيم الحد على الأمة الافتراق في الحالين قبل الإحصان وبعده في إقامة الحد لا في قدره، (فإذا أحصن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب). فالكلام هنا متعلق بإقامة الحد وليس بقدر إقامة الحد، يعني: أنه في حالة الثيب الذي يتولى إقامة الحد هو الإمام، وهذا أقرب الأقوال التي تقال في هذه الآية. (فإذا أحصن) سر هذا القيد الشرطي هو ليس في مقدار الجلد، لأنه في الحالتين القدر واحد، لكن الذي يتولى إقامة الحد قبل الإحصان هو سيدها، والذي يتولى إقامة الحد عليها بعد الإحصان هو الإمام، وهذا أقرب ما يقال كما حققه بعض العلماء. ((فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ))، أي: زنا، ((فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ))، أي: الحرائر الأبكار إذا زنين، ((مِنَ الْعَذَابِ))، أي: الحد، فيجلدن خمسين، ويغربن نصف سنة، ويقاس عليهن العبيد، ولم يجعل الإحصان شرطاً لوجوب الحد، بل لإفادة أنه لا رجم عليهن أصلاً. ((ذَلِكَ))، يعني: إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول، أي: الغنى والقدرة على نكاح الحرائر. ((ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ))، (خشي) أي: خاف، (العنت) أي: الزنا، ويفسر بالمشقة في التحفظ من الزنا؛ لأن أصل كلمة (العنت) هي المشقة، وهي تطلق على الزنا نفسه؛ لأن الفاحشة سبب لهذه المشقة؛ لماذا؟ لأنه إذا وقع فيه فإنه يترتب عليه الحد في الدنيا أو العقوبة في الآخرة. (ذلك لمن خشي العنت منكم) يعني: هذه الإباحة لمن خشي العنت منكم أيها الأحرار، بخلاف من لا يخافه من الأحرار، فلا يحل له نكاح الأمة إذا لم تتوافر هذه الشروط. وكذلك من استطاع طول حرة فإنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وهو قول الشافعي. وخرج بقوله: ((مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ))، الإماء الكافرات فلا يحل له نكاح الأمة الكافرة ولو عدم القدرة وخاف العنت، يعني: لابد من اجتماع الشروط الثلاثة، فلو أن رجلاً كان غير قادر على نكاح الحرائر، ويخشى العنت، لكن الأمة التي تزوجها كافرة فهل يجوز له ذلك؟ لا، لابد من اجتماع ثلاثة شروط لا يتم الجواز إلا بجميعها.

كراهة التزوج بالإماء مع توافر شروط الجواز

كراهة التزوج بالإماء مع توافر شروط الجواز قوله: ((وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ))، في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط، يعني: هذا الجزء من الآية يدل على أنه مع إباحة نكاح الإماء وكونها مشروطة بهذه الشروط الثلاثة، مع ذلك أن تصبروا يكون أفضل لكم حتى لو كان مباحاً، فهذا يفهم منه كراهة نكاح الإماء حتى مع اجتماع الشروط، وإن سبقت الرخصة بذلك، فخيرية الصبر عن نكاح الإماء تكون من وجوه: الوجه الأول: لما فيه من تعريض الولد للرق، ولذلك لما تكلمنا في موضوع العزل، ذكرنا أن أحد الأسباب التي رخص فيها العزل هو أنه إذا كان متزوجاً أمة وأتت بأولاد فإنهم سيكونون أرقاء فأبيح العزل لهذا السبب. وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه) يقصد ولده. الوجه الثاني: أن حق المولى في الأمة أقوى من حق الزوج، فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر. والواحد عند سرد هذه المقارنات التي ذكرها العلماء يتصور أحوال النساء الهاربات من وظيفتهن التي هي: تربية الأولاد، ورعاية الزوج، وأداء حقه، فنلاحظ الآن أن هناك نوعاً من الاسترقاق الجديد، يعني: عندما تكون المرأة متزوجة وهي موظفة وقوانين العمل وسلطة المدير تتحكم فيها، مثلاً: بعض النساء في التمريض أو بعض المهن المعينة، فإنها قد تكلف بأي عمل، وتحتاج أن تنتقل من مكان إلى مكان أو من بلد إلى بلد وغير ذلك، فهنا تكون هناك سلطة غير سلطة الزوج على المرأة، حتى لو أن الزوج صرخ واستغاث ما يسمع له. فهذه الأمة حق المولى فيها أقوى من حق الزوج، فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر؛ ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر، وعلى بيعها للحاضر والبادي، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا نزيد عليه؛ ولأن الأمة ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله ذل ومهانة، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين، كما أن مهر الأمة لمولاها، فلا تقدر الأمة على التمتع به، ولا على هبته للزوج. فخلاصة الكلام: أنه بنكاح الأمة لا ينتظم أمر المنزل، كما يقول الشاعر: إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره.

وظيفة المرأة الحقيقية

وظيفة المرأة الحقيقية يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) فحدد دائرة عملها، وأن وظيفتها في بيت زوجها، فمن الخداع والكذب والتزوير والتضليل أن تسمى المرأة التي تنقطع لأداء وظيفتها المقدسة: امرأة عاطلة، والثانية يسمونها: امرأة عاملة، هي ليست عاملة بل هي هاربة من وظيفتها. انظر الموظف الذي يهرب من العمل كيف يعامل، وكيف يعاقب، وكيف ينظر إليه؟! فهذه المرأة في الحقيقة هي ليست عاطلة وليست خالية، بل عندها أهم وأخطر وظيفة، قارن بين وظيفة المرأة في البيت في رعاية الزوج والأولاد، وبين وظيفتها في الأعمال الخارجية، يعني: هل هناك أم في العالم تسمعون أنها أخذت إجازة سنوية قدرها شهر أو كذا أو كذا حتى تنقطع من خدمة الأولاد وخدمة الزوج؟! أي واحد يعمل عملاً خارجياً فإنه يعمل عدة ساعات، لكن الأم ليس لها وقت محدد من الساعة للعمل، هل سمعتم أماً تقول: أنا دوامي انتهى؟! هل هذا يحصل؟! فهذا عمل أم ليس بعمل؟ هذا عمل دائم في الليل والنهار، ولذلك الإنسان يلاحظ أن بعض الأمهات عندما تنجب ولداً أو اثنين فإن حياتها كلها تتلخبط، ولا تستطيع أن تقوم على خدمة الزوج والأولاد رغم وجود الأجهزة الحديثة التي تساعدها. وغالب النساء المتزوجات عندهن أولاد أكثر من ذلك ومع ذلك تريد أن تخرج للعمل فأكيد أنها ستضيع أولادها، وتتركهم للخدم أو لمدارس الإيواء، ويسمونها: مدارس إيواء، وهي لمن هم دون سن الحضانة، يقول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في الحياة ذليلا إن اليتيم من تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فهذا هو اليتيم الذي حرم من الأبوة أو الأمومة. على أي حال الذي قادنا إلى الاستطراء في هذا الكلام المقارنة بين الحرائر فيما مضى وحرائر زماننا، فالمرأة الحرة الآن عكس ما كان من قبل، من قبل الحرة العفيفة المحصنة -حتى إلى عهد قريب- كانت المرأة التي هي من العائلات العريقة، لابد أن تستتر، حتى كان الملوك عندهم ما يسمى (بالسرملك) (والحرملك) وهو مكان مستقل توضع فيه النساء حتى لا يختلطن بالضيوف ولا يراهن أحد، ويأتيهن البائعون والتجار في داخل (الحرملك) وهو الذي بيسمونه: منزل الحريم، يعني: المبنى الذي يستقل بالنساء حتى لا يختلطن بالرجال. وهذا كان إلى عهد قريب، أما الآن فالمرأة الحرة تتبرج وتتكشف مع أن هذا نوع من الاسترقاق، (فالمرأة راعية في بيت زوجها) ولذلك نجد المرأة تتعب نفسها حتى تعد الدكتوراه وتنفق شبابها وتتأخر في الزواج، أو تصير عانساً، وفي الأخير تكون غايتها في الحياة أن تتزوج، وتتمنى أن يكون لها أولاد وبيت، وتحرم من هذه النعمة، ويكون قد فاتها القطار، هذه حقيقة نحن نلمسها وليس مجرد كلام، لكن هي العجلة تدور بالمجتمع وتدور بالناس، ونحن نتعرض لجرعات كبيرة من السموم الفكرية التي قل من يسلم منها في هذا الزمان، لكن العجلة تدور ونحن ندور معها كتلك الدابة التي تربط في الساقية دون أن ينتبه الإنسان للحقيقة. {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218] يعني: بالتوسعة في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم)

تفسير قوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم) قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]. قال تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء:26]، يعني: يريد الله في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم أن يبين لكم شرائع دينكم ومصالح أمركم. ((وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: يهديكم طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم. هذه الآية فيها دليل على أن كل ما بين الله عز وجل تحريمه لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك في الملل السابقة، فمعنى ذلك: أننا مستوون مع من سبقونا من الأنبياء في تحريم الأمهات والبنات والأخوات إلى آخره. قوله: ((وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) وهذا مثل قوله تعالى بعدما ذكر بعض المعاني: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، فقد نتوافق معهم في بعض الأحكام، وهنا بين أننا متوافقون ومتماثلون معهم في هؤلاء المحرمات من النساء. ((وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ))، يعني: يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ))، أي: بكم. ((حَكِيمٌ))، أي: فيما دبره لكم.

تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم)

تفسير قوله تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم) ثم قال تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]. (والله يريد أن يتوب عليكم) تكرار للإرادة، لكن هنا لماذا كررها؟ كررها حتى يبني عليها، ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ))، يعني: في مقابلة ذلك، ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا))، الله سبحانه وتعالى رحيم بنا، وكل شرائعه رحمة بنا وخير لنا في الدنيا والآخرة، فهذا هو ما يريده الله سبحانه وتعالى بنا من وراء هذه التشريعات. ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ))، سواءً كانوا اليهود أو النصارى أو المجوس أو الفساق الزناة، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، كذلك قال تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. فإذاً هذا تحرير من الاتباع أو من الاستجابة لأصحاب الشهوات. (ويريد الذين يتبعون الشهوات) هؤلاء كالبهائم التي تكون تابعة وليست متبوعة، فهم أسرى للشهوات، يتبعون الشهوات حيثما قادتهم ويمشون وراءها. ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا))، يعني: هم يريدون أن تنحرفوا عن هذا الحق، وأن تميلوا عنه ليس ميلاً هيناً ولكن ميلاً عظيماً، وبلا شك فإن في مقدمة الذين يتبعون الشهوات في هذا الزمان من يسمون بالفنانين، والفسقة الذين يصدون الناس عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ويشغلونهم عن ذكر الله، ويزينون لهم الفواحش والشهوات، لاشك أنهم داخلون في هذه الآية ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ))، انظر موسماً مباركاً كهذا الموسم الذي نحن إن شاء الله مقدمون عليه وهو موسم رمضان، يعني: أعتقد أننا لو سألنا سؤالاً: من منكم يخطط أو بدأ يخطط من الآن لرمضان؟ قد يكون هناك بعض الإخوة بدءوا يخططون لرمضان من الآن، كيف يفرغ نفسه للعبادة ولا يضيع هذه الفرصة؟! وكيف يأخذ إجازة من العمل حتى يعتكف أو غير ذلك؟! هل منا من استعد لرمضان من بعد رمضان الماضي مباشرة؟! لكن أهل الفن يستعدون لرمضان ليس من هذا الشهر ولا من الذي قبله، بل من بعد رمضان تجدهم يقعدون ويتكلمون عن إقامة المسلسلات والفوازير، وكيف سيكون الاستمتاع برمضان القادم؛ لتحويله إلى شهر للشهوات، فهؤلاء هم بغاة الشر الذين يقال لهم: (يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير أقبل). فالشاهد أن أولى الناس بهذا الوصف هم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا))، يعني: أن تعدلوا عن الحق بارتكاب ما حرم الله عليكم فتكونوا مثلهم؛ لأن الضائع يحب من الناس جميعاً أن يكونوا ضائعين مثله؛ لأنه إذا وجد مستقيمين فإنه يشعر بالوحشة فيريد أن كل الناس تضيع مثله.

تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم)

تفسير قوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم) قال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، يعني: يسهل عليكم أحكام الشرع ولهذا أباح عز وجل نكاح الإماء؛ تخفيفاً عن الأمة بشروطه، وكما قال تبارك وتعالى أيضاً: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، ولذلك هذه من أهم ومن أخص خصائص هذه الحنيفية السمحاء التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد وضع الله عز وجل عنا الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا. جاءت الشريعة للتخفيف والتسهيل والتيسير، وهذا الموضوع يطول الكلام فيه ولا يتسع له الآن. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، أي: لا يصبر عن النساء والشهوات، فناسبه هذا التخفيف فدل على أنه لا سبيل إلى قضاء الوطر في هذا الباب إلا بنكاح الحرائر أو نكاح الإماء بشروطه، ولا يوجد طريق غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم وكان ذلك على الله يسيرا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم وكان ذلك على الله يسيراً) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30] (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم) المقصود: لا يأكل بعضكم أموال بعض. (بينكم بالباطل) أي: بالحرام شرعاً، كالربا والغصب والقمار والرشوة والسرقة والخيانة وسائر الحيل، وما أكثر هذه الحيل الآن التي تؤكل فيها الأموال بالباطل، كل المكاسب المحرمة التي تأتي عن طريق الحرام، أو تأتي بأكل أموال الناس بالباطل فهذا كله داخل في هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)). الربا من أكل أموال الناس بالباطل، الغصب، السرقة، القمار، الرشوة، وما أدراك ما الرشوة، والخيانة وأجر المغني والمطرب وحلوان الكهان وثمن البغي من المحرمات، كل هذه الأشياء تدخل في أكل الأموال بالباطل. {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً}، (تجارةٌ) أو (تجارةً) يمكن أن تقرأ بالوجهين: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)) أو (إلا أن تكون تجارةٌ عن تراض منكم)، إذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةٌ) فإعراب التجارة هنا نائب فاعل، وإذا قلنا: (إلا أن تكون تجارةً) فتجارة خبر تكون. التجارة المقصود بها هنا: معاوضة مع بعض كالبيع، أو تكون الأموال أموال تجارة. (عن تراض) يعني: هذه الأموال صادرة عن تراض منكم، فلكم في هذه الحالة أن تأكلوها. (عن تراض منكم) يعني: هنا البيان بأن شرط الربح في التجارة التراضي، والتراضي إما أن يكون بعبارة صريحة، وإما بإشارة مفهومة، فالعبارة الصريحة هي الإيجاب، مثل قولك: بعتك كذا وكذا بسعر كذا، هذا هو الذي يشترط فيه الإيجاب والقبول، أو يكون لفظ من الإنسان أو شيء غير اللفظ يدل على التراضي، كالتعاطي. من هذه الآية: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، أخذ الشافعي اعتبار الإيجاب والقبول لفظاً، يعني: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، اعتماداً على هذه الآية ذهب إلى عدم جواز بيع المعاطاة، وبيع المعاطاة هو الذي يتم بدون التلفظ بعبارة الإيجاب والقبول، كما يحصل مع أي واحد -مثلاً- يبيع سلعة ويعلق سعرها بجانبها، فتقول له: هات اثنين كيلو فيقوم بوزنها، ثم تعطيه الفلوس دون أن تقول له: بع لي، ودون أن يقول هو: قبلت. إلى آخر هذه العبارات. فما حجة الإمام الشافعي فيما ذهب إليه؟ قال: قوله تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، يعني: إلا أن تكون الأموال تجارة صادرة عن تراض منكم. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: التراضي أمر قلبي، فلا بد من الدليل عليه، أي: لا بد من إقامة الدليل الظاهرة على ما في القلب؛ لأنك لا تستطيع النظر في قلب البائع أو المشتري، لذلك فلا بد من الدليل عليه، فجعل الشرع صيغة الإيجاب والقبول أمارة ودليلاً على وجود التراضي؛ لأن الناس يعجزون عن أن يطلع بعضهم على قلوب بعض ليطمئنوا إلى أنه قد حصل التراضي، فأقيمت عبارة الإيجاب والقبول مقام التراضي الذي محله القلب؛ لكن استدل من يبيح بيع المعاطاة بنفس الآية، قالوا: الآية تدل على جواز بيع المعاطاة؛ لأنها تقول: "عن تراض منكم" وكما أن الأقوال تدل على التراضي، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً على التراضي، فصح بيع المعاطاة مطلقاً، فيكون من الأيسر على الناس أن ما تعارفوا على أنه يعبر عن التراضي يصح به البيع؛ مثل قول بعضهم: توكل على الله، أو بعتك أو أدخل يده في جيبه وأخرج النقود، فهذا كله بدل على التراضي. وقولهم إنه ورد في بعض النصوص كلمة بعت منك وبعتك، فنحن نقول: لا نختلف على أن البيع يصح بمثل عبارة: بعتك أو بعت منك، كما في هذه الروايات التي يحتج بها من اشترط الإيجاب والقبول؛ لكن النزاع في دعوى أن البيع لا يصح إلا بالإيجاب والقبول، ولم يرد في اشتراط ذلك شيء صريح؛ لأن الله تعالى قال: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، فدل ذلك على أن التراضي هو المناط، ولابد من الدلالة عليه إما بنص أو بإشارة أو بكتابة، أو يقول له: توكل على الله، أو أي عبارة يفهم منها الرضا، ففي هذه الحالة يقع البيع، بأي لفظ وقع وعلى أي صيغة كان، وبأي إشارة مفيدة، يعني: لا يشترط اللفظ، بل يقبل ما يقوم مقام اللفظ الصريح ما دام يدل على التراضي.

معنى قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم)

معنى قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم) قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: بارتكاب الذي يؤدي إلى هلاكها سواء كان في الدنيا أو الآخرة. ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا))، يعني: في منعه لكم من أن تهلكوا أنفسكم. ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ)) يعني: ما نهي عنه. ((عُدْوَانًا)) كأن ينتحر، ومعنى: (عدواناً) تجاوزاً للحلال، وهي حال من فاعل (يفعل) أي: يفعل ذلك متعدياً فيه، ظالماً في تعاطيه، عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه {وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء:30] سوف ندخله ناراً هائلة شديدة الحرارة يحترق فيها. {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:30]، يعني: كان إصلاؤه النار على الله يسيراً، وهيناً لا عسر فيه، ولا صارف عنه؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعجزه شيء. قوله تبارك وتعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ))، فيه وجهان للتفسير: الوجه الأول: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين، فإن المؤمنين كلهم كنفس واحدة. والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم، وذلك بتصوير القتل بصورة لا يكاد يفعلها عاقل، وقد ذكرنا أمثلة مشابهة لهذا مما جاء في القرآن كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11]، (ولا تلمزوا أنفسكم) أي: ولا تلمزوا إخوانكم. وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] المقصود هنا: بإخوانهم خيراً، قال تعالى: ((ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا)) أي: بإخوانهم. فقوله تعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) يعني: لا يقتل المسلم أخاه المسلم.

حكم من يستحل قتل النفس

حكم من يستحل قتل النفس الوجه الثانية: (ولا تقتلوا أنفسكم) أي: لا يقتل الإنسان نفسه عمداً بالانتحار. وأما الذي يستحل قتل نفسه وقد حرمه الله تبارك وتعالى فهو بهذا الاستحلال يكفر، ويكون الحكم عليه بالخلود في النار على ظاهره. أما إن كان غير مستحل فحاله كحال سواه من أهل الكبائر يكون تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68]، وكما أنه لا يقتل الآخرين، كذلك لا يقتل نفسه.

الأحاديث المحذرة من قتل النفس

الأحاديث المحذرة من قتل النفس وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان ممن كان قبلكم رجل به جرح، فجزع فأخذ سكيناً فحز بها يده -أي: قطع الشرايين حتى سال الدم بسرعة- فما رقأ الدم حتى مات، قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)، والعياذ بالله، وهذا الحديث متفق عليه. قوله: (بادرني عبدي بنفسه) يعني: هو الذي تعجل الموت قبل أن أقبض أنا روحه، وقوله: (حرمت عليه الجنة)، فعقوبة المنتحر -والعياذ بالله- هي أن يحرم الله عز وجل عليه الجنة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جنهم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً)، وهذا متفق عليه. إذاً: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، أي قاعدة: الجزاء من جنس العمل. وفي الصحيح حديث ذلك الرجل الذي أثقلته الجراح، فاستعجل الموت، فقتل نفسه بذبابة سيفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو من أهل النار)، وهذا متفق عليه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن المؤمن كقتله، ومن قذف مؤمناً بكفر فهو كقتله، ومن قتل نفسه بشيء عذبه الله به يوم القيامة). وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه)، والمشاقص هي: سهام عريضة، وواحدها: مشقص فلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم على حاله تلك امتنع من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم. إذاً: في هذه الأحاديث أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الاسم، يعني: لا بد أن نعرف هذه النعمة التي نحن نتمتع بها، هذا البدن، وهذه الحواس التي أعطانا الله عز وجل وهذه الروح، ليست ملكاً لنا، يعني: أنت لا تملك نفسك، وليس من حقك أن تقتل نفسك في أي وقت وتعطل هذه الحياة أو تكفر بنعمة الحياة، الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق ابن آدم: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]، فتعجل إنهاء الأجل بالانتحار هذا من العدوان على حرمات الله تبارك وتعالى. عندما كنا نتكلم على موضوع التبرع بالأعضاء، وذكرنا كلام العلماء الذين منعوا ذلك وقلنا: إنهم بنو المنع على أنك لا تملك هذه الأعضاء، بل هي وديعة الله سبحانه وتعالى عندك، فأنت لا تملكها كقطع غيار السيارات والآلات وغير ذلك. فيؤخذ من هذه الأحاديث أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره، فهل بعد ذلك لا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا))؟

الحكمة من تحريم قتل النفس

الحكمة من تحريم قتل النفس من رحمة الله بنا أنه حرم علينا أيضاً أن نقتل أنفسنا، ليس فقط أن نقتل غيرنا، لكن أن نقتل أنفسنا، هذه من رحمة الله عز وجل؛ لأن نفسك ليست ملكاً لك مطلقاً، بل هي لله تعالى، فلا تتصرف فيها إلا بما أذن لك فيه. والله حرم علينا الانتحار، والإنسان قد نهي عن تمني الموت كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، حتى إنه ذكر من أشراط الساعة: (أن يمر الرجل على قبر الرجل يتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكانه، ما به الدين إلا البلاء)، يعني: يكثر عليه البلاء والفتن ويتمنى الموت، ليس من باب أنه يخاف على دينه من الفتن، لكن ليس بقادر على أن يصبر على البلاء، وهذه من أشراط الساعة إلا أنها سيقت في سياق الذم، فهذا ذم لمجرد أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت، فكيف بمن يقتل نفسه بالفعل؟! لا شك أنه يكون أشد، فهذا الإنسان الذي يقدم على الانتحار والعياذ بالله هو يريد التخلص من ألم سببه بلاء وقع عليه في الغالب، ولا شك أن هذا الإنسان لو كان عنده يقين وإيمان لا يمكن أبداً أن يقدم على هذا الفعل الشنيع؛ لأنه يتصور أنه نتيجة البلاء الذي وقع فيه يريد أن يستريح من البلاء فيقتل نفسه، لو أن عنده إيماناً بالغيب ويعرف هذه الأحاديث وهذه النصوص لأدرك أنه ينتقل من بلاء إلى بلاء أشد منه أضعافاً مضاعفة. كل بلاء في الدنيا يعوضه الله، إذا كان فقد ولداً أو عزيزاً عليه، فيمكن أن يخلف الله سبحانه وتعالى غيره من الأولاد، وإذا كان عليه دين -وكثير من الناس ينتحرون بسبب الدين- وليس عنده من الأموال ما يفي بهذا الدين، والمال غاد ورائح، والله سبحانه وتعالى أوجد مخارج كثيرة، منها: أنه حض صاحب المال بقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، يؤجله إلى ميسرة، ويجتهد هو في السعي والكسب، ولو بدأ من الصفر حتى يرزقه الله سبحانه وتعالى ويؤدي عنه دينه، حتى لو مات مديوناً فهو أخف من أن يموت قاتلاً لنفسه، ونحن هنا لا نتكلم في الذي يموت لأن مطربه المحبوب مات، أو لأن فريقه خسر فهؤلاء السفهاء ما لنا بهم شأن، يعني: هؤلاء لا يدرجون في العقلاء، لأنهم لا عقول لهم. ومن المعلوم أنه إلى عهد قريب ما كانت تعرف مشكلة الانتحار إلا القليل النادر، يعني: لم تكن تلفت النظر، وما زالت -ولله الحمد- البلاد الإسلامية عموماً سليمة من هذه المشكلة، وذلك حينما يطالع الإنسان بعض البحوث الطبية في بعض المراجع التي كتبها الكفار، وجهات رسمية معتمدة سواء منظمة الصحة العالمية وغيرها، حين يطالعها يشعر أنهم يحسدوننا على ما آتانا الله من فضله، ويحسدوننا على نعمة الإسلام، قرأت إحصائيتين عن انتشار مرض الإيدز في أوروبا، ووحدت فيها أن المعدلات في الإصابات تصل إلى حوالي عشرة ملايين والعياذ بالله، بينما تكاد تجد البلاد الإسلامية خالية من هذا المرض، حتى إن منظمة الصحة العالمية في تقريرها تطالب للحد من مرض الإيدز بتدعيم التوجيه الديني الإسلامي؛ لأنه من أعظم طرق الوقاية والحماية من هذا المرض الخطير، ولأن القيم الإسلامية هي التي عصمت منطقة الشرق الأوسط كلها من هذا الشر، ومنطقة الشرق الأوسط المقصود بها البلاد الإسلامية، فقد أثبتت الإحصائيات أن عدد الحالات في شمال أفريقيا مائة ألف حالة، وهذا العدد يعتبر قليلاً جداً، وقالوا: إن جميع هذه الحالات إنما كانت بسبب نقل الدم، وبسبب الوافدين الذين يأتون من بلاد الغرب وينشرون هذا المرض الخبيث، ولكن هذا بلا شك إنما يعزى لفضل الله سبحانه وتعالى علينا والتقيد بالإسلام، مع أننا غير ملتزمين بالإسلام كما يرضي الله، ومع ذلك فقد حفظنا الإسلام وعصمنا من هذه الشرور، وانظر إلى كلامهم أيضاً عن البلاد الإسلامية فيما يتعلق بالكحولات، فهم قد أعيتهم الحيلة ولم يجدوا أي طريقة لزجر الناس عن الكحول وبيان أخطارها، بينما في البلاد الإسلامية بفضل الله مهما وجد المنحرفون والفاسدون بيننا، لكن الغالب الأعم أننا في عافية من بلاء الخمر والكحول، أما في الغرب حتى الأطفال ينتحرون. فهم في أمور كثيرة جداً في الحقيقة ينظرون إلينا بنوع من الحسد، ومع ذلك فهم يكرهون على الاعتراف بفضل الإسلام في حماية المسلمين من هذه الشرور. بالنسبة للانتحار فإنك تجد أنه كلما ارتقت المجتمعات بمستوى الرخاء المادي والعلمي كلما ازدادت نسب الانتحار، فتجد أن أعلى بلاد العالم في الدخل التي هي السويد، معدل الانتحار فيها معدل كبير جداً، أما في بلاد المسلمين فهو شيء نادر بالنسبة لغير البلاد الإسلامية، وهذه من نعمة الله ومن فضائل الإسلام، وفضائل وبركات هذه الملة الحنيفية. وما وجد هذا الداء إلا بعد أن تسربت المفاهيم الغربية في المجتمعات الإسلامية، وبدأ يظهر ضعف الإيمان، وضعف اليقين في الناس، وبالتالي بدأنا نسمع عن هذه الحالات، فهؤلاء يكفرون بنعمة الحياة، ومهما تعلل المنتحر بالأعذار فهو لا يعذر في قتل نفسه، ولن تشفع له، ولن تدفع عنه نقمة الله، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى. لو أن شخصاً رسب في الامتحان، فإعادته للسنة أهون من أن يقتل نفسه فيصير إلى عذاب دائم، يعني: بهذه الصورة إن هو قتل نفسه فهذا ما عنده يقين، هل هذا عنده إيمان أو يقين؟! هو ما نظر للمصيبة التي تعود عليه في دينه بأن يعذب في قبره ويعذب بالنار يوم القيامة، وأن ما خسره في الدنيا فإنه يمكن تعويضه والتراجع عنه. ويعلم أن هذا البلاء لا يدفع إلا بمشيئة الله، واحد يغلب في مباراة أو في سباق أو واحد كما ذكرنا مات عزيز عليه أو أثقلته الديون، فضلاً عمن ذكرنا ممن يقتل نفسه؛ لأن الزعيم صاحبه مات، أو الذي يحبه أو المطرب أو المغنية أو غير ذلك من هذه الأشياء، أو قد لا يجد ما يقتات به فينتحر، فالإيمان هو الذي يحجز المؤمنين عن مثل هذه الأفعال الشنيعة؛ لأن المؤمن يصبر على قضاء الله عز وجل وقدره، يقول عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن!). نجد أيضاً الأمراض النفسية الفضيعة، معدلها في بلاد المسلمين قليل جداً بالنسبة لما هي عليه في بلاد الكفار، فهذا لا شك مما يجعلنا نتمسك بما تبقى لدينا من الإسلام وبحبل الله، مع أننا لسنا على الطريقة المرجوة. يقول الشافعي رحمه الله تعالى: فلا حزن يدوم ولا سرور ولا بأس عليك ولا رخاء فلا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء ويقول آخر: طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فالدنيا دار ابتلاء، لابد من الصبر فيها مهما تنوع البلاء، المهم أن لا يكون البلاء في الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)، إذا كانت المصيبة في غير الدين فلا تجزع؛ لأن الدنيا تعوض. من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض سئل شيخ الإسلام عن رجل له مملوك هرب ثم رجع، فلما رجع أخذ سكينه وقتل نفسه، فهل يأثم سيده؟ يأثم على قتل نفسه فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الحمد لله، لم يكن له أن يقتل نفسه، وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى عليه، بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله، فإن كان سيده ظلمه حتى فعل ذلك، مثل أن يقتر عليه في النفقة، أو يعتدي عليه في الاستعمال، أو يضر به، أو يضره بغير حق، أو يريد به فاحشة ونحو ذلك فإن على سيده من الوزر بقدر ما نسب إليه من المعصية، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على من قتل نفسه، فقال لأصحابه: (صلوا عليه)، فيجوز لعموم الناس أن يصلوا عليه، وأما أئمة الدين الذين يقتدى بهم، فإذا تركوا الصلاة عليه زجراً لغيره اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا حق، والله تعالى أعلم. إذاً المنتحر لا يصلي عليه من يقتدى به من العلماء وغير ذلك، لا يصلى عليه حتى ينزجر أمثاله من الناس وحتى يعرفوا أن هذه عقوبة من يفعل ذلك، لكن يترك عموم الناس يصلون عليه لبقائه في دائرة الإسلام حتى لو أتى بهذه الكبيرة، وهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فهذا ما تيسر في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:29 - 30].

النساء [31 - 42]

تفسير سورة النساء [31 - 42]

تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه)

تفسير قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]. ((إِنْ تَجْتَنِبُوا)) أي: إن تتركوا. ((كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)) أي: كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها، سواء ما ذكر قبل هذه الآية أو مما ذكر في غيرها من الآيات والأحاديث. ((نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) أي: نمح عنكم صغائر ذنوبكم، وندخلكم الجنة؛ ولذلك قال: ((وَنُدْخِلْكُمْ)) أي: في الآخرة. ((مُدْخَلًا كَرِيمًا)) أي: حسناً وهي الجنة. و ((مدخلاً)) إما أنها اسم مكان، يعني: ندخلكم مكاناً مدخلاً، وإما أنها مصدر من أدخل يعني: إدخالاً مع كرامةٍ. وفي الآية دليل على أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وفيها أيضاً رد على من زعم أن المعاصي كلها كبائر، وأنه لا صغيرة، بل الواضح من الآية أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وإلى كبائر. كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم على أن من الذنوب كبائر وصغائر، قال الله تعالى: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ))، وقال أيضاً: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، يعني: مكفرات الصغائر إذا اجتنبت الكبائر.

درجات الأعمال المكفرة

درجات الأعمال المكفرة هذه الأعمال المكفرة، لها ثلاث درجات: إحداها: أن تقصر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها، والقيام بحقوقها، يعني: كالذي يتعاطى دواءً ضعيفاً يقصر عن مقاومة الداء كماً وكيفاً، فهذه الحالة الأولى بالنسبة للأعمال المكفرة التي تكفر الخطايا. الدرجة الثانية: أن تقاوم الصغائر، ولكنها لا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر. الدرجة الثالثة: أن تقوى على تكفير الصغائر، وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، وكما في الحديث: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرت كبائر الذنوب. يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)) وهي ما ورد عليها وعيد كالقتل والزنا والسرقة، قال ابن عباس: هي -أي: الكبائر- إلى السبعمائة أقرب، وفي رواية أخرى: إنها إلى السبعين أقرب، وهذه الرواية أصحهما عن ابن عباس، يعني: أن الكبائر عددها إلى السبعين أقرب منها إلى غيره. ((نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) صغائر الذنوب بالطاعات. ((وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا)) بضم الميم وفتحها أي: إدخالاً أو موضعاً (كريماً) وهو الجنة.

تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)

تفسير قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32]. نهى تبارك وتعالى عن التحاسد، وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه، مما يجري فيه التنافس، ولذلك قال: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32]. يقول السيوطي في قوله تعالى: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ))، من جهة الدنيا أو الدين؛ لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض. ((للرجال نصيب)) يعني: ثواب، ((مما اكتسبوا)) بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره. ((وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ))، من طاعة أزواجهن، وحفظ فروجهن وغير ذلك، وقد نزلت هذه الآية لما قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)))؛ لأن النساء على لسان أم سلمة يسألن كيف يغزو الرجال ونحن لا نغزو، وفي نفس الوقت نعطى نصف الميراث، فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ))، قال مجاهد: وأنزل فيها: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية المعروفة في سورة الأحزاب، وحديث أم سلمة صحيح الإسناد. وفي رواية: نزلت لما قالت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (ليتنا كنا رجالاً فجاهدناً، وكان لنا مثل أجر الرجال). فالمقصود من الآية: ((لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ)) أنه ينبغي لكل فريق أن يرضى بما قسم له. ((وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)) يعني: ما احتجتم إليه يعطكم. ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)) ومنه محل الفضل وسؤالكم.

تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون)

تفسير قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) قال تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33]. (ولكل) أي: لكل من الفريقين من الرجال أو النساء. ((جَعَلْنَا مَوَالِيَ))، موالي: جمع مولى، يعني: المقصود ورثة وعصبة يعطون مما ترك الوالدان والأقربون، فيرثون ما تركوا لهم من المال. {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:33]، أو: (والذين عاقدت أيمانكم) بالألف ودونها، وهذا المبتدأ ضمن معنى الشرط؛ لذلك وقع خبره مع الفاء؛ لأنه جاء بمعنى الشرط: يعني: (والذين إن عاقدتموهم فآتوهم نصيبهم) فكلمة: (الذين عقدت) أو (عاقدت أيمانكم) تضمنت فيها معنى الشرط؛ فلذلك جاءت الفاء في الخبر، فقال تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33]. أما قوله تعالى: ((أَيْمَانُكُمْ))، فهذا جمع يمين، إما أنها تكون يميناً بمعنى القسم، أو الأيمان من الأيادي، أي: اليد، اليمنى، ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)) جمع يمين بمعنى القسم، وإن كان هذا أولى؛ لأن العقد خلاف اليد. والله جل وعلا قال: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ} [النحل:91]، ما الذي ينصرف إليه كلمة (الأيمان) هنا؟ العقد وليس اليد: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91]، فلهذا يرجح أن يكون المقصود بالذين عقدت أيمانكم أنها جمع يمين بمعنى القسم، وهذا أرجح من القول بأنها اليد، حتى إن قلنا: ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ)) أو (عاقدت أيمانكم) بمعنى: اليد، فيلزم من ذلك أنهم كانوا يضعون الأيدي عند المعاهدات، أو يضع يده في يد من يتفق معه توثيقاً لهذا العقد، كما يحصل في عقود الزواج وغير ذلك، وحتى عند البيع، كانوا إذا وافق البائع والمشتري وحصل الإيجاب والقبول فيتم الصفق باليد على اليد الأخرى، إيماءً إلى توكيد هذا العقد ونفوذه. فقوله هناك: ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)) جمع يمين بمعنى القسم، أو اليد التي يضعونها في العهود. المقصود من الآية: هؤلاء الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فكان هذا الحلف يحصل في الجاهلية، بمعنى: أن الإنسان له أن يتخذ حليفاً أو ولياً ويتفق معه ويقول: إن دمي دمك، ومالي مالك، وإذا أنا مت فإنك ترثني بدون أسباب الميراث الذي هو عن طريق النسب. فيكون عقد اليمين في الحلف والعقود والعروض، ((وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)) أو (والذين عاقدت أيمانكم) يعني: من هؤلاء الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة وعلى الإرث. {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}، فآتوهم الآن نصيبهم وحظوظهم من الميراث وهو السدس. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33] يعني: مطلع على حالكم، وهذا منسوخ بقوله تبارك وتعالى في سورة الأنفال: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]. وهذه الآية المذكورة يؤخذ منها أنهم أمروا بأن يوفوا بعقود الموالاة التي كانت بينهم في الجاهلية على النصرة والإرث، فأمروا أن يوفوا بما عاقدوا، ونهوا أن ينشئوا بعد هذه الآية معاقدة جديدة، بمعنى: أنهم نهوا عن إنشاء معاقدة جديدة فيما يأتي، ولكن أمروا بأن يوفوا بما تم في الجاهلية.

تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء)

تفسير قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) قال تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34]. (الرجال قوامون) أي: مسلطون. (قوامون) جمع قوام، وهو القائم بالمصالح والتأديب والتدبير، يعني: الرجال مسئولون عن هذه الأشياء. (على النساء) أي: يقومون عليهن آمرين ناهين قيام الولاة على الرعية، فمسألة القوامة هي مسألة تنظيمية، وليست مسألة استفزازية، وليس معنى ذلك أن الرجل يطغى على المرأة ويظلمها، لكن بما ميز وبما فضل به الرجل على المرأة فإنه بذلك يصير له حق القوامة، بمعنى: أنه مسئول عن تسيير أمرها، كما يلي الراعي أمر رعيته ويقوم على أمرها.

أسباب تفضيل الرجال على النساء

أسباب تفضيل الرجال على النساء بين الله تبارك وتعالى في هذه الآية إلى أن ذلك بسببين: أحدهما: وهبي، والآخر: كسبي. أما الوهبي: فهو فضل الذكورة، (بما فضل الله به بعضهم على بعض) والبعض المفضل هو الرجال على بعض وهو والنساء، وقد ذكروا في فضل الرجال على النساء أموراً كثيرة، فمثلاً في الرجال: العقل، والحزم، والعدل، والقوة، والفروسية، والرمي، ومن الرجال الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى، والإمامة الصغرى، والجهاد والأذان والإقامة والشهادة في المجامع، والولاية في النكاح والطلاق، والرجعة، وعدد الأزواج، وزيادة السهم والتعصيب، وهم أصحاب اللحى والعمائم كما يذكر العلماء، والكامل بنفسه له حق الولاية على الناقص بنفسه، فهذا فيما يتعلق بالتفضيل الأول، وأشار للتفضيل الثاني وهو التفضيل الكسبي بقوله تبارك وتعالى: ((وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، فهذا السبب الثاني للقوامة: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، والنساء ما زلن يتذكرن قوله تعالى آنفاً: ((وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا)) إلى آخره، والنساء العاقلات لا يعترضن على هذا؛ لأن هذا أمر واقعي. وهناك استثناءات من هذا، فقد يكمل بعض النساء فتكون امرأة فعلاً بعدة رجال في دينها وعقلها وحفظها، لكن الغالب بخلاف ذلك، كما يقول الشاعر في فضليات النساء: فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال ويكفي دليلاً على ذلك -حتى لا نطيل في هذه القضية التي يحلم كثير من الناس الإفاضة فيها- أن عامة النساء تفضل أن يكون مولودها ذكراً على أن يكون مولودها أنثى. فقوله تعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ))، أي: يقومون على النساء، يؤدبونهن ويأخذون على أيديهن. ((بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ))، أي: بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك. ((وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ))، وبما أنفقوا عليهن من أموالهم، تكون في المهور وغير ذلك. ((فَالصَّالِحَاتُ)) أي: الصالحات من النساء ((قَانِتَاتٌ)) هذه صفة الصالحات من النساء وهي أنهن مطيعات لأزواجهن.

معنى حفظ الزوجات للغيب

معنى حفظ الزوجات للغيب قوله ((حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ)) يعني: حافظات لفروجهن ولأموال أزواجهن وبيوتهم في غيبتهم. ((بِمَا حَفِظَ اللَّهُ))، في الحقيقة هذه الآية فيها تفصيل كثير، ومعان كثيرة، وتحتاج إلى محاضرات عدة، لكن حتى ننجز القدر المطلوب من التفسير نحاول أن نمر مروراً سريعاً. أيضاً يدخل في حفظ الغيب، عدم نشر ما يكون بين الزوجين متعلقاً بالجماع، فهذا يذكر أيضاً في حفظ الغيب. (حافظات للغيب بما حفظ) لهن، (الله). فالباء هنا في قوله تعالى: ((بِمَا حَفِظَ اللَّهُ))، تحتمل أمرين: إما أنها للمقابلة، كما تقول: هذا في مقابلة ذاك، يعني: كما أن الله سبحانه وتعالى حفظ لهن حقوقهن، بأن أوصى الأزواج بالنساء، وكذلك فعل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فشرع لهن الحقوق وأمر الأزواج بحفظ هذه الحقوق، فينبغي في مقابلة ذلك أن تحذر الزوجة من أن تخونه في غيبته في عرضه وماله ونفسها إلى آخره، فهذا معنى (حافظات للغيب بما حفظ الله)، يعني: في مقابلة ما حفظ الله لهن، فعليهن أن يطعن أزواجهن ويحفظن الغيب. أو الباء هنا في قوله تعالى: (بما حفظ الله) أي: مستعينات بحفظ الله تبارك وتعالى، فالباء للاستعانة، ومعنى ذلك: أن هؤلاء النساء الصالحات القانتات حافظات للغيب كما ذكرنا بما حفظ الله لهن، يعني: لا يتم حفظهن للغيب من حفظ الفروج والأموال وغير ذلك إلا باستعانتهن بالله، إذ لو تُركن لدواعي أهوائهن ونفوسهن لغلبت عليهن الأهواء، إلا أن يحفظهن الله؛ لأن الله خيرٌ حافظاً، فمهما كن صالحات فإنهن لا يثقن بأنفسهن وإنما يستعنّ بالله في حفظ الغيب بما حفظ الله تبارك وتعالى.

عدم جواز تولي المرأة للقضاء

عدم جواز تولي المرأة للقضاء واستدل بالآية على أنه لا يجوز للمرأة أن تلي القضاء، أو الإمامة العظمى؛ لأنه جعل الرجال قوّامين عليهن، فلم يجز أن يقمن هن على الرجال كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). وفي الحقيقة وضع المرأة في الإسلام هذا موضوع ذو شجون، والكلام فيه طويل جداً.

صفة التعامل مع الزوجة الناشز ومراحله

صفة التعامل مع الزوجة الناشز ومراحله يقول تبارك وتعالى: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)). أي: عصيانهنّ لكم بأن ظهرت أمارته، هنا تفسيران لقوله تعالى: ((تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)): الأول: أن المرأة قد وقع منها النشوز بالفعل. الثاني: أي أنكم تتوقعون نشوزهن. فقوله تعالى: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ)) يعني: عصيانهن لكم بأن بدأت تظهر أمارة النشوز ودلائله، ففي هذه الحالة تطبق ما ذكر الله بعد ذلك من المراحل بالترتيب. الأولى: ((فَعِظُوهُنَّ)) أي: فخوفوهن الله. الثانية: ((وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)) أي: اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز. الثالثة: ((وَاضْرِبُوهُنّ)) ضرباً غير مبرح إن لم يرجعن بالهجران، يعني: إن لم ينفع الهجران ننتقل إلى المرحلة الثالثة وهي الضرب غير المبرح. ((فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ)) يعني: فيما يراد منهن، ((فَلا تَبْغُوا)) لا تطلبوا ((عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا))، طريقاً إلى ضربهن ظلماً. وأيضاً: لا شك أن هذه الآية مما يحتاج إلى كثير من التفصيل؛ لأن بعض الناس يسيء فهم موضوع ضرب النساء، حتى إن أعداء الإسلام يشنعون على كلام الله تبارك وتعالى ويضلون الناس عن سبيله، بسبب سوء مسلك بعض الرجال الجهلة من المسلمين. فأعداء الدين من الكفار ينشرون في وسائل الأعلام أن المسلم يعتقد أنه يجب عليه أن يضرب زوجته كل يوم في الصباح وفي المساء، ويعتقد أيضاً أن هذه عبادة، وهذا مما يضحك، لكن هذا واقع، فهم يشنعون على الإسلام بهذه الافتراءات والأكاذيب، مع أن الضرب بعد استيفاء شروطه مكروه، أي: أن الضرب مباح مع الكراهة ولا يباح بإطلاق؛ ولذلك ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده لا امرأة ولا خادماً ولا شاة قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هؤلاء الذين يظلمون النساء: (ما تجدون أولئك خياركم) يعني: مع الإباحة فإن خيار المسلمين لا يفعلون ذلك. فالموضوع فيه تفصيل، ومن ذلك أنه ينظر إن كان الضرب يجدي فليجأ إليه، أما إن كان الضرب يزيد في النشوز فلا داعي أصلاً للجوء إليه، وهذا ليس فقط في حق النساء، بل حتى الصغار، فالضرب ليس عملية تنفيس، بمجرد أن يغضب على الولد فهو يريد أن يستريح ويشفي غليله بضربه. فمع أن الضرب قد يؤدي إلى التشويه العضوي البدني في الولد لكن خطورته في التشويه النفسي أعظم وأكبر، حيث تصبح عنده عاهة نفسية. المقصود من الضرب أنه وسيلة للتأديب، فإذا لم يؤد للتأديب، ولم يعد بفائدة فسيكون ضرراً محضاً، وإنما يلجأ إليه لأجل تحصيل المنفعة من ورائه. ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)) يعني: فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن، وإذا كنتم قد جعلكم الله من القوامين عليهن وأعلى منهن فاعلموا أن الله أعلى منكم فاتقوا الله فيهن؛ ولذلك قال: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا))، أي أعلى منكم، وأكبر منكم، فإن ظلمتموهن ينتقم الله سبحانه وتعالى منكم؛ ولذلك قال بعض السلف: (إني لأستحيي من الله أن أظلم من لا يجد له ناصراً إلا الله تبارك وتعالى).

تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما)

تفسير قوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما) {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء:35]. بعدما ذكر الله حكم النفور وحكم النشوز الذي يصدر من جانب الزوجة، ذكر بعده مباشرة النفور من الزوجين معاً، فقال تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)). (وإن خفتم) علمتم، (شقاق بينهما) يعني: خلاف بينهما، يعني: وجود نزاع بين الزوجة والزوج. فإذا كان النفور بين الزوجين من الطرفين: (فابعثوا حكماً). قوله تعالى: (شقاق بينهما) يعني: بين الزوجين، والإضافة للاتساع، والأصل: شقاقاً بينهما، فأضيف المصدر إلى ظرفه، كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33]، بمعنى: بل مكر في الليل ومكر في النهار، وهو ظرف. ((فَابْعَثُوا))، إليهما برضاهما (حكماً) رجلاً عدلاً. (من أهله) أي: من أقاربه، (وحكماً من أهلها). ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه، وتوكل هي حكمها في الاختلاع، فيجتهدان -أي: الحكمان- ويأمران الظالم بالرجوع، أو يفرقان إن رأياه. قال سبحانه: ((إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)). (إن يريدا) قيل: الزوجان، وقيل: الحكمان، (إصلاحاً) يعني: بصدق نيتهما فيه. ((يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)) يعني: بين الزوجين، أي: يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح، أو تفريق. ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا)) بكل شيء ((خَبِيرًا)) بالبواطن كالظواهر.

مهمة الحكمين بين الزوجين ومدى سلطتهما

مهمة الحكمين بين الزوجين ومدى سلطتهما قول السيوطي رحمه الله تعالى: ويوكل الزوج، فيه اشتراط التوكيل وهو مذهب الشافعي والأحناف، ومعنى يوكله: أن صاحب السلطة الحقيقية هو الزوج لا الحكم؛ لأن مهمة الحكمين عند الشافعية والأحناف منحصرة فقط في الإصلاح، وليس لهما أي طريقة غير الإصلاح بين الزوجين إلا بتفويض من الزوجين. أما مذهب مالك فيمنح الحكمين حق الحكم بالتفريق من دون توكيل الزوجين لهما؛ لأن الحكم نفسه لا يكون حكماً إلا إذا كان له سلطة في اتخاذ مثل هذا القرار، فعند المالكية لا يفتقر إلى التوكيل؛ لأنه بوصفه حكماً له حق الطلاق حسبما يتفقان، أما عند الشافعية والأحناف فلا بد من التوكيل.

تفسير قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)

تفسير قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) قال تبارك وتعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]. (واعبدوا الله) وحدوه، (ولا تشركوا به شيئاً) كما جاء في الحديث المشهور من حديث معاذ أنه قال: (ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن يدخلهم الجنة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. تنزل ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) أي: أحسنوا بالوالدين إحساناً، يقدر فعل قبله وهو: وأحسنوا. وهذا مما يبين عظم بر الوالدين، حيث إن الله سبحانه وتعالى يأتي به مقترناً بالأمر بعبادته، يعني: يأتي الأمر بالتوحيد ثم يليه مباشرة الأمر ببر الوالدين. ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))، الإحسان إلى الوالدين لا يتوقف على حياتهما، وإنما يمتد حتى بعد وفاتهما، وذلك بالدعاء لهما وبالتصدق عنهما وغير ذلك. {وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]، يعني: القرابة. {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36]. (وبذي القربى) يعني بذلك: القرابة. (واليتامى) لأن اليتامى فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم، تنزلاً لرحمته عز وجل.

حقيقة المسكين والفرق بينه وبين الفقير

حقيقة المسكين والفرق بينه وبين الفقير قوله: (والمساكين) يعني: المحاويج الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فالذي يكون عنده من الأولاد الكثير ولا يستطيع أن يفي بحاجاتهم هو مسكين. وذكرت من قبل الفرق بين الفقير والمسكين، وقلنا: إذا اختلط عليكم الفرق بين الفقير المسكين فتذكروا الآية في سورة الكهف، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، إذاً المسكين هو الذي يعمل لكنه لا يفي بحاجته. أما الفقير فلا دخل له أصلاً. فتذكر قوله: (لمساكين يعملون).

أنواع الجيران وحقوقهم في الإسلام

أنواع الجيران وحقوقهم في الإسلام قوله: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى))، أي: الذي قرب جواره، أو الذي له مع الجوار قرب واتصال نسب ودين. إذاً الجيران نوعان: جار ذو قربى، وجار جنب، الجار ذو القربى هو الجار القريب الذي يكون قريباً منك إما بنسب أو رحم، وإما بدين فيكون مسلماً. ((وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) أي: الجار الأجنبي. قال نوف البكالي: (الجار ذي القربى) يعني: الجار المسلم، (والجار الجنب) يعني: اليهودي والنصراني. ولا شك أن من محاسن الإسلام الاهتمام حتى بالجار الكافر حيث جعل له حقه وحرمته، ونزل في حفظ حقه قرآناً. وقد وردت الوصية بالجار في أحاديث كثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وهذا متفق عليه، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يشفع الرجل دون جاره)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. قال: فما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام إلى يوم القيامة، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)، وعن ابن مسعود (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك) يعني: بزوجة جارك. وعن أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: (خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنا به قائم ورجل معه مقبلٌ عليه، فظننت أن لهما حاجة، قال: فقال الأنصاري: والله لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الرجل الذي كان معه مقبلاً عليه، ووقف وطال وقوفه مع هذا الرجل، حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام -يعني: أشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام من طول القيام الذي وقفه مع هذا الرجل- فلما انطلق قلت: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل فجعلت أرثي لك من طول القيام، قال: ولقد رأيت؟ قال: قلت: نعم، قال: هل تدري من هو؟ قال: لا، قال: ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، ثم قال: أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد. في هذا الحديث لنا أن نتخيل وقوف الرسول صلى الله عليه وسلم الطويل، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أقوى الناس بدناً، وكان إذا صارع أبطال العرب في المصارعة كان يصرعهم عليه الصلاة والسلام، ومع هذه القوة أشفق عليه الصحابي من طول القيام، فلك أن تتخيل ما مدة هذا القيام؟! وهذا الوقوف الطويل لم يكن في أمر وحكم عادي بل توقع الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام سيورث الجار، مع الأب والأم والابن وغير ذلك. إذاً: المسلم يتعبد الله بحفظ حقوق الجار، حتى وإن قدر على أذيته أو الانتقام منه فإنه لا يفعل ذلك؛ لأنه ينزجر خوفاً من الله سبحانه وتعالى، ورعاية لحق الله، فالدافع إلى الإحسان في الإسلام هو رقابة الله سبحانه وتعالى وليس أن يقابل بالمثل. إذاً: ما نجده في مجتمعات المسلمين اليوم هو أبعد ما يكون عن آداب الإسلام، حتى إن الجار لا يعرف اسم جاره في البنايات الجديدة، ونادراً ما تجد رغبة في التقارب أو أداء حقوق الجوار، هذا إذا لم يحصل الأذية، بل تجد صوراً كثيرة من الأذى وأحياناً تكون باسم الدين، كهذا الذي يستعمل مكبرات الصوت لسماع القرآن الكريم، هذه الصورة تؤذي الشيخ الكبير والطفل والمرأة والمريض وغيرهم، هل يصح أن يستعمل القرآن بهذه الصورة التي تعرفونها لأذية الناس، فضلاً عن الحفلات والأفراح وما يكون فيها من الأذية، فهذا كله من أذى الجار وهذا من الذنوب. وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً). وروى الإمام مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، أكثر ماءها حتى تستطيع أن توزع منه على جيرانك، وفي رواية: (إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)، ولـ مسلم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)، يعني: غوائله وشروره ومؤامرته وأذيته، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، يعني: الظلف الذي يكون محرقاً، والمقصود: حتى لو كان شيئاً حقيراً فأهده لجارتك، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث المتفق عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره). يقول تعالى: ((وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)) هذه الآية عامة في الجيران سواء كان الجار يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً، والمسلم له حق أعلى بلا شك، باعتبار أنه جار ذو قربى، يعني: إما أن يكون قريب المكان كما قال عليه الصلاة والسلام: (أهدي إلى أقربهما منك باباً)، ومعنى هذا: أن جار القربى مقدم على غيره حتى ولو كان غير مسلم.

أقوال المفسرين في الصاحب بالجنب

أقوال المفسرين في الصاحب بالجنب قال تعالى: ((وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)). يقول السيوطي: الرقيق في سفر أو صناعة، وقيل: الزوجة. فانظر كيف أخلاق الإسلام لم تفوّت شيئاً، ما من شيء إلا فيه ما يرضي الله تبارك وتعالى ويصلح حال العباد. (والصاحب بالجنب) قال سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح. وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر، يعني: إذا رافقك رجل في السفر فهو داخل فيمن أوصى الله بالإحسان إليه، فهو صاحب بالجنب؛ لأن الذي يرافقك في السفر كالجار. يقول الزمخشري: هو الذي صاحبك بأن يكون بجنبك. (والصاحب بالجنب) يعني: قدر أن تكون بجواره، وبجنبه، هذا معنى الصاحب بالجنب، إما يكون رفيقاً في سفر، أو جاراً ملاصقاً، أو شريكاً في تعلم علمٍ، حتى زميلك في المدرسة أو في الكلية الذي يجلس إلى جوارك هو صاحب بالجنب، والذي يجلس بجوارك في مجلس أو مسجد هو صاحب بالجنب، له حق عليك، وعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه، وتجعله ذريعة إلى الإحسان، وقد روي عن علي وابن مسعود أنهما قالا: (الصاحب بالجنب هي المرأة) أي: الزوجة؛ لأنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك، وقد سبق أن ذكرنا قول بعض الشعراء: صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب

وصف ابن السبيل وحكمه

وصف ابن السبيل وحكمه قوله: ((وَابْنِ السَّبِيلِ))، كل هذا داخل فيمن ذكر الله تعالى ممن له حق. ((وَابْنِ السَّبِيلِ)) هو المنقطع في سفره، والمقصود به: المسافر الغريب الذي انقطع عن بلده وأهله، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به، وابن سبيل حتى لو كان ثرياً في بلده وانقطعت به السبيل فهو يستحق من الزكاة. نسب ابن السبيل إلى السبيل -الذي هو الطريق- لمروره عليه، وملابسته وملازمته له، فهو لا يستطيع أن يتحرك منه إلى بلده؛ لأنه لا يجد ما يبلغه، أو الذي يريد غير بلده لأمر يلزمه، فهذا يعطى قدر ما يتبلغ به إلى وطنه. وقال ابن بري: ابن السبيل هو: الذي أتى به الطريق، ولم يذكر السلف من المفسرين وأهل اللغة (السائل) في معنى ابن السبيل؛ لأنه جاء تابعاً لابن السبيل في البقرة من قوله: ((لَيْسَ الْبِرَّ)) إلى قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:177]. وقال بعضهم في تعريف ابن السبيل: ومنسوب إلى ما لم يلده كذاك الله نزل في الكتاب ومنسوب إلى ما لم يلده، أي: ابن السبيل منسوب إلى السبيل.

حقوق الرقيق في الإسلام

حقوق الرقيق في الإسلام قال تعالى: ((وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) من الأرقاء المماليك؛ لأنهم ضعفاء الحيلة فهم في أيدي الناس كالمساكين لا يملكون شيئاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض موته بقوله: (الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة). وأيضاً موضوع الرق في الحقيقة من المواضيع المهمة جداً التي تثير كثيراً من التساؤلات، وإن شاء الله فيما بعد نفصل الكلام في موضوع الرق في الإسلام. وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له: (هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: انطلق فأعطهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)، وهذا رواه مسلم، يعني: يحبس عمن يملك قوته كالمملوك وغيره. فقال عليه الصلاة والسلام: (للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يطعمه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين؛ فإنه ولي حره وعلاجه) متفق عليه. فهذه من الآداب التي ينبغي أن يلتزم بها المسلم تجاه الخادم؛ لأنه الذي يعينه على تحصيل قوته، فهو يشتري الطعام ويتولى إنضاجه وطبخه وغير ذلك، ثم تستأثر أنت به، ويجلس هو يتأذى بريح القدور، هذا ليس من أدب الإسلام في شيء، لكن أكمل صورة أن تجلسه معك، ويشاركك في الطعام، فإن لم تجلسه معك فناوله لقمة أو لقمتين؛ لأنه هو الذي ولي حره، وهو الذي عالج هذا الطعام حتى نضج فصار له فيه شيء من الحق. وقال صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العبيد والرقيق: (إخوانكم خولكم -يعني: ملككم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) متفق عليه.

ذم الاختيال والفخر والدافع لهما

ذم الاختيال والفخر والدافع لهما قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)). (مختالاً) أي: متكبراً عن الإحسان إلى من أمر ببره. لماذا الاختيال بالذات؟ لأن الاختيال قد يكون كبراً، وقد يكون هو المانع الذي يمنع الرجل الذي أنعم الله عليه بالنعم أن يحسن إلى من أُمر ببره، فتجد الرجل الغني قد يستنكف عن أن يجلس بجوار خادمه أو رقيقه، وغير ذلك. (فخوراً) هو الذي يعدد مناقبه ويقول: أنا فعلت وفعلت وغير ذلك تكبراً واختيالاً. إنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع؛ لأن المختال هو المتكبر، وكل من كان متكبراً فإنه قلما يقوم برعاية الحقوق، بل يتجاهل حقوق الناس ومنزلتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس). (فخوراً) أي: أنه لا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة؛ بل لرد أمر الله تبارك وتعالى. عن أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ الملَكة وسيئ الخلق وحسوداً إلا وجدته مختالاً فخوراً، هذه صفة أساسية، وتلا هذه الآية: ((وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)). ثم قال: ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32]، وقد ورد في ذم الخيلاء والفخر الكثير من الأدلة من الكتاب والسنة.

تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل)

تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:37]. (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) أي: يبخلون بما يجب عليهم من الحقوق. (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي: هم في أنفسهم لا ينفقون ويعز عليهم أن يروا غيرهم ينفقون في سبيل الله تبارك وتعالى، فيبخلون بما في أيديهم، وكذلك يبخلون بما في أيدي غيرهم، فتراهم يأمرون الناس بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء ممن وجد، وفي أمثال العرب: أبخل من الضنين بنائل غيره، يقول الشاعر: وإن امرأً ظنت يداه على امرئ بنيل يد من غيره لبخيل يقول الزمخشري: ولقد رأينا ممن بلي بداء البخل من إذا طرق سمعه أن أحداً جاد على أحد سقط به وحل حبوته، واضطرب ودارت عيناه في رأسه، كأنما نهب رحله، وكسرت خزانته ضجراً من ذلك وحسرة على جوده. ((وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ))، أي: من المال والغنى، يكون الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم النعم والغنى فيظهرون الفقر ويكتمون هذه النعم؛ كذلك إذا كانوا موسرين يظهرون الإعسار والعجز بقدر إمكانهم. ((وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا))، فهو وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: الذين يبخلون بما يجب عليهم ويأمرون الناس بالبخل، ((وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) من العلم والمال، وهم اليهود كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم على محمد صلى الله عليه وسلم إنما نخشى عليكم الفقر، وكانوا أيضاً يكتمون ما علموه من صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون الحق وهم يعلمون خبر المبتدأ في قوله: (وأعتدنا) محذوف تقديره: لهم وعيد شديد. (للكافرين) بذلك وبغيره، (عذباً مهيناً) أي: ذا إهانة.

تفسير قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم ويؤت من لدنه أجرا عظيما)

تفسير قوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم ويؤت من لدنه أجراً عظيماً) {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا * وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا * إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:38 - 40]. قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء:38] (والذين) عطف على الذين في الآية قبلها. (ينفقون أموالهم رئاء الناس) يعني: مرائين لهم. {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:38] يعني: كالمنافقين وأهل مكة، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} [النساء:38] أي: صاحباً يعمل بأمره كهؤلاء. {فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]، أي: فبئس القرين هو. قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء:39] يعني: أي ضرر عليهم في ذلك؟ والاستفهام للاستنكار و (لو) مصدرية، أي: لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه من البخل والشح، {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء:39] أي: فيجازيهم بما عملوا. قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]. (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ) أحداً (مِثْقَالَ) أي: وزن (ذَرَّةٍ) ويطلق على أصغر نملة، بأن ينقصها من حسناته أو يزيدها في سيئاته. الله عز وجل منزه عن هذا القدر الضئيل من الظلم، فلا يزيد في السيئات مثقال ذرة، ولا ينقص من الحسنات هذا المثقال. ثم قال تعالى: ((وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))، وإن تك هذه الذرة حسنة -شريطة أن تكون من مؤمن- فإنه يضاعفها، وإن قرئت: (وإن تك حسنةٌ) بالرفع على أن (كان) تامة، وحسنة: تكون فاعلاً فجائز. قوله: (يضاعفها) أي: من عشر إلى أكثر من سبعمائة، وفي قراءة: (وإن تك حسنةً يُضَعّفْها) يعني: الله سبحانه وتعالى من عدله إذا هم الإنسان بالسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه بها شيء، أما إذا هم بها فعملها ففي هذه الحالة تكتب عليه سيئة. أما المكفرات فكثيرة جداً التي قد يكفر بها عنه، أما الحسنة فبعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويضاعف بعد ذلك لمن يشاء فوق السبعمائة ضعف، وفي ذلك قال بعض العلماء: الويل لمن غلبت آحاده عشراته. يعني: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله عز وجل، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو الله عنها، فهذا الرجل عنده رصيد من الخطايا والآثام -التي هي بالآحاد- غلبت العشرات بل المئات من الحسنات، معنى ذلك: أن هذا إنسان مصر على معصية الله عز وجل، ومتفنن في ذلك، حتى إن آحاده غلبت عشراته، فمثل هذا يستحق فعلاً أن يهلك والعياذ بالله، فلا يهلك على الله إلا هالك. قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)) لا يبخس أحداً من ثواب عمله، ولا يزيد في عقابه شيئاً مقدار ذرة، وهي النملة الصغيرة في قول أهل اللغة، قال ثعلب: مائة من الذر زنة حبة شعير، يعني: المقصود بهذه الآية ضرب المثل بأقل الأشياء، ولا نحتاج إلى التعسف من بعض الناس حيث يقومون بحمل ألفاظ القرآن الكريم على ما استحدث من الاصطلاحات الآتية، كأن يتكلم بعضهم عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فيقول: القرآن أخبر بأن الذرة ليست هي أصغر مكونات المادة، بل هنا الذرة تنقسم إلى الإلكترونات، أو النيترونات إلى آخره، ويقول: القرآن الكريم يبين ذلك، أين هذا أيها المدعي؟! فيقول: ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)) إلى قوله: {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} [سبأ:3]، أي: أن هناك أصغر من الذرة. لكن كلمة (الذرة) إذا أطلقت في العرف أو في لغة العرب فإن أذهانهم تنصرف إلى هذا المعنى الصارف الآن. الذرة بسهولة عند العرب أصغر شيء في نظرهم، حتى إنهم كانوا يقولون: هي النملة الصغيرة، فخرج الكلام هنا على أصغر شيء يعرفه الناس. ونحن إذا عرفنا ما هو أصغر من الذرة، فهل الله عز وجل يظلم أقل من الذرة؟ الله عز وجل منزه عن الظلم: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). ((وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا)) أي: يضاعف ثوابها، ((وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ)) أي: زيادة على هذه الأضعاف، (من لدنه) أي: بما يناسب عظمته على سبيل التفضل. ((أَجْرًا عَظِيمًا)) أي: عطاءً جزيلاً، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً، منها: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الشفاعة الطويل يقول الله عز وجل: (ارجعوا، فمن وجدتم معه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار. وفي لفظ: (أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوهم من النار، فيخرجون خلقاً كثيراً). ثم يقول أبو سعيد اقرءوا إن شئتم: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ))).

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد)

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) يقول تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]. كيف يكون حال هؤلاء الكفار؟! علاقة هذه الآية بما قبلها أن الله تبارك وتعالى بين في الآخرة أنه لا يظلم أحداً، وأنه تعالى يجازي المحسن بإحسانه ويزيده على فضل حقه. فبين تعالى في هذه الآية أن عملية الحساب والجزاء بالحسنات والسيئات كذلك يتم بحضور الرسل وشهادتهم، الذين جعلهم الله الحجة على خلقه، لتكون الحجة على المسيء أبلغ، والتنكيل له أعظم، وحسرته أشد، ويكون السرور ممن أظهر الطاعة أعظم، وهذا وعيد للكفار الذين قال الله فيهم: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ))، ووعد للمطيعين الذين قال الله فيهم: ((وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))، وعادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه فيما بعد: كيف بك إذا كان كذا وكذا؟! كيف بك إذا فعل فلان كذا وكذا؟! أو كيف بك إذا جاء وقت كذا؟! (فكيف إذا جئنا) أي: كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل أمة برسولها، واستشهدك على هؤلاء؟! يعني: المخاطبون بالقرآن هم قومه الذين شاهدهم وعرف أحوالهم. ثم إن كل أهل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم، وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117]، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89]، صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}، فقال: حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، معنى ذلك: أن الرسول عليه الصلاة والسلام بكى تعظيماً لهذا الموقف حين يكون في موقف الشاهد، وهذا حال الشاهد صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون حال المشهود عليه؟! وكان عليه الصلاة والسلام يبكي ويشفق من ذلك الموقف، حتى قال: (شيبتني هود وأخواتها)، لما فيها من تصوير أهوال يوم القيامة، وهو صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفضله على العالمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)) كيف يكون حال هؤلاء الكفار إذا جئنا من كل أمة بشهيد -وهو نبيها- يشهد عليها بعملها، (وجئنا بك) أي: يا محمد صلى الله عليه وسلم (على هؤلاء شهيداً).

تفسير قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول) {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} [النساء:42]. (يومئذ) أي: يوم هذا المجيء. (يود الذين كفروا لو) (لو) بمعنى: أن المصدرية. (تسوى) بالبناء للمفعول أو بالبناء للفاعل، مع حذف إحدى التاءين بالأصل، ومع إدغامها في السين، يعني: تقرأ: (وعصوا الرسول لو تُسَوّى) أو: (لو تَسّوّى بهم الأرض) يعني: يتمنون بأن يكونوا تراباً مثلها لعظم هول ذلك اليوم. ((يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ)) أي: يتمنون أن يتحولوا إلى تراب، كل أمتي يوم القيامة في هذا الموقف؛ حتى لا يحاسبوا ولا يعذبوا، كما قال تبارك وتعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]. قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] أي: أنهم يعترفون بجميع ما فعلوه، فهم لا يقدرون على كتمانه؛ لأن جوارحهم هي التي ستشهد عليهم، فهم يودون أن يدفنوا في الأرض حال كونهم لا يكتمون الله حديثاً، ولا يكذبونه بقولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: مع كل الجرائم التي ارتكبوها في الدنيا يأتون يوم القيامة وهم يحسبون أن الكذب يمكن أن ينجيهم، فأي حيلة يتوقعون منها فائدة يسلكونها؛ فلذلك يحلفون أمام الله سبحانه وتعالى يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، كما روى ابن جرير عن الضحاك: أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: (يا ابن عباس، قول الله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}. وقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]) كأنه يسأل عن الجمع بين هاتين الآيتين؛ لأن فيها نوعاً من الإشكال فهو يستوضح، فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد فيقول المشركون: إن الله لا يتقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحده، فيقولون: تعالوا نجحد، فسألهم فقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، قال: فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت بهم ولا يكتمون الله حديثاً.

النساء [69 - 72]

تفسير سورة النساء [69 - 72]

تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول)

تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول) انتهينا في تفسير سورة النساء إلى الآية التاسعة والستين إلى قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) يعني: في طاعة الله عز وجل طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ذكره صلى الله عليه وآله وسلم جاء تشريفاً لقدره وتنويهاً باسمه صلى الله عليه وسلم (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا).

تفسير آية النساء لآية الفاتحة

تفسير آية النساء لآية الفاتحة هذه الآية هي تفسير لقوله تبارك وتعالى في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] فهذه الآية تبين الذين أنعم الله عليهم، والذين أجمل ذكرهم في سورة الفاتحة، فهؤلاء الذين أوجب الله علينا في اليوم والليلة سبع عشرة مرة على الأقل أن نسأله أن يهدينا صراطهم، هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وما ذكر في هذه الآية أيضاً هو المراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم عند موته: (اللهم الرفيق الأعلى) يعني: أسألك الرفيق الأعلى. والرفيق الأعلى هم المذكورون في هذه الآية: (الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين). وفي البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة). وتقول: (وكان صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قالت: فعلمت أنه خير) يعني: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سمعته صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تقول: فعلمت أنه خير) فهذه الرواية أيضاً تفسر قوله في الرواية الأخرى: (بل الرفيق الأعلى) فمعنى ذلك: أن الرفيق الأعلى هم المذكورون في هذه الآية الكريمة.

الحكمة من عدم ذكر المنعم به في الآية

الحكمة من عدم ذكر المنعم به في الآية لم يذكر الله تبارك وتعالى المنعم به ولم يعينه إشعاراً بأن النعمة التي أنعمها عليهم تقصر كل عبارة دون وصفها، فإن دار النعيم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تقوى عبارة مهما كانت على وصف هذا النعيم. قوله: ((من النبيين)) أي: الذين أنبأهم الله أكمل الاعتقادات والأحكام، وأمرهم بإنبائها الخلق كلاً بمقدار استعداده.

الصديقية ومنزلتها وفضلها وحقيقة الشهداء والصالحين

الصديقية ومنزلتها وفضلها وحقيقة الشهداء والصالحين قوله: (الصديقين) الصديقين: جمع صديق، وهو المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة، وباطنه بالمراقبة، صادق في ظاهره في العبادات والمعاملات، وفي باطنه بمراقبة الله سبحانه وتعالى، أو هو الذي يصدق قوله فعله. وقال الرازي: للمفسرين في الصديق وجوه: الأول: أن كل من صدق بكل الدين ولا يتخالجه فيه شك فهو صديق، أي: فالصديق مبالغة من التصديق بكل ما جاء من أمر الدين. والدليل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19]. الثاني: قال قوم: الصديقون أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الثالث: أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في ذلك قدوة لسائر الناس، وإذا كان الأمر كذلك فـ أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف، فإن أعظم الصديقين على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله عنه، فهو أفضل البشر بعد الأنبياء، وأعظم الأولياء وأحبهم إلى الله سبحانه وتعالى. ثم جود الرازي الكلام في سبقه رضي الله تعالى عنه إلى التصديق، وفي كونه صار قدوة للناس في ذلك؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما صدق وبادر بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد ما علم أنه أرسل أو نبئ صار قدوة لمن تبعه على الإسلام بعد ذلك. في هذه الآية أيضاً دليل على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ لأن هذه الآية تدل على إنعام الله عز وجل على هؤلاء الصديقين، وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر بـ الصديق، فدل على أوليته وأحقيته بالإمامة دون من عداه. (والشهداء) يعني: الذين استشهدوا في سبيل الله تبارك وتعالى. (والصالحين) الذين صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم.

مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة

مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة (وحسن أولئك) يعني: هؤلاء المذكورين. (رفيقاً) يعني: في الجنة، والرفيق الصاحب، سمي رفيقاً لارتفاقك به وبصحبته. (وحسن أولئك رفيقاً) يمكن أن يقال: رفقاء، هنا عبر عن الجمع بالواحد؛ لأن هذا يحصل من العرب كثيراً في كونهم يعبرون عن الجمع بالواحد، كالصديق أو الخليل كما في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] والجملة تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق. وقوله تعالى: ((وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا)) فيها معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقاً!

فوائد مستقاة من قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم)

فوائد مستقاة من قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) هنا بعض التنبيهات المتعلقة بهذه الآية الكريمة: أولها: أنه ليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، بينما لا يمكن أن تكون مرتبة ومنزلة واحد من عوام المسلمين في الجنة كمرتبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو كمرتبة أبي بكر وعمر وغير هؤلاء المذكورين. لكن المقصود أن أولئك يكونون معهم في دار واحدة، يعني: تضمهم دار واحدة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضاً، وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه. فهذا هو المراد من هذه المعية، يعني: يمكنهم أن يتلاقوا وأن يتزاوروا، فهم مع الذين أنعم الله عليهم جميعاً في دار واحدة وهي الجنة، وإن تفاوتت مراتبهم ومنازلهم، فهم يتفاوتون ولكنهم يتزاورون، وكل من فيها قد رزق الرضا بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول؛ لأنه لن يشعر بأن غيره أفضل منه، حيث ينزع منه هذا الشعور حتى لا يكدر عليه هذا النعيم، فلا يحس أن غيره أفضل منه، بل رزق الرضا بما أتاه الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر:47]. ثانيها: أنه لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم أفضل من مرتبة الصديقية، ولذلك أينما ذكر في القرآن الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة كما قال عز وجل في صفة إدريس: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56] وقال هنا: ((فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ)) فهو يقرن دائماً بين الصديقين والأنبياء، وإذا ترقيت في النطق من الصديقية وصلت إلى النبوة، وإن نزلت من النبوة ستجد أسفل الأنبياء مباشرة الصديقين ولا متوسط بينهما، وقال عز وجل: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] فلم يجعل بينهما واسطة. وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وصف الله هذه الأمة بأنها خير أمة، والأمة أجمعت على جعل أبي بكر حتى جعلوا الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم توجد واسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر في الخلافة، وإنما خلفه مباشرة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وتحقق عموم قوله عز وجل في شأن الصديق رضي الله تعالى عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا أبكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!). فتحقق هذا الأمر فلم يطلق لقب: خليفة رسول الله إلا على أبي بكر؛ لأنه في عهد عمر رضي الله تعالى عنه قالوا: لو ظللنا كلما أتى خليفة جديد نضيف له هذا اللفظ لطال جداً، يعني: إذا قيل في حق أبي بكر: خليفة رسول الله، ثم قيل في حق عمر: خليفة خليفة رسول الله، وفي حق الثالث: خليفة خليفة خليفة رسول الله، فإن الأمر سيطول، فمن لذلك رأوا أن يستبدلوها بلقب أمير المؤمنين. فشاء الله سبحانه وتعالى أن يختص أبا بكر بهذه النسبة، وأن يكون الله ثالثهما، كما في الحديث: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فعبارة خليفة رسول الله قرن فيها اسم أبي بكر بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأيضاً لما توفي رضي الله تعالى عنه دفنوه إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية. فمن ثم ارتفعت الواسطة بينهما في هذه الوجوه التي ذكرناها.

سبب نزول قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم)

سبب نزول قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) أما سبب نزول هذه الآية فعن سعيد بن جبير قال: (جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان! ما لي أراك محزوناً؟ قال: يا نبي الله! شيء فكرت فيه، قال: وما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغداً ترفع مع النبيين فلا نصل إليك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأتاه جبريل بهذه الآية: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)) فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره). وقد روي هذا الأثر مرسلاً عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبي وقتادة وعن الربيع بن أنس، وروي في بعض الآثار أن ذلك الصحابي الذي حصل معه هذا هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان. بل ذكر مكي ولم يذكره بسنده: (أنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن زيد: اللهم! أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده، فعمي مكانه)، ولو صح أنه دعا على نفسه بالعمى حتى لا تقع عينه على شيء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك وقع لاشتهر ولشاع، فيبعد أن يصح مثل هذا خاصة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا الدعاء بالعافية.

من أسباب مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة

من أسباب مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة في معنى هذه الآية أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، -أي: أسألك- أن تدعو لي بمرافقتك في الجنة- فقال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذلك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: لا تحصل هذه المنزلة إلا بكثرة السجود. ومن الأحاديث في نفس هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن مرة الجهني قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات على ذلك كان مع النبيين والشهداء يوم القيامة هكذا، ما لم يعق والديه، ونصب أصبعيه). وقال ابن كثير: وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: المرء مع من أحب، المرء مع من أحب، قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث، ثم قال أنس بن مالك: والله! إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر وأرجو أن يبعثني معهم، وإن لم أعمل بعملهم). إذاً: هذا من أوثق الأسباب التي يتعلق بها الإنسان كي ينال هذه المراتب العالية، لا بالأماني والغرور ولكن بالاجتهاد في الطاعة وفي العبادة. انظر! مجرد محبة هؤلاء الصالحين تنفعك في الآخرة، وتنال هذا الثواب العظيم: (المرء مع من أحب). وقوله: (المرء مع من أحب) هذا عام يشمل كل من يحب أحداً من المخلوقين، فالذي يحب المغنين والممثلين والمطربين وأبطال الكرة والرياضة يكون معهم، والذي يحب الظلمة والمتجبرين يكون معهم، وكذلك الذي يحب الرسول عليه الصلاة والسلام والذي يحب الصحابة فإنه يكون معهم. فإذاً: من الأسباب التي توصل إلى المراتب العالية في الجنة الاجتهاد في محبة الصالحين، كما قال الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى: أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شر منهم. وقال الإمام الشافعي: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأبغض من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة على أي الأحوال؟ فمحبة الصحابة من أعظم الأسباب التي يرجى أن تنفع صاحبها يوم القيامة، وبالعكس من وجد في قلبه والعياذ بالله بغضاً لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهذا نذير شؤم عليه، ونذير سوء عاقبة؛ لأن من يكون في صف مقابل ومضاد لصف فيه أبو بكر وعمر فسوف يوليه الله عز وجل الظالمين مثله، قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]. فينبغي على كل من وجد في قلبه شيئاً على أحد من الصحابة أن يطهر قلبه منه، وللأسف الشديد كنت أتحدث مع بعض الناس عن مسألة الصحابة رضي الله عنهم وما ينبغي لهم من المحبة في قلوبنا، والجميل الذي في أعناقنا، ونذكر ما بذله لنا الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فوجدت أن بعض الناس الذين نشئوا على المناهج الدراسية في ظل الثورة المشئومة يحطون من قدر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فالمسلم المنصف مهما قرأ فإنه لا يتصور أن هذا هو الشخص الذي درست شخصيته في التاريخ، وصارت الصورة منطبعة في ذهن الكثيرين بشكل مشوه، حتى إن أغلب الناس نتيجة تربيتهم منذ نعومة أظفارهم يبغضون عمرو بن العاص ويبغضون معاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من الصحابة؛ لأن الخبثاء يعمدون إلى شخصيات مثل شخصية عمرو بن العاص فيشوهون صورته كذباً وزوراً، مع أنه هو الذي فتح مصر وطهرها من الوثنية والرجس والأوثان والكفر المبين، وهو الذي جعله الله سبباً لأن يخرجنا من الظلمات إلى النور، وأعداء الدين يريدون أن يقطعونا عن هذه الجذور. فلو أن كل أمم الأرض خاضوا في حق عمرو بن العاص لكان واجباً على المصريين بالذات أن لا يخوضوا معهم أبداً، بل الواجب عليهم أن يذبوا عنه ويستغفروا له ويترضوا عنه رضي الله تعالى عنه. عمرو بن العاص وأمثاله من الصحابة -الذين تتطاول عليهم الأقلام المسمومة- داخلون في عموم نصوص القرآن والسنة التي تحث على محبة الصحابة واحترامهم، وهي كثيرة جداً. والله سبحانه وتعالى قد قسم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام: المهاجرين، والأنصار، ومن يحب المهاجرين والأنصار، فمن ليس من هؤلاء الأقسام الثلاثة فليس من المؤمنين، إما أن تكون مهاجرياً أو أنصارياً وهم الصحابة رضي الله عنهم، أو تكون ممن أتى بعدهم محباً لهم، فإذا لم تحبهم فلست منهم وليسوا منك. يقول سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] أي: المهاجرون، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] أي: الأنصار، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. فمن وجد في قلبه غلاً لواحد من الصحابة فهذا علامة نفاقه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار). وأيضاً يقول الله سبحانه وتعالى في وصف الصحابة رضي الله تعالى عنهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] معنى ذلك: أن الصحابة مدحوا في الكتب السابقة قبل أن يخلقوا، فصفتهم المذكورة هنا في سورة الفتح هي هي تماماً كما وجدت في التوراة التي أنزلها الله على موسى، وفي الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام. {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. قال الإمام مالك: فمن وجد في قلبه غيظاً من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ليس من المؤمنين بل هو من الكفار. فنذير شؤم على أي إنسان أن ينساق وراء هؤلاء الزنادقة والملاحدة الذين يعتلون الآن جميع المنابر الإعلامية، ومناهج التعليم، فصار سمهم منتشراً في كل مكان، بحيث لا ينجو منهم إلا من أراد الله سبحانه وتعالى أن يعافيه من هذا البلاء المستطير، ففي هذا الزمان العجيب لا يكاد يخلو أحد من هذه السموم، فواجبنا أن نطهر قلوبنا وقلوب أبنائنا من سموم المناهج التعليمية، خاصة التي تتطاول على الصحابة. ترى هؤلاء الخبثاء يحرصون على أن يسموا الفتح الإسلامي بالفتح العربي؛ حتى يهربوا من كلمة الفتح الإسلامي. كذلك فتح باب المعاداة لبعض الصحابة خاصة عمرو بن العاص ومعاوية رضي الله عنهما، وما يتبع ذلك من الطعن فيهم وفي غيرهم من الصحابة معناه: أننا نطعن في القرآن والسنة، وهذا هو غرض أعداء الدين. من الذي أدى إلينا هذا الدين؟! ومن الذي حمل إلينا القرآن والسنة؟ إنهم الصحابة، فإذا طعنت في الصحابة كان ذلك طعناً في القرآن والسنة. ولذلك يقول الإمام أبو زرعة رحمه الله تعالى: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، فالصحابة هم الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة، وإنما يريدون بذلك أن يجرحوا شهودنا ليعطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة). ومعنى ذلك: أن من رأيته يسب أحداً من الصحابة أو ينطوي قلبه على عداوة لأحد من الصحابة فاعلم أنه منافق. على أي الأحوال هذا الشخص الذي كنت أتكلم معه يقول: مهما تعلمت رغم حبي الشديد للصحابة واجتهادي في محبتهم لكن أجد من الصعب أن يتخلص قلبي مما بذر في مناهج التعليم التي تعلمناها منذ نعومة أظفارنا من موقف عدائي تجاه عمرو بن العاص، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! الصحابي الذي طهرنا من النصرانية، وطهرنا من الفرعونية، وطهرنا من الشرك، وأنار بلادنا بعد ظلمة الكفر، يكون جزاؤه أن نحمل في صدورنا غلاً عليه رضي الله تعالى عنه. كيف وهو يدخل في كل العمومات التي فيها مدح الصحابة من القرآن أو السنة! فضلاً عما اختص به، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ابنا العاص مؤمنان عمرو وهشام) فالرسول صلى الله عليه وسلم يشهد له بالإيمان وأنت تطعن فيه وتتطاول عليه. ومن أعظم مناقب عمرو بن العاص ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، وجهاده في سبيل الله عز وجل، وأنه يدخل في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (دعوا لي أصحابي، والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

تفسير قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله)

تفسير قوله تعالى: (ذلك الفضل من الله) يقول تبارك وتعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:70] (ذلك) مبتدأ، وهي بمعنى: هذا الذي تقدم، والخبر الفضل من الله، أو (الفضل) تكون بدلاً (من الله) تكون خبراً، يعني: في هذا إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر ومزيد الهداية ومرافقة المنعم عليهم. (الفضل من الله) يعني: ليس من غير الله إنما هو من الله سبحانه وتعالى. إذاً هنا معنى مهم جداً يقول الناصر: معتقدنا معاشر أهل السنة أن الطاعات والأعمال التي يتميز بها هؤلاء الخواص خلق الله تعالى وفعله، وأن قدرتهم لا تأثير لها في أعمالهم بل الله عز وجل يخلق على أيديهم الطاعات ويثيبهم عليها. فالطاعة إذاً من فضله سبحانه فله الفضل على كل حال، والمنة في الفاتحة والمآل، وكفى بقول سيد البشر في ذلك حجة وقدوة فقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام: (لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة) {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58] اللهم! اختم لنا باقتفاء السنة، وأدخلنا بفضلك المحض الجنة. إذاً: فهذه إشارة إلى أن ما نالوه من النعيم المذكور في الآية السابقة ليس بكسبهم، وإنما هو محض فضل من الله عز وجل، فأخبر أنهم لن ينالوا هذه الدرجة العالية بطاعتهم، بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه، خلافاً لما قالت المعتزلة: إنما ينال العبد ذلك بفعله. فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله، دل ذلك على بطلان قول المعتزلة والله تعالى أعلم. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله: (ومن يطع الله والرسول) أي: فيما أمر به (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) وهم أفاضل أصحاب الأنبياء، وسموا صديقين لمبالغتهم في الصدق والتصديق، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً). و (الشهداء) أي: القتلى في سبيل الله، ولا يعد الإنسان مقاتلاً في سبيل الله إلا إذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وما هي كلمة الله، هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما كلمة الكافرين فهي كفرهم بالله تبارك وتعالى. (والصالحين) غير من ذكر. (وحسن أولئك رفيقاً) أي: رفقاء في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرهم. (ذلك) أي: كونهم مع من ذُكِرَ مبتدأ خبره: (الفضل من الله) تفضل به عليهم لا أنهم نالوه بطاعتهم. (وكفى بالله عليماً) بثواب الآخرة، فثقوا بما أخبركم به {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71] يعني: تيقظوا واحترزوا من العدو، ولا تمكنوه من أنفسكم. (خذوا حذركم) فيه الأمر باتخاذ السلاح، وأنه لا ينافي التوكل، وقال بعض المفسرين: دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر من العدو وترك التفرق والاختلاف. (فانفروا) أي: اخرجوا إلى الجهاد. (ثبات) جمع ثبة، والثبة: هي الجماعة، يعني: جماعات متفرقة، سرية بعد سرية، وفرقة بعد فرقة؛ إظهاراً للقوة أمام الأعداء. (أو انفروا جميعاً) أي انفروا مجتمعين كلكم كوكبة واحدة لإظهار المهابة ولتكثير السواد، والمبالغة في التحرز عن الخطر. والتخيير في هذا الأمر هل يكون النفور ثبات -أي: جماعات متفرقة- أو جماعة واحدة موكول إلى اجتهاد الإمام، خاصة إذا كان في العصر الحديث حيث اختلفت طرائق الحروب واستراتيجياتها.

تفسير قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن)

تفسير قوله تعالى: (وإن منكم لمن ليبطئن) يقول تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72]. (وإن منكم لمن ليبطئن) اللام الأولى في قوله: (لمن) هذه لام توكيد، (ليبطئن) لام القسم يعني: يتثاقلون ويتخلفون عن الجهاد والخروج مع الجماعة للنفاق. فالمقصود أن منكم ممن ينتمون لكم في الظاهر وليس هم من المؤمنين، لكنهم يدخلون في جملة المؤمنين بحكم الظاهر؛ لأنهم منافقون يحتمون بكلمة التوحيد وإظهار أنهم من المسلمين. (ليبطئن) يعني: يتثاقل أو يتخلف عن الخروج إلى الجهاد، أو يبطئ غيره ويشيع فيهم ما يثبطهم عن الخروج إلى الجهاد، كما كان المنافقون يثبطون غيرهم. وكان هذا ديدن المنافق عبد الله بن أبي وهو الذي ثبط الناس يوم أحد، وروي عن كثير من التابعين أن الآية نزلت في المنافقين؛ لأن الذي حكي في هذه الآية هو عادة ودأب المنافقين، وقيل: الخطاب للمؤمنين وقوفاً مع صدر الآية التي قبل هذه حيث تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:71 - 72]. الله سبحانه وتعالى قال في المنافقين: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56]. وقوله: (وإن منكم) هذا في الحقيقة خطاب صريح للمؤمنين ولمن يدخل معهم في الظاهر بصفة الإيمان وهم المنافقون؛ لأن ما ذكر لا يصدر عن مؤمن (وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً) يعني: حاضراً. (منكم) يعني: إن من دخلائكم وجيشكم وممن أظهر إيمانه منكم. فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين وتجري أحكام المسلمين عليهم. والجمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب لا من جهة الإيمان، (وإن منكم) يعني: ممن هم في الظاهر من جنسكم، لكن هم في الحقيقة بخلاف ذلك، ولو أصابتكم هزيمة أو شهادة أو تغلب العدو عليكم لما لله في ذلك من الحكمة قال هذا المبطئ فرحاً بصنيعه: (قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيداً).

النساء [88 - 92]

تفسير سورة النساء [88 - 92]

تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين)

تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين) قال تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88]. قوله: ((فما لكم في المنافقين)) يعني: فما لكم تفرقتم في أمر المنافقين؟! وكيف تختلفون على أمر المنافقين؟! ((فئتين)) يعني: فرقتين أي: كيف لم تتفقوا على التبرؤ منهم، والاستفهام هنا للإنكار والنفي، والخطاب لجميع المؤمنين، لكن ما فيه من معنى التوبيخ فهو متوجه إلى بعضهم، وذلك أن فرقة من المؤمنين كانت تميل إليهم وتذب عنهم وتواليهم، وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم، فنهوا عن ذلك الميل، وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبرؤ من المنافقين؛ لأن دلائل نفاقهم وكفرهم ظاهرة جلية. وقد قيل: إن المراد بهم هاهنا عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا، كما تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران.

سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم)

سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم) يوضح ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس قد خرجوا معه في الجيش، وثبطوا الناس عن القتال، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين؛ فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، هم مؤمنون -يعني: باعتبار ما كانوا يظهرون- فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة -يعني: المدينة- وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد) يعني: المدينة تطرد المنافقين منها وتتخلص منهم. وذكر الإمام محمد بن إسحاق في وقعة أحد: أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع يومئذٍ بثلث الجيش -وهم ثلاثمائة- وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة. وثمة رواية أخرى في سبب نزول هذه الآية، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف: (أن قوماً من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا فخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من أصحابه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} [النساء:88]) أي: نكسهم وردهم إلى الكفر. (بما كسبوا) يعني: بسبب ما كسبوا من لحاقهم بالكفار، وابتعادهم عن المؤمنين. (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) تهدوا هنا بمعنى: أن تصفوا بالهداية من أضل الله، وأن تعدوا هؤلاء الضلال من جملة المهتدين. فهنا توبيخ على هذا الفعل من المؤمنين الذين لم يعدوا هؤلاء منافقين ويبرءوا منهم، وإشعار بأن هذا الأمر منهم يؤدي إلى أن يعدوا هؤلاء المنافقين من جملة المهتدين وهو من المحال؛ لأن هداية من أضله الله تعالى من المستحيل، فإنه من يضلل الله فلا هادي له، لذلك يقول الله لهم: (أتريدون أن تهدوا من أضل الله). (ومن يضلل الله) يعني: عن دينه. (فلن تجد له سبيلاً) أي: طريقاً إلى الهدى.

تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا)

تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا) قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:89]. (ودوا لو تكفرون كما كفروا) هذا كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر، وتصديهم لإضلال غيرهم، أي: أنه سبحانه بعدما بين كفرهم وضلالهم في أنفسهم بين تعالى هنا أنهم أيضاً ساعون في إضلال غيرهم، وصدهم عن سبيل الله. (ودوا لو تكفرون كما كفروا) يعني: تمنوا أن تكفروا ككفرهم بعد الإيمان، (فتكونون سواء) في الكفر والضلال. (فلا تتخذوا منهم أولياء) يعني: في العون والنصرة؛ لأنكم إذا واليتموهم فإن ذلك يؤدي ويئول بكم إلى الكفر؛ لأن موالاة الكفار من الكفر. وإن أظهروا لكم الإيمان طلباً لموالاتكم، فلا تتخذوا منهم أولياء. (حتى يهاجروا) يعني: حتى يهاجروا في سبيل الله من دار الكفر إلى دار الإسلام، فحينئذٍ تتحققون من صحة إيمانهم. (فإن تولوا) يعني: عن الهجرة. (فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم) يعني: وإن أظهروا لكم الإسلام مع قدرتهم على الهجرة فافعلوا بهم ما تفعلونه بالكفار؛ لأنهم حينما ينحازون من المؤمنين إلى الكافرين وهم قادرون على الهجرة من وسط الكافرين إلى وسط المؤمنين، ومع ذلك يؤثرون الانحياز إلى معسكر الكافرين، فهنا خرجوا من صفة النفاق وأظهروا الكفر بتحيزهم للكافرين. (فخذوهم) هذا أمر باتخاذهم أسرى. (واقتلوهم حيث وجدتموهم) يعني: سواء كان ذلك في الحل أو في الحرم. (ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً) يعني: لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك. فهذه الآية تدل على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والإلحاد، وهذا متأكد بعموم قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] والسبب فيه أن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين؛ لأن الدين هو الأمر الذي يتقرب به إلى الله تعالى ويتوسل به لطلب السعادة في الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، فأعظم أنواع العداوة ما كان بسبب الدين، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلاً فيه، كأن يعادي دينك ويعادي الله سبحانه وتعالى ويعادي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعروف معلوم أن أكثر مسائل الإيمان أدلة بعد التوحيد هي قضية الولاء والبراء، فهي أكثر قضايا الإيمان من حيث أدلتها بعد توحيد الله سبحانه وتعالى، وبلا شك فإن هذه القضية وثيقة الصلة بالإيمان والتوحيد.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق)

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) قال تبارك وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90]. (إلا الذين يصلون) يعني: الذين يلجئون. (إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) يعني: عهد هدنة أو أمان، فاجعلوا حكمهم كحكمهم؛ لأن هذا سيؤدي إلى قتال من وصلوا إليه، فيفضي إلى نقض الميثاق. وفي هذا احترام للعهود والمواثيق، يعني: الحكم السابق في قوله تبارك وتعالى: (فإن تولوا) أي: عن الهجرة وانحازوا للكفار مع قدرتهم على الهجرة إليكم. (فخذوهم) يعني: بالأسر. (واقتلوهم حيث وجدتموهم) في الحل أو الحرم. (ولا تتخذوا منهم ولياً ولا نصيراً). من الذي يستثنى من هؤلاء المذكورين؟! يستثنى من لجأ إلى قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق، ففي هذه الحالة ينبغي عدم التعرض له، بل يعامل كمعاملة هؤلاء الذين لهم عهد ولهم هدنة ولهم ميثاق؛ لأنه إذا دخل هذا في جوار هؤلاء القوم الذين لهم عهد وميثاق، وحاول المسلمون أن يقتلوه وهو في جوارهم فهذا سيؤدي إلى قتال هؤلاء المعاهدين، وبالتالي تنقض العهود، ومن ثم أمر الله سبحانه وتعالى بأن هؤلاء يعاملون كمعاملة هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق. (أو جاءوكم حصرت صدورهم) يعني: وهؤلاء الذين جاءوكم يستثنون مع هؤلاء اللاجئين. (حصرت صدورهم) يعني: قد ضاقت وانقبضت نفوسهم. (أن يقاتلوكم) لإرادتهم المسالمة فهم يريدون أن يكونوا سلماً لكم، ويكرهون وتضيق نفوسهم بأن يقاتلوكم. (أو يقاتلوا قومهم) أي: معكم لمكان القرابة منهم، فهؤلاء لا يريدون أن يقاتلوكم، ولا يريدون أن يضموا إليكم ليقاتلوا قومهم وقبيلتهم، فهم لا لكم ولا عليكم. إذاً المستثنى هنا من المأمور بأخذهم فريقان: أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين. الآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين. (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) إشعار بقوتهم في أنفسهم، وأن التعرض لقتلهم فيه إظهار لقوتهم الخفية، فهذه الجملة جارية مجرى التعليل لاستثنائهم من الأخذ والقتل. (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم) يقول القاسمي: فيها إشعار بأنه لديهم قوة كاملة هم يستطيعون أن يقاتلوكم، لكن الله هو الذي كف أيديهم عنكم، وأنتم إذا تعرضتم لقتلهم فستستفزونهم، وبالتالي سيأخذون موقفاً معادياً ويشرعون في قتالكم، هذا هو التعليل لسبب استثنائهم من الأخذ والقتل. (فإن اعتزلوكم) يعني: إن تركوكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك. (فلم يقاتلوكم) مع أنهم متمكنون من قتالكم وقادرون على قتالكم، لكن الله سبحانه وتعالى كفهم عنكم. (وألقوا إليكم السلم) أي: الانقياد والاستسلام. (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي: ليس لكم حق في أن تأخذوهم بالأسر أو بالقتل، إذ لا ضرر منهم على الإسلام، وقتالهم يظهر كمال قوتهم.

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ولما رجع ناس من معركة أحد -وهم المنافقون- اختلف الناس فيهم، فقال فريق: نقتلهم، وقال فريق: لا، فنزل: (فما لكم) أي: ما شأنكم صرتم (في المنافقين فئتين) فرقتين، لذلك فإن إعراب كلمة فئتين يكون بتقدير كلمة صرتم. (والله أركسهم) أي: ردهم. (بما كسبوا) من الكفر والمعاصي. (أتريدون أن تهدوا من أضل الله) أتريدون أن تهدوا من أضله الله، أي: تعدوهم من جملة المهتدين، والاستفهام في الموضعين للإنكار. (ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً) أي: ومن يضلله الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى. (ودوا) أي: تمنوا. (لو تكفرون كما كفروا فتكونون) أنتم وهم (سواءً) في الكفر. (فلا تتخذوا منهم أولياء) توالونهم وإن أظهروا لكم الإيمان. (حتى يهاجروا في سبيل الله) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم. (فإن تولوا) يعني: عن الهجرة كما ذكرنا وأقاموا على ما هم عليه. (فخذوهم) بالأسر. (واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم ولياً) توالونه (ولا نصيراً) تنتصرون به على عدوكم. (إلا الذين يصلون) يلجئون. (إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) عهد بالأمان لهم، كما عاهد صلى الله عليه وسلم هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعين على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعينه، على أن من لجأ إليه لا يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم له. (أو) الذين (جاءوكم) وقد (حصرت) ضاقت، (صدورهم) عن (أن يقاتلوكم) مع قومهم، (أو يقاتلوا قومهم) معكم، أي: ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا تتعرضوا إليهم بأخذ ولا قتل. وهذا وما بعده منسوخ بآية السيف. وسبق البيان أن معنى النسخ في مثل هذه المواضع من القرآن الكريم يتفاوت بحسب حال المسلمين، أما النسخ الآخر كنسخ الخمر والربا أو غير ذلك من الأشياء التي نسخ حكمها تماماً. (ولو شاء الله) تسليطهم عليكم، (لسلطهم عليكم) بأن يقوي قلوبهم، (فلقاتلوكم) ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب. (فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم) الصلح أي: انقادوا. (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي: طريقاً بالأخذ أو القتل.

تفسير قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم)

تفسير قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم) قال تبارك وتعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:91]. (ستجدون آخرين) أي: أقواماً آخرين. (يريدون أن يأمنوكم) على أنفسهم بأن يظهروا لكم الإسلام. (ويأمنوا قومهم) يعني: بإظهار الكفر. فهؤلاء يريدون أن يأمنوكم بإظهار الإسلام لكم، ويأمنوا قومهم بإظهار الكفر لهم. (كلما ردوا إلى الفتنة) كلما دعوا إلى الارتداد وإلى الشرك. (أركسوا فيها) أي: رجعوا إلى الشرك منكوسين على رءوسهم. (فإن لم يعتزلوكم) إن لم يتنح عنكم هؤلاء جانباً، بأن يكونوا لا معكم ولا عليكم. (ويلقوا إليكم السلم) يعني: ولم ينقادوا لكم. (ويكفوا أيديهم) يعني: عن قتالكم. (فخذوهم) أي: خذوهم أسرى. (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي: حيث وجدتموهم في داركم أو في دارهم. (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) يعني: حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلاً وسبياً؛ بسبب عداوتهم وغدرهم وإضرارهم بأهل الإسلام، أو تسلطاً ظاهراً في أخذهم وقتلهم لغدرهم.

أقوال المتقدمين من أهل التفسير في قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم

أقوال المتقدمين من أهل التفسير في قوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم يقول الحافظ ابن كثير: قال تعالى: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا). هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء المذكورين قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]. وعن مجاهد: أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا. وقال الأكثرون من المفسرين: في الآية دلالة على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، ونظيره قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم) بإظهار الإيمان عندكم. (ويأمنوا قومهم) بالكفر إذا رجعوا إليهم، وهم بنو أسد وغطفان. (كلما ردوا إلى الفتنة) دعوا إلى الشرك. (أركسوا فيها) يعني: وقعوا أشد وقوع. (فإن لم يعتزلوكم) بترك قتالكم. (ويلقوا) ولم يلقوا إليكم السلم. (ويكفوا أيديهم) عنكم. (فخذوهم) بالأسر. (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) وجدتموهم. (وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) برهاناً بيناً ظاهراً على قتلهم وسبيهم؛ لغدرهم.

تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا)

تفسير قوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً) قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:92]. (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً) يعني: ما ينبغي ولا يصح ولا يليق بمؤمن قتل أخيه المؤمن، ولا يجترئ على إهدار دم أخيه المؤمن؛ لأن الإيمان زاجر عن ذلك، لكن قد يقع ذلك على وجه الخطأ، كالحوادث التي تقع في الطرقات أو أي طريقة لا يجوز فيها القتل العمد، إلا على وجه الخطأ، فإنه ربما يقع لعدم حصول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية؛ لأن هذا قد يكون بغير قصده. قال الزمخشري: فإن قلت: ما إعراب قوله: (إلا خطأً)؟ لها عدة وجوه: الأول: مفعول له، ومعناه: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده. الثاني: أن يكون حالاً، بمعنى: في حال كونه خطأً. الثالث: أن يكون صفة للمصدر، يعني: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) يعني: قتلاً خطأً، فيكون صفة للمصدر. وكل هذه الوجوه جائزة. على أي الأحوال المعنى: أن من شأن المؤمن أن ينتفي عنه حصول قتل المؤمن ابتداءً ألبتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً، أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم.

حكم قتل المؤمن لأخيه المؤمن خطأ

حكم قتل المؤمن لأخيه المؤمن خطأً قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً) يعني: بما ذكرنا، وإن عفي عنه، صحيح هو غير متعمد ولا يعامل معاملة القاتل المتعمد للقتل، لكن هو مع ذلك لا يخلو من تقصير في حق الله تبارك وتعالى، وهذا الخطأ لا يهدر دم المؤمن بالكلية، بل لابد أن يتحمل دم أخيه المؤمن الذي قتل خطأ. ولذلك يقول تعالى: (ومن قتل مؤمناً خطأً) إذا قدر وقوع ذلك. (فتحرير رقبة مؤمنة) يعني: فالواجب عليه لحق الله اعتاق نفس محكوم عليها بالإيمان ولو صغيرة؛ ليعتق الله عنه بكل جزء منها جزءاً منه من النار. فهذا فيما يتعلق بحق الله تبارك وتعالى. روى الإمام أحمد بسنده: (عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله إن عليّ عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال: أعتقها) وهذا إسناد صحيح. وفي موطأ مالك، ومسند الشافعي وأحمد، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود والنسائي، عن معاوية بن الحكم: (أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء -يعني: فوق السماء- قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).

حكمة الإعتاق في القتل الخطأ

حكمة الإعتاق في القتل الخطأ قيل في حكمة هذا الإعتاق: إنه لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء بالقتل خطأً، لزمه أن يدخل نفساً مؤمنة مثلها في جملة الأحرار؛ لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، فانظر تقدير الإسلام لحرية الإنسان حيث جعل إخراج العبد المؤمن أو الأمة المؤمنة من الرق إلى الحرية كفئاً ومقابلاً لإخراجه النفس المؤمنة من الأحياء إلى عالم الأموات. والرق أثر من آثار الكفر، والكافر حكمه حكم الميت؛ لأن الكافر لا حياة له، يقول تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] يعني: من كان كافراً فأحييناه بالإيمان، فالكافر في حكم الميت، حتى إن بعض العلماء فسروا قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] بأنهم الكفار؛ لأنهم مثل أصحاب القبور، حتى لو كان الكافر يرى في صورة الحي رائحاً وغادياً، لكنه في الحقيقة ميت والعياذ بالله. فالرقيق ملحق بالأموات؛ لأن الرق أثر من آثار الكفر، والسبب الأصلي في الرق هو الكفر، إذ بالجهاد في سبيل الله يؤسر الكفار، فيكونوا أرقاء بسبب هذا. وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم أبوا أن يكونوا عبيداً لله سبحانه وتعالى باختيارهم، وليس هذا فحسب بل سعوا في قتال الفئة المؤمنة التي تدعوهم إلى التوحيد، فعاقبهم الله بأن جعلهم عبيداً لعبيد أمثالهم مع إبقائهم على قيد الحياة. فهذا بلا شك أحسن مما يحصل الآن من المجازر التي تحصل في الحروب، ودفن الجنود أحياء وغير ذلك من الأوضاع الشنيعة، فالإسلام استبقاهم أحياء، لكن لما أبوا العبودية لله عاقبهم الله بأن صاروا عبيداً لعبيد أمثالهم، لكنهم من المؤمنين. فإذا حصل أن يسترق الإنسان كافراً ثم يسلم هذا الكافر هل يزول عنه حكم الرق؟ لا يزول؛ لأن الحق اللاحق لا يرفع ولا يزيل الحق السابق؛ ولأن سبب الرق ومنبعه هو الكفر، فالرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكماً كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122]. ولهذا منع الكافر العبد من أن يتصرف تصرف الأحرار، وهذا فيما يتعلق بحق الله سبحانه وتعالى في هذا الذي قتل أخاه المؤمن خطأً، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، فالواجب عليه في حق الله تحرير رقبة مؤمنة، أما في حق البشر أولياء هذا الميت (وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ) يعني: الواجب عليه دية لحق ورثة المقتول، وتكون الدية عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم، فيؤتى بالدية وتوزع على الورثة الشرعيين لهذا القتيل، كما توزع الأنصبة الشرعية للورثة.

مقدار دية المقتول ومن تدفع لهم وكيفية توزيعها عليهم

مقدار دية المقتول ومن تدفع لهم وكيفية توزيعها عليهم قد بينت السنة مقدار الدية، وذلك فيما رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتاباً وفيه: أن في النفس الدية مائة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألف دينار). وروى أبو داود عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فرض في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة). وفي الموطأ: (أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم) وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله. يعني: أن هذه الدية التي تعطى لورثة القتيل وتوزع عليهم حسب إرثهم، لا يدفعها القاتل خطأ نفسه بل تكون واجبة على عاقلته، والعاقلة هم: القرابة والعصبة من الذكور.

النساء [94]

تفسير سورة النساء [94]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله) قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94]. في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى كفارة القتل الخطأ، ثم بين حكم القتل العمد، ثم هنا يحذر تبارك وتعالى عما يؤدي إلى القتل العمد، فإذا كانت الآية الكريمة قد تناولت القتل العمد، فهنا بيان لأمر يؤدي إلى القتل العمد، وهو عدم الاكتراث وقلة المبالاة وعدم التحرز في الأمور التي تؤدي إلى وقوع هذا القتل العمد. ((يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم)) يعني: إذا ذهبتم. ((في سبيل الله)) يعني: مجاهدين في سبيل الله إلى أرض العدو. ((فتبينوا)) يعني: اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون، ولا تعجلوا فيه بغير تدبر ولا روية. ((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) نهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبين، فبعدما حثنا الله عز وجل على التبين والتثبت وعدم التعجل في الأمور، عين مادة مهمة وموضعاً مهماً من المواضع التي يتأكد فيها التبين والتثبت والاهتمام، وهي: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) يعني: لا تقولوا لمن أظهر الانقياد لدعوتكم وقال: لا إله إلا الله، أو سلم عليكم فحياكم بتحية الإسلام: لست مؤمناً في الباطن، وإنا لن نقبل ظاهرك؛ لأن باطنك يخالفه، وإنما قلت ذلك باللسان لتطلب الأمان من القتل فقط. فيقول الله تبارك وتعالى: من انقاد لدعوتكم وأعلن ذلك بقوله: لا إله إلا الله، أو قال لكم: السلام عليكم، لا تقولوا له: لست مؤمناً في الباطن، وإن أظهرت لنا هذا في الظاهر لتتقي به أو لتطلب الأمان، بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه، يعني: إذا كنت ترى المسلم يقاتل الكفار وظل يطارد رجلاً من الكفار ثم في النهاية حصره المسلم في مكان ورفع السيف ليقتله فقال الكافر: لا إله إلا الله، في هذه الحالة يجب عليه أن يكف عن قتله، حتى لو كان الظاهر أنه إنما قال ذلك ليلوذ بالكلمة ليحقن بها دمه، ما دام قالها فيجب الكف عن قتله. ((تبتغون عرض الحياة الدنيا)) يعني: تطلبون بقتله عرض الحياة الدنيا كالمال الذي معه كغنيمة، وهذا العرض من أعراض الحياة الدنيا هو سريع النفاد وجملة ((تبتغون)) حال من فاعل ((لا تقولوا)) فهي منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأني، ((تبتغون)) يعني: والحال أنكم تبتغون عرض الحياة الدنيا. ((فعند الله مغانم كثيرة)) تعليل للنهي عن أخذ ماله لما فيه من الوعد الضمني يعني: كأنه قيل: لا تبتغوا ماله فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها ويغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه. ((كذلك كنتم من قبل)) هذا تعليل للنهي عن القول المذكور، فيعلل الله سبحانه وتعالى هذا النهي الذي أتى في هذه الآية عن أن نقول للرجل الذي يظهر الإسلام أو شعيرة من شعائر الإسلام: لست مؤمناً، يقول تعالى: ((كذلك)) يعني: لا تقتلوه ولا تتعرضوا له بل اقبلوا ظاهره وكلوا سريرته إلى الله؛ فإنكم كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم. ((فتبينوا)) أي: كنتم مثل هذا الرجل الذي ألقى إليكم السلام في أول إسلامكم، ولا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها. ((فمن الله عليكم)) بأن قبل منكم تلك المرتبة، وعصم بها دماءكم وأموالكم، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم. والفاء في قوله: ((فتبينوا)) فصيحة، يعني: إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم، فهذه المرحلة أنتم أنفسكم مررتم بها من قبل، وما كان يظهر منكم إلا مثلما ظهر من هذا الرجل من شعائر الإسلام، فقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فُعِلَ بكم في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال، من غير وقوف على الباطن، فنحن البشر حينما يتعامل بعضنا مع بعض إنما نقف عند حد الظاهر، أما البواطن وما في القلوب فهذا ما لا سبيل إلى الاطلاع عليه. كل أحكام الدنيا إنما تبنى على ما يظهره الناس بعضهم لبعض، أما تواطؤ الظاهر والباطن فهذا لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى. ((إن الله كان بما تعملون خبيراً)) يعني: فلا تتهاونوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) قال ابن كثير في سبب نزولها: أخرج الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم فقالوا: لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي الباب الحديث المعروف عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه، وروى البخاري عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: (كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك هذه الآية). وقال البخاري: قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: (إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل) هكذا ذكره البخاري معلقاً مختصراً. إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه خوفاً من الكفار؛ لأنه يعيش بينهم، فلما أتى المسلمون ليغيروا على هؤلاء الكفار أراد أن يعلم إخوانه أنه ليس مع هؤلاء الكفار وإنما هو مسلم مثلهم، فيبادر ويعاجل بإظهار شعيرة من شعائر الإسلام كأن يقول: السلام عليكم، التي هي تحية المسلمين، أو أن يقول: لا إله إلا الله، أو يعتصم بالركوع أو السجود أو غير ذلك مما يظهره من شعائر الإسلام، فإذا أظهر إيمانه فما قبلت ظاهره وقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل، ألم تمر أنت بنفس المرحلة، مرحلة الاستضعاف في مكة وكنت تستخفي بإيمانك؟ فهذا ما رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس مرفوعاً. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح المكان، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله، والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد، فقال: يا مقداد! أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله؟! فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟! قال: فأنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل). وقوله: ((كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم)) أي: قد كنتم من قبل في هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما تقدم في الحديث المرفوع آنفاً، وكما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]. وقال ابن أبي حاتم: إن أسامة أقسم ألا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل الذي سبق الإشارة إليه، حيث قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال: لا إله إلا الله، وكيف اشتد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإنكار على أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، فأسند ابن أبي حاتم: (أن أسامة حلف لا يقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل، وبعد ما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم من العتاب والتوبيخ في قتل هذا الرجل). يقول: قال بعض المفسرين: وبهذا القسم واليمين الذي حلفه اعتذر إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه حين تخلف عن المشاركة مع علي في قتال معاوية وجيشه قال: (إني حلفت ألا أقتل أحداً يقول: لا إله إلا الله) وبعض العلماء يقول: وإن كان عذراً غير مقبول؛ لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة، وكان عليه أن يكفر عن يمينه. قال الحاكم: إلا أن أمير المؤمنين أذن له لما ذكر له هذا القسم.

المقصود من قوله تعالى: (يأ أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا)

المقصود من قوله تعالى: (يأ أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا) قال الرازي: اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه؛ لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف. وفي (الإكليل) استدل بظاهرها على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الإسلام، وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده، على قراءة السلام إذا قرأناها: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم). وفي الآية وجوب التثبت في الأمور خصوصاً القتل. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري: في الآية دليل على أن من أظهر شيئاً من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره؛ لأن السلام تحية المسلمين، وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة. وأما على قراءة السلم: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم) السلم المراد به: الانقياد، والانقياد علامة من علامات الإسلام.

ثمرة الآية الكريمة وفوائدها وأحكامها

ثمرة الآية الكريمة وفوائدها وأحكامها قال بعض المفسرين أيضاً: ثمرة الآية الكريمة وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والإباحة؛ لقوله: ((فتبينوا)) وهذه قراءة الأكثر بالنون، وقراءة حمزة والكسائي: (فتثبتوا) أي: هي من الثبات، ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأحكام وسائر الأعمال. الحكم الأول: وجوب التثبت والتأني، وعدم العجلة في الأمور. الحكم الثاني: أنه يجب الأخذ بالظاهر، فمن أظهر الإسلام أو شيئاً من شعائر الإسلام لا يكذب، بل يقبل منه، ويدخل في هذا الملحد والمنافق، وهذا هو مذهب كثير من العلماء، ويدخل في هذا قبول توبة المرتد خلافاً لـ أحمد، وقبول توبة الزنديق وهذا قول عامة الأئمة. وقال مالك: لا تقبل؛ لأن عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون. أيضاً تدل هذه الآية على أن التوصل للسبب المحرم من المال لا يجوز، وقد ذكر العلماء صوراً مختلفة في التوصل إلى المباح بالمحظور، والمقصود بذلك قوله: ((تبتغون عرض الحياة الدنيا)) هذا هو محل الشاهد لهذا المعنى المذكور، وإظهار الإسلام يحقن النفس والمال، فالقتل توصل بمحظور إلى محظور. وقوله تعالى: ((لمن ألقى إليكم السلام)) أو السلم ((لست مؤمناً)) السلم هو: الاستسلام، وقيل: إظهار الإسلام، وقيل: السلام بالألف بمعنى: التحية. قال أبو منصور: فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة والنهي عن الإقدام عندها، وكذلك الواجب على المؤمن التثبت عند الشبهة في كل فعل وكل خبر؛ لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله: ((فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) وقال في الخبر: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فأمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة كما أمر في الأفعال حيث قال سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]. وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة؛ لأن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لمن قال أنه مسلم: لست مؤمناً ((ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً)) والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، فهم يعاندون القرآن الكريم، مع أن من يقصدونه لا يقول: إني مسلم، مرة واحدة كحال هذا الذي تكلمت عنه الآية، لكنه يقولها ألف مرة. فإذا نهى أن يقولوا: لست بمؤمن، أمرهم أن يقولوا: أنت مؤمن، فيقال لهم: أأنتم أعلم أم الله؟ على ما قيل لأولئك.

حقيقة بدعة التوقف والتبين وآثارها وحكمها

حقيقة بدعة التوقف والتبين وآثارها وحكمها هذه الآية تعتبر عمدة رائد الخوارج المعاصرين شكري مصطفى صاحب بدعة التوقف والتبين، فإنه لسوء فهمه وتحريف معاني كلام الله سبحانه وتعالى بنى مذهبه على فهمه الضال لهذه الآية الكريمة وأخواتها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث ليستدل به على ما ذهب إليه، إلا وكان في نفس الآية والحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه. فكل إنسان مبتدع أو ضال يستدل بآية من القرآن أو بحديث من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليؤكد به بدعته وضلالته، فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون في نفس هذا الدليل رد عليه وإبطال نفس هذه البدعة، ونظائر ذلك كثير جداً. فهو إذاً أتى ببدعة التوقف والتبين، وخلط خلطاً عجيباً في الكلام في هذا الموضوع، فهو يقول: إن الناس الآن اختلط بعضهم ببعض وهم مشتركون في المظهر، هذا يسلم وهذا يسلم هذا يصلي وذاك يصلي، لكن حقيقة ما في باطن هؤلاء الناس وموقفهم الحقيقي من التوحيد ومن الإسلام يحتاج للاختبار والتبين، فنحن نتوقف عن الحكم بإسلام الشخص مهما أظهر من شعائر الإسلام في هذا المجتمع إلى أن نتبين هل هو مسلم أم غير مسلم؟! ووضع حداً وسماه: الحد الأدنى للإسلام، واعتبر الحد الأدنى للإسلام إقامة الفرائض، وخلط في ذلك خلطاً شديداً، وكان يكثر من ضرب المثل بالحرير الصناعي والحرير الطبيعي مبيناً أن الاثنين في الظاهر ملمسهما واحد لكن في الحقيقة هذا يختلف عن هذا. وهل من العقل أن الإنسان إذا أراد أن يقارن شيئاً بشيء فإنه يأتي بأوجه الشبه؟ لا، حتى الذي يدرس أي علم من العلوم ويعمل مقارنة بين شيئين، فإنه في هذه المقارنة يذكر وجوه الافتراق لا وجوه الشبه، كذلك أنت عندما تأتي لتفرق بين المسلم والكافر أتقول: هذا يصلي وهذا يصلي، وهذا يصوم وهذا يصوم، وغير ذلك من شعائر الإسلام بزعمه؟! لا، وإنما لما تأتي تقارن تأتي بوجوه الافتراق وليس بوجوه الاتفاق، فالمسلم يقول: لا إله إلا الله، والكافر لا يقول: لا إله إلا الله المسلم يلقي السلام المسلم يصلي المسلم يزكي، وهكذا، والكافر لا يفعل هذه الأشياء!! أما هذا فجعل كل الناس في المجتمع الأصل فيهم أنهم كفرة مهما أظهروا من الإسلام. وخطورة هذه البدعة لم تقف عند حد الترف الفكري، وإنما انتقلت إلى ما هو أكبر وهو التطبيق العملي، واستحلال دماء المخالفين بصورة بشعة جداً، تماماً كما كانت صفة الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. فهنا في نفس هذه الآية ما يدل على بطلان ما ذهبوا إليه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) فيفهم من الآية أن نثبت له صفة الإيمان وأحكام الإيمان. ثم انظر إلى قوله تعالى: ((كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا)) أي: كنتم مستضعفين قبل ذلك وتكتمون إيمانكم أيضاً، أليس هذا كله في حق المؤمنين، أم في حق الكافرين؟! في الحقيقة الكلام يطول في هذا وأعتقد أننا قد غطينا قضية التوقف والتبين من قبل في سلسلة بحوث الكفر والإيمان. فليس هناك شيء في الإسلام أن مسلماً ما متوقف في وصفه بأنه مسلم أو غير مسلم.

النساء [97 - 103]

تفسير سورة النساء [97 - 103]

تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97]. قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ} يجوز أن يكون ماضياً بمعنى: توفتهم، {الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، قد يراد بالظلم هنا الكفر، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وقد يراد به المعصية، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر:32]، ويصح إرادة المعنيين هنا. روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) وهناك أحاديث أخرى بنفس المعنى، منها قوله: (برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم)، فالمسلم عليه أن يجتهد في البعد عن الكافر فلا يساكنه ولا يعيش معه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تتراءى نارهما). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله من مشرك بعدما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين إلى المسلمين). الهجرة مستمرة إلى أن تقوم الساعة من بلاد المعصية والفسوق إلى بلاد الطاعة، ومن بلد الظلم إلى بلد العدل، ومن بلد البدعة إلى بلد السنة، ومن بلد الكفر إلى بلد الإسلام، فالهجرة تكون أيضاً من المعاصي. {وقَالُوا}، يعني: الملائكة تقول لهم تقريراً لهم بتقصيرهم وتوبيخاً لهم: {فِيمَ كُنتُمْ} أي: في أي شيء كنتم في أمور دينكم؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ}، أي: كنا في أرض الأعداء مستضعفين غير قادرين أن نجهر بالأذان أو أن نقيم شعائر الإسلام، عند ذلك تبكتهم الملائكة وتقول لهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، يعني: أم تكونوا قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة؟ وهذا دليل على أن الرجل يجب أن يهاجر إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه. والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر، فإذا علم المرء أنه في غير بلده أقوم بحق الله حقت عليه الهجرة. مثال ذلك: لو تعرف بلداً أفضل من مصر من حيث إظهار الدين، فعليك أن تتحول إليه إذا كنت مستطيعاً، وهكذا كل إنسان في أي مكان، أما عند العجز فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. {فَأُوْلَئِكَ} النفر المذكورون. ((مَأْوَاهُمْ)) أي: مصيرهم ((جَهَنَّمُ))؛ لأنهم هم الذين أضعفوا أنفسهم، إذ لم يلجئهم الأعداء إلى مساكنتهم في ديارهم. {وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، أي: جهنم. ثم استثنى سبحانه من أهل الوعيد ما بينه بقوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98]. ونحن في هذا الوقت عندنا جهة رسمية تتعلق بالهجرة اسمها: هيئة الجوازات والهجرة والجنسية. فالهجرة إذا أطلقت الآن يكون معناها: الهجرة من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار، سواء أستراليا أو كندا أو أمريكا أو غير ذلك. وعندما نقول: فلان مهاجر، فإننا نعني أنه مهاجر من بلاد المسلمين إلى بلاد الكفار، فانعكس المفهوم، وبدل ما كانت الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين صار العكس الآن، وصار المسلمون يهاجرون إلى بلاد الكفار!

تفسير قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال وكان الله عفوا غفورا)

تفسير قوله تعالى: (إلا المستضعفين من الرجال وكان الله عفواً غفوراً) قال الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98 - 99]. {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ}، لعمىً أو عرج أو مرض أو هرم أو فقر. {وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، أي: النساء والصبيان فإنهم معذورون في ترك الهجرة؛ لأنهم {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}، يعني: في الخروج، إذ لا قوة لهم على الخروج ولا نفقة. {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}، يعني: لا يعرفون طريقاً إلى دار الهجرة. {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أن يتجاوز عنهم بترك الهجرة. وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، استدل به على وجوب الهجرة من دار الكفر إلا على من لم يطقها. وعن مالك قال: الآية تقتضي أن كل من كان في بلد تغير فيه السنن فينبغي أن يخرج منها.

ثمرة الآيات الكريمات وسبب نزولها

ثمرة الآيات الكريمات وسبب نزولها وقال بعض المفسرين: ثمرة الآية وجوب الهجرة من دار الكفر، ولا خلاف أنها كانت واجبة قبل الفتح، ولذلك قال تعالى في سورة الأنفال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]، وقيل: نسخت بعد الفتح، والصحيح عدم النسخ. ومعنى قوله عليه السلام: (لا هجرة بعد الفتح) أي: لا هجرة من مكة؛ لأن مكة نفسها صارت دار إسلام. قال جار الله الزمخشري: وهذا يدل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، وعلم أنه في غير بلده أقوم بحق الله حقت عليه الهجرة، ثم قال رحمه الله: قال في التهذيب: وعن القاسم بن إبراهيم: إذا ظهر الفسق في دار ولا يمكنه الأمر بالمعروف فالهجرة واجبة، والله المستعان! وهذا بناءً على أن الدور ثلاث: دار إسلام. ودار فسق. ودار حرب. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، وقال أيضاً: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو). والذي يستطيع الانتقال إلى بلد الإسلام، لكن وجوده في بلاد الكفار فيه إظهار للدين ونشاط في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بحيث يثبِّت المسلمين هناك على الإسلام، ويتسبب في دخول الكفار إلى الإسلام، فهذا بقاؤه هناك يكون أنسب له وأفضل له من تحوله إلى بلاد المسلمين، إذا كان لا يتأثر بهذه الفتن، وهذه حالات استثنائية. وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما عن ابن عباس قال: (نزلت في جماعة أسلموا ولم يهاجروا، وخرجوا مع المشركين يكثرون سوادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلوا يوم بدر مع الكفار).

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة وكان الله عفوا غفورا)

كلام السيوطي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة وكان الله عفواً غفوراً) يقول السيوطي: [{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}، بالمقام مع الكفار وترك الهجرة. قالوا لهم موبخين (فيم كنتم) أي: في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟ ((قَالُوا)) معتذرين، (كنا مستضعفين) عاجزين عن إقامة الدين، ((فِي الأَرْضِ)) أرض مكة. (قالوا) لهم توبيخاً: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}، من أرض الكفر إلى بلد آخر كما فعل غيركم. قوله: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}، يعني: الذين لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة. {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}، طريقاًَ إلى أرض الهجرة. {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:99]].

تفسير قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة)

تفسير قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة) قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:100]. قوله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا))، يقول السيوطي: مهاجراً. ((كَثِيرًا وَسَعَةً)) في الرزق. ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ))، في الطريق كما وقع لـ جندع بن ضمرة. ((فَقَدْ وَقَعَ)) ثبت ((أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)). ((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)). يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) يعني: في طاعة الله عز وجل، ((يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا)) أي: طريقاً يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه، ((كَثِيرًا وَسَعَةً)). وفسرها السيوطي كما رأينا ((مُرَاغَمًا)) أي: مهاجراً، ولا تعارض؛ لأن المقصود بأنه سيجد سبيلاً وطريقاً أو مأوىً يستطيع فيه أن يراغم أعداء الله تبارك وتعالى. وقد ذكرنا من قبل في عدة مناسبات أن الله سبحانه وتعالى يحب من وليه أن يغيظ عدوه، بأن يلزم طاعته تبارك وتعالى فيكون أقوى وأعز من أعداء الله تبارك وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120]، كذلك قال تبارك وتعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. والنبي صلى الله عليه وسلم سمى سجدتي السهو: (المرغمتين)؛ لأنهما ترغمان أنف الشيطان وتغيظانه. قوله: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} أي: يجد مكاناً يستطيع فيه أن يقيم دينه ويظهره ويغيظ أعداءه الذين يقصدون أن يدركوه ويردوه عن هجرته، أو عن طاعته لله سبحانه وتعالى. ((كَثِيرًا وَسَعَةً)) أي: في الرزق، أو سعة في إظهار الدين، أو سعة وانشراحاً في الصدر؛ لأن خوفه يتبدل أمناً إذا هاجر من بين ظهراني المشركين. ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا))، أي: من مكة. ((إِلَى اللَّهِ)) أي: إلى طاعة الله أو إلى مكان أمر الله بالهجرة إليه. ((وَرَسُولِهِ)) أي: إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: بالمدينة. ((ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ)) يعني: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد. ((فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) يعني: فقد ثبت أجره على الله سبحانه وتعالى، ولا يستغرب هنا أن نفسر قوله تعالى: ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ)) يعني: من مكة، ((مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) يعني: للمدينة؛ لأن الهجرة في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هكذا كانت، يعني: من مكة إلى المدينة أو من خارج المدينة إلى المدينة. ((فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) يعني: فلا يخاف فوات أجره الكامل؛ لأنه لم يكن فقط يتمنى أماني أو أحلام يقظة وإنما هو نوى وجزم وعزم، ثم تحرك وخرج من بيته بنية الهجرة إلى الله سبحانه وتعالى، فمثل هذا يثاب ثواباً كاملاً؛ لأنه نوى وشرع أيضاً في العمل. أما عدم إتمام العمل بسبب إدراك الموت إياه في الطريق مثلاً فهذا ليس تقصيراً منه إذا لم يتم العمل، لكن كان عليه أن يسعى والتمام على الله سبحانه وتعالى. ((وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) سيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج، ويرحمه الله بإكمال ثواب هجرته.

سبب نزول قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما)

سبب نزول قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً) هنا بعض التنبيهات فيما يتعلق بسبب نزول هذه الآية، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم)، هناك روايات أخرى تدل على أنه كان قد مرض، ومع شدة مرضه خشي أن يموت في مكة دون أن يهاجر، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي: ((وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)). وجاءت عدة روايات في سبب نزول هذه الآية.

ثمرة قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما)

ثمرة قوله تعالى: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً) ثمرة هذه الآية: أن من خرج للهجرة ومات في الطريق فقد وقع أجره على الله. قال الحاكم: لكن اختلف العلماء في الأجر الذي وقع له، فقال بعضهم: أجر قصده، أي يؤجر على النية، وقيل: أجر عمله دون أجر الهجرة، يعني: يثاب على القدر الذي قطعه من الهجرة، وقيل: بل له أجر الهجرة كاملة كأنه قد هاجر بالفعل، وهذا هو الظاهر في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد جاء في معنى هذه الآية أحاديث وافرة منها ما في الصحيحين وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) قال ابن كثير: وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال. ومنها الحديث الثابت في الصحيحين: (في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم أكمل بذلك العابد المائة، ثم سأل عالماً هل له من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد الله فيه، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء: إنه لم يصل بعد، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها، فأمر الله هذه أن تتقارب، وهذه أن تتباعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرحمة). وفي رواية: (أنه لما جاءه الموت نأى بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها). يعني: أراد أن يجتهد في الاقتراب من هذه القرية الصالحة بقدر المستطاع، حتى إنه لما نزل به الموت أخذ يزحف بصدره حتى يقترب ويقطع أقصى مسافة ممكنة حتى ينقذ روحه من النار. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عتيك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله).

تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض) قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101]. قوله: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) أي: إذا سافرتم في الأرض، والضرب في الأرض يعبر به عن السفر. ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) إثم.

مفهوم القصر في الآية وحكمه حال الخوف وحال الأمن

مفهوم القصر في الآية وحكمه حال الخوف وحال الأمن قوله: ((أَنْ تَقْصُرُوا)) في أن تقصروا من الصلاة الرباعية إلى ركعتين. ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ)) أن ينالوكم بمكروه. ((الَّذِينَ كَفَرُوا)) هذا بيان للواقع إذ ذاك، والمقصود من هذه الآية بيان الواقع الذي كان موجوداً زمن نزول الآية، وعلى هذا لا مفهوم لهذه الآية، بمعنى: ليس خوف المكروه شرطاً في جواز القصر، لكن الواقع أثناء نزول القرآن في ذلك الزمن، وهو زمن البعثة أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون أن يفتنهم الذين كفروا، أي: أن ينالوهم بمكروه في أثناء أسفارهم. فالصحيح أن هذه هي الظروف المناسبة عند نزول هذه الآية، لكن ليس معنى ذلك: أن الإنسان لا يقصر إلا إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا، بل يقصر إذا سافر في الأرض عموماً. إذاً: هذه الآية ليس معناها: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. أي: لا تقصروا إن أمنتم الذين كفروا، فهذا المفهوم غير معتبر، فهو مجرد بيان للواقع الذي كان يعيشه الصحابة، والقصر غير مقيد بهذا الشرط، فالشرط هنا ملغي، كما في قوله تبارك وتعالى في سورة النور: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، هل معنى ذلك أنهن إن لم يردن تحصناً يجوز لهن الزنا؟ لا، فليس هذا المفهوم معتبراً، بل هو ملغي، كذلك هنا هذا المفهوم غير معتبر، يعني: ليس خوف المكروه شرطاً في جواز القصر. وقد بينت السنة فيما رواه ابن خزيمة موقوفاً على ابن عباس بإسناد صحيح أن المراد بالسفر: السفر الطويل، وهو أربعة برد والبريد اثنا عشر ميلاً، وهي مرحلتان أي: مسيرة يومين بالسير المعتدل. ويؤخذ من قوله: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) أنه رخصة لا واجب، وعليه الشافعي. ((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا))، يعني: بيني العداوة، ظاهرين في عداوتهم. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ)) أي: سافرتم. ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)) أي: إثم. ((أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) يعني: أن تنقصوا الرباعية إلى اثنتين. ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ)) أي: أن يقاتلكم الذين كفروا في الصلاة. ((إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا)) يعني: ظاهري العداوة، فلا يراعون حرمة الصلاة فيظهرون عداوتهم إذا رأوكم تصلون فلم يردعهم ذلك عن أن ينالوكم بأذى، فذهب جمهور العلماء إلى أن الآية المراد بها مشروعية صلاة السفر، وليست في صلاة الخوف. فمعنى قوله تبارك وتعالى: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية، قالوا: وحكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف؛ لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقاً، حيث جاءت السنة لتثبت مشروعية قصر الصلاة في كل الأحوال سواء كان في حالة الخوف أو في حالة الأمن. روى الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لا يخاف إلا الله رب العالمين، فصلى ركعتي)، يعني: كان آمناً. وروى البخاري وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمناً ما كان بمنى ركعتين) وهذا في البخاري. وروى البخاري والبقية عن أنس رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً). وقوله تعالى: ((إِنْ خِفْتُمْ)) خرج مخرج الغالب حال نزول الآية، يعني: أنهم حال نزول الآية كان الغالب أنهم إذا انطلقوا في أرجاء الجزيرة مسافرين فإنهم لا يأمنون أن يفتنهم الذين كفروا، إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة، بل الغالب أنهم ما كانوا يضربون في الأرض إلا في حالة الغزو، ولم يكونوا يخرجون للتجارة ولا للسياحة ولا للنزهة، إنما كانوا يخرجون وقد حشدهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السرايا والغزوات. وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. وهذه إحدى الحالات التي لا يعمل فيها بالمفهوم، بل يلغى؛ لأنه خرج مخرج الغالب، والأمثلة على ذلك كثيرة كما في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام:151]، هل معنى ذلك أن الإنسان يمكن أن يقتل ولده بسبب آخر غير الإملاق والفقر؟ لا، لا يمكن؛ وذلك لأن هذه الآية خرجت مخرج الغالب، يعني: كان الأغلب في سبب قتل الأولاد عندهم خوف الإملاق. ومثل قوله تبارك وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء:23]، هل معنى ذلك: أنه لابد أن يكن الربائب في حجور أزواج الأمهات؟ لا، بل يمكن أن تكون بنت الزوجة التي هي الربيبة لا تعيش مع أمها عند زوج أمها، بل تحرم على الرجل بعد الدخول على أمها، فهذا المفهوم أيضاً خرج مخرج الغالب. ومثل قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، هل معنى ذلك: أن هذه الآية لها مفهوم؟ لا، بل هذا خرج مخرج الغالب، بمعنى: أن أغلب الربا إنما يكون أضعافاً مضاعفة، لكن هل يصح أن يؤخذ من مفهوم الآية أنه يجوز للإنسان أن يتعامل بالربا إذا كانت نسبته ضئيلة كما يقول المضللون وعلماء السوء؟! هؤلاء يخدعون الناس بقولهم: إن الربا لو كانت نسبته يسيرة فليس بحرام؛ لأن ربنا قال: ((أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)) [آل عمران:130]، فهذا من نفس الباب. يدل أيضاً على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال: (سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت له: قوله تعالى: ((فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا))، وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر رضي الله تعالى عنه: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)، (صدقة) يعني: حكم ثابت مستمر. وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي حنظلة الحذاء قال: (سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان، فقلت: أين قوله: ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)) ونحن آمنون؟ فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وروى ابن مردويه عن أبي الوداك قال: (سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال لي: هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها)، يعني: هل من الأدب أن تردوها على الله سبحانه وتعالى، فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وأن ذلك كان مفهوماً عندهم بمعنى الآية. قالوا: ومما يدل على أن لفظ القصر كان مخصوصاً في عرفهم بنص عدد الركعات، يعني: ((وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)) عرف لدى الصحابة أن كلمة ((تَقْصُرُوا)) تطلق على قصر العدد في الصلاة، وهذه اللغة هي التي تعارفوا عليها رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولذلك لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين قال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟) لأنه صلى الأربع اثنتين. هناك مذهب آخر في هذه الآية لبعض السلف وهو: أن هذه الآية ليست في صلاة القصر في السفر وإنما هي في صلاة الخوف، فيكون المقصود بالقصر في قوله: (أن تقصروا من الصلاة) ليس قصر كمية عددية وإنما قصر كيفية كما رخص ذلك في السفر، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى؛ لأن كمية صلاة السفر ركعتان، فهي باقية على ما كانت عليه في الأصل، حيث إن الصلاة كانت ركعتين في الأصل، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر، فإذاً هي باقية على ما هي عليه، وهذا مذهب عمر. قال: ولهذا قال تعالى: ((إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا))، وقال بعدها: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] إلى آخر الآية، فأوجز في الآية الأولى وأشار إلى مشروعية صلاة الخوف، ثم بين المقصود من القصر هنا وهو قصر الكيفية، وذكر صفته وكيفيته.

تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:102]. قوله: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ)) يعني: إذا كنت يا محمد حاضراً فيهم، وأنتم تخافون العدو. ((فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)) يعني: فأقمت لهم صلاة الخوف، وهذا جرى على عادة القرآن في الخطاب، فلا مفهوم له، أي: ليس حضوره صلى الله عليه وسلم شرطاً لإقامة صلاة الخوف كما سنبين إن شاء الله تعالى عما قريب. وبعض الناس يقولون: إنه لا تصلى صلاة الخوف إلا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ))، فإذا لم يكن فهم بعد موته عليه الصلاة والسلام، ألا يصلي الإمام الناس؟ بلى يصلي، وهذا نفس الاستدلال الذي استدل به بعض مانعي الزكاة في تأويلهم الفاسد لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، قالوا: هذا فقط في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما إذا مات الرسول عليه الصلاة والسلام فنحن لا ندفع لغيره؛ لأن الأمر إنما هو إلى الرسول بنفسه، وسيأتي الرد على ذلك إن شاء الله. ((فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ)) يعني: طائفة تقوم معك وطائفة تتأخر. ((وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)) يعني: هؤلاء الذين يصلون معك يأخذون أسلحتهم معهم في الصلاة. والمقصود بالأسلحة هنا: الأسلحة التي لا تتعارض مع الصلاة، كالأسلحة الخفيفة التي يسهل حملها أثناء الصلاة دونما مشقة تعيق عن أداء الصلاة. ((فَإِذَا سَجَدُوا)) سجدوا هنا بمعنى: صلوا. ((فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ))، يعني: تكون الطائفة الأخرى من ورائكم، يحرسونكم إلى أن تقضوا الصلاة، ثم تذهب هذه الطائفة لتحرس. ((وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)) أي: معهم إلى أن تقضوا الصلاة، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ببطن نخل كما رواه الشيخان. في هذه الآيات بالذات كما جاء في كتب التفسير أن الصحابة كانوا متحركين في جهة القبلة، والأعداء كانوا في الجهة المقابلة، فكيف تكون صفة هذه الصلاة وهم بهذا الاتجاه؟ يقف صف يصلي وهو مستقبل القبلة مع النبي عليه الصلاة والسلام، والصف الآخر يقف وراءه يحرسهم، وهو معنى قوله: ((فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ)) وسيأتي بيان تفصيل صلاة الخوف في الأحاديث. ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ))، يعني: تمنوا لو تغفلون عن الأسلحة حال قيامكم إلى الصلاة. ((فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً))، يعني: بأن يحملوا عليكم فيأخذوكم، هنا تعليل بالأمر لهؤلاء الذين يصلون بأن يأخذوا معهم الأسلحة.

حكم حمل السلاح في صلاة الخوف وعدمه

حكم حمل السلاح في صلاة الخوف وعدمه قوله تعالى: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ))، يعني: فلا تحملوها، وحملها عند عدم العذر يفيد وجوب حمل الأسلحة، لكن إن كان هناك عذر فلهم ألا يحملوا هذه الأسلحة، وهذا أحد القولين للشافعي. والقول الثاني: أن حمل السلاح سنة وليس بواجب أثناء الصلاة، ورجح الشافعي المذهب الثاني. ((وَخُذُوا حِذْرَكُمْ))، يعني: خذوا حذركم من العدو واحترزوا منه ما استطعتم. ((إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا))، أي: عذاباً ذا إهانة.

تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله)

تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله) قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103]. قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ} يعني: إذا فرغتم منها. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} بالتهليل والتسبيح. {قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}، يعني: في كل حال؛ لأن الإنسان لا يخلو من حال من هذه الأحوال، إما أن يكون قائماً وإما قاعداً وإما مضطجعاً. {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ}، أي: إذا أمنتم. {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، أي: أدوها بحقوقها. {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} ((كِتَابًا)) أي: مسطوراً. ((مَوْقُوتًا)) أي: مقدراً وقتها فلا تؤخر عنه.

أقوال المفسرين في تفسير آية صلاة الخوف وما بعدها

أقوال المفسرين في تفسير آية صلاة الخوف وما بعدها يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَإِذَا كُنتَ)) أي: مع أصحابك شهيداً وأنتم تخافون العدو. ((فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ))، أي: أردت أن تقيم بهم الصلاة، بالجماعة التي لوفور أجرها يتحمل مشاقها. ((فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ))، أي: إذا أنت أردت أن تقيم لهم الصلاة فاقسمهم طائفتين، تصلي بطائفة، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم، وإنما لم يصرح به لظهوره. ما الفائدة من قوله: ((فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ))؟ هذا لأن المعنى واضح جداً وظاهر أي: لكي يحرسوكم أثناء الصلاة. ((وَلْيَأْخُذُوا)) أي: الطائفة التي قامت معك تصلي، ((وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)) أي: معهم؛ لأنه اقرب للاحتياط. ((فَإِذَا سَجَدُوا)) يعني: هؤلاء القائمون معك بعد أداء سجدتي الركعة الأولى وإتمام الركعة يفارقونك. يعني: بعد أن يتموا الركعة الأولى يفارقون النبي عليه الصلاة والسلام ويتمون هم صلاتهم. وتقوم إلى الثانية منتظراً الطائفة الثانية. يعني: الإمام يكبر تكبيرة الإحرام بالطائفة الأولى ويصلون معه الركعة الأولى، والطائفة الأخرى تقف خلفهم للحراسة. ((فَإِذَا سَجَدُوا)) يعني: إذا فرغوا من الركعة الأولى بأن سجدوا السجدتين في الركعة الأولى يقومون هم، ويظل الإمام منتظراً مكانه حتى يتموا صلاتهم، ثم يقوم إلى الركعة الثانية. ((فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ)) يعني: هؤلاء الذين فرغوا ينصرفون إلى مقابلة العدو للحراسة. ((وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ)) الطائفة الأخرى التي هي واقفة في اتجاه العدو تأتي لتصلي ركعتها الأولى معك، والتي هي بالنسبة للإمام تكون الثانية، فإذا جلست منتظراً قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك. في الأولى يطيل الإمام القيام إلى أن تفرغ الأولى من إتمام صلاتها بالإتيان بالركعة الثانية، وتحلق به الثانية. كذلك الإمام سوف يجلس للتشهد والمجموعة الثانية تكون بقي عليها ركعة، فينتظر جالساً إلى أن يفرغوا هم من الركعة الثانية ثم يدركوه في الجلوس ويسلموا معه. ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين؛ اكتفاءً ببيانه صلى الله عليه وسلم لهم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين ذلك بياناً شافياً كافياً في الأحاديث. ((وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ)) يعني: تيقظهم؛ لأن العدو يظن أن المسلمين قائمون في الحرب، في أثناء الركعة الأولى، فهو سيتصور أنهم جميعاً واقفون مستعدون للحرب، فإذا قاموا إلى الثانية فمجموعة سوف تسجد ومجموعة تقوم، هنا سيفهم العدو أنهم الآن في الصلاة، وقد ينتهز الفرصة في الهجوم عليهم، فلذلك خص هذا الموضوع بزيادة التحذير فقال تبارك وتعالى: ((وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ))، وكرر هذا المعنى من قبل حيث قال: ((وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ))، وهنا قال: ((وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)). ثم جاء بمزيد من البيان حيث قال: ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)) هنا كأنه شيء حسي كالآلة سيؤخذ والإنسان يمسكه كما يمسك السلاح ((وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)). قال الواحدي: فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. وقال أبو السعود: وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغال في الصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها، ومظنة لهجوم العدو، كما ينطق به قوله تعالى: ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا))، أي: تمنوا، ((لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ)) أي: حوائجكم التي بها ((فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)) أي: يحملون حملة واحدة فيقتلونكم، فهذا هو سبب الأمر بأخذ السلاح، والأمر بذلك للوجوب. ثم قال تعالى: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)) أي: لا حرج ولا إثم عليكم. ((إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ)) أي: إذا كان في حالة مطر يثقل معها حمل السلاح. ((أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى)) يثقل عليكم حمله بسبب المرض ((أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ)). أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت ((إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى)) في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً). ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط فقيل: ((وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)) لئلا يهجم عليكم العدو غيلة. ((إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)) أي: عذاباً شديداً يهانون به، وهذا تعليل للأمر بأخذ الحذر، أي: أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذلهم وينصركم عليهم، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم. وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدو موهماً لتوقع غلبته واعتزازه نفى ذلك الإيهام بأن الله تعالى ينصرهم ويقيهم عدوهم لتقوى قلوبهم. تكرر في الآية التحذير: ((وَخُذُوا حِذْرَكُمْ))، ((وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا))، ((فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً))، كثرة التحذير قد يوقع في قلوب بعض المؤمنين أن الكفار قد ينتصرون عليهم أو قد ينالون منهم، أو أن غلبتهم متوقعة، فلما وجد هذا الاحتمال نفى الله سبحانه وتعالى ذلك الإيهام، وذلك بأن الله تعالى هو الذي ينصرهم وأنه سيقيهم عدوهم، ((إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا)). ومن أسباب تعذيب الكافرين أن الله يعذبهم بأيدي المؤمنين، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، فهذا العذاب المهين ليس فقط في الآخرة لكنه سيكون على أيديكم، فلا تهملوا في الأخذ بالأسباب والاحتياط وأخذ الحذر والسلاح.

تابع تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا)

تابع تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً) قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ} يعني: إذا أتممتم الصلاة، دون صلاة الخوف على ما فسر. {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} أي: فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه. أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف، وإن كان مشروعاً بعد غيرها، يعني: أن ذكر الله يكون بعد صلاة الخوف آكد، لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها، كما قال تعالى في الأشهر الحرم: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، فهل ظلم النفس بالمعاصي مباح فيما عدا الأشهر الحرم؟ لا، بل هو محرم، لكن هنا آكدية بحرمة ذلك الزمان، كذلك في هذه الحالة المسلمون حاجتهم إلى الذكر أوكد. {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ} أي: سكنت قلوبكم بالأمن وذهب عنكم الخوف. {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي: على الحالة التي كنتم تعرفونها فلا تغيروا شيئاً من هيئتها. {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أي: فرضاً مؤقتاً، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها.

ما يتعلق بقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) من أحكام وأقوال

ما يتعلق بقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) من أحكام وأقوال فيما يتعلق بظاهر قوله تعالى: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ)) هناك من لم ير صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم، حيث زعموا أن صلاة الخوف كانت خاصة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الله اشترط كونه فيهم، فقال: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)) ومفهومها: أنه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا تشرع صلاة الخوف، ولا يخفى أن الأئمة والخلفاء بعد الرسول عليه الصلاة والسلام يقومون مقامه، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] هذه ليست خاصة بالرسول عليه الصلاة والسلام، بل الإمام عليه بعد ذلك أن يقوم بنفس الوظيفة في جمع الزكاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على مفهوم قوله تعالى: ((وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ)). وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم عن سعيد بن العاص أنه قال: (كنا في غزوة ومعنا حذيفة فقلنا: أيكم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح، ثم قال: إن هاجكم هيج فقد حل لكم القتال، فصلى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرف هؤلاء فقاموا مقام أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم بهم)، وكانت الغزوة بطبرستان، قال بعضهم: وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله تعالى عنهم فلم ينكره أحد، فحل محل الإجماع. وروى أبو داود: (أن عبد الرحمن بن سمرة صلى بكابل صلاة الخوف).

النساء [127 - 134]

تفسير سورة النساء [127 - 134]

تفسير قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن)

تفسير قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن) قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء:127]. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية وهي قوله: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}، قال: (كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه). هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء:127]). قوله: ((ويستفتونك في النساء)) أي: يطلبون منك الفتوى في شأن النساء عامة، فبين تعالى أن ما لم ينزل حكمه ويبين فسيأتي فيما بعد: ((قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ)) يعني: ويفتيكم أيضاً فيما قد سبق تبيينه من الأحكام. ((فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ)) من المهر أو الميراث. ((وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ)) وترغبون عن أن تنكحوهن. ثم قال تعالى: ((وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ)) هذا عطف على يتامى النساء، إذا قلنا: إنه عطف على يتامى النساء يكون المعنى صحيحاً، (وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء) وما يتلى عليكم أيضاً في حق المستضعفين من الولدان، وهو قوله تبارك وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] إلى آخره، وقد كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، فكما كانوا يحرمون النساء من الميراث كانوا أيضاً يحرمون المستضعفين من الولدان، وإنما يورثون الرجال القوام. قال ابن عباس في الآية: (كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله تعالى: ((لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ))، فنهى الله عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه، فقال عز وجل: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]). أتت صفة الذكر والأنثى عامة، يعني: سواء كان الولد ذكراً أو أنثى صغيراً أو كبيراً، فللذكر عموماً صغيراً أو كبيراً مثل حظ الأنثيين. وكذا قال سعيد بن جبير. فهذا معنى قوله: (والمستضعفين من الولدان) يعني: وما يتلى عليكم في المستضعفين من الولدان. {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}، (وأن تقوموا لليتامى) بالجر عطف على ما قبله، يعني: وما يتلى في حق هؤلاء اليتامى كما في قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2]، فهذا هو ما يتلى علينا في شأن اليتامى، وأمرنا أن نقوم بحقهم بالقسط، ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر في الأمر برعاية حق اليتامى. قال سعيد بن جبير: كما أنها إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها، كذلك إذا لم تكن ذات مال وجمال فانكحها واستأثر بها. والخطاب هنا للولاة أو للأولياء.

الأحكام المستنبطة من قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء)

الأحكام المستنبطة من قوله تعالى: (ويستفتونك في النساء) واستنبط من هذه الآية أحكام منها: جواز نكاح الصغيرة؛ لأن اليتيم هو الصغير الذي لم يبلغ. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتم بعد احتلام)، رواه أبو داود. وعن الأصم أراد البوالغ قبل التزوج، يعني: ذهب الأصم إلى أن تسمية المرأة باليتيمة باعتبار ما كان، وأن المقصود باليتيمة البالغة وليست الصغيرة؛ وذلك لقوله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]. المقصود باليتامى هنا: الذين كانوا يتامى إلى عهد قريب، لكن لشدة قرب العهد باليتم بقي عليهم وصف اليتامى، فسماهن باليتم لقرب عهدهن باليتم. والأول أظهر؛ لأنه الحقيقة. وقالوا أيضاً: مما يدل على أن المقصود باليتيمة البالغة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها)، رواه أهل السنن. قالوا: والاستئمار لا يكون إلا من البالغة. وقد ورد قول الشاعر: إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى يعني: هذه شواهد تدل على أن كلمة اليتامى قد تطلق على النساء الكبار البوالغ. فسمى البالغات يتامى لانفرادهن عن الأزواج، وكل شيء منفرد لا نظير له يقال له: يتيم، كما تقول: الدرة اليتيمة يعني: التي لا ثانية لها، وهذه المسألة فيها أقوال للعلماء ونكتفي بما أشرنا إليه.

تفسير قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا)

تفسير قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً) قال تبارك وتعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:128]. (وإن امرأة) امرأة اسم مرفوع بفعل يفسره قوله تعالى: (خافت) يعني: إن خافت امرأة. (وإن امرأة خافت) يعني: توقعت. (من بعلها) يعني: من زوجها. (نشوزاً) يعني: ترفعاً عليها بترك مضاجعتها، والتقصير في نفقتها؛ لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها. (أو إعراضاً) أي: أو إعراضاً عنها بوجهه. (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً) وفي قراءة (أن يصّالحا بينهما صلحاً) وأصلها أن يتصالحا، فأدغمت التاء في الصاد وشددت فصارت (أن يصّالحا بينهما صلحاً). (بينهما صلحاً) في القسم والنفقة، يعني: في المبيت وفي النفقة. هذا الصلح يكون فيه نوع من التنازل من جانب المرأة كي تبقى زوجة له، وتضحي ببعض حقوقها عليه كي لا يطلقها ويعدل إلى غيرها. فتترك له شيئاً طلباً لبقاء الصحبة، فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها. إما أنها ترضى بهذا الصلح الذي فيه التنازل عن بعض حقوقها، فإن لم ترض بذلك فعليه أن يوفيها حقها كاملاً أو يفارقها. (والصلح خير) (خير) هنا أفعل تفضيل، يعني: والصلح خير من الفرقة والنشوز والإعراض. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. قال تعالى في بيان ما جبل عليه الإنسان: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ}، يعني: شدة البخل، فهي جبلت عليه فكأنها حاضرة لا تغيب عنه، وكأن الشح صفة لازمة للإنسان أو للنفس البشرية، فهذا تعبير عن شدة لصوق هذه الصفة بالإنسان. والمعنى: أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها بسبب وجود هذا الشح، فلا تكاد أبداً تسمح بنصيبها من زوجها، كذلك الرجل لا يكاد يسمح لها بنفسه إذا أحب غيرها. (وإن تحسنوا) أي: عشرة النساء. (وتتقوا) أي: تتقوا الجور عليهن. (فإن الله كان بما تعملون خبيراً) يعني: فيجازيكم به.

أقوال المفسرين في تفسير النشوز والإعراض والصلح بين الزوجين

أقوال المفسرين في تفسير النشوز والإعراض والصلح بين الزوجين يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا} أي: زوجها. (نشوزاً) أي: تجافياً عنها وترفعاً عن صحبتها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها. (أو إعراضاً) أي: إعراضاً عنها بوجهه، أو أن يقل محادثتها ومجالستها كراهة لها، أو لطموح عينه إلى أجمل منها. (فلا جناح عليهما) يعني: حينئذ لا حرج عليهما. (أن يصلحا بينهما صلحاً) يعني: أن يحصل نوع من الصلح بينهما بحط شيء من المهر أو النفقة، فتحط هي عنه إن كان لها مؤخر صداق، وتصالحه على أنها تخفف له أو تسامحه بقدر منه، أو تعفو عنه في قدر من المهر أو النفقة، أو تهبه شيئاً من مالها من أجل الإصلاح، أو تضحي ببعض الوقت المخصص لها طلباً لبقاء الصحبة، لكن بشرط أن يكون ذلك عن رضاً وطواعية منها، وإلا إن لم يكن رضاً فعلى الزوج أن يوفيها حقها إذا استبقاها، أو يفارقها إذا لم تقبل ذلك الصلح. قال في الإكليل: الآية أصل في هبة الزوجة حقها من القسم وغيره. استدل به من أجاز لها بيع ذلك. (والصلح خير) أي: من الفرقة والنشوز والإعراض. وعامة الناس يستدلون على كراهة الطلاق بالحديث الضعيف المشهور: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، وهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويغني عنه ما في القرآن من مواطن يستنبط منها كراهة الطلاق كهذه الآية: ((فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)) الصلح خير من النشوز وخير من الإعراض وخير من الطلاق وخير من الفرقة، فهذا يفيد ضمناً كراهة الطلاق، كذلك مما يفيد كراهة الطلاق قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، هذا حث على إمساكها وعدم طلاقها. قال ابن كثير: بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، وسبق أن أشرنا إلى ضعف هذا الحديث. وفي هذه الآية حث الزوج على الصبر على الزوجة حتى لو كره صحبتها، وأن الأفضل له أن يصبر والصلح خير من الفرقة، وخير من سوء العشرة، وخير من الخصومة، أو خير من الطلاق والفرقة، وقد كان من كرم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها، فانظر إلى حسن العشرة كيف يمتد إلى ما بعد وفات أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم كل من كانت تحب خديجة أو تقربه منها، حتى إن صواحبها من النساء كان عليه الصلاة والسلام يكرمهن بعد موتها رضي الله تعالى عنها. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وقد هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها). (هلكت) بمعنى: ماتت. قال عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34]، أي: حتى إذا مات، وقال تعالى: {امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:176]، أي: مات. فـ عائشة رضي الله تعالى عنها لما كانت تسمع النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يذكر خديجة بعد موتها كانت تغار هذه الغيرة من كثرة ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكرها بالخير ويثني عليها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في صدائق خديجة وصواحب خديجة رضي الله تعالى عنها من الشاة قدراً يكفيهن وينفعهن. وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه عز وجل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها)، مع أنها لم ترها لكن كانت تغار منها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له في بعض الأحيان: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد)، فيذكر مناقبها فيقول: كانت كذا وكانت كذا وكانت كذا، وكان لي منها الولد. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)، وهذا فيه لزوم وثبات على الإحسان لمن كان له أدنى صلة ممن يحبه من أب أو زوج أو غير ذلك، وفي هذا ما لا يحصر من المحاسن والفضائل. والصلح فيه من أنواع الترغيب، ففي الحديث: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً). واستدل بعموم الآية من أجاز الصلح على الإنكار. قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) فيه بيان لما جبل عليه الإنسان، أي: جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه أبداً. كأن الشح ختم على النفوس. فلا تكاد المرأة تسمح بالنشوز والإعراض وحقوقها من الرجل، ولا الرجل يسمح أيضاً بإمساكها مع القيام بحقوقها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحب غيرها. وقوله تعالى: (والصلح خير) هذا للترغيب في المصالحة. وقوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) لتمييز العذر في المشاحة والحث على الصلح؛ لأنها تعطي الإنسان عذراً إذا حصل أثناء المفاوضات لهذا الصلح نوع من الخصومة والاختلاف، فإذا تلا قوله تعالى: (والصلح خير) رغب في الصلح، فإذا حصل أثناء الصلح مشاحة واختلاف منهم في الاتفاق، ثم تذكر قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) فيكون فيها نوع من المواساة للطرف الذي يلقى الخصومة من الآخر. يقول: فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير، ولا يكلفها بذل الكثير، فيتحقق بذلك الصلح. قوله تعالى: (وإن تحسنوا) أي: في العشرة. (وتتقوا) النشوز والإعراض، ونقض الحق. (فإن الله كان بما تعملون) من تحمل المشاق في ذلك. (خبيراً) فيجازيكم ويثيبكم. ويلاحظ هنا أن خطاب الأزواج أتى بطريق الالتفات، يقول عز وجل: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ))، فهذا كلام يقال للغائب، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب فقال: ((وَإِنْ تُحْسِنُوا)) وهذا فيه تنبيه، ففي خطاب الأزواج بطريق الالتفات، وقوله: (وإن تحسنوا) عبر عن رعاية حقوقهن بالإحسان. (وتتقوا) ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وتتقوا النشوز وتتقوا الإعراض عنهن، وترتيب الوعد الكريم عليه في قوله: (فإن الله كان بما تعملون خبيراً) هذا فيه الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: (الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها بعد ما أسنت فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك). فتبقى زوجة له ويمسكها على أن تتسامح عن بعض حقوقها أو عن حقوقها حسبما يصطلحان). وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال: (جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فسأله عن قول الله عز وجل: ((وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ))، قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو قذذها فتكره فراقه، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج). وكذا رواه أبو داود الطيالسي وابن جرير. وروى ابن جرير أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: (هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز). وروى سعيد بن منصور عن عروة قال: (أنزل في سودة (وإن امرأة) إلى آخر الآية). وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ففرقت -يعني: خافت- أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضنت أن تخسر ارتباطها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له: (يا بن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القسم في مكثه عندنا -يعني: كان يعدل بينهن في القسم- وكان قل يوم إلا وهو يطوف على نسائه، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت، وفرقت -أي: خافت- أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! يومي هذا لـ عائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، قالت: فنزل في ذلك قول الله تعال

تفسير قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء)

تفسير قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء) قال تبارك وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:129]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا) تسووا. (بين النساء) في المحبة. (ولو حرصتم) على ذلك. (فلا تميلوا كل الميل) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة. (فتذروها) أي: تتركوا الممال عنها. (كالمعلقة) التي لا هي أيم، ولا هي ذات بعل. يعني: لا هي مزوجة ولا هي مطلقة. (وإن تصلحوا) بالعدل في القسم. (وتتقوا) الجور. (فإن الله كان غفوراً) لما في قلبكم من الميل. (رحيماً) بكم في ذلك.

شبهات وردود حول تعدد الزوجات

شبهات وردود حول تعدد الزوجات كتب القاضي كنعان في الحاشية عن قوله تعالى: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ))، يقول: الإنسان لا يستطيع أن يعدل بين زوجاته في محبة القلب، وهذا شيء لا خلاف فيه، ولكن لا عذر له في عدم العدل في البيتوتة والنفقة بجميع أنواعها. يعني: يجب عليه أن يعدل في هذه الحقوق، وهي القسم الذي هو المبيت، والنفقة، فإذا أتى مثلاً بهدية لواحدة فيعطي الجميع. ثم يقول: فعدم المساواة بينهن في ذلك ظلم -يعني: من الظلم ألا يعدل بينهن في النفقة وفي القسم- والظلم ظلمات يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان الأسوة الحسنة للزوج العادل المحسن إلى أهله، وبه يجب أن يأتسي المسلمون، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، وأحسب أن هذا الحديث ضعيف، والله تعالى أعلم. وإذا صح فيكون معناه: ما أملك وهو النفقة والقسم فسأعدل أما غير ذلك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك وهو ميل القلب ومحبته، وقد حذر صلى الله عليه وسلم من عدم العدل بين الزوجات فقال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط)، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. ولقد أباح الله تعالى للمسلم القادر أن يجمع في عصمته أربع زوجات، بعد أن كان التعدد في الجاهلية مطلقاً لا حد له، ونبه إلى وجوب الاكتفاء بواحدة، أو بملك اليمين عند الخوف من عدم العدل بينهن، فقال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء:3]. أما الذين لم تعجبهم إباحة التعدد فإنهم رفضوا الحلال وأباحوا لأنفسهم وللناس الحرام، فشرعوا للناس قوانين تمنع التعدد وتعاقب عليه، وتبيح الزنا ولا تعاقب عليه إذا حصل برضا الطرفين، وعامة القوانين تعبر بالاغتصاب عن فعل الفاحشة بدون تراض، أما إذا كان الزنا بالتراضي فليس بجريمة، فالله المستعان! وفي تونس حوكم بعض الناس بتهمة أنه ارتكب جريمة الزواج من امرأة ثانية، فالمحامي كما يقولون كان حاذقاً واستطاع بحذقه كما يزعم الناس أن يخرجه من هذه الجريمة مثل الشعرة من العجين، إذ أثبت المحامي أنها عاشقة وليست زوجة، وخليلة وليست حليلة، والله المستعان! ويجب على النساء اللائي فيهن نوع من الأنانية أن يفهمن أن الذي ينتفع بتعدد الزوجات هو قسم كبير جداً من النساء وليس فقط الرجال، مع أنه معروف أن المرأة جبلت على الغيرة الشديدة، لكن هذا أصلح وأنسب وأفضل للمرأة. فإذاً: هناك قسم كبير من النساء يكون التعدد أنسب لظروفهن، وأفضل لهن من أن تبقى بلا زوج. فالقضية ليست قضية القومية النسائية كما يحاولون أن يصوروا أن الرجال في جانب والنساء في جانب، قوم الرجال ضد قوم النساء، والحقيقة أن هذا التعدد فيه مصلحة حتى للنساء، بل إن كثيراً من المجتمعات الإسلامية الآن لم يعد لها مخرج على الإطلاق من الفتن التي تموج بها إلا بتعدد الزوجات. وحصل هذا حتى في بعض المجتمعات الكافرة حيث أباحوا تعدد الزوجات باعتباره مخرجاً من الضياع الذي صارت فيه هذه المجتمعات، ولاشك أن القضية حساسة تحتاج أن نتناولها من كل جوانبها، ونرجو فيما بعد أن تكون هناك فرصة للتفصيل إن شاء الله. يقول القاضي كنعان: فشرعوا للناس قوانين تمنع التعدد وتعاقب عليه، وتبيح الزنا ولا تعاقب عليه إذا حصل برضا الطرفين، فأي الحكمين خير للمرأة: أن تكون زوجة شريفة، أم أن تكون خليلة، ثم إن الإسلام لم يفرض التعدد. يعني: التعدد ليس بواجب بل مجرد حكم مشروع لم يفرض فرضاً؛ لأن بعض الناس وخاصة أعداء الإسلام في الخارج يحاولون التشنيع على الإسلام، فإذا تكلمت مع أي واحد منهم عن رأيه أو فكرته عن الإسلام فتراه ما يعرف عن الإسلام سوى أن الإسلام يوجب على المسلم أن يتزوج بأربع نساء. ولهم كثير من الافتراءات في هذا ومنها: أن الرجل المسلم لا يضع العصا عن عاتقه، وأنه يجب عليه أن يضرب زوجته في الصباح وفي المساء كل يوم كما يزعمون ويفترون، وهم يقولون هذا للتنفير عن دين الله سبحانه وتعالى والصد عن سبيل الله عز وجل. حتى إن تعدد الزوجات في مجتمعاتنا نادر جداً، والذي يحيي هذه الشريعة نادر جداً في المجتمع، حيث إن ظروف الناس حالت دونها، بل تجد أحياناً الشباب لا يتزوج حتى واحدة إلا بعد الأربعين أو الخامسة والثلاثين. إذاً: أين مشكلة تعدد الزوجات؟! هي كلها عبارة عن أزمات مصطنعة وليست طبيعية؛ لترويج الفواحش في المجتمع، حيث يضيقون على الناس من جهة ثم يفتحون النوافذ إلى الحرام من جهة أخرى، فالله المستعان!! يقول: والإباحة معلق بإرادة الرجل والمرأة، فلماذا تقبل المرأة أن تكون ضرة لمرأة أخرى؟ فإذا كان التعدد غير لائق كما يزعمون ويزعمن فإن بإمكان النساء وحدهن منعه؛ وذلك بامتناعهن عن القبول بزوج متزوج، وهذا ما لا يفعلنه. إذاً: التعدد ليس فريضة بل مجرد شيء مشروع للرجل له أن يفعله أو لا يفعله، وكذلك المرأة لها أن تفعله أو لا تفعله، فإذا كانت القومية النسائية متفقه كلها على إنكار موضوع التعدد، فالنساء يستطعن أن يمنعن التعدد تماماً؛ وذلك بأن يرفضن الزواج من الرجل المتزوج. معلوم أن التعدد فيه مصلحة لطائفة كثيرة جداً من النساء، ويكون أنسب لهن وأفضل لظروفهن. وهذه الآية مما يشغب به كثير من الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه حينما يقولون: القرآن جمع بين المتناقضات والعياذ بالله، وبعض الناس يتكلفون فيقولون: إن الله سبحانه وتعالى علق إباحة التعدد على القيام بالعدل، وقالوا: إن هذا الشرط المذكور في هذه الآية يستحيل أن يتحقق، فهو علق على شرط لا يتحقق وغير مستطاع وهو العدل، واستدلوا بهذه الآية: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ))، بينما في الحقيقة العدل في الآية الأولى غير العدل في هذه الآية. فقوله تبارك وتعالى في صدر سورة النساء: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]، العدل هنا هو الذي يملكه الإنسان، كالعدل في المبيت وفي النفقة، هذه الأشياء الرجل لا عذر له إذا أخل بها، أما العدل هنا في قوله عز وجل: ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا)) فالمقصود به: الميل القلبي الذي لا يملكه الإنسان. كان عليه الصلاة والسلام يقول في عائشة: (إن الله رزقني حبها)، فإذا كانت المحبة رزقاً فالله يبسط الرزق لمن شاء ويقدر. فهذا الأمر ليس من كسبه وهو فوق طاقته، لكنه مأمور بالعدل الذي يستطيعه وهو العدل في النفقة وفي القسم، أما العدل في الميل القلبي فهذا يعذر الإنسان فيه، ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ)) أي: تسووا بينهن في جميع الوجوه، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشئون، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع، كما قاله ابن عباس وغيره. (ولو حرصتم) يعني: ولو حرصتم على إقامة العدل وبالغتم في ذلك لن تستطيعوا؛ لأن الميل القلبي يقع بلا اختيار. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، يعني: لا تلمني في ميل القلب، رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وذكرنا أنه ضعيف. (فلا تميلوا كل الميل) يعني: إذا ملتم إلى واحدة منهن، فلا تبالغوا في الميل إليها. ولا تتمادوا في ذلك، ولكن ثبتوا أنفسكم فلا تميلوا كل الميل؛ لأنك إذا ملت كل الميل ستضيع العدل الواجب الذي تملكه وتستطيعه وهو القسم. (فتذروها) أي: تذروا التي ملتم عنها. (كالمعلقة) أي: بين السماء والأرض، لا تكون في إحدى الجهتين، فهي لا ذات زوج ولا مطلقة. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شدقيه ساقط)، هذه الرواية هنا بلفظ: (شدقيه) لكن الأصح والله أعلم أنها (شقيه) أي: جانبه. (وإن تصلحوا) أي: نفوسكم بالتسوية والقسمة بالعدل فيما تملكون. (وتتقوا) أي: الحيف والجور. (فإن الله كان غفوراً رحيماً) فيغفر لكم ما سلف من ميلكم.

تفسير قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته)

تفسير قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته) قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} [النساء:130]. قوله: (وإن يتفرقا) أي: الزوجان بالطلاق. (يغن الله كلاً) عن صاحبه. (من سعته) أي: من فضله؛ بأن يرزقها زوجاً غيره، ويرزقه غيرها. {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا}، أي: لخلقه في الفضل. {حَكِيمًا}، فيما دبره لهم. والمعنى: إن يتفرق الزوج والمرأة بالطلاق بأن لم يتم الصلح بينهما، فالشرع لا يقبل أن تبقى المرأة كالمعلقة، ولعلكم تلحقون ذلك بحكم الإيلاء المذكور في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] فمن حلف أن لا يقرب المرأة ولم يحدد أجلاً فالشرع يقول: هذا الوضع الذي هو إلى الأبد دون تحديد ليس في الإسلام، لكن ينظر المولي ويمهل أربعة أشهر {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة:226]، أي: إن رجعوا وأصلحوا {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227]، فيقول تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا) أي: لم يتم الصلح بينهما، ففي هذه الحالة إذا اختارا الفرقة (يغن الله كلاً) منهما (من سعته) ويجعله مستغنياً عن الآخر. وقوله: (من سعته) أي: من غناه وجوده وقدرته، وفيه زجر لهما عن المفارقة رغماً لصاحبه، بمعنى ألا يكون هناك إرغام من أحد الطرفين للآخر، فالله سبحانه وتعالى سيعوضه بعد الطلاق، وهذه الآية فيها تعزية ومواساة وتسلية لهما. {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء:130] أي: واسع الفضل {حَكِيمًا} [النساء:130] أي: في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.

تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا)

تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً) قال تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:131 - 132]. قال تعالى: ((وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) الكتاب هنا بمعنى: الكتب. ((مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: اليهود والنصارى. ((وَإِيَّاكُمْ)) يا أهل القرآن. ((أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)) بأن خافوا عقابه وذلك بأن تطيعوه. ((وَإِنْ تَكْفُرُوا)) وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا بما وصيتم به. ((فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) خلقاً وملكاً وعبيداً فلا يضره كفركم. ((وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا)) أي: عن خلقه وعبادتهم. ((حَمِيدًا)) أي: محموداً في صنعه بهم. ((وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) كرره تأكيداً لتقرير موجب التقوى. ((وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)) أي: شهيداً بأن ما فيهما له.

وجه تكرار قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) الآيات

وجه تكرار قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) الآيات في الحقيقة هنا شيء يلفت النظر في هذه الجملة من الآيات، يقول تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ثم قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء:131]، ثم قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:132]. ذكره ثالثاً إما لتقرير كونه تعالى غنياً حميداً، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميداً. وإما تمهيداً للاحقة (إن) الشرطية، وهو بيان كونه تعالى قادراً على جميع المقدورات، أي: له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقاً وملكاً، فهو قادر على الإفناء والإيجاد، فإن عصيتموه أيها الناس! فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية، وعلى أن يوجد قوماً آخرين يشتغلون بعبادته وتعظيمه، فذكر هذه الكلمات في هذا المقام ثلاث مرات؛ لتقرير ثلاثة أمور في سياقها كما بينا. وقال الرازي: إذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة؛ فإنه يحصل ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات، ثم يذكر مرة أخرى ليستدل به على الثاني، ثم ثالثاً ليستدل به على المدلول الثالث. وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة؛ لأنه عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول، فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى، فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال. وأيضاً: فإذا أعدته ثلاث مرات، وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله، تنبه الذهن حينئذ؛ لكون تخليق السماوات والأرض دالاً على أسرار شريفة، ومطالب جليلة؛ لأنه كلما ذكر هذا الجزء من الآية احتف بذكر صفات لله عز وجل غير المذكورة في المرة السابقة. ففي الأولى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، ثم قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}، ثم قال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا}. فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر بما في السماوات والأرض؛ لأن هناك إشارة إلى أنه ينبغي عليكم أن تتفكروا فيما هو في السماوات والأرض، والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى. ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله، وكان هذا التكرار مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده، لا جرم كان في غاية الحسن والكمال. ((وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)) أي: رباً حافظاً توكل بالقيام بجميع ما خلق.

تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس)

تفسير قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس) قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133]. ((إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ)) أي: يفنكم ويستأصلكم بالمرة. ((وَيَأْتِ بِآخَرِينَ)) يعني: يوجد مكانكم قوماً آخرين من البشر أو خلقاً آخرين مكان الإنس، ولكن الله أبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان. إذا نظرنا للإنسانية كلها فسنرى الكفر والإلحاد ومحاربة الله والصد عن سبيله إلى غير ذلك مما يحتف به سكان هذه الأرض، فالمقصود من الآية أن إبقاءكم رغم ما أنتم فيه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم البالغة بإفنائكم، لا لعجزه سبحانه وتعالى، وإمهال الله إيانا ليس عجزاً منه سبحانه وتعالى عن أن يؤاخذنا، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب بنا ويأتي بقوم آخرين. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} أي: على إهلاككم بالمرة والإتيان بغيركم. ((قَدِيرًا)) أي: بليغ القدرة، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:16 - 17]. قال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره.

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا) قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:134]. قوله: (من كان يريد ثواب الدنيا) كالمجاهد يجاهد لطلب الغنيمة (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) أي: أنه يستطيع بهذا الجهاد نفسه الذي يفعله أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة، كما له أن يطلب أخسهما ويقتصر على طلب الدنيا، فليطلبهما أو ليطلب الأشرف منهما وهو ثواب الآخرة، كما قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:200 - 202]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، إلى آخر الآيات. وقال بعضهم: عني بالآية مشركو العرب، فإنهم كانوا يقرون بأن الله تعالى خالقهم ولا يقرون بالبعث يوم القيامة، وكانوا يتقربون إلى الله تعالى؛ ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها. (من كان يريد ثواب الدنيا) هذا كما كان يفعله هؤلاء المشركون، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، هناك بعث ونشور وجنة ونار، فعليهم أن يرجو جلب الخير في الآخرة، ودفع الشر فيها أيضاً. (وكان الله سميعاً بصيراً) فلا يخفى عليه خافية ويجازي كلاً بحسب قصده.

النساء [148 - 149]

تفسير سورة النساء [148 - 149]

تفسير قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول)

تفسير قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) قال تبارك وتعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148]. قوله: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول) يعني: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد، إلا أن يكون مظلوماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم) وإن صبر فهو خير له. (وكان الله سميعاً عليماً) سميعاً لما يقال، عليماً بما يفعل.

أقوال المفسرين في معنى قوله: (إلا من ظلم)

أقوال المفسرين في معنى قوله: (إلا من ظلم) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قال الله عز وجل: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)) أي: لا يحب الله تعالى أن يجهر بالقبيح من القول، (إلا من ظلم) إلا جهر المظلوم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه، ويذكره بما فيه من السوء، فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه وتعالى، حتى إنه يجيب دعاءه؛ لأن الله سبحانه وتعالى حرم الظلم كما جاء في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) وقال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه داعياً إلى الإسلام: (اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). قوله: (إلا من ظلم) يعني: إلا جهر المظلوم إذا دعا على ظالمه، أو إذا تظلّم به عند القاضي أو الحاكم، وحكى هذا الظلم الذي وقع عليه، فهذا أيضاً لا يدخل في قوله: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)). ومعلوم أن أنواع الظلم كثيرة كما جاء عن السلف، حيث ذكروا أنواعاً منه، وليس المراد حصر معنى الآية فيه، بل القصد تنبيه المستمع على أنواع من الظلم. فمن ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله: (إلا من ظلم)، وإن صبر فهو خيرٌ له؛ لأنه إذا دعا عليه فقد أخذ حقه، وإن ادخرها للآخرة فهذا أفضل. وعن مجاهد قال: هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قراه فتحول عنه، والقراء: هو ما يؤدى للضيف وعند العرب فضلاً عن المسلمين من المذلة والمعرة أن الضيف يهجر الشخص الذي أضافه، ويتحول عنه ثم يثني عليه. وكلمة الثناء تطلق على الخير، وتطلق على الشر، تقول: أثنى عليه خيراً، وأثنى عليه شراً، للحديث الذي في الجنازة (لما مرت جنازة رجل، فأثنوا عليها خيراً، ولما مر رجل آخر سيئ فأثنوا عليه شراً). والثناء في هذا السياق المقصود به الشر، يعني: شنع عليه، واشتكى منه وجهر بمذمته؛ لأنه قصر في ضيافته؛ لذلك يقول مجاهد: هي في رجل أضاف رجلاً فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، يثني عليه يعني: يذكره بالسوء والتقصير الذي أولاه في الضيافة. وعن مجاهد قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج فيقول: أساء ضيافتي ولم يحسن، فهذا جهر بالسوء. وفي رواية: هو الضيف المحول رحله فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول. قال ابن كثير: وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى في ذلك؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم). وروى الإمام أحمد عن المقدام بن أبي كريمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم ضاف قوماً، فأصبح الضيف محروماً، فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله)، يصبح من حق الضيف أن يأخذ بقدر قراه. وروى هو وأبو داود عنه أيضاً أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروماً كان ديناً عليه، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه). ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لي جاراً يؤذيني، فقال له: أخرج متاعك فضعه على قارعة الطريق -أو في وسط الطريق- فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكل من مر به قال: ما لك؟! قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه، قال: فقال الرجل: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبداً)، وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب. وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، قال: هو الرجل يشتمك فتشتمه؛ لكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، وإذا شتمك فلك أن تشتمه، (إلا من ظلم) يعني: له أن يجهر بالسوء، فإذا شتمك عياناً، فلك أن تقتص منه بأن ترد بنفس ما شتمك به، إلا إذا كانت كذباً، فلا تكذب مثله، وذلك لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]. وقال: قطرب في معنى الآية: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، أي: إلا من أكره على أن يجهر بالسوء من القول. يعني: أكره كأن وقع تحت التعذيب أو الإكراه، بحيث يجهر بالسوء من القول فهذا يباح له أن يجهر به. وسئل المرتضى عنها، فقال: لا يحب الله ذلك ولا يريده لفاعله. (إلا من ظلم) وذلك مثلما فعل مردة قريش بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التعذيب والضرب حتى يكرهوهم على شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك عمار فخلّوه وصلبوا صاحبه، فأجاز لمن فُعِلَ به هكذا أن يتكلم بما ليس في قلبه، وأن يجهر بالسوء مع اطمئنان قلبه بالإيمان، وفي عمار وصاحبه نزل قول الله تعالى في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، فكانت هذه الآية مبينة بما في قلب عمار من شحنة إيمانية قوية. قوله: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، الآية تعم كل أنواع الظلم، وهذا مجرد ضرب أمثلة لهذا الظلم، سواء قلنا: إنها تعني حرمان الضيف من القرى. أو بمعنى: إلا من أكره على النطق بالسوء من القول، إلى غير ذلك مما ذكرنا.

من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى لا

من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى لا نقل السمرقندي وغيره عن الفراء في قوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) أن (إلا) بمعنى: لا، أي: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) يعني: حتى الذي يظلم لا يحب الله منه أن يجهر بالسوء من القول، يقول القاسمي: هذا من تحريف الكلم عن مواضعه -يعني: تفسير (إلا) بمعنى: لا- فإن الآية صريحة في أنه يجوز للمظلوم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم، عن الشريد بن سويد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)، الواجد هو: الشخص الذي عليه دين أو حق للناس وعنده من المال ما يسدد به الدين ويعطي للناس حقوقهم، فهو ليس فقيراً أو معدماً وليس لديه أي عذر، ومع ذلك يماطل ويسوّف، ويتهرب من أداء حقوق الناس، فإذا وقع إنسان في هذه المماطلة والتسويف مع كونه واجداً وغنياً فهذا ليه ومماطلته تحل عرضه وعقوبته، يعني: تحل الشكوى منه والثناء عليه بالشر الذي يفعله، فيحق لك أن تذكره بسوء وتشتكيه إلى القاضي وتقول: فلان ظلمني، فلانٌ ماطلني، فلان يمنعني حقي، فهذا داخل في قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ}، فمن حق الذي ظلم أن يشتكي لكن من لم يظلم وجهر بالسوء فهذا يكون مرتكباً لكبيرة الغيبة. والكلام هنا في الرخصة في الجهر بالسوء من القول في حق من ظلم، أما من لم يظلم فجهره بالسوء داخل في الغيبة المحظورة. أفادت الآية جواز الجهر بالدعاء على الظالم، ودلّت على أن من جهر بكلمة الكفر مكرهاً لا يكفر، وهذه الآية تضم إلى الآية التي في سورة النحل {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وذلك لأن المكره مظلوم، وإذا ثبت بطلان حكم لفظ الكفر مع الظلم، فكذا يلزم في سائر الأحكام من البيع والعتاق والطلاق والإقرار. ثم قال: والمحبة ها هنا بمعنى: الإباحة، لا أن ذلك يريده الله تعالى. يقول القاسمي: هذه نزغة اعتزالية، أي: تأويل فاسد، ثم قال: وتسميته سوءاً بكونه يسوء المقالة فيه، يعني: لأنك إذا اشتكيت من هذا الظالم فهذا الكلام الذي تقوله يسوءه ويؤذيه، وإلا فليس بقبيح في هذه الحال؛ لأن مقابلة الظالم بالجهر بالسوء من القول في حقه إنما هو من العدل؛ وذلك كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، وهذه مجرد مشاكلة في اللفظ للمجاورة، لكن هل السيئة الثانية تسمى سيئة، أم أنها من العدل؟ السيئة الثانية عدل وقصاص وليست قبيحة، كذلك هنا: ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، هذا أيضاً ليس سيئاً ولا قبيحاً في حال المقابلة وفي حال التشكي وقد ظلم.

من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى الواو

من قال بأن إلا في قوله: (إلا من ظلم) بمعنى الواو هناك من قال: إن (إلا) بمعنى: (الواو) ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) يعني: (ومن ظلم). في الحقيقة لا أدري كيف يكون المعنى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ومن ظُلِم) هذا بعيد، إلا إذا قرئت (ومن ظَلَم)، يقول البغوي الشاهد لهذا القول: وكل أخ مفارقه أخوه لعمرو أبيك إلا الفرقدان أي: والفراق دان، يقول: وهذا خلاف الظاهر، وهذا المذهب مردود. قولك: (إلا) بمعنى: الواو هذا خلاف ظاهر الآية الكريمة فلا تشتغلوا به.

الفوائد والحكم المستفادة من قوله: (إلا من ظلم)

الفوائد والحكم المستفادة من قوله: (إلا من ظلم) نقل في معنى هذه الآية حكمٌ ونوادر بديعة، قال الشعبي: يعجبني الرجل إذا سيم هوناً دعته الأنفة إلى المكافأة، يعني: أن المسلم يكون عزيز النفس، له أن يعفو ويصفح، لكن الصفح والعفو والحلم يكون في مقامه، أما معاملة المؤمن على أنه مغفل أو غير ذلك فهذا لا يمدح فيه العبد. ومعنى كلام الشعبي: يعجبني الرجل إذا سيم هوناً، أي: إذا ساوموه على أن يعطي الدنية والهوان والمذلة، دعته الأنفة والعزة إلى المكافأة، أي: في هذه الحالة يكافئ ويعاقب. يقول عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]، فبلغ كلام الشعبي الحجاج، فقال: لله دره أي رجل بين جنبيه، فتمثل: ولا خير في عرض امرئٍ لا يصونه ولا خير في حلم امرئٍ ذل جانبه أي: الذي يتحلم وهو في حالة المذلة، ولكن الحلم يكون قيمته في حالة العزة والقدرة على الانتقام، فهذا هو الذي يحلم. وقال أعرابي لـ ابن عباس رضي الله عنهما: (أتخاف عليّ جناحاً إن ظلمني رجل فظلمته؟ فقال له: العفو أقرب للتقوى، فقال: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41]). وقال المتنبي: من الحلم أن تستعمل الجهل دونه إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم أي: إذا كان الحلم يشينك بمزيد من المذلة والهوان، ويفتح السبيل لمزيد من الظلم، فالحلم هنا لا يمدح ولا يقصد، بل إنه من الحلم أن تستعمل الجهل دونه وأن تسلك سبيل الجهل في مثل هذه الحالة، والجهل هنا بمعنى: الجهل العملي، والمقصود به: الانتقام والقصاص وأخذ الحق. هذا معنى كلام المتنبي ثم يقول البرقوقي شارح ديوان المتنبي: الحلم هو الأناة والعقل، والجهل هنا: نقيض الحلم، والمظالم: جمع مظلمة، وهي الظلم، يقول: إذا كان حلمك داعياً إلى ظلمك، فإن من الحلم أن تجهل؛ لأن الحلم إنما يلجأ إليه بتدارك الشر، فإذا تفاقم الشر ولم يتدارك الشر إلا بالجهل كان الجهل حلماً. فلا خير في حلم إذا لم يكن له زواجر تحمي صفوه أن يكدرا

حقيقة الاستثناء في قوله: (إلا من ظلم)

حقيقة الاستثناء في قوله: (إلا من ظلم) أما الاستثناء في قوله تبارك وتعالى: ((إِلَّا مَنْ ظُلِمَ))، إذا قلنا: إنه متصل ففيه وجهان: الأول: قول أبي عبيدة: إن هذا من باب الحذف في المضاف، يعني: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا جهر من ظلم) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. الثاني: قول الزجاج: المصدر هاهنا بعد الاستثناء متصل، يعني: لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم. أما على أن الاستثناء منقطع فإنه يصلح أن يكون منقطعاً فـ (إلا) تكون بمعنى: (لكن)، وتكون العبارة: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن المطلوب له أن يجهر بمظلمته. قوله: ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)) [النساء:148]، فيه وعد للمظلوم بأنه تعالى يسمع شكواه ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، ووعيد له أيضاً حتى لا يتعدى في الجهر المأذون فيه، فهو وعيد للظالم ووعد للمظلوم ووعيد له أيضاً ((وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا))، (وكان) أي: ولم يزل متصفاً بأنه تعالى (سميعاً) يسمع شكوى المظلوم ودعاءه، ويعلم ظلم ظالمه، وهذا وعد للمظلوم ووعيد له أيضاً، يعني: احذر أيها المظلوم أن تتعدى حدودك في القصاص من ظالمك، إذا شتمك تشتمه بمثل ما شتمك، لكن إذا كذب عليك في الشتيمة لا يجوز لك أن تقابلها بالمثل، وإذا خانك وغدر بك فلا يجوز لك أن تغدر وأن تخون وتقول: أنا أقتص منه؛ لأن الخيانة محرمة بحق الله سبحانه وتعالى، فالمسلم لا يغدر ولا يخون، مثلاً: إذا انتهك عرضك لا يحل لك أن تنتهك عرضه، وإذا سرق مالك لا يحل لك أن تسرق ماله. فالمظلوم لا يتعدى بالجهر في المأذون فيه، فليقل الحق ولا يقذف بريئاً بسوء، فإنه يصير عاصياً لله بذلك.

تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا خيرا أو تخفوه)

تفسير قوله تعالى: (إن تبدوا خيراً أو تخفوه) وبعدما جوّز الله سبحانه وتعالى الجهر بالسوء، حث سبحانه على الأحب إليه والأفضل عنده، وأن يدخل العبد في الكرم والتخشع والعبودية، فقال سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]. قوله: (إن تبدوا خيراً) أي: تظهروا طاعة (أو تخفوه) أي: تعملوه سراً، (أو تعفو) أي: تتجاوزوا (عن سوء) أي: عن ظلم، ((فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)) أي: يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام. يعني: الله سبحانه وتعالى موصوف بأنه عفو قدير، يعفو عن الجاني مع أنه قادر على الانتقام؛ فكذلك إذا قدرتم على الانتقام فأولى وأفضل في حقكم أن تعفوا عن الجاني. فعليكم أن تقتدوا بسنة الله، وذلك بالعفو مع القدرة، فثمرة هذه الآية الحث على العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء، حتى وإن كان على وجه الاقتصاص فضلاً عن كونه من مكارم الأخلاق، وإنما كان المقصود العكس بأن ما قبلها في ذكر السوء والجهر به، فمقتضى الكلام ((لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)) أي: فإن عفا المظلوم ولم يدع على ظالمه ولم يتظلم منه، فإن الله عفو قدير، وإنما ذكر قبله إبداء الخير وإخفاءه توطئة للعفو عن السوء؛ لأنه يُعلم من مدح فاعل الخير في السر والعلانية. قال ابن كثير: ورد في الأثر: (أن حملة العرش يسبحون الله فيقول بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك، ويقول بعضهم: سبحانك على عفوك بعد قدرتك). وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه)، وصدر الحديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أحلف عليهن) وهو الصادق المصدوق؛ لكن الحلف هنا لمزيد من التأكيد؛ لأن بعض الناس قد يستغرب من ذلك: (ما نقص مال من صدقة)، يعني: الصدقة لا تنقص المال أبداً، ومن ليس عنده يقين يستغرب هذا، فلذلك حلف النبي صلى الله عليه وسلم تأكيداً لهذه الحقائق، ويقول في نفس الحديث: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). وقال الرازي: اعلم أن عواقب الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخلق مع الخلق، والذي يتعلق مع الخلق محصور في قسمين: إيصال النفع إليهم، ودفع الضرر عنهم، فقوله تعالى: ((إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ)) إشارة إلى إيصال النفع إليهم. ((أَوْ تَعْفُوا)) إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر.

النساء [163 - 176]

تفسير سورة النساء [163 - 176]

تفسر قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وكان الله عزيزا حكيما)

تفسر قوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح وكان الله عزيزاً حكيماً) انتهينا في تفسير سورة النساء إلى قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:163 - 165]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ و)) أي: وكما ((أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)) ابنيه ((وَيَعْقُوبَ)) وهو ابن إسحاق ((وَالأَسْبَاطِ)) أولاده. يعني: الأنبياء من ذرية يعقوب عليه السلام. ((وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا)) أباه، ((دَاوُدَ زَبُورًا)) بالفتح اسم للكتاب المؤتى، وبالضم مصدر بمعنى: مزبوراً، أي: مكتوباً، ((وَرُسُلًا)) أي: وأرسلنا رسلاً، وكلمة رسلاً منصوبة بفعل مقدّر وهو وأرسلنا رسلاً ((قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)). روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي؛ أربعة آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس، قاله المحلي في سورة غافر عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى)) بلا واسطة ((تَكْلِيمًا)). ((رُسُلًا)) بدل من (رسلاً) قبله ((مُبَشِّرِينَ)) بالثواب لمن آمن ((وَمُنذِرِينَ)) بالعقاب لمن كفر. أرسلناهم ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ)) تقال ((بَعْدَ)) إرسال ((الرُّسُلِ)) إليهم {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]، فبعثناهم لقطع عذرهم. ((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) في ملكه ((حَكِيمًا)) في صنعه. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء، وذكر تعالى بعده أنهم لا يسألون استرشاداً، وإنما هو سؤال تعنت وجدال. وبين عز وجل بعد ذلك أنواعاً من فضائح اليهود، أشار إلى رد شبهتهم، فاحتج عليهم بأنه صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، بل سبقه من قبل أنبياء أوحى الله عز وجل إليهم، وأمره في الوحي كسائر الأنبياء الذين يوافقون على نبوتهم، ولم ينزل على كل واحد منهم كتاب بتمامه مثلما أنزل على موسى، فهم أرادوا أن ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة. فيجابون هنا: بأن الوحي كما أتى لأنبيائكم الذين تؤمنون بهم، لم يأت لهم جملة واحدة كما أنزل على موسى، ومع ذلك أنتم تؤمنون بهم؛ كذلك الحال بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن نزول الكتاب جملة واحدة من شرط النبوة، فبان أن سؤالهم إنما هو محض التعنت؛ ولذلك قال تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) إلى آخره. قيل: بدأ بنوح؛ لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام، وبدأ بذكر نوح ترهيباً لهم، وإشارة إلى أنه أول نبي عوقب قومه بإرساله الطوفان عليهم، فهذا ترهيب ضمني لهم أن ينزل الله عليهم العذاب كما أنزله على قوم نوح، وظاهر الآيات يدل على أن من قبل نوح لم يكن يوحى إليه كما أوحي إلى نبينا، وإن كان قد سبق نوح عليه السلام أنبياء، فلا يفهم من الآية أن هؤلاء الأنبياء لم يأتهم وحي أصلاً، وإلا لما كانوا أنبياء، وإنما أتاهم وحي ليس بنفس الكيفية التي أوحي بها إلى من بعد نوح عليه السلام. يقول تعالى: ((وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ)) يعني: في السور المكية، أو قصصنا عليك قصصهم. ((وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)) يعني: لم نسمهم لك في القرآن. أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين نبياً ورسولاً من بني إسرائيل. وروي في عدة الأنبياء أحاديث تكلم في أسانيدها، منها: حديث أبي ذر: (إن الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر)، وهذا صححه ابن حبان، وذكره ابن الجوزي في موضوعاته.

حقيقة تكليم الله لموسى عليه السلام

حقيقة تكليم الله لموسى عليه السلام قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) يعني: خاطبه مخاطبة من غير واسطة؛ لأن تأكيد الكلام بالمصدر يدل على تحقيق الكلام، ولا يمكن أن يوجد هنا احتمال مجاز بل هو كلام حقيقي بلا واسطة، وموسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بلا شك؛ لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر، هذا على القول بوجود المجاز في القرآن الكريم. فإذا أراد إنسان أن يتكلم بالمجاز فلا يؤكده بالمصدر أبداً؛ لأنه لا يستعمل التأكيد بالمصدر إلا في الحقيقة، وهذا فيه رد على من يقول: إن الله خلق كلاماً في محل فسمع موسى ذلك الكلام. وقال الفراء: العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل؛ لكن لا تحققه بالمصدر، وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، فدل قوله تعالى: ((تكليماً)) على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة. قال بعضهم: كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به، ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء. يعني: كون موسى عليه السلام فضله الله بالكلام على غيره من الأنبياء، فهل يعد هذا قدحاً في بقية الأنبياء؟ لا، فالله سبحانه وتعالى يفضل بعض الرسل على بعض، منهم من كلم الله كموسى عليه السلام. قال: فكذلك إنزال التوراة على موسى عليه السلام جملة واحدة لا يكون قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء. والسياق هنا في الرد على اليهود: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء:153]، وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32]، فكما أن موسى عليه السلام كلمه الله، ولم يكن تفضيله بالكلام قادحاً في نبوة غيره، كذلك لم يكن تخصيصه بإنزال التوراة جملة واحدة قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء، وهذه الإشارة مأخوذة من قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)).

بيان القراءات في قوله: (وكلم الله موسى تكليما)

بيان القراءات في قوله: (وكلم الله موسى تكليماً) القراءة المشهور في لفظ الجلالة في قوله: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) بالرفع، وقرئ بنصبها قراءة شاذة، وهي القراءة التي أخذ بها أهل البدع وتمسكوا بها، يعني: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) يعني: كأنهم يريدون أن ينفوا صفة الكلام عن الله، وأن الذي كلم الله هو موسى، وليس الله هو الذي كلم موسى عليه السلام. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: روى الحافظ أبو بكر بن مردويه: أن رجلاً جاء إلى أبي بكر بن عياش فقال: سمعت رجلاً يقرأ: (وكلم اللهَ موسى تكليما) أي: أن موسى هو الفاعل فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر! قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)). وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك؛ لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه، وكأنّ هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام، أو أن الله يكلم أحداً من خلقه، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) فقال له: يا بن اللخناء كيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟ يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل. فهنا أزال المعنى المتشابه نتيجة هذه القراءة الشاذة برده إلى المحكم: ((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)).

لا حجة للناس على الله بعد إرسال الرسل

لا حجة للناس على الله بعد إرسال الرسل يقول تعالى: ((رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) أي: رسلاً يبشرون من آمن وأطاع بالجنة، وينذرون من خالف وعصى وكفر بالنار. ((لئلا يكون)) يعني: لكيلا يكون. ((للناس على الله حجة)) يعني: يوم القيامة لا يكون لهم عذر يعتذرون به قائلين: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:47]؛ لأن الله لو لم يرسل الرسل لكان للناس عذر يوم القيامة ويقولون: ربنا أنت لم ترسل إلينا رسولاً، وما أنزلت علينا كتاباً، وما عرفنا ما الذي يرضيك وما الذي يغضبك، لو كنت أرسلت إلينا رسلاً، وبينت لنا شرائعك، وأمرتنا ونهيتنا، وعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك؛ لأن قدرتنا البشرية قاصرة عن إدراك جزئيات المصالح، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} [طه:134]، من قبل أن ينزل القرآن: {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، فلذلك الله سبحانه وتعالى قال: قد أرسلت إليكم رسولاً وأنزلت عليه الكتاب، وبلغكم الحق، فقد قامت عليكم الحجة، ولم يبق عذر لمعتذر، وإنما سميت حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه وتعالى في فعل من أفعاله اعتراض؛ لأنه يفعل ما يشاء كما يشاء، ثم إن هناك حجة للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده، بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالله سبحانه وتعالى تكفل أنه لا يعذب أحداً، لا أمماً ولا أفراداً حتى تبلغه حجة الرسل والأنبياء. وعن عبد الله بن مسعود كما في مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس شيء أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل) والحديث أخرجه أيضاً البخاري. قوله تعالى: ((لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) أي: بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب، تكون قد قامت الحجة على العباد: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. وفي الآية دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل مبعث الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، رغم أن الله سبحانه وتعالى فطر العباد على التوحيد، وأعطاهم العهود وبث لهم الآيات في الكون وفي أنفسهم، وأخذ عليهم الميثاق، ومع ذلك تكفل رحمة منه بالعباد أنه لا يعذب أحداً رغم كل هذا حتى تبلغه الحجة الرسالية، فإذا بلغه وسمع عن الحق وعن دين الحق، صار مسئولاً عنه أمام الله سبحانه وتعالى، ولا يعذر الكافر بجهله؛ لأن آيات الحق وأدلة الحق واضحة بينة، وما عليه إلا أن يعمل عقله في البحث عنها. ((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) أي: في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله، ((حَكِيمًا)) في بعث الرسل للبشارة والنذارة.

تفسير قوله تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك

تفسير قوله تعالى: لكن الله يشهد بما أنزل إليك قال تبارك وتعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:166]. سئل اليهود عن نبوته فأنكروه، فالله سبحانه يقول: إن كانوا هم أنكروا نبوتك ولم يشهدوا بها، لكن الله يشهد. يقول السيوطي: قوله: ((لكن الله يشهد)) يبين نبوتك، (بما أنزل إليك) من القرآن المعجز ((أنزله)) متلبساً ((بعلمه)) أي: عالماً به، أو وفيه علمه. ((والملائكة يشهدون)) أي: يشهدون لك أيضاً، ((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) أي: على ذلك. يقول القاسمي: ولما تضمن قوله تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)) إثبات نبوته، والاحتجاج على تعلقهم عليه بسؤال كتاب منزل عليهم من السماء، كأنه قيل: إنهم لا يشهدون لأجل ذلك. يعني: أثبت الله نبوة محمد والأنبياء الآخرين: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)) إلى آخر الآية، ثم أخبر عز وجل أنه هو الذي أوحى إليك، فإذا كانوا هم لا يشهدون بنبوتك؛ فإن الله يشهد لك بالنبوة، قال عز وجل: ((لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ)) أي: من القرآن المعجز، الذي ينطق بنبوتك. قال الزمخشري: معنى شهادة الله بما أنزل إليك، أي: إثباته لصحته بإظهار المعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبينات، إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة؛ لأن الآية جاء في نهايتها: ((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا))، فالحكيم لا يؤيد الذي يدعي كذباً أنه رسول بالمعجزات، أما وقد أيدك الله بالمعجزات، فإنه يشهد لك بذلك؛ لأنك صادق ولست من الكاذبين. ((لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ)) أي: وهو عالم به رقيب عليه. ((وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ)) أي: والملائكة يشهدون أيضاً بذلك. ((وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) أي: يكفي أن الله شهد على صحة نبوته وإن لم يشهد غيره. في الآية تزكية للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لا تبال حتى لو لم يؤيدك في نبوتك كل الخلق، يكفي الله سبحانه وتعالى شاهداً، فهذا فيه تسلية وعزاء للنبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وكان ذلك على الله يسيرا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وكان ذلك على الله يسيراً) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء:167 - 169]. قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: بالله. ((وصدوا عن سبيل الله)) أي: عن دين الإسلام، حينما كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود. {قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167] أي: عن الحق. ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: بالله. ((وَظَلَمُوا)) أي: نبيه بكتمان نعته. ((لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا)) من الطرق. ((إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)) أي: الطريق الذي يؤدي إلى جهنم. ((خَالِدِينَ فِيهَا أبداً)) أي: مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها. ((وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)) أي: هيناً.

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا وكان ذلك على الله يسيرا)

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا وكان ذلك على الله يسيراً) يقول القاسمي: قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: كفروا بما شهد الله بإنزاله، مع اطلاعهم على إعجازه. ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: صدوا ونفروا الناس عن دين الإسلام. ((قَدْ ضَلُّوا)) أي: بما فعلوا. ((ضَلالًا بَعِيدًا)) أي: أنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، فكفروا في أنفسهم، وصدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام. ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا)) أي: ظلموا الخلائق بإضلالهم. ((لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا)) لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة. ((إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)) أي: الطريق المؤدي إلى جهنم جراء اكتسابهم الأعمال السيئة. ((خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)) أي: هيناً لا يعسر عليه ولا يستعظمه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق) لما قرر الله أمر النبوة، وبين الطريق الموصلة إلى العلم بها، وبعد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة وإلزام الحجة والوعيد إن ردوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:170]. قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: بالهدى ودين الحق، والبيان الشافي الذي يجب قبوله. ((فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ)) أي: آمنوا إيماناً خيراً لكم، أو ائتوا أمراً خيراً لكم من تقليد المعاندين. ((وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: فهو قادر على تعذيبكم؛ لعظم ملكوته، فإن ملكه العظيم ينبئ عن عظيم قدرته، أو أن ملكه العظيم يدل على أنه غني عنكم ولا يضره كفركم كما لا ينفعه إيمانكم، كما قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني). ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)) أي: في صنعه.

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) لما أجاب تبارك وتعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الحجة، جرد الخطاب للنصارى زجراً لهم عما هم عليه من الكفر والخذلان؛ لأن من مقاصد القرآن الكريم كما قال عز وجل: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]. إذاً: أحد المقاصد الأساسية من البعثة المحمدية هو إنذار كل من زعموا لله ولداً، وهذه لا تشمل النصارى فقط، لكنها تشمل المشركين الذين زعموا أن الملائكة بنات الله، وتشمل اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وتشمل النصارى الذين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وتجريد الخطاب للنصارى ليبين ضلالهم ويحذرهم، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171].

حقيقة الغلو عند النصارى وغيرهم وآثاره

حقيقة الغلو عند النصارى وغيرهم وآثاره قوله: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) أي: بالإشراك في رفع شأن عيسى عليه السلام، وادعاء ألوهيته؛ فإنه تجاوز فوق المنزلة التي أوتيها وهي العبودية والرسالة، فهنا نهي عن الغلو في الدين، والغلو في العقيدة، كما فعل أهل الكتاب أو النصارى لعنهم الله. فالغلو: هو مجاوزة الحد بالإسراف، فإن وصف عيسى بالألوهية رفع له فوق منزلته التي هي العبودية لله سبحانه وتعالى والرسالة. فيستفاد من الآية: حرمة الغلو في الدين، وهذه الآية فيها دليل من أدلة تحريم التطرف الذي هو الأخذ بطرفي الأمور؛ إما أقصى اليمين، وإما أقصى اليسار، بالإفراط أو التفريط، وسبق أن ذكرنا أن التطرف يستلزم وجود وسط وطرفين، والمذموم هو طرفا الأمور كما قيل: كلا طرفي قصد الأمور ذميم. أي: كلاهما مذموم. والعدل الذي يحبه الله هو الوسط، وهو هذا الدين وهذه الأمة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فهي الأمة الوسطية، فالوسطية نعرفها بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونعرفها بالقرآن والسنة، فما يوافق الإسلام ويوافق الوحي فهو الوسط، وأي نوع من الانحراف عن هذه الوسطية يميناً أو يساراً فهذا هو التطرف، فعلى هذا الأساس نقول: كل كافر سواء كان يهودياً أو نصرانياً فهو متطرف، وأي واحد يعتقد بعقيدة غير عقيدة الإسلام فهو متطرف، كما نرى أن تطرف اليهود بالجفاء وبسب الأنبياء، وبوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به، فهذا هو أقبح التطرف، أو تطرف النصارى بما زعموه من أن الله ثالث ثلاثة، وأن الله هو المسيح بن مريم إلخ. إذاً: فكل من لا يدين بدين الإسلام فهو متطرف، ثم إن في داخل دائرة الإسلام نفسه هناك فرق وهناك تفرق بين المسلمين، فكل من ليس من أهل السنة والجماعة فهو متطرف أيضاً، فالمتطرف داخل دائرة الإسلام هو كل من حاد عن منهج أهل السنة والجماعة؛ كالخوارج، والمعتزلة، والقدرية وكل هذه الفرق الضالة. فالقوم الآن أتوا إلى جانب التفريط الذي عليه المجتمع من الانحراف عن الإسلام وتضييع حدود الله وجعلوه هو الوسطية وهو خير الأمور عندهم، ثم لما جعلوا ما هم عليه وسطاً صار الإسلام واقعاً في الطرف؛ فلذلك هم يطلقون على الإسلام نفسه وصف التطرف، وأصبح العالم كله الآن يصف الإسلام بالتطرف والتشدد إلى آخر هذه القائمة، وكانوا من قبل يناورون ويموهون على الناس، أما الآن صار كلاماً صريحاً حتى من الملاحدة في بلادنا هنا. لقد اتفق الجميع الآن على أن كلمة التطرف أو الإرهاب المقصود بها الإسلام بلا أدنى مواربة أو تمويه، فهذا من ضلالهم المبين، وهم المتطرفون حقيقة؛ لأن ما هم عليه انحراف، وكل من ينحرف عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، فالذي يحلق لحيته ويعصي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم هو المتطرف، وليس الذي يعفيها طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الذي يضيع الصلاة هو المتطرف، وليس الذي يصلي، والذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأنه انحرف وتطرف عن الوسطية التي هي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرأة المتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها انحرفت عن الوسطية التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يكون عندنا اعتقاد راسخ بأن هذا هو الوزن الصحيح للأمور، وأن ما جاء به الإسلام هو الوسطية، وأن أي انحراف عنه فهذا هو الذي يستحق وصفه بالتطرف. والآية هنا تحرم أقبح صور التطرف والتي وقع فيها النصارى لعنهم الله، وفي الصحيح عن عمر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). قوله: (لا تطروني) إما أن يكون الإطراء هو المدح، وإما أن يكون الإطراء هو المبالغة في المدح. فإذا قلنا: إن الإطراء بمعنى المدح فهو يعني: لا تمدحوني، فإني مستغن عن مدحكم، فقد مدحني الله سبحانه وتعالى بما لا مزيد عليه، وذلك بقوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وغير ذلك من الممادح العظيمة التي شرفه الله بها، فهل يحتاج بعد ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن ننشئ له المدائح والقصائد والمحامد بعد أن مدحه الله بهذه المحامد، فإما أنه نهي عن المدح، أو أنه نهي عن الغلو في المديح الذي يؤدي إلى ما وقع فيه النصارى قبحهم الله، وقد ضل بعض الشعراء في هذا الباب، فنظم بيتاً يقول فيه: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم فهذا الشاعر فهم الحديث فهماً خاطئاً وقال: إن الحديث ينهى فقط عن أن نقول: محمد ابن الله، كما قالت النصارى: المسيح ابن الله. يعني: هذا الشاعر خصص النهي هنا بزعم أنه ابن الله، لكن قولوا بعد ذلك ما شئتم فيه. وهذا قول البوصيري في البردة المعروفة، فهو يقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم. يعني: أهم شيء ألا تقول: إن محمداً ابن الله كما قالت النصارى: المسيح ابن الله. يقول: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم فهو هنا فتح الباب على مصراعيه، وهو كان أول من خاض بالباطل في هذا الضلال، فكان بعد ذلك يقول مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم بناء على هذه القاعدة أو هذا الفهم الخاطئ للحديث. الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا ينهى المسلمين عن المبالغة في مدحه؛ كي لا يصبح بعد ذلك ذريعة إلى الغلو في الدين، وتحريفه بالتالي كما فعل النصارى مع المسيح عليه السلام. قوله: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) يعني: أن العبودية في حق الأنبياء من أعظم ما يمدح به الأنبياء، ومن تواضع لله رفعه، فالمبالغة في العبودية والتذلل يكون مقابله أن الله سبحانه وتعالى يرفعه في أعلى المقامات؛ ولذلك مدح الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف المواطن بصفة العبودية؛ لأن هذا هو أعظم ما يمدح به. وهذا الشاعر يقول في محبوبته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي أي: فلا تدعني إلا يا عبد فلانة، ولذلك قال الرجل الصالح رداً عليه: لا تدعني إلا بيا عبده فإنه أشرف أسمائي فأشرف الأوصاف أن تكون عبداً لله؛ ولذلك مدح الله نبيه بالعبودية في أشرف المقامات، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] في مقام التحدي، وقال أيضاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وأيضاً قال تبارك وتعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] في مقام الدعوة، وغير ذلك من مقامات التشريف. فالنبي صلى الله عليه وسلم يشرفه الله بالعبودية، وهو يتبرأ ممن يغالي في مدحه، كأن يقول: إنه أول خلق الله، أو نور عرش الله، إلى غير ذلكم مما يزعمه الصوفية، ويزعمون بذلك أنهم يمدحون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الأشياء. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا محمد! يا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل). قوله تعالى: ((وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)) يعني: لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، بل نزهوه عن جميع ذلك. ((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) تأمل أن الله سبحانه وتعالى يصف المسيح بأنه ابن مريم، وليس ابن الله، فهو من البداية يبين لهم غلوهم، ولذلك يكثر في القرآن وصف المسيح باسمه كاملاً. ((إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)) يعني: إشارة إلى أنه ليس ابن الله، ولكنه ابن مريم عليها السلام، فهذه صفة له تفيد بطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى. قوله: ((رسول الله)) هذا هو خبر المبتدأ، يعني: المسيح رسول الله، فهو مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاها. و (إنما) تفيد الحصر، فهو محصور في هذه الصفة لا يتجاوزها إلى ما يزعمون من الألوهية. ((وكلمته)) أي: عيسى عليه السلام المسيح كلمة الله؛ لأنه مكون بكلمته وأمره الذي هو (كن) من غير واسطة أب ولا نطفة، ولا شك أن كل المخلوقات إنما تخلق بكلمة (كن) سواء بواسطة أو بغير واسطة، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] لكن خص المسيح عليه السلام هنا لما كان في خلقه من المعجزة ومن الآيات البينات على قدرة الله سبحانه وتعالى. ((وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ)) أي: أوصلها إليها بنفخ جبريل عليه السلام. ((وَرُوحٌ مِنْهُ)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتعالى. و (من) هنا لابتداء الغاية حيث تقول: أكلت السمكة من رأسها إلى ذيلها، وهي كقوله تبارك وتعالى: ((وروح منه)) أي: بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة، وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم؛ لأننا جميعاً أيضاً خلقنا من روح الله، بمعنى: أن أرواحنا مخلوقة لله، لا أنها جزء من الله؛ ولذلك يرد على ضلال النصارى الذين يتفلسفون ويستدلون بآيات القرآن لتأييد باطلهم، يرد عليهم بقوله تبارك وتعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] ثم قال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] يعني: من روح الله، فالإضافة هنا معناها: من الروح التي خلقها الله، وليس أنها جزء من الله والعياذ بالله. قوله: ((وروح منه)) هنا لابتداء الغاية وليس للتبعيض -والعياذ بالله- الذي هو قول النصارى، حيث يزعمون أنها جزء من الله والعياذ بالله، لكن المقصود بقوله: ((وروح منه)) يعني: روح خلقها الله سبحانه وتع

عقيدة التثليث عند النصارى وبيان بطلانها

عقيدة التثليث عند النصارى وبيان بطلانها قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) أي: ولا تقولوا: إن الآلهة ثلاثة: الله، والمسيح، ومريم، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]؟ وقد ذكر السيد: عبد الله الهندي في مناظرته مع قسيس الهند، حكايةً عن مناظره، بأنه حكى -يعني: هذا القسيس في القصة المعروفة في الهند- أن فرقة من النصارى كانت تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم، قال: ولعل هذا الأمر مكتوب في نسخهم؛ لأن القرآن كذبهم، وبصورة أخرى أذكر أن كبير النصارى ومقدمهم (شنودة) كان من سنوات طويلة يظهرونه على أنه نجم من نجوم المجتمع، كان يتكلم وهو يعرف أن عقيدته حافلة بالعورات، بل كلها عورات، والأولى له أن يستر على نفسه ويسكت عن نشر الباطل الذي هو عليه، لكنه يموه ويحاول أن يخدع المسلمين، ولا يستطيع خداع المسلمين إلا بالتمويه بأن يظهر أنه مثل المسلمين، وهو يحس ويشعر بهذه العقدة، أن عقيدته عقيدة التثليث لا يمكن أن تنظف وتطهر ولو غسلت بماء البحار، وتراه يعرض في كلامه ولا يريد أن يهاجمنا بطريقة مباشرة، ونشر له هذا الكلام في مجلة الهلال. فكان يقول في هذه المجلة: البعض يقولون: إننا نقول إن مريم ثالث ثلاثة. يعني: أن الآلهة هي: الأب والابن ومريم! من قال هذا؟ هذا غير صحيح، ونحن لا نقول هذا. فإذا كنت أنت وسائر النصارى لم تستطيعوا ضبط أصل أصول دينكم وألحدتم فيه هذا الإلحاد، وزعمتم أن (1 + 1 + 1=1) مريم هي عليها السلام أم الله؟!. فهو يحاول أن ينكر ذلك، لكن ما دام أن الله قد حكاه عنهم، فهو قطعاً قد حصل، فإما أن هذا الرجل يكذب، وإما أنه جاهل بتاريخ فرقهم وما أكثرها. وهذا الشيخ أبو محمد عبد الله الترجمان والذي سبق أن تكلمنا في قصة إسلامه من قبل، فقد كان أكبر علماء النصارى في أوائل القرن التاسع الهجري، ودخل في الإسلام وله قصة جميلة، وله كتاب مشهور اسمه: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) حتى إن هذا الرجل اشتهر في بلاد المغرب باسم: سيدي تحفة، نسبة إلى كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) من كثرة ما اشتهر بهذا الكتاب، فيقول في قصته التي ذكرها في التحفة: وبعضهم يقول: الثلاثة هم الله تعالى، وعيسى بن مريم والروح. ولا يشك ذو عقل سليم أن كل من أوتي مسكة من العقل يجب عليه أن يرغب بنفسه عن اعتقاد هذا الإفك الغثيث البارد السخيف الرذيل الفاسد الذي تتنزه عنه عقول الصبيان، ويضحك منه ذوو الأفهام والأذهان. يقول: فالحمد لله الذي أخرجني من زمرتهم، وعافاني من بليتهم. ثم يقول: هناك فرقة تسمى: البربرانية، التي كانت تذهب إلى القول بألوهية المسيح وأمه معاً. ويقرر ابن البطريق مذهب هذه الفرقة فيقول: ومنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية ولعل هؤلاء هم الذين يشير إليهم القرآن الكريم فيما يخاطب الله به تعالى عيسى بن مريم عليه السلام إذ يقول: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116]، وإذ يرد عليهم في قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] هذا السياق يفيد أنهم يزعمون أن عيسى وأمه إلهان؛ لأن الرد هنا على هذه الفرقة التي تزعم ذلك، ولذلك قال: ((كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ))، يعني: أن الذي يحتاج إلى أكل الطعام يحتاج أيضاً إلى الإخراج، ومن الذي خلق الطعام؟ إنه الله، فهل الخالق يحتاج إلى مخلوق؟ هل الخالق يحتاج إلى طعام وشراب وإلى قضاء حاجة والعياذ بالله؟!! {انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]. والذين يحاولون أن يتبرءوا من أنهم يعبدون مريم عليها السلام، يتخذون أصناماً لـ مريم عليها السلام ويتمسحون بها، ويتوجهون إليها بالدعاء والبكاء، ويسجدون أمامها في الكنيسة حيث يوجد تمثال مريم عليها السلام، فهذا في الحقيقة معروف عنهم ومتواتر، فنقول لهم: لم تتبرءون من شيء واضح مثل الشمس؟ أليس عبادة المرء ودعاؤه وبكاؤه أمام صنم، أو أمام تمثال لـ مريم عليها السلام أليس هذا من اتخاذ آلهة من دون الله؟! وهذا من الأشياء الأساسية في ملتهم، فإذا ألغينا من النصرانية التماثيل والصور وهذه الأشياء لما بقي فيها شيء كثير، فكل عمدة دينهم هو هذه الصور والتماثيل. قوله: ((وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ)) يعني: أن الثلاثة هم: الله، والمسيح، ومريم، أو لا تقولوا: ثلاثة أقانيم فتكون الآية ترد على الفرق الأخرى الموجودة كالكاثوليك أو الأرثوذكس وغيرهم. فقوله: ((لا تقولوا ثلاثة)) أي: ثلاثة أقانيم والتي هي: الأب والابن وروح القدس. وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى عن بعض كتبهم النصرانية مباشرة عبارات ما نطيق أن نحكيها في الحقيقة؛ لأن فيها شركاً صراحاً، وفيها وصفاً للثلاثة الأقانيم، بأن كل أقنوم له خصائص وله ذاته المختصة بصفات معينة عندهم، والمتميزة بها، ولكنها كلها شيء واحد والعياذ بالله. يقول حكاية عنهم: ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق؛ لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشري. فهم يعترفون أنهم ثلاثة وفي نفس الوقت يتناقضون، ومع هذا التناقض يقولون: نحن لا نستطيع أن نفسر هذا، ما أعسرها من عقيدة! ولذلك لما اتخذ بعض المسلمين حاسباً نصرانياً وبلغ ذلك الخليفة، كتب إليه الخليفة أو غيره قائلاً: كيف تأمن على الحساب من لا يتقن الحساب، واحد يقول إن: (1+1+1=1)!. يعني: كيف توظفه محاسباً عندك وهو ما يعرف أن يجمع (1+1+1) يقول: إنها تساوي (1) هل هذا يصلح أن يكون حاسباً!. فهم يقولون: الأقانيم موجودة، لكنها ثلاثة وهي واحد، ومادام أنها موجودة فهي متميزة، يعني: أن كل إله مستقل بذاته. يقول في كتاب الصلاة الرائج في إنجلترا: أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً -يعني: هذا في كتابهم يخاطبهم بأنهم والعياذ بالله ثلاثة- كذلك مريم يعبرون عنها بأنها أم الله أو أنها زوجة الله، ويسجدون لها ولصورتها السجود الذي لا يجوز إلا لله، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ من الضلالات، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان. والكتب في الرد على ضلال النصارى خاصة في مسألة التثليث كثيرة جداً، فلا نطيل الكلام في ذلك. والاختلافات في النصارى كثيرة جداً، حتى قيل: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً. يعني: لو اجتمع عشرة من النصارى وتناظروا واختلفوا فإنهم سيأتون بمذهب جديد، ثم ذكر كلاماً كثيراً طويلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (الرسالة القبرصية). يقول الماوردي في أعلام النبوة: فأما النصارى فقد كانوا قبل أن يتنصر قسطنطين -يعني: قبل دخول قسطنطين في النصرانية كان دينهم صحيحاً في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام- ثم اختلفوا في عيسى بعدما تنصر قسطنطين، وهو أول من تنصر من ملوك الروم؛ لأن الروم كانوا صابئة، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم، فقال أوائل النسطورية: إن عيسى هو الله، وقال أوائل اليعقوبية: إنه ابن الله، وقال أوائل الملكانية: إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى، ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس ودفعته العقول. في الأخير لما وجدوا أن كلمة (ثلاثة) صراحة منفرة، اخترعوا بعد ذلك بقرون أن الله جوهر واحد، لكنه ثلاثة أقانيم: أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس، وأنها واحدة في الجوهرية. واختلفوا في الأقانيم فقال بعضهم: هي خواص، وبعضهم قال: هي أشخاص، وبعضهم قال: هي صفات، وقالوا: إن الكلمة اتحدت بعيسى، واختلفوا في الاتحاد، وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول، وفسادها ظاهر، فمن ثم قال تبارك وتعالى: ((انتهوا خيراً لكم)) أي: انتهوا عن التثليث خيراً لكم، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد. قوله: ((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) يعني: واحد بذاته لا تعدد فيه بوجه ما. ((سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) تنزيه لمقامه جل شأنه عما زعموه من بنوة عيسى حيث قالوا: إنه الله أو ابن الله. وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح في الكتب السابقة، قال: فهو إما من الخلط في الترجمة وإما مؤول بهذه التأويلات، فكانوا يعبرون عن الإله بأنه أبوهم، ولذلك قال المسيح لليهود: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني. وكونهم يطلقون اسم الأب على الله تعالى واسم الابن على العبد الصالح هذا من المجاز، ولذلك كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، لكن في الملة المحمدية الشريفة منع استعمال هذا الإطلاق وحسم الأمر؛ تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام، وهذا هو طريق الرشد، فلا يجوز أن يطلق على الله الأب أو على العباد الصالحين أنهم أبناء الله؛ لكن هذا كان يستعمل في لغتهم إما مجازاً بالمعنى الذي ذكرنا، وإما أنه من ضلالهم وتخبطهم في الترجمة. ((إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ)) يعني: هذا تعليل لتنزيه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له ولد، أو يكون ثالث ثلاثة. ((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)) يعني: كل ما في السماوات وما في الأرض هو مخلوق من مخلوقات الله، وهو ملك لله سبحانه وتعالى، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه، فالمسيح عليه السلام عبد لله وملك لله، ومخلوق من مخلوقات الله، فكي

تفسير قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله)

تفسير قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله) قال تبارك وتعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172]. قوله: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ)) هذه جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنبيه، يعني: لن يأنف المسيح من أن يكون عبداً لله؛ لأن عبوديته لله شرف يتباهى به، فالمسيح يتباهى ويفخر بأنه عبد لله، وهذه صفة تشرفه؛ ولذلك المسيح لا يستنكف أن يكون عبداً لله تبارك وتعالى. ((وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)) أيضاً: الملائكة لا يستنكفون من أن يكونوا عبيداً له تبارك وتعالى، وهذا من أحسن الاستطراد؛ لأن السياق أساساً في مخاطبة النصارى، لكن استطرد هنا فقال: ((وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)) فهو من أحسن الاستطراد؛ لأنه ذُكر للرد على من زعم أن الملائكة آلهة، أو على من زعم أن الملائكة بنات الله، كما رد بما قبله على النصارى. فالخطاب أساساً جاء لإبطال كلام النصارى؛ لكن في السياق أدخل أيضاً الرد على من ألحدوا أيضاً في شأن الملائكة: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)). وقد احتج بهذه الآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء؛ لأن الآية سياقها بمعنى لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا من هم أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً وهم الملائكة الكروبيون الذين هم حول العرش كجبريل وإسرافيل وميكائيل ومن في طبقتهم. ((وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ)) أي: من يأنف منها ويمتنع. ((وَيَسْتَكْبِرْ)) يعني: يتعظم عنها ويترفع. ((فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)) يعني: سيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم، ويفصل بينهم بحكمه العدل.

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم)

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم) قال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:173]. قوله: ((فأما الذين آمنوا)) فلم يستكبروا عن عبوديته. ((وعملوا الصالحات)) يعني: فلم يستنكفوا عن عبادته. ((فيوفيهم أجورهم)) يعني: ثواب أعمالهم من غير أن ينقص منها شيئاً. ((ويزيدهم)) يعني: على أجورهم شيئاً عظيماً. ((من فضله)) بتضعيفها أضعافاً مضاعفة مبالغة في إعزازهم. ((وأما الذين استنكفوا واستكبروا)) يعني: استكبروا عن عبادة الله عز وجل أو توحيده. ((فيعذبهم عذاباً أليماً)) هو عذاب النار. ((ولا يجدون لهم من دون الله ولياً)) أي: يواليهم ويعزهم. ((ولا نصيراً)) أي: ينصرهم ويدفع عنهم العذاب.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174]. لما بين تعالى بطلان ما عليه الكفرة على طبقاتهم من فنون الكفر والضلال عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم برهاناً؛ لما أوتيه من البراهين القاطعة التي شهدت بصدقه، ففيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت ببعثته، فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر. قال أبو السعود: التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم. يعني: قوله: ((من ربكم)) أي: الذي رباكم وأنشأكم وخلقكم ورزقكم وتلطف بكم، ومن لطفه أن أرسل إليكم الرسل. ثم قال أبو السعود: والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم. أي: كما رباكم الله وأنشأكم وفطركم ورزقكم وغذاكم، وكذلك أرسل رسوله إليكم؛ ليكمل تربيتكم وتنشئتكم وهدايتكم. ((وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)) أي: ضياء واضحاً يهتدى به من ظلمات الضلال وهو القرآن.

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به)

تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به) قال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175] أي: عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان. ((فسيدخلهم في رحمة منه)) أي: الجنة. ((وفضل)) يعني: يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة، فإنهم بعد أن يدخلهم الجنة يتفضل عليهم بأن ينظروا إلى وجهه الكريم وغير ذلك من مواهبه الجليلة. ((ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً)) يعني: فيخلفهم بتمسكهم بالبرهان والنور المبين الطريق الواضح الفصل وهو الإسلام. وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين؛ للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي. يعني: أن الله سبحانه وتعالى بدأ أولاً بذكر الجنة: ((فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)) ثم قال بعد ذلك: ((وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا))، مع أن الهداية تكون أولاً ثم تكون بعد ذلك الغاية وهي الجنة، والمقصود بهذا الخلاف في الترتيب هو المسارعة إلى التبشير بالمقصد الأصلي وهو الفوز بالجنة.

تفسير قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)

تفسير قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) ختم تبارك وتعالى هذه السورة الكريم بهذه الآية الكريمة وهي قوله تبارك وتعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:176]. قوله: ((يَسْتَفْتُونَكَ)) يعني: الناس يستفتونك في ميراث الكلالة، واستغنى عن ذكره لوروده في قوله سبحانه وتعالى بعد: ((قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة. والكلالة: هو الذي لا ولد له ولا والد. والمستفتي هو: جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، فقد روى الشيخان وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فتوضأ وصب عليّ -يعني: ماء وضوئه عليه الصلاة والسلام- أو قال: صبوا عليه فعقلت -يعني: أفقت- فقلت: لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية). ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ)) يعني: مات، وهذا هو الوضع اللغوي أن كلمة (هلك) تساوي كلمة (مات). يقول القاسمي: واختصاص الهلاك بميتة السوء عرف طارئ لا يعتد به. يعني: طرأ بعد ذلك في اللغة أن كلمة (هلك) تختص بميتة السوء، فحين تقول: فلان هلك، فتقصد به ذمه، أي: أن ميتته كانت ميتة سوء؛ لكن هذا عرف طارئ مخالف للأصل اللغوي، وأصل اللغة أن الهلاك يساوي الموت؛ ولذلك قال تعالى في القرآن الكريم على لسان المؤمن: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]. فقوله: ((حتى إذا هلك)) يعني: مات يوسف عليه السلام فهذا على أصل اللغة. أما ما طرأ من اختصاص الهلاك بميتة السوء فهو عرف طارئ لا يعتد به، بدليل ما لا يحصى من الآي والحديث، كما في هذه الآية: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ))، ولطروء هذا العرف قال الشهاب في شرح الشفاء: إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. يعني: في غير القرآن الكريم وفي غير السنة يمنع لفظ الهلكة على الأنبياء بمعنى الموت؛ تحرجاً من هذا العرف الطارئ. يقول: إنه يمنع إطلاقه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا يعتد بأصل اللغة القديمة، كما لا يخفى عمن له مساس بالقواعد الشرعية، والله تعالى أعلم. قوله: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)) يعني: لها نصف ما ترك الميت من المال. قال ابن كثير: تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد. يعني: يكفي الاستحقاق بوصف الكلالة أن ينتفي الولد دون الوالد؛ لأنه هنا في الآية قال: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ)) ولم يقل: وليس له والد؛ فدل على أن الكلالة لا يشترط فيها ألا يكون له والد. والآية هنا لم تصرح بانتفاء الوالد بحيث لم تأت بلفظ: (وليس له ولد ولا والد) لكن كلمة ((وله أخت)) تدل على عدم وجود الوالد؛ لأن الوالد إذا وجد فإنه يحجب الأخت فلا ترث. إذاً: الكلام الذي قلناه سابقاً غير صحيح. يقول ابن كثير: تمسك به -يعني: بقوله: ((ليس له ولد وله أخت)) - من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد، وهو رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه ابن جرير عنه بإسناد صحيح. ولكن الذي يرجع إليه قول الجمهور، وهو الذي قضى به الصديق رضي الله تعالى عنه: (أنه الذي لا ولد له ولا والد)، ويدل على ذلك قوله: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)). لأنه لو كان معها أبٌ لم ترث شيئاً؛ لأنه يحجبها بالإجماع، فدلّ على أنه من لا ولد له بنص القرآن، ولا والد بالنص أيضاً عند التأمل، فإن كلمة: ((وله أخت)) معناها: أن أباه ليس موجوداً؛ لأن الوالد إذا كان موجوداً فإنه يحجب الأخت، فكون الأخت سترث فهذا يقوم مقام وليس له والد. والأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد، بل ليس لها ميراث بالكلية. وروى الإمام أحمد عن زيد بن ثابت: (أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم فأعطى الزوج النصف والأخت النصف، فكلم في ذلك فقال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك). ونقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت: (إذا ترك بنتاً وأختاً أنه لا شيء للأخت، لقوله: ((إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ)) لأنه إذا ترك بنتاً فقد ترك ولداً) لأن كلمة الولد تعم الذكر والأنثى، فلا شيء للأخت، وخالفهم الجمهور فقالوا في هذه المسألة: للبنت النصف بالفرض، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب، بدليل غير هذه الآية، وأما وراثتها بالتعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان عن إبراهيم عن الأسود، قال: (قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للبنت والنصف للأخت). قوله: ((وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ)) يعني: الأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة ليس لها ولد، ونضيف هنا أيضاً: ولا والد هذا في التفسير؛ لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئاً، فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم، وصرف الباقي إلى الأخ؛ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر)، يعني: الفرائض هي الأنصبة المنصوص عليها في القرآن التي فرضها الله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11]، فبعدما توزع الفرائض يكون الإرث بالتعصيب، يعني: الأقارب من العصبة من الذكور: (فلأولى رجل ذكر). قوله: ((فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)) يعني: فإن كان لمن يموت كلالة أختان ليست أختاً واحدة فرض لهما الثلثان، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين، كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله تعالى: ((فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ)). ثم قال عز وجل: ((وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً)) يعني: إن كان الذين يرثون هم إخوة رجالاً ونساءً. ((فَلِلذَّكَرِ)) منهم. ((مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) أي: مثل نصيب اثنتين من أخواته الإناث. ((يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)) يعني: يبين الله لكم هذه الأحكام كراهة أن تضلوا في ذلك كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82] والمقصود ((واسأل أهل القرية))، أو على تقدير (اللام) (لئلا تضلوا). القول الثالث: ليس هناك حذف ولا تقدير، وهذا قول الحسن، وإنما الكلام على ظاهره، يعني: الله سبحانه وتعالى يعلمكم الشر كي تتقوه، ويبين لكم الضلال كي تجتنبوه وتحذروه. فقوله: ((يبين الله لكم أن تضلوا)) يعني: يبين الله لكم ضلالكم الذي هو شأنكم إذا تركتم لطباعكم وأهوائكم وميولكم سوف تضلون ضلالاً بعيداً، فالله سبحانه وتعالى بين لكم هذا الضلال لتحترزوا منه وتتحروا خلافه. ورجحه بعضهم؛ لأن من حسن ختام السورة، أن يختمها عز وجل بقوله: ((يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)) والالتفات إلى أول السورة؛ لأن السياق كان في سياق الغيبة؛ لأن الآية ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ)) إلى قوله: ((وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)) ثم التفت وقال: ((يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ)) فالالتفات هنا كأنه رد على صدر السورة، وهو قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا))، إلى آخر الآية الكريمة، فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال لهم: إن

المائدة [30 - 37]

تفسير سورة المائدة [30 - 37]

تفسير قوله تعالى: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض) قال الله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:30 - 31]. قوله تعالى: (فطوعت له نفسه قتل أخيه) أي: رخصت وهونت له نفسه. وجاء التصريح هنا بالأخوة في قوله: (قتل أخيه) فلم يقل سبحانه وتعالى: فطوعت له نفسه قتله. وإنما صرح بالأخوة لكمال تقبيح ما سولت له به نفسه من قتل أخيه، أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه، فبدل أن يحمي أخاه إذا به هو نفسه يقتله. وقوله تعالى: (فقتله فأصبح من الخاسرين) أي: ديناً؛ إذ صار كافراً حاملاً الدماء إلى يوم القيامة، وأصبح من الخاسرين دنيا؛ إذ صار مطروداً مبغضاً في الخلائق. وقد أخرج الجماعة غير أبي داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل). فـ قابيل هو أول من سن القتل في ذرية آدم عليه السلام، فلذلك كل من اقتدى به من بعده وقتل مظلوماً أو قتل بغير حق فإنه يشاركه في الوزر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). فكذلك لما كان هو أول من سن سنة القتل وإراقة دم المسلم بغير حق كان في كل نفس تقتل من بني آدم إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى نصيب من وزر القتل عائداً إلى قابيل؛ لأنه هو أول من سن هذه السنة. ولما قتل قابيل أخاه لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته، وهذه كانت أول حادثة تقع في تاريخ البشرية يحصل فيها هذا القتل وهذه الجريمة، فلم يدر ماذا يصنع بعدما قتل أخاه ورآه مضرجاً بدمه وجثة ملقاة أمامه، فاحتار، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} [المائدة:31]. قوله: (فبعث الله) أي: أرسل الله (غراباً)، فجاء يبحث في الأرض، ومعنى (يبحث): يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً في الأرض، وهذا من شأن الغراب؛ لأن الغراب دائماً يحفر في الأرض. قال القتيبي: هذا من الاختصاص، ومعناه: بعث غراباً يبحث التراب على غراب ميت. يعني: هذا هو الاحتمال، وهو أن هذا الغراب كان له غراب آخر ميتاً فكان يحفر له في الأرض كي يدفنه، فهو رأى هذا المشهد. وكذا رواه السدي عن بعض الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له ثم حثا عليه حثياً. وقوله: (ليريه) الضمير المستتر إما عائد على الله تعالى أو على الغراب، أي: إما أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى بعث الغراب ليري قابيل كيف يصنع بأخيه، أو ليري الغراب قابيل ما يصنع بالمقتول. وقوله: (كيف يواري) أي: يستر في التراب (سوأة أخيه) أي: جسده الميت، وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره، فالإنسان يسوءه أن يرى أخاه ميتاً. قال تعالى: (قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) قوله: (يا ويلتا) كلمة جزع وهلع، والألف فيها بدل ياء المتكلم؛ إذ الأصل فيها (يا ويلتي) فأبدلت الياء -ياء المتكلم- ألفاً. والويل والويلة: الهلكة. (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) أي: أضعفت عن الحيلة في أن أكون مثل هذا الغراب الذي هو من أضعف الحيوانات؟! والاستفهام هنا للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب، فهو يستفهم متعجباً كيف أنه هو الإنسان ويعجز عن أن يكون مثل الطائر الضعيف الذي استطاع أن يتصرف في جثمان أخيه بهذه الصورة، في حين هو لم يهتد إلى ذلك وبقي متحيراً إلى أن جاء الغراب! وقوله: (فأواري سوأة أخي) أي: أغطي. وقوله: (فأصبح من النادمين) أصبح هنا بمعنى: (صار من النادمين) أي: على حيرته في مواراته، حيث لم يدفنه حين قتله، فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى في التنوير، ولم يكن نادماً على قتله، ففي هذه اللحظة هو لم يكن نادماً على قتل أخيه، وإنما أصبح من النادمين لعدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب. وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه؛ لأن الندم توبة، فالظاهر أن الله سبحانه وتعالى لم يعف عنه؛ لأنه لم يتب مما فعل بأخيه، فيلزم أن يفسر قوله تعالى: (فأصبح من النادمين) يعني: على حيرته حيث لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب الأعجم، فكان أخس وأقل من الغراب الأعجم، ولو كان نادماً على قتل أخيه لكانت الندامة توبة، لكنه لم يتب. وظاهر الآيات أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب، ولا مانع من ذلك؛ إذ مثله مما يجوز خفاؤه على الإنسان، لاسيما والعالم في أول طور النشأة، وكان هابيل أول قتيل من بني آدم، فيكون أول ميت، فيحتمل أنه لم يكن يعرف ما ويصنع بالميت إذا مات أو بالقتيل إذا قتل. ونقل الرازي احتمال أن يكون عالماً بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه، فواراه تحت الأرض، والله تعالى أعلم.

الندم إذا لم يكن لقبح المعصية فليس بتوبة

الندم إذا لم يكن لقبح المعصية فليس بتوبة في الآية دلالة على أن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية لم يكن توبة، فهو هنا لم يندم على قبح المعصية، أو لم يندم خوفاً من الله تبارك وتعالى، ولذلك لم ينفعه هذا الندم، يقول الرازي: ندم على قساوة قلبه كونه دون الغراب في الرحمة فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

أصل مشروعية دفن الميت

أصل مشروعية دفن الميت هذه الآية أصل في مشروعية دفن الميت حتى ولو كان كافراً، فالميت ولو كان كافراً يدفن ويوارى في التراب، والدليل على ذلك -أيضاً- ما ثبت في قصة غزوة بدر، حيث ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين في قليب بدر، لما مات أبو طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه علي رضي الله عنه: (اذهب فوار أباك) فالكافر لو مات يدفن، لكن لا يغسل، ولا يصلى عليه إلى آخر ما هو معلوم، فالآية دليل أصيل في مشروعية دفن الميت. قال ابن جرير: زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري! ما كنت عليه رقيباً. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن، أنت ملعون من الأرض الذي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض. وعلى أي الأحوال فهذا مما لا نستطيع قبوله بإطلاق، فهو من الإسرائيليات. وكذلك روى ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال: تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام: أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها على خوف فجاء بها يصيح وقد نقد وفند غير واحد من العلماء نسبة هذه الأبيات إلى آدم، فمما لا يكاد يصدق أن يكون آدم أنشد هذين البيتين ويكون هذا الشعر قد حفظ ونقل بسند صحيح إلى آدم عليه السلام، فهذا مما فنده غير واحد من العلماء. يقول الزمخشري: روي أن آدم رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.

حكمة تخصيص الغراب بأنه دابة المواراة

حكمة تخصيص الغراب بأنه دابة المواراة أما حكمة تخصيص الغراب بكونه دابة المواراة فقد قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء. فهذه عادة عند الغراب أنه يدفن الأشياء في الأرض، فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه، وهذا غير الكلام الذي سبق من قبل، وهو أن الله سبحانه وتعالى بعث غرابين اقتتلا فقتل واحد منهما صاحبه فواراه في التراب. فهناك قول آخر أنه ما كان الغراب يدفن غراباً آخر، وإنما عادته أنه دائماً يدفن الأشياء في الأرض، فرآه يبحث في الأرض ويحفر فيها بمنقاره ورجله عميقاً كي يدفن فيها شيئاً ما لا يشترط فيه أن يكون غراباً. والغراب هو الطائر الأسود المعروف، وقسموه إلى أنواع، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لما فيه من الفسق، ولأنه من أخبث الطيور، والعرب تقول: (أفسق من غراب) أي: أشد في الخبث والفسق من الغراب. وتقول أيضاً: (أحذر من غراب) باعتباره يتصف بالحذر و (أدهى من غراب) و (أصفى عيشاً من غراب) و (أشد سواداً من غراب)، و (هذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب) لأن الغربان تتشابه بشكل عجيب، والناس الذين يعيشون في الصحراء يدركون ذلك، وإذا نعتوا أرضاً بالخصب قالوا: (وقع في أرض لا يطير غرابها). ويقولون: (وجد تمرة الغراب) يعني: الشيء الذي ليس أحسن منه؛ لأن الغراب ينتقي أطايب التمر وأجود أنواعه ويتتبعه. ويقولون: (أسأم من غراب)، ويقولون: (أفسق من غراب)، ويقولون: (طار غراب فلان)، إذا شاب رأسه؛ لأن الغراب أسود، وإذا أراد شخص أن يعلق شيئاً على فعل لا يقع يقول مثلاً: أزورك حين يشيب الغراب. أي: حين يتحول لون الغراب إلى اللون الأبيض، وهذا لا يقع، أو: لا آتيك حتى يبيض الغراب. فيقولون: (طار غراب فلان) أي: رحل السواد وحل محله الشيب و (غراب غارب) على سبيل المبالغة، كما قالوا: (شعر مشاعر) و (موت مائت) وقال رؤبة: فازجر من الطير الغراب الغارب. قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه، وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه، ذكره صاحب المضاف والمنسوب، من مثل قوله: (ما أعرف لفلان مثلاً إلا الغراب، ولا يقع إلا مذموماً على أي جنب وقع، إن طار فمقسم الضمير، وإن وقع فمروع بالنذير، وإن حجل فمشية الأمير، وإن شحج فصوت الحمير، وإن أكل فدبرة البعير. يعني: قرحته. والأبيات في غراب البين كثيرة ملئت بها الدفاتر، فغراب البين يشيع كثيراً استعماله في الأدب العربي، حيث يتشاءمون من الغراب بأنه رمز البعد والسفر عن الأحباب والأصحاب وغير ذلك. إلا أن هذا الأمر الشائع من أن (غراب البين) المقصود به الغراب الطائر في حقيقته كلام غير صحيح، وإنما (غراب البين) هو الإبل، فقد حقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي قاضي غرناطة في شرحه على مقصورة حازم أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل؛ لأن الإبل هي رمز السفر عند العرب؛ لأنها تنقل الأحباب من بلد إلى بلد، فلذلك اعتبر الغراب رمزاً للفراق والبين، وإذا قالوا: (غراب البين) فالمقصود به الإبل التي تغترب بالناس وتنقلهم من بلاد إلى بلاد. وأنشد في ذلك مقاطيع منها: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق ما الذنب إلا للأباعر إنها ممن يشتت جمعهم ويفرق إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميع الأينق فهنا هو يرد على هؤلاء الذين يعتبرون أن غراب البين هو الطائر، فيقول: هذا جهل وهذا خطأ. فقوله: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق يعني: ينحون باللائمة، ويذمون هذا الغراب الطائر الذي ينعق، ويتشاءمون منه باعتباره غراب البين، ويقول: (ما الذنب إلا للأباعر) أي: الذنب في البين والفراق هو للجمال وليس لهذه الطيور (إنها مما يشتت جمعهم ويفرق)، أي: الإبل هي التي تشتت جمعهم وتفرقهم بالأسفار. وقوله: (إن الغراب بيمنه تدنو النوى) يعني: هو ليس مشئوماً، ولكنه له يمن. فبيمنه تدنو النوى، أي: يقترب البعاد (وتشتت الشمل الجميع الأينق) النوق أو الجمال أو الإبل هي التي تشتت المجتمع وتفرق الناس وتسافر بهم. وأنشد ابن المسناوي لـ ابن عبد ربه: زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر إن لم يصدقه رغاء بعير فقوله: (زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر) لأن الناس يتشاءمون من صوت الغراب، فيقول: قلت أكذب طائر) فلم يقل: إنه علامة على مفارقة الأحباب؛ لأن صوت الغراب إذا لم يقترن به رغاء البعير الذي يحمل الأحباب ويسافر بهم فإنه يكون كذباً ولا شؤم فيه. فهذا كله مما يؤيد أن غراب البين المقصود به الإبل وليس الطائر.

تفسير القاسمي رحمه الله تعالى للآية

تفسير القاسمي رحمه الله تعالى للآية يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (فطوعت) أي: زينت. (فأصبح) يعني: فصار. فـ (أصبح) هنا معناها: (صار). يقول: فصار من الخاسرين، أي: بقتله، ولم يدر ما يصنع به؛ لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله على ظهره. (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض) يعني: ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويلقيه على غراب ميت معه حتى واراه. (ليريه كيف يواري) كيف يستر (سوأة) أي: جيفة (أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون) يعني: أعجزت عن أن أكون (مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) فأصبح من النادمين على حمله لا على قتله، وحفر له وواراه. وهذه الآية أصل في دفن الميت.

تفسير قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل) ثم يقول تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:32]. قوله تعالى: (من أجل ذلك) أي: من أجل ذلك الذي فعله قابيل (كتبنا على بني إسرائيل أنه) الهاء هنا تدل على الشأن (أنه) أي: الشأن. (من قتل نفساً بغير نفس) يعني: بغير نفس قتلها. (أو فساد) أو بغير فساد (في الأرض) أي: فساد أتاه في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق ونحوه. وهنا إشارة إلى ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذه هي الدماء التي أباحها الإسلام. فقوله: (الثيب الزاني) لأنه يرجم، (والنفس بالنفس) من قتل يقتل (والتارك لدينه المفارق للجماعة) المرتد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه). ومن الدماء التي أباحها الإسلام دماء أهل الحرابة، وسيأتي ذكرهم -إن شاء الله تعالى- في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33]، إلى آخر الآية الكريمة، وكذلك البغاة الذين يخرجون على الإمام الحق. يقول تعالى: ((أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا)) أي: بأن امتنع عن قتلها ((فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)). قال ابن عباس: من حيث انتهاك حرمتها وصونها. قوله تعالى: ((وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ)) أي: بني إسرائيل ((رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالمعجزات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)، أي: مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك. وقوله: ((كَتَبْنَا)) أي: فرضنا وأوجبنا على بني إسرائيل، وخصوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك، وسيأتي -بإذن الله- فيما بعد أنه خص بالذكر بني إسرائيل لأنهم أقسى الأمم قلوباً في هذا الباب، فإنهم مشهورون بأنهم قتلة الأنبياء، فسفكوا دماء الأنبياء وهي أشرف الدماء وأعظم الدماء، وأكثرها حرمة وعصمة، فهنا إشارة إلى بني إسرائيل لفظاعة ما ارتكبوه من استحلالهم قتل الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقوله: ((أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ)) يعني: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. وقوله: ((أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ)) أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها؛ لأن الذي يبيح القتل هو إما إن يقتل الإنسان نفساً بغير حق، وإما أن يعيث في الأرض فساداً بصور كثيرة بينها بعد ذلك، كالكفر، والحرابة، أي: المحاربون من قطاع الطريق، وكذلك زنا المحصن مما يبيح دمه. وقوله: ((فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)) أي: من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. وقوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] معناه كما ذكر السيوطي: من امتنع من قتلها. ويقول القاسمي هنا: (ومن أحياها) يعني: من تسبب لبقاء حياتها لعطف أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. وهذا التفسير أعم وأشمل بلا شك. فيدخل في الإحياء هذه الأحوال كلها، أولاً: العطف، كأن يكون ولي الدم مكن من قتل هذا الشخص، ثم عند ذلك عفا عن القاتل وسامح، فهنا يكون قد أحياها، لا لأنه هو الذي يخلد الروح، فهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى، لكن المقصود هو أنه عفا عنه ولم يستوف حقه بقتله. ومن ذلك المنع عن القتل، كشخص يريد أن يقتل آخر فحميته ودفعت عنه حتى أنجيته من هذا القاتل، فهذا -أيضاً- نوع من الإحياء، فهو داخل في الآية، وكذلك الاستنقاذ من بعض أسباب الهلكة، كشخص أوشك على الغرق فأنقذته، وشخص أوشك على الموت بأي سبب فعالجته، فهذا -أيضاً- داخل في قوله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). أي: فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب، ترهيباً عن التعرض لها، وترغيباً في حمايتها. وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل نفساً وجب على المؤمنين معاداته، وأن يكونوا خصومه كما لو قتلهم جميعاً؛ لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم، ومن أحياها وجب على المؤمنين موالاته كما لو أحياهم. ولذلك كان جد الفرزدق واسمه صعصعة بن ناجية ينقذ المؤودة، فكان الفرزدق حينما يفاخر جريراً يقول: أنا ابن محي الموتى. فيقول له جرير: كيف هذا وهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى؟! فكان يقول له: إن جدي صعصعة بن ناجية كان يبحث عن أي بنت في الجاهلية يريد أبوها أن يئدها، وكانت أي امرأة تتمكن من الهرب تفر إليه، فكان يدفع لأبيها دية وينجيها من القتل، فهذا مما كان من أخلاقه التي كان يتحلى بها في الجاهلية. وقيل للحسن البصري: هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والله، إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم، وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا. فالقاعدة في ذلك أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق. وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (دخلت على عثمان يوم الدار -يوم الحصار حين حاصره الفجار في داره- فقلت -أي: قال أبو هريرة لأمير المؤمنين رضي الله عنهم-: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة! أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت: لا. قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراًً غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل). فالصحابة رضي الله تعالى عنهم ما قصروا على الإطلاق في الدفاع عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه، وإنما عثمان هو الذي أمرهم بالانصراف وعدم التعرض لهؤلاء الثوار؛ خشية أن يراق دم بسببه هو، خاصة أنه كان على وعد من الرسول حينما أخبره بأنه شهيد لما قال: (اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدين). وكذلك كان صائماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا عندما رآه في المنام: (ستفطر معنا الليلة) فلذلك عثمان رضي الله عنه أصر على أن لا تراق دماء بسببه، وقتل مظلوماً رضي الله تعالى عنه. فالشاهد هنا أنه أنكر على أبي هريرة قوله: (قد طاب الضرب يا أمير المؤمنين)، فاستنكر عليه فكيف القتل يكون طيباً؟ ولذلك قال له: (إنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل) , وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: (جاء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة! نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها، قال: عليك بنفسك)، وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. قوله تعالى: ((وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) يقصد بني إسرائيل، كما في أول الآية قوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة:32]. وقوله تعالى: ((رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاته، وتأييداً لتحتم المحافظة عليه ((ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ)) أي: من بني إسرائيل ((بَعْدَ ذَلِكَ)) أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم ((لَمُسْرِفُونَ)) بالفساد والقتل، لا يبالون بعظمة ذلك، يعني: رغم كل هذا ورغم أن الله تعالى قال: {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] وقال تعالى:: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة:32] ومع ذلك كان حالهم كما قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة:32]. قال ابن كثير: هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها كان كل فريق منهم يتحالف مع قبيلة، فإذا حصل قتال يقاتلون مع حلفائهم، ثم بعدما ينتهون من القتال يعمدون إلى الأسرى فيفدون الأسرى، ويدون أو يدفعون دية من قتلوه من إخوانهم اليهود. وقد أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم ذلك في سورة البقرة في قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ

تفسير قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) ولما ذكر تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل، فقال عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة:33]، فهنا الآية تشرح صورة من صور هذا الفساد في الأرض، وهو الحرابة أو قطع الطريق. يقول تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: نزلت في العرنيين لما قدموا المدينة وهم مرضى، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الإبل، ويشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم فتركوا في الحرة حتى ماتوا على حالهم، وهذا رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وإنما فعل بهم ذلك لأنهم فعلوا بالرعاة من المسلمين نفس هذا الفعل. قوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) يعني: بمحاربة المسلمين (ويسعون في الأرض فساداً) يعني: بقطع الطريق (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي: تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. (أو ينفوا من الأرض) يقول السيوطي هنا: لترتيب الأحوال، يعني: أن قوله تعالى: (أن يقتلوا) لمن قتل، وقوله: (أو يصلبوا) لمن قتل وأخذ المال، وقوله: (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) القطع لمن أخذ المال ولم يقتل، وقوله تعالى: (أو لينفوا من الأرض) والنفي من الأرض لمن أخاف الناس وأرهبهم، قاله ابن عباس وعليه الشافعي، وأصح قوليه أن الصلب ثلاثاً يكون بعد القتل، أي: بعدما يقتلون يعلقون في مكان عال؛ ليراهم الناس لمدة ثلاث، وقيل قبله قليلاً، ويلحق بالنفي ما أشبهه في التنكيل من الحبس وغيره. وقوله: (ذلك) أي: الجزاء المذكور (لهم خزي) أي: ذل (في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار. وقوله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا)) يعني: من المحاربين والقطاع ((مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور لهم ما أتوه (رحيم) أي: بهم، عبر بذلك دون (فلا تَحدُّوهم) ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين، كذا ظهر لي، ولم أر من تعرض له، والله تعالى أعلم. فإذا قتل وأخذ المال يقتل ويقطع، والقطع أولاً ثم يكون بعده القتل، ولا يصلب، وهو أصح قولي الشافعي، ولكن المعتمد في مذهبه أنه يقتل ويصلب ثلاثة أيام من غير قطع، ولا تفيد توبته بعد القدرة عليه شيئاً، وهو أصح قوليه أيضاً. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (إنما جزاء) يعني: مكافأة (الذين يحاربون الله ورسوله) أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما. (ويسعون في الأرض فساداً) أي: يعملون في الأرض المعاصي، وهو القتل وأخذ المال ظلماً. (أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. (أو ينفوا من الأرض) أي: يطردوا منها وينحوا عنها، وهو التغريب عن المدن، فلا يقرون فيها. (ذلك) أي: الجزاء المذكور. (لهم خزي) أي: ذل وفضيحة في الدنيا. (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار. (إلا الذين تابوا) يعني: من المحاربين (من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) وفي هذه الآية مسائل، منها: ما رواه ابن جرير وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في المشركين. وقد روى ابن جرير عن أبي أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وظاهرها أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفة، أي إنسان -سواءً كان مشركاً أم كتابياً أم مسلماً- فعل ما ذكر في الآية فهو يستحق نفس هذا الحكم. روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها -أي: كأن جو المدينة ما ناسبهم في صحة أجسامهم- فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها، ففعلوا وصحوا، فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة). قال أنس: (فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا) ونزلت: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]. وعند البخاري قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. واحتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، فذهبوا إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء، وذلك أن بعض العلماء يرى أنه لا يكون محارباً وقاطع طريق إلا في البراري أو الصحراء وغير ذلك؛ لأن هذا النوع من الغدر الذي يكون في موضع بحيث لا يصل فيه الغوث لمن يستغيث، أو النجدة لمن يستنجد، فلذلك عظمت عقوبتهم، بخلاف الإنسان إذا كان في المدينة، فإنه يستطيع أن يستغيث ويستنجد بغيره، لكن جمهور العلماء يخالف هذا، فيقولون: إن المحاربة -سواء أكانت في الصحراء- مثلاً أم في الطرق أم في داخل المدن- حكمها سواء، لا فرق بين المدن أو الحضر وبين السبل. يقول القاسمي: احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء؛ لقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33]. أي أن السبل والطرق هي من الأرض، والمدن والأمصار هي من الأرض، فحيث سعى بالفساد فقد سعى به في الأرض، سواء في السبلات أو في الأمصار. وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين، بل هم بمنزلة المنتهب؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أولى أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم. يعني أن كون الإنسان يقدم على قطع الطريق أو على الإفساد في الأرض بهذه الصورة في داخل المدن يدل على شدة التبجح والجرأة ومن ثم فهم يحتاجون إلى عقوبة غليظة؛ لأنهم في داخل المدن ومع ذلك يجاهرون بمثل هذا الفعل. يقول: بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء؛ لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله. يعني: هؤلاء إذا دخلوا على رجل في بيته واستولوا على المال هل يتركون شيئاً؟ يأخذون كل ما في البيت من الأشياء الثمينة من ذهب وأموال وغير ذلك مما هو معروف عن حالة قطاع الطرق أو اللصوص. وأما المسافر فإنه يكون معه قليل من ماله، فهذه أحد وجوه الأولية بالنسبة لهذا الحكم في المدن عنها في الصحراء. قال شيخ الإسلام: ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله، وهذا هو الصواب. فـ شيخ الإسلام يصوب المذهب القائل بتعميم حكم الحرابة في الصحراء وفي البنيان، حتى قال مالك في الذي يخدع الرجل حتى يدخل بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه قال: هذه محاربة، ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، بمعنى أنه مادام رفع إلى السلطان فلا رجوع في إقامة حد الحرابة عليه. أما إذا كان دمه إلى ولي المقتول فهو يملك العفو عنه، لكن هذا الذي يفعل هذا الفعل محارب ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل، وإنما كان ذلك محاربة لأن القتل بالحيلة كالقتل مباشرة، فكلاهما لا يمكن الاحتراز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشد؛ لأنه لا يدرى به. وقيل: إن المحارب هو المجاهر بالقتال، وهذا المقتول يكون أمره إلى ولي أمر الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة. وظاهر الآية أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع، فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحاً. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: (من شهر السلاح في رقعة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به فقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله) وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك، كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس. قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر، وللتخيير نظائر من القرآن. يعني أن الإمام بالخيار، وليس له أن يجمع كل هذه العقوبات، ونظيره قوله تعالى في جزاء الصيد: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَ

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) وقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:35]. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا) أي: اطلبوا إليه الوسيلة، وهي القربة. وقال قتادة: أي: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ أبو زيد: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه. وفي القاموس وشرحه: الوسيلة والواسلة المنزلة عند الملك، والدرجة والقربة والوصلة. وقال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والتوسيل والتوسل واحد، يقال: وسل إلى الله تعالى توسيلا، عمل عملاً فقرب به إليه، كـ (توسل). وقد قدم (إليه) على (الوسيلة) فلم يقل: وابتغوا الوسيلة إليه، لكن قال: (وابتغوا إليه الوسيلة) للاهتمام بها. وقوله تعالى: (وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون) يعني: بسبب المجاهدة في سبيله. وقد بينت كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس، وما ذكرنا في تفسير الوسيلة هو المعول عليه، وقد أوضحه إيضاحاً لا مزيد عليه تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة في كتابه (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) فرأينا نقل شيء منه؛ إذ لا غنى للمحقق في علم التفسير عنه، وسوف نمر بسرعة على بعض المسائل لأهميتها.

مفهوم التوسل والوسيلة ومعناها في كتاب ابن تيمية

مفهوم التوسل والوسيلة ومعناها في كتاب ابن تيمية يقول شيخ الإسلام بعد مقدمات: إن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كل ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه. فإن الاضطرابات التي تحدث للناس في هذا الباب هي بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أن أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57]. فالوسيلة التي أمر الله بأن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب إليه من الواجبات والمستحبات. يعني أن الوسيلة هي القربة، والقربات على نوعين: إما واجبات وإما مستحبات. فالوسيلة هي ما يتقرب به إلى الله من الواجبات أو المستحبات. فهذه هي الوسيلة التي أمر الله تعالى المؤمنين بابتغائها، تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، فلا يدخل في الوسيلة ما كان مكروهاً أو محرماً أو مباحاً. فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر به أمر إيجاب واستحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هي التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك، ولا يقربك إلى الله إلا هذه الوسيلة، فقوله تعالى: (اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) يعني: تقربوا إلى الله بما شرعه، وما شرعه الله وأمر به لا يكون إلا واجباً أو مستحباً، فلا يمكن التقرب إلى الله بالحرام ولا بالمكروه، والمباح إذا بقي في حد الإباحة لا يعتبر قربى. وما هو أعظم وسيلة على الإطلاق يتقرب به إلى الله؟ إنه الإيمان والتوحيد، فهو أعظم وسيلة، فقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) يعني: بالإيمان، وما بعد الإيمان تكاليفه كالصلاة والزكاة وغير ذلك. وقد جاء لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة). وقوله: (من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة! آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة). فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد واحد من عباد الله، وهو -صلى الله عليه وسلم- يرجو أن يكون ذلك العبد، وأخبرنا أن من سأل الله له الوسيلة فقد حلت له الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فمن دعا للنبي صلى الله عليه وسلم استحق أن يدعو هو له، وأن يشفع له؛ فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: (إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً). صلى الله عليه وسلم. إذاً: فقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) يعني: تقربوا إليه بالواجبات أو المستحبات، ولا يوجد معنى آخر للوسيلة في القرآن غير هذا. وكذلك الوسيلة في السنة جاءت على اعتبار أن الوسيلة منزلة في الجنة، ودرجة عالية لا ينالها إلا عبد، وهو الرسول صلى الله عليه سولم إن شاء الله، وأمرنا أن ندعو له بذلك. يقول شيخ الإسلام: وأما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام، والتوجه به في كلام الصحابة فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته.

أنواع التوسل المشروعة والممنوعة

أنواع التوسل المشروعة والممنوعة التوسل بالرسول عليه السلام عند الصحابة وفي كلامهم المقصود به: التوسل بدعاء الرسول عليه الصلاة والسلام، كما هو معروف في حديث الأعمى الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو له كي يعافيه الله تبارك وتعالى، فهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبشفاعته، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، فهذا المعنى بقى عند المتأخرين، ولم يكن معروفاً أو متداولاً أو مستعملاً في القرآن ولا في السنة، ولا في كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم والسلف الصالح، وهو أن يكون التوسل أن تقسم على الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو تقسم بالصالحين ومن يعتقد فيه الصلاح، لهذا يقول شيخ الإسلام: وحينئذ فلفظ التوسل يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به السنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان بالله عز وجل وبطاعته، فقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) أي: بالإيمان والعمل الصالح. الثاني: دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين، التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64]، فالتوسل هنا بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا بذاته، ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) يعني بقوله: (نتوسل بنبينا) أي: بدعائه، فلما قبض الرسول عليه الصلاة والسلام كان الحال أن قال: (فإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) فهذه شفاعة وهذا توسل عن طريق دعاء العبد الصالح وشفاعته. وقوله تعالى: (وابتغوا إليه الوسيلة) أي: القربة إليه بطاعته وطاعة رسوله، قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته فكما قال عمر، فإنه توسل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس، ولو كان التوسل بذاته جائزاً لكان هذا أولى من التوسل بـ العباس، لو كان التوسل بذات الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام لتوسل به الصحابة بعد موته، لكن لما كان التوسل بالدعاء توسلوا بدعاء العباس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما عدلوا عن التوسل به عليه الصلاة والسلام إلى التوسل بـ العباس علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائماً. فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. الثاني: التوسل بدعائه وشفاعته عليه الصلاة والسلام، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة أيضاً حينما يتوسلون بشفاعته. الثالث: التوسل به، بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم يكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، ولا في حياته ولا بعد مماته، ولا عند قبره ولا قبر غيره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال فيه أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله: إنه لا يجوز. ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل الله بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي: يدخل في باب الكراهة، وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك -يقصد أن يتوسل بمعاقد العز من عشره تعالى- أو: بحق خلقك. وهو قول أبى يوسف رحمهم الله تعالى. فالمسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقاً. وموضوع التوسل من الموضوعات الكبيرة التي تحتاج لكثير من التفصيل.

الحلف بالمخلوقات المحترمة

الحلف بالمخلوقات المحترمة وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش، والكرسي، والكعبة والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والملائكة والصالحين والملوك، وسيوف المجاهدين وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك؛ لأن أصل اليمين لا ينعقد؛ لأنه لا يحلف إلا بالله، والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه) ثم يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:36]. (إن الذين كفروا لو أن لهم) يعني: لو ثبت أن لهم (ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم). قوله تعالى: (إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض) يعني: من الأموال وغيرها. (جميعاً ومثله معه ليفتدوا به) يعني: يفادوا به أنفسهم من عذاب يوم القيامة (ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) فهذا تمثل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه من الوجوه. وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟! فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي. فيؤمر به إلى النار). ورواه مسلم بنحوه.

تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار)

تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار) يقول تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة:37]. قوله تعالى: (يريدون) أي: يتمنون (أن يخرجوا من النار) يعني: يتمنون أن يخرجوا من النار، ويطلبون ذلك قائلين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]. ((وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)) يعني: عذاب دائم لا ينقطع. وهذا كما قال عز وجل: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة) قال يزيد بن صهيب: فقلت لـ جابر بن عبد الله: يقول الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37]! قال: اتل أول الآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} [المائدة:36]. يعني أن الآية هي في الكفار، فهؤلاء يخلدون فيها، أما من مات على التوحيد فإنه وإن دخلها فإنه يخرج منها. وزاد ابن أبي حاتم أن جابراً لما قال له ذلك الرجل هذا قال: (أما تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قد جمعته. قال: أليس الله يقول: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحبط أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم) يعني: بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومقامه المحمود. ولما أوجب تعالى في الآية المتقدمة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً، فقال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

المائدة [38 - 50]

تفسير سورة المائدة [38 - 50]

تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)

تفسير قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]. لما أوجب الله سبحانه وتعالى في الآيات المتقدمة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة ناسب أن يذكر بعدها في هذه الآية حكم أخذ المال على سبيل السرقة، وأنه يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً. فقال عز وجل: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)) السارق والسارقة (أل) فيهما موصولة مبتدأة، وصلتها هي الصفة الصريحة، أي: (سارق وسارقة) ولشبهه بالشرط دخلت الفاء في خبره فقال تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) فالفاء دخلت في الخبر لشبه هذا الأسلوب بأسلوب الشرط، أي: من سرق فاقطعوا يده. أو من سرقت فاقطعوا يدها. ومعنى (أيديهما) أي: يمين كل منهما من الكوع، والكوع هو العظم الذي يلي الإبهام. وبينت السنة أن الذي يقطع فيه ربع دينار فصاعداً، وهذا هو النصاب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)، وإذا عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل القدم، ثم اليد اليسرى، ثم الرجل اليمنى، وبعد ذلك يعزر بما يراه الإمام من العقوبة، روى ذلك البيهقي في سننه وأبو يعلى. وقوله تعالى: (جزاء بما كسبا) جزاء نصب على المصدر (نكالاً) يعني: عقوبة لهما. (والله عزيز) أي: غالب على أمره (حكيم) أي: في خلقه.

تفسير قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح)

تفسير قوله تعالى: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح) قال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:39]. قوله تعالى: ((فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ)) يعني: من رجع عن السرقة ((وَأَصْلَحَ)) يعني: أصلح عمله ((فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) عبر بهذا لما تقدم من سقوط حق الله تبارك وتعالى، فلا يسقط بتوبته حق الآدمي من القطع ورد المال، نعم بينت السنة أنه إن عفا عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، فما دامت القضية لم تبلغ الإمام فإنه لا يقع الحد، أما إذا بلغت الإمام فلا سبيل أبداً إلى إيقاف تطبيق الحد عليه، وعليه الإمام الشافعي.

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) قال عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40]. قوله تعالى: (ألم تعلم) الاستفهام هنا للتقرير ((أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)) يعني: من يشاء تعذيبه ((وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ)) يعني: لمن يشاء المغفرة له ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ومنه التعذيب والمغفرة.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)

قول القاسمي رحمه الله تعالى

قول القاسمي رحمه الله تعالى يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (والسارق) أي: من الرجال (والسارقة) أي: من النساء (فاقطعوا أيديهما) يعني: يمين كل منهما، والمقطع الرسغ -كما بينته السنة- عند الكوع. (جزاء بما كسبا) أي: يقطع الآلة الكاسبة؛ لأنها هي التي سرقت فهذه اليد الخائنة هي التي سرقت، فلذلك يجزى بأن يُقطع أو يبتر هذا العضو الخبيث. (نكالاً من الله) أي: عقوبة من الله على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى، لا في مقابلة إتلاف المال، فإنه غير السرقة، فلذلك لا يسقط بعفو المالك، بخلاف العفو عن المال. (والله عزيز) أي: مع عزته الموجبة لامتثال أمره لا يبالي بعزة من دونه. (حكيم) أي: في شرائعه. فيختل أمر النظام العالمي بمخالفة أمره؛ إذ فيه نفع عام للخلائق.

قول أبي السعود رحمه الله

قول أبي السعود رحمه الله يقول أبو السعود: لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال -يعني: يمكن أن تقع المرأة في السرقة كما يقع الرجل- صرح بالسارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة؛ لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر. لأن الحكم حتى لو كان بذكر السارق دون السارقة لشمل النساء، لكنه هنا فصل وبين وذكر النساء بعدما ذكر الرجال لمزيد الاعتناء؛ وللمبالغة في الزجر عن السرقة في حق الطرفين، ولما كانت السرقة في الرجال غالبة لقوتهم بدأ بالسارق، حيث قال تعالى: (والسارق والسارقة)؛ لأن الرجل أقوى، فلذلك يستطيع أن يستغل قوته في السرقة، ثم إن الرجل هو الذي يلي النفقة وتكاليف الحياة والعيش، فهو المسئول عن الإنفاق والمال، فلذلك الغالب أن الرجل هو الذي يسرق، أما في آية سورة النور فقال عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا التقديم السبب فيه هو أن هذا الأمر في النساء أقوى، وهذا غير صحيح في الحقيقة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى أحل للرجل أربع نسوة، فالأمر بالعكس، لكن لما كانت الفتنة دائماً أو غالباً في هذا الباب إنما تقع من جهة المرأة قبل الرجل، ولأنها تفرط في الاحتشام وغير ذلك فتقع بسببه الفواحش قدم تبارك وتعالى المرأة في قوله: (والزانية والزاني). وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء انتقد فيه نصاب السرقة بكون ربع دينار، ونظم في ذلك شعراً فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فهذا الإشكال الذي أورده من عدوانه على حدود الله تبارك وتعالى. فيقول: هذه اليد في حالة الدية والقصاص ديتها خمسمائة دينار، فكيف تكون قيمتها في الدية خمسمائة دينار ثم في مقابلة سرقة ربع دينار -الذي هو النصاب- تقطع في مقابلة هذا المبلغ الهين؟! فأجابه الناس في ذلك، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت. فلما خانت هانت فقطعت في ربع دينار، فبسبب هذه الخيانة صارت قليلة القيمة بهذا القدر. ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها؛ لأن الناس إذا عرفوا هذه القيمة الغالية لليد من حيث الدية فإنهم لا يجنون ولا يعتدون عليها، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار؛ لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال عز وجل: ((جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) أي: مجازاة على صنيعهما السيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهما، فناسب أن يقطع ما استعان به في ذلك. فهذا هو حكم الله تبارك وتعالى، وهذا هو حد الله عز وجل، وإذا كنا نقول: إن هذا حكم الله وهذا الذي أنزله الله في القرآن الكريم فنقطع بأن أي إنسان حاول أن يتناول هذا التشريع بالإزدراء أو وصفه بالوحشية أو القسوة أو غير ذلك من الصفات المنفرة فإنه وإن كان كافراً يزداد بذلك كفراً، وإن كان من المنتسبين للإسلام فلا شك في ردته، لا شك في ردته وخروجه من ملة الإسلام، فأي إنسان يصف حكم الله عز وجل بهذه الأوصاف الشنيعة فهو مرتد خارج عن الملة؛ لعدوانه على حكمة التشريع، ولمصادمته هذا النص الصريح في القرآن الكريم.

قول ابن تيمية رحمه الله

قول ابن تيمية رحمه الله يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}، إلى آخر الآية. ولا يجوز بعد ثبوت الحد عليه بالبينة أو الإقرار تأخيره لا بحسب ولا مال يفتدى به ولا غيره، بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها، فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله، وينبغي أن يعرف أن إقامة الحد رحمة من الله عز وجل بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله. وقد نهى الله تعالى عن أن إنساناً رأفة في حدود الله فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فهذا الذي يوصف بأنه رحمة أو رأفة أو مشاعر إنسانية أو غير ذلك إذا كان فيه مصادمة لشرع الله فهذا منهي عنه، مثل إقامة حد الزنا، فينبغي أن يكون هناك قوة في إقامة حد الله عز وجل، وعدم تردد أو ضعف أو شفقة؛ لأن هذا هو من صالح البشر، ولذلك قال عز وجل: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، ومثل الرجل الذي تأخذه رأفة بأولاده في أن يوقظهم لصلاة الفجر والجو بارد أو غير ذلك من الأعذار، فيجد في قلبه رأفة في دين الله، فهنا يقال له: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فهذا من الرأفة المحرمة والممنوعة، وليس من الصفات التي يحبها الله، وليس من الرحمة التي يحبها الله عز وجل أن تكون في قلوب عباده، فذلك منهي عنه مادام على حساب الدين، فلا ينبغي أبداً أن تأخذ الإنسان رأفة. وكذلك التوسط بين أهل المعاصي والعشاق وغير ذلك، بحجة أن هذا نوع من الرأفة بهم، فهذا -أيضاً- ليس رأفة، بل هو تعاون على العدوان وعلى حرمات الله تبارك وتعالى. فأعداء الإسلام من المنافقين والزنادقة الذين يزعمون الإسلام ثم يطعنون في الشرائع -كما يحصل من المنتسبين لأعضاء لجنة حقوق الإنسان في كل البلاد خاصة في مصر- نسمع منهم كلاماً تقشعر منه الجلود، ولا يصح بعده الانتساب للإسلام أبداً، حيث يطعنون في العقوبات والحدود، ويطعنون في بعض البلاد التي تطبق بعض الحدود وإن كان تطبيقاً غير كامل، ويطعنون في الإسلام من خلال الطعن في هذه الدول على أن هذه عقوبات بدنية أو مادية، ويحتكمون إلى قوانين بشرية وما يسمى بمواثيق حقوق الإنسان الظالمة. يقول شيخ الإسلام: فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا إشفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق، بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده -كما تفعل به الأم رقة ورأفة- لفسد الولد، والغالب أن الأمهات لا يحزمن في تربية الأولاد، فإذا كان الأب غير جازم ولم يضع الشدة في موضعها فسد الولد بالتدليل الزائد إذا ترك لأمه، وإنما يؤدبه رحمة وإصلاحاً حاله، فالأب إذا عاقب ولده ليس قسوة عليه، وليس إشفاء لغليله أو غيظه، وإنما لإصلاحه، فالشدة هي نوع من العلاج وليست لشفاء الغيظ. يقول: وهو بمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجامة، وقطع العروق ونحو ذلك، بل في منزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة، فكذلك شرعت الحدود لأجل هذه النية، ولأجل تحصيل هذه المصالح. ثم يقول تبارك وتعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وإظهار الاسم الجليل فيه إشعار بعلة الحكم، وتأييد استقلال الجملة في قوله: ((إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). وكذا في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40]. والمراد الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه، فيقول: ألم تعلم أن الله له السلطان القاهر والابتلاء الباهر المستلزمين للقدرة التامة على التصرف في نيتيهما وفيما فيهما. وقوله تعالى: (يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء) قدم التعذيب لأن السياق هنا في الوعيد، فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر. (والله على كل شيء قدير) ومنه التعذيب والمغفرة.

تفسير قوله تعالى: (أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)

تفسير قوله تعالى: (أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41]. قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون) يعني: لا يحزنك صنع الذين يسارعون في الكفر ويقعون فيه بسرعة. يعني: يظهرونه إذا وجدوا فرصة ولا يؤجلونه، فيسارعون في إظهار الكفر والجهر به، ولا يتأجلون ذلك ما وجدوا فرصة. (من الذين قالوا) هذه للبيان (آمنا بأفواههم) يعني: بألسنتهم. فهذا متعلق بقوله تعالى: (قالوا) فالقول لا يكون بكل الأفواه، وإنما هو بالألسنة. (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) وهم المنافقون. (ومن الذين هادوا سماعون للكذب) يعني: ومن الذين هادوا قوم سماعون للكذب الذي اقترفه أحبارهم، سماعون يقبلون هذا الكذب الذي افتروه. (سماعون لقوم آخرين) أي: سماعون منك لقوم آخرين، أي: لأجل قوم آخرين من اليهود. (لم يأتوك) وهم أهل خيبر، زنى منهم محصنان فكرهوا رجمهما، فبعثوا قريظة ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمهما. (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) أي: يسمعون منك لأجل قوم آخرين هم اليهود (يحرفون الكلم) يعني الذي في التوراة، كآية الرجم (من بعد مواضعه) يعني: التي وضعه الله عليها، والمقصود: يبدلونه. (يقولون) يعني: يقولون لهؤلاء الذين أرسلوهم (إن أوتيتم هذا فخذوه) أي: إن أوتيتم هذا الحكم المحرف وهو الجلد؛ لأنهم بدلوا الرجم بالجلد، أي: إن أفتاكم به محمد صلى الله عليه وسلم فاقبلوه. (وإن لم تؤتوه) إن لم يفتكم بالجلد وأتاكم بخلافه (فاحذروا) أي: احذروا أن تقبلوه. (ومن يرد الله فتنته) أي: إضلاله (فلن تملك له من الله شيئاً) أي: تثبيته. (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) يعني: من الكفر، ولو أراده لكان، لكن الله سبحانه وتعالى لم يرد أن يطهر قلوبهم من هذا الكفر. (لهم في الدنيا خزي) أي: ذل بالفضيحة والجزية (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) أي: هو عذاب النار.

تفسير قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت)

تفسير قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) يقول تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]. قوله تعالى: ((أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)) بضم الحاء وسكونها، أي: (السحُت) أو (السحْت). والمقصود الحرام، كالرشوة. ((فَإِنْ جَاءُوكَ)) يعني: لتحكم بينهم (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فهنا تخيير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا التخيير منسوخ بقوله تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا، وهو أصح قولي الشافعي، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب الحكم بينهم إجماعاً. لكن لو أقاموا الحد فيما بينهم فمرجعه إلى الإمام كالحكم الأول، وهو أن الإمام مخير كما في الآية (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) على وجه التخيير، ثم نسخ بقوله: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) يعني: ما داموا ترافعوا إلينا فيجب أن يكون الحكم بينهم لا على سبيل التخيير وهو أصح قولي الشافعي، فلو ترافعوا إلينا مع مسلم وجب ذلك إجماعاً. وقوله تعالى: ((وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ)) يعني: بينهم ((فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)) أي: بالعدل ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) العادلين في الحكم. ومن التأويل أن يفسر السيوطي قوله تعالى: (إن الله يحب المقسطين) بالإثابة. لكن هذه من صفات الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله)

تفسير قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) يقول تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43]. قوله تعالى: (وعندهم التوراة) أي: التي جاءهم بها موسى عليه السلام. ((فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ)) يعني: بالرجم. وهو استفهام تعجيب، أي: لم يقصدوا بذلك معرفة الحق، بل ما هو أهون عليهم (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) فهم حينما تحاكموا إليك لم يقصدوا أن يعرفوا الحق؛ لأن الحق وحكم الله موجود عندهم في التوراة، وهو الرجم، لكن هم ما أتوك إلا ليبحثوا عن مخرج، فلعلك تحكم بينهم بما هو أهون من حكم الله المذكور في التوراة وهو الرجم. ((ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ)) يعني: يعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم ((مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)) أي: من بعد ذلك التحكيم ((وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور)

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور) قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. قوله تعالى: (هدى) أي: من الضلالة (ونور) يعني: بيان للأحكام. ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)) من بني إسرائيل ((الَّذِينَ أَسْلَمُوا)) أي: انقادوا لله، وكل الأنبياء مسلمون، وسنبين هذا بالتفصيل إن شاء الله تعالى. ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ)) يعني: ويحكم بها لهم الربانيون، أي: العلماء منهم ((وَالأَحْبَارُ)) أي: الفقهاء (بِمَا) أي: بسبب الذي (استحفظوا من كتاب الله) استودعوه، أي: استحفظهم الله إياه من أن يبدلوه. (وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) أي: أنه حق. قوله تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) يعني: أيها اليهود في إظهار ما عندكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والرجم وغير ذلك. ((وَاخْشَوْنِ)) يعني: في كتمانه، فالخطاب هنا (فلا تخشوا الناس) يعني: فلا تخشوا الناس أيها اليهود، وأظهروا ما في كتابكم من حكم الله، سواء أكان متعلقاً أم بالرجم بنعت النبي محمد صلى الله عليه وسلم. (وَاخْشَوْنِ) يعني: في كتمانه. (وَلا تَشْتَرُوا) أي: لا تستبدلوا (بآياتي ثمناً قليلاً) من الدنيا تأخذونه على كتمانها. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أي: الكافرون بما أنزل الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)

تفسير قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) قال عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]. قوله تعالى: (كتبنا) يعني: فرضنا (عليهم فيها) أي: في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي أن النفس تقتل بالنفس، والمقصود إذا قتلتها، فمن قتل يقتل. (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) أي: العين تفقأ بالعين (وَالأَنفَ بِالأَنفِ) أي: يجدع بالأنف ((وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ))، أي: الأذن تقطع بالأذن ((وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ)) أي: تقلع السن بالسن، وفي قراءة بالرفع في الأربعة المواضع. ((وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)) قرئ بالوجهين أيضاً، بالرفع والنصب، (والجروحُ) (والجروحَ قصاص)، لكن إذا رفعنا ما مضى فتكون القراءة بالرفع فقط، فإذا قلنا (النفسُ بالنفس والعينُ بالعين والأنفُ بالأنف والأذنُ بالأذن والسنُ بالسن والجروجُ قصاص) نقول: (والجروح قصاص). وقوله: (قصاص) أي: يقتص فيها إذا أمكن، كاليد والرجل ونحو ذلك، وما لا يمكن فيه القصاص ففيه الحكومة، ومعنى الحكومة أن يقدر المجني عليه رخيصاً، ثم ينظر إلى نسبة النقص الذي سببه العدوان في قيمته، فيؤخذ مثلها من الدية، وهذا الحكم وإن كتب عليهم فهو مقرر في شرعنا. (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي: بالقصاص، بأن مكن من نفسه (فهو كفارة له) يعني: لما أتاه. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) في القصاص وغيره. (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يعني أن حكم الله هو العدل، فناسب أن يكون خلافه موصوفاً بالظلم.

تفسير قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم)

تفسير قوله تعالى: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم) قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة:46]. قوله تعالى: (وقفينا) أي: أتبعنا (على آثارهم) أي: على آثار النبيين (بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه) أي: قبله (مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ) (هدى) أي: من الضلالة (ونور) أي: بيان للأحكام (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) لما فيها من الأحكام (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

تفسير قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه)

تفسير قوله تعالى: (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) قال تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. أي: وقلنا: (ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) من الأحكام ومن الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تبديل، وفي قراءة بنصب (يحكم) وكسر لامه عطفاً على معمول آتيناه، أو: آتينا هو ذلك ليحكم أهل الإنجيل بما أنز الله فيه. (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب) قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:48]. أي: أنزلنا إليك يا محمد -صلى الله عليه وسلم- (الكتاب) أي: القرآن (بالحق)، والجار والمجرور متعلق بـ (أنزلنا). (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) أي: بما قبله (مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أي: شاهداً عليه، والكتاب هنا بمعنى الكتب، فقوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ) يعني: من الكتب التي قبله. (وَمُهَيْمِنًا) أي: شاهداً عليها. (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي: فاحكم بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك (بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) إليك. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ من الحق)، أي: ولا تتبع أهواءهم عادلاً عما جاءك. نُهي عن أن يعدل عمّا جاءه إلى الهوى. (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ) أيها الأمم (شِرْعَةً) أي: شريعة (وَمِنْهَاجًا) أي: طريقاً واضحاً في الدين يمشون عليه. (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي: على شريعة واحدة. (وَلَكِنْ) أي: ولكن فرقكم فرقاً. (لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) يعني: ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة؛ ليعلم المطيع منكم والعاصي. (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي: سارعوا فيها. (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) أي: بالبعث. (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) يعني: من أمر الدين، ويجزي كلاً منكم بعمله.

تفسير قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم)

تفسير قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49]. يعني: وأنزلنا إليك (أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ)، ويلاحظ هنا مقابلة الوحي بالهوى، وهذا شيء واقع في القرآن الكريم، فضد الوحي لا يكون إلا الهوى، وأمثلته كثيرة، كقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] فما يقابل الشرع لا يكون إلا أهواء، فهذا نهي عن اتباع أهواء هؤلاء القوم. قوله: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ)) يعني: احذرهم لئلا يفتنوك، أي: يضلوك (عن بعض ما أنزل الله إليك). (فإن تولوا) يعني: إن تولوا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره ((فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ)) يعني: بالعقوبة في الدنيا ((بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ)) أي: التي أتوها ومنها التولي، ويجازيهم على جميعها في الأخرى (وإن كثيراً من الناس لفاسقون).

تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون)

تفسير قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون) قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] قوله: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)) قرئت (يبغون) بالياء وبالتاء، (أفحكم الجاهلية يبغون) أو (تبغون) والمقصود: يطلبون المداهنة والميل عن الحق إذا تولوا عن حكمك، والاستفهام في الآية استفهام إنكاري. قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون) أي: من يظفر منك بالحكم الذي يشتهون؟! لأن الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام الجاهلية. ((وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا)) أي: لا أحد أحسن من الله حكماً (لقوم يوقنون) أي: يوقنون به، وخص هؤلاء الموقنون بالذكر لأنهم الذين يتدبرونه.

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) نعود إلى بعض هذه الآيات لنتناولها بالتفصيل. قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ)) هذا نهي (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي: في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين. (من الذين قالوا آمنا بأفواههم) أي: بألسنتهم. (ولم تؤمن قلوبهم) وهم المنافقون، أي: لا تبال بهم؛ فإني ناصرك عليهم. (ومن الذين هادوا) وهم بنو قريظة كعب بن الأشرف وأصحابه. (سماعون للكذب) يعني: هم سماعون للكذب. وهذا يدل على أن سامع المحظور كقائله في الإثم، وأن الشخص الذي ينصت ويصغي بسمعه إلى الكلام المحرم يكون شريكاً للقائل في الإثم. وهذا الأمر يحصل فيه تساهل كثير جداً في مجتمعاتنا، فترى الإنسان يسمع دون أن ينكر ما يسمعه من الغيبة أو من الكلام المحرم، بل يجب على الإنسان أن يزيل هذا المنكر أو يزول عنه، لكن أن يبقى مستمعاً ومنصتاً ويظن أنه ناج من الإثم لأنه لا يتكلم غير صحيح، فهو يدخل في هذه الآية (سماعون للكذب)، فسامع المحظور كقائله في الإثم. كما يقول الشاعر: وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه قوله تعالى: (سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) أي: لم يحضروا مجلسك، وتجافوا عنك إسرافاً في البغضاء، أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون على أن ينظروا إليك، قيل: هم يهود خيبر، والسماعون بنو قريظة. (يحرفون الكلم) أي: كلم التوراة في الأحكام. (من بعد مواضعه) أي: التي وضعه الله عليها، فيتناولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. (يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا) يعني: إن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام (فخذوه) يعني: اقبلوه، أو اعملوا به فإنه الحق (وإن لم تؤتوه) بأن أفتاكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخلافه (فاحذروا) أي: من قبوله، وإياكم أن تأخذوه؛ فإنه الباطل والضلال. قال ابن كثير: قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا، وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه. والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم وإركاب الزانيين على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بذلك. وقد وردت الأحاديث بذلك، فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: - عبد الله بن سلام وكان أكبر علمائهم وأفضلهم وسيدهم قبل أن يسلم- ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة) أخرجاه، وهذا لفظ البخاري، وفي رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: (مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه. قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)) إلى قوله: ((يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ))) أي: يقولون: ائتوا محمداً، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه واقبلوا الحكم، وإن أفتاكم بالرجم فلا تأخذوه. أخرجه مسلم دون البخاري. يقول تعالى: (ومن يرد الله فتنته) أي: ضلالته (فلن تملك له من الله شيئاً) أي: في دفع ضلالته. (أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم) يعني: من دنس الفتنة، ووضر الكفر؛ لانغماسهم فيها، وإصرارهم عليها، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية. (لهم في الدنيا خزي) أي: فضيحة وهتك ستر، وظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين، وذل وخزي وافتضاح لظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود. (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) وهو عذاب النار.

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت)

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) يقول تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]. قوله تعالى: (سماعون للكذب) أي: الباطل، وهو خبر لمحذوف، وكرر تأكيداً لما قبله وتمهيداً لقوله تعالى: (أكالون للسحت) أي: الحرام، وهي الرشوة كما قال ابن مسعود. وقال الزمخشري: السحت كل ما لا يحل كسبه، وهو مأخوذ من (سحته) إذا استأصله؛ لأنه مسحوت البركة، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:276] والربا باب من السحت. وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام، والسحت كله حرام، تحمل عليه شدة الشره، وهو يرجع إلى الحرام الذي لا تكون له بركة، ولا لآكله مروءة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي في الحكم) والراشي هو الذي يدفع، والمرتشي هو الذي يأخذ وقال ابن مسعود: (الرشوة في كل شيء، فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدي بها إليه فقبل فهو سحت). وفي هذا حديث صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يعني: إذا توسطت لأخيك المسلم، وليس المراد أخاك الذي يصلي معك في الجامع أو صديقك الذي تعرفه، وإنما المراد أخوك في الإسلام، فأي إنسان مسلم إذا شفعت له بشفاعة ونال ما يريده من الحق أو دفع الظلم عنه بسبب شفاعتك، ثم بعد ذلك أعطاك هدية فقبلتها فقد أتيت باباً عظيماً من أبواب الربا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فالإنسان يعجب حينما يجد الأسئلة في مثل هذا الأمر وهو واضح مثل الشمس، فكيف تصل بنا الأمية في الفقه إلى هذا الحد؟! كيف يصل إهمال العلم الشرعي إلى حد أن بعض الناس لا يعرف أن هذا حرام وأن هذا سحت، وأن هذا أكل أموال الناس بالباطل؟! فما دمت تمثل الشركة مندوباً عنها وتحمل اسمها فأعطيت لك هدية مقابل هذا الاسم فيجب عليك أن تردها إلى الشركة، فمن أخذ شيئاً بسبب ذلك لابد له من أن يرده إلى شركته، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فهلا جلس في بيت أبيه أو أمه فلينظر أيهدى إليه شيء)؟! فإذا جلس في بيته هل كانوا سيهدون له شيئاً؟! ولو في شركة أخرى فهل كانوا سيعطونه هذه الهدية؟! ما اكتسب الهدية إلا بصفته ممثلاً لهذه الشركة، وحينئذٍ فلا يحل له أن يأخذ هذه الهدية وإلا كان من أكلة السحت. فـ ابن مسعود رضي الله تعالى يقول: (الرشوة في كل شيء) ويذكر هنا مثالاً فيقول: (فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً) أي: شخص حقه مهضوم وشفعت له كي ترد إليه الحق، فهذا مقصد شرعي (أو ليدفع بها ظلماً فأهدي بها إليه فقبل فهو سحت) فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! أي: ما كنا نحسب أن هذه الشفاعة المحرمة إنما تحرم في شفاعة الحكم فقط، فقال: (الأخذ على الحكم كفر)، أي أن هذه أفظع، فقد قال الله تعالى: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)). يقول تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم) يعني: إن جاءك اليهود لتحكم بينهم فاحكم بينهم؛ لأنهم اتخذوك حكماً. (أو أعرض عنهم): لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يوافق أهواءهم، والمقصود أنك بالخيار، وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخير في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. يقول القاسمي: والتحقيق أنها محكمة والتخيير باق. فـ القاسمي يرجح أن التخيير باقٍ والآية محكمة وليست منسوخة، وهو مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد، فلا منافاة بين الآيتين، فإن قوله تعالى: (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيه التخيير، وقوله تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ)) فيه كيفيه الحكم إذا حكم بينهم, وهي أن يحكم بينهم بما أنزل الله، فالمقصود بها بيان كيفية الحكم إذا اختار أن يحكم بينهم. (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً) يعني: لن يقدروا على الإضرار بك؛ لأن الله تعالى عاصمك من الناس، فصلى الله عليه وسلم. (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل. (إن الله يحب المقسطين) أي: العادلين فيما ولوا وحكموا. وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -وكلتا يديه يمين-، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله)

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) يقول تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:43]. قوله تعالى: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) هذا تعجبٌ من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به. (وكيف يحكمونك) هذا التعجيب من شأن هؤلاء الناس، فهم يزعمون أنهم لا يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يؤمنون بقرآن، والحكم الذي يسألون عنه موجود ومنصوص عليه في كتبهم، ومع ذلك يأتون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وعندهم التوراة فيها حكم الله) يعني: في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حكم الله حسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة، ووجود هذا الحكم الخاص فيها لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة محرفة. وسماها التوراة إما باعتبار عرفهم أو باعتبار أصلها، فقال: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) يعني: باعتبار عرفهم أنهم يطلقون اسم التوراة على الكتاب الذي بين أيديهم، لكنها في الحقيقة ليست هي التوراة المضبوطة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام؛ لأنهم قد قاموا بالتحريف والتبديل، كما ذكر تعالى آنفاً فقال: ((يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)) فهذه سجية فيهم غير محدثة، وهذه حرفة يهودية قديمة، أي: التحريف والتبديل والتزوير كما بين الله تبارك وتعالى. فتسميتها التوراة هنا إما باعتبار أصلها الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام، وإن كان مخالفاً لما بين أيديهم، أو باعتبار أنها التوراة في عرفهم ونظرهم، أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية، ولولا ذلك لما صح أن تسمى بذلك، فلولا وجود بقية من الحق فيها لما صح أن تسمى التوراة، ونفس الشيء يقال في الإنجيل، مع اعتقاد تحريفهما وتبديلهما وعدم صحة كثير من أجزائهما. (ثم يتولون من بعد ذلك) أي: من بعد البيان في التوراة، ومن بعد حكمك الموافق لما في التوراة (وما أولئك بالمؤمنين) يعني: بالتوراة، كما يزعمون. قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقاً إلى ما يعتقده غير حق. وقوله: (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) يدل على أن التولي عن حكم الله يخرج المرء عن الإيمان، وإذا كره حكم الشرع وطلب حكم غيره فهل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان؟ هذا ينبغي أن يفصل فيه، فيقال: إن اعتقد صحته أو رأى له مزية أو تعظيماً أو استهان بحكم الإسلام فلا إشكال في كفره، وكأنه هنا يفصل ما سيأتي في الآية التالية في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فقوله تعالى: (ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) فيه نفي الإيمان عمن يتولى عن حكم الله تبارك وتعالى. فهنا بعض العلماء يفصل الكلام، فيقول: إن اعتقد -يعني هذا الشخص الذي يحكم بغير ما أنزل الله- صحة هذا الحكم الذي ينافي حكم الشريعة، أو رآه مساوياً لحكم الإسلام، أو أحسن من حكم الله، أو استهان بحكم الإسلام، فهذه الأحوال كلها لا إشكال في كفر فاعلها، ففي هذه الحالة لا إشكال فيه أنه كفر أكبر مخرج من الملة. وإن لم يحصل منه ذلك، بل اعتقد أنه باطل خفيف، وكان معظماً لشرع الإسلام، ولكن يميل إلى هوى نفسه، فهذا لا يكفر على الظاهر؛ إذ الكفر يحتاج إلى دليل قاطع، فإن كان يعظم شرع الله سبحانه وتعالى، ويقر بحكم الله، وأن هذه الأحكام الوضعية المخالفة للشريعة باطلة ووضيعة ونحو ذلك كذا وكذا لكنه يحكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى فهذا لا يكفر على الظاهر، وله نظير في أي معصية، كشرب الخمر مثلاً، فقد يكون رجل يشرب الخمر ويكون مسلماً، ورجل لا يشرب الخمر ويكون كافراً، فالذي يشرب الخمر وهو يعرف أنها حرام وأن القرآن أمر باجتنابها ويقر بحكم الله فيها، ويرى أنها أم الخبائث، لكن هواه يغلبه فيشرب الخمر هو فاسق وعاص، ولا يكفر بمجرد ذلك، لكن ينقص إيمانه، أما الذي يعتقد أن الخمر حلال وشيء مباح ويجحد حكم الله سبحانه وتعالى فيها فهو -قطعاً- كافر مرتد، حتى لو لم يشرب الخمر؛ لأن هذا يكفر بالاعتقاد القلبي، فهو بقلبه يعتقد تحليل ما حرم الله قطعاً، ولذلك يكفر بذلك.

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون)

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون) ثم أشار تبارك وتعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرفونها ويقتلون النبيين؛ لأنهم خالفوا ما أمرهم الله به في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف، فقال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]. قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً) أي: إرشاد للحق. (ونور) أي: إظهار لما انبهم من الأحكام. (يحكم بها النبيون) يعني: من بني إسرائيل؛ لأن كل نبي من قبل كان يبعث إلى قومه خاصة، ولم يبعث أحد إلى الناس عامة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان التبشير بالنصرانية بدعة مخترعة في النصرانية، فلا يوجد نص أبداً في الإنجيل الذي بين أيديهم الآن يأمرهم بأن يدخلوا غير بني إسرائيل في النصرانية أبداً، بل عندهم نصوص كثيرة في الإنجيل ينص فيها المسيح عليه السلام على أنه ما بعث إلا إلى بني إسرائيل الضالة، أو كما روي عنهم، كما قال عز وجل: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:49]. أما موضوع التبشير فقد اخترعه بولس الخبيث بعد المسيح بمدة، حينما افترى وزعم أنه ظهر له في السماء من يناديه ويقول له: اذهبوا وادعوا جميع الأمم باسم كذا وكذا وكذا إلى آخره، فليس في النصرانية تبشير أصلاً أو دعوة للأمم الأخرى، وإنما هي دعوة خاصة ومحدودة لبني إسرائيل، وكذلك دعوة موسى عليه السلام، ولذلك نفسر قوله تعالى هنا: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)) أي: من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء الأنبياء الذين حكموا بالتوراة كانوا أنبياء بني إسرائيل فقط، قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون) يعني: من بني إسرائيل (الذين أسلموا) أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام، وسنذكر سر هذه الصفة. (للذين هادوا) وهم اليهود؛ لأن (هاد) بمعنى: تاب ورجع إلى الحق. فقوله: (للذين هادوا) أي: لا لمن يأتي بعدهم، ولم يختص بالحكم بها الأنبياء، بل: (يحكم بها الربانيون) أي: الزهاد العباد (والأحبار) أي: العلماء الفقهاء. (بما استحفظوا من كتاب الله) أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل، وأن يقضوا بالأحكام. وفي قوله تعالى: (استحفظوا) الضمير هنا عائد للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً، ويكون الاستحفاظ من الله، أي: استحفظهم الله كتابه، بمعنى أن الله كلفهم بحفظ كتابه. أو يكون الواو عائداً على الربانيين والأحبار، ويكون الذين استحفظهم هم الأنبياء، (وكانوا عليه شهداء) يعني: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه، أو شهداء بأنه حق وصدق من عند الله، فمعلموا اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها؛ لشيوعه وتداوله وتوافر العمل به. وهذا هو السبب الذي من خلاله حصل التحريف في هذه الكتب؛ لأن التحريف في الكتب السابقة كان أمراً شرعياً إرادياً، أي أ، الله سبحانه وتعالى كلفهم بحفظه، والمقصود أحبار بني إسرائيل، أو الربانيين. فما دام كلفهم بحفظه فهذا تكليف، ومادام تكليفاً فيمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع؛ لأنه أمر شرعي طلبي إرادي وليس أمراً كونياً قدرياً، فقد يتخلف الأمر الشرعي فيطيعون أو يعصون، وقد يفون بالعهد وقد ينقضونه ويقعون في تحريف كتاب الله، فمن أجل ذلك حصل التحريف؛ لأن استحفاظ هذه الكتب كان مهمة ألزم الله بها أحبارهم ورهبانهم، فضيعوها وخانوا الأمانة. أما القرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى لم يكل حفظه إلى أحد من خلقه، بل الله عز وجل هو الذي تكفل بحفظه، فانظر إلى هذه الآية العظيمة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] كلها عظمة وقوة قاهرة تقطع بأن القرآن محفوظ، الأمر الذي لا يمكن ليهودي، ولا لنصراني، ولا لملحد، ولا لأي مخلوق وجد على الأرض منذ نزلت هذه الآية وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يمكن لأحد أن يثبت تحريف حرف واحد من كلام الله أبداً، وهذه من أعظم آيات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لو أن رجلاً في أقاصي الدنيا لحن في حرف واحد من القرآن، أو أسقط كلمة من القرآن لرد عليه مئات الصبيان في الكتاتيب، وردوا عليه بأن هذا غير صحيح، فهذا من آيات الله سبحانه وتعالى القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] وهو القرآن الكريم، ويدخل فيه السنة أيضاً، وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] تأكيد وقطع، وهذا الوعد لم يتخلف؛ لأن الله قضى بذلك. وهذا لا يعني أننا لا نأخذ بأسباب حفظ الكتاب، وإن كان ذلك فهو لا يقع فيه تحريف أبداً، وأذكر في الستينات أن عصابات اليهود كانوا حاولوا إصدار بعض الطبعات من المصحف الشريف، وحرفوا فيها سيراً على الحرفة التي يتقنونها طول عمرهم، نفس الحرفة الدنيئة الخبيثة المتأصلة فيهم، وقد كانوا روجوها في بعض البلاد الإفريقية، وكل محاولات هؤلاء أو غيرهم للتلاعب بآيات الله تفضح في الحال ولا تمكث أبداً، ولله الحمد على أنه ما زال هناك تسخير ونقيض لحفظ كتاب الله من التلاعب به والتحريف حتى مع وجود كثير من مظاهر الوهن والضعف في كثير من بلاد المسلمين. ورغم ما آل إليه حال الأزهر عموماً لكننا نجد فيه حتى الآن العناية بالمصحف والاهتمام الشديد جداً بالمراجعة والتصحيح والتدقيق في ذلك، وهذا كله من الأسباب التي ييسر الله عز وجل بها حفظ كتابه. وقوله تبارك وتعالى: ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا)) هذه الصفة أجريت على النبيين على سبيل المدح، وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل عنها. هذا كلام الزمخشري في الكشاف وقد رد عليه ناصر الدين ابن المنير في حاشيته فقال: وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصيل والتوضيح أن الأنبياء لا يكونون إلا متصفين بها، فذكر النبوة يستلزم ذكرها، فمن ثم حملها على المدح، وفيه نظر. والمقصود بها التعريض باليهود بأنهم ليسوا مسلمين، وأن الإسلام الذي هو دين الأنبياء أجمعين برئ منهم، فيذكر الناصر أن فإنك المدح إنما يكون غالباً بالصفات الخاصة، فإذا أردت أن تمدح شخصاً فأنك تمدحه بصفة امتاز بها عن غيره. والإسلام لفظ عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم، فقوله: (الذين أسلموا) يدخل فيه عوام المسلمين وأمم الأنبياء أجمعين، كما يدخل فيه الأنبياء أنفسهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلاً مسلماً، فلو أن رجلاً أراد أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن محمداً عليه الصلاة والسلام رجل مسلم. فهل هذا مدح له؟ لا، لا يكون هذا مدحاً؛ لأن هذا أمر مقطوع به، فالرسول عليه الصلاة والسلام مسلم قطعاً بلا شك، وهو أول المسلمين، لكن إذا أردت مدحه فتمدحه بشيء اختص به الممدوح عمن سواه؛ لأن أقل متبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصف -أيضاً- بصفة الإسلام. يقول: فالوجه -والله تعالى أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر. والمدح هنا لصفة الإسلام نفسها لا للرسول نفسه، أو للأنبياء أنفسهم، (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) فالمدح هنا لصفة الإسلام، من حيث إن الأنبياء -وهم أعلى الناس قدراً- متصفون بصفة الإسلام، فاقتدوا بهم في هذه الصفة. يقول: فالوجه -والله أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة لعظم موصوفها، وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] فهنا المدح لإسحاق أم لصفة الصلاح؟ هنا المقصود به التنويه بصفة الصلاح وبمقداره إذ جعلت صفة الصلاة لأكمل الناس -وهم الأنبياء- بعثاً لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] فأخبر عن الملائكة المقربين بالإيمان قال: (ويؤمنون به) تعظيماً لقدر الإيمان، وبعثاً للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا. ولهذا قال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] يعني: من البشر؛ لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين الطائفتين، فكذلك -والله تعالى أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويهاً به، فالمدح هنا لصفة الإسلام، في قوله: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا) ولقد أحسن القائل في مدحه عليه الصلاة والسلام حيث قال: فلئن مدحت محمداً بقصيدتي فلقد مدحت قصيدتي بمحمد عليه الصلاة والسلام. والإسلام وإن كان من أشرف الأوصاف -إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه- إلا أن النبوة أشرف الأوصاف؛ لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة، فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة -في ذكر الإسلام بعد النبوة في سياق المدح- لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزي

المائدة [51 - 58]

تفسير سورة المائدة [51 - 58]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) يعني: توالونهم وتوادونهم، بأن تولوهم أموركم، وتعتمدوا على الاستنصار بهم. (بعضهم أولياء بعض) أي: بعضهم ينصر بعضاً لاصطحابهم في الكفر، يعني: وأنتم لستم مساوين لهم في صفة الكفر. (ومن يتولهم منكم) أيها المؤمنون (فإنه منهم) أي: من جملتهم، يعني: كأنه مثلهم. (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) بموالاتهم الكفار.

تفسير قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)

تفسير قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) يقول تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52]. قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي: ضعف اعتقاد، كـ عبد الله بن أبي المنافق. (يسارعون فيهم) أي: في موالاتهم. (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) يقولون معتذرين عن المسارعة إلى هذه الموالاة: نخشى أن تصيبنا دائرة يدور بها الدهر علينا من جدب أو غلبة ولا يتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلا يميرونا. أي: يقاطعوننا اقتصادياً، ولا يعطوننا الميرة، وهي الطعام. قال تعالى: (فعسى الله أن يأتي بالفتح) يعني: بالنصر لنبيه صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه. (أو أمر من عنده) يعني: بهتك ستر المنافقين وافتضاحهم. (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم) يعني: من الشك وموالاة الكفار (نادمين).

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم)

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم) يقول تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53]. قوله تعالى: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)) بالرفع استئنافاً، وهناك قراءة أخرى بالنصب عطفاً على (أن يأتي)، وهناك قراءة بدون الواو (يقول الذين آمنوا)، والمعنى: يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض إذا هتك سترهم تعجباً: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)) أي: غاية اجتهادهم فيها ((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) يعني: في الدين. قال تعالى: ((حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)) أي: بطلت أعمالهم الصالحة، ((فَأَصْبَحُوا)) أي: صاروا ((خَاسِرِينَ)) أي: خاسرين الدنيا بالفضيحة، والآخرة بالعقاب.

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) وصفهم بعنوان الإيمان بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه، فإن ذكر صفتهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما، فوصفهم الله سبحانه وتعالى بصفة الإيمان فقال: (يا أيها الذين آمنوا) لأنه بعد سيتكلم عن الكفار، فالاختلاف في صفة الإيمان والكفر يقتضي الاختلاف -أيضاً- في المحبة والموالاة، فلا يوالي الإنسان ولا يحب عدو الله عز وجل. ثم يقول تبارك وتعالى: (بعضهم أولياء بعض) هنا إيماء إلى علة هذا النهي عن موالاة اليهود والنصارى، وعلة هذا النهي هي أن هؤلاء اليهود والنصارى متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضاً لاتحادهم في الدين، وإجماعهم على مضادتكم، فكيف يكون المرء مؤمناً موحداً مسلماً يخالفهم في الدين ثم بعد ذلك يقع في موالاتهم؟! ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) أي: يصير من جملتهم إذا والاهم وأحبهم، وحكمه حكمهم وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين. فهو بدلالة الحال منهم لدلالته على كمال المعتقد؛ لأن الإنسان إذا كان لا يصاحب إلا الكافر فيكون أكيله وشريبه وقعيده وصفيه وخليله، ويحبه ويناصره ويواليه، ويذهب معه ويجيء ويروح معه كان ذلك الاقتران في الظاهر يدل دلالة كاملة على أنه مثله، أو حكمه حكمهم، أو أنه من جملتهم. وقد ذكر بعض العلماء ضابطاً يستخرج به الإنسان من قلبه هذا المعنى الذي هو البراءة من الكفار، وهو أن يستحضر ما يعتقد هذا الكافر في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: هذا الكافر الذي تتخذه صديقاً وتصافيه وتعاشره معاشرة الإخوة والأحباب إذا سألته: ماذا تعتقد في محمد صلى الله عليه وسلم؟ أو إذا سألت نفسك: ماذا يقول هذا عن محمد عليه الصلاة والسلام؟ فهو -والعياذ بالله- يصف رسول الله بأنه -حاشاه- قد كذب وافترى على الله، وادعى أن الوحي نزل عليه، وهو يختلق القرآن إلى آخره، فضلاً عن أنه يعبد غير الله، فإنه يعبد عيسى عليه السلام الذي هو عبد الله، أو يشتم الله كاليهود الذين يسبون الله عز وجل وأنبياءه، فإذا استحضرت أن هذه عقيدته التي في باطنه وقلبه نشأ لك بذلك أشد النفور. ولذلك قال بعض العلماء لما دخل على مجلس أحد الخلفاء القرشيين فوجد عنده يهودياً أو نصرانياً معظماً موقراً قال له: يا ابن الذي حبه في الورى وطاعته حتم واجب إن الذي شرفت لأجله يزعم هذا أنه كاذب ومقصوده بقوله: إن الذي شرفت لأجهل هو الرسول صلى الله عليه وسلم. فشخص يصف محمداً عليه الصلاة والسلام بأنه كاذب ولم تجد في قلبك إنكاراً لهذا وبغضاً لما يعتقد هذا في حق أصدق الصادقين محمد عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أنه ليس في قلبك إيمان، ليس في قلبك حياة ولا إيمان ولا محبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الرجل إذا سب أبوه أدنى من ذلك وأهون من ذلك من السباب فإنه يغضب ويثور ويعادي من يفعل به ذلك، فكيف بمن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصفه بالكاذب؟! وكيف يلتقي قلب مؤمن موحد مع مثل هذا القلب؟! فمن ثم يقول الزمخشري: وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهما) فينبغي للمسلم أن يباعدهم بقدر استطاعته، حتى لا تتراءى النار في الأفق من شدة المباعدة بينهما. ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه لـ أبي موسى في كاتبه النصراني: (لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله). قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار. وهذه الآيات من أشد النصوص التي نحن في حاجة إلى التذكير بها في هذا الزمان؛ لأن هذه العقيدة الخطيرة هي أخطر مسائل الإيمان بعد التوحيد، وهي قضية موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، فهي الركن الوتين في الدين، وأصل عظيم جداً من أصول الإيمان، ومما علم من الدين بالضرورة، ومع ذلك حصل الآن عند الناس -نتيجة الفتن التي نعيش فيها- اهتزاز خطير جداً في قلوبهم، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، حصل اهتزاز عجيب جداً في قلوب الناس في قضية الولاء والبراء، فآيات القرآن واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار أنه يجب أن لا تقع أبداً الموالاة ولا المصافاة بين مؤمن موحد وبين كافر عدو لله عز وجل، ولذلك قال ابن سيرين: قال عبد الله بن عتبة: (ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر) أي: ليتق أحدكم أن يصير يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر. قال هذا الكلام يريد به هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)

الأحكام التفصيلية في قوله تعالى: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) ثم بين تبارك وتعالى كيفية توليهم، وأشعر بسببه، وبما يئول إليه أمره كل من يقع في هذه الصفة المهلكة، وهي موالاة الكفار، فالآيات التالية توضح صورة الموالاة وكيفيتها أولاً، وتوضح سببها ثانياً، وتوضح عاقبتها ثالثاً. فقال عز وجل: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) فلا يقع في هذه الموالاة ويفرح بها وينافح عنها إلا الذي في قلبه دخن ومرض وشك وشبهة والعياذ بالله! (فترى الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه، فعندما يسمعون وعد الله عز وجل بقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] يكون عندهم شك ونفاق ولا يصدقون وعد الله عز وجل، ويظن أحدهم بالله ظن السوء، ويحس أن الله سبحانه وتعالى سيترك الباطل دائماً مرتفع الكلمة على الحق، وأن الحق يكون مقموعاً، لكن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، وسنة الله سبحانه وتعالى أن يدال الناس: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فترى الذي في قلبه مرض يوالي أعداء الأمة وأعداء الدين وأعداء المسلمين، بحيث إذا لم تتحقق بشائر نصرة الدين، ولم تكن الكفة في صف المسلمين فإنه يكون قد احتاط لنفسه واتخذ عند هؤلاء جميلاً أو صنيعة تنفعه في يوم من الأيام إذا خسر المسلمون الجولة. فقوله تعالى: ((فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) يعني: نفاق وشك في وعد الله لإظهار دينه. ((يُسَارِعُونَ فِيهِم)) فالأمر فيه مسابقة، كما حصل من بعض دول الخليج التي كانت تتسابق على الارتماء في أحضان إسرائيل، حتى إن رئيس الوزراء اليهودي قال: ما هذا الذي يفعله العرب؟! فهم أنفسهم استنكروا هذا التهافت على تدعيم العلاقات مع إسرائيل وغير ذلك، فكان بين بعض دول الخليج تسابق نتيجة الصراعات التي بينهم، يريدون من أن يحتموا باليهود ويكون لهم منعة. حتى قال بعض الناس: إننا كنا طلبنا منذ مدة بعيدة من إسرائيل أن تنضم إلى جامعة الدول العربية. فاليهود لما علموا بهذا الاقتراح قالوا: لا يوجد شيء اسمه جامعة الدول العربية، فنحن سنعمل نظاماً آخر حتى إنهم -أيضاً- صار يتحكمون في هذا الأمر. فهذا نموذج مما نراه، (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم)، وبعضهم لا يرتمي في أحضان إسرائيل فحسب، بل يضع جبهته تحت أقدام إسرائيل وتحت التراب الذي تدوس عليه إسرائيل، ذلة ما بعدها ذلة، والعياذ بالله! هذا هو واقع المسلمين الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذا من صور الضعف والهوان عند المسلمين، فترى أهل المرض (يسارعون فيهم) يعني: في مودتهم في الباطن والظاهر، من غير أن ينظروا إلى العواقب التي تترتب على ذلك. (يقولون) يعني: وهم يعتذرون عن هذا الفعل. فإذا قيل لهم: لماذا تسارعون هكذا وتتسابقون في موالاة الكفار يقولون معتذرين عن هذا الفعل: (نخشى أن تصيبنا دائرة) أي: من دوائر الزمان، وصرف من صروفه، فتكون الدولة لهم فنحتاج إليهم، فنحن نحذر من شرهم. ولا يفكرون بأن الدائرة ربما تصيب هؤلاء الذين يوالونهم، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها الخط المحيط بالسطح، واستعيرت لنوائب الزمان لملاحظة إحاطتها واستعمالها في المكروه، وعكس الدائرة الدولة، والدولة هي الغلبة، وقد تستعمل الدولة بمعنى الدائرة، لكن ذلك قليل. ثم رد الله تعالى عللهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشر المؤمنين بالظفر، فقال عز وجل: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: إن كانوا هم يسارعون فيهم، ويبررون ذلك أو يعتذرون بأنهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة فقد قطع الله سبحانه وتعالى هذا العذر بقوله: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ)) فتكون الدائرة -دائرة السوء- على هؤلاء الذين تحبونهم وتوالونهم، وتفتضحون حينئذٍ. (فعسى الله أن يأتي بالفتح) سواءٌ أكان المقصود فتح مكة، أم فتح قرى اليهود من خيبر وفدك، أم القضاء الفصل بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين. فقوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) يعني: يقطع شأفة اليهود ويجليهم عن بلادهم. (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) الواو تعود إلى المنافقين الذين في قلوبهم مرض، وهم هؤلاء الذين يسارعون في مودتهم، (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم) وما الذي أسروه في أنفسهم؟ إنه الشك في ظهور الإسلام، أو أسروا في أنفسهم النفاق. وقوله: (نادمين) لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين، فلا يرضى عنهم هؤلاء، ولا يرضى عنهم هؤلاء، فلا يبقون مع المسلمين بعدما يفتضحون، ولا والاهم ولا نصرهم اليهود، بل ندموا لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين. وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه من نوعية موالاة الكفار، أي: كانوا يظهرون موالاة الكفار، والله عز وجل قال هنا: (فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)؛ لأن السبب الحقيقي الذي أدى بهم إلى موالاة الكفار -وهو الأمر الظاهر- وجود المرض في قلوبهم، وتأمل هذا جيداً، حيث قال تعالى: ((فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا)) ولم يقل تعالى: (فيصبحوا على ما فعلوا)، فتشمل الآية ما أبطنوه وما أظهروه، فهم أظهروا موالاة الكفار وأبطنوا الشك والنفاق في وعد الله بنصرة رسوله وعزة دينه. فالذي في قلوبهم هو الشك بوعد الله، والشك في أن المستقبل والنصرة للإسلام، هذا السبب القلبي انعكس على مواقفهم الظاهرة في موالاة الكفار، فالله سبحانه وتعالى في هذا الموضع علق ندامتهم على ما كانوا يكتمونه لا على ما كانوا يظهرونه، فما الذي كانوا يكتمونه؟ إنه الشك والنفاق؛ لأن الشك هو منبع المشكلة الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم بها، فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها، وسببها الذي هو ما أسروه في أنفسهم من الشك. وقوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا) قرى الفعل (يقول) بالنصب عطفاً على (أن يأتي) في الآية المتقدمة، أي: وعسى أن يقول الذين آمنوا. فتكون بالنصب، وقرئ بالرفع على أنه كلام مبتدأ مستأنف. فقوله تعالى: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت حين يصبح المنافقون على ما أسروا في أنفسهم نادمين. وقول المؤمنين قد يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض اغتباطاً وسعادة وفرحاً، وتعجباً من حال المنافقين، واغتباطاً بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص وعدم الشك والنفاق. ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)) أي: حلفوا لكم بأغلظ الأيمان. ((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) كانوا يحلفون بأغلظ الأيمان إنهم لمعكم لأن عادة المنافقين الاستجنان بالأيمان الكاذبة، واتخاذ الأيمان والحلف جنة ووقاية، كما قال عز وجل: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة:16] فقوله: (جنة) يعني: وقاية، حتى يخدعوا المؤمنين فلا يعاملوهم على ما هم عليه في الحقيقة من النفاق، فيقولون: والله العظيم إننا لكذا، والله العظيم ما نريد إلا كذا إلى آخر ذلك. ومعنى قولهم: ((إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)) أي: أولياؤكم ومعارضوكم على الكفار. وهذا القول الصادر من المؤمنين إما أن يكون المراد به أنه يقوله بعضهم لبعض، وإما أنهم يقولون هذا الكلام لليهود، يقولون لهم: أيها اليهود! أهؤلاء المنافقون الذين هربوا وخذلوكم الآن بعدما أذلكم الله، بعد أن أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! وهناك آية أخرى في القرآن تعطي نفس المعنى في سورة الحشر، قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11] فقولهم (لننصرنكم) قسم تقديره: والله لننصرنكم يقول تعالى {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:11 - 12]. فهنا يقول المؤمنون: أرأيتم -أيها اليهود- كيف حال هؤلاء المنافقين الذين فضحهم الله؟! إذاً: التفسير الأول: يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وامتناناً وغبطة بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص والنجاة من الريب والنفاق. هذا القول الأول. أو أن الذين آمنوا يعودون إلى اليهود ويقولون لهم: أرأيتم -أيها اليهود- هؤلاء المنافقين الذين كانوا يحلفون لكم إنهم لمعكم كيف خذلوكم وكيف أذلهم الله؟! فالتفسير الثاني أنهم يقولونه لليهود؛ لأنهم حلفوا لهم على المعاضدة والمناصرة، كما حكى الله عنهم قولهم: {وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر:11]. فيقول المؤمنون لهم: انظروا -أيها اليهود- أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟! لقد تباعدوا عنكم. فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود، فهذا هو المقصود بأن الله سبحانه وتعالى سيفضحهم، ويذلون على أيدي المؤمنين من جهة، وعلى أيدي أعداء الدين الذين والوهم من جهة أخرى. وعلى ذلك إما أن يكون باقي الآية من تمام كلام المؤمنين وإما أنه من الله سبحانه وتعالى. يقول تعالى: ((حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ)) في الدنيا إذ ظهر نفاقهم عند الكل، وفي الآخرة إذ لم يبق لهم ثواب؛ لأن الذي حبط عمله يأتي في الآخرة خاسراً لا خلاق له، ولا شيء في ميزان حسناته. قال الزمخشري: هذه الجملة من قول المؤمنين، أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس. وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أحبط عملهم! ما أخسرهم! أو أن قوله: (حبطت أعمالهم) من كلام الله شهادة لهم بحبوط الأعمال، وتعجيباً من س

سبب نزول قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وما بعدها

سبب نزول قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وما بعدها أما سبب نزول هذه الآية الكريمة فهناك عدة روايات في سبب نزول هذه الآيات، منها: ما وري عن السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فأواليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر: أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فأواليه وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] إلى آخر الآية. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه: ما هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، يعني: الذبح. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، فقد روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت -من بني الحارث بن الخزرج- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. فقال عبد الله بن أبي المنافق: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن أبي: يا أبا الحباب! أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه. قال: إذاً أقبل. فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ)) [المائدة:51]). ثم روى ابن جرير عن الزهري قال: لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن الصيف: غركم إن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا. فقال عبادة بن الصامت -لما سمعهم يقولون هذا للمسلمين-: يا رسول الله! إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيراً سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. ولما حصلت الخيانة المعروفة من يهود بني قينقاع التي فعلوها مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وتمكن منهم ونزلوا على حكمه قام عبد الله بن أبي ليناصر إخوانه اليهود لما تمكن منهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (يا محمد! أحسن في موالي -وكانوا حلفاء الخزرج- قال: فأبطأ عليه رسول الله، فقال: يا محمد! أحسن في موالي. قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني. وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم غداة واحدة! إني امرؤ أخشى الدوائر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك). وقال محمد بن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: (لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أحد بني عوف من الخزرج لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي - فخلعهم إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين) فالمسلم في أشد المواقف لا يتزحزح قيد شعرة عن موالاته لله ورسوله ولا ينتابه ضعف أو غير ذلك، أما أن ينحاز إلى أعداء الدين عسى أن يجد عندهم نصرة أو خيراً فله الذل والهوان. وهذا في كل زمان وليس فيما مضى من الأزمان، لكن آية ذلك واضحة الآن في هذا الزمان، فقد كنا نسمع بين وقت وآخر تصريحات لـ ياسر عرفات ومن معه دائماً يقولون: أنتم لا تعرفون القدر الذي نتجرعه من الذل كل يوم، هذا ما صرح به عرفات في الأيام الأخيرة، يقول: أنتم لا تشعرون بالذل الذي نتجرعه من اليهود، مع أنه يريد منهم مقاصده، ومع ذلك انظر إلى الذل والهوان الذي يذوقونه في الدنيا قبل الآخرة. والقضية هي في غاية الأهمية، والقلب إن كان فيه إيمان ويقين وتصديق بوعد الله وثقة في أمر الله عز وجل فلا يمكن أبداً أن يغتر بالظاهر، قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران:196 - 197]. فالذي يغتر بالظاهر يندم، وقد حكى الله سبحانه وتعالى ما حكاه عن أولئك الذين نظروا إلى قارون في زينته فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وبين تعالى كيف أنهم خدعوا بالظاهر وعرفوا ذلك أن هلك عدو الله قارون. فالإنسان لا يغتر بالظاهر، فهذه المواقف هي مرآة تعكس ما في القلب، فإن كان في القلب شك ونفاق وريب في وعد الله وعدم ثقة في أن النصر والعاقبة للمتقين فصاحبه يسارع في أن يأخذ بالاحتياط. أما الذي قلبه عامر بالإيمان، وبالثقة في وعد الله سبحانه وتعالى فإنه مهما كان الظاهر أن الدولة مع أعداء الدين لا يتغير ولا يتزحزح عن موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ويفخر لأنه ينتمي إلى حزب الله المصلحين. يقول محمد بن إسحاق عن عبادة بن الصامت: (ومشى عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله عز وجل وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله! أتولى الله ورسوله والمؤمنين). ولذلك كان هذا هو الشعار في غزوة أحد، فلما قال أبو سفيان: اعل هبل اعل هبل أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه بقولهم: الله أعلى وأجل. فغير الكفار الشعار فقالوا: (لنا العزى) وانظر إلى صاحب الباطل كيف يفخر بشركه ووثنيته، قالوا: (لنا العزى ولا عزى لكم) فكان A ( الله مولانا ولا مولى لكم)، فهل الذي يتولاه الله سبحانه وتعالى يضيع أو يهزم؟! فهم يعيرون المسلمين بأنهم ليس لهم صنم العزى الذي يعتقدون أنه ينصرهم ويعزهم، فماذا كان الجواب؟ قال: قولوا لهم: الله مولانا ولا مولى لكم. فما هذه العزى؟! {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]. قال: ففيه - عبادة بن الصامت - وفي عبد الله بن أبي نزلت هذه الآيات. وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أنهاك عن حب يهود. فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات) وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق. فمعنى الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعامله بما يظهره من الإسلام، فدخل عليه ليعوده فقال: (لقد كنت أنهاك عن حب يهود) فقال عبد الله بن أبي: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. أي: هل بغض أسعد بن زرارة نفعه في دفع الموت عنه؟! فهذا معنى كلمة (فمات)، وعند الواقدي: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فما نفعه. يعني: مات ولم ينفعه هذا البغض. والمقصود أنه ما منع عنه الموت بغضهم، يعني: لا يضر حبهم ولا ينفع بغضهم؛ لأنه لو نفع لما مات أسعد بن زرارة. وهذا يعتبر من غبائه لأنه منافق مريض القلب، فهذا هو القدر المحدود من الفقه والفهم عنده، فهو ينظر إلى أن الضرر والنفع هو الموت أو الخلاص منه، يعني أن الشيء النافع هو الذي يحميك من الموت، والشيء الضار هو الذي لا ينفعك ولا يدفع عنك الموت، فهل هذا هو المقياس في النفع والضر؟ ما أنت إلا كزرع عند خضرته لكل شيء من الآفات مقصود فإن أنت سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام الزرع محصود

الفوائد المستفادة من آيات النهي عن موالاة الكفار

الفوائد المستفادة من آيات النهي عن موالاة الكفار هناك ثمرات لهذه الآية: أولاً: أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى، قال الحاكم: والمراد موالاتهم في الدين وجعل الزمخشري الموالاة في النصرة والمصافاة، وبين وجوب المجانبة للمخالف للدين. ثانياً: أن من تولاهم فهو منهم، لا خلاف في أنه صار عاصياً لله عز وجل كما عصوه، لكن ما هو حد معصيته؟ اختلف في ذلك: قيل: معنى قوله: (فإنه منهم) أي: حكمه حكمهم في الكفر. وهذا حيث يقرهم على دينهم، فكأنه قد رضي، فقوله تعالى: (ومن يتولهم منكم) يعني: حباً في دينهم ورضاً عنهم، وإقراراً لهم على باطلهم فهو يصير كافراً مثلهم. وقيل: من تولاهم عن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه منهم. وقيل: المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه. قال الحاكم: ودلالة الآية مجملة، فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين. وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه: الأول: النهي (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وسائر الكفار لاحق بهم، فيدخل فيهم من طريق الأولى الشيوعيون، والمجوس عبدة النار، وعبدة البقر، وغير هؤلاء الأصناف من الكفار. الثاني: قوله تعالى: (بعضهم أولياء بعض) والمعنى أن الموالاة من بعضهم لبعض بسبب اتحادهم في الكفر، وأنتم أعلى منهم، فلا يجوز لكم أن تتساووا معهم؛ لأنكم مرتفعون عليهم بالإيمان. الثالث: قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتراءى ناراهما). الرابع: ما أخبر الله به أنه لا يهديهم: (والله لا يهدي القوم الظالمين). الخامس: وصفهم بالظلم، والمراد: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار. السادس: أنه تعالى أخبر أن الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض فقال: (فترى الذين في قلوبهم مرض) يعني: شكاً ونفاقاً. فهم الذين يقعون في الموالاة، وإلا فلا يمكن أبداً أن تجد في القلب العامر بالتوحيد وبحب الله ورسوله ميلاً أو موالاة لأعداء الله، ولذلك قال عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة:22] إلى آخر الآية الكريمة. فمما لا يمكن أن يقع أبداً، أن يكون قلب فيه إيمان ثم يقع صاحبه في موالاة الكفار، بل لا يقع هذا إلا ممن يزعم الإسلام وفي قلبه مرض النفاق والشك والعياذ بالله! وأيضاً: أخبر الله عز وجل عن علة موالاة الموالين لهم -وهي: خشية الدوائر- فقال: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) فإذاً: علة الموالاة ليست بإذن وإباحة من الله سبحانه وتعالى، وإنما لعلة أخرى، وهي أنهم يخشون أن تصيبهم دائرة. الثامن: قَطْعُ الله لما زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر، أي: أن الله سبحانه وتعالى أبطل عذرهم في قولهم: (نخشى أن تصيبنا دائرة) أبطل هذه العلة بقوله: (فعسى الله أن يأتي بالفتح) و (عسى) في حق الله تعالى واجبة الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك. وقد كان أن فتح الله عز وجل مكة، وفتحت آفاق الأرض من أقصاها إلى أقصاها في عهد الخلافة الإسلامية. التاسع: ما بشر الله تعالى به من إهانتهم بقوله عز وجل: (أو أمر من عنده) قيل: إذلال الشرك بالجزية. وقيل: قتل بني قريظة وإجلاء بني النظير. وقيل: أن يُوِّرث المسلمين أرضهم وديارهم. العاشر: ما ذكره تعالى من الأمر الذي يئول إليه حالهم، وأنهم يصبحون نادمين على ما أصروا في أنفسهم، فهذه عاقبة الموالاة، فكل هذا من وجوه التنفير من هذه الموالاة؛ لأنهم غشوا المسلمين، ونصحوا للكافرين، وقيل: من نفاقهم. وقيل: من معاقبتهم للكفار. وذلك حين معاناتهم للعذاب، وقيل: في الدنيا نادمين بما صاروا فيه من الذلة والصغار. الحادي عشر: ما ذكره تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله، وخبثهم في أيمانهم، في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [المائدة:53] إلى آخر الآية. الثاني عشر: ما أخبر الله من حالهم بقوله: (حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) قيل: خسروا حظهم من موالاتهم. وقيل: أهلكوا أنفسهم. وقيل: خسروا ثواب الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد) أو (من يرتدد) قراءتان (من يرتد) بالإدغام أو (من يرتدد) بالفتح، ومعناه الردة، أي: يرجع إلى الكفر. وهذا إخبار بما علم الله سبحانه وتعالى وقوعه، وقد ارتد جماعة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. (فسوف يأتي الله بقوم) سوف يأتي الله بدلاً عنهم إن هم تركوا دينهم وارتدوا عنه (بقوم يحبهم ويحبونه) قال صلى الله عليه وسلم: (هم قوم هذا) وأشار إلى أبي موسى الأشعري رواه الحاكم في صحيحه. (أذلة على المؤمنين) يعني: يعطفون على المؤمنين. (أعزة على الكافرين) أي: أشداء على الكافرين. (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) يعني: يتلقون اللوم من الكفار على مناصرة المسلمين، أما المؤمنون إذا جاهدوا فإنهم لا يخافون أن يلومهم الكفار؛ لأنهم نصروا أهل التوحيد. (ذلك) أي: ذلك المذكور من الأوصاف: (فضل الله). (يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)، وقوله: (واسع) أي: كثير الفضل (عليم) بمن هو أهله. فلما نهى تعالى فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين؛ لأنه قال: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) يعني: يرتد عن دينه بموالاتهم وموافقتهم في عقائدهم، إلى قوله: (حبطت أعمالهم) شرع هنا في بيان حال المرتدين على الإطلاق، ونوه بقدرته العظيمة، فأعلم أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لذلك منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً؛ لأن هذا المعنى لابد من أن نستحضره في أحلك الظروف التي نمر بها، وفي كل عصر من عصور الدعوة الإسلامية، فلابد من أن نستحضر مهما علت كلمة الكفر وعتى الكافرون في الأرض عتواً كبيراً قدرة الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل قادر على إهلاكهم بكلمة (كن). فكل من على وجه الأرض من الجن والإنس يمكن أن يكونوا على أتقى قلب رجل واحد، والله قادر على ذلك، فبكلمة (كن) يكون كل العباد كالملائكة، أو كل قلوبهم تكون كقلب محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو أتقى قلب في البشر أجمعين. فالله قادر على هذا، وقادر على أنه كلما جاء للمسلمين أحد يهاجم الإسلام أو يشتم الإسلام يحترق في الحال، ويمكن أن يحصل ذلك بين وقت وآخر، لكن هل هو قاعدة مطردة؟ لا، والملائكة تستطيع أن تمزق أعضاء الكافر، لكن الحياة إذا صارت على هذا المنوال ستلغى حكمة التكليف، والناس جميعهم سيكتشفون أن الإسلام هو دين الحق، لكن نحن في دار ابتلاء وامتحان، فنحن نتعبد بالبحث عن الحق والتحري عنه، ونتعبد بأن تزين صورة الباطل وتعلو كلمته أحياناً، ويضطهد المؤمنون أحياناً، ويصيب المسلم الفقر أو المرض أو نحو ذلك من البلاء؛ لأن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، والنتيجة تظهر هناك، فلابد من أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر بكلمة (كن) المكونة من حرفين على أن يقلب كل هذه الأوضاع. فهذا الظلم الذي يحصل للمسلمين في كل مكان من مجازر في البوسنة والهرسك وفي فلسطين وغير ذلك، وهذا العلو الكبير في الأرض لأعداء الله اليهود الله سبحانه وتعالى قادر على أن يرفع ذلك ويبيد اليهود فلا يبقي منهم واحداً على ظهر الأرض، لكننا في دار الابتلاء كما قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] أي: فناحسبكم. فكل الذي نحن فيه الآن ابتلاء واختبار، كما قال عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] اختبار وابتلاء وامتحان. فكذلك هنا يقول الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ)) فالله غني عنكم أجمعين ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))، وانظر إلى العظمة! بدأ بقوله: (يحبهم) قبل (يحبونه)، وطبع الإنسان أنه يحب من أحسن إليه، فيحب العبد الله سبحانه وتعالى لاتصافه بالكمال والجمال والجلال، ونحبه -أيضاً- لما بسط من النعم التي أفاض بها علينا. يقول تعالى: ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) ومعنى الآية أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خيرٌ للدين منه، وأشد منعة وأقوم سبيلاً، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133]، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20]، فليس ذلك بصعب ولا على قدرة ممتنع الله عز وجل. وهذه الآية من الكائنات التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها في القرآن قبل أن تقع، فقد وقع المخبر به فكان معجزة، فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، منها ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الفرق هي: بنو مدلج، ورأسهم ذو الخمار الأسود العنسي، وبنو حنيفة قوم مسيلمة، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد، وفزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض تميم وكندة، وبنو بكر بن وائل، وغسان. وهؤلاء وإن كانوا يوصفون بأنهم أهل ردة إلا أن كلمة الردة في تلك الفترة -فترة أبي بكر رضي الله عنه- كانت تطلق على طائفتين: طائفة أصحاب ردة حقيقية، وهم الذين ارتدوا عن الإسلام كـ مسيلمة الكذاب وغيره، وهؤلاء عدلوا إلى الكفر كما ذكرنا. أما الصنف الآخر فهم الذين يطلق عليهم وصف الردة تغليباً، وليسوا مرتدين، وإنما هم بغاة، فهم: مسلمون لكنهم بغاة خرجوا بالقوة على الإمام الحق، وهم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة فأنكروا وجوبها، وقالوا: إن الزكاة تؤدى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] فإذا مات الرسول عليه الصلاة والسلام فلن نؤديها إلى الخليفة بعده. وهذا وقع منهم بتأويل، فهؤلاء -على الحقيقة- هم أهل البغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصاً لدخولهم تحت اسم أهل ردة، وإن لم يكونوا في الحقيقة مرتدين؛ لأن الردة أعظم الأمرين وأخطرهما، وكذلك أطلق الاسم على هذه الحروب عموماً. قوله تعالى: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))، صفة المحبة حينما تسند إلى الله سبحانه وتعالى تكون ثابتة له عز وجل بلا كيف وبلا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها، ونلاحظ في السيوطي دائماً أنه يفسر هذه المحبة بالإثابة، فيقول: (يحبهم) يعني: يثيبهم! والزمخشري أول هذه المحبة فقال: (يحبهم) أي: يثيبهم أحسن الثواب، بتعظيمهم، والثناء عليهم، والرضا عنهم. وهذا تفسير باللازم، فهذا هو لازم المحبة، وليس هو المحبة؛ لأن الإثابة هي ثمرة ولازم المحبة، فإذا أحبهم الله أثابهم، فهذا منزع كلامي، وليس منزعاً سلفياً. كذلك أيضاً أنكر الزمخشري كون محبة العباد لله حقيقية، قال: (يحبونه) يعني: يطيعونه ويطلبون مرضاته. وهذا خلاف الظاهر، فمحبة العبد ممكنة، وهي واقعة من كل مؤمن، وهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، فليست المحبة معناها الطاعة؛ فإذا العبد أحب الله فالطاعة لازم وثمرة هذه المحبة، فلنثبت محبة العبد لله، ولا داعي للتأويل الذي يذكره هؤلاء، ألا ترى إلى حديث الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت). فالحديث يفهم منه أن المحبة غير الأعمال، فلا يصح تفسير (يحبونه) بمعنى: يعملون الأعمال الصالحة. فهم يحبونه، ومن ثمرة المحبة أنهم يطيعونه ويعملون له الأعمال الصالحة، وهناك الحديث المشهور: (إن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. ثم يوضع له القبول في الأرض). وهذا كله يفسد هذا التأويل الكلامي. يقول تعالى: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) هذه صفة المؤمنين الكمل، وهي أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]. قال عز وجل هنا أيضاً: ((وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) فهذه الآية تدل على أنهم يجاهدون في سبيل الله، وأنهم صلاب في دينهم، فإذا شرعوا في أمر من أمور الدين كإنكار منكر أو أمر بمعروف مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل، ولا اعتراض معترض، ولا لومة لائم. واللومة هي المرة من اللوم، وفيه مبالغة، كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام. وقيل: قوة التمسك بالحق جعله

تفسير قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) ولما نهى عن موالاة اليهود والنصارى أشار إلى من يتعين علينا موالاته، فإذ كان يحرم علينا ولا يليق بنا إذا كنا مؤمنين أن نوالي اليهود والنصارى فمن الذين يجب أن نواليهم؟ بين تعالى ذلك بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55]. قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ)) يعني: الذي يفيض عليكم كل خير (ورسوله) الذي هو واسطة الخير، فكل الخير الذي أتانا بهذا الإسلام من الذي كان واسطة بين الحق وبين الخلق فيه؟ إنه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك فهو أحق بأن نتولاه صلى الله عليه وسلم ونعتز بدينه. قوله تعالى: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)) الذين هم المعينون في موالاة الله ورسوله بأفعالهم؛ لأنهم ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)) التي هي أجمع للعبادة البدنية ((وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) لأن الزكاة تقطع حب المال الذي يجلب الشهوات. ((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) حال من الفعلين، يعني: يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله، ومتذللون غير معجبين، فإن رؤيتهم تؤثر فيمن يعليهم بالعون في موالاة الله ورسوله.

تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] يعني: من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا، فيعينهم وينصرهم، فإن حزب الله هم الغالبون في العاقبة على أعداء الله عز وجل. كما قال عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وهم ممن ينجو أخيراً، والعاقبة للتقوى. فمهما دارت الدوائر فلا بد في النهاية من أن تعود العاقبة إلى أهل التقوى، كما قال الله عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]. وأفرد الله عز وجل هنا الولي بقوله: ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا))، ولم يقل عز وجل: (إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا) فلم يجمع مع أن الولي متعدد، ففيه إيذان بأن الولاية لله أصل، ولغيره تبع لولايته عز وجل، فالولاية أصلاً تكون لله، ثم تبعاً لولاية الله تحب كل من يوالي الله، ومن أعظم الخلق موالاة لله؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك المؤمنون من هذه الأمة، وترتيب الولاية على الأنبياء والرسل، ثم الأولياء، وأعظم الأولياء على الإطلاق هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أشرف البشر بعد الأنبياء، وهم أوفر الناس حظاً من موالاة الله عز وجل. فلم يجمع لفظ (الولي) مع أنه متعدد للإيذان بأن الولاية لله أصل ولغيره تبع لولايته عز وجل، فالتقدير: إنما وليكم الله، وكذلك رسوله والذين آمنوا. هذا معنى الآية. وثمرة هذه الآية تأكيد موالاة المؤمنين والبعد عن موالاة الكفار، قال ابن كثير: فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة -وهي قوله تعالى: ((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) - في موضع الحال من قوله: ((وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)) أي: في حال ركوعهم. وهذا التنبيه مهم في الحقيقة، وهو أنه يشيع الاستدلال بما في هذه الآية في فضائل علي بن أبي طالب، والشيعة -خاصة- يلهجون بأن هذه الآية فيها مدح لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، إذ يفهم بعض الناس أن معناها: يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة في حال الركوع. ويزعمون أن علياً أعطى الزكاة لفقير وهو في حالة الركوع، فالجملة على هذا الزعم جملة حالية، والصحيح أنها معطوفة على الصفة السابقة، فيكون المعنى: يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويركعون لله مع الراكعين، وربما تكون إشارة إلى الصلاة في الجماعة، وهذا موضوع آخر. يقول ابن كثير: فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة -أي قوله تعالى: ((وَهُمْ رَاكِعُونَ)) - في موضع الحال، من قوله: ((وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ))، أي: في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح. أي: ما دام أن هذا الكلام صحيح فالآية مدحت من يفعل هذا، وبينت أن من يؤدي الزكاة وهو راكع أفضل ممن يؤديها خارج الصلاة. وإذا كان الإنسان يريد هذا الثواب فليتفق مع الفقير فيقول له: تعال وأنا في الركوع لأعطيك الزكاة حتى يكون لي الثواب الأعظم. يقول ابن كثير: ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى. حتى إن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه، ثم روى ابن كثير الأثر المذكور عن ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق وابن مردويه، ثم قال: وليس يصح شيء منها بالكلية، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. وقد اقتص ذلك الخطابي في حواشي البيضاوي عن الحاكم وغيره بطول، ثم أنشد أبياتاً لـ حسان بن ثابت فيها، ولوائح الضعف -بل الوضع- لا تخفى فيها، لا سيما ونص حسان بن ثابت العريق في العربية بعيد مما نسب إليه، وأي حاجة بالتنويه لفضل علي عليه السلام بمثل هذه الواهيات، وفضله أشهر من ذلك. أي: هل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحتاج -حينما نتكلم عن فضائله- إلى أن نختلق هذه الأكاذيب، وفضائل أمير المؤمنين في القرآن وفي السنة أشهر من أن تذكر رضي الله تعالى عنه. قال البغوي: روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا)): من هم؟ فقال: المؤمنون. فقلت: إن أناساً يقولون: هو علي! فقال: علي من الذين آمنوا. قال ابن كثير: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآية كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين. والرازي توسع هنا جداً في مناقشة الشيعة في هذه القضية، ومن أراد التوسع فليرجع إلى تفسير ابن كثير.

تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) ثم يقول تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] يعني: فإنهم هم الغالبون، لكن أبرز كلمة (حزب الله) ولم يقل (فإنهم هم الغالبون)، وهذا فيه دلالة على علة الغلبة للمؤمنين، فكأنه قال: ومن يتول هؤلاء الذين هم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. فذكر هذا تنويهاً بذكرهم وتعظيماً لشأنهم وتشريفاً لهم بهذا الاسم، وتعريضاً لمن يوالي هؤلاء بأنه من حزب الشيطان، بل بصورة أخرى من أحزاب الشياطين؛ لأن الباطل يتلون ويختلف ولا ينحصر، فالباطل كثير جداً ويتعدد؛ لأنه باطل، أما الحق فإنه واحد، ولذلك نجد القرآن دائماً يذكر النور والظلمات، فالنور مفرد، والظلمات جمع، فالباطل لا يكاد ينحصر، أما الحق فهو واحد لا يتعدد أبداً، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] فالمسلم يفخر ويعتز بأنه ينتمي إلى حزب الله. وهنا ينبغي التنبيه على أن لا نستعمل الاصطلاحات التي تستعمل الآن في التجمعات التي تنتسب إلى الإسلام كحزب الله الشيعي في لبنان وغيره، فالله تعالى يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] فكل ما في العالم من أحزاب مرده إلى ضربين: حزب الله وحزب الشيطان، والغلبة ستكون لحزب الله، كما قال تعالى: ((فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)). أما أحزاب الشيطان فكل من لم يرفع راية الاعتزاز بالله وبرسوله وبالإسلام وبموالاة المؤمنين فمهما ادعى فهو من حزب الشيطان، فكل الأحزاب السياسية بلا استثناء -ما دامت لا ترفع راية التوحيد ولا تعتز بانتمائها إلى الإسلام، ولا توحد ولايتها لله ورسوله- تندرج تحت حزب واحد، وهو حزب الشيطان، والمؤمن يفخر ويعتز ويتحدى العالم أجمع بشهادة التوحيد، وبانتمائه إلى هذا الحزب الغالب: حزب الله ورسوله والمؤمنون، وهذه هي العزة التي وصف الله تعالى بها المؤمنين بقوله: ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)). وكأن هذا الموضوع -موضوع الأحزاب- أصبح شيئاً مسلماً به، ودائماً نسمع من بعض الناس ممن يعمل في حقل الدعوة الإسلامية في الوقت الأخير قوله: تجوز التعددية الحزبية؟! وهل تقام الأحزاب على أساس ديني؟! هو إن المعادلة هنا أن الاثني عشر إذا نقص منها واحد فإنها تساوي صفراً، ولا يكون الناتج أحد عشر، فكل الأحزاب بدون الإسلام ليس لها قيمة، وأحزاب بغير دين الله تعالى كلها تساوي صفراً؛ لأنها ترفع شعار: نحن لا نقيم الحزب على أساس ديني؛ فإن الدين عار. فلذلك مهما كثرت أعدادها فكل هذه الأحزاب تساوي صفراً، بل تساوي الهلكة والخسران في الدنيا والآخرة والبوار. قال تعالى: ((فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ))، فالحزب أصله يطلق على القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم، وقيل: الحزب جماعة فيها شدة. فهو أخف من الجماعة والقوم. ونحن اليوم نعيش في جو كله سموم، وكل أحد اليوم يتكلم عن تلوث الهواء والمياه بالمجاري وبالغازات، وما أحد يتكلم عن التلوث العقدي، التلوث في المفاهيم والقيم الذي هو أشد خطورة، فنحن كلنا نتنفس من نفس الجو، أما التسمم بالغاز أو أكسيد الكربون فإنه يحصل عندما تجلس الأسرة في غرفة في الريف -مثلاً- وتدخن الفحم في مأكول، فيحصل تسمم من غير شعور، وفي الأخير يموتون، نتيجة استهلاك الغاز في الحرق أو أكسيد الكربون. ولو أن شخصاً جاء في وقت تعاطي هذه الجرعة قبل أن يهلكوا ففتح النافذة وأدخل الهواء النقي فإنهم حينئذ يفيقون ويحسون بالفارق بين الهواء المسموم الذي سيقتلهم وبين هذا الهواء النظيف الذي أتي من النافذة التي فتحت وجلبت لهم الهواء النظيف الذي يعمل على غسل للرئة والقلب. فكذلك الإنسان لابد من أن يرتبط بالقرآن الكريم، فالقرآن يأخذ أولاً بأول سموم البيئة التي نعيش فيها، والتي ننغمس فيها حتى النخاع، ولا شك في أننا سنتأثر بهذه البيئة شئنا أم أبينا، وبهذه المفاهيم التي تواطأ عليها من خفت عقولهم في هذا الزمان، والأمر صريح صراحة قاطعة، ومع ذلك الناس في شك وريبة، وفي انحراف عن هذا الحق، فخفت عقولهم، وكانوا هكذا كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، فالوسيلة الوحيدة هي استعمال الغسيل للقلب باستمرار، وتنظيف عقلك من الأفكار الهدامة، فإذا زال الباطل ارتبط القلب بالقرآن، فبآية واحدة من القرآن الكريم تبطل كل هذه المقاييس التي ينفق من أجل نشرها ملايين الجنيهات والدولارات، من أجل تمثيل الباطل وتشويش عقيدة الناس، فآية واحدة من القرآن تهد كل ما يبذلونه حتى يصير هباء منثوراً. ومن أمثلة ذلك موضوع تعدد الزوجات، فمهما تكملنا، ومهما أفسد المفسدون وتطاولوا فهي آية واحدة، والمسلم العادي بإيمانه الفطري إذا سمع القرآن يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] تجد كل ذلك الكلام عنده ينهد. وقد كان ميثاق عبد الناصر يوزع مجاناً على المدارس وعلى الطلبة والمدرسين، وكنا نحسب نصوصه كنصوص القرآن، وأي موضع إنشاء لا بد من تحليته بآية شيطانية من الميثاق. والآن انتهت تلك النسخ، وما أصبحت تنافس، أرادوا أن يصدوا به الناس عن القرآن فتناسوه، وما صار له أي ذكر؛ لأنه لا يربي بإيمان، والباقي هو كلمة الله عز وجل، وهو هذا القرآن، ولا يمكن أبداً أن ينال منه أحد، فقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فالوصية التي نتواصى بها -وهي المخرج الأول لنا من كل ما نعيشه من الفتن الآن- هي الاعتصام بكتاب الله سبحانه وتعالى، فالقلب فيه منافذ معينة، فإذا كنت تغذي قلبك بالقرآن، فتلك الأفكار تموت فيه أو تمرض، إذاً فلنكرر هذا مراراً، وإذا كنا نتعارف على ما يسمى بالوحدة الوطنية، والمساواة بين المسلم والكافر، وغير ذلك من هذه المعاني المسمومة، فأين تكون هذه المعاني إذا وضعت بجوار هذه الآيات؟ لا شك في أن آية واحدة من القرآن تتلف كل هذا الكلام، وتذهب به إلى الموضع اللائق به، فلذلك علينا أن نتواصى دائماً بعلاج القلب بالقرآن الكريم، إذ القرآن يقوم المفاهيم باستمرار، ويذهب أثر هذه السموم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً) يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]. قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: مقتضى إيمانكم حفظ تعظيم دينكم، فإن كنتم مؤمنين فعظموا دينكم، ومن علامة التعظيم أن لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً أولياء، فكيف توالون الذين يسخرون من دينكم ويهزءون ويسبون نبيكم ويطعنون في دينكم؟! فإن كنتم مؤمنين فعظموا دينكم، فمقتضى إيمانكم أن تحفظوا هذا التعظيم للدين. وانظر إلى كلمة (دينكم) بالإضافة، أي: الذي به انتظام معاشكم ومعادكم، وهو مناط سعادتكم الأبدية، وسبب قربكم من ربكم. وتأمل كلمة (دينكم)، فأنت من غير هذا الدين لا تساوي شيئاً، وكل وزنك وقدرك عند الله عز وجل ناشئ عن تشرفك واعتزازك بانتسابك لهذا الدين، فالله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً))، أي: هؤلاء الذين يشتمون دينكم الذي هو سبب عزكم وشرفكم. وقوله: ((هُزُوًا)) أي: شيئاً مستخفاً ((وَلَعِبًا)) سخرية وضحكاً، ومبالغة في الاستخفاف به، حتى لعبوا بعقول أهله، ثم بين المستهزئين وفصل أمرهم، فمن هم هؤلاء الذين يتخذون ديننا هزواً ولعباً؟ قال تعالى: ((مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) أي: اليهود والنصارى ((وَالْكُفَّارَ)) قرئ بالنصب والجر، ويعني بذلك المشركين، ولذلك كانت قراءة ابن مسعود: (ومن الذين أشركوا). ((أَوْلِيَاءَ)) في العون والنصرة، وإنما رتب النهي على وصف اتخاذهم الدين (هزواً ولعباً) تنبيهاً على العلة، وإيذاناً بأن من هذا شأنه جدير بالبغضاء والشنآن والمنابذة، فكيف بالموالاة؟! إنه يستحق أن تبغضه؛ لأنه يسخر من دينك، وأن تبتعد عنه، وأن تجانبه، وأن تنبذه، فكيف تتخذه ولياً وحميماً وصديقاً؟! قال تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) يعني: بترك موالاتهم ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) حقاً؛ فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً) ثم بين استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين، وذلك بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم، فقال عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:58]. قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)) يعني: إذا دعوتم إليها بالأذان. فالأذان ثابتة مشروعيته في القرآن، والدليل هذه الآية: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ))، والصلاة ينادي لها بالأذان. ((اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) وهذا الأمر كان يصدر فيما مضى من الكفار أو اليهود أو النصارى أو المشركين، أما الآن فترى من ينتسبون زوراً إلى الإسلام يسخرون من الصلاة، ويسخرون ممن يصلون، بعبارات الاستهزاء والاستخفاف بالدين ممن ينتسبون زوراً إلى دين الله عز وجل. فقوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)) يعني: دعوتم إليها بالأذان (اتخذوها) يعني: اتخذوا الصلاة أو المناداة ((هُزُوًا وَلَعِبًا)) بأن يستهزئوا بها (ذَلِكَ) أي: ذلك الاتخاذ (بِأَنَّهُمْ) يعني: بسبب أنهم ((قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) أي: لا يعقلون معاني عبادة الله، فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والدين، فالذي ليس عنده عقل يدرك به عظمة هذه العبادة العظيمة يسخر منها ويضحك، ولو كان لهم عقول في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة، فإن الصلاة أكمل القربات، وفي النداء -الأذان- معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته، وباعتبار عدد المغايرة في أسمائه وصفاته، ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد، وفي الصلاة من حيث هي الصلة ما بين العبد وبين الله، ومن حيث إفادتها معاني الدرجات والفلاح في الظاهر والباطن، وما هو غاية مقصدهم من القرب من الله باعتبار عظمته سبحانه، ومن الوصول إلى التوحيد الحقيقي. قال السدي في قوله تعالى: ((وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا)) قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: حرق الكاذب! والعياذ بالله. يعني: حينما يأتي ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: حرق الكاذب. فيدعو بالإحراق -والعياذ بالله- على الكاذب، يعني بذلك محمداً عليه الصلاة والسلام، والعياذ بالله! قال: فدخل خادمه ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. فاستجيبت دعوته؛ لأنه كان يدعو بأن يحرق الكاذب، وقد أحرقه الله؛ لأنه هو الكاذب. وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح، ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال: عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. فـ عتاب يتكلم عن والده بأن إن الله أكرمه بأنه لم يكن موجوداً بحيث يسمع هذا الأذان الذي يؤذيهم، فربما يسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث بن هشام: والله لو أعلم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان: وأنا لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. يقصد أن الوحي يبلغه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد علمتُ الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال لكل منهم: لقد قلت كذا، فقال: الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك. فلم يبق إلا أن الله هو الذي أخبره عن طريق الوحي. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن المحيريب - ابن المحيريب وكان يتيماً في حجر أبي محذورة - قال: قلت لـ أبي محذورة: يا عم! إني خارج إلى الشام، وأخشى أن أسأل عن تأذينك. وقد كان أذان أبي محذورة مشهوراً، فهو يقول: قد يسألني الناس في الشام -بعد ما شاع الإسلام وانتشر- عن صفة تأذين أبي محذورة. قال: فأخبرني أن أبا محذورة قال له: نعم، خرجت في نفر، فكنا ببعض طريق حنين، فقفل -أي: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين- فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكرون، فصرخنا نحكي ونستهزئ به -يعني: كانوا يرددون الأذان سخرية- فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ، فصدقوا، فأرسلهم وحبسني، فقال: قم فأذن. فقمت ولا شيء أكره إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مما يأمرني به، فخضت بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فألقى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين بنفسه، فقال: (قل: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال لي: ارجع فامدد من صوتك، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أَمرَّها على وجهه مرتين، ثم مرتين على يديه، ثم على ثديه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك وبارك عليك. فقلت: يا رسول الله! أمرني بالتأذين بمكة. فقال: قد أمرتك به. فقال أبو محذورة: وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهذه الآية دلت على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، والمقصود هنا في أمر الدين، حيث يقول: تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة:57 - 58]. وللأسف أنه في هذا الزمن سمعنا عمن يسخر من الأذان، وأذكر أن الدكتور: عبد الله عزام رحمه الله تعالى كان يحكي عن أيام المنظمات الفلسطينية أنه كان في معسكرات التدريب يقوم هو والشباب معه إذا حضر وقت الصلاة بالتأذين، فكان يأتي الفلسطينيون الملاحدة الشيوعيون، ويصفون صفاً أمامه، ويسخرون منه وهو يؤذن، ويرفعون صوتهم حتى يغلبوا صوت الأذان ويشوشوا عليه، وينشدون: إن تسل عني فهذه قيمي أنا ماركسي ليني أممي أي: إذا كنت ترفع الصوت بالأذان فهذا هو أذاننا!! وقد دلت هذه الآيات -أيضاً- على أن الاستهزاء بالدين كفر، لقوله تعالى: ((الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ))، فهذا يدل على أن أي فعل من المسلم يصدر منه من كونه يستهزئ بالدين، أو يسخر من الدين أو من أي شيء يمت إلى الدين بصلة فهو كفر وخروج عن ملة الإسلام، وأن الهزل فيه كالجد، سواءٌ أكان استخفافاً بالله، أم برسوله عليه الصلاة والسلام، أم بالملائكة، أم بنبي من الأنبياء، أم بكتاب من الكتب، وكذلك السخرية من حكم شرعي، أو التشنيع على حكم شرعي كأن يقال: هذه وحشية، وهذه قسوة. أو غير ذلك، فالسخرية بأي حكم من أحكام الدين خروج من ملة الإسلام، وهذا لا يعذر فيه بالجهل؛ لأنه لا يجهل أحد تعظيم الله عز وجل، فهل يوجد أحد يجهل أن الله يعظم؟! بل اليهود يعظمون الله، والنصارى يعتقدون تعظيم الله، والمسلمون كذلك، فلا يقبل بحال من شخص جهله بأن الله يجب تعظيمه، فإذا سخر من الله، أو سخر من الدين، أو سخر من الإسلام، أو من حكم شرعي فمثل هذا لا يعذر فيه بالجهل، بل يحكم بكفره، والهزل فيه كالجد، كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، يقول في الإكليل: الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة. وقد دلت الآية -كما سبق ذكره- على أن للصلاة نداءً، وهو الأذان، فهي أصل فيه، قال الزمخشري: قيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. ولما نهى تعالى عن تولي المستهزئين أمر بأن يخاطبوا بأن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء، ويظهر لهم سبب ما ارتكبوا، ويلقبوا الحذر، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَ

المائدة [67 - 81]

تفسير سورة المائدة [67 - 81]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67]. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي: جميع ما أنزل إليك من ربك، ولا تكتم شيئاً منه خوفاً أن تنال بمكروه، يعني: لا تكتم بقصد أن تنجو من المكروه الذي ينالك به خصومك، (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك (فما بلغت رسالته) بالإفراد والجمع، يعني: فما بلغت رسالته، أو فما بلغت رسالاته؛ لأن كتمان بعضها ككتمان كلها. (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أن يقتلوك. وكان صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس! انصرفوا، فقد عصمني الله)، رواه الحاكم والترمذي والبيهقي في الدلائل وغيرهم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفاً له، وهذه من خصائصه صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء والمرسلين. فإن الأنبياء عامتهم قد ناداهم الله تعالى بأسمائهم، فقال (يا نوح) (يا آدم) (يا عيسى ابن مريم) (يا موسى) (يا داود). وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يناد باسمه قط في القرآن الكريم، وإنما نودي بصفاته، كما في قوله تعالى هنا: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ))، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، وهكذا {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، ولم يأت في القرآن قط (يا محمد) فهذا نداء له عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذاناً بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ. يعني: ما دمت رسولاً فيجب عليك أن تبلغ الرسالة التي كلفت بأن تبلغها. وقوله تعالى: (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني: مما يفصل مساوئ الكفار، ومن قتالهم، والدعوة إلى الإسلام، غير مراقب في التبليغ أحداً، ولا خائف أن ينالك مكروه (وإن لم تفعل) أي: ما تؤمر به من تبليغ الجميع والبيان لبعض مساوئهم (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) يعني: كأنك ما بلغت شيئاً مما أرسلت به؛ لأن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، فإن لم تبلغ أو لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعها، وكما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها فكذلك إن كتم الرسول عليه الصلاة والسلام شيئاً يسيراً من الرسالة فكأنه كتمها كلها. (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) هذا وعد من الله سبحانه وتعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة، وهذا باعث له على الجد فيما أمر به من التبليغ، وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم. (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) هذا التذييل في الآية مسوق مساق التعليل لعصمته، يعني: إن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس أن ينالوك بمكروه؛ لأن الله لا يهدي القوم الكافرين. أي أن الله سبحانه وتعالى لا يهديهم إلى طريق الإساءة إليك، فلن يهديهم إلى الطريق التي يسوءونك بها، فما عذرك في مراقبتهم والله سبحانه وتعالى سوف يضلهم ويثنيهم ويبعدهم عن أن ينالوك بسوء، فلن يهديهم إلى ما يسوؤك؟! فلا تراقبهم في تبليغ الرسالة.

الأدلة الواردة في بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ التام

الأدلة الواردة في بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ التام هنا بعض التنبيهات: أولها: أنه لا خفاء في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ التام، وقام به أتم القيام، وثبت في الشدائد وهو مطلوب، وصبر على البأساء والضراء وهو مكروب محروب، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهز الصياصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته، وأحدقوا بجنباته، وصار بإتقانه في الأعداء محذوراً، وبالرعب منه منصوراً، حتى أصبح سراج الدين وهاجاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لـ مسروق: (من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)). وفي الصحيحين عنها -أيضاً- أنها قالت: (لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]). وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحب وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر) يعني أن هذه كانت مدونة ومكتوبة، وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحواً من أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله قال في خطبته يومئذ في حجة الوداع: (يا أيها الناس! إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟، وذلك كما قال تعالى:)، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] فهذه الأمة سوف تسأل: هل أبلغكم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه؟ فيقول عليه الصلاة والسلام: (إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع يده إلى السماء وينكسها إليهم، ويقول: اللهم! هل بلغت؟). وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (يا أيها الناس! أي يوم هذا؟! قالوا: يوم حرام. قال: أي بلد هذا؟! قالوا: بلد حرام. قال: فأي شهر هذا؟! قالوا: شهر حرام. قال: فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. ثم أعادها مراراً، ثم رفع إصبعيه إلى السماء، فقال: اللهم! هل بلغت؟ مراراً) قال ابن عباس: والله إنها لوصية إلى ربه عز وجل. ثم قال: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا رواه البخاري. وقد تضمن قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) معجزة كبرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الآية الشريفة هي من معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال الإمام الماوردي في كتابه (أعلام النبوة) في الباب الثامن في معجزة عصمته صلى الله عليه وسلم، قال: أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن، واستغنائه عما سواه من البرهان، ما جعله زيادة استبصار، يحتج بها من قلت فطنته، ويذعن لها من ضعفت بصيرته، ليكون إعجاز القرآن مدركاً بالخواطر الثاقبة تفكراً واستدلالاً، وإعجاز العيان معلوماً ببداية الحواس احتياطاً واستظهاراً. يعني أن القرآن الكريم نَوَّع طرق الدلالة على إعجازه، وذلك لاختلاف فهوم الناس ومستوياتهم العلمية والفكرية، وقدراتهم العقلية، فبعض الناس عندهم من القدرات العقلية والثقافة العقلية ما يمكنهم من التدبر في آيات القرآن والتفهم، بحيث يدركون أنه لا يمكن أن يكون له مصدر إلا الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يخاطبون بأمور أخرى هي -أيضاً- تدل على الإعجاز، لكن بطريقة يدركها الذي تضعف فطنته وقدرته، كهذا الوعد بأن الله سبحانه وتعالى يحفظ نبيه عليه الصلاة والسلام من أن يقتله أحد بقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس)، فهذه الآية يستوي الجميع في فهمها، بخلاف ما تحتوي عليه من الدلالات على إعجاز القرآن مما يستعصي على عوام الناس أو صفار العقول، ولا يدركه إلا ذوو الفطنة والذكاء العالي. فيقول هنا: فيكون البليد مقهوراً بوهمه وعيه، واللبيب محجوزاً بفهمه وبيانه؛ لأن لكل فريق من الناس طريقاً هي عليهم أقرب ولهم أجذب، فكان ما جمع مقياد الفرق أوضح سبيلاً وأعم دليلاً، فمن معجزاته عصمته من أعدائه، مع أن هؤلاء الأعداء كانوا جماً غفيراً وعدداً كثيراً، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلباً لنفيه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شذراً، وترتد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً. يعني أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام كان في حالة خطيرة، وأعداء كثيرون جداً محيطون به من كل جانب، والعداوة أشد ما تكون في قلوبهم، ونار الغيظ والحقد والحرص على إيذائه على أشد ما تكون، وهو مع ذلك بينهم مسترسل متحرك يروح ويجيء ويبلغهم، وأصحابه من شدة الاضطهاد الذي تعرضوا له هاجروا، وبقي هو فيهم عليه الصلاة والسلام مع نفر من أصحابه حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً لم يكلم في نفس ولا جسد صلى الله عليه وسلم، وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها، حيث يقول: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) فعصمه منهم.

قصص من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيان عصمة الله له وحفظه

قصص من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيان عصمة الله له وحفظه والمفسرون في هذا الموضع يذكرون قصصاً كثيرة جداً، كلها تؤكد هذا المعنى، ونقتصر على بعض منها:

محاولة أبي جهل قتل النبي صلى الله عليه وسلم

محاولة أبي جهل قتل النبي صلى الله عليه وسلم قال الماوردي: إن قريشاً اجتمعت في دار الندوة، وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة وكان زعيم القوم، وساعده عبد الله بن الزبعرى، وكان شاعر القوم، فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: الموت خير لكم من الحياة. فقال بعضهم: كيف نصنع؟ فقال أبو جهل: هل محمد إلا رجل واحد؟! وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش؟! فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمداً ويريح قومه. وأطرق ملياً، فقالوا: من فعل هذا ساد. فقال أبو جهل: ما محمد بأقوى من رجل منا، وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر، فإن قتلت أرحت قومي، وإن بقيت فذاك الذي أوثر. فخرجوا على ذلك، فلما اجتمعوا في الحطيم -والحطيم هو المثلث المتصل بين الركن اليماني- الذي فيه الحجر الأسود -وبئر زمزم ومقام إبراهيم عليه السلام، وسمي الحطيم لأن من حلف فيه كاذباً فإن الله يحطمه ويهلكه -فلما اجتمعوا في الحطيم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد جاء. فتقدم من الركن، فقام يصلي عليه الصلاة والسلام، فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود، فقال أبو جهل: فإني أقوم فأريحكم منه. فأخذ مهراساً عظيماً، ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، لا يلتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يهابه وهو يراه، فاقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول يراه، ومع ذلك لم يلتفت إليه، وظل في صلاته، فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله، أي: لما اقترب من الرسول عليه الصلاة والسلام ارتعش الكافر وسقط الحجر من بين يديه على رجله، فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد، وقد انتفخت أوداجه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، فقال أبو جهل لأصحابه: خذوني إليكم. فالتزموه، وقد غشي عليه ساعة، فلما أفاق قال له أصحابه: ما الذي أصابك؟ قال: لما دنوت منه أقبل عليّ من رأسه فحل فاغر فاه، فحمل عليّ أسنانه فلم أتمالك، وإني أرى محمداً محجوباً. فقال له بعض أصحابه: يا أبا الحكم! رغبت وأحببت الحياة ورجعت. يعني: أنت تحتج وتقول: إنه ظهر لك هذا الفحل فاغراً فاه، وحمل عليك بأسنانه، وإنما أحببت الحياة ورجعت خوفاً من أن تموت. فقال: ما تغروني عن نفسي. قال النضر بن الحارث: فإن رجع غداً فأنا له. قالوا له: يا أبا سهل! لئن فعلت هذا لتفوزن. فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه، فأخذ حفنة من تراب وقال: (شاهت الوجوه. وقال: حم لا ينصرون) فتفرقوا عنه، يقول: وهذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى، فصبر عليه حتى وفاه الله، وكان من أقوى الشهادات على صدقه. وحصل نفس الموقف مع معمر بن يزيد وكلدة بن أسد، كما ذكر المفسرون.

محاولة كلدة بن أسد قتل النبي صلى الله عليه وسلم

محاولة كلدة بن أسد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن كلدة بن أسد -وكان من القوة بمكان- خاطر قريشاً يوماً في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال، فجاء كلدة ومعه المزراق، فرجع المزراق في صدره، فرجع فزعاً، فقالت له قريش: مالك يا أبا الأشد؟ فقال: ويحكم! ما ترون الفحل خلفي؟! قالوا: ما نرى شيئاً. قال: ويحكم! فإني أراه. فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف، والطائف بينها وبين مكة خمسون كيلو متر تقريباً. ومعروف أن الطائف على هضبة مرتفعة، فصعد الجبل أيضاً، فاستهزأت به ثقيف، فقال: أنا أعذركم، فلو رأيتم ما رأيت لهلكتم.

محاولة أبي لهب قتل النبي صلى الله عليه وسلم

محاولة أبي لهب قتل النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أن أبا لهب خرج يوماً وقد اجتمعت قريش، فقالوا له: يا أبا عتبة! إنك سيدنا، وأنت أولى بمحمد منا، وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه، ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئاً، وأنت بريء من دمه، سنؤدي نحن الدية وتسود قومك، فقال: فإني أكفيكم. ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم، فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفاً عليه نزل أبو لهب وهو يصلي، وتسلقت امرأته أم جميل الحائط حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه، وبقيا مكانهما لا ينقلان قدماً ولا يقدران على فعل شيء حتى طلع الصبح، فتسمرا في مكانهما هو وامرأته، ولم يستطيعا حراكاً إلى أن طلع الصبح وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو لهب: يا محمد! أطلق عنا. فقال: ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني؟ قالا: قد فعلنا. فدعا ربه فرجعا.

مساومة عتبة بن ربيعة للنبي صلى الله عليه وسلم على ترك دينه

مساومة عتبة بن ربيعة للنبي صلى الله عليه وسلم على ترك دينه وذكر أن قريشاً اجتمعوا في الحطيم، فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال: إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا، وفرق جماعتنا، وبدد شملنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا. وكان في القوم وليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، والنضر بن الحارث، ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأمية، وأبي ابنا خلف، في جماعة من صناديد قريش، فقالوا له: قل ما شئت فإنا نطيعك. قال: سأقوم فأكلمه، فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه وإلا رأينا فيه رأينا. فقالوا له: شأنك يا أبا عبد شمس! فقام وتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده، فقال: أنعم صباحاً يا محمد. فقال: يا أبا عبد شمس! إن الله قد أبدلنا بهذا السلام تحية أهل الجنة. قال: يا ابن أخي! إني قد جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها، ولنا فيها الفسحة، ثم قال: يا ابن عبد المطلب! أنا زعيم قريش فيما قالت. قال: قل. قال: يا ابن عبد المطلب! إنك دعوت العرب إلى أمر لا يعرفونه، فاقبل مني ما أقول لك، قال: قل. قال: إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكاً فإننا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك، فارض عن ذلك. فسكت، ثم قال: وإن كان ما تدعو إليه أمراً تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك. فقال: (لا قوة إلا بالله)، ثم قال له: وإن كان ما تتكلم به تريد مالاً أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش، فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا، وإن كان ما تدعو إليه جنوناً داويناك كما داوت قيس بني ثعلبة مجنونهم. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! ما تقول؟ وبم أرجع إلى قريش؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ({حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4] حتى بلغ إلى قوله: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13])، قال عتبة: فلما تكلم بهذا الكلام فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من ارتعادها. وقام فزعاً يجر رداءه، فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور، وقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقالت قريش: لقد ذهبت من عندنا نشيطاً ورجعت فزعاً مرعوباً، فما وراءك؟! قال: ويحكم! دعوني، إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئاً، ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي، وقلت: الصاعقة قد أخذتني. فندموا على ذلك.

قصة سراقة في طريق الهجرة

قصة سراقة في طريق الهجرة كذلك من عصمته صلى الله عليه وسلم ما حصل في طريق الهجرة حين دخل هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه غار ثور. وكذلك ما حصل حينما لقيهما سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من جملة من توجه لطلبه، فقال له أبو بكر: هذا سراقة قد قرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اكفنا سراقة)، فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فقال سراقة: يا محمد! ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أرد من جاء يطلبك، ولا أعين عليك أبداً. فقال: (اللهم إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه) فأطلق الله عنه، ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه. ومعلوم أنه -كما في بعض الروايات- حينما حصل ذلك لـ سراقة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا سراقة! كيف لك بسواري كسرى؟!). فاستغرب سراقة جداً، فكيف وهو يطارده الآن ويريد أن يقبل عليه حتى ينال الجائزة يعده الرسول عليه الصلاة والسلام بسواري كسرى؟! وعندما أسلم سراقة بعد ذلك خرج في الفتوحات الإسلامية في فارس، وكان في الجيش الذي استولى على قصور كسرى، وأتي عمر رضي الله تعالى عنه بسواري كسرى، ثم ألبسها سراقة في يده، وحينئذ تذكر سراقة هذا الوعد الذي وعده النبي صلى الله عليه وسلم.

المشرك يخترط سيف رسول الله فيمنعه الله منه

المشرك يخترط سيف رسول الله فيمنعه الله منه يقول الحافظ ابن كثير: ومن عصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضاء، ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب؛ إذ كان رئيساً كبيراً مطاعاً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار، فبايعوه على الإسلام وعلى أن يحتمل إلى دارهم، وهي المدينة، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود، كل ما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله به وحماه منهم، ولهذا قصص كثيرة يطول ذكرها. منها: ما رواه ابن جرير بسنده: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه، ثم قال: من يمنعك مني؟ فقال: الله عز وجل. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماؤه، فأنزل الله عز وجل: ((وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)). وفي قصة أخرى: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس على رأس بئر قد دلى رجليه قال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمداً. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟! قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه فقال: يا محمد! أعطني سيفك أشيمه. فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حال الله بينك وبين ما تريد). ومن ذلك ما رواه الشيخان من حديث جابر: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه -أي: الأشواك- فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلق بها سيفه ونمنا معه نوماً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً -يعني: شاهراً السيف- فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله -ثلاثاً- ولم يعاقبه، وجلس) والروايات في ذلك كثيرة جداً.

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة)

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة) قال تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يعني: لستم على شيء من الدين معتد به؛ لأن الدين عند الله الإسلام. فالدين الذي يعتد به عند الله هو الإسلام: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، ولذلك فمعنى (لستم على شيء) لستم على شيء من الدين معتد به. (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني: بأن تعملوا بما فيه ومنه الإيمان به، والمقصود هنا التوراة والإنجيل الحقيقيين الذين أنزلهما الله على موسى وعيسى قبل أن يحرفهما أهل الكتاب. (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني: من القرآن (طُغْيَانًا وَكُفْرًا) لكفرهم به، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، فكلما نزلت الآيات يزداد فريق إيماناً وفريق يزداد كفراً؛ لأنهم كلما كفروا بآية جديدة أو بسورة جديدة ازدادوا كفراً؛ لأن الكفر يزيد وينقص، وبعضه أشد من بعض، كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فكذلك هنا، فكلما نزل شيء من القرآن زادوا كفراً وطغياناً. (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أي: لا تحزن على القوم الكافرين إن لم يؤمنوا بك. أي: لا تهتم بهم. يقول القاسمي: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) يعني: من الدين (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) أي: تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فالإقامة: هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه، كإقامة الصلاة مثلاً، ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها، فإنها ليست عملية، والأمر هنا في القضايا العملية. والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علته، وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة، فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفاً، وأكثر التحريف وقع في القصص والأخبار والعقائد وما تلاها. وعلى أي الأحوال فهذا الكلام فيه نظر، والصحيح أن الآية ((لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل)) تعني الحقيقيين، وهذا يستلزم بالنسبة لليهود والنصارى الذين كانوا أحياء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن فيه حثاً لهم على التمحيص والتحري والتنقيب والبحث والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم من هذه الكتب نقداً عقلياً تاريخياً صحيحاً، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان، ولا سيما في ذلك العناء كله أن يكونوا على شيء من الدين الحق، ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا، لكنهم لا يزيدهم القرآن إلا طغياناً وكفراً وحسداً وعناداً، فلا يؤمنون به. ولا يمكن أن يفهم أنهم إذا أقاموا التوراة سيكونون على الدين الحق، لا، بل سوف يكونون على شيء من الدين بعد التحري والتنقيب، فالذي يكون على شيء من الدين صحيح أفضل وأولى ممن لا يكون على شيء من الدين، لكن في الحالتين هو ليس على الدين الحق الكامل؛ لأنه لا يتم له ذلك حتى يدخل في الإسلام، كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83]، ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل آمنوا بمحمد صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن النصوص الموجودة حتى الآن في التوراة والإنجيل واضحة وضوحاً كثيراً في الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69]. يقول تبارك وتعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا)) ثم ابتدأ كلاماً جديداً فقال: ((والصابئون)) فالصابئون رفع على الابتداء، وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيز ((إن)) من اسمها وخبرها، فكأنه قيل: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى)) حكمهم كذا، والصابئون كذلك حكمهم كذا. هذا هو معنى الآية. فـ (الصابئون) مبتدأ، أما خبره فمحذوف، والمقصود من رفع كلمة (الصابئون) تأخيرها عما في حيز الخبر. فيكون خلاصة الكلام: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا َالنَّصَارَى) حكمهم كذا (والصابئون) كذلك، وأنشد سيبويه شاهداً له: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق أي: وإلا فاعلموا أنا بغاة، وأنتم كذلك. فكلمة (أنتم) مرفوعة هنا على الابتداء، أي: وأنتم بغاة كذلك. ثم قال الزمخشري: فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلا لفائدة، فما فائدة التقديم؟! أي: لماذا قدمت كلمة (الصابئون)؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يثاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فما الظن بغيرهم؟ فإذا كان الصابئون إذا تابوا تقبل توبتهم فكيف بغيرهم ممن هو أقل منهم كفراً؟! وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها، أي: خرجوا. فهذا باختصار فيما يتعلق بإعراب (والصابئون) فـ (الصابئون) هنا استئناف مبتدأ، وليس معطوفاً على ما قبله، وفي آية سورة البقرة جاءت هذه اللفظة معطوفة، حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:62] فهي هنا معطوفة، أما في هذه الآية في سورة المائدة ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى)) فهي مرفوعة على الابتداء، وفي هذا رد على بعض الجهلة من القساوسة الذين تشدقوا بأنه منذ زمن ارتكب خطأ نحوي في القرآن الكريم، وألف بعضهم في ذلك وظن أنه وقع على شيء له قيمة، وما درى الخبيث أن قواعد النحو هذه ما وضعت إلا بعد القرآن الكريم بسنين، ومنذ مدة طويلة، فالنحو ما وضعت قواعده وما ضبط إلا بعد نزول القرآن بسنوات مديدة، فكيف يتحكم بهذه القواعد في القرآن الكريم؟! ثم إن هذا القرآن تلي على أفصح الفصحاء وهم قريش الذين كانوا يناصبون رسول الله صلى الله عليه وسلم العداء، ولم يكونوا يبخلون بأي شيء من الطعن فيه وفي رسالته وفي كتابه، فإذا كان فصحاء قريش وبلغاؤهم ما أخذ واحد منهم ما أخذه هذا القسيس فكيف تستقيم له هذه الدعوى؟!

تفسير قوله تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) يقول تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة:70]. قوله تعالى: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) يعني: على الإيمان بالله ورسله. (وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ) أي: رسول منهم؛ لأن الرسل تبعث في قومها. ((بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ)) يعني: من الحق (فَرِيقًا كَذَّبُوا) يعني: فريقاً منهم كذبوه (وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) وفريقاً من الرسل يقتلون، كزكريا ويحيى. والتعبير بكلمة (يقتلون) دون قتلوا حكاية للحال الماضية، ومراعاة للفاصلة، أي: رءوس الآي.

تفسير قوله تعالى: (وحسبوا ألا تكون فتنة)

تفسير قوله تعالى: (وحسبوا ألا تكون فتنة) قال تبارك وتعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة:71]. قوله تعالى: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) حسبوا أي: ظنوا (أن لا تكون) ويمكن أن تقرأ (أن لا تكونُ) و (أن لا تكونَ)، فعلى الرفع تكون (أن) مخففة، وعلى النصب تكون ناصبة، والمعنى: خافوا (أن لا تكون فتنة) يعني: عذاب لهم على تكذيب الرسل وقتلهم. (فَعَمُوا) يعني: عموا عن الحق فلم يبصروه (وَصَمُّوا) أي: عن استماعه (ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) لما تابوا (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ثانية (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) وهذا بدل من الضمير (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) يعني: فيجازيهم تبارك وتعالى به. ويلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا)) فأضاف العمى والصمم إليهم، أما التوبة فلم يضفها إليهم، ففيه دلالة على أنهم لا يستحقون أن يضاف الخير إليهم، فقال عز وجل: ((ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) لم يقل: (ثم تابوا) وإنما قال: ((ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)) يعني: بما عملوا.

تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)

تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. بين تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام من التوحيد الخالص، فبعدما ذكر فيما مضى قبائح اليهود شرع في ذكر قبائح النصارى، فقال تبارك وتعالى: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)). وقد سبق مثله في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:171]. فقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) يعني: فإني عبد ولست بإله، وقال لهم أيضاً: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. فقوله: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ) يعني: في العبادة غيره (فقد حرم الله عليه الجنة) يعني: منعه أن يدخلها. (وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) يعني: يمنعونهم من عذاب الله.

تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)

تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]. يعني: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث آلهة ثلاثة، أو (ثالث ثلاثة) معناه أنه واحد منها، فهو -بزعمهم- واحد من ثلاثة آلهة، والآخران عيسى وأمه، وهذا قول فرقة من النصارى على اختلاف مذاهبهم، ومنهم من يقول: إن الثلاثة هم الأب والابن وروح القدس إلى غير ذلك من كفرهم وضلالهم. يقول تعالى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) يعني: من التأليه، وإن لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي: الذين ثبتوا على الكفر ولم يرجعوا عنه (عذاب أليم) أي: مؤلم، وهو النار.

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه)

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) قال تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]. قوله تعالى: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) يعني: مما قالوا. وهذا استفهام وتوبيخ (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: غفور لمن تاب رحيم به. وهذا فيه فضيلة عظيمة جداً للتوبة، وأن باب التوبة مفتوح مهما اكتسب الإنسان من المعاصي والكبائر والمخالفات؛ لأنه إذا كان هؤلاء الذين شتموا الله وسبوا الله وزعموا أن الله ثالث ثلاثة وقالوا غير ذلك من الكفر والشرك، ومع ذلك يفتح لهم باب التوبة على مصراعيه، ويقول لهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فإذا كان هؤلاء المشركون -مع كفرهم وسبهم لله وشتمهم له- يتوب الله تعالى عليهم إن تابوا إليه، فكيف بمن دونهم من أهل التوحيد ممن غشي الكبائر والذنوب؟! ففي هذه الآية تطميع لأهل التوحيد في التوبة مما هو أقل من كفر هؤلاء الكافرين. وقال -أيضاً- في حق المشركين: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38].

تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)

تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) قال عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]. قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) أي: مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) عاشوا ثم ماتوا ومضوا، فكذلك هو أيضاً أدى رسالته ثم مضى، فهو يمضي مثلهم، وليس بإله كما زعموا، وإلا لما مضى؛ فإن الإله لا يغيب ولا يمضي، فهذا فيما يتعلق بالمسيح عليه السلام. (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) هذه مبالغة، يعني: مبالغة في الصدق (كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) يعني: كغيرهما من الحيوانات، وهذا الكلام للسيوطي، والأفضل أن يقول: كغيرهما من الكائنات الحية التي تتغذى من الطعام. ومن كان كذلك لا يكون إلهاً لتركيبه وضعفه، فإذا كان المخلوق يريد أن يأكل ويشرب فمعنى ذلك أنه محتاج إلى الطعام، فإذا جاع يتألم، ويحتاج إلى أن يأكل، وإذا أكل لا يستطيع أن يستبقي فضلات الطعام داخل جسمه، فيحتاج إلى الإخراج، فهل الذي يحتاج إلى هذا يكون إلهاً؟! فلذلك يقول تبارك وتعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) فمن كان كذلك لا يكون إلهاً لتركيبه وضعفه، فهو مركب من أجزاء، مركب من رأس ومعدة وأمعاء وغير ذلك، فالإله ينزه عن التركيب في ذاته، وينزه عن التركيب في شخص ما أنه يكون واحداً لا متعدداً، والواحد نفسه غير مركب من أجزاء؛ لأن التركيب من أجزاء يقتضي الافتقار. (انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ) أي: انظر متعجباً كيف نبين لهم الآيات على وحدانيتنا (ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) يعني: كيف يصرفون عن الحق مع قيام البرهان؟!

تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا)

تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) قال عز وجل: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]. قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله) أي: غيره (ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) يعني: لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بأحوالكم. والاستفهام هنا للإنكار.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح) وما بعدها

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح) وما بعدها يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72]. قال الرازي: هذا قول اليعقوبية منهم، يقولون: إن مريم ولدت إلهاً. ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بها. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! ثم بين تعالى أنهم صموا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد كما وصفهم في الآيات السابقة ((ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا))، فعموا وصموا عن الآيات التي دعاهم عيسى من خلالها إلى توحيد الله تبارك وتعالى، فيقول عز وجل: ((وَقَالَ الْمَسِيحُ)) يعني أن هذا المسيح بريء من هذا الكلام كله، فالمسيح ما دعا إلى عبادته، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ))، فهو نص واضح وصريح في حكم من قال بهذه المقالة، فلا يبقى بعد ذلك أدنى شك، فمن قال: إن النصارى مؤمنون أو موحدون، أو: إنهم من أهل الجنة فقد خرج من الإسلام بالكلية، وهذه ردة عن دين الله؛ لأن هذا القول فيه تكذيب لهذه الآيات الصريحة والقاطعة من القرآن الكريم، فلا يصح أبداً للإنسان الانتساب إلى الإسلام إذا كان يزعم أن النصارى في الجنة مع كفرهم ومع قولهم: ((إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)) أو غير ذلك من مقولاتهم الشركية. فهذا لا جدال فيه ولا مراء، وإن كان هذا بدأ يبدو غريباً عند بعض الأصناف التي أوغلت في الجهل وفي المعاندة لدين الله تبارك وتعالى، فهم يصفون النصارى مع المسلمين على أنهم أهل الإيمان، وبعضهم يقول: أديان التوحيد الثلاثة. حتى إن كبير القوم يشعر بأن عقيدته عورة -أي: عقيدة التثليث-، فلذلك يشعر بالانهزام أمام توحيد المسلمين، فإذا خطب على الملأ في المواكب وحفلات النفاق المعروفة يرى أن هذه موضة جديدة الآن، فيستحيي ويخجل من أن يقول: باسم كذا وكذا وكذا من الثلاثة الآلهة المزعومة عندهم، وإنما يقول الآن: باسم الإله الواحد الذي نعبده جميعاً، فهذا اعتراف منه بأن عقيدته عورة، وهو يحاول أن ينكرها بقوله: باسم الإله الواحد الذي نعبده جميعاً. حتى يوهم بعض السذج من المسلمين فيقولون: هؤلاء الناس موحدون مثلنا. فها هو يقول: باسم الله الواحد الذي نعبده جميعاً وهم يعبدون عبداً من عباد الله، يعبدون المسيح عليه السلام، أما نحن فنعبد الله عز وجل. يقول تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ} [المائدة:72] وهذه هي دعوة المسيح عليه السلام ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ))، بل إن أول كلمة نطق بها المسيح عليه السلام عندما نطق في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] إلى آخر الآية. وقبل أن يقول: (ربكم) قال: (ربي)، ولم يقل: اعبدوني. وإنما قال: (اعبدوا الله)، ومعنى: (اعبدوا الله): وحدوه. ثم صرح بقوله: (ربي وربكم) قمعاً لمادة توهم الاتحاد، يعني: هو ربي وهو ربكم فهذا استئصال لوهم أن هناك اتحاداً بين المسيح وبين الله عز وجل. والمسيح قال لهم أيضاً: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ))، فكيف والشرك أعظم وجوه الظلم؟ ((وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) أي: ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة، فليس للكافرين أو للظالمين أنصار يغالبون الله سبحانه وتعالى، أو يغلبون الملائكة حتى ينقذوا هؤلاء من النار، ولا يستطيعون -أيضاً- نصرهم عن طريق الشفاعة، في أن يشفعوا لهم عند الله كي يخرجونهم من النار.

تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)

تفسير قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) ثم بين تعالى كفر طائفة أخرى منهم فقال عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) أي: أحد ثلاثة آلهة. بمعنى أنه واحد منها، وهم: الله، ومريم، وعيسى. قال بعضهم: كانت فرقة منهم تسمى اليعقوبية تقول: الآلهة ثلاثة: الأب، والابن، ومريم. وجاء في كتاب (علم اليقين) أن فرقة منهم تسمى المريميين يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان، قال: وكذلك البربراميون وغيرهم، فهذا القول محكي عن فرق من فرقهم. وأيضاً كان من نصارى نجران من يقول بهذا، أن مريم من الآلهة الثلاث. أو المعنى: أحد ثلاثة أقانيم، كما اشتهر عنهم، فهو عندهم واحد من ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة أقانيم، أي أنهم جوهر واحد وهم ثلاثة أقانيم، أي: الأب والابن وروح القدس كما زعموا. وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد، كما تقدم عنهم في قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء:171]. قال الرازي رحمه الله: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحداً، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى. وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا، وهي شهيرة متداولة، والحمد لله. ثم يقول تعالى: ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ)) يعني: في نص الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)) لا يتعدد أفراداً ولا أجزاءً. ((وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ)) يعني: من هذا الافتراء والكذب بعد ظهور الدلالة القطعية متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماته ((لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) يعني: في الآخرة من عذاب الحريق والأغلال والنكال. ولم يقل تبارك وتعالى: (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنهم عذاب أليم) لم يقل ذلك، وإنما قال: (ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة، وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر بقوله: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا)) ثم هنا -أيضاً- كرر هذه الشهادة عليهم بأنهم كفار، فقال عز وجل: ((وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)). وفي البيان فائدة أخرى، وهي الإعلام في تفسير الذين كفروا منهم أنهم بمكان من الكفر.

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه)

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه) يقول تعالى: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ)) يعني: يتوبون بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول، فيرجعون عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده، ففيه تعجب من إصرارهم على هذه المقالات الفاسدة مع وضوح بطلانها. ومدار الإنكار والتعجب عدم الانتهاء والتوبة معاً، فلا هم يريدون أن ينتهوا عما يقولون، ولا يريدون أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، أو أن المقصود: ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المقررة عليهم بالكفر، وبعد هذا الوعيد الشديد مما هم عليه؟! يقول الحافظ ابن كثير: وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب الله عليه، كما قال عز وجل: ((وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، فيغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم، {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمه على إلهيتهما؛ لأن المساكين من النصارى أو عديمي العقول من النصارى يستدلون بمعجزات المسيح عليه السلام ويستدلون بكرامات أمه مريم عليها السلام على هذه الألوهية المزعومة، فأشار عز وجل هنا إلى بطلان تمسكهم بمعجزات عيسى وكرامات أمه على إلهيتهما؛ لأن غاية ما في الأمر حينما تجري هذه المعجزات على يد المسيح عليه السلام أنه يدل على نبوته، وهو ليس بدعاً من الرسل، وإنما هو كمن سبقه من إخوانه الأنبياء الذين أتوا بمعجزات أجراها الله على أيديهم لتدل على صدق دعواهم الرسالة، فهذا غاية ما يدل عليه جريان المعجزات على يد المسيح عليه السلام، كذلك مريم إذا وقعت لها كرامات فقد وقعت كرامات لمن سبقها من أولياء الله كما هو معلوم. فهنا المقصود من هذا السياق استنزالهم عن الإصرار على ما تقولوا عليهما، يريد القرآن أن يستنزلهم وينتزعهم من إصرارهم على هذا الباطل إرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار التي دعاهم إليها الله سبحانه وتعالى، فبعد ما قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74] شرع عز وجل في استنزالهم وإنقاذهم من هذا الكفر المبين.

تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)

تفسير قوله تعالى: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]. قول تعالى: (ما المسيح) يعني: ليس المسيح المعلوم كونه حادثاً مخلوقاً. ونلاحظ القرآن الكريم أنه يوصف المسيح بأنه ابن مريم في سياق الرد على النصارى، لأنه ليس له أب عليه السلام، وهذا ليس فيه شيء، فليس هو مستغرباً في قدرة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى نوع مظاهر قدرته العظيمة، فخلق آدم بلا رجل وبلا امرأة، وخلق حواء من رجل بلا امرأة؛ لأنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام، وخلق المسيح من امرأة بلا رجل، وخلق سائر البشر من رجل وامرأة، فهذا فيه بيان تنوع قدرة الله سبحانه وتعالى على الخلق، فهو آية من آيات الله سبحانه وتعالى، فمن أعجز في خلقه: المسيح أم آدم عليها السلام؟! فآدم خلق من تراب، لا من رجل ولا من امرأة، كما حكى الله عز وجل في القرآن الكريم: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. فهنا يقول الله عز وجل: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)) يعني: ما المسيح الذي هو ابن مريم. ومعنى (ابن مريم) أنه حادث ومخلوق، ولا يصلح أن يكون خالقاً. فقوله: ((مَا الْمَسِيحُ)) أي: المعلوم حدوثه من كونه ابن مريم بالخوارق الظاهرة على يديه: {إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي: مضت من قبله الرسل الذين كانوا أصحاب الخوارق الباهرة، فله أسوة أمثاله، فإذا كان أجرى الله سبحانه وتعالى بعض المعجزات على يديه فقد أجراها على يدي موسى، وأجرى كثيراً من المعجزات والآيات على يدي موسى، وعلى يدي إبراهيم عليه السلام وغيرهما من الأنبياء والرسل، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59] أنعم الله عليه بأن أجرى على يديه هذه المعجزات، أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها، فإذا كان قد أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى، وفلق بها البحر على يد موسى وهو أعجب، وإن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب ولا أم، وهو أغرب منه. وفي الآية وجه آخر في قوله تعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) يعني: مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم، فمعنى ذلك أنه حادث ومتصف بما ينافي صفات الألوهية. ((وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)) مبالغة في الصدق، ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12]. والوصف بتحري الصدق والمبالغة فيه مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراتبها، فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟! فإذا كانت كلمة (الصديقة) تعبير عن المبالغة في عبوديتها لله فأنى لهؤلاء أن يزعموا أنها إله؟! دلت الآيات على أن مريم عليها السلام ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لـ سارة ومريم، وبقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]. وقد حكى الأشعري رضي الله عنه الإجماع على ذلك. قوله تعالى: ((كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء، فكل منهما إنسان يأكل؛ لأنه يحتاج إلى الطعام، ويعاني من الجوع والعطش فيحتاج إلى الطعام، وفيه تبعيد عمَّا نسب إليهما. قال الزمخشري: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام. فكل هذه الأجهزة في الجسم لها وظائف، فمن الذي يجري هذه الوظائف على الحقيقة في بدن الإنسان؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فوجود هذه الأجهزة معناه أنه إنسان مدَّبر، وهناك غيره يدبره، وهو الله سبحانه وتعالى، فأنى يكون من هذا حاله إلهاً كما يزعمون؟! ويقول القاسمي هنا: إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى حاجتهما للطعام عمَّا قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام ترقياً في باب الاستدلال من الجلي للأجلى. يعني: هذا الدليل جعل في آخر الأدلة على إبطال مذهب النصارى لعنهم الله، وهذا من باب الترقي في الاستدلال من الجلي إلى ما هو أجلى وأوضح، على ما هو موجود في القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، فالإنسان إذا كان يناظر خصماً فإنه يعطي برهاناً جلياً، فإذا لم ينقد للبرهان الجلي الواضح البين فإنك تعطيه ما هو أجلى وأوضح، وفي هذا تعريض بغباوته بأنه غبي لا يفهم، فلذلك تأتي بأشياء من أوضح ما تكون، فالترقي هو من مسالك المناظرة. يقول: ترقياً في باب الاستدلال من الجلي للأجلى. فالجلي الذي مضى سالفاً هو قوله تعالى: ((مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)) وهذا دليل في حد ذاته، فإن عيسى بن مريم مركب؛ لأنه حادث ومخلوق، وهو ينسب لأمه مريم عليهما السلام، فما هو إلا رسول قد خلت ومضت من قبله الرسل، فإذا كان يمضي فمعناه أنه مدبر، ومعناه أنه يجري عليه ما يجري على البشر، فليس إلهاً. ثم أتى بعد ذلك بقوله: ((وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ)) يقول: على ما هي القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلم في الجلي لغموضه عليه يورد له الأجلى تعريضاً بغباوته، فيضطر للتسليم إن لم يكن معانداً ولا مكابراً، كما وقع في مناظرة إبراهيم عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، فمثل الكافر بشيء في غاية الضعف فقال: (قال أنا أحيي وأميت) فإبراهيم عليه السلام لم ينتقد هذا الاستدلال عنده، ولكنه انتقل إلى ما هو أجلى وأوضح فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]. قوله تعالى: ((انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ)) يدعو الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يتعجب من غباوة القول (انظر كيف نبين لهم الآيات)، انظر إلى كل هذه الآيات السابقة! انظر كيف نبين لهم الآيات والأدلة على الوحدانية وعلى توحيد الله، وعلى بطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه وبطلان شبهاتهم. (ثم انظر) يعني: مع ذلك (أنى يؤفكون) أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان. وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجب من حال الذين يدعون لهم الربوبية ولا يرعوون عن ذلك، بعدما بين لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبة ريب، ثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي: إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة لما يوجب قبولها أعجب وأبدع، فهنا أمر بالتعجب بعد التعجب، يقول تعالى: ((انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) تعجب ثم تعجب من موقفهم من هذا الحق!

تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا)

تفسير قوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) ثم قال عز وجل: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]. هذا دليل آخر على فساد قول النصارى، والموصول كناية عن عيسى وأمه ((قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا)) يعني: الذي لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً. والمقصود به عيسى وأمه، يعني: لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم الله به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة، ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع إنما هو بإقدار الله وتمكينه، فكأنهما لا يملكان منه شيئاً. وإيثار (ما) على (من) -فلم يقل قل أتعبدون من دون الله من لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً. وإنما قال: (ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) - لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الإلهية رأساً، ولبيان انتظامهما في تلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلاً، يعني: وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء، لا يخرج مقدور عن قدرته، وإنما قدم الضر فقال: (ضراً ولا نفعاً) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. ودلت هذه الآية على جواز الجدال في الدين، فإن كان مع الكفار وأهل البدع فذلك ظاهره الجواز، وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق، وإن قصد العلو فذلك محذور. وحكي عن الشافعي أنه كان إذا جادل أحداً قال: اللهم! ألق الحق على لسانه.

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)

تفسير قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]. ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلو الباطل، فقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب) يعني الكتاب الذي هو ميزان العدل. (لا تغلوا في دينكم غير الحق) أي: لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقولتم عليهما من العظيمة، فأدخلتم في دينكم اعتقاداً غير الحق بلا دليل عليه، مع تظافر الأدلة على خلافه. وقوله: (غير الحق) يعني: غلواً غير الحق، أي: غلواً باطلا. أو مجاوزين الحق. والغلو نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد، وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير. فهذا إشارة إلى أن ما عليه النصارى هو الغلو، فكل حق له طرفان، إما إفراط وإما تفريط، فالنزوع إلى أحد هذين الطرفين هو نزوع إلى طرف، وإذا اتجهت إلى الطرف الآخر يسمى ذلك تطرفاً، لانك أخذت بالطرف، فالمراد أن هناك وسطاً، وهو الميزان والعدل، فمن حاد عن هذا الوسط فهو متطرف، فهذا هو المعنى الصحيح للتطرف ومعنى ذلك أن هذه الآية تصف هؤلاء الذين يشتمون الله سبحانه وتعالى ويشركون به في هذه العقائد بأنهم هم الغلاة وهم المتطرفون، ولذلك نعمم ونعيد الأمور إلى نصابها بأن نقول: إن المضطر إذا استطلق إطلاقين فإن الإطلاق الصحيح هو الذي يكون داخل دائرة المسلمين، فالمتطرف هو الذي يحيد عن منهج أهل السنة والجماعة، سواء تطرف إلى اليمين أو اليسار، كما في باب مسائل الإيمان والكفر إما أن يبقى متطرفاً إلى اليمين مثل المرجئة، أو متطرفاً إلى اليسار في الغلو والإفراط مثل الخوارج الذين يكفرون عصاة المسلمين. وكذلك في القدر، بأن يتطرف فيبالغ في إثبات القدر كالجبرية، أو يبالغ في نفي القدر كالقدرية. وكذلك في موالاة أهل البيت، فيتطرف إلى أقصى الطرف في حب أهل البيت وتعظيمهم تعظيماً زائداً عمَّا يستحقونه، حتى يضع عليهم بعض صفات الإلهية أو العصمة وغير ذلك، أو يتطرف في الجانب الآخر فينصب العداء على أهل البيت، وهكذا في كل قضية من قضيا الإيمان ومسائل العقيدة نجد من يتطرف إما إلى اليمين وإما إلى الشمال، فكل شخص ينتسب إلى فرقة دون الفرقة الناجية -أهل السنة والجماعة وهو مذهب السلف الصالح في كل هذه القضايا- فهذا هو المتطرف، وهذا هو الاستعمال الصحيح للكلمة. وفي خارج الدائرة الإسلامية كل من ليس مسلماً فهو متطرف، حيث يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، فنحن لا نقول كلاماً وكأننا نكتشف حقيقة جديدة، فهذا هو الحق، وكثرة الإلحاح بوصف الموحدين والملتزمين بالدين بالتطرف جعل الناس تستورد مثل هذه التعبيرات، فنحن لسنا متطرفين، وكيف نكون متطرفين وأسوتنا وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهؤلاء الزنادقة والملاحدة من الصحفيين والإعلاميين وغيرهم إذا كان بعث فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه فهل كانوا سيصفونه بالتطرف؟ وما نحن إلا مستمعون للرسول عليه الصلاة والسلام والسلام، ونملك الأدلة على هذا بأن الحق ما يثبت، سواء في القرآن الكريم أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فما الفرق بين أن يطعنوا في دينه وسنته بعد أن أفضى إلى الرفيق الأعلى بأن هذا تطرف وبين أن يصفوه هو عليه الصلاة والسلام بأنه متطرف؟! فإذا كان احترام الإسلام واحترام الدين، والتمسك بالعقيدة، وطاعة الله ورسوله، والصبر على الغربة تطرفاً فينبغي أن نفخر بأننا متطرفون، ونشن الحملة على من لا يتطرف ونطالبهم بالتطرف ما دام أن الحق يوضع في قوالب مموهة ومضللة لتنفر الناس عن الدين، فنحن لا نقف عند الألفاظ، وإنما ننظر إلى المعاني، وقد قال الشاعر: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فإذا شئت أن تمدح عسل النحل فقل: (هذا جنى النحل) أي: محصول النحل، وإن شئت أن تنفر الشخص من نفس العسل الشهي فقل له: (هذا قيء الزنابير)، وهو شيء واحد، لكن قد يعبر عن الحق ويظهر بقالب منفر كي ينصرف الناس عنه، وهذه من حيل الشيطان وزخارف قوله التي يوحيها إلى أوليائه كي يصدوا الناس عن دين الله. فالذي يقف وراء كل هؤلاء الناس هو الشيطان الذي يؤزهم أزاً على محاربة دين الله تبارك وتعالى. وقد قال الإمام الشافعي: إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي فالقضية ليست قضية أسماء وحروف تركب بعضها إلى جانب بعض، وإنما هي قضية معانٍ وجواهر. فهذه الآية تؤكد ما ينبغي أن نعتقده جميعاً، وهو أن كل من ليس من أهل السنة والجماعة وليس من المسلمين فهو متطرف، فكل يهودي على ظهر الأرض متطرف، وكل علماني متطرف، وكل شيوعي متطرف، وكل نصراني متطرف، وكل مجوسي متطرف، ثم داخل دائرة الإسلام كل من حاد عن أهل السنة والجماعة التي هي الفرقة الناجية فهو -أيضاً- متطرف، سواء أكان من الشيعة أم من الخوارج أم الرافضة أم من المعتزلة أم من غيرهم من الفرق الضالة. فهذا المعنى ينبغي أن نستحضره دوماً خاصة في هذا الزمان الذي تلعب فيه الفتن بالعقول لعباً: (ويصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي كافراً ويصبح مؤمناً).

إفادة الآية النهي عن الغلو عموما في كل أحكام الدين

إفادة الآية النهي عن الغلو عموماً في كل أحكام الدين يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]. فالآية تفيد النهي عن الغلو عموماً، والغلو في العقيدة من أخطر الأشياء، والغلو في العبادة كغلو الموسوسين، كالذي يغالي في الطهارة، فبدل أن يتوضأ ثلاثاً يتوضأ خمسين مرة، وقد يخرج وقت الصلاة، فهذا غلو في الدين أيضاً، فأي نوع من الغلو الباطل في الدين فهو منهي عنه بنص هذه الآية. ومن الغلو -أيضاً- الغلو في تعظيم الصالحين، وتعظيم قبورهم، حتى يصيروا كالأوثان التي كانت تعبد، يقول صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)، وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، وهذا متفق عليه. فقوله: (لا تطروني) إما أنه نهى عن أصل الإطراء الذي هو المديح، فهو يقول: لا تمدحوني؛ فأنا لست بحاجة إلى مدحكم بعد أن مدحني الله سبحانه وتعالى بما لا مزيد عليه حين قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فإنكم إذا مدحتموني استنزلكم الشيطان إلى الوقوع في الغلو، حتى تقولوا فيّ كما قال النصارى في عيسى عليه السلام. وإما أن النهي هنا عن المبالغة في المدح لا عن أصل المدح، وإنما عن أصل المبالغة في المدح، فإن المبالغة والغلو في المدح ينتهي إلى الانحراف وإلى فساد العقيدة، في القصيدة المشهورة وأظنها لـ أحمد شوقي حيث يقول يخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحابا سألت الله في إدناء ديني فإن تكن الوسيلة لي أجابا وما للمسلمين سواك حفظ إذا ما الضر مسهم ونابا فهل الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل أن يمدحه رجل بأن يقول: إن المسلمين إذا جاءتهم كربة أو داهمتهم مصيبة ليس لهم حفظ إلا الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى ليحطم أمثال هذه العقائد، فهذا من الغلو الباطل، وقد ضل أحد المغالين في فهم الحديث (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فقد فسر الحديث تفسيراً عجيباً، وهو البوصيري، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) يعني: لا تمدحوني بالصفة التي غلا فيها النصارى في المسيح، وهي قولهم: إن المسيح ابن الله. فقال البوصيري في القصيدة المعروفة التي يتعبد الصوفية بتلاوتها وحفظها: دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم يعني: إذا سلمت من قولك: إن محمداً ابن الله. أو: إن محمداً ثالث ثلاثة فلا حرج عليك، فامدح بما شئت، وانطق بما شئت مدحاً فيه واحتكم. فالباب مفتوح، فقل ما شئت عدا أن تقول: إن محمداً ابن الله. أو: إن محمداً ثالث ثلاثة. ففتح الباب على مصراعيه في هذا الغلو الفظيع حتى قال في قصيدته -مادحاً الرسول عليه الصلاة والسلام، أيضاً بما يرفضه الرسول عليه الصلاة والسلام-: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا من الغلو في الدين الذي قد نهينا عنه.

النهي عن اتباع الأئمة المضلين

النهي عن اتباع الأئمة المضلين ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين، فقال عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]. فسلفهم الضالون ليسوا هم الصالحين، فهو يحذرهم من اتباع سلفهم الذين اتبعوا هذه المقالات وأفسدوا دينهم. وقوله تعالى: (ولا تتبعوا) يعني: تقليداً (أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً) يعني: ممن شايعهم على التقليد (وضلوا عن سواء السبيل). يقول الرازي: إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال، فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ((قد ضلوا من قبل)) ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم، فالمرء منهم ضال في نفسه ومضل لغيره، فيحمل وزر نفسه ووزر الذين يضلهم بغير علم. ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحال حتى إنهم الآن ضالون قد ثبتوا على الضلال. قال تعالى: ((وضلوا عن سواء السبيل)) ودلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول لا مستند له، ولا معول لهم فيه غير التقليد لأسلافهم الضالين، فكل ما عندهم هو تقليد آبائهم وأجدادهم وسلفهم الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام. فبعد ثلاثمائة سنة من رفع المسيح اخترعوا هذه المزاعم الباطلة والشركية، وقرروها في تعاليمهم بعد جدل وافتراض، وتمسكوا في ذلك بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علماً مما لا أصل له في شرع الإنجيل، ولا هو مأخوذ من قول المسيح، ولا من أقوال حوارييه، بل كلام متهافت يكذب بعضه بعضاً ويعارضه ويناقضه.

تفسير قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل لبئس ما كانوا يفعلون)

تفسير قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل لبئس ما كانوا يفعلون) قال تبارك وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]. قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) يعني: لعنهم الله عز وجل. (على لسان داود وعيسى ابن مريم) يعني: على لسانيهما. وأفرد لعدم اللبس، فلم يقل: على لساني داود وعيسى ابن مريم لأنه لا يحتمل وجود لبس، وذلك إذا أريد باللسان الجارحة. ((ذلك)) لعنهم الهائل ((بما عصوا وكانوا يعتدون)) يعني: بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي. ((كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه)) يعني: لا ينهى بعضهم بعضاً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال: ((لبئس ما كانوا يفعلون)) مؤكداً بلام القسم تعجباً من سوء فعلهم كيف وقد أداهم إلى ما ذكر من اللعن الكبير؟! فهذه الآية دلت على جواز لعن اليهود والنصارى والكفرة من بني إسرائيل؛ لقوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل). ودلت -أيضاً- على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع، ودلت -أيضاً- على وجوب النهي عن المنكر، وأن ترك النهي عن المنكر من الكبائر، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم أو في أسواقهم وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال: (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً) أي: تعطفوهم عليه. رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وأخرجه أبو داود عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده) يعني أنه يتمادى في مصاحبته، أي: نصحه مرة وانتهى، ثم بعد ذلك بقي الرجل مصراً على المعصية، ولم يمنعه ذلك من أن يتخذه خليلاً وصاحباً. يقول: (فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قرأ: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)) [المائدة:78] إلى آخر الآية، ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً أو تقصرونه على الحق قصراً) زاد في رواية: (أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم) كذا رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه. والأحاديث في ذلك كثيرة، منها حديث حذيفة مرفوعاً: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم) وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). يقول الزمخشري: فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به، وكأنه ليس من ملة الإسلام في شيء، مع ما يتلون من كتاب الله، ومع ما فيه من المبالغات في هذا الباب! وقد مر في قوله تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} [المائدة:63] ما يؤيد هذا، فتذكر.

تفسير قوله تعالى: (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا) قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80]. ولما وصف تعالى أسلافهم بقوله تعالى: (لعن الذين كفروا) فيما مضى وصف الحاضرين بقوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:80] يعني أنهم باقون على هذا {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80] وقوله تعالى: (ترى كثيراً منهم) أي: من أهل الكتاب (يتولون الذين كفروا) يعني: يوالون المشركين بغضاً لرسول الله، ومنهم: كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم، (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون).

تفسير قوله تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه)

تفسير قوله تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه) قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81]. قوله تعالى: (ولو كانوا) أي: هؤلاء الذين يتولون عبدة الأوثان من أهل الكتاب (يؤمنون بالله والنبي) أي: لو كانوا بالفعل يؤمنون بالنبي، أي: نبيهم موسى عليه السلام. (وما أنزل إليه) من التوراة (ما اتخذوهم أولياء) إذ الإيمان بالله يمنع من تولي من يعبد غيره (ولكن كثيراً منهم فاسقون) أي: خارجون عن دينهم؛ لأن الفسق معناه الخروج، كما يُقال: فسقت الرطبة. أو متمردون في نفاقهم، يعني: إن موالاتهم للمشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم، وإن إيمانهم المزعوم ليس بإيمان؛ لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق. وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون المعنى: (ولو كانوا) يعني: لو كان منافقوا أهل كتاب المدعوون للإيمان (يؤمنون بالله والنبي) أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن حق الإيمان ما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن. والوجه الأول أقوم، والله تعالى أعلم.

المائدة [82 - 96]

تفسير سورة المائدة [82 - 96]

تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)

تفسير قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) يقول تبارك وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]. قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ) أي: يا محمد (أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، يعني: من أهل مكة؛ لتضاعف كفرهم وجهلهم، وانهماكهم في اتباع الهوى. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) قوله: (ذلك) الإشارة هنا إلى أقربهم مودة للمؤمنين. (بأن) يعني: بسبب أن (منهم قسيسين) أي: علماء (ورهباناً) أي: عباداً (وأنهم لا يستكبرون) عن اتباع الحق كما يستكبر اليهود وأهل مكة. وهذه الآية نزلت في وفد النجاشي القادمين عليه من الحبشة، قرأ صلى الله عليه وسلم عليهم سورة يس فبكوا وأسلموا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. يقول القاضي محمد كنعان: قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة) الآية، ذكر الإمام السيوطي هنا أنها نزلت في وفد النجاشي القادمين عليه من الحبشة. ولكن القول المشهور في كتب التفسير والسير أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعدما سمعوا سورة مريم من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى خوفاً من مشركي قريش، ففاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، ثم أسلم النجاشي، وبعث ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. ومما يجب التنبيه حوله أن هذه الآيات لا تشمل جميع النصارى كما يتوهم البعض، فقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) ليس المقصود به جميع من انتسب إلى النصرانية، وإنما الإشارة إلى جماعة موصوفة منهم، فالقول بأن الآية تشمل جميع النصارى -كما يتوهم بعض الناس- قول باطل؛ لأن هؤلاء عداوتهم للمسلمين ظاهرة، ووقائع التاريخ في الأندلس والحروب الصليبية حتى عصرنا تشهد على ذلك، بل الوقائع التي نعيشها إلى الساعة الحاضرة، والمجازر التي تقام على مرأى ومسمع من العالم كله، والتحالف الصليبي اليهودي على مسلمي البوسنة بعد أن صارت الأمم المتحدة شريكاً متضامناً وعنصراً فعالاً في المذابح التي تجري لإخواننا المسلمين في البوسنة ليل نهار، ولم يعد هذا سراً مكتوماً، ومن يتابع الأخبار في هذه الأيام يعلم هذه الحقيقة، فكيف يقال: إن هؤلاء مع وحشيتهم وإجرامهم أقرب إلينا مودة من اليهود؟! بل هؤلاء مشركون كفار كما سيأتي في نفس هذه الآيات، فمن القول الباطل الزعم بأن الآية تشمل جميع النصارى، وإنما هي تصف جماعة معينة منهم سمعوا القرآن ففاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق. فهل الصرب أو غيرهم إذا سمعوا القرآن تفيض أعينهم من الدمع مما سمعوا من الحق ويعلنون إسلامهم؟! فالآية تصف هؤلاء الذين إذا بلغهم الحق لا يستكبرون ولا يستنكفون عن اتباعه. ففي هؤلاء نزلت الآيات، لا في كل نصراني أو قسيس أو راهب، وهذا مع القطع بأن اليهود هم أشد الكافرين عداوة للمؤمنين. قوله تعالى: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ)) يعني: من القرآن الكريم. ((تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا)) يعني: صدقنا بنبيك وكتابك. ((فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) أي: المقربين بتصديقهما. قوله: (وَمَا لَنَا) يعني: وقالوا في جواب من عيرهم بالإسلام من اليهود الذين قالوا لهم: كيف تسلمون: (وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ) أي: من القرآن. أي: لا مانع لنا من الإيمان مع وجود ما يقتضي هذا الإيمان، وهو نزول هذا الحق في القرآن الكريم، أو الطمع في رحمة الله. {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] أي: الجنة مع المؤمنين. ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) فهذا -بلا شك- واضح وضوح الشمس، وهو أن المقصود بالآية الأولى النصارى الذين لما بلغهم الحق انقادوا له، وأسلموا لله سبحانه وتعالى، لا من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم. أو: إن الله ثالث ثلاثة. أو غير ذلك من الأقوال الشركية، فهؤلاء يدخلون في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:86]، وهؤلاء غير الموصوفين في صدر الآيات.

كلام القاسمي على قوله: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا)

كلام القاسمي على قوله: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] لماذا هم أشد الناس عداوة للمؤمنين؟ لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نفارق اليهود في الإيمان بعيسى وبمحمد، وهم يكفرون بهما. كذلك فإن عداوة الذين أشركوا للمؤمنين هي لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء؛ لأن المشركين لا يقرون بالتوحيد ولا بنبوة الأنبياء. وقال بعض العلماء في تعليل شدة هذه العداوة: لشدة إبائهم، ولذلك يندر جداً أن يسلم اليهودي الواحد ويدخل في الإسلام، فهذا يقع، ولكنه نادر بالنسبة لمن يدخل في الإسلام من غيرهم من طوائف الكفرة. فهم أشدة الناس عداوة للذين آمنوا لشدة إبائهم، ولتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيب هؤلاء الأنبياء، ومناصبتهم لهم، ولشدة قسوة قلوبهم وغلظ طبعهم قتلوا كثيراً من الأنبياء. أي: قتلوا يحيى عليه السلام، ثم أهدوا رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. وكذلك قتلوا أباه زكريا عليه السلام، وسعوا في قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم غير مرة، بل وضعوا له السم في الطعام، وغدروا به صلى الله عليه وآله وسلم، وألبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم اليهود على المشركين بعد ذكرهما في موضع واحد إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، فرغم أن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للذين آمنوا، لكن أشد الطائفتين اليهود لعنهم الله تعالى. كما أن في تقديمهم عليهم -أي: تقديم اليهود على المشركين- في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] إيذاناً بتقدم اليهود على المشركين أيضاً في الحرص على الحياة. يقول تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) يعني: للين جانبهم، وقلة غل قلوبهم. فهنا القاسمي يميل في تفسير هذه الآية الكريمة إلى أن المقصود بقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) عامة النصارى، وهذا التفضيل نسبي، وليس على الإطلاق كما يفعل منافقوا زماننا، فالمنافقون من علماء السوء في زماننا يداهنون الكفار بإطلاق هذه الآية عليهم، وإن كان الآن جرياً مع المتغيرات لا يتلوا المنافقون الآية أصلاً؛ لأنها تشتم اليهود، وقد صار اليهود عند الناس اليوم من أعظم أوليائهم، فالله المستعان. لكن القاسمي ينقل هنا كلام ابن كثير في تعليل قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) قال ابن كثير: وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27]. وفي كتابهم: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) وليس القتال مشروعاً في ملتهم. انتهى كلام الحافظ ابن كثير. ثم يضيف القاسمي: ولأن من مذهب اليهود -مبيناً وجه المفاضلة بين اليهود والنصارى في العداوة والمودة- أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام، فحصل الفرق. فاليهود يتعبدون بأذية خلق الله، وبإيصال الشر إلى الخلق ممن ليس على ملتهم بأي طريق كان، حتى روى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله) ولم يذكر هنا صحة الحديث، وهنا قصة حكاها بعض المصنفين في (غذاء الألباب) عن صاحب (منظومة الآداب) الإمام السفاريني أن مسلماً سافر مع يهودي، فالمسلم كان راكباً الحمار، وكان اليهودي ماشياً، فمشيا حتى سافرا إلى بلد معين على هذه الحال، فبعد ما وصلا إلى تلك البلدة قال المسلم لليهودي: أستحلفك بالله، نحن عندنا اعتقاد أنه ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بإيذائه، فهل هممت بأذيتي؟! قال: ما هممت بأذيتك في شيء. فناشده وألح عليه أن يخبره، فإنه جازم بأنه لابد من أنه أراده بسوء في هذه السفرة، فلما استحلفه وشدد عليه صارحه وقال له: في مدة السفر كلها كنت أحاول أذيتك فلم أستطع، ولقد كنت أبصق على ظلك وأضرب خيالك. أو قال كلاماً نحو هذا، فهذا الذي استطاع أن يوصله إليه من الأذى، فالله أعلم بصحة هذا. وعلى كل حال فإن خسة اليهود وغدرهم ونذالتهم لا تحتاج إلى كثير من التعليق، فهذا أمر مجمع عليه بين سائر الأمم، حتى إن هتلر لما أجرى لهم المذابح التي بولغ فيها فيما بعد قال: لقد قتلت نصف اليهود وتركت النصف الآخر؛ حتى يعلم العالم لماذا قتلت النصف الأول أي: حتى يذوقوا منهم الويل ويعرفوا لماذا قتل النصف الأول من اليهود. وكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب هي مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد ولين الجانب، كما أشير إليه بقوله تعالى: (ذلك) يعني: كونهم أقرب مودة للمؤمنين. (بأن منهم) أي: بسبب أن منهم قسيسين، مأخوذ من: قسى الشيء إذا تتبعه، فهذا وصف لعلمائهم بأنهم قسيسين. (ورهباناً) أي: عباداً متجردين. (وأنهم لا يستكبرون) أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود، وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر أمر محمود، وإن كان ذلك من كافر، وهذا على القول بأن الآية تشمل النصارى عموماً، وأن المفاضلة هنا مفاضلة نسبية، ولذلك جاء بصيغة (أقربهم مودة) فهم لا يوادون لكنهم أقرب مودة، فالنصارى مع كفرهم أخف من اليهود والذين أشركوا في عداوتهم للمؤمنين. ولكن الكلام الأول -بلا شك- أقوى، وهو أن الآية إنما هي في هؤلاء الذين أسلموا، ولم يستكبروا على الحق، ويؤيد ذلك كثير من الآيات والأحاديث، ويؤيده -أيضاً- الواقع الذي نعيشه، فلا القسيسون ولا الرهبان فيهم هذا التجرد أو هذا التواضع، وإنما هو الخبث والمكر والدهاء، وإرادة الشر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي نعيشه ونراه ليل نهار هو أقوى شاهد محسوس، بحيث لا يمكن أبداً إنكاره إلا على سبيل المكابرة. فلا ندري أين الرحمة وأين الرفق وأين اللين منهم! هؤلاء الذين فعلوا هذه الشنائع، سواء في الأندلس أو في لبنان أو في الفلبين أو في أثيوبيا أو في البوسنة. والله تعالى لما تكلم عن هؤلاء النصارى هنا قال: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. فوصفهم بأنهم الذين قالوا: (إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. تعريضاً لصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر؛ لأن اليهود قيل لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21] فقابلوا ذلك بقولهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فهذا من عتوهم وصلابتهم في الكفر، وتمردهم على أمر ربهم تبارك وتعالى. أما النصارى فإنهم أجابوا جواباً حسناً حين قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52]، ومن ثم سموا نصارى. وكذا -أيضاً- ورد في أول هذه السورة {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:14] فأسند ذلك إلى قولهم، ولم يقل: ومن النصارى أخذنا ميثاقهم. ولكن قال: (ومن الذين قالوا إنا نصارى) والإشارة به إلى قولهم: نحن أنصار الله. لكنه بين تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. ففي الآية التي هي في أول السورة (ومن الذين قالوا إنا نصارى) كان يقتضي قولهم: إنا نصارى -أي: نحن أنصار الله- أن يحفظوا عهد الله وميثاقه، لكنهم مع قولهم: إنا نصارى خالفوا هذا العهد ونسوا (حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) قال تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14]. وفي الآية هنا يقول تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. لأن المقصود التعريض بصلابة اليهود وقسوة قلوبهم، وامتناعهم عن امتثال أمر ربهم كما ذكرنا. فالنصارى لما ورد عليهم الأمر لم يجابهوه بالرد كمجابهة اليهود، حتى إنهم لما نسوا الميثاق أو نسوا حظاً مما ذكروا به لم يردوا نفس الرد الغليظ الذي رده اليهود حينما قالوا لموسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، بل قالوا: نحن أنصار الله. واليهود قالت: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة:24]، إلى آخر الآية، فهذا هو سر قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى.

معنى قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول)

معنى قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول) يقول تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]. قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) هذا عطف على (لا يستكبرون) في قوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون). ((تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ)) يعني: تنصب. (مِنَ الدَّمْع) وهو الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف مع ضرب اليقين. (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) يعني: من كتابه، فوجدوه أكمل من الإنجيل وأفضل، أو من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه. (يَقُولُونَ) يعني: مع عدم استكبارهم عن الحق. (رَبَّنَا آمَنَّا) أي بك وبما أنزلت وبرسولك محمد صلى الله عليه وسلم. (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي: الذين شهدوا بأنه حق، أو الذين شهدوا بنبوته، أو أن المراد بالشاهدين أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم هم الشهداء على الناس، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا أممهم.

معنى قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق)

معنى قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق) يقول تعالى: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84]. قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن) هذا إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجب هذا الإيمان، فما هو موجب الإيمان؟ إنه الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين، فيكف مع ذلك لا يؤمنون؟! (وما جاءنا من الحق) أي: من القرآن. (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) يعني: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو المعنى: أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين. ويدل لقوله (مع القوم الصالحين) أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، فعباد الله الصالحون المذكورون هنا هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فمن تفسير القرآن بالقرآن أن يقال: (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا)

معنى قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا) ثم قال تبارك وتعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:85]. قوله تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا) أي: بما تكلموا به. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) يعني: من تحت أشجارها ومساكنها (الأَنْهَارُ) وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل. (خَالِدِينَ فِيهَا) أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون. (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، حينما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه سورة مريم. يقول ابن كثير: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن فبكوا حتى أخضلوا لحاهم). قال ابن كثير: وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنية في سورة المائدة، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. فالحافظ ابن كثير يقول: إن الآية هذه التي في سورة المائدة مدنية، ففيها آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] في حجة الوداع، فيقول: هذه الآية مدنية، وهذه الحادثة وقعت قبل الهجرة، فالقول بأن هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه فيه نظر. فهل في نظر الحافظ ابن كثير نظر؟ والجواب أنه قد تقع واقعة قبل الهجرة ويحكيها القرآن بعد الهجرة، فما المانع من أن تقع واقعة قبل الهجرة ثم يحكيها القرآن في آخر الفترة المدنية؟ وما المشكلة في ذلك؟! ولذلك فإن القاسمي رحمه الله تعالى حكى قول ابن كثير بأن هذا القول فيه نظر لأن هذه الآية مدنية وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة، ثم قال: أقول: إن نظره مدفوع؛ فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها، ونظائره في التنزيل كثيرة، ولا إشكال فيه. أي: لا يوجد أي مانع من أن تحدث حادثة قبل الهجرة ثم ينزل القرآن فيها بعد الهجرة. ثم قال: وظاهره أن المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة، وهم يهود بني إسرائيل كقريظة والنظير، وبعناد المشركين أيضاً، وقسوة قلوب الفريقين، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه. فالمقصود أن حكاية هذه القصة في هذا الوقت حينما كان هؤلاء اليهود يتآمرون حول المدينة، والمشركون أيضاً يعادون النبي عليه الصلاة والسلام فيه تعريض بأحوال هؤلاء قساة القلوب، ومقارنة بينهم وبين هؤلاء الذين أسلموا كـ النجاشي وأصحابه، وأن هؤلاء لهم أسوة كي يسلموا ولا يستكبروا عن الحق. وقال الحافظ ابن كثير: هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران:199] وهذا يوضح لنا أن الحافظ ابن كثير أراد بتفسيره قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) بأن معناه: وما ذاك إلا لما في قلوبهم -إذ كانوا على دين المسيح- من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27] أراد به مدح طائفة معينة من النصارى لا مطلق النصارى؛ لأنه هنا يقول: المقصود بهؤلاء الذين في هذه الآيات هم الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ} [آل عمران:199]. يقول: وهم الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:52 - 53]. يقول القاسمي: وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة أن قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن منهم، وعصم الله من شاء منهم. ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أشار على الصحابة بأن يخرجوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لهم فرجاً مما كانوا فيه، ففروا بدينهم إلى الحبشة فكانت أول هجرة في الإسلام.

قصة إسلام النجاشي

قصة إسلام النجاشي روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهما جلدين، وأن يعطوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي -وهذا فن الرشوة- وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى -أي: لجأ- إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً -أي: إنهم من بلادنا، ونحن أبصر بهم، ونحن أعرف بهم، وأعلم بما عابوا عليهم- فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه بما كلما كل بطريق، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي). وهذا كعادة الباطل في كل وقت، يحول أهله دون أن يكون أصحاب الحق هم الذين يتولون عرض القضية، فلابد من أن تعرض على الملأ من طريق وصائفهم كي يعملوا فيها من التزييف والتحريف والتبديل والتنفير، قالت: (فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول -والله- ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، فسألهم وقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه صلى الله عليه وسلم، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي. قالت: فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) -أي: سورة مريم-، قالت: فبكى -والله- النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم -أي: الصحف التي كانت أمامهم حين سمعوا ما تلا عليهم- ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم -يعني شجرتهم التي منها تفرعوا-، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فيها، أو فينا-: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط، فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبى طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده على الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -يعني: آمنون بأرضي-، من سبكم غرم -قالها ثلاثاً-، ثم قال: ما أحب أن لي دبراً -والدبر الجبل- من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. وروى الحافظ أن النجاشي كتب بعد ذلك بشهادته أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، وإسلام النجاشي معروف، ومعلوم -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى إلى أصحابه النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأمرهم أن يصلوا عليه صلاة الغائب. وروي في بعض تلك الآثار أن النجاشي بعدما أسلم عرض على عمرو بن العاص الإسلام، فأسلم عمرو على يد النجاشي، فهذا الكلام روي في بعض الكتب، لكن نحكيه لمجرد المعرفة فقط، لكن ما أظن أن هذا كان سبب إسلام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه. إلا أنه لا يبعد أن يكون هذا هو الشعاع الأول بالنور والإيمان قد نفذ إلى قلبه من خلال هذه الواقعة على أساس هذا الزعم بأن عمرو بن العاص أسلم على يد النجاشي. وإذا صحت هذه الرواية فيقال على سبيل اللغز: من هو الصحابي الذي أسلم على يد تابعي؟! وهذه الرواية لم تصح، وعلى فرض صحتها لو قلنا: إن كلاهما قد آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام فإن عمرو بن العاص بعدما أسلم رأى الرسول عليه الصلاة والسلام فهو صحابي، والنجاشي أسلم ولم يره، فإذا صح هذا فيكون جواب هذا اللغز هو أن عمرو بن العاص صحابي أسلم على يد تابعي وهو النجاشي؛ لأنه لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره. وفي الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء، وفي الخبر (ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا)، والمراد إشراب القلب بالخوف، والخوف المهابة لله تبارك وتعالى.

معنى قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا)

معنى قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة:86]. قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي: جحدوا الحق الذي جاءهم، وكذبوا بحجج الله وبراهينه. (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي: النار الشديدة الحرارة جزاءً وفاقاً.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]. نزلت هذه الآية لما هم قوم من الصحابة بأن يلازموا الصوم والقيام، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفرش، وأصل الحديث في الصحيحين. فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) يعني: لا تتجاوزوا أمر الله. (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في العبادة أو في التعبد. (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا) المعنى: كلوا الحلال الطيب مما رزقكم الله (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ)) يعني: ما طاب ولذ مما أحل الله لكم، كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الترهب، والحث على كسر النفس وربط الشهوات. يعني: إذا كان هؤلاء النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان يتقللون من الدنيا والشهوات ممدوحون بذلك فليس هذا المدح على إطلاقه، لكنه مدح مشروط بعدم التنطع والتشدد في ذلك، فعقب بالنهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية، ثم أشار إلى أنه اعتداء، فهو تعالى نهى أولاً فقال: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) يعني: لا تفعلوا كما فعل هؤلاء الرهبان. ثم قال: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) يعني: لا تتجاوزوا ما أحبه الله تعالى من جعل الحلال حراماً، أو: لا تعتدوا في تناول الحلال فتتجاوزوا الحد فيه إلى الإسراف، كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].

تفسير قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا)

تفسير قوله تعالى: (وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً) قال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:88] فإن مقتضى الإيمان أن لا تغيروا شيئاً مما أحله الله لكم. والبحث هنا طويل جداً إذا أردنا التوسع فيه، ولأننا نسلك سبيل الاختصار كان علينا التنبيه بأشياء يسيرة، فإنه إذا كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يستمتع مما أحل الله تبارك وتعالى له من الطيبات، فلا ينبغي التعبد بأن يحرم الإنسان ما أحله الله له؛ فإن هذا من العدوان. يقول الحافظ ابن جرير: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون. فإذا كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على ذلك من حله، فإذا كان يستطيع أن يلبس هذه الملابس فهذا طريق معبد سهل، وذاك طريق مليء بالخطر والهوام، وغير ممهد، وفيه كثير من العوائق، فلا يجوز لإنسان أن يتعمد فيختار الطريق الأصعب تعبداً {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فسنة النبي صلى الله عليه وسلم خير وأولى بالاتباع، وهي -كما جاء في وصفه-: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه) صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك من آثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء، فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا فقد ظن خطأ، وذلك لأن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة؛ لأنها مفسدة للعقل، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته. وقد أخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهش منها)، وقالت عائشة: (ما كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا، وكان يعجل إليه الذراع؛ لأنه أعجلها مجا) أخرجه الترمذي. وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعامه ومعه فرقد السبخي وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذج وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو أصائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان. فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد: أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟! يعني: ما الذي لا يعجبك من هذا الطعام؟! لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن! هل كل هذه الطيبات التي أحلها الله وهي مركبات هذا الطعام يعيبها مسلم ما دامت حلالاً طيباً؟! وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذج، ويقول: لا أؤدي شكره. قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إنه جاهل؛ إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج. والفالوذج يبدو أنه قريب من الهريسة ونحوها من المطاعم التي فيها الحلوى. وعنه أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم، قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه، فالآية تقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، فليست الآية عيباً على من وسع الله عليه فوسع على أولاده -مثلاً- وعلى نفسه بأن أكل من الطيبات ما دامت من حلال، وما دام يزهد في الحرام. ولا عذر الله قوماً زوى عنهم الدنيا فعصوه، حيث قدر لهم رزقاً وضيق عليهم رزقاً فعصوه بأن سرقوا أو أسرفوا أو غير ذلك، ولم يقل تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا ما رزقكم الله) ولكنه قال: ((وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)) وكلمة (من) هنا للتبعيض، كأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض، واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات، ولا تقتصروا على إطعام أنفسكم، ولم يقل: (كلوا ما رزقكم الله) وكأن معناها: لا يأكل أحدكم لحاله وينسى الفقراء والمساكين، لكن (كلوا مما رزقكم الله) كلوا منه وآتوا الفقراء والمساكين، وباب الصدقات والخيرات باب واسع، فهذا إرشاد إلى ترك الإسراف، كما قال تعالى: ((وَلا تُسْرِفُوا)) [الأنعام:141].

تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم)

تفسير قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم) قال عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89]. قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) يعني: باللغو الكائن في أيمانكم، فلا ينبغي للمسلم أن يحلف إلا إذا استحلف، وإذا أراد أن يحلف فليحلف بالله تعالى أو ليدع، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فلا يجوز الحلف بمخلوق كالأنبياء، والملائكة، والملوك، والكعبة، والشرف، وحياة الابن أو الأب، وغير ذلك.

أقسام الأيمان

أقسام الأيمان واليمين ثلاثة أنواع: أولاً: اليمين اللغو، أشار إليها السيوطي هنا، ولا مؤاخذة عليها، ولا كفارة فيها. ثانياً: اليمين الغموس: وهي التي يحلفها صاحبها كاذباً وهو يعلم، أي: يحلف وهو يعلم أنه كاذب، وأن الحقيقة على خلاف ما يحلف عليه متعمداً، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم، وهذه اليمين الغموس من كبائر الذنوب. ثالثاً: اليمين المنعقدة، وهي التي يحلفها الإنسان قاصداً فعل شيء أو عدم فعله في المستقبل، وفيها الكفارة المذكورة في الآية، وهذا هو موضوع هذه الآية الكريمة التي فيها تشريع الكفارة، فكفارة اليمين لا تكون إلا في اليمين المنعقدة، ولا ينعقد اليمين إذا كان لغواً، ولا ينعقد -أيضاً- إذا كان غموساً، وإنما ينعقد إذا كان من القسم الثالث، وهو اليمين المنعقدة، واليمين المنعقدة يحلفها الإنسان قاصداً فعل شيء أو عدم فعله في المستقبل، فيقول: والله لا أذهب إلى المكان الفلاني مثلاً أو: والله لا أذهبن إليه في المستقبل. فإذا حنث وذهب فعليه الكفارة المذكورة في هذه الآية الكريمة فقوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) يعني اللغو الكائن في أيمانكم، واللغو هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف، مثل: والله لتدخلن. والله لتأكلن. فهو لا يقصد اليمين، ولم يعقد قلبه على الحلف، ولكن جرت اليمين على لسانه كالعادة، فهذه يمين لغو، وفسرت في الحديث بقول القائل: لا والله، وبلى والله. روى ذلك البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها. قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) في (عقدتم) ثلاث قراءات: (عقّدتم) و (عقَدْتُم) بالتخفيف والتشديد، وفي قراءة: (عاقدتم الأيمان) يعني: عليه، بأن حلفتم عن قصد فقوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) يعني: بما حلفتم عليه عن قصد، فمقصود القراءة هنا: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فحنثتم فيه. لكنه حذفه للعلم به، فهل مجرد عقد الأيمان يعتبر موجباً للمؤاخذة؟ فالإنسان قد يحلف ويبر بما حلف عليه، لكن المقصود هنا (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) ثم حنثتم فيها بعد ذلك، (فكفارته) أي: كفارة اليمين إذا حنثتم فيها: (إطعام عشرة مساكين) لكل مسكين مُدّاً. (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي: من أوسط ما تطعمون منه أهليكم، يعني: أوسطه وأغلبه، لا أعلاه ولا أدناه. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) بما يسمى كسوة، كقميص وعمامة وإزار، ولا يكفي دفع ما ذكر إلى مسكين واحد، وعليه الشافعي؛ لظاهر قوله تعالى: ((عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)). (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يعني: عتق رقبة، أي: مؤمنة، كما في كفارة القتل والظهار حملاً للمطلق على المقيد (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) من لم يجد واحداً مما ذكر (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) يعني أن الكفارة تكون صيام ثلاثة أيام، وظاهره أنه لا يشترط التتابع، وعليه الشافعي، فيمكن أن تكون هذه الأيام متفرقة. (ذَلِكَ كَفَّارَةُ) يعني: ذلك المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) يعني: إذا حلفتم وحنثتم، وليس إذا حلفتم فقط، لكن إذا حلفتم وحنثتم. (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) احفظوا أيمانكم من أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس، فافعلوه وكفروا، فما دمت قد حلفت فاحفظ هذا اليمين ولا تحنث فيه، إلا إذا كان الشيء الذي حلفت على أن لا تفعله فِعلُه أفضل من تركه، فحينئذٍ فاحنث، ولا يكن اليمين ولا يكن اسم الله الذي حلفت به عائقاً يحول بينك وبين فعل الخير، فلتكفر ولتفعل هذا الخير. وقيل: (احفظوا أيمانكم) فلا تكثروا الحلف، ولا تقحموا اسم الله سبحانه وتعالى -الذي من شأنه أن يعظم- في سفاهات الأشياء؛ لأن بعض الناس يحلف في أتفه القضايا، ويستعمل اسم الله سبحانه وتعالى في أمور تافهة غير معظمة، فعلى أتفه الأشياء يحلف، وقد ذم الله سبحانه وتعالى الشخص الذي يكثر الحلف، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10]، وهو الذي يكثر الحلف. فنحن لا ننكر أن الحلف فيه أنواع من العبودية، فإن الحلف نوع من العبادات القولية، ويتضمن معاني كثيرة من معاني العبودية، ولذلك لا ينبغي الحلف إلا بالله؛ لأنه من مظاهر توحيد الله تبارك وتعالى، لكن لا يكثر الإنسان الحلف. (كَذَلِكَ) أي مثل ما يبين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: تشكرونه على ذلك. وكلمة (أو) في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هنا للتخيير، أي: أن الواجب أصلاً هو أحد الكفارات الثلاث، الواجب واحد منها على سبيل التخيير، لكن إذا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث فحينئذ يجوز له أن ينتقل إلى الصوم، فلا يجوز الصوم إلا إذا عجز عن إحدى الكفارات الثلاث الواجبات.

مقدار الإطعام في كفارة اليمين

مقدار الإطعام في كفارة اليمين أما الإطعام فليس فيه تحديد بقدر، حيث قال تعالى: ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)) فلم يحدده بقدر معين لا بوجبة ولا بوجبتين، ولا بقدر معين من الكيل، وإنما حدده بضابط، وهو قوله: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) فما ذكر وجبة ولا وجبتين، ولا ذكر مقداراً معيناً من الكيل، لذلك روي عن الصحابة والتابعين وجوهاً في المقصود من هذا القدر، جميعها مما يصدق عليه مسماه، فبأيها أخذ أجزأه. فمثلاً: قال علي رضي الله عنه: يأتي بعشرة مساكين فيغديهم ويعشيهم. وكأنه ذهب إلى أن المراد الإطعام الكامل، أي: إطعام عشرة مساكين إطعاماً كاملاً، وهو قوت اليوم كله، وهو وجبتان، وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة، ولذلك قال الحسن ومحمد بن الحنفية: يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزاً ولحماً. زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا. وعن عمر وعلي وعائشة وثلة من التابعين: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما. ونصف الصاع هو ملء الكف مرتين، أي: مدين. وعن ابن عباس: (لكل مسكين مد من بر ومعه إدامه) يعني الطعام الذي يؤكل مع الخبز. وفي فتح القدير من كتب الحنفية: يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز، إلا أنه إن كان براً لا يشترط فيه الإدام، وإن كان غيره فبإدام. وحكي عن الهادي: اشتراط الأكل لإشعار لفظ الإطعام بذلك. وقوله: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) يعني أن تعد لهم الطعام وتتركهم يأكلون. وأكثر العلماء قالوا: إن الأكل غير مشروط؛ لأنه ينطلق لفظ الإطعام على التمليك، فمجرد أن تملكه الطعام حتى ولو لم يأكله أمامك يجزئك؛ لأن الإطعام يطلق على التمليك.

مقدار الكسوة في كفارة اليمين

مقدار الكسوة في كفارة اليمين ولم يبين في الآية -أيضاً- حد الكسوة وصفتها، فالواجب حينئذ الحمل على ما يطلق عليه اسمها، قال مالك وأحمد بن حنبل: لا بد من أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه، وقال ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة. وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت. وهذه الأشياء تتفاوت بحسب البيئات والمجتمعات، فكل ما يطلق عليه لفظ الكسوة ينطلق عليه هذا الأمر، لكن على أي الأحوال فإنه لا يخفى أن وجه الاحتياط في هذا هو الأخذ بالأكمل والأفضل في الإطعام والكسوة. وأنبه هنا على أمر يستسهله أغلب الناس في هذا الزمان، وهو موضوع الكسل في أداء العبادات، ففي هذه الكفارة نجد بعض الناس أول ما يفزع إلى إخراج القيمة، وهذا لا يجوز، فالقيمة لا تجزئ، والأصل والذي اتفق عليه العلماء أجمعون أن الإطعام يجزئ، أما القيمة فهي خلاف ما أمر الله به في القرآن حيث قال تعالى: ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)، فحينما تقول: القيمة تجزئ فمعناه أنك تزيد لفظاً على القرآن فتقول: (فكفارته قيمة إطعام عشرة مساكين)، والآية تقول: ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) فالأصل أن الإنسان يخرج طعاماً للمساكين، وله أن يوكل غيره في إخراجه طعاماً لا مالاً، فلزم التنبيه.

كيفية الصيام في كفارة اليمين

كيفية الصيام في كفارة اليمين قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) يصدق على الأيام مجموعة أو متفرقة، كما في قضاء رمضان، فقد قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، فيمكن أن تكون متتابعة، ويمكن أن تكون متفرقة، وكلاهما يصدق عليه هذا الوصف. ومن أوجب التتابع استدل بقراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرآن: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذا لم يثبت كونه قرآناً متواتراً، لكن هذه تسمى قراءة شاذة، وقراءة تفسيرية، حيث إن الصحابي يتلو الآية ويزيد لفظاً من عنده كي يفسر اللفظ الذي قرأه. وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير)، وعند أبي داود: (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير) ومعنى ذلك أن التكفير قبل الحنث جائز، فإذا حلف على شيء فإن له أن يكفر أولاً ثم يحنث. وقوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ فيه استحباب ترك الحلف إلا إذا كان خيراً، لما تقدم من حديث ابن سمرة، وهذا على أحد وجهين في الآية، والوجه الآخر يعني: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أي: احترموا هذا اليمين ولا تحنثوا فيه إلا إذا كان عكسه خيراً منه والحنث فيه خير. قال كثير: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت فقوله: (قليل الألايا) يمدح به رجلاً بأنه قليل الحلف. وسر إطعام العشرة أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام، بالعدد الكامل الكاسر للنفس المجترئة على الله تعالى، وسر الكسوة كونه يجزي بستر العورة سر المعصية، وسر العتق تحرير الرقبة من الإثم، وسر صوم الثلاثة الأيام أن الصيام لما كان صوماً بنفسه اكتفي فيه بأقل الجمع. يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة. يعني: يمكن أن تحلف وتستثني، وفي هذه الحالة لا تجب عليك الكفارة إذا حنثت، فإذا قلت -مثلاً-: والله لا أدخل إن شاء الله. فدخلت ففي هذه الحالة لا كفارة؛ لأنك استثنيت بالمشيئة. يقول: كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة، ويكفرها تارة، ويمضي فيها تارة، والاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تحلها بعد عقدها. وقد رأيت أخاً فقيهاً يهدد ابنه بأنه سيضربه، والطفل غافل عن الاستثناء، فيقول له: والله لأضربنك -إن شاء الله- إذا فعلت كذا. والولد لا يفهم أنه إن استنثى فمعناه أنه ليس هذا حلفاً. والاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تحلها بعد عقدها؛ ولهذا سماها الله (تحلة) وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً، وأمر الله سبحانه وتعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وكلها أمور عظيمة يحلف عليها. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه، فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر! فقال: وما يمنعني عن الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه! قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جداً ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]. قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ) أي: المسكر الذي يخامر العقل ((وَالْمَيْسِرُ)) أي: القمار ((وَالأَنصَابُ)) أي: الأصنام ((وَالأَزْلامُ)) وهي قداح الاستقسام، وقد سبق الكلام فيها ((رِجْسٌ)) أي: خبيث مستقذر ((مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) يعني: الذي يزينه ((فَاجْتَنِبُوهُ)) أي: هذا الرجز المعبر به عن هذه الأشياء أن تفعلوه. ولا شك في أن الأمر بالاجتناب أبلغ في إفادة التحريم، حيث قال تعالى: (فاجتنبوه) وهنا أمر بالاجتناب ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء)

تفسير قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]. قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) يعني: إذا أتيتموها؛ لما يحصل فيها من الشر والفتن (وَيَصُدَّكُمْ) يعني: بالاشتغال بهما (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) خص الذكر تعظيماً له (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) يعني: عن إتيانهما والمقصود: انتهوا. وهذه الآية أصلٌ في تحريم الخمر وكل مسكر قليلاً كان أو كثيراً، وتحريم القمار بأنواعه.

تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)

تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) يقول الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]. قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) أي: المعاصي (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الطاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي: الإبلاغ البيّن وجزاؤكم علينا. روى البخاري ومسلم أنه بعد نزول تحريم الخمر قال بعضهم: قتل فلان وقتل فلان وهي في بطونهم -أي: قبل التحريم-! فنزل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93] أي: فيما شربوا وأكلوا من الخمر والميسر قبل التحريم ((إِذَا مَا اتَّقَوْا)) أي: المحرمات ((وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا)) يعني: ثبتوا على التقوى والإيمان ((ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا)) أي: العمل {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]، والسيوطي هنا يقول في قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) بمعنى أنه يثيبهم. وسبق أن بينا أن هذا تأويل، بل المحبة من الله تعالى لعباده ثابتة على ما يليق بالله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد) قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94]. قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ) أي: ليختبركم الله (بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) يعني: يرسله لكم من الصيد (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) أي: الصغار منه (وَرِمَاحُكُمْ) يعني: وتنال رماحكم الكبار منه؛ لأن الصيد الصغير يصاد باليد، أما الكبير فيصاد بالرماح لا باليد، ولذلك قال: ((تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ)) يعني: الصغار من الصيد تنالونه بأيديكم (ورماحكم) تنالون بها الكبار، وكان ذلك بالحديبية وهم محرمون، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم، وتأتي وسط خيامهم ومواقعهم وتتحرك معهم ابتلاء وفتنة وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى. (لِيَعْلَمَ اللَّهُ) أي: علم ظهور، وإلا فعلم الغيب يعلمه الله، لكن هذا علم ظهور يكون موافقاً لما سبق في المقادير، أي: ليعلم الله علم ظهور ((مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)) وهذا حال، أي: غائباً لم يره، فيجتنب الصيد ((فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ)) يعني: بعد ذلك النهي عنه فاصطاده (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة:95]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يعني: وأنتم محرمون بحج أو عمرة (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ) يعني: فعليه جزاء (مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) يعني: شبهه في الخلقة. وفي قراءة بإضافة جزاء (فجزاء مثلِ ما قتل). (يَحْكُمُ بِهِ) يعني: هذا المثل يحكم به رجلان (ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به. وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي رضي الله عنهم في النعامة ببدنة، وحكم ابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة، وحكم ابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة، وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام؛ لأنه يشبهها في العب، أي: في شرب الماء بلا مص. وقوله: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) حال من (جزاء)، أي: يبلغ به الحرم فيذبحه فيه ويتصدق به على مساكينه، ولا يجوز أن يذبح حيث كان، ونصبه نعتاً لما قبله فقال: (هدياً بالغ) فـ (بالغ) نعت وإن أضيف؛ لأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفاً، فإن لم يكن للصيد مثل من النعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته. (أَوْ كَفَّارَةٌ) أي: أو يكون عليه كفارة غير الجزاء وإن وجد، وهي (طَعَامُ مَسَاكِينَ) يعني: من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مداً، وفي قراءة بإضافة (كفارة) إلى (طعام) حيث قرئت (أو كفارةُ طعامِ مسكين). (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ) أو يكون عليه عدل مثل ذلك الطعام (صِيَامًا) يصومه عن كل مد يوماً وإن وجده. وجب ذلك عليه (لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) يعني: ثقل جزاء أمره الذي فعله (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) من قتل الصيد قبل تحريمه (وَمَنْ عَادَ) إليه (فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ) أي: غالب على أمره (ذُو انتِقَامٍ) أي: ممن عصاه. وألحق بقتله متعمداً فيما ذكر من لزوم الجزاء الخطأ والغلط والنسيان، وإن كان لا إثم فيها.

تفسير قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه)

تفسير قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه) قال تبارك وتعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96] قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) يعني: أحل لكم -أيها الناس- في حالة الحل والإحرام (صيد البحر) يعني: أن تأكلوه. وهو ما لا يعيش إلا فيه، كالسمك، بخلاف ما يعيش فيه وفي البر، كالسرطان (وَطَعَامُهُ) وهو ما يقذفه البحر ميتاً (مَتَاعًا لَكُمْ) منفعة لكم، تأكلونه (وَلِلسَّيَّارَةِ) أي: المسافرين منكم يتزودونه (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) يعني: ما يعيش فيه من الوحش المأكول أن تصيدوه (مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)، فلو صاده رجل حلال لنفسه غير محرم من صيد البر فهو حلال للمحرم، يعني: فللمحرم أكله، كما بينته السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم) فالحرام على المحرم أن يصطاد لنفسه أو يصطاد له غيره، أما غير المحرم إذا اصطاد لنفسه ثم أطعم معه المحرم فلا حرج في ذلك، كما بين هذا الحديث، ثم قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

المائدة [97 - 102]

تفسير سورة المائدة [97 - 102]

تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس)

تفسير قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) يقول الله تبارك وتعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97]. قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) البيت الحرام هو: البيت المحرم (قياماً للناس) يقول السيوطي: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له، وجبي ثمرات كل شيء إليه. فهذا معنى جَعْلِ الله سبحانه وتعالى البيت الحرام قياماً للناس، أي: يقوم به أمرهم، سواء الأمر الديني أو الأمر الدنيوي، فأما الأمر الديني فبالحج إليه؛ لأنه بالحج إليه يتم الركن الخامس من أركان الإسلام، ويتم أمر دنياهم بالأمن الذي يلقونه داخله، وأنه لا يتعرض أحد لهم. وكذلك من أمن الدنيا جبي الثمرات من كل مكان إلى هذا البلد الحرام، وفي قراءة: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قيماً للناس) بجعل (قيماً) بلا ألف، مصدر (قام) غير معلٍ، يعني: قام قيماً. (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي: وجعل الشهر الحرام أيضاً. والمراد هنا: الأشهر الحرم، فليس المراد شهراً واحداً، ولكن هذا لجنس الأشهر الحرم كلها، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، جعلها الله قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها. فقوله تعالى: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) يعني: وجعل الشهر الحرام -أيضاً- قياماً للناس، كما جعل البيت الحرام قياماً للناس، وذلك لأن الأشهر الحرم جعلها الله قياماً لهم حين يأمنون من القتال فيها؛ لأنه يحرم فيها القتال، فمن ثم فهي -أيضاً- جعلها الله قياماً للناس. (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي: جعل الهدي والقلائد -أيضاً- قياماً للناس، بمعنى أن صاحبهما يأمن من التعرض لها، أو من أن يتعرض له أحد. (ذَلِكَ) الإشارة إلى الجعل المذكور في قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ) ((ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) فإن جعله ذلك بجلب المصالح لكم، دفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن في المستقبل.

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن الله شديد العقاب)

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن الله شديد العقاب) قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) يعني: لأعدائه (وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي: لأوليائه (رَحِيمٌ) بهم. ثم قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] أي: الإبلاغ لكم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [المائدة:99] أي: تظهرون من العمل: {وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99] أي: تخفون منه، فيجازيكم به سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث)

تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث) {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100]. قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ} [المائدة:100] أي: الحرام (والطيب) أي: الحلال (ولو أعجبك) أي: سرك (كثرة الخبيث)، والمقصود بالخطاب هنا أمته صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك: (فَاتَّقُوا اللَّهَ)، فالخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود به أمته، كما قال عز وجل: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بحكمٍ المقصودُ منه أمته عليه الصلاة والسلام. يقول: والمقصود بالخطاب أمته صلى الله عليه وسلم، لذلك وجه الأمر إليهم بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100] أي: اتقو في ترك الخبيث والإعراض عنه مع كثرته (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: تفوزون.

قول القاسمي في معنى قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس)

قول القاسمي في معنى قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) أي: مداراً لقيام أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله، وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء. (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) بمعنى الأشهر الحرم، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها؛ لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها. (وَالْهَدْيَ) الهدي المقصود به: ما يهدى إلى مكة (وَالْقَلائِدَ) جمع قلادة، والقلادة: هي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى، وليس المقصود القلائد نفسها، لكن المقصود ذوات القلائد، وهي البدن؛ لأن البدن تعلق فيها القلائد كي يعلم أن هذه مهداة إلى البيت الحرام، فلا يتعرض لها أحد ولا لصاحبها، فتوضع عليها هذه العلامات حتى تعظم ويعلم أنها مهداة إلى بيت الله سبحانه وتعالى، فتأمن ويأمن صاحبها، فلا يقصدان بسوء. وخصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر، والمفعول الثاني محذوف يعني: قوله تعالى: ((وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ)) أي: جعل الهدي والقلائد قياماً للناس، لكن حذف المفعول ثقة بظهوره من السياق الذي مر، فإنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم، حيث يعلم من يراهم أنهم يقصدون بيت الله الحرام، وفيه قوام لمعيشة الفقراء، بمعنى أن الفقراء -فقراء الحرم- حين يساق هذا الهدي إلى مكة المكرمة فإنه رزق يرسله الله سبحانه وتعالى إليهم، فيكون فيه قيام لأمرهم، وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلدوا أنفسهم عند الإحرام من لحاء شجر الحرم، فلا يتعرض لهم أحد. قوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: الجعل المذكور: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:97 - 99].

تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب)

تفسير قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب) يقول تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:100]. قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب) هذا حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير. وهذه الآية نحتاج للاستدلال بها في كثير من المواضع، فالقليل الذي يبارك الله سبحانه وتعالى فيه خير من الكثير الذي يمحق الله بركته؛ لأنه من حرام أو من رشوة أو من ربا أو من سحت، فأغلب الناس يفتنون بالمال الوفير، ولا يبالون من حرام جلبوه أم من حلال، فكثير ما نحتاج -خاصة في هذا الزمان- إلى إشاعة الاستدلال بهذه الآيات (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) يعني: في ترك الخبيث وإن كثر، فاتركوه وأتوا الطيب وإن قلّ ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) ثم قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101]. يقول السيوطي: ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم، فسأله أحدهم: (يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك فلان. وكان يطعن فيه) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وكانوا يسألونه استهزاء -وهذا لا يكون من المؤمنين الصادقين، وإنما كان من المنافقين وإن لم يصرح به- فيقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ ولما نزلت آية الحج قال أحدهم: (أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم)، أخرجه مسلم والترمذي؛ فلذلك أنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ)) أي: إن تظهر لكم (تسؤكم) يعني: بما فيها من المشقة. (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) يعني: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم (تبد لكم)، والمعنى: إذا سألتم عن أشياء في زمانه ينزل القرآن بإبدائها، ومتى أبداها ساءتكم، فلا تسألوا عنها. والمقصود النهي عن كثرة السؤال والتنطع في السؤال، فهنا يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا) في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ينزل الوحي تبد لكم، وإن بدت لكم ساءتكم، فالمقصود: لا تسألوا عنها، ثم قال تعالى: ((وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)). وهذه الآية فيها كلام طويل، يقول القاسمي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا) أي: نبيكم (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ) أي: تظهر (لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)، وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة فتطلبوا بيانها، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها. فهذا وجه في الآية. وثمة وجه آخر: إن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن الكريم ولذلك فسرها ابن القيم على أن المراد زمن النزول المتصل به، وليس الوقت المقارن للنزول، وكأن في هذا إذناً لهم في السؤال عن التفصيل المنزل، ومعرفته بعد إنزاله، فبعدما تنزل يمكن أن تسألوا عنها حتى تستبينوا وتستوضحوا ما فيها من الأحكام، ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقاً. ثم قال ابن القيم: وثمة قول ثانٍ في قوله تعالى: ((وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)) وهو أنه من باب التهديد والتحذير، يعني: إذا ما سألتم عنها في وقت الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوؤكم. وهو الوجه الذي اختاره السيوطي، بما ففيه ترهيب من السؤال، والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم. وقال بعضهم: إنه تعالى بين أولاً أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، ثم بيان آخر أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم ولا يسرهم. (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) أي: عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن، ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم، فما دام أن الله سبحانه وتعالى لم يوجبها عليكم توسعة عليكم فلا تضيقوا أنتم على أنفسكم، كآية الحج مثلاً،: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] يقال: اسكتوا؛ فإنكم إذا سألتم: أكل عام يا رسول الله؟ فإن قال: كل عام وجبت، وإذا كان يجب على كل مسلم أن يحج في كل عام إلى بيت الله الحرام لما استطعنا، فهذا أوضح؛ لأنه جاء بفعل يبين ذلك. (عفا الله عنها) يعني: عن بيان تلك الأشياء؛ لئلا يسوءكم بيانها، فتكون جملة (عفا الله عنها) صفة لكلمة (أشياء)، أو المعنى: عفا الله عن مسائلكم السالفة، فما سألتم عنه فيما سبق عفا الله عنه، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

تفسير قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)

تفسير قوله تعالى: (قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) يقول تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:102] يعني: ليس المقصود عين المسألة، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال، وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحريم. وقوله تعالى: (ثم أصبحوا بها كافرين) أي: أصبحوا بسببها كافرين؛ حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ويفعلوه، وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها، فهلكوا، والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له، فلا تفعلوا مثلهم.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء) ثم يذكر القاسمي رحمه الله تعالى هنا تنبيهات: أولها: ما رواه البخاري في سبب نزولها بالتفسير عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً)، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من المنافقين، (فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)) حتى فرغ من الآيات كلها). وأخرج -أيضاً- البخاري عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين)، وهو صوت البكاء المكتوم، (فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ))). فقد كان هذا الرجل يُطعن في نسبه لأبيه، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مهما سألتموني عن أي شيء أجبتكم سأله هذا الرجل: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان)، وقد كان هو أبوه الذي ينسب إليه. وهذا -بلا شك- من أبلغ الإساءة، ولذلك عاتبته أمه، وقالت: هب أنه ليس أبوك، أتفضحني أمام الناس؟! يقول: وروى البخاري في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة)، وكثرة السؤال والتنطع والتفيهق والتعمق والتحري الزائد في الغالب تكون علامة على ظاهرة مرضية، وتكون أحياناً من أعراض مرض الفراغ، ولذلك روي عن بعض السلف أنه رأى رجلاً يقف له كلما جاء وكلما ذهب، ويسأله أسئلة في قائمة طويلة، فاستكثر منه ذلك، وقال له: أكل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟ فنحن محتاجون إلى الواقعية في اختيار القضايا التي نسأل فيها، وأن تكون في الأمور التي تهمنا، وأن لا يحصل التدقيق في الأسئلة. فهذا أحد علماء السلف يقال: كان أحسن الناس خلقاً، فما زالوا به حتى أضجروه، فساء خلقه، وذلك: لأنه مع كثرة الإضجار قد يضطر إلى أن يواجه برد غير حميد، ثم يصير ذلك طبعاً له من كثرة ما يفعل ذلك. فعلينا أن نتواصى جميعاً بتحري نوع الأسئلة، وتحري القضايا المفيدة دون التعمق والتفيهق في دقائق الأمور. وهناك نماذج هي أدلة على شيوع هذه الظاهرة، أعني عدم الواقعية في إلقاء الأسئلة، وأذكر من ذلك أنه ذات مرة دق جرس هاتفي كثيراً في الساعة الثانية صباحاً قبل الفجر، فقلت: من المؤكد أن هذا موضوع في غاية الأهمية، للاتصال في مثل هذا الوقت، فرددت على الهاتف فإذا هو أخ يقول لي: أحد أقاربي سألك سؤالاً قبل مدة فكان الجواب مختصراً، ونحن نريد جواباً مفصلاً. فقلت له: خيراً، فما هو السؤال؟ قال: هاهو موجود وسيذكرك بالسؤال، فسمعته يعطيه السماعة وهو يقول له: اسأله. فقال: ليس في بالي أي سؤال. فقال له: اسأله أي سؤال! فهل هذه أخلاق طالب العلم؟! لا بد من أن يكون هناك نوع من الواقعية والجدية، فإذا كان الحال أنه لا يوجد هناك سؤال فلماذا إذاً هذا المسلك؟! فنحن -في الحقيقة- محتاجون إلى مراجعة أنفسنا في باب الآداب الشرعية، ومراعاة هذه الآداب، ومثل هذه القضايا التي ينزل الله فيها الوحي لا شك في أنها من عظائم الأمور التي ينزل الله سبحانه وتعالى فيها هذا التأنيب، فلنقدر هذه المسائل حق قدرها، ومسائل الاستئذان وآداب الاستئذان أمر يطول الحديث فيه في الحقيقة؛ لأنه تحصل فيه تجاوزات شنيعة. ولقد حكى لي أحد الإخوة أنه ترك ضيفاً في الغرفة، ثم غاب عنه قليلاً، فلما رجع وجده في المطبخ قد فتح الثلاجة يشرب ماء ويأكل شيئاً من الثلاجة، يقول: فتسمرت في مكاني وذهلت! فكيف يحصل هذا؟! فالمضيف متزوج، وهذا يدخل المطبخ! وما وجده في الحجرة، وإنما وجده في المطبخ، وهل رَفْعُ الكلفة يصل إلى هذا الحد من انتهاك حرمات البيوت؟! والنماذج كثيرة، ولكن أقول: لا يمكن أن يكون شيء أنزل الله سبحانه وتعالى فيه وحياً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة ثم يكون قضية من القضايا للتسلية، فكون الله سبحانه وتعالى ينزل لنا هذه الآية عبرة لنا كي نلتزم آداب السؤال، خاصة الواقعية في السؤال. وأما الحديث الذي ذكرنا طرفاً منه فهو أنه روى البخاري عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم غضبان من شدة الإلحاف عليه في المسائل، يقول أنس: (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي)، خاف الصحابة من غضب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي، يقول: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه) يعني: إذا حصلت مجادلة بينه وبين شخص عير بأنه يسب إلى غير أبيه، فقال: (يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة) وقد كان يدعى ابن حذافة، وعمر عندما أحس بخطورة الموقف أراد أن يسترضي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان غضبان، فقال: (رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه عرضت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط)، فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)). وروى البخاري -أيضاً- في باب ما يكره من كثرة السؤال عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألون عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا. قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء)، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني وهو غضبان، فقام إليه رجل -وانظر إلى سوء مخالفة هذا الأدب- فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟! قال: النار) ولا حول ولا قوة إلا بالله! (فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة، ثم أكثر صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني سلوني سلوني. فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك). وعند مسلم: قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لـ عبد الله بن حذافة: (ما سمعت بابن قط أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحني على أعين الناس؟! وذلك: لأنه ولد حملت به في الجاهلية، فمعناه: هب أن أمك قارفت شيئاً مما كان شائعاً في الجاهلية، فهل تفضحها على أعين الناس وتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام من أبي؟! هب أن أباك غير من تنسب إليه! فهذا من العقوق بلا شك. وفي هذا -أيضاً- أدب آخر؛ لأننا نلاحظ بعض الناس يسأل فتكون المشكلة متعلقة بأبيه أو بأمه مثلاً، فهو غير محتاج للتصريح، فيمكن أن يقول: ما حكم الشرع في أب يفعل كذا؟ لكن هناك من يأتي أمام الناس ويقول: أبي يفعل كذا وكذا ويهتك ستر أبيه، فهذا ليس من الأدب، وهذا من العقوق، بل قل: ماذا يفعل ابن أبوه فعل كذا؟ وحاول أن تغير صيغة السؤال حتى لا تقع في غيبة أبيك وعقوقه ولو كان فيه هذه الأشياء. ونلحظ في بعض الأسئلة من يأتي ليسأل سؤالاً، ويكون السؤال خاصاً إلى درجة بعيدة جداً من الأسرار الشخصية مما لا يحب السائل أن يسمعه أحد، وإذا بالواقفين كأن على رءوسهم الطير، وكأنهم مثبتين في الأرض بمسامير من حديد، لا يتحرك أحد، والأصل في المسلم أن يكون مرهف الحس، فإذا لاحظت سؤالاً شخصياً، أو فيه ذكر عورة فابتعد حتى لا تسمعه، أما أن يقف المرء ولا يبالي بشيء على الإطلاق، ويصل الأمر إلى حد الاضطرار إلى أن يقال: على الإخوة أن ينصرفوا؛ لأن الأخ له سؤال شخصي فهذا ما لا يليق، وهذا أدب ينبغي أن نراعيه من أنفسنا، فإذا كان السؤال ليس عاماً فابتعد حتى يكون السر بين السائل ومن يجيبه. وكذلك السائل إذا كان لديه سؤال فيه هتك ستر أو فيه ذكر نوع من العورات فلا يسأل على الملأ، لكن ينفرد بمن يسأله. ولما قالت أم عبد الله بن حذافة ذلك الكلام لابنها قال عبد الله راداً على أمه: (والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته). وروى ابن جرير عن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال: سلوني) نحو ما تقدم وزاد: (فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً) إلخ. وزاد: (وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به عمر حتى رضي صلى الله عليه وآله وسلم). وأخرج ابن جرير -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى ج

التزام الصحابة بأدب النهي عن السؤال

التزام الصحابة بأدب النهي عن السؤال ولقد التزم الصحابة هذا الأدب حتى كانوا ما يكادون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، لكن كانوا يفرحون إذا أتى رجل من أهل البادية فيسأله ويسمعون الجواب فيستفيدون، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها). ولـ مسلم عن النواس بن سمعان قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم). يعني: أنه قدم المدينة وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل؛ لأنه ما دام بصفة الوافد فقد كان له رخصة وسعة في أن يسأل؛ لأنه وافد، بمعنى أنه يقدم مدة يسيرة ثم يغادر بعدها، فحرص على أن يستبقي صفة الوافد لا صفة المقيم؛ لأنه إذا كان من المقيمين جرى عليه الأصل، وهو أنه لا يسأل. فهو يقول: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: ما يمنعني من اتخاذ المدينة مهاجراً ووطناً للإقامة إلا المسألة، فظل ماكثاً بصفة أنه وافد، وليس مقيماً مهاجراً، يقول: (ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: الحرص على أن أسأله (كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم). ومراده أنه قدم وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوافد، إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال. وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم، فقوله تعالى هنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، المقصود به المهاجرون. وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: (لما نزلت ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ)) -إلى آخر الآية- قال: كنا قد انتهينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم، فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم!) وهذه الرشوة ليست على ظاهرها، وليست هي الرشوة المحرمة، وإنما أهدوا له الهدية استعطافاً ثم قالوا: اذهب واسأل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا السؤال. ولـ أبي يعلى عن البراء: (إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -أي: قدوم الأعراب- ليسألوه) فإذ سأل الأعرابي سمع الصحابة أجوبة سؤالات الأعرابي فيستفيدون منها. وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله عنهم فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك. وعن ابن عمر قال: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن عمر أنه قال: (أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) يعني: لا تكثروا الافتراضات؛ فإن ما نزل وما علمنا يشغلنا عن الاشتغال بالافتراضات. وعن زيد بن ثابت: (أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: هل كان هذا؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون). وعن أبي سلمة ومعاذ مرفوعاً: (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل.

أقسام البحث عما لا يوجد فيه نص

أقسام البحث عما لا يوجد فيه نص قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين: أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضاً على من تعين عليه من المجتهدين. ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وقت الجمع، أو العكس، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود مرفوعاً: (هلك المتنطعون) أخرجه مسلم؛ لأن هذا فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع، كمسألة ليس لها أصل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في الإجماع، وهي نادرة الوقوع، فيظل الإنسان يفرع فيها، فيفرع على الفروع، ثم يفرع على فروع الفروع، وينفق العمر في هذا، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى، خاصة إذا ترتب لها التحصيل فيما هو متعين عليه، أو فيما هو أكثر وقوعاً. وأشد من ذلك -في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، فأشد من ذلك قبحاً وسوءاً أن الإنسان يظل ينقر ويخترع ويولد الأسئلة في أمور مغيبة الشرع لم يتعرض لها. فمثلاً: ورد في القرآن والسنة أن الرجال من أهل الجنة سوف يزوجون الحور العين، فماذا عن النساء، وهل النساء لهن أزواج أيضاً مثل الحور العين؟! فهل هذا مما تعرض له القرآن؟! وهل هذا مما تعرضت له السنة؟! إذاً: لا تسأل عن هذا، ومتى ستفهم مثل هذا، فلو كان هذا مما يفيدنا في ديننا ومما يجب علينا الإيمان به والتعرف عليه لأوحى الله إلى رسوله قولاً قاطعاً في ذلك، لكن إذا لم يتعرض له الوحي فلا تضيع وقتك بالاشتغال فيما لا يعنيك، ففي الحديث: (من حسن الإسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، فالله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، والله حكم عدل ودود غفور رحيم، يكرم عباده بكرمه وفضله، ولذلك لما سأل ذلك الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: متى الساعة انتقل عن السؤال عما لا يعني إلى السؤال عما يعني، فقال: (وما أعددت لها؟) فهذا هو الذي يخصك. ومن ذلك السؤال عن الروح، والسؤال عن مدة هذه الأمة، وأمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف، ولا يوجد باب لهذا، فهذه الأشياء يكره السؤال عنها، وهي داخلة في النهي؛ لأنها أشياء مغيبة لا يدركها الحس، ثم إن الوحي الذي هو النافذة الوحيدة التي من خلالها نستطيع أن نصل إلى الإجابة القاطعة في هذه المسائل لم يبث فيها، ولم يخبرنا بأجوبتها، فدل على أنها مما لا يعنينا ومما لا ينبغي أن نشتغل به، فهذه الأشياء كلها لا تعرف إلا بالنقل الصرف، ولا نقل يوجد. إذاً: ينبغي أن لا نسأل عن مثل ذلك، ولا نتحرى ولا نتنطع، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث. وأشد من هذه الصورة -وهي التنطع والتحري فيما هو من الأمور الغيبية التي لا يدركها الحس ولم يتعرض لها النص- ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، ويدخل في هذا السؤال المذموم عن الأشياء التي لو أكثرت السؤال عنها أوقعتك في الشك والحيرة، ومن هنا يأتي بلاء الوسوسة، وما أدراك ما الوسوسة والعذاب الذي يعيشه صاحبها! والتكدير الذي يطبق على حياته كلها! والخلل الذي يطرأ على حياته وعلى دينه وعلى واجباته! ومثال التنطع في السؤال أن يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن، وذلك كسؤال بني إسرائيل عن البقرة حين قال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، فلو أخذوا أي بقرة وذبحوها لانتهى الأمر، لكن لما تنطعوا وتشددوا شدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فقالوا: يا موسى! {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] فتنطعوا وتشددوا، ثم قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:69 - 70]، وفي هذه المرة قالوا: إن شاء الله {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71]، فانظر كيف اقترن التنطع في الأسئلة بسوء الأدب! حيث قالوا: يا موسى! وهذا من سوء أدبهم مع نبيهم، ثم قالوا: (ادع لنا ربك) وكأنهم يقولون: هو ربك أنت وليس ربنا نحن ثم في ختام سوء أدبهم -لعنهم الله- قالوا: (الآن جئت بالحق) وكأنه قبل ذلك ما جاءهم بالحق. فمثال التنطع في السؤال أن تسأل سؤالاً فيجيبك المفتي بالإباحة والرخصة والتسهيل، فتظل تفتش وتفتش حتى يفتيك بالمنع والتحريم والتضييق. يقول بعضهم: ومثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسئول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي العالم بالإذن: أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فالسائل يسأل عن السلع الموجودة في السوق تشترى هل لابد من أن الإنسان يتحرى من أين أتى بها صاحبها؟ ومن أين اشتراها؟ فيجيبه المفتي بالجواب فيقول: ما ينبغي لك أن تتحرى وحين تشتري لنفسك الأشياء المبنية على البراءة. فيعود السائل إلى سؤاله فيقول: أخشى أن يكون ذلك من نهب أو غصب. وبقدر الله يكون قد وقع في ذلك الوقت شيء من ذلك في الجملة، حيث تحصل حادثة نهب أو غصب في الحي القريب، أو في الشارع القريب، أو في نفس السوق، فيحتاج المفتي إلى أن يقول له: الورع يقضي بأن تمتنع عن شراء هذه السلعة. وكان سهلاً على نفسه من البداية أن يشتري بدون تنطع، وكثيراً ما يحصل هذا نتيجة التنطع في السؤال والتدقيق والتفيهق والتكلف، فينتهي ذلك بالإنسان إلى المنع بعدما كان الشيء مباحاً، فهذا من شؤم هذا التنطع والتعمق في السؤال. يقول: ويقيد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه في الجواز. وإذا تقرر ذلك فمن يسد باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها -ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف. أي: لا مانع من أن تسأل سؤال المستفهم الراغب المتعلم؛ لأن طالب العلم كيف له أن يتعلم إذا لم يسأل؟! فنحن نريد أن نضع الكلام في موضعه المناسب واللائق به، فالإنسان لا يغلو في التعامل مع هذه القضية، أقصد قضية كثرة السؤال، فهناك طرفان ووسط: طرف الغلو، وهو أن يغالي الشخص ويتنطع ويتفيهق، ويفرع الفروع، وفروع الفروع، وفروع فروع الفروع إلى غير ذلك من صور التنطع التي ذكرناها. وطرف الغلو الآخر أن يسد باب المسائل حتى ينسد عليه باب العلم، فلا يتعلم كثيراً من الأحكام حتى التي يحتاجها، بل يسد باب المسائل حتى المسائل التي يحتاجها الإنسان في دينه، أو يحتاج إليها طالب علم ليتعلمها، فيفوته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فهذا تكون نتيجته أنه يقل فهمه وعلمه. وعلى الجانب الآخر من التوسع في تفريع المسائل وتوليدها -لا سيما إذا كانت المسائل نادرة الوقوع- إذا كان السائل يقصد بذلك المباهاة والمغالبة، فإنه يذم فعله، وهذا هو الذي كرهه السلف رحمهم الله تعالى، وقد وجدنا في بعض المجالس أن بعض الشباب يأتي إلى عالم جليل من العلماء، وهذا الشاب ربما استطاع أن يحصل شيئاً من العلم في مسألة من المسائل سهر فيها الليالي الطوال ليحصلها، فإذا جلس أمام الشيخ فإنه يبدأ باستدراجه، وهذا يحصل كثيراً جداً، وهذا ليس من الأدب في شيء، فيُظهر له في البداية أنه يسأل سؤال مستفهم، كأنه لا يعلم، فالعالم يفتي فيقول: المسألة حكمها كذا فإذا به يقول له: إن فلاناً يقول فيها كذا. فيظهر من خلال الحوار أنه مطلع اطلاعاً واسعاً جداً على المسألة، وينتقل من المستفهم الراغب في العلم إلى المجادل المناظر الذي يحاول أن يحرج هذا الشيخ ويفحمه، حتى إنه حصل مرة مع فضيلة الشيخ: أبي بكر الجزائري هنا في الإسكندرية موقف مثل هذا، واستدرجه السائل أولاً بالسؤال، ثم ظل يجادل ويتنطع ويفرع ويحرجه، إلى أن قال الشيخ في غاية التواضع: يا أخي! اعذرني؛ فإني لا أحسن هذه المسألة. فينبغي للإنسان أن يراقب نيته مراقبة دقيقة في موضوع السؤال، وأن يكون راغباً في العلم لا راغباً في المجادلة أو الإحراج. يقول: من أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها، فإنه هو الذي يحمد وينتفع به، وهو طلب العلم من مضامينه، وتعلم مسائل الفقه، وتعلم الحديث والتفسير، وهكذا، هذا لا حرج فيه إذا كان بهذه الصورة، وهذا الذي سلكه فقهاء الأمصار من التابعين، فمن بعدهم. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات: الإكثار من الأسئلة مذموم، والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة، وكلام السلف الصالح. ثم ذكر الآية وبعض الأمثلة التي أوردناها، ثم قال: والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية مذموم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه.

المائدة [104 - 108]

تفسير سورة المائدة [104 - 108]

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول) قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104]. (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله) أي: من الكتاب المبين للحلال والحرام (وإلى الرسول) الذي أنزل هذا الكتاب عليه؛ لتقفوا على حقيقة الحال، وتميزوا بين الحرام والحلال، فترفضوا تقليد القدماء المفترين على الله الكذب بالضلال. (قالوا) يعني: لإفراطهم في الجهل وانهماكهم في التقليد (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) أي: كافينا ذلك. و (حسبنا) مبتدأ والخبر (ما وجدنا عليه آباءنا) فما هو ذاك الذي هو حسبهم؟ هو قولهم: (ما وجدنا عليه آباءنا) أي: الذي وجدنا عليه آباءنا. فهذا هو الخبر، فإن (ما) بمعنى الذي، والواو في قوله تعالى: (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) الواو هنا للحال دخلت عليها همزة الإنكار، يعني: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟! أيكفيهم ذلك حتى ولو كان هؤلاء الآباء لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟! فإذاً: الواو هنا للحال، ودخلت عليها همزة الإنكار، فكان المعنى: أحسبهم ذلك (ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً) أي: لا يعرفون حقاً ولا يفهمونه (ولا يهتدون) أي: إليه?! قال الزمخشري: والمعنى أن الاقتداء إنما يصلح للعالم المهتدي، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. ففيه ذم أن يقتدي الإنسان بعالم غير مهتد، ولا يكون مهتدياً إلا إذا بنى قوله على الحجة والدليل، وإذا لم يكن معه حجة ودليل لا يكون عالماً ولا مهتدياً، فوجب أن لا يجوز الاقتداء به، وثمرة الآية قبح التقليد، ووجوب النظر، واتباع الحجة. وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) أي: احفظوها وقوموا بصلاحها. (لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) قيل: المراد: لا يضركم من ضل من أهل الكتاب. وقيل: المراد غيرهم. كما في حديث أبي ثعلبة الخشني قال: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك) رواه الحاكم وغيره، وصححه الترمذي. وروى أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] يعني: ينبئكم ثم يجازيكم به.

كلام القاسمي وغيره في معنى قوله: (عليكم أنفسكم)

كلام القاسمي وغيره في معنى قوله: (عليكم أنفسكم) يقول القاسمي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: الزموا أن تصلحوها باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. (لا يضركم من ضل) أي: هؤلاء الضالون الذين سبق حكاية كلامهم ومنهجهم الذين قالوا: (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)، أو ممن أخذ بشبهة فضل بها أو عاند في قول أو فعل. فقوله تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) يعني: إذا اهتديتم إلى الإيمان. وكأن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار على كفرهم وضلالهم، فقيل لهم: عليكم أنفسكم وما كلفتم به من إصلاحها، والمشي بها في طريق الهدى، لا يضركم ضلال الضالين وجهل الجاهلين إذا كنتم مهتدين. فإذاً: هذه الآية -حقيقة- من الآيات التي ينبغي التنبه واليقظة عند دراسة تفسيرها؛ لأن كثيراً من الناس يضعونها في غير موضعها، فالآية لا تدعو أبداً إلى الأنانية، أعني أنه يكفيك أمر نفسك، فما دمت مهتدياً فلا تبال بالآخرين، فليس المقصود ذلك. بل الآية على الوجه الأول المذكور المقصود بها تماماً كالمقصود من قوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] فهذا تهوين وتخفيف على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى الأمة أيضاً، يعني: لا يشقن عليكم ما يقع من هؤلاء من استمرارهم على الكفر بالإيمان. فالله تعالى يقول: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فإن من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه. فهذا هو المقصود في هذا التفسير الأول، أي: لا يضركم ضلال غيركم إذا كنتم أنتم مهتدين، لا يشقن ذلك عليكم، ولا تتحسروا حسرة تكاد تقتلكم، كما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وكان هذا من شدة رحمته بالأمة صلى الله عليه وسلم. كذلك يقول الزمخشري: وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم فهو مخاطب بهذه الآية. يعني: لا تشتغل ولا تضيع وقتك وجهدك وطاقتك في حكاية ما عليه أهل الباطل من الضلال، فتقول: الرجل الفلاني شتم الإسلام وقال كذا، والصحفي الفلاني كتب مقالة قال فيها كذا، والرسام الفلاني للكاركتير فعل كذا، وإذاعة كذا قالت كذا، وفي التمثيلية الفلانية قالوا: كذا. فكأنك تنصرف بهذا عن وظيفتك في عبودية الله سبحانه وتعالى، بأن تنشغل بالحكاية والاسترسال في متابعة ضلالات أعداء الدين، فتأمل قول الزمخشري هنا! وكذلك يخاطب بهذه الآية من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا حرج في أن الإنسان يتأسف ويتألم مما يصنع أعداء الدين، ولكن ليس له أن يظل يذكر معايبهم ومناكيرهم، ولا يبقى له شغل سوى ذلك. فالعبد يخاطب بهذه الآية كي لا ينشغل عن الحق الذي كلف به بتتبع أضاليل هؤلاء الملحدين، فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) أي: اشتغلوا بما كلفتم به. وليس معنى ذلك أن ترضى بكفر الكفار، أو لا تتألم بسبهم للإسلام، إنما المقصود أن لا تنشغل بهم وبذكر مثالبهم عما كلفت به من الحق؛ لأن هذا الذي يفعله أعداء الدين في كل وقت وفي كل زمان ومكان ليس أمراً جديداً ومستغرباً على المؤمنين، بل هو أمر أخبرهم الله سبحانه وتعالى به مسبقاً. ألم نسمع قوله تعالى من قبل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] فالأمر هنا بالصبر والتقوى، والصبر هو الصبر الجميل، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5]. يقول تعالى: (إلى الله مرجعكم) فتذكر -أيها المسلم- دائماً أن المآل والمصير إليه؛ فإن هذا يواسيك ويعينك على ما أنت فيه من الغربة (إلى الله مرجعكم) يعني: بعد الموت مرجعكم جميعاً أنتم وهؤلاء الذين يعادونكم. (فينبئكم) أي: يخبركم. (بما كنتم تعملون) أي: في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فهذه الآية وعد ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره، تنبيه لكم على أن تشتغلوا بما ينفعكم في دينكم، ولا تشتغلوا بذكر ما يصنعه أعداؤكم؛ لأن كلاً منكم سيحاسب بعمله هو لا بعمل غيره، ولذلك قال عز وجل: (إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون) والمقصود: فيجازيكم به.

التفسير الشائع عند العوام لقوله تعالى: (عليكم أنفسكم)

التفسير الشائع عند العوام لقوله تعالى: (عليكم أنفسكم) ولا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي، وإلا فمن تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه. وبعض الناس قد يستدل بالآية على إبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخذاً بظاهرها، فيقول في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) إذا رأيت من قد ضل عن طريق الله يرتكب المعاصي أو البدع أو المخالفات فهذا لن يضرك وأنت على دينك. وهذا في الحقيقة ليس على إطلاقه، ولا يصح فهم الآية بهذه الطريقة. ولماذا نقول: إن هذا التفسير لا يصح؟ لأن الإنسان إذا كان قادراً على تغيير المنكر بأي درجة من درجات الإنكار ثم قصر في إنكاره فإن ضلال غيره يضره في حالة القدرة على إزالة المنكر؛ لأن لله حقاً عليك في إنكار هذا المنكر. والحقيقة أن ضلال الغير يضر القادر على تغيير ضلاله أو منكره، ولذلك يجب أن نحسن فهم الآية (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، فلا ينبغي أبداً ولا يصح إنزالها على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القدرة على إنكار هذا المنكر؛ لأن المطيع يؤاخذ بذنب العاصي ويضره ضلاله إذا قدر على تغيير المنكر ولم يغيره. وليس هذا فحسب، بل هذه الآية نفسها يستدل بها على التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) فمن قدر على إنكار المنكر ولم ينكره فهو من الضالين الذين يحذرنا الله أن نسلك مسلكهم، فكأن الآية ترشدنا إلى أن ننكر المنكر على أهله ما دمنا قادرين على ذلك، ولا يضرنا من ضل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو قادر إذا اهتدينا نحن بفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط، فالالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من جملة الاهتداء إذا اهتدينا، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة هو من جملة الضلال الذي أمرنا ألا نتبع من يقع فيه.

الآية ودلالتها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الآية ودلالتها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من تركهما مع القدرة فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لقوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] إذ يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات، يعني: الزموا أنفسكم بكل ما وجب عليكم كما قال المهايمي في تفسيره: (عليكم أنفسكم) أي: الزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الإخوان إلى ذلك. كما قال تعالى عن المؤمنين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] بإقامة الحجج ودفع الشبه، فالله سبحانه وتعالى حكم بأن كل إنسان في خسر فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] فكل بني آدم في خسر إلا من جمع هذه الأربع: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3]. فإذا آمن وعمل الصالحات ولم يتواص مع إخوانه بالحق فهو من الخاسرين، وإذا آمن وعمل الصالحات وتواصى معهم بالحق لكنه لم يتواص بالصبر فذلك نوع من الخسران. إذاً: لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بدعوتهم إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، وإقامة الحجج عليهم ودفع الشبه عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل، ولا تقصروا في ذلك {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] من التقصير أو الإيفاء قولاً وفعلاً في حق أنفسكم أو غيركم. انتهى كلامه. ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله يعتبر هذه الآية أوكد آية في إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه قال: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم. فانظر كيف فسرها ابن المبارك! لأننا نلاحظ كثيراً في القرآن أنه استعملت عبارة النفس أو الأنفس وأطلقت على الإخوة الموافقين في الدين، كقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] أي: بإخوانهم، وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] والمقصود: لا تلمزوا إخوانكم، وقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] ومعناها على إحدى التفسيرين: إخوانكم. وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ} [البقرة:188] يعني: أموال أنفسكم، والمقصود أموال المسلمين. وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54] والمقصود: اقتلوا إخوانكم. أي: يقتل بعضكم بعضاً. وكانت هذه توبة لليهود، والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن. فالشاهد من هذا كله أن قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) يعني: عليكم أهل دينكم. كقوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) أي: أهل دينكم. (لا يضركم من ضل) يعني: من الكفار إذا اهتديتم أنتم. فقوله: (عليكم أنفسكم) يعني: بأن يعظ بعضكم بعضاً في الخيرات، وينفره عن القبائح والسيئات. والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله: (عليكم أنفسكم) معناه: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب. فكان ذلك أمراً بأن نحفظ أنفسنا، فإذا لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً.

فهم الصحابة والسلف لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم)

فهم الصحابة والسلف لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) روى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (أنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105] إلى آخر الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ثم لا يغيرونه يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه) ومعناه أننا لا نستطيع أن نحفظ أنفسنا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وروى الترمذي عن أبي أمية الشعياني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: (كيف تصنع بهذه الآية؟! قال: أية آية؟! قلت: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105] قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً -أو: أما والله لقد سألت عنها أنا خبيراً- سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً، يعملون مثل عملكم) قال عبد الله بن المبارك: وزاد غير عتبة قيل: (يا رسول الله! أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم. وهذه الرواية -إن صحت- يفهم منها أن الآية تكون على ظاهرها في هذه الحالات إذا توافرت هذه الشروط، أي: (عليكم أنفسكم) إذا جزمتم بأن لا طائل من وراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي هذه الحالة عليك بخاصة نفسك والذين هم أقاربك، سواء من أهل بيتك أو أولادك أو إخوانك في الدين الذين يعظمون الشرع ويلتزمون الدين، فعليك بهم والزمهم، ودع عنك أمر العوام، فإن عامتهم يقعون في تلك الأحوال، يقول أبو ثعلبة رضي الله تعالى عنه. (أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر) يعني: استمروا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا رأيتم هذه العلامات (حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة) يفضلون الدنيا على الآخرة (وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أياماً) يعني: سوف تأتي أيام تشتد فيها غربة الإسلام، ويعاني المؤمن الموحد المطيع لله عز وجل ورسوله من الأذى كما يعاني الشخص إذا قبض على الجمر المتقد، وتخيل إنساناً إذا قبض على الجمر يمسكه بكل قوة دون أن يترخص في التخلي عن دينه وعن إيمانه، (فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن مثل القابض على الجمر)، يعني: لا يؤذى إلا بسبب أنه متدين، ولا يسب إلا لأنه يطيع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك يضاعف للصابر على هذا الأذى ثوابه، للعامل فيهن في هذه الأيام مثل أجر خمسين رجلاً، يأخذ أجر خمسين رجلاً من الصحابة، فهذا الصحابي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن كونهم خمسين من الذين يعيش بينهم أم خمسين من الصحابة فقال: (بل أجر خمسين منكم). هذا لا يلزم منه أن يكون الواحد من هؤلاء أفضل من الصحابة، فإن مضاعفة الأجر في هذه الأشياء لا يمكن أن تفي بفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، خاصة أعظم فضيلة على الإطلاق، وهي رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته، فليس معنى هذا أنه يكون أفضل من الصحابي. وعن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة:105] الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: (ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟! فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك؛ فإن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مه -يعني: اسكت- لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، وفيه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأوهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعاً، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً، وذاق بعضكم بأس بعض فأمرؤ ونفسه، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية) أخرجه ابن جرير. وأخرج -أيضاً- أنه قيل لـ ابن عمر: (لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه -يعني: أيام الفتنة- فإن الله قال: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب -يعني: مسئولون عن أن نبلغكم- ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم). وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه، قال: لأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:105] خطاب عام، وهو -أيضاً- خطاب للغائبين مع الحاضرين، فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب؟! انتهى. يقول القاسمي: ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما إخراج الحاضرين عن الخطاب، وأنه لم يعن بها إلا الغُيَّب، وإنما مرادهما الرد على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك والاسترواح لظاهرها إلا في الزمن الذي بيناه، وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قبلا، فإن ردا في مثل ذلك الزمن فليقرأ (عليكم أنفسكم) فهذا مرادهما، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:106 - 108]. هذه الآية من الآيات التي تحتاج إلى انتباه في فهمها وتفسيرها، وقد أفاض المفسرون في الكلام فيها، حتى قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً. وإن كان بعض العلماء لا يوافقونه على ذلك. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) معنى (إذا حضر أحدكم الموت) أي: حضر الموت حقيقة، أي: مقدماته وأماراته. فقوله تعالى: (حضر أحدكم الموت) يعني: حضر أحدكم أمارات وعلامات الموت. (حين الوصية) هذا بدل من الظرف، وليس ظرفاً للموت ولا لحضوره، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها. وقوله تعالى: (اثنان) خبر (شهادة) الذي هو المبتدأ، فالخبر هنا متأخر، وهو (اثنان) فيعرب على أنه خبر مرفوع بالألف لأنه مثنى، فقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان) يعني: شهادة اثنين. فيقدر هنا مضاف، فيكون التقدير: شهادة بينكم حينئذٍ شهادة اثنين. أو يعرب على أن (شهادة) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان. فتكون لفظة (اثنان) هنا فاعل لـ (يشهد). (ذوا عدل منكم) أي: من المسلمين (أو آخران من غيركم) أي: من أهل الذمة. فإذا عجزتم عن المسلمين فآخران من غيركم من أهل الذمة. (إن أنتم ضربتم في الأرض) أي: سافرتم فيها. (فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما) أي: توقفوهما للتحليف. (من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر، كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، لكن كيف يقال: إنها صلاة العصر، مع أن الله سبحانه وتعالى لم يعين صلاة العصر في القرآن الكريم؟ قيل: عدم تعيينها لتعيينها عندهم للتحليف بعدها؛ إذ عند المسلمين تعظيم الحلف بعد العصر، كما في الحديث: (ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر)، فوقت العصر له وضع خاص في القسم فيه، وإن كان الإنسان مطالباً بالصدق في الأيمان في كل وقت. فإذاً: المعنى: من بعد صلاة العصر. كما قاله ابن عباس وثلة من التابعين، وعدم تعيينها لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها، لأنه ليس وقت اجتماع الناس، فإن الناس في الغالب يكونون في السوق فترة الضحى والظهيرة، فإذا جاء وقت العصر انفضوا من السوق، حتى إن الإنسان الذي عنده رأس مال إذا جاءه وقت العصر تكون قد ذهبت عليه الصفقات في هذا الوقت، فيريد أن ينفق سلعته لأنه سيخسر. ولذلك قال بعض العلماء: ما فهمت هذه الآية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] حتى جئت يوماً من الأيام إلى السوق بعد العصر، فإذا تاجر ممن كان يبيع الثلج المجمد في قوالب يجري في السوق ويصرخ في الناس ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله. لأن هذا الثلج إذا ذاب وصار ماءً فهل سيستطيع بيعه بعد أن يذوب؟ لا، فقال: إن هذه الآية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] تعني أن العصر رأس مال الإنسان، وهو الوقت، فإذا ضاع منك الوقت فقد خسرت الربح وخسرت -أيضاً- نفس رأس المال إذا ضاع عمرك. فقوله تعالى: (من بعد الصلاة) أي: صلاة العصر. وأول شيء من أسباب تخصيص صلاة العصر بالذكر هو أن العصر وقت اجتماع الناس في المسجد، فينفض السوق ويجتمع الناس جميعاً في المسجد لصلاة العصر. كما أن العصر وقت تعاقب ملائكة الليل وملائكة النهار، فيجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار -كما هو معلوم- في صلاة العصر وصلاة الفجر. وحينما يجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار ففي ذلك تكثير للشهود منهم على صدقه أو كذبه، ومعناه أن الشهود ستكثر على ابن آدم، فملائكة الليل وملائكة النهار موجودة شاهدة على هذا الذي يحلف، سواء حلف كاذباً أو حلف صادقاً، فلعل هذا من الحكمة في تخصيص صلاة العصر. ومعلوم أن هذا غير حاصل في صلاة الفجر، فصلاة الفجر الناس بعدها يعودون إلى بيوتهم، وإن كان يحصل وجود ملائكة الليل والنهار. وعن الزهري أنه قال في تفسير الآية (من بعد الصلاة): بعد أي صلاة للمسلمين كانت، وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق. فالإمام الزهري يقول: بعد أي صلاة، ولا يشترط أن تكون صلاة العصر؛ لأن الإنسان إذا صلى فالصلاة تدعو إلى الخير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، إذا كان حديث عهد بالصلاة فإن الصلاة تنهاه عن أن يكذب في حلفه، فهي داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فالتعريف بالصلاة إما للعهد الذهني أو للجنس، فإذا قلنا: إنها للعهد الذهني فالمراد صلاة العصر، مثل قوله تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:16] ومعلوم من هو الرسول، فهو موسى عليه السلام، ومثل قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30] فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، فكذلك (أل) في (الصلاة) إذا قلنا: إنها للعهد فهي الصلاة المعهودة وهي صلاة العصر، أو أن اللام للجنس فتشمل كل صلاة على قول الزهري. قوله تعالى: (فيقسمان بالله) أي: يحلفان. (إن ارتبتم) أي: إن شككتم فيهما بخيانة، أو أخذ شيء من تركة الميت. قوله تعالى: (لا نشتري به ثمناً) جواب للقسم، أي: والله لا نشتري به ثمناً. أي: يا فلان! لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله -أي: عرضاً من أعراض الدنيا- أن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب، أي: لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال. (ولو كان) أي: لو كان من نقسم له ونشهد عليه ذا قربى، ودل عليه فحوى الكلام، (ذا قربى) أي: قريباً منا. واسم كان الضمير (هو)، والتقدير: ولو كان هو ذا قربى. أي: من نقسم له ونشهد عليه، وفحوى الكلام يدل عليه. فقوله تعالى: (ذا قربى) أي: قريباً منا، تأكيداً لبراءتهم من الحلف كاذباً، ومبالغة في التنزه عنه، كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من حرمة اسمه تعالى مالاً، واضمم إليه رعاية جانب الأقرباء، فكيف إذا لم يكن كذلك؟! يعني: لو كان قريباً ما كنا لنفعل هذا، فكيف لو لم يكن قريباً لنا؟! فهو أبعد لنا من أن نشتري به ثمناً. (ولا نكتم شهادة الله) أي: الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها. وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريف لها وتعظيم لأمرها. (إنا إذاً لمن الآثمين) يعني: إنا إذاً إن كتمناها لمن المعدودين والمستقرين في الإثم.

تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما)

تفسير قوله تعالى: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما) قال عز وجل: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:107]. قوله تعالى: (فإن عثر) أي: إن اتبع بعد التحليف (على أنهما) أي: الشاهدين الوصيين (استحقا إثماً) أي: فعلا ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما. (فآخران يقومان مقامهما) يعني: رجلان آخران يقومان مقام الذين عثر على خيانتهما، أي: في توجه اليمين عليهما لإظهار الحق وإظهار كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما. فهذان اللذان حلفا إن اتضح بعدما حلفا أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول من المال، أو زعما -مثلاً- أن هذا المال قد أوصى به إلينا، أو أعطانا هذا القدر من المال قبل أن يموت مثلاً فإنه يتوجب على شخصين آخرين أن يقوما مقامهما في إظهار الحق، والحلف من أجل إظهار هذا الحق، وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما للمال، إن عثر على أن الشاهدين الأولين قد استحقا إثماً، بأن زعما أن هذا المال أعطاه أياهما رجل ووهبه لهما. (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان) من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان أي: الأقربان إلى الميت الوارثان له الأحقان بالشهادة، أي: اليمين، فـ (الأوليان) فاعل استحقا، ومفعول استحقا محذوف قدره بعضهم (وصيتهما)، وقدره ابن عطية (ما لهما وتركتهما)، وقدره الزمخشري: أن يجردوهما للقيام بالشهادة -لأنها حقهما- ويظهروا بهما كذب الكاذبين، وقرئ على البناء للمفعول، أي: من الذين استحق عليهم الإثم -أي: بني عليهم- وهم أهل الميت وعشيرته، فـ (الأوليان) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: (فإن عثر على أنهما استحقا إثماً فآخران من الذين استحق عليهما) وكأنه لأنه قيل: ومن هما؟ وسيأتي الجواب أنهما الأوليان. أو هو بدل من الضمير في (يقومان) أو من (آخران)، ويجوز أن يرتفعا بـ (استحق) على حذف المضاف، أي: استحق عليهم ندب الأوليين منهم للشهادة. وقرئ (الأولين) على أنه صفة لـ (الذين) مجرورة، أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها؛ إذ هذان يكونان من أقرباء الميت. وقرئ (الأوليين) على التثنية وانتصابه على المدح. وقرئ (الأوليين) تسمية أول نصباً على ما ذكر، كما في البيضاوي، والكلام فيه كثير، ونقتصر على هذا القدر في الإعراب. قوله تعالى: (لشهادتنا أحق من شهادتهما) أي: لشهادتنا أحق بالقبول من شهادتهما، أي: لقولنا إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق. يعني أن هذين الاثنين اللذين كانا مع هذا الرجل في السفر وزعما أن هذا المال الذي كان معه هو لهما أو أعطاهما إياه، أو أوصى به إليهما، ونحو ذلك من أنواع الخيانة أو الغلول يؤتى بهما بعد صلاة العصر ليحلفا على هذه الوصية، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً بخيانة أو غلول، وجاء اثنان من أقارب الميت بعد ذلك في نفس الوقت للحلف بعد الصلاة فإنهما يقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، أي: لقولنا أحق بالقبول من شهادتهما، فقوله تعالى: (لشهادتنا) أي: على هذين بأنهما خانا وكذبا، والمقصود: لقولنا: إن هذين الرجلين قد كذبا وخانا فيما ادعيا من الاستحقاق، هذا القول منا أحق من شهادتهما المتقدمة، لأنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم. (وما اعتدينا) أي: وما تجاوزنا الحق فيما اتهمناهما فيه من الخيانة، فلم نتهمهما جزافاً. (إنا إذاً لمن الظالمين) قوله: (إنا إذاً) يعني: إن اعتدينا (لمن الظالمين) أي: أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى، فسنكون ظالمين إن استعملنا الحلف باسم الله في ظلم هذين، أو من الواضعين الحق في غير موضعه. ومعنى الآية أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين، فيقول: مال كذا أعطوه لفلان، أو الوصية هي كذا إلى آخره، فإن لم يجد مسلمين فرجلين من أهل الكتاب يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه، فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قبل قولهما وتركا يخلى سبيلهم، وإن اتهموهما -أي: إن طعن الورثة في هذين الرجلين واتهموهما- رفعوهما إلى السلطان، فحلفا بعد صلاة العصر بالله: ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا. فإن اطلع الأوليان الأقربان من الميت -من الورثة- على أن الكافِرَين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافِرَين باطلة، وأنا لم نعتد. فترد شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء، هكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما. قال الإمام ابن كثير: وهذا التحليف للورثة، والرجوع إلى قولهما -والحالة هذه- كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القتل، فيقسم المستحقون القاتل، فيدفع برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة. وقد ورد في السنة مثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) إلى آخرها قال: (برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولىً لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة معه جام من فضة يريد به الملك، وهو أعظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله -أي: يوصلا هذا المال من الفضة إلى أهله- قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمناه أنا وعدي، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام -أي: أعطياهم ما بقي بعدما أخذا من المال ما أخذاه، ولم يذكرا شيئاً عن الجام، وأهله كانوا يعرفون أن الجام أعظم ما يملك- قال: فسألونا عنه، فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه، فحلف فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة:106 - 107] فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء). هكذا رواه الترمذي وابن جرير عن محمد بن إسحاق به فذكره، وعنده: (فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فحلف، فأنزل الله هذه الآية، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا، فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء) ثم تكلم الترمذي على إسناده، والحديث أصله في البخاري في كتاب الوصايا. والجام: هو الإناء، وهو جام من فضة، وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوص النخل. ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير بإسنادين صحيحين وأبو داود بإسناد رجاله ثقات عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا -اسم بلد- ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه، وقدما الكوفة لتركته ووصيته، فقال الأشعري: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا، ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته، قال: فأمضى شهادتهما. وقوله: (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام) يعني: هذه الحادثة لم تتكرر بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام منذ حادثة قصة تميم وعدي بن بداء.

تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها)

تفسير قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) قال عز وجل: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:108]. بين عز وجل وجه الحكمة والمصلحة في الأمر المتقدم تفصيله بقوله: (ذلك) يعني: ذلك الحكم المذكور فيما سبق من الآيات أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها، أي: أقرب إلى أن يؤدي الشهود أو الأوصياء الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها، خوفاً من العذاب الأخروي. فقوله تعالى: (ذلك) يعني: هذا التشريع؛ لأن هذين الشاهدين من أهل الكتاب إذا كانا يعلمان أنهما إذا بدلا أو غيرا فاعترض الأوليان اللذان هما أقرب للميت على ما فعلا واتهماهما فسيرد الحق وينتزع منهما إلى هذين الأوليين أو إلى الورثة فإن ذلك أدنى أن يكون دافعاً لهما إلى أن يأتيا بالشهادة على وجهها. والوجه بمعنى الذات والحقيقة، أي: على حقيقتها. قال أبو السعود: وهذه -كما ترى- حكمة -أي: شرعية- التحليف بالتغليظ المذكور (ذلك) يعني: ذلك التغليظ في التحليف، ويكون بعد صلاة العصر لكي تكثر الشهود من الملائكة والشهود من الناس، ويقسمان بالله ما غيرنا ولا بدلنا إلى آخره. وقوله تعالى: (أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ) بيان لحكمة شرعية رد اليمين على الورثة، معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام، كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتي الشاهد بالشهادة على وجهها ويخاف عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة، أو يخاف أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم فيفتضح بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ويغرم. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا) (اتقوا الله) أي: في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم، وهو ترك الخيانة والكذب (واسمعوا) أي: ما تؤمرون به سماع قبول. (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته. أي: لا يهديهم إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم، يعني: لا يهديهم إلى ذلك.

الأحكام المستفادة من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت)

الأحكام المستفادة من قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت) استفيد من الآية أحكام:

لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه

لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه الأول: لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه؛ لأنه تعالى قال: {حِينَ الْوَصِيَّةِ}، أي: وقت أن تحق الوصية وتلزم. إذاً: تجب الوصية إذا ظهرت أمارات الموت، فيجب على الإنسان أن يكتب الوصية أو يوصي ويشهد على الوصية إذا حضرت أمارات ومقدمات الموت.

شهادة الشاهدين عامة في كل الحقوق الإلهية والآدمية

شهادة الشاهدين عامة في كل الحقوق الإلهية والآدمية الأمر الثاني: قال بعضهم: دل قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}، على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان، وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق الله وحق غيره، ولا بين الحدود وغيرها، إلا في شهادة الزنا كما في قوله تعالى في سورة النور: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، وهذا مجمع عليه، وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أنه -سبحانه- ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك، فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بأيمان اللعان، وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه، والشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يرد حقاً قد ظهر بدليله أبداً، فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها، ولا يكشف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في التصريح به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه.

صحة شهادة الذمي إذا لم يوجد مسلم

صحة شهادة الذمي إذا لم يوجد مسلم قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، فيه دلالة على صحة شهادة الذمي على المسلم عموماً، لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع. قال بعض المفسرين: ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت، وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي وشريح والراضي بالله وجده الإمام عبد الله بن الحسين أنها صحيحة ثابتة، وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ، وقال طاوس والحسن والهادي: إنه ثابت. يقول القاسمي: أقول: لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها. وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أنه تعالى أمر في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم، وغير المؤمنين هم الكفار، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين، وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده، ولم يأت بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً، وليس فيها منسوخ. فليس في سورة المائدة منسوخ، وليس لهذه الآية ناسخ البتة. ولا يصح أن يكون المراد بقوله: ((مِنْ غَيْرِكُمْ)) من غير قبيلتكم، فإن الله سبحانه وتعالى خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فلا يمكن أن تفسر بـ (من غير قبيلتكم). ولا يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: (من غيركم) أي: أيتها القبيلة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية، بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.

استحباب التغليظ في الأيمان

استحباب التغليظ في الأيمان قوله تعالى: ((مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ)) فيه دلالة على تغليظ اليمين، واليمين يمكن أن تغلظ بأنواع كثيرة زمانية أو مكانية، فتغلظ اليمين من ناحية الزمان بأن تكون بعد العصر، أما في المكان ففي المدينة عند المنبر أو بمكة بين الركن والمقام، وقد ورد في بعض الآثار تغليظ الحلف بين الركن والمقام، حتى جاء في بعض الأحاديث أيضاً: (يبايع المهدي بين الركن والمقام) لتوثيق العقود، ولشدة حرمة المكان، وهو مكة المكرمة، ثم المسجد الحرام، ثم بين الركن -الذي هو الحجر الأسود- ومقام إبراهيم عليه السلام، حتى إن المثلث الواصل بين الركن اليماني والحجر الأسود زمزم سمي الحطيم؛ لأن من حلف فيه كاذباً فإن الله يحطمه. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا نوع من التغليظ، وأضافوا أشياء في الزمان بعد العصر، فهذه ثابتة، أما التغليظ في المكان ففي المدينة عند باب المنبر، أو في مكة بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي غير ذلك في المسجد الجامع، واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير لا في القليل. وذهبت الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا مكان، وأخذوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ولم يفصل، قالوا: وقوله تعالى في هذه الآية: ((مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ)) يحتمل أن ذكره لهذا الوقت لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلا في ذلك الوقت. ومن الأشياء التي أحدثت في تغليظ الأيمان أن يأتي بالمصحف ويضع يديه عليه من باب التغليظ في هذا الحلف. قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة: المختار التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان، وذلك مروي عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعي. قال: والمختار أنه مستحب غير واجب. قال ابن أبي الفرج في قوله تعالى: ((فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ)) دليل على أن: (أقسم بالله) يمين وليست كلمة (أقسم) فقط بدون أن يقول: (بالله)، فلا تكون يميناً، لكن إذا أراد أن يقسم فليقل: (أقسم بالله) لقوله تعالى: ((فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ)).

تحريم كتمان الشهادة

تحريم كتمان الشهادة قوله تعالى: ((وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ))، فيه دليل على تحريم كتمان الشهادة، وذلك لا إشكال فيه. قال السيوطي: تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة على قراءة (الأوليان) لخصوص الواقعة التي نزلت لها. ثم ساق رواية البخاري السابقة، أي: والإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة -أيضاً- وإن كان فيهم كثرة. ثم يقول القاسمي في ختام تفسير هذه الآية الكريمة تحت عنوان (غريبة): قال مكي في كتابه المسمى بالكشف: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً وتفسيراً، ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها. قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر، وقد ذكرناها مشروحة في كتاب المفرد. قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى. يعني: من كتاب مكي، فهو يعترض على أنه يمكن أن يجمع تفسيرها في ثلاثين ورقة. وابن عطية إمام مشهور جداً، ولكن الناس تجهل أن ابن عطية هو نفسه أبو محمد عبد الحق، إمام جليل جداً من أئمة المغرب، فالإمام أبو محمد عبد الحق هو ابن عطية! فـ ابن عطية يعلق على كلام مكي حينما قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر. فقال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها. يعني: ليس عنده من الخصوبة العلمية ما يزيد على ثلاثين ورقة، فهي تحتمل أكثر من ذلك، وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى، يعني: كتاب مكي. قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً. يقول القاسمي أقول: هذه الآية الكريمة غنية بنفسها -مع ما ورد في سبب نزولها، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها- عن التشكيك فيها، والتكلف لإدخالها تحت القواعد، والتمحل لتأويلها، فخذ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

المائدة [109 - 118]

تفسير سورة المائدة [109 - 118]

تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل)

تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل) يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: اذكر (يوم يجمع الله الرسل) وهو يوم القيامة، (فيقول) لهم توبيخاً لقومهم، (ماذا أجبتم) يعني: ما الذي أجبتم به حين دعوتم إلى التوحيد، (قالوا لا علم لنا) أي: بذلك، (إلا ما علمتنا)، (إنك أنت علام الغيوب) أي: ما غاب عن العباد، وذهب عنهم علمه؛ لشدة هول يوم القيامة وفزعهم. ثم يشهدون على أممهم عندما يسكنون ويطمئنون، فالرسل من شدة هول يوم القيامة ودهشتهم من فظائع ذلك اليوم يسألهم الله سبحانه وتعالى: (ماذا أجبتم؟) فيقولون: (لا علم لنا) وذلك بسبب دهشتهم وذهولهم من أهوال يوم القيامة. واعترض بعض الناس على هذا التفسير؛ لأن الأنبياء عليهم السلام في مأمن من الفزع الأكبر (لا يحزنهم الفزع الأكبر) فكيف يفزعون؟! و A أن هذا إنما يكون في النهاية، أما في بداية الحشر والبعث والنشور وفي أول الأمر فإنهم تكون دعواهم حينئذٍ: اللهم! سلم سلم، أو نفسي نفسي! في شدة الهول ودهشته، فيبادرون لشدة ما هم فيه فيقولون: لا علم لنا. لأنهم ذهلوا عن جواب هذا السؤال، ثم عندما يهدءون ويسكنون يأتون فيشهدون على أممهم. قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة:110]. أي: اذكر (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك) أي: اشكرها، وإن كان في الحقيقة أن هذا التفسير قد يكون فيه نظر؛ لأنه إذا كان المقصود بيوم يجمع الله الرسل يوم القيامة فالشكر كعبادة تكليفية لا محل لها في الآخرة؛ لأن الآخرة هي دار الجزاء، ويوم القيامة هو يوم الجزاء، فلا يقع فيه تكليف، هذا هو الأصل، فيبعد أن يفسر قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)، بمعنى: اشكرها. وقوله: (إِذْ أَيَّدتُّكَ)، أي: قويتك. من الأيد، وهي القوة (بِرُوحِ الْقُدُسِ)، وهو جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار. وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، (تكلم) حال من الكاف في: (أيدتك)، وقوله: (في المهد) أي: طفلاً، (وكهلاً) يعني: وتكلمهم كهلاً، وهذا يفيد نزوله قبل الساعة؛ لأنه رفع قبل الكهولة، وهذا صحيح، فبعض المفسرين استنبطوا من قوله تعالى: (تكلم الناس في المهد وكهلاً) أنه كما كان تكليمه إياهم في المهد آية فتكليمه إياهم وهو كهل مقترن بآية، وهي نزوله من السماء في آخر الزمان، فمن أجل ذلك عطف (كهلاً) على (في المهد). وإن كان عامة المفسرين يقولون: إن هذا -أي: نزول عيسى عليه السلام- يستدل عليه بدليل آخر من القرآن الكريم في غير هذا الموضع، وإنما المقصود أنك تكلمهم في المهد كما تكلمهم كهلاً، أي: كما أنك في الكهولة ستتكلم فكذلك كنت تكلمهم في المهد. قوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ) أي: تجعل وتصور. (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كصورة الطير، والكاف اسم بمعنى: (مثل) يعني: مثل هيئة الطير، وهو مفعول لـ (تخلق). وقوله: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)، أي: بإرادتي. وقوله: (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي)، الأكمه هو من ولد أعمى، أما الأعمى فهو الذي يولد بصيراً، ثم يطرأ عليه العمى بعد ذلك، فهنا يقول: (وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني). وقوله: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى)، يعني: من قبورهم أحياءً. وقوله: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ)، يعني: حين هموا بقتلك. (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: المعجزات. (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا) أي: ما الذي جئت به (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، وفي قراءة: (إن هذا إلا ساحر مبين) أي: عيسى عليه السلام. وقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ)، أي: أمرتهم على لسان عيسى عليه السلام. (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)، أي: بأن آمنوا بي وبرسولي عيسى (قَالُوا آمَنَّا)، أي: بك وبرسولك (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، ولا شك في أن هذه إشارة إلى أن الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام هو دين الإسلام، وكثير من الناس يلتبس عليه الأمر، حتى إنهم يظنون أن الإسلام هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن لكل نبي ديناً خاصاً به، وهذا -بلا شك- خطأ فاحش، والصواب أن دين الإسلام هو دين الله تعالى الوحيد الذي أرسل به جميع أنبيائه ورسله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العباد ديناً سواه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. وهنا فائدة ذكرها بعض المفسرين في قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ)، وهي: هل هذه الجملة متصلة بما قبلها أم ليست متصلة؟ فمن قال: إنها ليست متصلة بما قبلها قال: التقدير: (واتقوا يوم يجمع الله الرسل) أو (اتقوا يوم جمعه الرسل) أو (اذكروا) أو (احذروا يوم يجمع الله الرسل). ومن قال: إنها متصلة ربطها بما قبلها مباشرة، وهو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة:108 - 109]، والمعنى: والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل، فالربط يكون بين قوله تعالى: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وبين قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ)، أي: أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الفاسقين إلى الجنة يوم يجمع الله الرسل، كما قال أيضاً: {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء:168 - 169].

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم)

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم)

كلام القاسمي على الآية

كلام القاسمي على الآية يقول القاسمي: (يوم) منصوب بـ (اذكروا) أو (احذروا) يوم يجمع الله الرسل، وذلك يوم القيامة، وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم، أي: ليس الرسل هم الذين يجمعون فحسب، وإنما تجمع أيضاً الأمم مع الرسل، كيف لا وذلك يوم مجموع له الناس كما قال تعالى، وإنما خص الرسل بالذكر لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم، يعني: يوم يجمع الله الرسول وأتباع الرسل تبع لهم. (فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ)، فيقول للرسل: ماذا أجبتم؟ أي: من الذي أجابكم ممن أرسلتم إليهم؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهدة الرسالة؛ إذ لم يقل: هل بلغتم رسالاتي؟! أو: هل بلغتم رسالتي؟! فمعناه أنهم لم يقصروا في تبليغ ما أمرهم الله بتبليغه، فهم أدوا الأمانة، وبلغوا هذه الرسالة، والسؤال هنا ليس المقصود به سؤال الرسل حقيقة، وإنما المقصود به توبيخ الذين أرسلوا إليهم، والذين يكونون حاضرين في هذه المشاهد العظيمة يوم القيامة (فيقول ماذا أجبتم)، وفي توجيه السؤال إليهم والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم -كأن يقال: ماذا أجابوا- فيه من الإنباء عن شدة الغضب الإلهي ما لا يخفى، أي: لم يسأل الله سبحانه وتعالى الذين أرسل إليهم أنفسهم في سياق هذه الآيات، وإنما توجه السؤال أولاً إلى الرسل، وهذا إشارة إلى شدة الغضب الإلهي في ذلك اليوم، وفي الصحيح كما في حديث الشفاعة أن كل نبي يقول يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله). وقوله تعالى: (قَالُوا) يعني: من هيبته تبارك وتعالى، وتفويضاً للأمر إلى علم سلطانهم، وتأدباً بليغاً في ذلك الموقف الجلالي (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، أي: من علم الخفيات، فإذا كنت يا ألله -سبحانه وتعالى- تعلم الغيوب -بل أنت علام الغيوب- فلن تخفى عليك الظواهر التي منها إجابة أممهم لهم، فلذلك قالوا: (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فإذا كان الله هو علام الغيوب فأولى أن يعلم المظهر الذي أظهره قومه وما أجابوه به، فهم فقهوا أنه ليس المقصود سؤالهم حقيقة عن الإجابة، وإنما المقصود توبيخ من أرسلوا إليهم. وفي هذه الآية دليل على جواز أن يوصف الله سبحانه وتعالى بـ (علام)، لكن لا يجوز أن يقال: علامة. فقد أبى ذلك العلماء، ولعله لسبب ما فيها من تاء التأنيث. يقول الرازي: اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام أتبعها إما بالإلهيات، وإمام بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال يوم القيامة، أي: دائماً تأتي الأحكام والتكاليف الشرعية ثم تتبع مباشرة إما بصفات الله، وإما بصفات أحوال يوم القيامة، وإما بشرح أحوال الأنبياء، لماذا؟ حتى يصير ذلك مؤكداً لما تقدم بين يدي ذلك من التكاليف والشرائع، فلما ذكر فيما تقدم في سورة المائدة أنواعاً كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال يوم القيامة، فقال عز وجل هنا: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) إلى آخر الآيات.

كلام الزمخشري على الآية

كلام الزمخشري على الآية وقال الزمخشري: فإن قلت ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموءودة توبيخاً للوائد. أي قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9]، فهل المقصود حقيقة سؤال الموءودة وهي مظلومة؟ وإنما المقصود توبيخ الوائد. فإن قلت: كيف يقولون: (لا علم لنا) وقد علموا بما أجيبوا؟ أي أنهم يعلمون أنهم أجيبوا؛ لأنهم عاصروا قومهم وعاشوا معهم، وسمعوا ردودهم عليهم، فكيف قال الأنبياء: (لا علم لنا) وهم يعلمون بما أجيبوا؟ يقول الزمخشري: قلت: يعلمون أن الغرض في السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه تبارك وتعالى، وإحاطته بما منوا به منهم، وكابدوا من سوء إجابتهم إظهاراً للتشكي، واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأفت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذ اجتمع توبيخ الله، وتشكي أنبيائه عليهم. فبهذا السياق قالوا: (لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب)، فالأنبياء كأنهم يقولون: يا رب! أنت تعلم ما فعل هؤلاء القوم معنا، فكأن القياس هنا صار قياس إنك أنت علام الغيوب، ومما تعلم ما فعل معنا هؤلاء القوم، وما آذونا وما حاربونا به، وهذا يكون أجلب وأشد لحسرة الكافرين حينما يرون غضب الله وتشكي أنبيائهم منهم في هذا الموقف العظيم. قال الزمخشري: ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصةً من خواصه نكبةً قد عرفها السلطان، يعني أن واحداً من خواص السلطان والمقربين إليه يأتي إليه رجل فيؤذيه أو يناله بسوء، وهذا الرجل الذي آذاه هو خارج عن السلطان، والسلطان يكون قد عرف هذه الحادثة، واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ وهو عالم بما فعل به، يريد توبيخه وتبكيته. فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه، واتكالاً عليه، وإظهاراً للشكاية، وتعظيماًَ لما حل به منه.

كلام بعض العلماء في الآية

كلام بعض العلماء في الآية وقال بعض العلماء: (قالوا لا علم لنا) يعني: لا علم لنا كعلمك. أي: علمنا بهم ليس مساوياً لعلمك بهم؛ فإنك أنت علام الغيوب؛ إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، كما جاء في الحديث: (نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) وأيضاً في الحديث الشريف: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار). فقالوا معناه: لا علم لنا كعلمك؛ إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا. أو قالوا: (لا علم لنا) أي: بجميع أفعالهم؛ إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإنما يستحقون الجزاء بما تقع به الخاتمة؛ لأن الأعمال بالخواتيم، ونحن لم ندر كيف كانت خواتيم القوم، فإذا رد الأنبياء العلم إلى الله أفلست الأمم، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم) قال تبارك وتعالى: ((إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)) المقصود من ذلك توبيخ الكفرة حيث فرطوا في حقه وأفرطوا، وليس المراد تكليف المسيح عليه السلام بالشكر في ذلك اليوم، لماذا؟ لانقطاع التكليف بالموت، والشكر عبادة تكليفية يكلف بها العبد، ويوم القيامة ليس زمن تكليف، وإنما هو وقت الجزاء، فلذلك كان: المقصود من هذا السياق توبيخ الذين فرطوا أو أفرطوا في حق المسيح عليه السلام. قال تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، وفي تذكيره بهذه النعم فائدتان: الأولى: إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة؛ لأن هذا سيكون يوم يجمع الله الرسل، فيخاطب الله عز وجل المسيح عليه السلام بعد أن يخاطب الرسل عموماً، فيقول: يا عيسى ابن مريم! اذكر نعمتي عليك إذ فعلت لك كذا وكذا وكذا، حتى تسمع الأمم ما خصه الله به من الكرامة. الثانية: لتوكيد حجة الله على جاحده. يقول تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم) هذا شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل بعد ذكر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال؛ لأن الإجمال هو في قوله: (ماذا أجبتم قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب)، وهنا تفصيل ما سيحصل مع المسيح عليه السلام، ليكون ذلك طريقاً وأنموذجاً لتفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص شأن عيسى عليه السلام للتفصيل من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالته على كمال هول ذلك اليوم، ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل، بسبب أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين ذكرت السورة الكريمة بعض جناياتهم. كما نلاحظ في هذه السورة أنها نعت على اليهود والنصارى -الذين هم أهل كتاب- جنايتهم عموماً، وفي حق المسيح عليه السلام خصوصاً، فتفصيله أعظم عليهم، وأجلب لحسرتهم وندامتهم، وآكد في صرفهم عن غيهم وعنادهم، فإذا سمعوا هذه الآيات في الدنيا فلعل هذا يصرفهم عن عنادهم وتماديهم في الكفران. قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ)، أي: منتي عليك. (وَعَلى وَالِدَتِكَ)، بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين وأتاها برزقها من غير حول منها. (إِذْ أَيَّدتُّكَ)، يعني: قويتك، مأخوذة من الأيد، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47]، وقال تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] فالأيد بمعنى القوة. قوله تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، أي: بجبريل عليه السلام، لتثبيت الحجة، أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية، ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة، فلذلك تكلم الناس في المهد وكهلاً، فهذا كان أثراً من آثار تأييد الله عز وجل للمسيح بروح القدس الذي هو جبريل عليه السلام. فمن مظاهر هذا التأييد قوله تعالى: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، أي: في أضعف الأحوال وأقواها بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد. قال ابن كثير: أي: جعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيراً، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، كما قال الله تعالى عنه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوتك إلى عبادي، ولهذا قال: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)) أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك؛ لأن كلامه الناس في طفولته ليس بأمر عجيب، فهذا كلام حاصل بكثير. وقوله تعالى: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ)، أي: الخط وظاهر العلم الذي يكتب. (وَالْحِكْمَةَ)، أي: الفهم، وباطن العلم الذي لا يكتب، فالعلم له باطن وظاهر، فالظاهر هو الحروف التي تكتب، والباطن هو الفقه ومعرفة وفهم هذا العلم، ويخص به أهله. (وَالتَّوْرَاةَ)، التي هي منزلة على موسى الكليم عليه السلام. (وَالإِنجِيلَ)، وهو الذي أنزل عليه، فعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)، أي: تقدر، ونسبة الخلق هنا إلى المسيح ليست نسبة حقيقية بغير شك، لكن (تخلق) هنا بمعنى: تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير، وقلنا: الكاف هنا تساوي كلمة (مثل) فقوله: (كهيئة الطير) يعني: مثل هيئة الطير. وقوله: (بِإِذْنِي)، أي: بإذني لك في أن تفعل ذلك. وقوله: (فَتَنفُخُ فِيهَا) أي: في تلك الهيئة المصورة. وهنا وقع الضمير خلاف الآية التي في آل عمران: {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49] فقال: (فيه)، فيمكن أن يعبر أحياناً بالهاء للطير لأنه مذكر، ويمكن أن يعبر بالمؤنث (تنفخ فيها) لأن المقصود هنا الهيئة، فالمعنى: تنفخ في هذه الهيئة المصورة. وقوله: (فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) أي: فتصير تلك الهيئة طيراً لحصول الروح من نفختك فيها. وقوله: (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي) الأكمه هو الذي يولد أعمى مطموس البصر، بخلاف الأعمى الذي يولد بصيراً ثم يطرأ عليه العمى بعد ذلك، لكن المقصود هنا (الأكمه) الذي يولد أعمى مطموس البصر. وقوله: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى) أي: من القبور أحياء بإذني، فهذا مما فعل الله به من جر المنافع، كل هذا امتنان على المسيح عليه السلام بما جر الله عليه من المنافع العظام. ثم أشار إلى ما دفع عنه من المضار فقال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ)، يعني: حين هموا بقتلك، فمنعت اليهود الذين أرادوا بك السوء وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إلي، وطهرتك من دنسهم، وهذا ما بينه قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، وقال أيضاً: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55]، وقال أيضاً: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157 - 158]. فقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] هذا من الدفع الذي دفع الله به الضرر عن المسيح عليه السلام. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ) أي: حين أرادوا قتلك وإضرارك، كما قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، فالصلب وقع، وهناك شخص صلب، لكنه ليس هو المسيح، حيث قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، يعني: قتلوا شبيهه عليه السلام، أما من هو هذا الشخص الذي صلب فهذه قضية أخرى. والمشهور عند أهل الكتاب -في حادثة طويلة- يهوذا الإسخريوطي أو يهوذا الخائن على حد تعبير زعيم عربي وصف صهره الذي فر إلى الأردن بأنه يهوذا الخائن، فهذا تعبير خبيث لا ينبغي أن يمر مرور الكرام؛ لأن هذه مغازلة لعقائد النصارى؛ لأن لفظ (يهوذا الخائن) تعبير حساس جداً عند النصارى؛ إذ يعتقدون أن يهوذا الخائن هو الذي دل على المسيح وتسبب -بزعمهم- في صلبه، فهذا تعبير كنسي يغازل به أعداء الله. فلا ينبغي أن تمرر هذه التعبيرات الخطيرة؛ لأن في معناه الاعتراف بأن يهوذا خان حقاً وتسبب في حصول الصلب -والعياذ بالله- للمسيح، فهذا كذب وافتراء بلا شك. وقوله تعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، يعني: بالمعجزات التي توجب انقيادهم لك؛ لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر. وقوله: (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، أي: ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر. وهنا Q هذا السياق هنا في تعديد نعم الله سبحانه وتعالى على عيسى عليه السلام، فإذا كان السياق سياق تعديد النعم -نعم الله على المسيح عليه السلام- فقد جاء في هذا السياق قول الكفار في حقه: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، فهذا ليس من النعم فيما يظهر، فما الحكمة في أنه جرى ذكره في سياق تعداد النعم على المسيح عليه السلام؟ والجواب أن من الأمثال المشهورة (كل ذي نعمة محسود) بل هذا حديث صحيح: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود)، فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل على أن نعم الله تعالى في حقه كانت عظيمة؛ لأنهم ما قالوا هذا إلا حسداً للمسيح عليه السلام، ومرادنا ذكر موقف اليهود منه ومعاداتهم في سياق تعديد النعم لهذا الوجه الذي أشرنا إليه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) ثم إن الله سبحانه وتعالى لما بين النعم اللازمة في حق المسيح ذاته، وهي جلب المنافع ودفع المضار عنه عليه السلام، أتبع ذلك بالنعم المتعدية، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]. قوله: (وإذ أوحيت إلى الحواريين) إما أن يقال: هذا وحي عن طريق الإلهام والإلقاء في القلب، فهذا مما يطلق عليه وحي، ويكون بالإلهام، مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]، ومثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]. أو يقال: الوحي هنا بمعنى الأمر، فيكون معنى (أوحيت إلى الحواريين) أمرت الحواريين، وسيكون المقصود به: أنه كان وحياً حقيقياً بواسطة عيسى، يعني: أوحى إلى عيسى كي يأمر الحواريين. قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) يعني: آمنوا بدعوته (قَالُوا آمَنَّا) وأكدوا إيمانهم بالمسيح عليه السلام بقولهم: (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، وقولهم (واشهد) إما أن يكون الخطاب فيه لله سبحانه وتعالى، والمعنى: واشهد -يا ألله- بأننا مسلمون لك، أو يكون الخطاب لعيسى عليه السلام، أي: فاشهد -يا عيسى- شهادة تؤديها عند ربك بأننا مسلمون، أي: لله، منقادون لكل ما تدعونا إليه. وكل كلمة تدل على الإسلام فإنه يقترن بها لفظ (لله) أي: مسلمون لله، حتى كلمة الإسلام معناها: الإسلام لله. وقدم ذكر الإيمان لأنه صفة القلب، حيث قال: (أن آمنوا بي وبرسولي). والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى: آمنا بقلوبنا، وانقدنا بظواهرنا، فجمعوا بين الإيمان والإسلام، حيث (قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) آمنا في الباطن وأظهرنا الخضوع لشرعك. وقد ذكر الله تعالى هذا في معرض تعديد النعم؛ لأن كون الإنسان مقبولاً عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، فلذلك جاء ذكر هذا في سياق ذكر النعم المتعددة على المسيح عليه السلام، بأن حببه إلى الناس وقبلوا قوله وآمنوا به، وهم الحواريون. وذلك لأنه إذا كان كاملاً في نفسه فإنما يحصل له الكمال الأعظم من ذلك بأن يكون كاملاً ومكملاً لغيره، ومصلحاً لغيره، فينال ثواب إرشادهم وهدايتهم، ولذلك جاء ذكر هذا في سياق الامتنان عليه بالنعم. يقول الرازي: إن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية: (اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك)، ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه تعلق بشيء منها! قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم، ولذلك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون:50] فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر. وقال بعضهم: أريد بالذكر في قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي)، الشكر، ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة، وأن النعمة على الأم نعمة على الولد، والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ونكون عليها من الشاهدين)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك ونكون عليها من الشاهدين) ثم يقول تبارك وتعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:112 - 113]. يقول السيوطي: (إذ قال الحواريون) يعني: (اذكر إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع) أي: هل يفعل (ربك)؟ وفي قراءة بالفوقانية (تستطيع) ونصب ما بعده، أي: هل تقدر على أن تسأله أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ (قال) أي: قال لهم عيسى: (اتقوا الله) في اقتراح الآيات، (إن كنتم مؤمنين). وقوله: (قَالُوا نُرِيدُ)، يعني: إنما سؤالها هو من أجل: (أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ) أي: تسكن قلوبنا، أي: بزيادة اليقين، (وَنَعْلَمَ) نزداد علماً، (أَنْ) أي: أنك (قد صدقتنا) في أدعاء النبوة (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ).

تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل)

تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل) قال تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة:114]. قوله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا) يعني: يوم نزولها (عِيدًا)، نعظمه ونشرفه (لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا)، يعني: من يأتي بعدنا (وَآيَةً مِنْكَ)، على قدرتك ونبوتي (وَارْزُقْنَا)، إياها، (وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ). {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]. قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ) أي: مستجيباً له (إِنِّي مُنَزِّلُهَا)، أو مُنْزِلها، قراءتان، وعندما يقول المفسر هنا: (إني منزلها)، بالتخفيف والتشديد فما معنى هذا؟ معناه أنها قراءتان، وليس شرطاً أن ينص فيقول: وفي قراءة بالتخفيف وهنا قرئت التشديد. لكنه يقول: (بالتخفيف والتشديد)، فنفهم أن هناك قراءة أخرى. وقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ)، يعني: بعد نزولها عليكم (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). يقول: فنزلت الملائكة بها من السماء، عليها سبعة أرغفة، وسبعة أحوات، فأكلوا منها حتى شبعوا، قال ابن عباس في حديث: (أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا فنسخوا قردة وخنازير) وهذا الحديث ضعيف.

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم)

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم) يقول القاسمي في قوله تعالى: ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)) ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه، ومعروف أن من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون إخوانه من الأنبياء أنه لا ينادى باسمه عليه الصلاة والسلام، حتى إن الله سبحانه وتعالى نفسه عز وجل لم يناد الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن الكريم كله، وإنما كله خطاب بأوصافه الشريفة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، وهكذا! ولم يرد في القرآن إطلاقاً (يا محمد)، وإن كان ورد (يا نوح). (يا هود). (يا لوط). (يا إبراهيم). (يا موسى). (يا عيسى). وهذا كثير في القرآن الكريم، فهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. فالحواريون هنا ينادونه باسمه ونسبوه إلى أمه، وهذا ملاحظ، وهو أنه في القرآن الكريم ينسب إلى أمه رداً على من يدعون أنه ابن الله، لكنه ليس ابن الله، وإنما هو ابن مريم، فنادوه بذلك لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته ليستقل بإنزال المائدة. قوله تعالى: ((هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ)) هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: (سورة المائدة)، وها هنا قراءتان: الأولى: (هل يستطيع ربك) بالياء على أنها فعل فاعله (ربك). القراءة الثانية: (تستطيع ربك) بالتاء ونصب (ربك)، أي: سؤال ربك. فحذف المضاف، كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية، والمعنى: هل تقدر أن تسأل ربك؟ هل تستطيع سؤال ربك؟ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ فهم قالوا ذلك خوفاً منهم من أن تكون هذه المسألة كسؤال قوم موسى الرؤية حين قالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فأخذتهم الصاعقة، ولذلك قالوا: هل تقدر على أن تسأل ربك؟ قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز، أي: (هل يستطيع ربك؟). فلا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، وهذا مبالغة في التقاضي، وإنما قصدوا بقولهم: (هل تستطيع) أي: (هل يسهل عليك) فإن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد طمأنينة، كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، ولا شك في أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث الطمأنينة في القلب، ولذلك قالوا: ((وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا)). إذاً (هل يستطيع) بسؤال عن الفعل دون القدرة، والسؤال ليس على ظاهره في أنهم شاكون في قدرة الله. وقيل: المعنى: (هل يستطيع ربك) أي: هل يطيع ربك؟ وهل يجيبك ربك إذا سألته؟ أو: هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ فـ (يستطيع) بمعنى (يطيع) وهما بمعنى واحد، والسين زائدة، كـ (استجاب) و (أجاب)، و (استجب) و (أجب)، ويطيع بمعنى (يجيب) مجازاً؛ لأن المجيب مطيع. ومما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرضه فقال له: (يا ابن أخي! ادع ربك أن يعافيني. فقال: اللهم! اشف عمي. فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك -يعني: يستجيب لك- فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك) أي: يجيبك لمقصودك. فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى، فلأن فيه مشاكلة قرنهما في نص واحد، فحصل نوع من المشاكلة في اتحاد اللفظ. وبعض المفسرين قال: هو على ظاهره، أي أنهم كانوا يجهلون قدرة الله على ما سأله، وهذا لا شك في أنه من الكفر، لكن إذا صح هذا التفسير فيكون ذلك فيه دلالة على العذر بالجهل، كما في قصة الرجل -وهي ثابتة في الصحيحين- الذي أسرف على نفسه بالمعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: أي أب كنت لكم؟ فقالوا: خير أب. فقال: فإذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني وذروا رمادي جزءاً منه في البر وجزءاً في البحر وجزءاً في الأرض، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك جمعه الله سبحانه وتعالى، وقال له: كن، فكان، فسأله: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له. فقالوا: إن هذا كان يجهل قدرة الله، وهذا كفر بلا شك، لكن لما كان الجهل عذراً له في ذلك عفي عنه. وعلى أي الأحوال فبعض المفسرين قالوا: إنه على ظاهره، وإنهم قالوا ذلك قبل استحكام الإيمان في قلوبهم والمعرفة، وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة، فلذلك رد عليهم المسيح غلطهم بقوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، يعني: اتقوا الله أن تشكوا في قدرته، والقول الأول أصح. قال القرطبي: وقيل: المعنى (هل يستطيع ربك) يعني: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل، ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قال القرطبي: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، كما قال تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52]، وقال عليه السلام: (لكل نبي حواري، وحوارييِّ الزبير). ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز وما يستحيل عليه، وأمروا بأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من صاحبهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟! وهل يعقل أن يكونوا حواريين وهم أخص أصحاب المسيح أو تلامذته ثم يجهلون عموم قدرة الله تعالى؟! إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وهذا تفسير آخر، وهو أنه كان هناك حواريون وأناس آخرون حديثو عهد بالإيمان، لم يتمكن الإيمان والمعرفة في قلوبهم، فهم الذين صدر عنهم هذا الطلب، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وكما قال من قال من قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه؛ لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك لرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، وقد كان إبراهيم علم أن الله سبحانه وتعالى يحيي الموتى علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شك؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون في تعليل هذا Q (( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا))، أي: كي نترقى من علم اليقين إلى عين اليقين. وإبراهيم عليه السلام لما قال له ربه جل وعلا: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فيضم إلى علم اليقين عين اليقين. فقول المسيح عليه السلام لهم مباشرة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57] يعني: تأدبوا في السؤال ولا تخترعوا أموراً خارجة عن العادة، اتقوا الله من أمثال هذا السؤال وأوقفوا إيمانكم على رؤية المادة إن كنتم آمنتم به وبرسالتي؛ لأن الإيمان يوجب التقوى، ويوجب اجتناب أمثال هذه الاقتراحات. ولنعلم أن في هذا إشارة إلى أدب من آداب السؤال، وهو أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فينبغي أن لا يسأله أموراً خارجة عن العادة، فلا يدعو بشيء مستحيل أو بشيء فرغ منه، كأن يقول -مثلاً-: اللهم! لا تجعلني ممن يردون النار. فهذا من سوء الأدب وعدم الفقه في الدعاء؛ لأن هذا أمر واقع حتماً، كما قال تعالى وأقسم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، فكل الخلق يدخلون النار كما قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فإذا كنت تعرف أن هذا أمر مقضي فلا تسأل مثل هذا الأمر. فليس من أدب السؤال أن تسأل الله سبحانه وتعالى أموراً خارجة عن العادة. وفي معنى المائدة قولان: الأول: أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل، قال رؤبة وأنشده الأخفش: تهدي رءوس المسرفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد فقوله: (إلى أمير المؤمنين الممتاد) أي: المستعطى المسئول. فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام، فإن معنى الإمداد الإطعام والإعطاء. وأما الخوان -بالكسر أو الضم: خوان وخُوان- فهو ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، سواءٌ أكانت قصيرة أم طويلة. أما المائدة فهي ما مد وبسط ووضع للطعام، والسفرة ما أسفر عما في جوفه؛ لأنها مضمومة بمعاليقها، فإذا أردت أن تهيئ الطعام للناس فإنك تفتح هذه المعاليق وتنشر هذه السفرة، فتسفر بعد أن كانت مغلقة، ولذلك سموها السفرة، بمعنى أنها تسفر وتكشف بعدما كانت مضمومة. فالمائدة كل شيء يمد ويبسط، هذا هو أصل كلمة (المائدة) فإذا أكلت على المنديل فهو المائدة، وإذا فرشت أو بسطت ثوباً فهذا الثوب هو المائدة. وكان من حقه أن تكون الدال مضاعفة، أي: (مادَّة)، فجعلوا إحدى الدالين ياءً فقيل: (مايدة)، ثم صارت: (مائدة)، والفعل واقع به، فكان ينبغي أن تكون ممدودة، لكن خرجت في اللغة مخرج

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم)

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم) يقول القاسمي: في قوله تعالى: ((إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ))، ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه، ومعروف أن من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون إخوانه من الأنبياء أنه لا ينادى باسمه عليه الصلاة والسلام، حتى إن الله سبحانه وتعالى نفسه عز وجل لم يناد الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن الكريم كله، وإنما كله خطاب بأوصافه الشريفة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، وهكذا! ولم يرد في القرآن إطلاقاً يا محمد، وإن كان ورد: يا نوح يا هود. ز يا لوط يا إبراهيم يا موسى يا عيسى وهذا كثير في القرآن الكريم، فهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. فكان الحواريون هنا ينادونه باسمه ونسبه إلى أمه، وهذا ملاحظ: أنه في القرآن الكريم ينسب إلى أمه كرد على من يدعون أنه ابن الله، لكنه ليس ابن الله وإنما هو ابن مريم، (يا عيسى ابن مريم) فنادوه بذلك لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته، ليستقل بإنزال المائدة. ((هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ))، هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: سورة المائدة، وها هنا قراءتان: الأولى: (هل يستطيع ربك) بالياء على أنها فعل فاعله (ربك). القراءة الثانية: (تستطيع ربك) بالتاء ونصب (ربك)، أي: سؤال ربك، فحذف المضاف كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية، والمعنى: هل تقدر أن تسأل ربك؟ هل تستطيع سؤال ربك؟ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ فهم قالوا ذلك خوفاً منهم من أن تكون هذه المسألة كسؤال موسى الرؤيا، {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فلم تحصل له الرؤيا، فخشوا أيضاً أن يكون هذا من جنس سؤال قومه الرؤيا، قالوا: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، فأخذتهم الصاعقة، ولذلك قالوا: هل تقدر أن تسأل ربك؟ قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز، يعني: هل يستطيع ربك؟ يقول: لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، وهذا مبالغة في التقاضي، وإنما قصد بقوله: (هل تستطيع) يعني: هل يسهل عليك؟ فإن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد طمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث الطمأنينة في القلب، ولذلك قالوا: ((وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا)). إذاً: (هل يستطيع) سؤاله عن الفعل دون القدرة، والسؤال ليس على ظاهره أنهم شاكون في قدرة الله، تعبيراً عنه بلازمه أو عند المسبب بسببه، وقيل المعنى: (هل يستطيع ربك) هل يطيع ربك؟ هل يجيبك ربك إذا سألته؟ أو هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ فيستطيع بمعنى: (يطيع) وهما بمعنى واحد، والسين زائد كاستجاب وأجاب، واستجب وأجب، ويطيع بمعنى: يجيب مجازاً؛ لأن المجيب مطيع. ومما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرضه فقال له: (يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني، فقال: اللهم اشف عمي، فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك -يطيعك يعني: يستجيب لك- فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك) أي: يجيبك لمقصودك. فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى، أن فيه مشاكلة اقترنهما في نص واحد، فحصل نوع من المشاكلة في اتحاد اللفظ. وبعض المفسرين قال: هو على ظاهره، أنهم فعلاً كانوا يجهلون قدرة الله على ما سأله، وهذا طبعاً لا شك أنه من الكفر، لكن إذا صح هذا التفسير فيكون ذلك فيه دلالة على العذر بالجهل كما في قصة الرجل، وهي ثابتة في الصحيحين، فذلك الرجل الذي أسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: أي أب كنت لكم؟ فقالوا: خير أب، فقال: فإذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني وذروا رمادي جزء منه في البر، وجزء في البحر، وجزء في الأرض، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك جمعه الله سبحانه وتعالى، قال له: كن، فكان، فسأله: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له، فقالوا: إن هذا كان يجهل قدرة الله، وهذا كفر بلا شك، لكن لما كان الجهل عذراً له في ذلك عفي عنه، وهذا بحث طويل سبق أن تكلمنا عنه في قضية العذر بالجهل. على أي الأحوال فبعض الناس قالوا: إنه على ظاهره، وأنهم قالوا ذلك قبل استحكام الإيمان في قلوبهم والمعرفة، وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة، فلذلك رد عليهم المسيح غلطهم بقوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، يعني: اتقوا الله أن تشكوا في قدرته، والقول الأول أصح. قال القرطبي: وقيل المعنى (هل يستطيع ربك) يعني: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: ((اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قال القرطبي: وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52]، وقال عليه السلام: (لكل نبي حواري وحواري الزبير). ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز وما يستحيل عليه، وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من صاحبهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟! هل يعقل أن يكونوا حواريين وهم أخص أصحاب المسيح أو تلامذته ثم يجهلون عموم قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وهذا تفسير آخر: أنه كان هناك حواريون وأناس آخرون حديثو عهد بالإيمان، لم يتمكن الإيمان والمعرفة في قلوبهم، فهم الذين صدر عنهم هذا الطلب، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وكما قال من قال من قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه؛ لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك لرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]، وقد كان إبراهيم علم أن الله سبحانه وتعالى يحي الموتى علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شك؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون في تعليل هذا Q (( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا))، يعني: كي نترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وأيضاً قال إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فيضم إلى علم اليقين عين اليقين. فقول المسيح عليه السلام لهم مباشرة: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، يعني: تأدبوا في السؤال ولا تخترعوا أموراً خارجة عن العادة، اتقوا الله من أمثال هذا السؤال وأوقفوا إيمانكم على رؤية المادة إن كنتم آمنتم به وبرسالتي، (إن كنتم مؤمنين) لأن الإيمان يوجب التقوى، ويوجب اجتناب أمثال هذه الاقتراحات. ولنعلم أن في هذا إشارة إلى أدب من آداب السؤال، أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فينبغي أن لا يسأله أموراً خارجة عن العادة، يعني: لا تدعو بشيء مستحيل أو بشيء فرغ منه، كأن تدعو مثلاً: اللهم لا تجعلني ممن يردون النار، فهذا من سوء الأدب وعدم الفقه في الدعاء؛ لأن هذا أمر واقع حتماً كما قال تعالى وأقسم فقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، كل الخلق يدخلون النار ثم بعد ذلك يردون منها، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فإذا كنت تعرف أن هذا أمر مقضي فلا تسأل مثل هذا الأمر. فليس من أدب السؤال أن تسأل الله سبحانه وتعالى أموراً خارجة عن العادة، (يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) ما هي المائدة؟ في المائدة قولان: إما أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل، قال رؤبة وأنشده الأخفش: تهدي رءوس المسرفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد (إلى أمير المؤمنين الممتاد) أي: المستعطى المسئول، فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام، فإن معنى الإمداد الإطعام والإعطاء. وأما الخوان بالكسر أو الضم خوان وخوان فهو: ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، مثل هذا الذي نحن نسميه السفرة الآن، فهذا يسمى الخوان الذي له قوائم سواء كانت قصيرة أو طويلة أما المائدة فهي: ما مد وبسط ووضع للطعام، والسفرة: ما أسفر عما في جوفه؛ لأنها مضمومة بمعاليقها، فإذا أردت أن تهيئ الطعام للناس تفك هذه المعاليق وتنشر هذه السفرة، فتسفر بعد أن كانت مغلقة، ولذلك سموها السفرة، السفرة بمعنى: أ

تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم)

تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم) قال تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]. هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى، كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فقوله تعالى: ((إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، ظاهر في أن هذا وقع في الحقيقة؛ لأن بعض المفسرين ذهبوا إلى أنها لم تنزل، لكن قوله تعالى: ((قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، يدل على أن نزولها حق. فقوله: (منزلها عليكم) أي: إجابة لدعوتكم. (فمن يكفر) بي وبرسولي (بعد) أي: بعد تنزيلها المفيد للعلم الضروري بي وبرسولي (منكم) أيها المنعمون بها (فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين) أي: من عالم زمانهم أو من العالمين جميعاً. ويحكى عن ابن عمر أنه قال: (إن أشد الناس عذاباً ثلاث طوائف: المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومن كفر من أصحاب المائدة؛ لهذه الآية: ((فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)) وآل فرعون؛ لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فهؤلاء المتقدمون هم أشد الناس عذاباً. روى ابن جرير بسنده إلى قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: (فمن يكفر بعد منكم) إلى آخره قالوا: لا حاجة لنا فيها. فلم تنزل أي أنهم قالوا: إذا كانت المسألة بهذه الصورة أن العذاب سيتضاعف علينا إذا نزلت وكفرنا فلا حاجة لنا فيها. أي أنهم استعفوا من ذلك فلم تنزل. وقال مجاهد: هو مثل ضربه الله ولم يَنْزِل شيءٌ، أي: مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن المسألة لأنبيائه، وقال الحافظ ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك؛ لأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم. ثم قال: ولكن الجمهور يرون أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، وذلك لأن القرآن حاكم ومهيمن على الكتاب السابق، فعدم وجودها في كتابهم لا يدل على أنها لم تقع، لماذا؟ لأن القرآن مهيمن، فإذا أخبر القرآن بأنها وقعت فقد وقعت حتى ولو لم يرد لها ذكر في كتابهم؛ لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله لله: ((إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ))، ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول -والله تعالى أعلم- هو الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين) قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]. (إذ) في كلام العرب تكون لما مضى، لكن يدل على أنها في يوم القيامة السياق، حيث قال تعالى: (يوم يجمع الله الرسل) فالسياق كله في يوم القيامة، وما بعده -أيضاً- يدل على ذلك، وهو قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، وهو يوم القيامة. فإذاً: هي لما مضى لكن المراد بها هنا ما يستقبل، فمعناها هنا (إذا) كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} [سبأ:51]، أي: ولو ترى إذا فزعوا. وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع، وفي التنزيل: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:50]، ومثله كثير في القرآن الكريم، يعبر عن المستقبل بالماضي لإفادة تحقق وقوعه، كأنه حصل وصار خبراً يذكر. قوله تعالى: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، هذا القول: إما أنه إلزام للنصارى لعنهم الله؛ لأن الولد من جنس من يلده، فإذا زعمتم أن المولود إله فمن ولده يكون إلهاً، فهذا بطريقة الإلزام. وإما لأنهم لما عظموهما تعظيماً إلهياً أطلق عليهما اسم الإله، كما أطلق على الأحبار والرهبان اسم الرب في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة:31] والتثنية حينئذٍ على حد (القلم أحد اللسانين) فكذلك هنا التثنية في قوله: ((اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)). ولفظ (أمي) على لسان المسيح في مريم فيه توبيخ للمتخذين لهما إلهين، يعني: أما كنت بشراً تلد وتولد قبل هذا؟! وقوله تعالى: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) يعني: أنا مربوب ولست برب، وأنا عابد ولست بمعبود. وقوله: (قال سبحانك) أي: براءة لك من السوء، أو أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يقال هذا وينطق به. وقوله: (ما يكون لي) أي: ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق (أن أقول) في حق نفسي (ما ليس لي بحق)، وهو ما استقر في قلوب العقلاء من عدم استحقاقي للعبادة (إن كنت قلته فقد علمته). (تعلم ما في نفسي) يعني: ما أضمره (ولا أعلم ما في نفسك) ما عندك علمه، وهذا بيان للواقع، وإظهار لقصوره وعجزه، أي: أن ما يخفيه الله من علمه لا يعلمه المسيح عليه السلام. (إنك أنت علام الغيوب) وهذا دليل للدليل؛ لأن المسيح أولاً ذكر دعوى، وهي في قوله: (إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)، ثم استدل عليها بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، ثم دلل للدليل نفسه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فأكده بـ (إن)، ثم (أنت) الضمير المنفصل و (علام) صيغة المبالغة (الغيوب) فأتى بالغيب مع صيغة الجمع مع (أل) الإستغراقية التي تشمل كل ادعاء غيب آخر، فقال: (إنك أنت علام الغيوب) الذي تعلم كل غيب، فهذا تأكيد بعد تأكيد. واختلف في إطلاق النفس على الله سبحانه وتعالى كما في قوله: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فقيل: لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة، كما هو هنا؛ لأنهما وردا في نص واحد، فللمجاورة حصلت هذه المشاكلة في اللفظ، كقوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54]. والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة، أي: من غير أن يوجد لفظ (النفس) في نفس السياق؛ إذ قد ورد إطلاقها في غير المشاكلة، كما في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال أيضاً: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].

تفسير قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم)

تفسير قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) قال تعالى عن المسيح: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]. قوله: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) يعني: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به. وهذا نزول في القضية مراعاة لحسن الأدب، ومراعاة لما ورد في الاستفهام ((أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ))، فقال هنا: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، وقوله: (أن اعبدوا الله) في محل رفع خبر لمحذوف تقديره: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به وهو: (أن اعبدوا الله ربي وربكم). و (أن) هنا إما أنه لا موضع لها من الأعراب فتكون مفسرة، مثل قوله تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص:6]، فـ (أن) هنا لا محل لها من الإعراب، وهي مفسرة. ويجوز أن تكون في موضع نصب (أن اعبدوا الله) يعني: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله. ويجوز أن تكون في موضع خفض، فيكون معنى (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا) أي: بأن اعبدوا الله. وبعض العلماء يقول: إن النون هنا تضم؛ لأنهم يستثقلون كسرة تأتي بعدها ضمة في قوله: (أن اعبدوا)؛ لأن العين ساكنة، وأول حركة هي الباء، ونحن لا نتحدث عن الباء، ولكن الكسر جائز على أصل التقاء الساكنين. قوله: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) يعني: رقيباً أراعي أحوالهم وأحثهم على العمل بموجب أمرك، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي. وقوله: (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) أي: لم تقع هذه المقالة منهم وهو بينهم، وإنما ابتدعوها بعد رفعه عليه السلام، ولذلك قال: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم) أي: ما وجد شيء من هذا أبداً في فترة وجودي بينهم. وقوله: (فلما توفيتني) يحتمل توفيتني بالموت، ويحتمل: توفيتني بالرفع، ولو قلنا: إنه يتعين تفسيرها بالرفع إلى السماء فهذه العقيدة في تأليه المسيح وعبادته لها بداية ولها نهاية، فما بدايتها وما نهايتها؟ إن بدايتها برفعه ونهايتها بنزوله؛ إذ هل سيسمح المسيح بوجود عقيدة تؤلهه بعدما ينزل إلى الأرض؟ أو هل سيسمح بوجود صليب أو خنزير؟! أليس في الأحاديث أن المسيح عليه السلام سيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؟ ومعنى هذا أنه ستنتهي تماماً هذه العقيدة من على وجه الأرض، ولن يقبل المسيح من الناس إلا الإسلام، ومن ثم سيوضع الحد النهائي لدعوى إلهية المسيح عليه السلام، ويتأيد هذا بقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] على أحد التفسيرين. فإذاً: هذه العقيدة الشركية بتأليه المسيح لها بداية ولها نهاية، فبدايتها برفعه، والدليل قوله: ((وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، فهذا يكون من نفس حديث: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً). فحين كان المسيح موجوداً ما ظهرت هذه المقالة، ونهايتها حينما ينزل المسيح عليه السلام فيقتدي بالمهدي، ويحكم بالقرآن، ويدعو إلى الإسلام، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما أن يسلم الناس وإما يقتلوا على يد المسيح نفسه. فهذه العقيدة وقعت منهم بعد رفعه إلى السماء وتستمر إلى نزوله، ولم تقع منهم قبل رفعه، وأما بعد نزوله فلن يبقى نصراني أبداً، بل إما الإسلام أو السيف، فتعين أن يكون معنى (توفيتني) أي: رفعتني إلى السماء، كما في قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، والتوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع من أنواع التوفي، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، وسبق في قوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55] في آل عمران زيادة إيضاح على ما هاهنا. وقوله: (كنت أنت الرقيب عليهم) أي: الناظر لأعمالهم، فمنعت من أردت عصمته من التفوه بذلك، وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا. وقوله: (وأنت على كل شيء شهيد) أي: سواء في فترة بقائي بينهم أو بعد ذلك، فأنت على كل شيء شهيد. وقد دلت الآية على أن الأنبياء عليهم السلام بعد استيفاء أجلهم الدنيوي ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم، وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً. ثم قال: ((كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) [الأنبياء:104] إلى آخر الآية، ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقوال كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) وحمل الحديث على من صحب الرسول إنما يصح في القلة القليلة التي ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك)

تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) ثم قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]. هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. قوله: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) يعني: لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. وفيه تنبيههم على أنهم استحقوا ذلك؛ لأنهم عباده وقد عبدوا غيره. وقوله: (وإن تغفر لهم) أي: فلا عجز ولا استقباح؛ لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب، فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بـ (إن). قال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك، فإن عذبتهم فلا اعتراض عليك، وإن غفرت لهم -ولست فاعلاً إذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك. وقد قال عيسى فيما تقدم من الآيات: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]. وقد قيل: إن الهاء والميم في قوله: (إن تعذبهم) يعودان على من مات منهم على الكفر، أي: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) الذين ماتوا على الكفر. وفي قوله: (وإن تغفر لهم) الهاء والميم هنا لمن تاب منهم قبل الموت، فيكون: وإن تغفر لمن تاب منهم قبل الموت، (فإنك أنت العزيز الحكيم). وهنا قول فظيع قاله بعض الناس، فزعموا أن عيسى ما كان يعلم أن الكافر أو المشرك لا يغفر الله له، فهذا قول مجترئ على كتاب الله تعالى؛ لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ. والتقدير: إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى التوحيد والطاعة فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله، تضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة إلى الصباح يرددها، روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها! ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))، فلما أصبح قلت: يا رسول الله! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها، وتسجد بها، قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة -إن شاء الله- لمن مات لا يشرك بالله شيئاً). وروى الإمام أحمد -أيضاً- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إلي بيمينه فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ونتلوا من القرآن ما شاء الله أن نتلو، وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة) أي: طيلة الليل وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بآية واحدة، وهي هذه الآية: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)). قال: (فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن: سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود: لا أسأله عن شيء حتى يحدث إلي -خشي أن يبادره هو بالسؤال- فقلت: بأبي وأمي قمت بآية من القرآن ومعك القرآن) -يعني: كان يمكنك أن تصلي بالقرآن كله، فلماذا قمت بآية من القرآن ومعك القرآن؟ ولو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال: (دعوت لأمتي، قلت: فماذا أجبت -أو: ماذا رد عليك-؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى، فانطلقت معنقاً -أي: مسرعاً قريباً من رمية بحجر- فقال عمر: يا رسول الله! إنك إن تبعث بهذا نكثوا عن العبادة! فناداه أن يرجع فرجع). يعني أنه يخشى أن يسيئوا فهمه، أما إذا كانوا قد فقهوا حق الفقه، وفهموا النصوص في مواقعها فلا حرج من إعلامهم، كما أخبر أبو هريرة رضي الله عنه بنظير هذا. وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي الآية)) [إبراهيم:36]، وقول عيسى: ((إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) فرفع يديه وقال: اللهم! أمتي أمتي. وبكى). يعني: رأى إبراهيم يقول: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، ورأى المسيح يقول: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فأشفق هو على أمته صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه وقال: (اللهم! أمتي أمتي. وبكى، فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال -وهو أعلم-، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك). ثم ختم تعالى بحكاية ما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله، وهذه الآية التي هي قبل الأخيرة من سورة المائدة: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].

الأنعام [1 - 12]

تفسير سورة الأنعام [1 - 12]

مكان نزول سورة الأنعام

مكان نزول سورة الأنعام يقول الجلال السيوطي رحمه الله تعالى: هذه السورة سورةٌ مكية، إلا قوله تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ)) [الأنعام:91] إلى آخر الآيات الثلاث، وإلا قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] الآيات الثلاث أيضاً، وهي مائة وخمس -أو ست- وستون آية.

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض) قال عز وجل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]. قوله: (الحمد لله) الحمد هو: الوصف بالجميل، والحمد ثابت ومستقر لله سبحانه وتعالى، والحمد هنا المقصود به الوصف بالجميل والمدح والثناء. وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به، أو الثناء به، أو هما؟ هناك ثلاثة احتمالات في قوله تعالى: (الحمد لله): فقد يكون المقصود بقوله: (الحمد لله): أن تؤمنوا بذلك، وأن تعتقدوا ثبوت صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى. أو أن المقصود بـ (الحمد لله) الثناء على الله عز وجل، أو أن المقصود الأمران معاً، فهذه احتمالات، وآكدها الثالث، أي أن ذلك للإيمان وللثناء معاً، قاله الشيخ الجلال المحلي في تفسير أول سورة الكهف. وقوله: (الذي خلق السماوات والأرض) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين، مع أن الله سبحانه وتعالى خلق غير السماوات والأرض من الملائكة والجن وغير ذلك، لكن خصَّ السماوات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات البارزة للناظرين. وقوله: (وجعل الظلمات والنور) (جعل) هنا بمعنى (خلق) أي: خلق الظلمات والنور. أنه خلق كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها، وهذا من دلائل وحدانيته؛ لأن الظلمات ومظاهر الضلال والباطل كثيرة ومتعددة، أما النور فهو واحد وحق، فهذا المشار إليه في هذه الآية الكريمة هو من دلائل وحدانيته تبارك وتعالى. وقوله: (ثم الذين كفروا) (ثم) هنا استبعادية، كما تقول للرجل: أحسنت إليك وأكرمتك ثم تشتمني. أي: يستبعد منك أن تقابل إحساني بهذه الإساءة. فكذلك هنا، فقوله تعالى: (ثم الذين كفروا) يعني: كفروا مع قيام هذا الدليل على وحدانيته تبارك وتعالى. وقوله: (بربهم يعدلون) أي: يسوون به غيره في العبادة.

بعض خصائص سورة الأنعام

بعض خصائص سورة الأنعام ذكر الإمام القاسمي رحمه الله تعالى في مقدمة السورة أنها مكية، وأنها مائة وخمس وستون آية، وبعض العلماء -كما ذكرنا- يقول: إنها مائة وخمس -أو ست- وستون آية، والآيات هي نفس الآيات، ولكن الاختلاف أحياناً يكون في العد. قال القاسمي: روى العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أنزلت سورة الأنعام بمكة)، وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: (هي مكية، نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات منها فإنها مدنية). فهذه السورة لها خصائص ليست لغيرها، منها: أنها بكمالها نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلاً، وبمجرد أن نزلت بالليل كتبها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إلا ست آيات منها نزلت في المدينة، وهي قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151]، إلى آخر الثلاث الآيات، وقوله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام:21] إلى آخر الآيتين. ومن خصائص هذه السورة ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح). وروى السدي عن ابن مسعود قال: (نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة). وعن جابر رضي الله عنه قال: (لما نزلت سورة الأنعام سبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق) وهذا رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرج ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سدَّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم). وأخرج -أيضاً- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألفاً من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد). قال الرازي: قال الأصوليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضائل: أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة. فهذه السورة نزلت -كما ذكرنا- جملة واحدة، ولم تنجم، ولم تقطع كغيرها من سور القرآن الكريم. الثاني: أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة، والسبب فيه أنها -أي: هذه السورة العظيمة- مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وعلم الأصول المقصود به هنا أصل العقيدة والتوحيد وأمور الإيمان. وإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى على قدر حاجة المكلفين وبحسب الحوادث والنوازل، وآيات الأحكام منها ما له أسباب نزول معينة، وكل هذا يكون متوافقاً مع حكمة الله سبحانه وتعالى في التدرج في التشريع بقدر حاجة الناس أو بحسب الحوادث والنوازل التي تنزل بهم. أما ما يدل على علم الأصول مما في هذه السورة الكريمة فقد أنزله الله جملة واحدة، وذلك يدل على أن تعلُّم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي؛ لأنه لم ينجَّم ولم يقطَّع. وأخرج الدارمي في مسنده عن عمر رضي الله عنه قال: (الأنعام من نواجب -أو نجائب- القرآن) يعني: أفضله ومحضه ولبابه.

سبب تسمية سورة الأنعام بهذا الاسم

سبب تسمية سورة الأنعام بهذا الاسم وسميت بسورة الأنعام لأن أكثر أحكامها تبين جهالات المشركين في التقرب بالأنعام إلى أصنامهم؛ لأنه حصل عند المشركين كثير من مظاهر الجهالة والإشراك بالله سبحانه وتعالى وتحريم الطيبات من هذه الأنعام، وكانوا يتقربون بها إلى أصنامهم، وهذا كله ذكر في هذه السورة الكريمة.

لطائف في قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض)

لطائف في قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]. قوله: (الحمد لله) أي: له جميع المحامد، أي أن كل حمد فهو لله، سواء بما حمد به نفسه سبحانه وتعالى، أو حمد به الخلق ربهم، أو بعضهم، كل ذلك مخصوص بالله عز وجل. ثم أخبر عن قدرته الكاملة التي هي موجبة لاستحقاقه جميع المحامد. فإن قيل: لماذا يستحق الله سبحانه وتعالى جميع المحامد؟ ف A لأنه هو (الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور). قوله: (الذي خلق السماوات والأرض) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وفيهما العبر والمنافع للعباد؛ لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية، والأرض مشتملة على قوابل الكون. وقوله: (وجعل الظلمات والنور) أي: أوجدهما لمنفعة عباده في ليلهم ونهارهم. وهاهنا لطائف: الأولى: أن المقصود من الآية التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة دونما سواه، فكما أنه لم ينعم بهذه النعم العظيمة -سواءٌ التي ذكرتت في صدر السورة أو التي جاءت بعد- فإذاً: لا يستحق أن يحمد وأن يعبد إلا الله عز وجل. الثانية: أن لفظ (جعل) المذكور في قوله سبحانه: (وجعل الظلمات والنور) يأتي أحياناً متعدياً إلى مفعوله، وذلك إذا أتى بمعنى (أحدث وأنشأ) كما هنا في هذه الآية (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) فإن جعل تعدى إلى مفعول واحد فقط، والنور معطوف على هذا المفعول. أما إذا تعدى (جعل) إلى مفعولين فإن معناه حينئذٍ (صيَّر) كقوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف:19] فـ (الملائكة) مفعول أول، و (إناثاً) مفعول ثانٍ. والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تضمين شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان. وقد وردت (جعل) و (خلق) مورداً واحداً، فقال عز وجل: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وقال -أيضاً-: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] فـ (جعل) تأتي بمعنى (خلق) كما ذكرنا؛ لأن بينهما نوعاً من الترابط.

تفسير قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)

تفسير قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (ثم) استبعادية، وهي مناسبة للمقام؛ إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل اختيار الباطل، فالشخص العاقل الذي يتأمل في هذه الآيات ينبغي أن تقوده إلى التوحيد، ويبعد جداً من العاقل أنه بعد أن يرى الدليل وتقام عليه الحجة يختار مع ذلك الباطل، ولذلك قال: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وعليه فجمع الظلمات وإفراد النور ظاهر؛ فإنه قال: (وجعل الظلمات والنور) فأتى بالظلمات بصيغة الجمع، أما النور فأتى به مفرداً؛ لأن الهدى واحد، والضلال متعدد، كما قال في آخر هذه السورة الكريمة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] فأفرده، ثم قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فجمع السبل. فجمع الظلمات لظهور كثرة أسبابها عند الناس، فالباطل كثير جداً ومتعدد، وهو كثير عند الناس كما هو معروف، ولكل جرم ظلمة، وليس لكل جرم نور، وأما تقديمها فلسبقها في التقدير والتحقق على النور؛ لأن الظلام يسبق النور، فلذلك قدم الظلمات على النور؛ لأن الأصل هو الظلمة، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37] أن الأصل هو الليل، ثم يسلخ ويزال هذا الليل فيكون النهار، ولو أن إنساناً ركب مركبة فضائية وانطلق من الغلاف الجوي فإنه إذا خرج عن الغلاف الجوي -وقد يكون في وقت الضحى وفي شدة النهار والشمس- يكون في ظلمة مطبقة. إذاً: فموضوع النهار ظاهرة محلية في الكرة الأرضية فقط. فالظلمة هي المتقدمة على النور من حيث الإيجاد والخلق، ولذلك قدمها تبارك وتعالى هنا فقال: (وجعل الظلمات والنور). وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) هذا الجزء من الآية منسوب لإنكار ما عليه الكفرة، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها، وإصرارهم على ما يقضي على بطلانه بديهة العقول، والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته عز وجل، وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه، ويعدلون به سبحانه وتعالى، ويسوون بينه وبين الأنداد والشركاء، أي: يسوون به غيره في العبادة؛ لأن العبادة هي أقصى غايات الشكر لله سبحانه وتعالى، فإذا وجهوا هذه العبادة لغير الله فقد سووا مع الله سبحانه وتعالى خلقه، وأقصى غايات الشكر ورأس الشكر هو الحمد؛ لأن الحمد أعم من الشكر، مع كون كل ما سواه عز وجل مخلوقاً له، والمخلوق غير متصف بشيء من مبادئ الحمد، ومع ذلك وقع منهم ذلك. فقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) كلمة (ثم) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه. وقوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) العدل: مساواة الشيء بالشيء. والمعنى أنهم يجعلون له عديلاً من خلقه، أي: عدلاً مساوياً له تبارك وتعالى وهو لا يقدر على شيء، فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض. قال النضر بن شميل: الباء في قوله: (بربهم يعدلون) بمعنى (عن) يعني: عن ربهم يعدلون. ومعنى (يعدلون): ينحرفون. يقال: عدلت عن كذا، أي: انحرفت وملت. والمراد: ينحرفون عن عبادة ربهم تبارك وتعالى. وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: (ثم) دالة على قبح فعل الذين كفروا؛ لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: أعطيتك وأحسنت إليك ثم تشتمني.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا) الآية

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً) الآية ثم يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2]. يقول الجلال السيوطي رحمه الله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين) يعني: بخلق أبيكم آدم منه؛ لأن خلق الإنسان كان أولاً من طين، ثم بعد ذلك من سلالة من ماء مهين، كما فصله تعالى في سورة السجدة، فالمقصود بقوله: (هو الذي خلقكم من طين) أي: هو الذي خلق أباكم آدم عليه السلام من طين. وقوله: (ثم قضى أجلاً) يعني: كتب وقدَّر لكم أجلاً تموتون عند انتهائه. وقوله: (وأجل مسمى عنده) يعني: وأجل آخر مسمىً ومضروب عنده لبعثكم، وهو أجل البعث والنشور. وقوله: (ثم أنتم تمترون) أي: ثم أنتم -أيها الكفار- تمترون، أي: تشكون في البعث، وذلك بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر. يقول القاسمي: (هو الذي خلقكم من طين) استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ويبين بطلان إشراكهم به تعالى، مع معاينتهم لموجبات توحيده، وهي خلق السماوات والأرض، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث -يعني أن القرآن الكريم هنا هو في سياق ذكر الدلائل لصحة الاعتقاد في البعث والنشور، فخص ذكر خلقنا من طين هنا دون غيره من أدلة البعث والنشور- مع أن ما ذكره من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها.

بعض الأدلة على البعث والنشور

بعض الأدلة على البعث والنشور الأدلة على البعث والنشور كثيرة جداً في القرآن الكريم، والواجب على كل مسلم أن يعرفها حتى ولو لم يدرس في كتاب؛ لأن هذه عقيدة من العقائد الأساسية، فإذا سئلت: كيف تدلل على البعث والنشور فلابد من أن تكون عندك الإجابة، وإذا سئلت: ما هي أدلة صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا سئلت عن إعجاز القرآن فلابد من أن تكون عندك الإجابة؛ لأن هذه الأشياء هو أصول الدين، فلابد من أن يتقنها الإنسان بالأدلة، ولابد من أن تكون حاضرة تماماً في ذهنه. فأول الأدلة من أدلة البعث والنشور الاستدلال بأن الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه. الدليل الثاني: الاستدلال بخلق السماوات والأرض، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فإذا كان الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض فهو أقدر على إعادتهم ونشورهم. الدليل الثالث: الاستدلال بإحياء الله سبحانه وتعالى الأرض بعد موتها، وهذا مذكور كثيراً في القرآن، فالآيات كثيراً ما تشير بعد ذكر إحياء الأرض بعد موتها بالمطر إلى البعث والنشور، كما في أوائل سورة البقرة، وفي سورة الحج وغيرهما من السور. ومن الأدلة -أيضاً- وقوع بعض الحوادث التي حكاها القرآن الكريم وفيها إحياء الموتى بالفعل، كقوله تعالى في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]. وكذلك أحيا الله بني إسرائيل لما رفع فوقهم الطور، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:92] إلى آخر الآيات المعروفة في أوائل سورة البقرة. وهكذا قصة أصحاب الكهف دليل من هذه الأدلة. وهكذا قصة الرجل الذي مر على قرية، كما قال عز وجل: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259]. وعلى أي حال فالأدلة في هذا كثيرة، ومع ذلك بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض خص هنا ذكر خلق الإنسان من طين، كما ورد في قوله تبارك وتعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81] أي: دلالة بدء خلقهم على بعثهم أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح. والسياق فيه التفات؛ لأن أول الآية في سياق الغيبة، أما هنا فالتفت، قال عز وجل في أول الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] ثم التفت فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2] فالالتفات هنا هو لمزيد التشنيع والتوبيخ. أي: ابتدأ خلقكم من الطين؛ فإنه المادة الأولى للكل؛ لأنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر، ولكن نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم عليه السلام، مع أن آدم هو المخلوق منه حقيقة، ولم يقل: هو الذي خلق أباكم، مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه في إيجاب البعث وبطلان الامتراء بتوضيح منهاج القياس، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس. ولاشك في أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من أبيه آدم عليه السلام؛ لأن آدم كان منطوياً انطواءً إجمالياً على ذريته، أي: أن ذريته كانت في صلبه، فصح أن نوصف نحن بأننا خلقنا من طين باعتبار أن أبانا خلق من هذا الطين، فكان خلقه عليه السلام من الطين خلقاً لكل أحد من فروعه منه. ولذلك قال تعالى في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الأعراف:11]. وقوله: (ثم قضى أجلاً) أي: كتب لموت كل واحد منكم أجلاً خاصاً به. يعني: حداً معيناً من الزمان يفنى عند حلوله. وقوله: (وأجل مسمى عنده) أي: وجعل حداً معيناً لبعثكم جميعاً، فالأجل الأول هو خاص بكل إنسان، أما هذا فهو الأجل الذي هو حد معين لبعث الخلق أجمعين، وهو مثبت ومعين في علمه لا يقبل التغيير ولا يقف على وقت حلوله أحد، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف:187]. فمعنى قوله: (وأجل مسمى عنده) يعني أنه مستقل بعلمه. وقوله: (ثم أنتم تمترون) هذا استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه، أي أنكم تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه مع أنكم تشاهدون في أنفسكم ما يقطع مادة الإمتراء، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها على ما يشاء أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها مرة ثانية.

تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم)

تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) ثم قال عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3] هذه الآية تحتاج إلى نوع من الاهتمام الخاص؛ لأنها مما يستدل به بعض الضالين المنحرفين الذين يزعمون أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل مكان بذاته تبارك وتعالى، ولا شك في أن هذا من الضلال المبين المنافي لعقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فأولئك يستدلون بهذه الآية ويحملونها على غير معناها الصحيح الذي فهمه عليه السلف. وقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) أي: المعبود الذي يعبده أهل السماوات وأهل الأرض. وقوله: (يعلم سركم وجهركم) يعني: من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح. وقوله: (ويعلم ما تكسبون) أي: ما تفعلونه من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب، وخصه بالذكر لإظهار كمال الاعتناء به؛ لأن هذا السر هو الذي يتعلق به الجزاء، وهو السر في إعادة قوله تعالى: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون). يقول الناصر في (الانتصاف): وأما هاتان الآيتان الكريمتان -يعني: هذه الآية وآية الزخرف، وهي قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]- فإن التمدح في آية الزخرف وقع لما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة، والاستئثار بعلم الساعة، والتوحد في الألوهية، وفي كونه تعالى المعبود في السماوات والأرض، فقوله في هذه الآية: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني أنه إله من في السماء وإله من في الأرض، ولا يمكن أبداً حملها على عقيدة الحلول والعياذ بالله؛ لأن السلف قاطعون وجازمون بأن الله عز وجل بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى لا يخالط خلقه ولا يحل فيهم، فهو ينزه عن ممازجة خلقه، بل هو بائن عنهم تبارك وتعالى، وعلمه في كل مكان، لكنه على العرش استوى. ولم يقل: وهو الذي في السماء رب وفي الأرض رب، ولم يقل: وهو الرب في السماوات وفي الأرض، إنما عنون له هنا بالإلهية (وهو الله)؛ لأن المعنى: هو المعبود. فيليق بمن سواه أن يعبر بلفظ الجلالة (الله) أي: المعبود، ولذلك فكلمة التوحيد هي (لا إله إلا الله) وأما (لا رب إلا الله) فلا تعتبر كلمة التوحيد، وإن كانت هي توحيد الربوبية، إلا أن كلمة توحيد الربوبية لا تنجي من النار؛ لأنه لو كانت كلمة التوحيد (لا رب إلا الله) لكان أبو جهل موحداً؛ لأن أبا جهل وأبا لهب وغيرهما من الكفار كانوا يعتقدون أنه لا رب إلا الله، ومشركوا مكة كانوا يعتقدون أنه لا رب إلا الله، لكنهم كانوا يشركون في العبادة، وينقضون توحيد الإلهية بأن يعبدوا مع الله غيره، ولذلك كانت كلمة النجاة (لا إله إلا الله) أي: لا تعبدوا إلا الله، ولا إله يستحق العبادة إلا الله، وليست (لا رب إلا الله)؛ لأن جميع المشركين يقرون بأنه لا رب إلا الله. يقول ابن كثير: للمفسرين في هذه الآية أقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول. يعني أوائل الجهمية القائلين -تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً- بأنه في كل مكان، فهذا مما لا يليق أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، ولنتفطن لشيوع هذه العقيدة عند كثير من العوام وهم لا يشعرون حين يقولون: إن الله موجود في كل وجود. أو: ربنا موجود في كل مكان. نعم هو موجود في كل مكان بعلمه وبسمعه وببصره وبشهادته وبإحاطته بخلقه عز وجل، فكل شيء بالنسبة إلى الله عز وجل لا يخفى على الإطلاق. أما أن يراد أن ذات الله سبحانه وتعالى في داخل خلقه فهذا مما يتعالى الله سبحانه وتعالى وينزه عنه، فالاعتقاد بأن الله في كل مكان هو انحراف وضلال مبين عن عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ولم يقل به إلا الجهمية المبطلون، وحملوا هذه الآية على ذلك، وقالوا: إن الله يقول هنا: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] فحملوها على أن ذات الله موجودة في السماوات والأرض. فالأصح من الأقوال أنه -سبحانه وتعالى- هو المدعو في السماوات وفي الأرض، ولا تعارض؛ لأن الدعاء هو العبادة، أي: يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغباً ورهباً، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول هي كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض. وعلى هذا فيكون قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] خبراً أو حالاً. أما القول الثاني في الآية فهو أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فمعنى ذلك: أن كلمة يعلم متعلقة بقوله: (في السماوات وفي الأرض) وتقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض. القول الثالث: أن الوقف على قوله: (وهو الله في السماوات) وقف تام، وهذا هو اختيار إمام المفسرين وشيخهم ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فإنه -رحمه الله- يرى أن الوقف التام هو عند قوله تعالى: (وهو الله في السماوات) ثم يُستأنف: (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) أي: تقف عند قوله عز وجل: (وهو الله في السماوات) يعني: فوقكم في السماء، كقوله تبارك وتعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فـ (في) هنا بمعنى (على) كقوله سبحانه: {لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] يعني: عليها. وكقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] يعني: فوق الأرض. هذا هو اختيار الإمام ابن جرير، ورجح ابن عطية في الآية أنه الذي يقال له: (الله) فيهما، فقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني: وهو الذي يقال له: (الله) في السماوات وفي الأرض، قال ابن عطية: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى. يعني أنه أراد أن يدل على خلقه وآيات قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات، فجَمَعَ هذه كلها في قوله: (وهو الله) أي الذي له هذه كلها (في السماوات وفي الأرض)، وكأنه قال: وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.

تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)

تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) ثم قال تبارك وتعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (وما تأتيهم) أي: أهل مكه، (من) زائدة أو تبعيضية، (من آية من آيات ربهم) يعني: من القرآن الكريم، (إلا كانوا عنها معرضين) وإعراضهم كان بسبب تقليدهم الأعمى للآباء والأجداد لا عن تفكر وتأمل.

تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم)

تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم) قال تبارك وتعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [الأنعام:5] أي: بالقرآن الكريم، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:5] و (أنباء) هنا بمعنى: عواقب، والعواقب: جمع عاقبة. قوله: (فسوف تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) يعني: عواقب ما كانوا به يستهزئون، وهو القتل والأسر في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة؛ لأنهم إن لم يؤمنوا يعاقبوا إما بالقتل والأسر في الدنيا، وإما بالعذاب الدائم السرمدي في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن)

تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام:6]. قوله: {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:6] يعني: في أسفارهم، سواء في الشام أو غيرها من البلاد. وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} [الأنعام:6] (كم) خبرية بمعنى: كثيراً. وقوله: {مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:6]، القرن هنا المقصود به أمَّة من الأمم الماضية. قوله: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام:6] أي: أعطيناهم مكاناً في الأرض بالقوة والسعة (ما لم نمكن لكم) أي: ما لم نعط لكم، وهذا فيه التفات عن الغيبة. وقوله: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً} [الأنعام:6] السماء هنا بمعنى المطر، وقوله: {مِدْرَاراً} [الأنعام:6] أي: متتابعاً. وقوله: {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام:6] يعني: من تحت مساكنهم. قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6] يعني: بسبب ذنوبهم بتكذيبهم الأنبياء {وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6].

تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس)

تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس) {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7]. هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد لما قالوا: لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً} [الأنعام:7] أي: مكتوباً {فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام:7] أي: في رقٍ كما اقترحوا {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7] وهذا أبلغ من أن يكونوا عاينوه؛ لأن الكتاب إذا لمسه الإنسان يكون أقوى وأبلغ من مجرد المعاينة، فـ (لمسوه) أبلغ من (عاينوه)؛ لأنه أنفى للشك إذا لمسوه بأيديهم، ومعروف أن اللمس لا يكون إلا بالأيدي فهذا يسميه البلاغيون التعميم. وهذا مثل قوله تعالى: {طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] والطائر لا يطير إلا بجناحين، ومثل هذا قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} [آل عمران:167] والقول لا يكون إلا بالأفواه، وكذلك هنا في قوله: (فلمسوه بأيديهم). وقوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] يعني: لقالوا: ما هذا إلا سحر مبين تعنتاً وعناداً.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8]. قوله: {وَقَالُوا} [الأنعام:8] أي: كفار مكة {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام:8] أي: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ملك؟! أي: يصدقه. يقول تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8] يعني: لو نزل الملك كما اقترحوا فلن يؤمنوا رغم نزول الملك، وقوله: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] يعني: بإهلاكهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو استجاب لهم فيما طلبوه ثم لم يؤمنوا لاستحقوا الهلكة، وقضي الأمر بهلاكهم. وقوله: (ثم لا ينظرون) أي: لا يمهلون لتوبة أو معذرة، كعادة الله فيمن قبلهم من إهلاكهم عند وجود مقترحهم إذا لم يؤمنوا. ومثل هذا قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115] أي: كما اقترحتم {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} [المائدة:115] أي: بعد نزول الآية: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]. فالقضية ليست قضية اقتراح آيات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أتاهم بالآيات فلم يؤمنوا، وإنما كان حالهم كما قال عز وجل: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنْ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44]. وقوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام:8] يعني: يكون معه ملك فيكلمنا الملك ويخبرنا أنه نبي ويصدقه، وهذا كقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان:7]. ونحن هنا بحاجة إلى أن نقف مع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8]؛ لأننا محتاجون إلى استظهار الحكمة من هذا المعنى، فما هي الحكمة من أنه إذا استجيب للكفار فيما اقترحوه فإنه لا يبقى لهم مجال للاختيار وينبغي أن يهلكوا فوراً؟ هذا ما سيبينه القاسمي رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: (ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر) فإنه قال: هذا جواب لمقترحهم وبيان لمانعه، وأما ما المانع الذي يمنع من استجابة الله سبحانه وتعالى لطلباتهم واقتراحاتهم التي يقترحونها فهو الرحمة بهم، وأن في عدم الإجابة إبقاءً عليهم وإنجاءً لهم من الهلكة، كي لا يكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه. والمعنى أن الملك لو أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته -وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن- لحاق بهم العذاب، أي: أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم والملك معه في صورته الحقيقة، ولنتخيل صورة الملك، فجبريل عليه السلام رآه الرسول عليه السلام مرتين على صورته التي خلقه الله عليها قد سد كل أفق السماء، وله ستمائة جناح. فلا شك في أن هذه تكون آية لا أبين منها ولا أيقن، ودليل قاطع على صدق هذا الرسول، ثم إذا فعل الله سبحانه وتعالى بهم ذلك أو استجاب لطلبهم ثم لم يؤمنوا لحاق بهم العذاب وفرغ الأمر. إذاً لابد من أن يأتيهم الهلاك بعدها مباشرة إذا لم يؤمنوا؛ فإن سنة الله سبحانه وتعالى التي قد جرت في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب، كما قال تبارك وتعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر:8]، أي: لا يؤجلون ولا يمهلون. وقال عز وجل: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:22]. فقوله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8] يعني: بإهلاكهم. وقوله: {ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8] يعني: لا يمهلون بعد نزول الملك طرفة عين، فضلاً عن أن يلزموا به بالذات، ومعنى (ثم) هنا بُعدُ ما بين الأمرين: قضاء الأمر، وعدم الإنظار، وجعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة. وذكر الزمخشري وجهاً ثانياً في تعجيل عذابهم عند نزول الملائكة، وهو أنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف، يعني أن الحكمة من وجودنا في هذه الدنيا هي أننا في حالة اختبار وابتلاء وتكليف، فلو كشفت الحجب ورأينا هذه الأمور الغيبية كالملائكة -مثلاً- فهل يبقى مع ذلك اختيار أم أن الإيمان هنا يكون ملجئاً وبالإكراه؟ فهنا يكون الإيمان كأنه بالإكراه، ولا مجال للاختيار، وهذا لا يتناسب مع البقاء في الحياة الدنيا من أجل الابتلاء والتكليف؛ لأنه يزول التكليف ويرفع الاختيار، وحينئذٍ لابد من إهلاكهم؛ لأن انكشاف مثل هذه الأمور إنما يكون في الآخرة. والاختيار قاعدة التكليف، وهذه آية ملجئة، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] فما دام بأس الله قد جاء وقد كشفت الحجب فلا نجاة، إنما هو الهلاك، وقوله: ((سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ)) [غافر:85] يعني: مضت في عباده، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] أي: عند نزول العذاب. وقال أيضاً: فتوجب إهلاكهم؛ لئلا يبقى وجودهم عارياً عن الحكمة، وهم ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف، والابتلاء بالتكليف لا يبقى مع الإلجاء والإكراه. وقد ذكرنا من قبل أن طاقة البشر لا تطيق رؤية الملك في صورته الحقيقية، فربما إذا رأوه قضي الأمر ويهلكون؛ لأنهم لا يطيقون رؤية الملك على صورته الحقيقية، حتى الأنبياء عليهم السلام كانوا يشاهدون الملائكة على الصورة البشرية، كضيف إبراهيم ولوط وخصم داود عليهم السلام وغير ذلك، حيث كان شأنهم كذلك، وهم مؤيدون بالقوى القدسية، فما ظنك بمن عداهم من العوام؟! فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية، واستحال جعله نذيراً، وهو مع كونه خلاف مقصودهم مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة من إرسال الرسل وتأسيس الشرائع، وقد قال سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]. وقال المهايمي: لا دليل على النبوة سوى شهادة الملأ، وتنزيل الملك بصورته الملكوتية يقطع أمر التكليف؛ إذ لا ينفع الإيمان بعد انكشاف عالم الملكوت، فلا يمهلون؛ لأن الإمهال للنظر، والآن قد انقطع النظر، فالمعجزات وإن أفادت علماً ضرورياً لا تخلوا عن خفاء يحتاج إلى أدنى نظر، ولا خفاء مع انكشاف عالم الملكوت، ولو أن عالم الملكوت انكشف فكأن القيامة قامت ورفعت الحجب وصار الغيب مشاهدة، بخلاف المعجزة، فالمعجزة تدل على صدق النبي، لكنها لا تخفى من نوع من النظر؛ إذ لابد فيها من نوع -ولو خفي- من النظر، أما إذا انكشف عالم الملكوت فلا يبقى وجه للإمهال، فلا يقبل الإيمان معه، فلابد من المعاقبة عقيبه، أي: بعده مباشرة.

تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا)

تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً) يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] يعني: لو جعله الله سبحانه وتعالى رجلاً على صورة الرجل ليتمكنوا من رؤيته (للبسنا) أي: شبهنا عليهم ما يلسبون على أنفسهم، بأن يقولوا: (ما هذا إلا بشر مثلكم).

تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)

تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10]. قوله: {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:10] هذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: {فَحَاقَ} [الأنعام:10] أي: نزل {بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10] وهو العذاب، فكذلك يحيق العذاب بمن استهزأ بك أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا)

تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض ثم انظروا) {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11] قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11] أي: قل لهم سيروا في الأرض. وقوله: (ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) يعني المكذبين الذين كذبوا الرسل فاهلكوا بالعذاب، وهذا ليعتبروا.

تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله)

تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12]. قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12] يعني: إن لم يقولوا هم وإن لم يجيبوك ويقولوا: (لله) فقل أنت: (لله)، فإنه لا جواب غيره. وقوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] أي: قضى على نفسه الرحمة فضلاً منه، وفيه إشارة وترغيب لهم في الإيمان، وتلطف بهم كي يقبلوا على الإيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى رحيم ورءوف بعباده. وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12] يعني: ليجازينكم بأعمالكم. وقوله: (لا ريب فيه) يعني: لا شك فيه. وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [الأنعام:12] يعني: بتعبيدها لغير الله {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12] و (الذين) مبتدأ وقوله: (فهم لا يؤمنون) خبره. وقد جاء في معنى هذه الآية الكريمة ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) متفق عليه. وفي البخاري: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق أن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (أن الله لما خلق الخلق) إلى آخره. وقال أبو السعود: ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقاً بالخلق وأكثر وصولاً إليهم، مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الأنعام [13 - 35]

تفسير سورة الأنعام [13 - 35]

تفسير قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار ولا تكونن من المشركين)

تفسير قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار ولا تكونن من المشركين) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:13 - 14]. (وله) تعالى (ما سكن) أي: حل (في الليل والنهار) أي: كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه، وهو (السميع) لما يقال (العليم) بما يُفعل. وقوله: (قل أغير الله أتخذ ولياً) أي: قل لهم: (أغير الله أتخذ ولياً) أعبده، والله (فاطر السماوات والأرض) أي: مبدعهما، (وهو يطعم) أي: يرزق، (ولا يطعم) أي: ولا يُرزق، فسيكون الجواب الذي لا جواب غيره هو: لا يصح لي أن أتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى. وقوله: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أي: أول من أسلم لله من هذه الأمة، (ولا تكونن) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين به. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) وله: أي لله عز وجل، (ما سكن في الليل والنهار) أي: ما استقر وحل، من الاستقرار والحلول؛ لأن السكنى بمعنى الحلول، كقوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [إبراهيم:45]، والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار. يعني: أن كلمة (سكن) هنا ليست من السكون، وهناك قول آخر إنها من السكون، ولكن الأقرب أنها من السكنى. فقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) يعني: ما حصل في الليل والنهار مما طلعت عليه الشمس أو غربت، فشبَّه الاستقرار في الزمان بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه، فالسكون هنا من الحلول، يعني: ما حل وسكن واستقر في الليل والنهار من المخلوقات. فكأن الليل والنهار شبها بمكان يسكن فيه، أو أن (سكن) بمعنى السكون الذي هو مقابل الحركة، يعني: له ما سكن فيهما، وإذا فسرنا قوله تعالى: (وله ما سكن) بالهدوء والسكون فما الذي يقابل السكون؟ A الحركة، فيكون هذا من باب قوله تبارك وتعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} [النحل:81] ولم يقل: القر. ومعروف أن السرابيل تقي الحر، وفي التفسير نقول: والقر، والمراد: تقيكم الحر والبرد، فحذفه من السياق اكتفاءً بظهوره؛ لأن السرابيل تقينا الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر لشهرته وظهوره، فكذلك هنا إذا قلنا: (وله ما سكن) من السكون، ففي التفسير نزيد ونقول: له ما سكن وله ما تحرك، ونقول: اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لظهوره، ولأنه يقابله، والذي يقابل السكون هو الحركة، وهذا يعرف بالقرينة، وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس فلم يقل: وله ما تحرك في الليل والنهار لأن السكون أكثر وجوداً، والنعمة فيه أكثر. وقال أبو مسلم الأصفهاني: ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض؛ إذ لا مكان سواهما، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار؛ إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات وللزمان والزمانيات، وهذا بيان في غاية الجلالة. وقوله: (وهو السميع العليم) يعني: يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فما يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان. ثم قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14]. قوله تعالى: (قل) أي: لكفار مكة المكذبين: (أغير الله أتخذ ولياً) يعني: معبوداً، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]، والمعنى: لا أتخذ ولياً إلا الله وحده. وقوله: (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق لهما، و (فاطر) بالجر صفة لاسم الجلالة. وقوله: (وهو يطعم ولا يطعم)، يعني: يرزق سبحانه وتعالى ولا يُرزق، والمقصود: أن المنافع كلها من عند الله تبارك وتعالى، ولا يجوز عليه الانتفاع؛ لأن الخالق مستغنٍ عن المخلوقين، أي: فيجب اتخاذه ولياً ليُعبد سبحانه وتعالى شكراً على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عِوض، والله عز وجل يمتن علينا بالنعم ليل نهار وفي كل لحظة من اللحظات وفي كل أحوالنا يمنُّ علينا بالنعم التي لا غنى بنا عنها طرفة عين، دون أن يطلب منا مقابلاً لهذه النعم، ويرزقنا عز وجل فينبغي أن لا نعبد غيره شكراً لإنعامه عز وجل. وقيل المراد بالطعم: الرزق، وهذا معناه اللغوي، وهو: كل ما ينتفع به، بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57]، فالمقصود بالطعم هنا المعنى اللغوي للرزق، وهو: كل ما ينتفع به؛ إذ كل ما ينتفع به يسمى رزقاً. وقوله: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ))، أي: أول من أسلم، وكلمة (مسلم) يقدر معها عبارة ولكنها تحذف، فكلمة الإسلام نقدرها معها كلمة (لله)، فقولي: أنا مسلم أصله: أنا مسلم لله، فدائماً كلمة الإسلام ومشتقاتها ترتبط بهذا اللفظ، أي: أنا مسلم لله، أو أسلمت لله، وهذا يلاحظ بالاستقراء في القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء:125]، وهذا موجود في القرآن كثيراً، وكذلك هنا يقول تعالى: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ)) أي: أسلم وجهي لله مخلصاً له؛ لأصير متبوعاً للباقين؛ لأنني قدوة وأسوة لباقي الناس، وهذا كقوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، يعني: من هذه الأمة، وهذا اللفظ بنفسه موجود في دعاء الاستفتاح في الصلوات، وبعض العلماء يرى أن تبدل كلمة (أول المسلمين) إلى: وأنا من المسلمين، على أساس أنه فهم أن معنى (أنا أول المسلمين)، أي: أول إنسان أسلم لله، وإنما المعنى: أول المسارعين إلى طاعتك؛ لأن أول المسلمين هو آدم عليه السلام، فمعنى (أول المسلمين): أول المسارعين، وهذا تعبير عن المسابقة والمسارعة في طاعة الله عز وجل والأوبة له، إلا إذا أردنا أن (أول المسلمين) يعني: أول المسلمين في هذه الأمة المحمدية. وقوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] هو كقول موسى: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، وإنما ترى في الآخرة. وقوله: ((وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين) فهو معطوف على أمرت، يعني: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك نهياً صريحاً مؤكداً بعد النهي في ضمن الأمر؛ لأنه لا شك في أن الإسلام لله يقتضي النهي عما ينافي الإسلام وهو الشرك، فلم يكتف بذلك، وإنما صرَّح -أيضاً- بالنهي عن الشرك، رغم أن الأمر بالإسلام يقتضي نفي الشرك، لكنه صرح بالنهي زيادة في التأكيد بقوله تبارك وتعالى: (ولا تكونن من المشركين). ونهي المتبوع نهي للتابعين، ويجوز عطفه على (قل)، وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به؛ لأنه مقتداهم، وقيل: هذه الآية للتحريض، كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول: وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال.

تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم)

تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) ثم قال عز وجل: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]. قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي) أي: بمخالفة أمره ونهيه، فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً، يعني: إذا كانت أي معصية داخلة في قوله: (إني أخاف إن عصيت ربي) فما بالك بأكبر معصية على الإطلاق وهي الشرك؟! فلا شك في أنها تدخل في الآية دخولاً أولياً؛ لأن أكبر معصية في الوجود هي الشرك. وقوله: (عذاب يوم عظيم) يعني: عذاب يوم القيامة الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهي، وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن الذي يقول هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، يقول: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، فإذا كان المعصوم عليه الصلاة والسلام يقول هكذا فكيف بهؤلاء المشركين؟! فلا شك في أن هذا تعريض لهم بأنهم مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن وجه التعريض هنا إسناد ما هو معلوم الانتفاء بـ (إن) التي تفيد الشك تعريضاً، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يصدر منه المعصية لله عز وجل؛ لأنه معصوم، فإذا كان هو يقول: إنني أخاف أن أعصي ربي خشية العذاب العظيم مع أنه معصوم فكيف بغيره؟! لا يتوهم منه احتمال وقوع المعصية منه، لكن المقصود منه التعريض بهؤلاء المشركين، يعني: إذا كان المعصوم عليه السلام يقول هذا فكيف بمن عداه من المسلمين؟! ثم كيف بالمشركين أنفسهم الذين يقترفون أعظم معصية في الوجود وهي الشرك؟! فلا أمل لهم في رحمة الله ما أقاموا على شركهم. ولا يتوهم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه المعصية أو أنه يقع في المعصية؛ لأنه معصوم، كما لا يتوهم مثله في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وهذا الاحتمال غير وارد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لعصمته.

تفسير قوله تعالى: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وإن يردك بخير فهو على كل شيء قدير)

تفسير قوله تعالى: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وإن يردك بخير فهو على كل شيء قدير) قوله تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16]، وهذا كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]. ثم ذكر تعالى دليلاً آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ولياً غير الله تعالى فقال عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وهذا كما قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، وكما قال عز وجل: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم! لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وفي حديث ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)

تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) قال عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]. أي: هو الغالب بقدرته، المستعلي فوق عباده، يدبر أمرهم بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن، فلا يستطيع أحد منهم رد تدبيره عز وجل والخروج من تحت قهره وتقديره، فالله عز وجل كل يوم هو في شأن، وهو القاهر فوق عباده يدبر أمورهم ويصرف أحوالهم لا اعتراض على حكمه ولا راد لقضائه عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة)

تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]. قوله تبارك وتعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يقول السيوطي: هذه الآية نزلت لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة، فإن أهل الكتاب أنكروك. ويبدو أن هذا افتراض من السيوطي، وإلا فتعبير القاسمي أدق كما سيأتي إن شاء الله، يعني: كأن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام: ائتنا بمن يشهد لك بأنك نبي من عند الله عز وجل؛ فإن أهل الكتاب -كانوا أهل علم بالنسبة للعرب الأميين- أنكروا نبوتك، فائتنا بمن يشهد لك، فقال عز وجل: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: قل لهم: (أي شيء أكبر شهادة) وكلمة (شهادةً) تمييز محول عن المبتدأ؛ لأن كلمة (شهادةً) التي هي تمييز كانت مبتدأً ثم تحولت إلى تمييز، فيكون المعنى: شهادة أي شيء أكبر؟ يعني: أنتم تطلبون شاهداً يشهد نبوتي، فشهادة أي شيء أكبر؟! (قل الله) يعني: إن لم يقولوا هم، وإن لم يعترفوا هم بأن الله عز وجل أكبر شهيد فقل لهم أنت: (الله) ولا جواب غيره، ولا يحتمل أبداً أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب السديد. وقوله: (شهيد بيني وبينكم) يعني: هو شهيد بيني وبينكم على صدقي. وقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) أي: لأخوفكم يا أهل مكة وغيرها، وقوله: (ومن بلغ) معطوف على ضمير (أنذركم)، فالضمير (كم) مفعول به و (من) معطوف عليه، يعني: لينذر به كل من بلغه القرآن من الإنس والجن. قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم، أي: كأنه رأى محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فعلى كل ذي علم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى غيره، ولا شك في أن هذه الآية تتضمن المنهج القويم في الدعوة، وهو إنذار الكافرين حتى مع تكذيبهم بالنبي وتكذيبهم بآيات القرآن نفسه، وقد أشيعت فكرة سخيفة تأثر بها كثير من المسلمين وكثير من الشباب والدعاة، وهي: كيف نخاطب الكافر بالقرآن وهو يكفر بالقرآن؟! وهذا انحراف جذري في أصول الدعوة، فالإنذار من القرآن والإنذار من السنة بنفس آيات القرآن الكريم تخوف الكافر؛ إذ هكذا علمنا القرآن الكريم ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ)) فما عليك إلا أن تبلغ آيات الله، حتى لو كان يكفر بها، فإذا كنت تجادل أحداً من أهل الكتاب فصارحه بآيات الله، وقل له كما قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران:70]. فإذاً: المفروض على الإنسان في الدعوة أن لا يستغني في حال من الأحوال عن الإنذار بآيات القرآن الكريم، ولا يُردد هذه المقولة الباطلة: (كيف نحاجهم بالقرآن مع أنهم كافرون بالقرآن؟!) لأن الله سبحانه تعالى أودع في هذا القرآن قوة إلهية قاهرة تقهر قلوب من يكفرون به، حتى وصل الحال ببعض مشركي مكة الذين هم أشد الناس كفراً وعتواً إلى أنه أنهم حينما تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم مفتتح سورة (فصلت) لم يطق صبراً من الخوف ومن شدة النذارة التي في الآيات الكريمات، فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمع، وكأنه يقول: يكفينا هذا. ولم يتحمل أن يسمع أكثر من ذلك من شدة الخوف، فآيات القرآن هي موعظة ونهي وزجر للإنسان عن الكفر وعن المعاصي، فينبغي أن لا نبطل إعمال هذا السلاح في أعداء الله، ذلك السلاح الذي يخترق قلوبهم، إما لتهتدي وإما ليقطعها حسرة ويقيم عليها الحجة، فلا يجوز تعطيل آيات الله بهذه الدعوى الغريبة التي صدرت وشاعت الآن، وهي أننا لابد من أن نخاطبهم بأساليب أخرى، قد يكون منها مناقشتهم عن طريق كتبهم ونصوص كتبهم المحرفة، مع الإعراض الكامل عن آيات القرآن الكريم، فهذا المنهج منافٍ لمنهج الأنبياء ومخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، فـ ابن مسعود خرج في أوائل البعثة وقرأ سورة (الرحمن) في الحرم الشريف، حتى ضربوه وأدموه وصار كالنصب الأحمر، وكذلك فعل أبو ذر، فالصحابة كانوا يخرجون أمام المشركين ويصدعون بآيات الله، كما قال عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94]، فلا يجوز بحال ترك الدعوة بالقرآن، بل ألف باء الدعوة أن الإنذار يكون بالقرآن الكريم وبمعانيه. يقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}، هذا استفهام إنكار، {قُلْ لا أَشْهَدُ}، أي: قل لهم: (لا أشهد) أي: لا أشهد بأن مع الله آلهة أخرى. وقوله: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، يعني: من الأصنام وغيرها. يقول القاسمي: قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: شهادة أي شيء أكبر؟ بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه، يعني: من هو أكبر شهادة، بحيث لا يمكن معارضة شهادته بشهادة غيره ممن يساويه؟ فالإجابة: هو الله؛ لأن الله لا يساويه أحد، كما قال عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. فقوله: (قل الله) يعني: الله أكبر شهادة، أو شهادة الله هي شهادة أكبر شيء؛ لأنه لا يوجد احتمال على الإطلاق لطروق الكذب في خبر الله عز وجل أصلاً، ومعاذ الله! أن يحصل ذلك، أي: لا يمكن أن يتطرق إلى خبر الله عز وجل كذب، قال عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]، وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]. وقوله: (قل الله) مع أنه سألهم، لكن الله سبحانه وتعالى قال له: قل لهم: (الله) وهذا بعد أن مهد لهم بهذه المقدمة (قل أي شيء أكبر شهادة)؛ لأنه يجب عليه أن يتولى الجواب بنفسه، ولبيان عدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره؛ إذ لا يمكن أن تكون هناك إجابة أخرى غير أن الله هو أكبر شيء شهادة، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه. وقوله: (قل الله شهيد بيني وبينكم) خبر لمحذوف، يعني: هو شهيد بيني وبينكم، أو خبر عن لفظ الجلالة، ودل على جواب (أي) من طريق المعنى؛ لأنه إذا كان الله تعالى هو الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شيء شهادة شهيد له، فيكون هذا من أسلوب الحكيم؛ لأنه عدل عن الجواب المتبادر إليه ليدل على أن أكبر شيء شهادة شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله أكبر شيء شهادة والله شهيد له، فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد له، فكأن هنا مقدمتين ثم نتيجة: المقدمة الأولى: الله أكبر شيء شهادة. المقدمة الثانية: الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم على صدقه. فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى (شهيد): مبالغ في الشهادة على نبوته، ولم يقل: شاهد، وإنما قال: (شهيد) واستعمل صيغة المبالغة في شهادته لصدق نبوته صلى الله عليه وسلم بحيث يقطع النزاع بينه وبينهم؛ إذ شهد سبحانه بالقول فيما أوحى إلى الأنبياء السابقين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وبالأمور الفعلية فيما ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من المعجزات، لاسيما معجزة القرآن، كما قال تعالى: ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)) إشارة إلى هذه المعجزة التي أوحاها الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

إعجاز القرآن في بلاغته

إعجاز القرآن في بلاغته وقوله: (أوحي إليَّ هذا القرآن) أي: الجامع للعلوم التي يُحتاج إليها في المعارف والشرائع في ألفاظ يسيرة في أقصى مراتب الحسن والبلاغة، وهو معجزة شاهدة بصدق رسالتي؛ لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء، وقد عجزتم عن معارضته. وقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) يُفهم منه أنه لا يجوز للدعاة أن يعطلوا الإنذار بالقرآن؛ لأننا نلاحظ أن الكفار الذين لا يفقهون حرفاً في اللغة العربية إذا سمعوا القرآن دهشوا وذهلوا وأفصحوا عن وجود سلطان قوي قاهر على قلوبهم حينما يسمعون القرآن، وهذا يكاد يكون من المتواتر، أي أن كل من يسمع القرآن الكريم يتأثر به هذا التأثر، فللقرآن سلطان على القلوب بمجرد سماعه بدون أن يفقه القلب معانيه، وهذا لقوة في القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك مما نراه في حال إخواننا المسلمين الباكستانيين أو غيرهم من الجنسيات الذين يحفظون القرآن أو يحفظ كثير منهم القرآن الكريم دون أن يفقه معناه، ومع ذلك يبكي بكاءً شديداً إذا تلا القرآن الكريم، وبعضهم حكي عنه أنه يمسك القرآن الكريم ويضمه إلى صدره ويبكي ويقول: كتاب ربي كتاب ربي. فالشاهد أن القرآن الكريم له سلطان في لغته، وفي سماع تلاوته، وفي أحكامه، وفي بلاغته من كل الجوانب، فإذا أتيته تجد بحراً زخاراً بالكنوز الثمينة. فلذلك ثنَّى تبارك وتعالى بقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به) يعني: بما فيه من الوعيد (ومن بلغ) أي: لأنذركم وأنذر به -أيضاً- من بلغه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أُرسل لكل العالمين، يعني: أنذركم به -يا أهل مكة- وسائر من بلغه من الناس كافة، فهو نذير لكل من بلغه، وهذا كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17]. وقوله: (أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) هذا تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. قوله: (قل لا أشهد) يعني: لا أشهد بما تشهدون. قوله: (قل إنما هو إله واحد) أي: بل أشهد أن لا إله إلا هو، ولا يُشارك في إلاهيته ولا في صفات كماله. قوله: (وإنني بريء مما تشركون) يعني: من الأصنام.

إطلاق لفظ شيء على الله عز وجل

إطلاق لفظ شيء على الله عز وجل واستدل الجمهور بقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على جواز إطلاق لفظة (شيء) على الله تعالى، وكذا استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه، وذلك لأن الشيء أعم العام؛ لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وبعض العلماء منع إطلاق لفظة (شيء) على الله سبحانه وتعالى، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، والاسم إنما يحسن بحسن مسماه، أي أن أسماء الله حسنى لحسن مسماها، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ونعت من نعوت الجلال، كما هو معلوم في أسمائه عز وجل الحسنى، ولفظ (شيء) أعم الأشياء، فهذه حجة من لا يجيز إطلاق لفظة (شيء) على الله، قالوا: إن كلمة (شيء) أعم الأشياء، فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها، فالأشياء الحقيرة أو الصغيرة يطلق عليها أشياء، والأشياء العظيمة -أيضاً- تسمى أشياء، ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال، فوجب أن لا يجوز تسمية الله بهذا الاسم؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها. وأجيب بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى لكونها توقيفية، أي: أنه يطلق على الله لفظ (شيء)، لكنه ليس من الأسماء الحسنى، فيطلق عليه لفظ (شيء) للآيتين اللتين ذكرناهما، وهما قوله تعالى: ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ)) وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88]. فهو يطلق على الله عز وجل، لكن ليس من الأسماء الحسنى؛ لأن الأسماء الحسنى توقيفية، ولكونه لا يدعى به الله سبحانه وتعالى؛ إذ لا يقال في دعائه: يا شيء. لأن هذا لم يرد، لكن هذا لا ينافي أن كلمة (شيء) تشمل الذات العلية شمول العام، والمراد بإطلاقها عليه تعالى فيما تقدم شموله، لا تسميته به، وهذا لفظ شامل، ومما يشمله أن يطلق على الله سبحانه وتعالى. وبالجملة فلا يلزم من كونه ليس من الأسماء الحسنى أن لا يشمل الذات المقدسة شمولاً كلياً.

الخلاف في المقصود بالشهادة في قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة)

الخلاف في المقصود بالشهادة في قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) وقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) اختار القاسمي أنها شهادة على صحة نبوته، وبعض العلماء قالوا: (أي شيء أكبر شهادة) قالوا: على وحدانيته تبارك وتعالى. والذي جنح إليه الأكثر أنه أكبر شيء شهادة في ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا يفترض من الجواب أنه قد وقع السؤال، لكن الجلال السيوطي قال: ونزل لما سأله مشركو مكة فهو جزم بأنها سبب النزول، أما هنا فقال: فكأنه، أي أنه افترض أن هذا كان وقوعاً للسؤال، وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهداً على نبوته، فقال لهم: أكبر شيء شهادة هو الله تعالى، وقد شهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن وتحداكم بمعارضته فعجزتم، وأنتم أنتم في مقام البلاغة، وإذا كان معجزاً كان إظهاره تعالى إياه على وصف دعواي شهادة منه على صدقي في النبوة. ولبعضهم وجه آخر، وهو أن المعنى: شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته، وتنزهه عن الأنداد والأشباه، ويقوي هذا الاحتمال تتمة الآية: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} فهذا الفريق من العلماء قالوا المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على وحدانية الله. واستدلوا بتتمة الآية التي هي: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}، وأيضاً يشهد له قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] وقوله تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام:150]. ومما يدل على أن الشهادة إنما عني بها في موارد التنزيل ثبوت الوحدانية أن القرآن يفسر بعضه بعضاً. إذاً: يحتمل أن تكون المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على صدق نبوتي، أو (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به. واقتصر هنا على الإنذار بقوله: (لأنذركم به) لكون الخطاب مع كفار مكة، وليس فيهم من يبشر، أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} [النحل:81]، فالأصل في النذارة أنها تقرن بالبشارة، فاكتفى هنا بالنذارة من باب: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ} [النحل:81] لأنها مشهورة فلم يذكرها. واستُدل بقوله تعالى: ((لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)) على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الجن؛ لأن البشر أجمعين والجن -أيضاً- قد بلغهم هذا القرآن الكريم.

أحكام القرآن تعم جميع الخلق منذ نزوله إلى قيام الساعة

أحكام القرآن تعم جميع الخلق منذ نزوله إلى قيام الساعة واستدل به -أيضاً- على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله، ومن سيولد بعد إلى يوم القيامة؛ لأن كلمة (ومن بلغ)، تعنى: كل من بلغه القرآن، سواء أكان في زمانه صلى الله عليه وسلم أم في غير زمانه إلى يوم القيامة، أم في أي مكان على وجه هذه الأرض. فكل من سمع هذا القرآن يجب عليه أن يتحرى، وكل من بلغه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسولاً اسمه محمد، أو أنزل كتاباً اسمه القرآن، أو أن هناك ديناً اسمه الإسلام يجب عليه أن يتحرى ويبذل غاية وسعه في التحري عن الحق، ولا يعذر إن قال: اجتهدت في البحث عن الحق فوجدت الحق في غير دين الإسلام. لا يعذر أمام الله سبحانه وتعالى أبداً؛ لأن وضوح صدق دين الإسلام وأنه دين الله الوحيد الحق أظهر من الشمس، ولا يمكن لأي إنسان عاقل يخلص في البحث عن الحق أن يصل إلى غير هذه النتيجة؛ لشدة وضوحها، وكثرة الأدلة عليها، فمما يؤسف له أننا نجد حتى من بين من ينتسبون للدعوة أو من بين الملتزمين من لا يستطيع أن يدلل على قضايا الإيمان وإحباط الشرك والكفر، وهذه الأشياء أساسية، وينبغي على الإنسان أن يتسلح فيها بالأدلة، فإذا احتجت في وقت من الأوقات إلى أن تثبت أن القرآن معجزة وأنت لم تعرف الأدلة فكيف ستتكلم؟ وماذا ستقول؟ وبم تدلل؟ وكيف تقيم دلالة قوية قاطعة على أن القرآن معجزة من عند الله سبحانه وتعالى؟! فلابد من أن تكون مستحضراً لهذه الأشياء. ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت عندنا بأدلة من أقوى الأدلة التي هي كالشمس في نقائها وظهورها ووضوحها، فيقبح بنا -معشر المسلمين- أن لا نتقن هذه الأدلة، وأن نعجز عن أن نحاج في الانتصار لدين الحق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إن كان قد قبضه الله عز وجل والتحق بالرفيق الأعلى فإن أمته تقوم مقامه في إبلاغ رسالته وإقامة الحجة على الخلق، فنحن الشهداء على هذه الأمم، كما قال عز وجل: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78]، فكيف نكون شهداء على الناس ونحن لم نبلغهم الحق أصلاً، وقد قصَّرنا في إبلاغ هذا الحق إليهم؟! فإذاً: يجب على الإنسان أن لا يقصِّر أبداً في إبلاغ الحق إلى أي مخلوق، سواءٌ من يهود أو نصارى أو مشركين أو أي طائفة، فلابد من أن يجتهد الإنسان في التبليغ. يقول محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. ورواه عنه ابن جرير بلفظ: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر.

وجوب التوحيد والبراءة من الشرك

وجوب التوحيد والبراءة من الشرك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، وهذا النص الشريف يدل أقوى دلالة على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد؛ لأن (إنما) تفيد الحصر، كما أن كلمة (واحد) صريحة في نفي الشركاء، ثم صرَّح بالبراءة عن إثبات الشركاء فقال: (وإنني بريء مما تشركون)، ولذلك استحب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، لقوله تبارك وتعالى هنا: (وإنني بريء مما تشركون) عقب التصريح بالتوحيد في قوله: (قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون).

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) قال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:20]. قوله: (الذين آتيناهم الكتاب) أي: اليهود والنصارى (يعرفونه) أي: يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في التوراة وفي الإنجيل. وقوله: (كما يعرفون أبناءهم) أي: بحلاهم ونعوتهم، فلا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم، فهم من شدة وضوح الأخبار الواردة عندهم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتبس عليهم وصفه تماماً، كما لا يلتبس على الواحد منهم معرفة ابنه؛ لأن الإنسان لا يشك في معرفة ابنه، فكما أن هذا لا يقع فكذلك هم يستيقنون ويعرفون أنه هو الرسول المذكور في كتبهم، فكأن هذا استشهاد لأهل مكة، لأن أهل مكة قالوا قبل ذلك: إن أهل الكتاب ينكرونك وينكرون نبوتك، فأتنا بشاهد يشهد لك. فنزلت الآية: ((قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)). قال الزمخشري: وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب للنبي عليه الصلاة والسلام والسلام، وبصحة نبوته، ولذا قال: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، فإنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم خسران. وقوله: ((الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ)) يعني: من المشركين ((فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) أي: بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشَّرت به الأنبياء ونوهت به؛ لأنه مطبوع على قلوبهم.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]. قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً) من كذبهم أنهم زعموا أن الملائكة بنات الله، وقولهم في الأصنام: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وما حكاه الله تعالى عنهم بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] ونحو ذلك. وقوله: (أو كذب بآياته) يعني: إما أنه افترى على الله الكذب، وإما أنه لما جاءته آيات الله كذب بها، فكذب بالقرآن والمعجزات وسماها سحراً. وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته) مع أنهم جمعوا بين الأمرين تنبيهاً على أن كل واحد منهما وحده بالغ الغاية في الإفراط في الظلم، فكيف وهم قد جمعوا بينهما، فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفوا ما أثبته؟! وقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) أي: لا ينجون من مكروه، ولا يفوزون بمقصود، فإذا كان حال الظالمين هذا، فكيف بمن لا أحد أظلم منه، وهم هؤلاء الذين يفعلون هذه الأشياء؟! فكل ظالم خاسر؛ لأن كل ظالم لا يفلح، كما قال تعال هنا: (إنه لا يفلح الظالمون)، يعني: لا يفلحون في الدنيا بانقطاع الحجة عنهم، وظهور المسلمين عليهم، وفيه إشارة إلى أن مدَّعي الرسالة الذين يدعون النبوة والرسالة كذباً لا يفلحون؛ فمن كان كاذباً مفترياً على الله فلا يكون مفلحاً؛ لأنه ذكر في الآية الذي يدعي النبوة فقال: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته)، فمن افترى على الله كذباً بأن ادعى أنه أوحي إليه ولم يوح إليه شيء، فهذا هو الكاذب الذي لا يمكن أن يكون من المفلحين؛ لأنه (لا يفلح الظالمون)، فلا يمكن أن يكون مدعي النبوة سبباً لصلاح العالم، ولا محلاً لظهور المعجزة، وهذه آية من آيات الله الباهرة، إذ كل من ادعى النبوة لابد من أن يفتضح، أو أن يتوب في النهاية، ولكن بعد أن ينكشف كذبه للناس، والكاذب لا يمكن الله عز وجل له في الأرض ولا يؤيده بالمعجزات، ولا يكون سبباً في صلاح العالم، كما جاء في بعض الآثار الإسرائيلية أنه سئل المسيح: كيف نميز بين الكاذب من الصادق؟ فقال: من ثمارهم تعرفونهم.

الأسس التي يعرف بها صدق الرسول

الأسس التي يعرف بها صدق الرسول وما ذكر هو أحد الأسس الخمسة التي نستطيع من خلالها أن نستدل على صدق الرسول، فالرسول يعرف صدقه بخمسة أشياء: بصفاته الشخصية؛ لأن الأنبياء يتميزون بصفات شخصية خَلقية أو خُلقية، ولا توجد بهذه الصورة المجتمعة إلا في الأنبياء، فالأنبياء لهم آثار لا تشتبه بآثار غيرهم، فمن الأثر الإصلاح الذي يحدثونه في العالم كله، ولا تعرف نبوةُ على الإطلاق أعظم أثراً من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أبداً، وهذا باعتراف الكفار أنفسهم، ولعل من قرأ كتاب (العظماء مائة) يجد أنه ذكر أن أعظمهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن المؤلف الكافر، ولكن هذه حقيقة لا يستطيع أحد أن ينكرها أبداً، فإنه لم يوجد في تاريخ البشرية كلها شخص أعظم أثراً في إصلاح العالم مثل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن هذه الأسس النبوءات التي تخبر عن أشياء تقع في المستقبل وتقع كما أخبر. ومنها: بشارة الكتب السابقة به. ومنها المعجزات. فمدعي الرسالة لو كان كاذباً مفترياً على الله تعالى فإنه لا يكون مفلحاً، ولا يكون سبباً لصلاح العالم ولا محلاً لظهور المعجزات.

تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا)

تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا) يقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22]. قوله: (يوم نحشرهم) أي: الإنس والجن والشياطين. (جميعاً) لكي يفتضح من لا يفلح من الظالمين، ويظهر المفلحون بكمال الإعجاز. وقوله: (ثم نقول للذين أشركوا) أي: الذين مضوا على الشرك بأن ماتوا عليه، وهم الشاهدون أن مع الله آلهةً أخرى: (أين شركاؤكم) أي: الذين جعلتموهم شركاءنا، وهم شركاؤكم في العبودية. وقيل: قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] يقتضي حضورهم معهم في المحشر، وعلى هذا تحمل الآية هنا (ويوم نحشرهم جميعاً) أي: المشركين (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون)، ففي الآية الأخرى يقول عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ الله} [الصافات:22] فهذا يقتضي حضورهم معهم في المحشر، وآية الأنعام فيها سؤالهم عن شركائهم. وأجيب بأنه على تقدير مضاف، أي أن الله هنا يقول: (ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم)، والآية الأخرى تثبت أن شركاءهم يحشرون معهم، والسؤال بـ (أين) يكون على شيء لا يحضر، ف A هم حاضرون بالفعل محشورون معهم مصداقاً للآية التي في سورة الصافات، لكن المقصود هنا بتقدير مضاف، فقوله: (أين شركاؤكم) يعني: أين نفع شركائكم، وأين شفاعة شركائكم؟! فهم بمنزلة الغُيَّب؛ لأن الحاضر الذي لا نفع ولا فائدة من حضوره هو مثل الغائب، ومثل الميت، ومثل المعدوم؛ لأنهم عدموا ما رجوا منهم من الشفاعة. فالمقصود هو التوبيخ والتقريع، وأن يقرر في نفوسهم أن ما كانوا يرجونه مأيوس منه، وثمرة هذا أنهم يعلمون في الدنيا أنه تقوم عليهم الحجة، فيعملون عقولهم ليستحضروا ما هم عليه من الضلال، وأن هؤلاء الذين يرجون شفاعتهم سوف ييئسونهم ويخذلونهم، وذلك تنبيه لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة. وقوله: (الذين كنتم تزعمون) يعني: تزعمونهم شركاء من عند أنفسكم.

تفسير قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)

تفسير قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]. قوله: (ثم لم تكن فتنتهم) أي: جواب ما اعترض به على فتنتهم التي هي شهادة أن مع الله آلهة أخرى. فقوله: (ثم لم تكن فتنتهم) يعني: لم يكن جوابهم إلا أن كذبوا وقالوا، فسمى الجواب فتنة؛ لأنهم وقعوا في الكذب، فافتتنوا بالكذب أمام الله عز وجل في الآخرة. وقوله: (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)، أي: أنهم اعتذروا عن أصنامهم بنفيها نفياً، مؤكداً بالقسم بالاسم الجامع، ولذا قالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين)، ونسبوا الربوبية إلى الله عز وجل، لا إلى ما سواه، مبالغةً في التبرؤ من الشرك، فكان هذا العذر ذنباً آخر؛ لأنهم يكذبون يوم القيامة أمام الله عز وجل، ويحلفون على كذبهم يميناً غموساً. وهذا جدير بأن يسمى بالفتنة، ولذا قال: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين).

تفسير قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)

تفسير قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24]. قوله: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم)، يعني: بنفي الإشراك عنها أمام علام الغيوب، وبحضرة من لا ينحصر من الشهود، فإن الشهود لا ينحصرون في ذلك اليوم، وأكبر شيءٍ شهادةً هو الله عز وجل، الذي رآهم وكان شهيداً على أعمالهم وشركهم وكفرهم، ثم الرسل والملائكة والبشر، وكل هؤلاء يشهدون عليهم، ومع ذلك اجترءوا على الكذب أمام الله عز وجل، فلذلك يقول تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون)، أي: انظر كيف ضاع وغاب عنهم ما كانوا يفترون من الشركاء، فلم يغن عنهم شيئاً، ففقدوا ما رجوا من شفاعتهم ونصرتهم لهم، وهذا كقوله تعالى: {قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [الأعراف:37] أي: خذلونا. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟! يعني: كيف يكذبون مع أنهم يطلعون الآن على الغيبيات وعلى حقائق الأمور، ويطلعون على أن الكذب والجحود لن ينفعهم يوم القيامة؟ يقول الزمخشري: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه. أي أنه يتعلق بقشة، والكذب أسوأ من القشة، فالممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه، من غير تمييز بينهما حيرةً ودهشاً، ألا تراهم يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، مع أنهم قد أيقنوا بالخلود في جهنم، ومع ذلك يحاولون أي محاولة فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، كما قال تعالى عنهم: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] وقد علموا أنه لا يقضي عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة) ثم بين تعالى بعض ما كان يصدر من مشركي مكة مما طبع على قلوبهم بسببه، فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]. قوله: (ومنهم من يستمع إليك)، يعني: يصغي إليك حين تتلو القرآن ولا يفني عنه شيئاً؛ لأنه لا يتدبر فيه حتى يطلع على إعجازه ويؤثر فيه الإرشاد. وقوله: (وجعلنا على قلوبهم أكنة) أي: حجباً، و (أكنة) جمع كنان، كغطاء جمعه أغطية، والموافقة هنا في الوزن وفي المعنى، فمعنى أكنة: أغطية. وقوله: (أن يفقهوه) يعني: كراهة أن يفهموا ببواطن قلوبهم بواطنه التي بها إعجازه وإرشاده؛ لإقامة الدلائل ورفع الشبه. قوله: (وفي آذانهم وقراً)، أي: وجعلنا في آذانهم التي هي طريق الوصول إلى بواطن القلوب صمماً مانعاً من وصول السماع النافع. وقوله: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) يعني: ليس هذا القصور متعلقاً بتقصيره مع القرآن الكريم وتدبر القرآن فقط، لكن هذا في أي آية أخرى ابتدأ فيهم بها فلم يؤمنوا بها، فيقولون: هي سحر. لصرف عنادهم واستحكام التقليد فيهم، ولذلك قال عز وجل: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23] يعني: سمع انتفاع. ثم يقول تعالى: (حتى إذا جاءوك يجادلونك) يعني: بلغ تكذيبهم للآيات إلى أنهم إذا جاءوك يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل. ثم فسر المجادلة بقوله: (يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) أي: أباطيلهم وأحاديثهم التي لا نظام لها. ولا شك في أن هذه رتبة من الكفر ليس وراءها رتبة؛ لأن هؤلاء المبطلين يعدون أصدق الحديث وأحسن الحديث الذي هو كلام الله من قبيل الأباطيل، مع أنه هو الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، فهذه -بلا شك- رتبة من العناد والكفر لا غاية وراءها.

تفسير قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه)

تفسير قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه) ثم يقول عز وجل: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26]. قوله: (وهم ينهون عنه) يعني: لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه، بل يصدون غيرهم -أيضاً- عن استماعه. قوله: (وهم ينهون عنه وينأون عنه)، أي: أنهم يبعدون عن القرآن، وينهون الآخرين عن أن يجتمعوا للقرآن، وهم لرؤيتهم حلاوة نظمه فوق نثرهم وشعرهم مع مكانة معانيه يعرفون أن التدبر فيه يفيد التطلع إلى إعجازه، فيخافون تأثيره في قلوب الخلائق، لذلك ينهون عنه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فهم ينهون عن قراءته واستماعه لئلا يدعوهم إلى التدبر فيه فيفسد عليهم أغراضهم الفاسدة. وقوله: (وينأون عنه) يعني: يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم منه، وتأكيداً لنهيهم عنه، فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي. وقوله عز وجل: (وإن يهلكون إلا أنفسهم) أي: هم بهذا الإبتعاد عن مصدر الهدى الذي هو القرآن لن يضروا الله ولا رسوله ولا المؤمنين شيئاً، فإن الله عز وجل متم نوره ومظهر دينه، وإن الدائرة على هؤلاء الكافرين، ولذلك قال: (وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون) قيل في بعض التفاسير: يدخل في هذه الآية الكريمة أبو طالب، فإنه كان ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى. فقوله: (وهم ينهون عنه) يعني: ينهى المشركين عن أذيته عليه الصلاة والسلام (وينأون عنه)، أي: وهو نفسه ينأى عنه فلا يؤمن به، مع أنه ينهى إخوانه من مشركي قريش عن أذية الرسول عليه السلام، وكان يحميه، وفي نفس الوقت هو في ذاته ينأى عنه ويبعد عن الإيمان به، فلم يؤمن به. ويكون سر الجمع في قوله: (وهم) أن المقصود أبو طالب ومن كانوا يتابعونه ويناصرونه على ذلك، وقيل: إنها نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية، وأشدهم عليه بالسر؛ إذ كانوا يناصرونه في العلانية، وينهون الناس عن أذيته، وهم في السر أشد الناس بعداً عنه في الإيمان به عليه الصلاة والسلام. ولا يخفى أن لفظ التنزيل مما يطلق على ما ذكر ولا ينافيه، وهو المراد بالنزول، واستشهد بعض هؤلاء المفسرون بقول أبي طالب يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منه عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرفت دينك لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وهناك جناس بديع بين: (ينهون) و (ينأون).

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد)

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد) ولما أخبر تعالى أنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفيته، مع بيان ما سيصدر عنهم في الآخرة من القول المناسب لعقدهم الدنيوي، فقال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]. قوله: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) أي: اطلعوا عليها فعاينوها، أو دخلوها فعرفوا ما فيها من العذاب. وقوله: (على النار) إما أن معناه: فوق النار على الصراط، وإما أن (على) بمعنى (في) يعني: أقيموا في جوف النار وغاصوا فيها، وهي محيطةٌ بهم. وقوله: (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) تمنوا الرجوع إلى الدنيا حين لا رجوع، واعدين أن لا يكذبوا بما جاءهم، وأن يكونوا من المؤمنين بآياته العاملين بمقتضاها حتى لا يرون هذا الموقف الهائل، ويكونون من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحسن المآب.

تفسير قوله تعالى: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وما نحن بمبعوثين)

تفسير قوله تعالى: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل وما نحن بمبعوثين) يقول تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. قوله: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) في هذا إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد بالتصديق بالإيمان، يعني: ليس هذا الكلام الذي يقولونه حقاً، وإنما هو كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] على أحد التفاسير، فهي مجرد كلمة، لكن في الحقيقة لو أن الله ردهم لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، والعياذ بالله! فالله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم -أيضاً- ما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الشيء الذي لم يقع لو كان سيقع بعلمه على أي صورة سيقع، والدليل هذه الآية (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه)، فيخبر تعالى أنه لو ردهم إلى الدنيا كما يطلبون وكما يتمنون لعادوا لما نهوا عنه من الشرك. وهذا نلاحظه في الجبابرة والعتاة والطغاة حينما يتعرضون للموت ويواجهون الموت، ثم يشاء الله سبحانه وتعالى أن ينجيهم، ولا شك في أن أي واحد منا لو استحضر أنه ما بينه وبين الموت إلا طرفة عين وانتباهتها فإنه في تلك اللحظة يعاهد الله على التوبة والاستقامة؛ لأنه رأى الموت بعينه. وما من أحد يمرض إلا وهو في الغالب يجدد العهد مع الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، وهذا شيء يحسه كل إنسان منا في نفسه. فعادة هؤلاء الجبابرة المتجبرين أن الله إذا رد أحدهم فإنه لا يتعظ ولا ينزجر ولا يرعوي، ولا يحدث توبة، بل ربما يتمادى في الطغيان وفي العتو وفي الإفساد في الأرض. فالإنسان كما قال الشاعر: ما أنت إلا كزرع عند خضرته لكل شيء من الآفات مقصود فإن سلمت من الآفات أجمعها فأنت عند تمام الزرع محصود فليست الأمنية التي يذكرونها عن عزمٍ صحيح، وليست عن اعتقاد خالص، بل هي بسبب آخر، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك، يعني: أنهم حاولوا أن يكتموا جريمتهم بقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، فالله سبحانه وتعالى يبين هنا حالهم فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، يعني: أنهم الآن يقولون: (ولا نكذب بآيات ربنا)، ويقولون أيضاً: (ونكون من المؤمنين)، وهم قبلها في موقف آخر في القيامة كانوا يقولون: ((وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ))، أي: نحن كنا مؤمنين، فيبين الله سبحانه وتعالى أن السبب في تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ليس العزم الصحيح والنية الصادقة على أنهم يتوبون إذا رجعوا إلى الدنيا، لكن الذي جعلهم يتمنون الرجوع هو أنه قد كشف الله مخبوء صدورهم حينما كذبوا وحلفوا كذباً وزوراً أنهم ما كانوا مشركين، فقد ظهر ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك بقولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين)، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم، فتمنوا لذلك أن يعودوا إلى الدنيا. أو كشفهم بشهادة جوارحهم عليهم، فإنهم حلفوا أنهم ما كانوا مشركين، وما عملوا المعاصي، فينطق الله سبحانه وتعالى جوارحهم فتنطق تدينهم، فحينئذ ينكشف الكذب الذي كانوا يكذبونه. أو انكشف لهم ما كانوا يخفون من قبل في الدنيا حينما كانوا يخفون تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويخفونها في صدورهم، انكشفت لهم الحقيقة يوم القيامة، وكانوا يبدون في الدنيا خلاف هذا التصديق، كما قال عز وجل عن موسى أنه قال لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102] يعني: أن فرعون نفسه كان موقناً بصدق موسى، لكن كان يخفي ذلك في صدره، فقد كان أمام الجماهير وأمام الشعب يجهر بتكذيب موسى، وهو في قلبه مؤمن بأن موسى صادق، والدليل قوله تعالى هنا حكايةً عن موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ) يعني: يا فرعون (ما أَنزَلَ هَؤُلاءِ) أي: الآيات: {إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، وقال في الآية الأخرى في شأن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. وقوله: (ولو ردوا) يعني: عن هذا الموقف إلى الدنيا كما تمنوا وغاب عنهم ما شاهدوه من الأحوال (لعادوا لما نهوا عنه) أي: لعادوا إلى الشرك وإلى الكفر. وقوله: (وإنهم لكاذبون) يعني: في وعدهم بالإيمان، أو أن ديدنهم الكذب في أحوالهم، ولذلك كان للسلف الصالح مع هذه الآية وأمثالها مواقف، فقد كان بعض السلف يعظ ابنه فيقول له: يا بني! هب أننا متنا ثم بعثنا ونشرنا وقامت القيامة، وحكم علينا أن ندخل النار، ثم وقفنا على الصراط، ووقفنا أمام ربنا سبحانه وتعالى فسألناه الرجعة، ودعونا الله أن نرجع لنعمل صالحاً، هب أنك سألت الله الكرة الجديدة فأعطاك، فافترض أن حياتك الآن هي فرصة ثانية أعطاك الله إياها، فانتهز هذه الفرصة قبل أن تسأل الكرة فلا تعطاها. ثم قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}. قوله: (إن هي إلا حياتنا الدنيا)، يعني: ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، وإن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع! وقوله: (وما نحن بمبعوثين)، يعني: بعد أن نفارق هذه الحياة.

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق)

تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق) قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30]. قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، يعني: عرضوا عليه، أو وقفوا بين يديه، {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ}، أي: أليس هذا المعاد والبعث والنشور بالحق؟! قال هذا تقريعاً لهم ورداً لما يتوهمون عند الرد، {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}، أي: إنه الحق، وليس بباطل كما كنا نظن. وأكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بأحقيته، فعندهم يقين، لكن اليقين لا ينفع في الآخرة حين تنكشف الحجب، وإنما اليقين ينفع في دنيا الاختبار والابتلاء حين تؤمن بالغيبيات دون أن تراها، هذا هو اليقين المفيد النافع، أما اليقين بالظاهر فكل الناس يوقنون إذا انكشفت الحجب، كما قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]. ولذا قال لهم: (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون).

تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)

تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) قال عز وجل: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31]. قوله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)، يعني: ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون)، روي أن علياً رضي الله تعالى عنه نظم أبياتاً على منوال هذه الآية، وقيل: إنها لـ أبي العلاء المعري، ولعل هذا أقرب، يقول فيها: قال المنجم والطبيب كلاهما لا تحشر الأجساد قلت إليكما و (إليكما) هنا معناها: كُفَّا عما تقولان؛ فإنه ليس بصحيح. إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخسار عليكما أضحى التقى والشر يصطرعان في الد نيا فأيهما أبر لديكما؟ طهرت ثوبي للصلاة وقبله جسدي فأين الطهر من جسديكما وذكرت ربي في الضمائر مؤنساً خلدي بذاك فأوحشا خلديكما وبكرت في البردين أبغي رحمةً منه ولا ترعان في برديكما إن لم تعد بيدي منافع بالذي آتي فهل من عائد بيديكما برد التقي وإن تهلهل نسجه خير بعلم الله من برديكما يناظر هذين الملحدين اللذين ينكران البعث والنشور. فقوله: (إن صح قولكما فلست بخاسر) يعني: لو كنت أؤمن بالبعث والنشور وأنتما لا تؤمنان به، وظهر بعد ذلك أن مذهبكما كان الصحيح، فمذهبكما في عدم وجود بعث ونشور لا يضرني، لكن افترضا أن مذهبي صحيح وأنه يوجد بعث ونشور فإن هذا يضركما، وهذا نوع من التنزل أو ما يسمى باستدراج الخصم في المناظرة، حتى يقر بالحق، وهذا له نظير في القرآن، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]، وكذلك -أيضاً- قوله تعالى في سورة سبأ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] والألصق بالموضع الذي نذكره هو هذه الآية: (وإن يك كاذباً)، وبدأ بكلمة (كاذباً)؛ لأنها أقرب لهواه، وهذا نوع من التنزل في الخصومة وفي المناقشات، فإذا كان كاذباً (فعليه كذبه)، لكن إذا كان صادقاً (يصبكم بعض الذي يعدكم) فكذلك هنا يقول لهما: إن كان مذهبكما صحيحاً فأنا ما خسرت شيئاً، لكن إن كان مذهبي صحيحاً فقد خسرتما كل الخسران. فكأنه يقول: إذا كان الأمر كما تقولان من أنه لا قيامة فقد تخلصنا جميعاً، وإن لم يكن الأمر كما تقولان فقد تخلصت وهلكتما، فهذا الكلام وإن خرج مخرج الشك فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه، وبيان قلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه، مع أن المناظر على ثقة من أمره، وهذا نوع من أنواع الجدل، فالاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، فيستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة وليس منها، كقوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر:28] ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: (إن يك كاذباً) فكذبه عائد عليه، وإن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى، وهذا يذكرنا -أيضاً- بقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27]. فكأن مؤمن آل فرعون يقول: إن يكن نبياً صادقاً فلابد من أن يعطي كل ما وعد به لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم لما فيه من الملاطفة في النصح، بكلام منصف غير مشدد، فأراهم أنه لم يعطيه حقه، ولم يتعصب له ويحام عنه حتى لا ينفروا عنه، ولذا قدَّم قوله: (وإن يك كاذباً) ثم ختم بقوله: (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) يعني: أنه نبي على الهدى، ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوة وعضده، وفيه من خداع الخصم واستدارجه ما لا يخفى. وقوله تعالى: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) أي: جاءتهم القيامة فجأة، وسميت القيامة ساعة لأنها تفجأ الناس بغتةً في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والمعنى: جاءتهم منيتهم. والساعة هنا ليس المقصود بها يوم القيامة، بل المقصود بها القيامة الخاصة بكل إنسان، حينما ينتقل من الدنيا إلى الآخرة بالموت، وعلى هذا فقوله: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة) المراد الساعة الصغرى التي هي الوفاة. قال الراغب: الساعة الكبرى بعث الناس للمحاسبة، والصغرى موت الإنسان، فساعة كل إنسان موته، كما يقال: إذا مات ابن آدم قامت قيامته، وهي المشار إليها بقوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة)، ومعلوم أن الحشر ينال الإنسان عند موته. وقوله: (قالوا يا حسرتنا) أي: يا ندامتنا. والحسرة هي التلهف على الشيء الفائت. وقوله: (على ما فرطنا فيها) أي: قصرنا في الحياة الدنيا. وقوله: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) يعني: بئسما يحملونه.

تفسير قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو)

تفسير قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) يقول تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32]. قوله: (وما الحياة الدنيا إلا لعب) يعني: هزل وعمل لا يجدي نفعاً (ولهو) يعني: اشتغال بهوى وطرب وما لا تقتضيه الحكمة، وما يشغل الإنسان عما يهمه مما يمتد به ثم ينقضي. وقوله: (وللدار الآخرة خير للذين يتقون)، أي: لدوامها وخلو منافعها ولذاتها عن المضار والآلام. وقوله: (أفلا تعقلون) يعني: أفلا تعقلون هذه الحقيقة حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي، ولا تؤثروا الأدنى الفاني على الأعلى الباقي؟!

تفسير قوله تبارك وتعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك)

تفسير قوله تبارك وتعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك) قال تبارك وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]. قوله: (قد نعلم إنه ليَحزنك) أو (إنه ليُحزِنك) بفتح الياء وضمها (الذي يقولون) يعني: الذي يقولونه فيك من أنك كاذب أو ساحر أو شاعر أو مجنون. وهذه الآية من الآيات العظيمة في فضائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم الآيات في خصائص الرسول عليه السلام وبيان فضائله وعلو مقامه عند الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يسلِّي نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه هو الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، ويبين أنه يعرف كيف تتأثر نفسه الشريفة ويحزن قلبه عليه الصلاة والسلام إذا وصف بأنه كاذب على الله، كما قال: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) أي: نحن نعرف أنك تتألم أشد الألم حينما يصفونك بالكذب، فيواسيه الله سبحانه وتعالى، والله هو الذي يطلع على قلوب هؤلاء الكفار، فيقول له: (فإنهم لا يكذبونك) أي: لا تجزع، فهم يعتقدون في قلوبهم أنك صادق، لكن يجحدون الحق في الظاهر، وهم يعتقدون صدقك، فيواسيه بأنك لا تتألم حينما يصفونك بالكذب؛ لأنهم في الحقيقة لا يكذبونك، فهم يعرفون صدقك، لكن ما يظهرونه هو عبارة عن جحود في الظاهر، وهم يصدقونك في الباطن، وهذا من أعظم المواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فانظر كي تعرف مكانة النبي عليه الصلاة والسلام عند الله عز وجل، وتأمل جيداً في مثل هذه الآيات (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) وانظر إلى الشفقة والرفق والتلطف بالرسول عليه الصلاة والسلام، والمواساة والتسلية له (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون). يقول أبو السعود: استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه، مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه؛ لبيان أنه صلى الله عليه وسلم بمكانةٍ من الله عز وجل، وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجع إليه تعالى في الحقيقة، وأنه ينتقم منهم أشد انتقام. وقوله: (نعلم) هنا المقصود التحقيق وتأكيد علم الله سبحانه وتعالى بوقوع ما يقولون. يقول أبو السعود: وهذا يفيد بلوغه صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر، ورفعة المحل، والزلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غاية وراءه، حيث لم يقتصر على جعل تكذيبه عليه الصلاة والسلام تكذيباً لآياته سبحانه وتعالى على طريقة قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، بل نفى تكذيبهم عنه، وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] إيذاناً بكمال القرب واضمحلال شئونه عليه الصلاة والسلام في شأن الله عز وجل، وفيه استعظام لجنايتهم منبه عن عظم عقوبتهم، وقيل: المعنى: فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم، ولكن يجحدون بألسنتهم عناداً ومكابرة، وقد روي عن علي قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به. فأنزل الله: (فإنهم لا يكذبونك) إلى آخر الآية.

تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا)

تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا) ثم يقول تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]. قوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك) في هذا تسليته عليه الصلاة والسلام؛ فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض التهوين حين تعم، والناس عندهم المثل الذي يقول: (المصيبة إذا عمت طابت)، فالبلاء والعناء حينما ينزل ويشترك فيه الناس يهون عندهم، كما يستشهد لذلك بقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي تقول: إن أناساً كثيرين فقدوا إخوانهم، فلو كنت وحدي في هذه المصيبة لما احتملت، ولما واساني أحد، ولقتلت نفسي، ولكنهم كثير، ولكن لا يبكون مثل أخي، ومهما بكوا فإخوانهم أقل من أخي، ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي. فالمصيبة إذا عمت في الناس تكون آثارها أقل؛ لأن في ذلك نوعاً من المواساة. ولذلك فهذا النوع من المواساة سيحرم منه أهل النار، كما في قوله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] فالآية تبين أن من عقوبتهم أنهم سيحرمون بالشعور الذي ينشأ عن المساواة في البلية بسبب وجود أمثالهم في العذاب، فهذا الشعور نفسه سينزع من قلوبهم، ولن ينفعهم وجود غيرهم معهم في العذاب. فيقول تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك)، يواسيه الله سبحانه وتعالى بسنته تعالى فيمن سبقوه من الأنبياء، فإن عموم البلية ربما يهون أمرها بعض التهوين، وفي هذا إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على ما أصابهم من أممهم من فنون الأذية، وفيها وعد ضمني له صلى الله عليه وسلم بمثل ما مُنحوه من النصر، كما كانت عاقبة أمرهم النصر، والعاقبة للمتقين، فكذلك تتضمن هذه الآية وعداً للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر والتمكين. وقوله: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا)، إلى أن جاءت النهاية الحتمية: (حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) أما كلمات الله فهي مواعيده، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] وقال أيضاً: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]. وقوله: (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)، أي: من خبرهم في مصابرة الكفار، وما منحوه من النصر، فلابد من أن نزيل حزنك بإهلاكهم، وليس إمهالهم لإهمالهم، بل هو لجريان سنته تعالى بتحقيق صبر الرسل وشكرهم.

تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم)

تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم) ثم قال عز وجل: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]. قوله: (وإن كان كبر عليك)، يعني: إن كان شق وثقل عليك (إعراضهم)، يعني: عن الإيمان بما جئت به من القرآن، ونأيهم ونهيهم الناس عنه. وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، يعني: إما أن تصبر ولا حيلة لك إلا الصبر، وإما أن لا تصبر ولا يوجد خيار آخر، فعليك أن تصبر وتقتدي بإخوانك المرسلين السابقين. وقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض)، أي: سرباً ومنفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تأتي لهم بآية يؤمنون بها. قوله: (أو سلماً في السماء) أي: مصعداً تعرج به إليها. وقوله: (فتأتيهم بآية) يعني: مما اقترحوه فافعل، وحسن حذف الجواب لعلم السامع به، فقوله: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء) جوابه: فافعل، لكن لم يجعل الله لك هذه الاستطاعة؛ إذ يقين الإيمان غير نافع؛ لأنه لو انكشفت الحجب تماماً وصار الغيب شهادة، وأتاهم بكل ما يقترحونه من المعجزات والخوارق فسينقلب الإيمان إلى إيمان قهري وضروري، وليس إيماناً اختيارياً. ثم يقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى)، وهذه كلها مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه شاء بمقتضى جلاله إظهار غاية قهره وغاية لطفه، (فلا تكونن)، يعني: بالحرص على إيمانهم، أو الميل إلى نزول مقترحهم، (من الجاهلين)، يعني: بما تقتضيه شئونه تعالى. وفي هذه الآية ما لا يخفى من الدلالة على مبالغته صلى الله عليه وسلم في حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه إلى غاية أنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وشفقة عليهم. وهذه الآية كافلة بالرد على القدرية في زعمهم أن الله تعالى شاء جمع الناس كلهم على الهدى فلم يكن؛ لأن الله تعالى يقول: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)، فلو حرف امتناع لامتناع، فصدر الجملة بـ (لو)، ومقتضاها امتناع جوابها لامتناع الواقع بعدها، يعني: امتنع استماعهم عن الهدى لامتناع مشيئة الله عز وجل أن يجمعهم على الهدى، وقال عز وجل هنا: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ولم يقل: فلا تكن جاهلاً، وإنما قال: (فلا تكونن من الجاهلين) يعني: من قوم ينسبون إلى الجهل، تعظيماً لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى لا يسند الجهل إليه بالمبالغة في نفيه عنه. وأما ما فيه من شدة الخطاب في قوله: (فلا تكونن من الجاهلين)، فسره إبعاد جنابه الكريم عن الحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر، مما لا يليق إلا بالجاهلين، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأنعام [36 - 49]

تفسير سورة الأنعام [36 - 49]

تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام:36]. قوله عز وجل: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) تقرير لما مرَّ من أن على قلوبهم أكنة وأغطية وحجب، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يتصور منهم الإيمان البتة، ففي هذا بيان للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الطمع والرجاء في إيمانهم، وبيان أن الذين يستجيبون للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم الذين يسمعون، وهؤلاء الموتى لا يسمعون فلن يستجيبوا، فمعنى الاستجابة: قبول دعوتك إلى الإيمان. وقوله: (يسمعون) يعني: يسمعون سماع قبول وسماع تعقل وتفهم وتدبر، لا مجرد السماع الذي تفصله وتتقنه البهائم والعجماوات؛ لأنك لو وقفت تتلو قصيدة أو كتاباً على أي شيء من العجماوات والبهائم فهي تسمع الصوت، لكن لا تعقل، فهذا هو نفس المقصود بمثل هذه الآيات التي تصفهم بعدم السماع، فهم يسمعون كما تسمع العجماوات التي لا عقل لها، لكن لا يفقهون شيئاً من هذا الكلام، كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: مع رسلهم: {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171] فهو لا يسمع، لكن يسمع الدعاء والنداء فقط، فكما تنادى البهائم بأصوات مميزة فتسمع دون أن تعقل فكذلك هؤلاء، وهذا يتكرر كثيراً في القرآن الكريم في وصف هؤلاء الكفار، أي: إنما يستجيب لك بقبول دعوتك إلى الإيمان الأحياء الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم، دون الموتى الذين هؤلاء منهم. وهذا كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، فليس المراد الموتى حقيقة فحسب، بل الآية تشمل الكفار الذين هم في الظاهر أحياء، لكنهم في الحقيقة موتى القلوب لا يفقهون ولا يعقلون، فالمقصود بالموتى الكفار؛ لأنهم موتى في الحقيقة، ولأن الحياة لا تنفعهم ما داموا غير مؤمنين. فقوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) أي: وإن كانوا أحياءً بالحياة الحيوانية فهم أموات بالنسبة إلى الإنسانية، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة والأخلاق الرديئة. ثم ابتدأ الله تعالى كلاماً آخر فقال: (والموتى يبعثهم الله) يعني أن الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة. وقوله: (ثم إليه يرجعون) يعني: سيجزيهم بأعمالهم، فالموتى مجاز عن الكفرة، كما قيل: لا يعجبن الجهول بزته فذاك ميت وثوبه كفن فقوله: (لا يعجبن الجهول بزته) يعني أن الشخص الجاهل يعجب بملابسه ورونقها وزينتها، وقوله: (فذاك ميت وثوبه كفن) يعني أن الإنسان الميت لا يتزين بالكفن، ولا يفخر بالكفن، فكذلك هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله، فمهما كان عليه من حسن ثياب فإنما هي كالكفن الذي يكون على الموتى، فكيف يفخر بها؟! قيل: فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى لا يقدر عليه إلا الله، فهذه الآية رمز ترمز إلى هذه المعنى العظيم، وهو أن هدايتهم لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى وحده، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لأن الهداية هي كبعث الميت من الموت إلى الحياة، وبعث الميت وإعادته إلى الحياة لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك الهداية لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنها من خصوصيات الله، فكما أنه يستأثر بالقدرة على إحياء الموتى فكذلك يستأثر بالقدرة على إحياء أموات القلوب بالكفر بأن يحيي قلوبهم بالإيمان وبالهداية. فقوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) قيل: إن فيه رمزاً لقدرة الله على هدايتهم، وأن ذلك كالبعث، ففيه إخلاص للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم، يعني: أنت تبلغ، لكن ليس عليك هداية القلوب، إنما عليك هداية البيان والتوضيح والإبلاغ، أما هداية القلب وانقياده فهذا النوع من الهداية لا يملكه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وفي مقارنتهم بالموتى من التهكم بهم والإغراء عليهم ما لا يخفى.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37]. قوله: (وقالوا) يعني مشركي مكة، وهذا بيان لنوع آخر من تعنتهم؛ إذ لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخر لها صم الجبال، فطلب الآيات ما هو إلا نوع من التعنت والتزمت، وقد ذكر أن الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنهم لو آتاهم من الآيات ما يطلبون فإنهم يتمادون في كفرهم وفي غيهم، فلا يزيدهم هذا إلا جحوداً وكفراً وعناداً، وحينئذ يستحقون نزول العذاب إذا أجيبوا إلى ما اقترحوه من الآيات، فكأن الله سبحانه وتعالى أمسك عن أن يجيبهم إلى ما اقترحوه إبقاءً عليهم، وإلا فما أعظم الآيات التي أيد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأعظمها على الإطلاق هذا القرآن الكريم، وغيره من المعجزات الخوارق التي تقطع بصدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) يعني: خارقة على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون. وهذا كقولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90] إلى آخر الآيات. وقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي أن اقتراحها جهل، فإن الله سبحانه وتعالى قادر -بلا شك- على أن ينزل آية، ولكن اقتراح الآيات على سبحانه وتعالى جهل به عز وجل؛ لأن في تنزيلها قلعاً لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختبار؛ لأنه لو جرت أمور الدنيا على خرق العادة باستمرار بأن يستجيب الله لهم فبهذه الحالة نصير كأننا في عالم الآخرة ولسنا في عالم هذه الدنيا، فالدنيا دار ابتلاء ودار تكليف، فلا شك في أنه لو كشفت الحجب وكشفت لهم الآيات وأجيبوا إلى كل ما اقترحوا من الخوارق فلن نبقى في هذا العالم الذي يكون الإيمان فيه اختيارياً، بل سنتحول إلى العالم الذي يكون فيه إيمان افتراضياً، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]. فهذا الإيمان وهذا اليقين لا يفيد؛ لأنه ليس في ذلك تكليف، فالقيمة هي في أن توقن هنا بالغيب في دار الابتلاء والتكليف، وأما الآخرة فهي دار ظهور النتائج، فلا يستقيم أن يبقى التكليف مع تحول الأمور إلى خوارق إجابة مقترحاتهم، بل سيقضى على أساس التكليف ويقتلع من أساسه. أو أن في اقتراح هذه الآيات وفي إجابتهم ما يترتب عليه استئصالهم بالكلية؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى أنه إذا طلب قوم آية أو اقترحوا آية فأجابهم إليها فإنه يجيب إليها بشرط أنهم إذا لم يؤمنوا إذا رأوها فإنهم يعاقبون بالاستئصال بالكلية، فكأنه لم يجبهم رحمةً بهم وإبقاءً عليهم؛ فإن من لوازم جحد الآية الهلاك، جرياً على سنته تعالى في الأمم السالفة، وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لأن بعضهم واقفون على حقيقة الحال، وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعناداً. فقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) في هذا إشارة إلى أن بعض هؤلاء الكفار واقفون على حقيقة الحال، ويعلمون هذا المعنى، وأن الله قادر على أن ينزل آية، وأنه لم ينزل آية من أجل كذا وكذا من الحكم التي ذكرنا، لكنهم مع ذلك يتعنتون مكابرةً وعناداً.

تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)

تفسير قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) يقول تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38]. قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض) (في) هنا تعطي معنى الاستقرار، ولذلك يقول القاسمي في تفسيرها: (وما من دابة في الأرض) أي: مستقرة في الأرض لا ترتفع عنها. وقوله: (ولا طائر يطير بجناحيه) يعني: الطائر يرتفع عن الأرض حين يطير، أما الدابة فهي مستقرة على الأرض. وقوله: (إلا أمم أمثالكم) أي: إلا أصناف مصنفة في ضبط أحوالها وعدم إهمال شيء منها وتدبير شئونها وتقدير أرزاقها. وقوله: (ما فرطنا في الكتاب) يعني: ما تركنا وما أرسلنا في الكتاب، والكتاب هو لوح القضاء المحفوظ. وقوله: (من شيء) يعني: سواء أكان جليلاً أم دقيقاً، فإن اللوح المحفوظ أو هذا الكتاب الذي هو أم الكتاب مشتمل على ما يجري في العالم، ولم يهمل فيه أمر شيء، والمعنى أن الجميع علمهم عند الله، ولذا قال: (وما من دابةٍ في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) فعلم هذا كله عند الله لا ينفك واحد منها عن رزقه وتدبيره، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] أي: كتاب مفصح بأسمائها وأعدادها ومضانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها. وقوله: (ثم إلى ربهم يحشرون) يعني الأمم كلها من الدواب والطير، فيقتص لبعضها من بعض، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء، فلابد من العدل حتى بين هذه البهائم يوم القيامة، حتى يقتص للجماء التي لا قرن لها من القرناء التي كانت ذات قرن ونطحتها وآذتها بقرنها، فتبعث هذه ويقتص لهذه من تلك عدلاً من الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) أورد الضمير على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مجرى العقلاء. قال الزمخشري: إن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟! أي أن سياق الكلام في مناقشة الكفار في تعنتهم وعنادهم واقتراحهم الآيات، فما غرضه من ذكر هذه الآية: (وما من دابةٍ في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) إلى آخره؟! قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون ما عداهم من سائر الحيوان، إشارة إلى عظم قدرة الله سبحانه وتعالى وسعة علمه. والإنسان يتخيل أنه لا يوجد شيء مهما دق إلا والله سبحانه وتعالى هو الذي يدبر أمره، وهذا هو معنى توحيد الربوبية: أن تؤمن أن كل ما في الوجود هو من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يقوى أحد على شيء أبداً إلا بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فليس الله سبحانه وتعالى يدبر أمر الخلائق مؤمنهم وكافرهم وإنسهم وجنهم فحسب، وإنما يدبر أمر كل ما في هذا الوجود، فكل سمكة في البحار، وكل طائر في السماء، وكل نملة في الجحر، وكل حشرة، وكل حيوان، وكل ما تتخيله، حتى الذرات والإلكترونات، وكل ما يوجد في هذا الوجود لا يتحرك شيء منه بحركة إلا بأمر من الله سبحانه وتعالى وتدبير من الله عز وجل. يقول الرازي المقصود: أن عناية الله لما كانت حاصلةً لهذه الحيوانات، فلو كان إظهار آية مصلحة لأظهرها، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية. وقال القاضي: إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بيَّن بعده بقوله: (وما من دابة) إلى آخره أن البعث حاصل في حق البهائم أيضاً؛ لأنه فسر الآيات بقوله: (ثم إلى ربهم يحشرون). أما (من) في قوله تعالى: (وما من دابةٍ) فالنحويون يقولون: إنها هنا زائدة. وهذا أسلوب من أساليب العرب، ومعروف عند العرب أنهم قد يتكلمون بمثل هذه الحروف للتوكيد، فليس معنى أنها زائدة أنه لا فائدة منها، وإنما فائدتها التوكيد، وهذا من أساليب العرب في كلامهم، والقرآن نزل بلغة ولسان العرب. فقوله: (وما من دابة) (من) هنا لتأكيد الاستغراق، وقوله: (في الأرض) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لـ (دابة)، والمقصود: وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض إلا أمم أمثالكم. ومن التأكيد أيضاً قوله تعالى: (يطير بجناحيه)؛ لأن الطائر معروف عنه أنه يطير بجناحيه، لكن هذا نوع من التأكيد للمعنى. قال الزمخشري: إن قلت: كيف تقيل الأمم مع أن الدابة مفرد والطائر مفرد؟ قلت: لما كان قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر) دالاً على معنى الاستغراق -استغراق جميع الدواب- ومغنياً عن الذي قالوا: (وما من دواب ولا طير) حمل قوله: (إلا أمم) على المعنى. فما جاء في آخر الآية من قوله: (أمم) جاء على سياق المعنى؛ لأنه يدل على الاستغراق. فدلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة، وجاء في الحديث: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وقوله: (إلا أمم أمثالكم) يعني: إلا أمم من أمثالكم يدبر الله سبحانه وتعالى وحده أمورها كما يدبر أموركم. فوجه المماثلة أن الله تعالى يتكفل برزقها، ويدبر أمرها، ولا يغفل شيئاً منها، مما يبين شمول القدرة وسعة العلم، وهذا هو الأظهر، موافقة لقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) والقرآن يفسر بعضه بعضاً. وقيل: إن المماثلة في قوله تعالى: (إلا أمم أمثالكم) هي في معرفته تعالى وتوحيده وتسبيحه وتحميده، فقوله: (إلا أمم أمثالكم) يعني: إلا أمم يسبحون الله سبحانه وتعالى ويحمدونه أمثالكم. وهذا كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقوله: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه. وقيل: المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس. القاسمي هنا اعتمد في تفسير قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أن الكتاب المقصود به اللوح المحفوظ، أي: أن القاسمي يقول: وما بيناه في معنى الكتاب من أنه اللوح المحفوظ في العطف، وهذه الآية توافق غيرها من الآيات التي تشير إلى اللوح المحفوظ وشموله علم أحوال جميع المخلوقات على التفصيل التام. ولم يذكر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى -رغم أنه يتوسع في مثل هذه المواضع- سوى هذا القول، وهو أن المقصود بالكتاب اللوح المحفوظ، وهذا يكاد يكون هو الأظهر، أي أن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ؛ لأن الله تعالى قال في الآية: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) فالسياق يشير إلى أن الأقرب والأظهر هو أن الكتاب هنا المقصود به اللوح المحفوظ، مع أن القول بأن الكتاب هو القرآن الكريم له ما يؤيده، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. يقول القاسمي: وقيل: المراد منه القرآن، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] فالقرآن الذي قال الله فيه سبحانه وتعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) هو الكتاب الذي قال الله تعالى فيه: (ما فرطنا في الكتاب) أي: في القرآن (من شيء). قال: فإن قيل: حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده. أي: إذا قلنا: إنه هو القرآن الكريم فلن يستقيم مع السياق الذي قبله والسياق الذي بعده؛ لأن قبله: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) فإذا قلنا: إنه القرآن الكريم فلن يتناسب هذا التفسير مع السياق قبله وبعده، لكن هذا القول من الخفاجي دفع ورد بأن المعنى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه. فقوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يعني: ما تركنا حجة من الحجج القوية على ما يستدل عليه من قضايا الإيمان وغيرها في هذا القرآن الكريم إلا دللنا عليه؛ لأن السياق كله في الآيات والبينات والدلالة على الحق، فالمعنى: لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه وهم يكذبون بآياتنا؟! فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهه. وقال أبو السعود: أي: ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراعٍ لمصالح جميع مخلوقاته إلا بيناه. وقال الشهاب في قول البيضاوي: (فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً): القرآن الكريم احتوى على أمور الدين كلها وأدلتها، إما على سبيل الإثبات، وإما على سبيل التفصيل. يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن الكريم؛ لإشارته بنحو قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] وهذا من الأدلة التي استدل بها على حجية دليل من الأدلة الشرعية، وهو القياس، ففي قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) إشارة إلى القياس وحجية القياس، أما قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] فهو إشارة إلى حجية السنة، بل قيل: إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه في نفس هذه الطريقة في الاستدلال؛ فيمكن أن نستنبط كل شيء من العلوم من القرآن الكريم، كما سأل بعض الملحدين بعض العلماء عن طبق الحلوى: أين ذكر في القرآن؟ فقال في قوله تعالى: (

اشتمال القرآن على كل العلوم

اشتمال القرآن على كل العلوم إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ونحو ذلك؟ و A أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يجب أن يكون مخصوصاً لبيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، فمن يقول: ما دليل نظرية فيثاغورس والنظريات الهندسية، وتفاصيل الطب والحساب، وكل هذه العلوم الموجودة ما دليلها في القرآن إذا قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم؟ فالجواب أنه يجب أن يخصص تفسير هذه الآية (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فيقال: ما فرطنا في الكتاب من شيء، بل بينا كل ما يجب علمه والإحاطة به. وأما الدليل على وجوب هذا التفسير، أي أن قوله: (ما فرطنا في الكتاب شيء) هو في بيان ما تجب معرفته ويجب علمه في أمور الدين فيستدل له بأن الله سبحانه وتعالى قال: (ما فرطنا)، ولفظ التفريط لا يستعمل نفياً ولا إثباتاً إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير بأن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه، فإذا قلت لشخص: افعل كذا. فإذا كان مما يجب عليه أن يفعله ولم يفعله فقد فرط، لكن إذا كان هذا الأمر الذي خاطبته به أو كلفته به أمر تافه أو يستغنى عنه فلا يوصف عدم فعله بالتفريط؛ لأنه شيء يستغنى عنه ولا قيمة له، فلا يستعمل هذا الوصف إلا فيما يجب علمه وبيانه وعمله، هذا أمر. الأمر الثاني: أن جميع آيات القرآن -أو الكثير- منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق هنا محمولاً على ذلك المقيد، أي: أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: الشيء الذي يجب معرفته والإحاطة به من أمور الدين لا من أمور الدنيا. ولو استقرأنا القرآن الكريم لخرجنا بهذا الاستنباط؛ لأن المقصود الأساسي من إنزال هذا الكتاب هو أنه كتاب هداية، وليس كتاب تكنولوجيا، فليس مقصوده أن يدلنا ويهدينا إلى النظريات، وأما هذه الحقائق الحسية فإن الله سبحانه وتعالى جهزنا بالآلات والإمكانات والقدرات التي ترشدنا إلى اكتشافها شيئاً فشيئاً؛ لأنها من الأشياء المحسوسة الموجودة، وهي تبنى على التجربة والمشاهدة، ويأتي الاستنتاج بعد ذلك، فالقدرة إما بالنظر، أو بالشم، أو باللمس، أو بالذوق، أو بالحس، وقد زودنا الله سبحانه وتعالى بالعقل وبالأدوات التي نستطيع أن نكتشف بها هذه الحقائق، ونترقى في معرفتها شيئاً فشيئاً، فهذه لهوانها على الله صرفها للبشر، ولكن هل يمكن أن نهتدي إلى الأمور الغيبية من تفاصيل الجنة والنار، والقضاء والقدر، وأحوال الأنبياء السابقين، وما يحصل قبل يوم القيامة، وأسرار النفس البشرية وما يصلحها، والذي يرضي الله والذي يغضبه تعالى، وما هو الواجب وما هو المستحب في العبادات وغير ذلك، كل ذلك هل يمكن أن نهتدي إليه بغير وحي؟! أقول: كل ذلك لا يمكن أن تستقل العقول بالوصول إليه، فلذلك لم يفرط الله سبحانه وتعالى في الكتاب من شيء، بل بين لنا كل ما ينفعنا في أمور الدين لا في أمور الدنيا؛ لأن أمور الدنيا تركت لنا في الغالب، أما أمور الدين فما فرط الله عز وجل في شيء من أمور الدين. فإذاً: المطلق ها هنا في قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يحمل على المقيد، وجاء التقييد من استقراء القرآن، فعند استقراء القرآن الكريم نجد أن في القرآن آيات كثيرة كلها تشير إلى أن المقصود من إنزال القرآن هو هداية الناس إلى صلاح دينهم وأمور آخرتهم. أما أن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع فإن علم الأصول هو العلم بالعقائد والتوحيد، وهو بتمامه حاصل فيه، ولا شك في أن كل قضايا الأصول وقضايا الدين والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قد بينها لنا القرآن الكريم؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه، فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها؛ لأن الإنسان يستطيع أن يقيم دينه دون أن يحتاج إليها. أما تفاصيل علم الفروع فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن؛ لأن القرآن أساس الأدلة الشرعية كلها. فالقرآن دلنا على حجية السنة، والقرآن دلنا على حجية الإجماع، وحجية القياس، وعلى حجية خبر الواحد، ومن ثم أصبح العمل بهذه الأدلة كلها هو عمل بالقرآن نفسه. فإذاً: يعتبر القرآن -أيضاً- فيه الدلالة على قضايا الفروع في قضايا الفقه وغيرها من فروع المسائل والتفاصيل الدقيقة؛ لأنه إما أن يستدل عليها بالقرآن فيكون القرآن مشتملاً على الدليل، أو من السنة والسنة حجة في ذاتها، والقرآن أيضاً دل على حجيتها، وإما أن يستدل بإجماع، والقرآن هو الذي دل على حجيته، وإما أن يستدل بالقياس فكذلك، وإما يستدل بخبر الواحد فكذلك. فإذاً: القرآن -أيضاً- دلنا على الاحتجاج بهذه الأدلة.

أمثلة على دلالة القرآن على حجية السنة

أمثلة على دلالة القرآن على حجية السنة ذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى ثلاثة أمثلة: المثال الأول: روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) فسمعت ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: (ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟!) فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول! لأنه قال لها: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو في كتاب الله. وكأنه أراد أن يستفزها ليبين لها أن دليل السنة هو مثل الدليل الذي في القرآن، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. أي: أنها قرأت ما بين جلدتي المصحف فما وجدت فيه آية تقول: لعن الله الواشمة والمستوشمة إلى آخره، فقال لها: (لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟!) فهذا مما أتانا الرسول، وهذا مما نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الطريقة يمكن إرجاع دليل كل قضايا الفروع وكل تفاصيل الفقه مهما كانت إلى الكتاب الكريم، وبهذا يتأيد قول من فسر قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) بأنه هو القرآن الكريم، وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه. يقول الرازي: يمكن وجدان هذا المعنى -أي: لعن من ذكرهن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: {إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَه الله} [النساء:117] فحكم على الشيطان باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن، فيمكن استنباط نفس المعنى من هذه الآية الكريمة. وكذلك تتمة الحديث من هذا الباب، وتتمة الحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله). المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله تعالى كان جالساً في المسجد الحرام، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه. فقال أين هذا في كتاب الله؟ قال: قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور. فانظر كيف تدرج إلى الاستنباط خلال ثلاث درجات، فقال أولاً: إن القرآن الكريم دلنا على حجية سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أتى بالحديث الذي هو قول الرسول عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ثم أتى بسنة أحد هؤلاء الراشدين، وهو عمر رضي الله عنه، فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات. قال الرازي: وأقول ها هنا طريق آخر أقرب منه. أي أن الرازي يستدرك على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيقول: هناك طريق أخصر من الطريق الذي سلكه الشافعي. لكن لا شك في أن طريق الشافعي مفيد في غير هذه المسألة، وإن كان هنا طريق آخر أقرب، فنحن نريد طريقة الاستنباط نفسها؛ لأن هناك مسائل أخرى قد لا نجد فيها إلا قولاً واحداً من الأئمة الراشدين المهديين الخلفاء. يقول الرازي: أقول: هنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] وقال: {ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36]، وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [البقرة:188] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل زنبوراً شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة. المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث الأجير الزاني -والحديث معروف في صحيح البخاري - عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه -وكان أفقه منه- فقال أقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم -يعني: قلت له: بدل أن يقام الحد على ولدي فأنا أدفع مائة شاة وخادم ولا يقام عليه الحد -ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد -يعني: رد عليك- وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت فرجمها) وأخرجه أيضاً مسلم. فهنا نجد أن هذا الرجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، وقال الآخر: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله) وليس للجلد والتغريب ذكر في القرآن الكريم، وليس فيه دليل على الجمع بين الجلد والتغريب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله؛ لأن كلمة كتاب الله قد يعنى بها حكم الله، كما قال تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] يعني: حكم الله عليكم. قال الرازي: وهذا حق؛ لأنه تعالى قال {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] يعني: السنة تبين ما نزل؛ لأن أصل الآية: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فقوله: (وأنزلنا إليك الذكر) يعني السنة (لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني القرآن، فكلاهما منزل من عند الله تبارك وتعالى، وكل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داخلاً تحت هذه الآية، وبالجملة فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات، والشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وقد طول البحث في هذه المسألة المهمة العلامة الشاطبي في (الموافقات) في الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل، فارجع إليه. وقد دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5]. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما). قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجلحاء لتقتص من القرناء يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول لها: كوني تراباً. فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً) كما قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]. وروى الإمام أحمد والبخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء). واستدل بهذه الآية على مسألة أخرى، فقد أخرج أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت. فبلغ الحسن فقال: صدق، وإن ذلك في كتاب الله. ثم تلا هذه الآية: ((إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ))، فاعتبر أن من المثلية أن يقبض روحها ملك الموت أيضاً؛ لأنها تحشر أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم بكم في الظلمات)

تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا صم بكم في الظلمات) يقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]. قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]. أي: مثلهم في جهلهم وعدم فهمهم وسوء حالهم كمثل الصم، والصم: جمع أصم، والأصم هو الذي لا يسمع، والبكم: جمع أبكم، والأبكم هو الذي لا يتكلم، وهم مع ذلك في ظلمات لا يبصرون، ولذا قال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:39]، فنفى عنهم السمع والكلام والرؤية، يعني: فهم صم وبكم، وهم في ظلمة لا يهتدون ولا يرون، فإذا كانوا على هذه الحالة -أي: كانوا صماً وبكماً وفي ظلمات لا يهتدون- فكيف يهتدي مثلهم إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه؟ وقد كثر تشبيههم بذلك في التنزيل، إعلاماً ببيان كمال عراقتهم في الجهل، وانسداد باب الفهم والتفهيم عنهم بالكلية. ثم أشار إلى أنهم من الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم وختم عليها، فقال عز وجل: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان، ومن شاء ضلالته تركه على كفره، كما قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله وتنسون ما تشركون)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله وتنسون ما تشركون) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41]. أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبكتهم بما لا سبيل لهم إلى إنكاره، وذلك ببيان أنهم إذا نزلت بهم شدة فإنهم يفزعون إليه تعالى لا إلى الأصنام، فقال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:40]. قوله: (قل أرأيتكم) أي: أخبروني (إن أتاكم عذاب الله) يعني: مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة من قبلكم (أو أتتكم الساعة) أي: القيامة (أغير الله تدعون) يعني: في كشف العذاب عنكم. وهذا محط التبكيت، يعني: أتخصون آلهتكم بالدعوة لرفع تلك الشدة؟! بل هل تدعونها مع الله أيضاً؟! وقوله: (إن كنتم صادقين) هذا كاشف عن كذبهم، أي: أخبروني إن كنتم صادقين. فالحقيقة جاءت في الآية الثانية: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41] ولم يقل: بل تدعونه وإنما قال: (بل إياه) يعني: أنكم تخصونه سبحانه وتعالى بالدعوة. وقوله: ((فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ)) يعني: إن شاء كشفه. والتقييد بالمشيئة هو لبيان أن إجابتهم غير مطردة، أي: أن إنجاءهم من هذه الكربات إنما يكون بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنجاء وعدم الإنجاء ينبني على حِكَم يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، فإن كانت الحكمة تقتضي إنجاءهم أنجاهم، وإلا أهلكم. وقوله: (وتنسون ما تشركون) أي: تتركون ما تشركون فالنسيان هنا بمعنى الترك، فقوله: (تنسون) يعني: تتركون وتعرضون عن الآلهة والأصنام، وتمحضون الدعوة لله سبحانه وتعالى، فتتركون ما تشركون تركاً كلياً؛ لأنكم في هذا الوقت -وقت الشدة- تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ما كانوا يعملون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ما كانوا يعملون) بيَّن تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أُخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى فلم يفعلوا، وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث إن بعض الأمم السالفة بلغوا من العتو والإيغال في الكفر وقسوة القلوب إلى حد أن الشدائد التي أُخذوا بها لم تجد شيئاً في ترقيق قلوبهم ودفعهم إلى الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فقال سبحانه وتعالى وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43]. وهذا نظير أحوال كثيرة من أعداء الدين في هذا العصر، فإن الكربات والمصائب تتنزل بهم من كل نوع ومن كل لون، ثم يكشفها الله سبحانه وتعالى، ولا يزدادون إلا عتواً وعناداً، وفي أيام حرب رمضان لما حصل ما حصل من فتح الله سبحانه وتعالى على المسلمين، ثم بدأ الناس يعزون ذلك إلى أن الجنود كانوا متسلحين بـ (الله أكبر)، وأن الكلمة غطت على كل جبهات القتال، وصار الناس عامهم وخاصهم ينسبون الفضل إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى وعلموا أن النصر من عند الله ظهر في اليوم الثاني أو الثالث، مقالة في الجرائد وفي الأخبار لأحد المسئولين الكبار يقول فيها: انتصرنا بالعلم والتكنولوجيا، والكلام الذي فيه أننا انتصرنا بـ (الله أكبر) غير صحيح، فنحن انتصرنا بالعلم وبالتكنولوجيا وبالأسلحة! والعياذ بالله! فنكسهم الله سبحانه وتعالى بالثغرة التي أحدثها اليهود في الضفة الغربية من القناة، كما هو معروف، وجاءت جولدا مائير إلى داخل الضفة الغربية كما هو معلوم. فالشاهد أن بعض الناس يبلغ من قسوة القلب -والعياذ بالله- إلى أنه لو أخذ بالشدة لا يلين قلبه، ولا يتوب، بخلاف غيره من أصناف الكفار الذين هم أقل قسوة. وما حوادث الزلازل عنا ببعيدة، وانظر كيف يصير حال الناس بعد الزلزال الذي يستغرق ثوانٍ معدودة، فهل عندنا تأمين وصك بأن الله سبحانه وتعالى لا يجعل الأرض تنشق وتبتلعنا جميعاً؟! ليس عندنا ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن انظر إلى العتو، وكأننا في الليل والنهار في أمان كامل من أن ينزل علينا عذاب الله، ولذلك تجد الفجور والإسراع في الفساد والإسراع في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى بكل لون، وكلما جاء بلاء كلما ازداد بعض الناس عتواً في الأرض؛ لشدة قسوة قلوبهم، فهذا هو صنف مخصوص من العتاة ومن الظالمين والجبارين، فهم الذين تزداد قلوبهم قسوة وعتواً حتى لو نزل الكرب والبلاء. وقوله: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) أي: أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فكذبوهم، ولم يبالوا بهم؛ لكونهم في الرخاء. وقوله: (فأخذناهم بالبأساء) أي: بالشدة والقحط (والضراء) أي: المرض ونقصان الأنفس والأموال (لعلهم يتضرعون) أي: لعلهم يتذللون ويخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم، فالنفوس تخشع عند نزول الشدائد، لكن بعض الكفار -كما ذكرنا- يبلغ من قسوة قلبه إلى كون الشدائد لا تحرك فيه ساكناً، والعياذ بالله تعالى! وقوله: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) يعني: بالتوبة والتمكن. ومعناه: نفي التضرع، فهم لم يتضرعوا في الحقيقة، وجيء بـ (لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، كما قال عز وجل: (ولكن قست قلوبهم)، فلم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينزجروا، وإنما ابتلوا به. وقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: من الشرك. والاستدراك بقوله: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع، يعني أن الذي صرفهم عن التضرع هو وجود قسوة القلوب، والعياذ بالله، فلا مانع من التضرع إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها لهم الشيطان، وهذه نفس أحوال العلمانيين والزنادقة والملحدين في زماننا هذا. والله سبحانه وتعالى هنا يقول: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فأسند سبحانه وتعالى التزيين هنا إلى الشيطان، وأسنده إلى نفسه في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:108]، فوقع التزيين في مواقع كثيرة، فتارة أُسند إلى الشيطان، كهذه الآية: (وزين لهم الشيطان)، وتارة أسند الله تعالى إلى نفسه، كما قال عز وجل: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)، وتارة إلى البشر أنفسهم، كقوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] إلى آخر الآية، وتارة جعله غير مذكور فاعله، كما قال عز وجل: (زُيِّن للمشركين)؛ لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة: أحدها: إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر، فيكون الشيء خلقاً مزيناً، كقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]، أي أنها مزينة بالمصابيح التي هي النجوم. الثاني: جعله مزيناً من غير إيجاد، كتزيين الماشطة العروس، فهي أصلاً تكون غير مزينة، ثم تأتي الماشطة فتزينها بزينة مكتسبة. الثالث: جعله محبوباً للنفس مشتهىً للطبع، وهذا نوع من التزيين، فيصبح هذا الشيء مزيناً في نظر الإنسان، أي: أنه يشتهيه، وطبعه يميل إليه، فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله؛ لأنه الفاعل له حقيقة؛ لإيجاده له، وإن كان بمجرد تزويره وترويجه من قبل، بأن كان غير مزين، لكن حصل تزيين في شكله وفي طبعه بحيث يفتن به الناس، فهذا يكون من الشيطان بالوسوسة والإغواء، فهذا لا يسند إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان، وإن لم يذكر فاعله يقدر في كل مكان بما يليق به، فهذا فيما يتعلق باستعمال مادة التزيين.

تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء)

تفسير قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء) قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]. قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به)، يعني: من البأساء والضراء، فتركوا الاتعاظ. (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) أي: لما تركوا الاتعاظ -رغم البأساء والضراء- فتنهم الله بأن فتح عليهم الدنيا استدراجاً وفتنة لهم، ولا شك في أن هذا هو تفسير ما نراه من رغد العيش وزينة الدنيا عند الكفار، وهذا كما قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فهذا استدراج من الله سبحانه وتعالى، وهذا أخطر أنواع العقوبات التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها العبد، أي: أنه يُعاقب ولا يحس أنه يعاقب، وحينئذٍ لا يستدرك ولا يفكر في التوبة؛ لأنه زين له سوء عمله فرآه حسناً. يقول تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أي: من البأساء والضراء، وتركوا الاتعاظ به (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) أي: من النعم، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن استدراجاً وإبلاءً ومكراً بهم، عياذاً بالله سبحانه وتعالى من مكره! وقوله: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) لا شك في أنهم إذا عظمت فرحتهم ثم أخذوا بغتة تتعاظم حسرتهم، فيكون أشد في إيلامهم، فلذلك قال تعالى: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا)، يعني: من مطالبهم ورغائبهم مع الشرك (أخذناهم) أي: بالعذاب المستأصل (بغتة) أي: فجأة بلا تقديم ذكر؛ إذ لم يفدهم التذكير في المرة الأولى (فإذا هم مبلسون) أي: متحسرون يائسون من كل خير.

تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) قال تبارك وتعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]. قوله: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) يعني: إذا كان آخرهم قد قطع فما بالك بأولهم؟! وهذا -كما يقولون- كناية عن الاستئصال، فإذا كان آخرهم قضي عليه فبالأولى أولهم، فقوله: (فقطع دابر) أي: آخر (القوم الذين ظلموا)، فهو كناية عن الاستئصال؛ لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله، وهو من (دبر دبره) إذا تبعه فكان في دبره، أي: خلفه، فالدابر هو ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه أنه دابر تجوزاً، وقال أبو عبيد: دابر القوم: آخرهم. وقال الأصمعي: الدابر الأصل، ومنه (قطع الله دابره)، أي: أصله. وقوله: (والحمد لله رب العالمين) أي: على ما جرى عليهم من الهلاك، فلا شك في أن هذا العقاب وهذا العدل من الله سبحانه وتعالى من الصفات التي يتمدح بها الله سبحانه وتعالى، ويُحمد الله عليها، فانتقامه من الطغاة والظالمين بعد الإنذار وبعد الاعذار وبعد إقامة الحجة والتذكير من عدله. وقوله: (والحمد لله رب العالمين)، على ما جرى على هؤلاء الظالمين من الهلاك، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحمد الله عليها، لاسيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم عليهم السلام. وقد روي في هذه الآية أخبار وآثار، منها: ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:44]). إذاً: هذا يؤيد لك المعنى الذي ذكرنا، وهو أن بعض الجهلة المغرقون في الجهالة بالله سبحانه وتعالى وسننه وأيامه عندهم أموال، ونسمع من المفسدين في الأرض أو الفاسقين أنهم يقولون: ربنا يحبنا. ويقول أحدهم: كنت سأهلك في الحادثة، لكن الله يحبني؛ لأنه أعطاني مالاً أو كذا وكذا. فهو يستدل بفضل الله عليه أنه نجاه من هلكة على أن الله يحبه، وهذا ليس دليلاً على أن الله يحبك، ولكن انظر إلى حالك، فإن كنت مستقيماً على طاعة الله فيمكن أن تكون هناك أمارة مخيلة أن الله يحبك، أما إن كنت عاتياً متمرداً ظالماً باغياًَ تاركاً للصلاة، لا تذكر الله سبحانه وتعالى، وتهجر القرآن، وترتكب غير ذلك من الجرائم والفسوق والعصيان ثم تزعم أن الله يحبك فاعلم أن هذا استدراج، فما أكثر ما نسمع: إن ربنا يحبني؛ لأني نجوت من الحادثة الفلانية. وما أدراك؟! فانظر إلى حالك حتى تعلم هل يحبك الله أم لا؟ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، والله لا يحب الظالمين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الفجار، إنما يحب من يحب الله ويحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيقول الرسول عليه السلام: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استداج)، يعني: بالرغم من أنه مستمر على المعاصي ومتمادٍ فيها يعطيه الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تكون كهؤلاء المغفلين الذين يظنون أن هذا علامة محبة من الله، فهذا هو تشخيص الرسول عليه السلام لهذه الحالة، فإنه يشخصها بأنها استدراج، ثم أكد المعنى بالاستدلال بهذه الآية (فلما نسوا ما ذكروا به). وهؤلاء الذين يتكلم الله عنهم هم الذين قال في شأنهم من قبل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43 - 44] أي: مع حصول البأساء لم يتضرعوا. ولذا قال: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] فمن تزيين الشيطان أن هؤلاء المساكين يقولون: إن ربنا يحبنا، ولذلك صنع بنا كذا وكذا. يقول تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)) أي: لما لم يجد معهم التذكير بالبأساء والضراء، وما نفعتهم المواعظ زاد الله سبحانه وتعالى في فتنتهم. وقوله: ((فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)) تأمل كلمة (كل شيء) في قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]. فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا أراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم)، أي: إذا أراد أن يقطع دابرهم ويستأصلهم فتح عليهم باب خيانة، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له) يعني أن هذا إنسان غير عاقل، وليس عنده عقل ولا رأي حسن، قال: (ومن قتِّر عليه ولم ير أنه ينظر له فلا رأي له). فإذا كان الله كتب عليك ضيق الرزق فأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يرى أن هذا هو الذي يصلحك، وأنه لو فتح عليك في المال والرزق لفسدت، وكثير من الناس كذلك. إذاً: فوِّض أمرك إلى الله، فهو أدرى بما يصلحك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فأنت لا تدري بالعواقب، ولا تدري بالذي يصلح دينك، فقد يفسد دينك الفقر فيعطيك المال، وقد يفسد دينك الغنى فيحجب عنك المال؛ لأن هذا هو الذي يصلحك، وهذا مشاهد في كثير من الناس، فإنهم يفسدون إذا جرى المال في أيديهم، وكثير من الناس يفسد دينه إذا لم يجر المال في يده، فالله سبحانه وتعالى أدرى بما يصلح العبد، فيجب عليك أن ترضى بما قسم الله لك، وترى في تقتير وتضييق الرزق أن هذا أفضل لك وخير لك؛ لأن هذا اختيار الله سبحانه وتعالى، فعليك أن تفوِّض الأمر إلى الله. فالحسن يقول: كما يقول الحسن: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له). فلابد من أن تخاف من أن هذا مكر من الله سبحانه وتعالى، وأن هذا استدراج لهذه الآية ونظائرها. وفي الحالة الأخرى (من قتر عليه ولم ير أنه ينظر له) وأن هذه مصلحته، وأن هذا هو الخير في حقه فلا رأي له، ثم قرأ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم. يتركهم حتى يفرحوا بالزينة وبالدنيا كي يتحسروا عند فراقها أشد الحسرة، وهذا استدراج، كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] أي: كأن لم يكن لها وجود من قبل. ولذا قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله؛ فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. وقال الرازي: قال أهل المعاني: وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية. وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]: هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة. إذاً: على الإنسان إذا رأى هلاك الظلمة أن يحمد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله بذلك يكون قد أراح البلاد والعباد من هؤلاء الظالمين. وختم الله قصص ما مضى من أحوال هؤلاء المهلكين فقال عز وجل: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، فهو يستحق الحمد على أنه أهلك هؤلاء الذين عتوا وتجبروا، وفي هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأن هذا من أجل النعم وأجزل القسم، فهو إخبار بمعنى الأمر تعليماً للعباد. فـ الزمخشري يذهب إلى أن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] معناه: فاحمدوا الله رب العالمين. أي: أنه أمر جاء في سياق الخبر، كما في قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] فقد جاء في بعض التفاسير أن المعنى: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون. وكذلك تكون الآية هنا -على قول الزمخشري -: فاحمدوا الله رب العالمين على إهلاك الظلمة. قال ابن عقيل في (الانتصاف): ونظيرها قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [النمل:59] أي

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم) ثم يقول تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام:46]. قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم) يعني: بأن أصمكم وأعماكم (وختم على قلوبكم) يعني: بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمكم. وقوله: (من إله غير الله يأتيكم به) يعني: من إله غير الله يأتيكم بذلك المأخوذ منكم؟! وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر لأنها أشرف أعضاء الإنسان، فالسمع والبصر والعقل إذا تعطلت اختل نظام الإنسان وفسد أمره، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا. وقوله: (انظر كيف نصرف الآيات) أي: نوردها بطرق مختلفة، كتصريف الرياح. وقوله: (انظر) يفيد التعجيب من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة. وقوله: (ثم هم يصدفون) أي: بعد رؤيتهم تصريف الآيات يعرضون عنها، فلا يتأملون فيها عناداً وحسداً وكبراً. أما الآيات فإما أن يقصد بها مطلق الدلائل، أو يقصد بها الدلائل القرآنية مطلقاً، أو ما ذكر من أول السورة إلى هاهنا، أو ما ذكر قبل هذا من المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله: {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام:40] إلى آخر الآية. ومن الترغيب أيضاً قوله: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} [الأنعام:41]، ومن الترهيب: ((إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ))، وذهب إلى أنه يقصد كل ذلك بعض من المفسرين، وعموم اللفظ يصدق على ذلك كله بلا تدافع، أي: أن الإشارة إلى كل ما مر على تنوعه. ودلت الآية على جواز الاحتجاج في أمر الدين، وهو ظاهر. والمقصود من هذه الآية بيان أن القادر على تحصيل هذه القوى الثلاث وصونها عن الآفات ليس إلا الله سبحانه وتعالى، فالقادر على أن يرزقنا السمع والبصر والعقل، والقادر على أن يسلبنا إياها هو الله سبحانه وتعالى وحده، وإذا كان الأمر كذلك كان المنعم بهذه النعم العالية والخيرات الرفيعة هو الله عز وجل، فواجب أن يقال: المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى، وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام:47]. أشار تعالى إلى تبكيت لهم آخر، وذلك بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47]. قوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم) يعني: بسبب إعراضكم عن الآيات بعد تصريفها (عذاب الله) يعني: عذاب الله المستأصل لكم (بغتة) يعني: فجأة من غير تقديم ما يشعر به، أو (جهرة) بتقديمه، مبالغة في إزاحة العذر، وقيل: ليلاً أو نهاراً، كما في قوله تعالى: {بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} [يونس:50]؛ لأن الغالب فيما أتى ليلاً البغتة وفيما أتى نهاراً الجهرة. وقوله: (هل يهلك إلا القوم الظالمون أي: هل العذاب سينزل إلا لكم أنتم؟ ولن ينزل على أحد غيركم، ولن يهلك بهذا العذاب إلا أنتم. ولم يقل: قل أرأيتكم إن أتاكم الله عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك سواكم. لم يقل هكذا، وإنما قال: (هل يهلك إلا القوم الظالمون)، تسجيلاً عليهم الظلم، وإيذاناً بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما وضع الله لهم من الآيات موضع الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)

تفسير قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين) ثم أشار تعالى إلى وظيفة الرسل وتحقيق ما في عهدتهم لبيان أن ما يقترحه الكفار عليه صلى الله عليه وسلم ليس مما يتعلق بالرسالة أصلاً، فقال عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48]. قوله تعالى: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين) أي: بالثواب لأهل الإيمان والأعمال الصالحة (ومنذرين) بالعقاب لأهل الكفر والمعاصي (فمن آمن وأصلح) يعني: أصلح الأعمال والأخلاق، فهم أهل البشارة (فلا خوف عليهم) يعني: من العذاب الذي أُنذروا به دنيوياً وأخروياً (ولا هم يحزنون) يعني: من فوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل.

تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون)

تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام:49]. قوله تعالى: (يمسهم العذاب) أي: الذي أنذروا به عاجلاً أو آجلاً (بما كانوا يفسقون) أي: عن أمر الله في ترك الإيمان ومباشرة الأعمال الصالحة واكتساب الأخلاق الرديئة. والله أعلم.

الأنعام [50 - 58]

تفسير سورة الأنعام [50 - 58]

تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب)

تفسير قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام:50]. قوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) أي: قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك، قل لهم: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إلي، فأعطيكم منها ما تريدون من تصيير الجبال ذهباً، وغير ذلك مما يقترحون. والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء: إحرازه، بأن يوضع في مكان موثوق بحيث لا تصل إليه الأيدي. قوله: (ولا أعلم الغيب) أي: لا أعلم الغيب من أفعال الله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو عن وقت نزول العذاب أو نحوهما؛ لأن ذلك موكول علمه إلى الله سبحانه وتعالى. قوله: (ولا أقول لكم إني ملك) أي: لا أدعي أني ملك حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه، أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري، فأنا لم أدع أنني ملك حتى تعدوا عدم اتصافي بصفات الملائكة قادحاً في أمري وفي بعثتي وفي رسالتي؛ لأن هذا الزعم أو هذا القول منهم ينبئ عنه قولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] أي: كيف يكون رسولاً من البشر يأكل الطعام مثلنا ويمشي في الأسواق؟! ولذا قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان:7]. فالمعنى: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، فكل ما تقترحون عليَّ إنما هو آثار هذه الأشياء الثلاثة، وأنا لم أدع اختصاصي أو اتصافي بهذه الأشياء الثلاثة، فليس عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم: إني ملك. والمقصود أنه يقول: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها، وحتى تجعلوا عدم إجابتي لذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيءٍ مما ذكر قطعاً؛ فإن الرسالة من الله سبحانه وتعالى إلى عبد من عباده أو إلى رسول من رسله إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعمل بمقتضى هذا الوحي فقط، ولا تتعدى ذلك، ولا ترتبط على الإطلاق بأن يكون هذا الرسول مالكاً لخزائن الله، أو عالماً للغيب، أو يدعي أنه ملك، فعدم وجود هذه الصفات الثلاث في مقدوره لا يقدح في رسالته؛ إذ لا تعلق له على الإطلاق بصفة الرسالة؛ لأن الرسالة عبارة عن استقبال الوحي من الله سبحانه وتعالى والعمل بمقتضى هذا الوحي، ولا تقتضي الرسالة أن يجيبكم رسول إلى ما تقترحونه من آيات؛ لأن خزائن الله ليست بيده، إن هو إلا عبد وبشر ورسول من الله سبحانه وتعالى، ولذلك لا يعلم الغيب حتى تكلفوه أن يخبركم متى الساعة أو متى ينزل العذاب، وليس هو ملكاً حتى تكلفوه بأن يرقى في السماء، أو تطلبوا منه من الأفعال ما لا يقوى عليه إلا الملائكة. وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ) هذا هو مقتضى الرسالة، فمقتضاها تلقي الوحي واتباع هذا الوحي الذي يوحى من جهة الله تبارك وتعالى، والذي شرفني بذلك وأنعم به عليَّ. فيتصل به الوحي أو روح القدس جبريل عليه السلام، فيخبره بوحي الله تبارك وتعالى. ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله تبارك وتعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ))، ففي صدر الآية قال: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)). ثم قال عز وجل ثانية: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ)) فالأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي، كما قال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود:24]، فالأعمى والبصير كلاهما مثل للضال وللمهتدي على الإطلاق، والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذُكر من الحقائق مع من يعلمها. وفيه إشعار بأن الذي لا يرى كل هذه الحقائق التي مضت فإنه ضال؛ لأنها في غاية الكمال وفي غاية الوضوح والظهور والبيان، بحيث لا يضل عنها ولا ينكرها إلا من كان أعمى لا يراها مع وضوحها. وفي وصف الضال بالأعمى من التنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء ما لا يخفى؛ لأن وصف الضلال بالعمى ووصف الهدى بالبصر لا شك أن فيه تنفيراً من الضلال، وفيه ترغيباً عظيماً في الاهتداء. وقوله: (أفلا تتفكرون) هذا تقرير وتوبيخ داخل تحت الأمر، أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا حتى لا تكونوا ضالين أشباه العميان؟! وبعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) قالوا: إن هاتين الصفتين عبارة عن تبرؤ من دعوى الإلهية. فكأن كلمة (لا أقول عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) تساوي (لست إلهاً)، أو: (لا أقول لكم: إني إله). قالوا: لأن قسمة الأرزاق بين العباد ومعرفة الغيب مخصوصان به تعالى، ولذا كرر في الملكية لفظ: (ولا أقول) يعني: لست أدعي الإلهية، ولست أدعي الملكية، لا أقول: إني إله، ولا أقول: إني ملك. فهذا الفريق من المفسرين الذي ذهب إلى هذا استند إلى أن الصفتين الأوليين عطفتا، ولم يصدر الأمر بـ (قل لا أقول) في كلا الجملتين؛ لأنهما عبارة عن أثرين من آثار الإلهية. أي: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) اللذان هما من شأن الإله، ولذا قال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب) يعني: لا أقول لكم: إني إله، ثم قال: (ولا أقول لكم إني ملك) فكرر كلمة (ولا أقول لكم إني ملك)؛ لحصول المغايرة بين الملكية وبين الإلهية، فكلاهما يتبرأ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الكريمة. وهذا لم يسلم في الحقيقة، بل قال بعض المفسرين: هذا الزعم مما لا وجه له قطعاً.

تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم)

تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) ثم لما أخبر تعالى أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحى إليه، فقال: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) يعني: إذا كان هؤلاء المشركين مع نذارتك، ومع بلاغك المبين، ومع اجتهادك في توضيح الحق لهم ودعوتهم إلى الهدى، يأبون إلا أن يبقوا كالصم البكم العمي، بل كالموتى؛ لأنهم لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، فأنذر الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. فعند ذلك أمر تبارك وتعالى بتوجيه الإنذار إلى من ينتفعون بهذا الإنذار، وأن يطرح عن نفسه هؤلاء الفجار الذين أعرضوا عن آيات الله تبارك وتعالى، فقال عز وجل: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]. قوله: (وأنذر به) يعني: أنذر بهذا الوحي، أو بهذا القرآن، أو بالوحي المتقدم ذكره. وقوله: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ) أي: من دون الله تعالى (ولي) أي: ناصر ينصرهم (ولا شفيع) أي: يشفع لهم وينجيهم من العذاب، فليس لهم غير الله ولي ولا شفيع. ومن المعروف والمشهور في آيات القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذير للعالمين، فهو نذير وبشير، فالنذارة لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، فما هي الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى خص الأمر بالنذارة هنا لهؤلاء الذين يخافون الله سبحانه وتعالى ويخافون يوم الحشر؟ A خصهم بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار، وهم الذين يقودهم الإنذار إلى التقوى، وليس المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضاً. فقد يعترض بعض الناس على ظاهر هذا التفسير فيقول: كيف يكون الإنذار هنا لهؤلاء المتقين الصالحين والنبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه أن ينذر الصالحين وينذر الفاسقين؟ فنقول: إن هذا الإيراد غير لازم، ولا يلزمنا؛ لأن الآية لا يُعنى بها الحصر، ولا يقصد من الآية أنه ما عليك إلا أن تنذر المؤمنين أو المتقين أو الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم. لكن الذي يفهم من الآية الكريمة أن الإنذار عام، لكن خص بالذكر هنا هؤلاء لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار ويتعظون به. وقوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51] جملة (ليس لهم) حال من الفعل (يحشروا) والإعراب هنا مهم؛ لأننا نستطيع أن نفسر الآية تفسيراً صحيحاً بالإعراب، يعني: هم يخافون أن يحشروا وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فهذه حالهم إذا حشروا. فجملة (ليس لهم) في موضع نصب على الحال من (يحشروا)، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة، يعني: هم يخافون أن يحشروا على حالة يكونون ليس لهم فيها ولي. ولا يخافون هذه الحالة، وإنما يرجون أن يحشروا ولهم ولي وناصر وهو الله سبحانه وتعالى، وشفيع بإذن الله تبارك وتعالى. والمراد بالولي وبالشفيع في هذه الآية الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين، فلا يصح لأحد من الخوارج أو غيرهم أن يستدل بالآية الكريم على نفي حصول الشفاعة في الآخرة، سواء أكانت الشفاعة الخاصة بالأنبياء -خاصة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم- أم بالمؤمنين والصالحين، أم بالملائكة، فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين؛ لأن شفاعة الرسل لا تتعارض مع أن يكون الله سبحانه وتعالى هو المصدر لهذا الخير؛ لأنه لا شفيع عنده إلا بإذنه، كما قال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] فالشفاعة هنا ليست مغايرة أو خارجة عن إرادة الله، وليست صادرة عن غير الله، وإنما هي بإذن الله، فلا تدخل شفاعة الأنبياء وشفاعة المرسلين وشفاعة الصالحين في هذه الشفاعة المنفية في قوله تعالى: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لهم يتقون).

تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)

تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) ثم قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]. روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء؛ لا يجترئون علينا)، أي: كيف تجلس في مجالسنا ومعك هؤلاء الضعفاء وهؤلاء الفقراء وهؤلاء المساكين؟ اطردهم حتى لا يجترئ هؤلاء الناس الفقراء والمساكين على مقاماتنا الشريفة والعالية. فقال له المشركون: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. قال: (وكنت أنا - أي: سعد بن أبي وقاص - وابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان لست أسميهما -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه؛ إذ كان يطمع في إيمان القوم، فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ))) وهذا رواه مسلم كما ذكرنا، وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما. وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟! فنزل عليه القرآن: ((وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [الأنعام:51])، أي: أن هؤلاء الضعفاء من المؤمنين هم الذين ينتفعون بإنذارك، فالزمهم ولا تطردهم عن مجلسك، فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآية السابقة. وروى ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه -أيضاً- قال: (مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب، وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء عن قومك؟! أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟) أي: أهؤلاء الفقراء الضعفاء المساكين يمن الله عليهم بالهداية دوننا ويكونون خيراً منا؟! فاستكبروا واستنكفوا، وقالوا: (ونحن نصير تبعاً لهؤلاء؟! اطردهم؛ فلعلك إن طردتهم نتبعك، فنزلت هذه الآية: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) إلى آخر الآية). إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل، وإنما همَّ بإبعادهم من مجلسه آناء قدوم أولئك ليتألفهم، فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم، أي: كان مجرد هم هم به النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يطردهم بالفعل. وهنا قال الرازي كلاماً زعم فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طردهم بالفعل، ثم أخذ يتكلف في الجواب عن هذا الزعم لمنافاته العصمة على زعمه، فهو بنى هذا الزعم على غير أساس، ثم تكلف بعد ذلك في الرد، ومعلوم أن القاعدة أنه لا يتكلف الجواب عن حديث حتى يصح، فالضعيف يكفي في رده كونه ضعيفاً، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً، فلا يحتاج إلى أن تسود الصحائف في رده وإبطاله، وهذا هو شأن الرازي في كثير من المواضع، فالقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع عن ثبوته، أي: أن الأصل هو أن تثبت صحته أولاً، كما يقال: ثبت العرش ثم انقشه. والتفسير فرع التصحيح، فالبحث في الأثر فرع ثبوته، فإذا لم يثبت فلا داعي لمناقشة ما فيه، والباطل يكفي في رده كونه باطلاً. والمعنى: لا تُبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك، وهذا كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]. ولا شك أن في هذه الآية مدحاً عظيماً لهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأن في هذه الآية -كما في نظائرها من الآيات الكريمات- مدحاً لباطنهم ومدحاً لظاهرهم، فقوله عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] أي أن الظاهر أنك تراهم دائماً يدعون الله سبحانه وتعالى، وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] مدح لهم بالإخلاص وعدم الرياء، ولذلك نظائر في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} [الفتح:29] ففي هذا مدح لظاهرهم، ثم مدح باطنهم فقال: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29]. وكذلك -أيضاً- في سورة الحشر قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]. وقوله تعالى: (يدعون ربهم) أي: يعبدونه ويسألونه. وقوله: (بالغداة والعشي) قال سعيد بن المسيب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة. قوله: (يريدون وجهه) المراد بالوجه هنا ذات الله عز وجل، كما في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] يعني: إلا الله سبحانه وتعالى. والمراد بإرادة ذات الله هو الإخلاص لله عز وجل، فهذا معنى إرادة وجه الله، أو إرادة الله، أي: الإخلاص لله وحده. وجملة (يريدون وجهه) حال من (يدعون)، يعني أنهم يدعون ربهم مخلصين له في هذا الدعاء، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، فإذا كان هؤلاء مخلصين له فإنهم لا يستحقون أن تطردهم، بل يستحقون أن تقربهم وتتخذهم خلصاءك وأصفياءك. وقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) هو كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:111 - 113]، أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليَّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء. قال العلامة أبو السعود: الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى أن يتوهم كونه مسوغاً لطردهم من أقاويل الصاعرين في دينهم، كدأب قوم نوح حيث قالوا: {مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]. أي أنهم يذمون المؤمنين والمستضعفين والفقراء والمساكين من أهل الإيمان بقولهم: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أرذالنا) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا ومساكيننا. يقصدون أن يصفوهم بأنهم أناس سذج، وأنهم بمجرد أن سمعوا كلامك انقادوا لك، دون أن يحللوا، ودون أن يتعمقوا في الكلام. والإنسان إذا بدا له الحق فانقاد له بسرعة فهذا مما يمدح به؛ لأنه إذا بان الحق كالشمس في رابعة النهار فإنه لا ينبغي أن يتردد الإنسان في قبوله والانقياد له، فهذا مما يمدح به الإنسان ولا يذم به. فالمقصود: ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك -حسبما هو شأن منصب النبوة- اعتبار ظواهر الأعمال، وإجراء الأحكام على موجبها، وأما بواطن الأمور فحسابها على العليم بذات الصدور، كقوله تعالى: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء:113]. وقوله تعالى: (ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ذكر الله هذا مع أن الجواب قد تمَّ بما قبله، أي: قوله تبارك وتعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)) لكن أضاف عز وجل قوله: {ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلاً، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام عليهم، على طريقة قوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. وفسر بعض المفسرين الحساب هنا بمعنى الرزق، فقوله: (ما عليك من حسابهم من شيء) أي: من رزقهم. وهكذا قوله: (وما من حسابك عليهم من شيء). وقدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، وكما نلاحظ هنا في الآية الكريمة فإن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (ما عليك من حسابهم) فذكر ضمير الرسول عليه السلام أولاً تشريفاً له صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وما من حسابك عليهم من شيء)، وفي غير القرآن يمكن أن نقول: ما عليك من حسابهم من شيء، وما عليهم من حسابك من شيء. لكن مراعاة لهذا الأمر -وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم ذكره- قال تعالى في الأولى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِن

تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]. قوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء والسادات، (ببعض) وهم المستضعفون، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، أي: نجعل الضعيف أو الفقير فتنة للغني أو القوي. فقوله: (وكذلك فتنا بعضهم) أي: الشرفاء، (ببعض) وهم المستضعفون، بما مننا عليهم بالإيمان، مع كونهم ضعفاء وفقراء ومستضعفين مننا عليهم بالإيمان، فكان في ذلك فتنة لهؤلاء الشرفاء، (ليقولوا) أي: ليقول هؤلاء الشرفاء: (أهؤلاء) أي: المستضعفون، (من الله عليهم من بيننا) أي: هل هؤلاء مع ضعفهم وفقرهم يستحقون أن يمن الله عليهم من بيننا بشرف الإيمان؟! مع أن الشرفاء على زعمهم أولى بكل شرف، فلو كان الإيمان شرفاً لانعكس الأمر، ولكان ذلك من خصائصنا نحن حتى نجمع إلى شرف الدنيا شرف الإيمان. فلذلك كان في إنعام الله عز وجل على المستضعفين بنعمة الإيمان فتنة لهؤلاء الذين ظنوا أنهم أولى بكل شرف، فقولهم: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) هو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11]، وهذا شأنهم دائماً، فإنهم يقولون: لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء المستضعفون، وهذا -بلا شك- عنوان الكبر والبطر وغمط الناس، والخلل في موازينهم. ثم أشار تعالى إلى أنه إنما منَّ عليهم بنعمة الإيمان لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة فيشكرونها حق شكرها، وأما أولئك فلا يعرفون قدرها فلا يشكرونها، ولذلك قال عز وجل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، أي: أليس الله سبحانه وتعالى بأعلم بالذين إذا أنعم عليهم بنعمة الإيمان والهداية يشكرون له سبحانه وتعالى ويحمدونه حق حمده، ممن يجحدون فضل الله عليهم ولا يشكرون له هذه النعمة؟! إذاً: قول الله تبارك وتعالى: (أليس الله بأعلم بالشاكرين) رد على قول المشركين المستكبرين: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)، فلما قالوا: (أهؤلاء من الله من بيننا) أتى A ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)، فهو رد لقولهم ذلك، وإبطال له، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام هو معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم سبحانه وتعالى، كما أن فيه إشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله، وهذا لا يخفى. قال الحافظ ابن كثير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل. ويتضح هذا في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان الأسئلة المعروفة، فإنه قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. فقال له هرقل: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس. أو كما قال. وكذلك -أيضاً- لما قال قوم نوح لنوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]. وكان مشركوا مكة يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذبون من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) كقوله تعالى عنهم: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فهذا قول الكافرين في أهل الإيمان، لكن أهل الحق وأهل السنة والجماعة يقولون في أي شيء لم يفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم: لو كان خيراً لسبقونا إليه، وهذه قاعدة يتبعها أهل السنة والجماعة في أي قضية من قضايا البدع التي يزعم محدثها أنها تقرب إلى الله سبحانه وتعالى وأن فيها خيراً؛ فإنهم يرفعون هذا الشعار: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى بكل فضل، أما الكفار فكانوا يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، لأنهم يزدرونهم ويحتقرونهم، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]، فإنهم كانوا يظنون أنه ما دام أنهم أوتوا من الدنيا ومن زينة الدنيا وبهجة المجالس والمظاهر فإنهم -أيضاً- يستحقون أن يفضلهم الله في الدين، وهذا ليس بلازم، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فهذه هي القاعدة، بل ربما يُعطى الكافر من الدنيا أضعاف ما يعطاه المؤمن، وربما زيد في بلاء المؤمن، وهذه سنة مطردة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة -يعني: شدة- زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه)، إلى آخر الحديث المعروف. ولذلك في هذه الآية الكريمة قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)، يعني: في حق الذين آمنوا: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]، فقال الله عز وجل في جواب ذلك: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:74]، فكم أهلك الله سبحانه وتعالى من الظالمين ومن الأمم الظالمة ممن كان عندهم من الزينة والأثاث والمظاهر وحسن المظهر أكثر مما أوتي هؤلاء! وهنا لما قالوا: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) قال عز وجل في جوابهم: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)؟! أي: الشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وفي نفس الوقت قال تعالى في المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لكن: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4]، فلا تغتر بالمظهر؛ إنما العبرة بحقائق الإيمان الراسخة في القلوب. وروى ابن جرير عن عكرمة قال: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل وقرضة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب! لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا -جمع عتيق، أي: أجير- كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له. فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم. فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ َ}، إلى قوله: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)). قال: وكانوا بلالاً وعمار بن ياسر وسالماً مولى أبي حذيفة وصبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارئ وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن عبد عمرو وذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأشباههم من الحلفاء، ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، فلما نزلت أقبل عمر فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، إلى آخر الآيات. قال بعض المفسرين: ثمرة الآية أن الواجب في الدعاء الإخلاص فيه؛ لأنه تعالى امتدحهم في دعائهم بأنهم (يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) فاشترط في الدعاء الإخلاص، أي: أن تريد الله سبحانه وتعالى بدعائك، ولا تريد غير الله سبحانه وتعالى، وهكذا جميع الطاعات لا تكون لغرض الدنيا. قال محمد بن الحسن النفس الزكية: إذا دعا الإمام ثم وجد أفضل منه وجب عليه أن يسلم الأمر له، فإن لم يفعل ذلك فسق؛ لأنه إن لم يفعل دل على أنه طالب للدنيا. ودلت الآية على أن الغداة والعشي لهما اختصاص بفضل العمل والدعاء، فلذلك خصهما بالذكر، فقال: (يدعون ربهم بالغداة والعشي)، فلا شك في أن تخصيص وقتي الغداة والعشي بهذا الأمر يدل على مزية لوقتي البكور والعشي، وهذا بلا شك ثابت؛ لأن أشرف أوقات الذكر على الإطلاق في الليل والنهار هما هذان الوقتان: وقت الغداة بعد طلوع الشمس أو بعد طلوع الفجر إلى أن تطلع الشمس، أما وقت العشي فهو من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وقيل: من بعد الزوال. فالمقصود: أن تخصيص هـ

إضافة في تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه)

إضافة في تفسير قوله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) قوله تعالى: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)) سببه أن الرسول عليه الصلاة والسلام همَّ أن يطردهم وأن يبعدهم، لعله يكون في ذلك سبب في هداية أولئك القوم، ولم يؤاخذه الله سبحانه وتعالى على هذا الهم، وإنما نزلت الآيات ناهية له عن ذلك. ودلت الآية -أيضاً- على أن الفقر لا يؤثر في حال المؤمن، وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؛ نصف يوم)، يعني: نصف يوم من أيام الله في الآخرة. وروي أن آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف؛ لكثرة ماله. وروي أن علياً لم يخلف شيئاً بعد وفاته. يقول: القاسمي: الحديث الأول رواه الترمذي عن أبي هريرة وقال: حسن صحيح، ولفظه: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام). وأما حديث: (آخر من يدخل الجنة من الصحابة عبد الرحمن بن عوف)، فلم أجده بهذا اللفظ. وقيل: قد يؤخذ من هذه الآية أن لا يمنع من يذكِّر الناس بالله وأمور الآخرة في جامع أو طريق أو غيره، فبعض العلماء استنبط من هذه الآية الكريمة أنه لا ينبغي أن يُمنع أي إنسان يقوم بتذكير الناس في أي مكان يذكرهم فيه بالله سبحانه وتعالى، وبأمور الآخرة، سواء أكان في مسجد أم في طريق أم في غير ذلك. وقد اختلف المتأخرون في مؤذن يؤذن بالأسحار، ويبتهل بالدعاء، ويردد ذلك إلى الصباح، ويتأذى به الجيران؛ هل يمنع أم لا يمنع؟ واستدل من قال: لا يمنع بهذه الآية: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]. واستدل أيضاً بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114]، إلى آخرها، لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الشيء الذي فيه مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة معينة وفيه ابتداع فإنه -بلا شك- يمنع؛ لأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان هذا الابتهال وغير ذلك خيراً لسبقنا رسول الله وصحابته إليه، فلما لم يفعلوه دل على أنه ليس من الدين؛ لأنهم كانوا أولى بكل فضيلة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، لكن الاجتهاد في الدعوة يصلح له الاستدلال بالآيتين على نفس هذا المعنى، وأن من وقف يذكر الناس -سواء أكان في طريق أم في شارع أم في مسجد أم في أي مكان- ويدعو إلى الله سبحانه وتعالى يريد وجه الله ويعظ الناس ويذكرهم بأمور الآخرة فلا حرج في ذلك، كما قال مالك بن دينار: (لو كان لي أعوان لأطلقتهم في شوارع البصرة- أو في جوانب الأرض يقولون ويصرخون في الناس: النار النار) أي: يحذرونهم من النار. فلا ينبغي أن يمنع من يذكر الناس بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يقول كلاماً مصادماً للشريعة، أو يحتوي على بدع أو أحاديث ضعيفة أو غير ذلك، فما دام أنه يدعو إلى الحق فلا ينبغي أن يمنع، واستدلوا بهذه الآية، وهذا هو الواضح من الآية الكريمة، فعجباً لهذا الزمن الذي أدركناه! حتى إننا نجد أن بعض المساجد تعامل على أنها إقطاعات، وكأن بعض الجماعات قد ورثتها كابراً عن كابر، وكأنها مقاطعات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وكل جماعة تفرض نظاماً معيناً على المسجد، بحيث إذا لم يكن المذكِّر من الجماعة ومن أعضائها ومن المنتمين إليها فإنه يمنع، حتى لو كان يتكلم بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك حرم المسلمون من خير كثير، فنجد في بعض المساجد أنه ممنوع أن يلقي أحد كلاماً إلا بإذن الإمام، وصحيح أننا نحترم الإمام، لكنه إذا استأذن الإمام ففي الغالب أنه يمنع، وإنما هذا مجرد إجراء روتيني لأجل عرقلة الدعوة وإيقافها، فواجب احترام الإمام، وواجب استئذانه، لكن استئذان الإمام صار يقصد به هدف معين، وهو إيقاف الدعوة وعدم تمكين من يعظ الناس، ولو كان الأمر على غير ذلك لأذن، لكنه لا يأذن إلا لأشخاص معينين، فالعبرة يما يقوله الشخص، ولذا لا ينبغي أن يمنع من يريد أن يقف في الناس ليذكرهم بالله سبحانه وتعالى ما دام أنه لا يدعو إلى بدع ولا إلى ضلالة، فما دام أنه يذكر بالله وبالآخرة فلا ينبغي لأحد منعه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة)

تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]. ذهب جماعة من المفسرين إلى أن هؤلاء هم الذين سأل المشركون طردهم وإبعادهم، فلما أراد المشركون طردهم وإبعادهم قال الله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، ثم أمر تبارك وتعالى أيضاً بأنه إذا جاءوك فرحب بهم وحيهم، فقال: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ))، أي: بشرهم بهذه البشريات. فأكرمهم الله تعالى بهذا الإكرام بأن أوصى نبيه صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الضعفاء وهؤلاء المساكين أن يقربهم، وأن يكرمهم بهذا الإكرام. يقول البيضاوي: وصفهم تعالى بالإيمان بالقرآن واتباع الحجج، بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة. هذه هي الموازين عند الله سبحانه وتعالى، فإنه وصفهم بالمواظبة على العبادة، والإخلاص فيها، فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)، وهذا فيه مواظبة واستمرار، وقال: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، وهذا فيه إخلاص. فمدحهم بالعبادة وبالاستقامة وبالاستمرار على تلك العبادة، ثم وصفهم هنا -أيضاً- بأنهم يؤمنون بآيات الله فقال: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا)، فأي مدح أعظم من أن يصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم يؤمنون بآيات الله عز وجل، وأنهم يتبعون حجج الله عز وجل؟! ثم أمره أن يبدأهم بالتسليم فقال: (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام يبدؤهم ويبادر بالتسليم إكراماً لهم، والمعنى: فابدأهم أنت بالتسليم فقل: سلام عليكم، أو: أبلغهم السلام من ربهم عز وجل، أي: يبلغ سلام الله تعالى إليهم، ويبشرهم بسعة رحمة الله تعالى وفضله، بعد النهي عن طردهم، إيذاناً بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل، ومن كان كذلك ينبغي أن يقرَّب ولا يطرد، ويعز ولا يذل، ويبشر من الله بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة. وسلف عن ابن جرير أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظاماً. فما رد عليهم شيئاً، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ولا يخفى أن الآية تشمل جميع ذلك، وربما تتعدد الوقائع المشتركة في حكم واحد فتنزل الآية بياناً للكل، وتقدم لنا في مقدمة هذا التفسير في بحث سبب النزول أن قول السلف: (نزلت في كذا)، قد لا يقصدون به المعنى الحرفي لسبب النزول، أي: أنه حصلت واقعة معينة في شخص معين، ثم نزلت الآية في هذا الشخص، فلا يشترط أن يكون الأمر كذلك، فهذا الاصطلاح الذي يستعمل عند السلف بقولهم: نزلت الآية في كذا يقصدون به أن واقعته مما يشملها لفظ الآية بنزولها إثرها، وهذا بحث مهم جداً. فالسلف حينما يقولون: (نزلت الآية في كذا)، ولا يكون ذلك هو سبب النزول الذي نزلت فيه فإنهم، يقصدون بذلك أن هذه الواقعة مما يشملها حكم الآية. فقوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة)، يعني: أوجبها على ذاته المقدسة، تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يوجب على نفسه، وليس لأحد عليه حق واجب. وقوله تعالى: (أنه من عمل منكم) هذه الجملة بدل من الرحمة. وقرئ بكسر الهمزة: (كتب ربكم على نفسه الرحمة إنه من عمل منكم سوءاً بجهالة) إلى آخر الآية الكريمة، فيكون أيضاً تفسيراً للرحمة، لكن بطريق استئناف جملة جديدة. وقوله: (بجهالة)، الجار والمجرور في موضع الحال، يعني: عمله وهو جاهل. وقوله تبارك وتعالى: (بجهالة)، فيه معنيان: أحدهما: أنه فاعل فعل الجهلة؛ لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر: على أنها قالت عشية زرتها جهلت على عمد ولم تك جاهلا والمعنى الثاني للجهالة: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. والحكيم لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته، فعلى الأول يكون الجهل بمعنى: السفه والمخاطرة من غير نظر للعواقب، وهو الذي نستطيع أن نقول إنه جهل عملي، فهناك جهل من الناحية العلمية ومعناه: أن الجاهل لا يعرف الضرر، ولا يعرف العواقب بل يجهلها، وهناك جهل بمعنى أن يكون الإنسان يعلم أن هذا مضرة ثم يقدم عليه، فيصير بهذا مساوياً للجاهل؛ لأنه سلك سلوك الجاهل الذي لا ينظر ولا يتدبر في عواقب الأمور. وشاهد هذا المعنى من اللغة أي: استعمال الجهل بهذا المعنى، قول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فالمقصود هنا بالجهل: الجهل السلوكي، وليس المقصود الجهل العلمي أي: من حيث المعلومات. ونفس المعنى قد استعمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخروج من البيت: (اللهم! إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي)، فهذا تعوذ من الجهالة السلوكية. إذاً: الجهل بالمعنى الأول هو السفه والمخاطرة من غير نظر إلى العواقب، كما في قول الشاعر: فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكانت العرب تتمدح به، فلا حاجة لتقدير مفعول. وعلى المعنى الثاني: يكون المراد الجهالة بمضار ما يفعله، وهذه هي الجهالة الحقيقية، أن لا يعرف مضار ما يفعله، وعواقب ما يسلكه من المسالك. وقوله تبارك وتعالى: ((أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ))، فيه أن كل عاصٍ لله فهو جاهل؛ لأن الإنسان لا يقدم على المعصية إلا بجهل، فهو إما أنه أقدم على المعصية وهو لا يعرف ضررها ولا الإثم الذي تستوجبه، ولا العقوبة التي تتبعها، وإما أنه يعلم لكنه أقدم عليها مع علمه بذلك، وهو أيضاً بذلك جاهل؛ لأنه سلك مسلك الجهال بأن اقتحم هذه المخاطر وهذه المهالك. وقوله تعالى: ((ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) فعل (أصلح) متعد، والمفعول مقدر، أي: (أصلح عمله) وذلك كقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]. وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي). وقد نقل بعض المفسرين عن الحاكم أنه قال: (دلت الآية على وجوب تعظيم المؤمنين)، فعلى الإنسان دائماً أن يعظم المؤمنين ولا يقدم عليهم الكافرين، وهذا عكس ما نحن عليه الآن في هذا الزمان، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، تجد الناس يلهجون بذكر الكفار ويمتدحون الكفار الذين هم جاهلون بالله سبحانه وتعالى وجاحدون به، وقد فتن البعض بهم فتنة شديدة، حتى نرى منهم من يعلق أعلام أمريكا وبريطانيا في السيارات وحول رقابهم! وهذه الأشياء التي نراها الآن هي فتنة وضلالة لهؤلاء الكفار، والآية تدلنا على أنه ينبغي لنا أن نعظم المؤمنين ولا نقول للذين كفروا: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:51]، ولا نساويهم أيضاً بالمؤمنين. ودلت الآية أيضاً على أنه ينبغي إنزال المسرة بالمؤمن، فيجتهد المرء في أن يدخل السرور على أخيه المؤمن، وأن يبشره بما يصلحه؛ لأنه أمر بأن يقول لهم: ((وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ))، إلى آخر الآية. وقد أمر الله أن يقول لهم ذلك لتطييب قلوبهم، فعلى الإنسان أن يطيب قلب أخيه، وأن يتجنب ما يسوؤه، فلا تنقل إلى أخيك كلاماً يؤذيه حتى لو كان صحيحاً، وإلا كنت نماماً حمالاً للحطب، ولا تنقل إليه ما يسوؤه وما يؤذيه من القيل والقال، بل ينبغي أن تنقل إليه ما يسره؛ ولهذا استحب بعض العلماء أن تنقل لأخيك ما مدحه به غيره من الناس؛ وذلك لإدخال السرور عليه وتطييب قلبه.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) ثم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]. قوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات) يعني: آيات القرآن الكريم في صفة المطيعين والمجرمين، فكل الآيات السابقة في تفصيل وشرح وتوضيح صفات الفريقين: المؤمنين والمجرمين. وقوله تعالى: (ولتستبين سبيل المجرمين) بني لفظ (ولتستبين) على تأنيث الفعل بناءً على تأنيث الفاعل؛ لأن كلمة: (السبيل) تذكر وتؤنث، فتؤنث كما في قوله تعالى: (قل هذه سبيلي). وقرئ (ولتستبين سبيلَ المجرمين) بنصب (سبيل) والمعنى: لتستبين أنت -يا محمد- ولتستوضح سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم. فهذا على قراءة من قرأ بنصب (سبيل). أما هذه القراءة فهي برفع (سبيل) فقوله: (ولتستبين سبيلُ المجرمين) يعني: لتفتضح وتنكشف سبيل المجرمين، وهذه الآية في الحقيقة تحتاج لكثير من التوضيح، ولكن نريد الاختصار، فإن من مقاصد القرآن الكريم تفصيل وكشف وهتك سبل المجرمين من أعداء الدين، حتى يحذرها المؤمنون فلا يتورطوا فيها، فكشف هذه السبل للمجرمين وفضحها من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية كي لا ينخدع المسلمين بهم وبألاعيبهم.

تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله من المهتدين)

تفسير قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله من المهتدين) ثم يقول تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56]. قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) قوله: (الذين تدعون) يعني: تعبدونه أو تسمونه آلهةً، ثم كرر الأمر فقال: (قل لا أتبع أهواءكم) وإنما كرر الأمر تأكيداً لقطع أطماعهم، أي: لا تطمعوا أبداً بأي احتمال أن أتبع أهواءكم: (قل لا أتبع أهواءكم) يعني: في عبادة الأصنام أو في طرد من ذُكر من المؤمنين المستضعفين. (قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) أي: إذا فعلت ذلك، قال البيضاوي: (هو إشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم، واستجهالهم وبيان لمبدأ ضلالهم، وأن ما هم عليه هوىً)، وهذا الشعار مما نحتاج أن نتذكره دائماً في ظل غربة الدين التي نعيشها في هذا الزمان، فهذا هو الوصف اللائق بسبيل المجرمين، (قل لا أتبع أهواءكم)، فكل ما عليه أي إنسان ينحرف عن سبيل الله سبحانه وتعالى وعن صراط الله وعن دين الإسلام فليس له مسمىً إلا الهوى، ولا يجوز أن يسمى بأي تسمية فيها نوع من الاحترام له، ولا يجوز أن يسوى الإسلام بالكفر، ولا الحق بالباطل، ولا أن يقف معه على قدم المساواة، كما يتكلمون اليوم عن التعددية الحزبية والتعددية السياسية، بحيث يصبح الإسلام على قدم المساواة مع المفسدين من الشيوعيين والعلمانيين وأمثالهم من أعداء الدين، فكل هؤلاء في محل واحد هو الهوى، وكل هؤلاء أصحاب أهواء على اختلافها وتنوعها، فالباطل لا ينحصر، ولغاته كثيرة، أما النور فواحد لا يتعدد، فلذلك يقول الله تعالى: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين) فكل من اتبع هؤلاء في أهواءهم يصير ضالاً ويحرم من نعمة الهداية، فما هم عليه هوى، وما نحن عليه هدى، فالعاقل لا يؤثر الهوى على الهدى، وعلينا أن ننظر بصفتنا مؤمنين باستعلاء وباعتزاز بهذا الدين وبأحكام الله سبحانه وتعالى، ولا نحقق ما يرومه أعداء الدين من محاربتنا وإذلالنا بحيث نتوارى في الطرقات ونختبئ وننكمش ونشعر بالخجل من انتمائنا إلى الدين، بل نعتز بأحكام ديننا وبسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وننظر إليهم لا بتكبر، ولكن باستعلاء المؤمن الواثق من منهجه، وأن هذا هو منهج الحق، وأن كل ما عداه وكل ما خالفه فهو هوى وليس هدى، وما هو عليه هدى بريء من الهوى. وفي هذه الآية أيضاً تنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد: (قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين) يعني: إن اتبعت أهواءكم أكون قد ضللت لمخالفة الأمر الإلهي والعقل جميعاً (وما أنا من المهتدين) للحق إن اتبعت ما ذكر، ولا شك أن في الآية تعريضاً بأن هؤلاء الكفار كذلك.

تفسير قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به وهو خير الفاصلين)

تفسير قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به وهو خير الفاصلين) ثم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]. قوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي) يعني: على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إليَّ، لا يمكن التشكيك فيها، وهذه هي الثقة بالمنهج، والثقة بالله سبحانه وتعالى. والثقة بالمنهج الذي أنت عليه معناه أن تكون على بصيرة، بحيث لا تنقاد، لا كما يحاولون أن يصوروا في التمثيليات والإعلام والكاريكاتير بأن يأتوا بشخص ملتحٍ عيناه مغمضتان وآخر يجره من رقبته! فلسنا نحن الذي نفعل ذلك، فالذين يسيرون بهذه الطريقة ويقادون من أعناقهم كالأنعام يعرفون أنفسهم جيداً، أما نحن المسلمين المعتزين بهدي نبينا فنحن كما علمنا الله تعالى هنا (قل إني على بينة من ربي)، فأنا أعرف أن اللحية مثلاً أمر الله، وأن الصلاة ركن أساسي من الإسلام، وأن تعظيم القرآن وتحسينه قضية لا ريب فيها، فتعرف ملامح منهجك وأدلته، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: على بصيرة أيضاً {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. يقول بعض السلف: (لو شك الخلق كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي) فإذاً العبرة أن تكون على بينة؛ ولذلك لا مرحباً بمن ينتمي إلى الدعوة مقلداً لمجرد اتباع من يحبه أو من يعجب به، أو ينقاد كما تنقاد العجماوات من رقابها، لا مرحباً به في صفوف الدعوة الإسلامية، لكن الذي ينتمي للدعوة لا بد من أن يكون على بصيرة، فيعرف هدفه ويعرف ملامح هذا الطريق، وما الثمن الذي لا بد من أن يدفعه إذا سلكه، وغير ذلك مما يعكس أنه بالفعل يردد هذه الآية عن بصيرة: (قل إني على بينة من ربي) ليس على بينة من أحد آخر، إنما البينة من الله سبحانه وتعالى، فيعرف الآية، ويعرف الحديث، ويعرف الدليل فيما يذهب إليه من الحق، وطول المعايشة مع القرآن الكريم وتدبر القرآن الكريم يعطي الإنسان مدداً، فإن القلب العضلي كما يتغذى بالأوعية الدموية، فإن خيوط النور التي تنبعث من هذا الكتاب الكريم هي أيضاً غذاء للقلب، وبدونه لا يحيا، وبدونه يضعف الإنسان، وهذا سر الضعف الذي ينتاب كثيراً من الناس حتى يجعلهم ينتكسون عن طريق الحق، وذلك لأنهم مقطوعو الاتصال بالقرآن، ولو أنهم عرفوا مثل هذه الآية: (قل إني على بينة من ربي) لعلموا أن المراد: أنا واثق بمنهجي، وأعرف أين مبتدأه، وأين خبره، وأين مصيري إذا أنا سلكت هذا المنهج، وماذا يكون مصيري إذا حدت عنه، أعرف دليل ما أفعله، وأتبصر بديني، ولا أنقاد لأحد انقياد الأعمى أو المقلد، وإنما أعرف كل شيء ببينة وبصيرة. فقوله: (قل إني على بينة من ربي) أي: على بصيرة من شريعته التي أوحاها إليك، لا يمكن التشكيك فيها. وقوله: (وكذبتم به) هذه الجملة إما أنها استئناف أو حال، وقوله: (به) الضمير هنا عائد على البينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد. فالضمير في الآية يعود على البينة، والبينة مؤنث، فإذاً الضمير هنا يعود على معنى البينة وليس على لفظها، والبينة هي الوحي أو القرآن أو نحوهما. وقوله تعالى: (ما عندي ما تستعجلون به) يعني: من العذاب، فأنتم تستعجلون نزول العذاب وأنا لا أملك ذلك، وكما أني ((لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ)) فكذلك ليس عندي العذاب الذي تتعجلونه. فهذا استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بالبينة، حيث اعتبروا أن السبب أو المسول لأن يكذبوا بهذه البينة هو أنهم حينما استعجلوه بالعذاب لم يأتهم بالعذاب، فيعدون ذلك دليلاً على عدم صدقه! فكذبوا بهذا القرآن حين قالوا له: لو كنت رسولاً حقاً فأنزل علينا العذاب. وكذلك قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]. فليس لهذا الأمر تفسير في نظرهم القاصر إلا أنه ليس برسول! ولم يرد على أذهانهم أن هذا لعله رحمة من الله سبحانه وتعالى بهم أنه يمهلهم ويستعتبهم، كما قال تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] يعني: إكراماً لك ما دمت فيهم لا ينزل عليهم العذاب. فهو إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، يعني: وفيهم مؤمنون يستخفون بإيمانهم يستغفرون الله تبارك وتعالى. فهم دائماً كانوا يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48] أي: متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به إن كنت من الصادقين؟! بطريق الاستهزاء أو بطريق الإلزام على زعمهم، فالله تعالى سبحانه وتعالى يقول له هنا: ((قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ))، أي: إن ما تستعجلونه من العذاب الموعود في القرآن وتجعلون تأخره ذريعةً إلى تكذيبه ليس في حكمي وليس في قدرتي، فليس في قدرتي أن أجيء به وأظهر لكم صدقه، أو ليس أمره بمفوض إليَّ. ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) قوله: (إن الحكم إلا لله) أي: لو كان عندي ذلك لكنت أنا الحاكم، لكن إنما الحكم في ذلك تعجيلاً وتأخيراً لله وحده، وقد حكم بتأخيره لما له من الحكمة العظيمة، لكنه قطعاً محقق الوقوع، فما دام الله سبحانه وتعالى أوعدكم فوعيده محقق الوقوع؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فتربصوا إنا معكم متربصون، فالمسألة هي مسألة وقت، فقد يشاء الله تعجيل العذاب، وقد يشاء تأخيره لحكمة لا يعلمها إلا هو، فهذا حكم يستأثر به الله سبحانه وتعالى، وهو واقع قطعاً حتى وإن تأخر؛ لأنه (يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقوله: (يقص الحق) أي: يبينه بياناً كافياً (وهو خير الفاصلين) أي: القاضين بين عباده تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر والله أعلم بالظالمين)

تفسير قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر والله أعلم بالظالمين) ثم قال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام:58] قوله تعالى: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به) أي: لو أن في قدرتي وإمكاني العذاب الذي تتعجلونه، بأن يكون أمره مفوضاً إليَّ من قبله تعالى لقضي الأمر بيني وبينكم بأن ينزل ذلك عليكم إثر استعجالكم. و (قضي) هنا بمعنى: قطع. وقضاؤه كناية عن إهلاكهم، وفي بناء الفعل لما لم يسم فاعله من الإيذان بتعيين الفاعل الذي هو الله تعالى، وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب، ما لا يخفى. قوله تعالى: (والله أعلم بالظالمين) اعتراض مقرر لما أفادته الجملة الإمتناعية، من انتفاء كون أمر العذاب مفوضاً إليه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب؛ ولذلك لم يفوض الأمر إليَّ، فلم يقض الأمر بتعجيل العذاب، يعني أن الله أعلم بالظالمين أنهم يستحقون تأجيل العذاب؛ لأنهم كلما تمادوا في كفرهم كلما ازداد استحقاقهم للعقاب، كما قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام:58] وبين ما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردته، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -وقرن الثعالب هو قرن المنازل ميقات أهل نجد كما هو معروف- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) وهذا لفظ مسلم، فقد عُرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم وأجَّل ذلك، مع أنه مكَّنه أن يهلكهم بملك الجبال، لكنه استأناهم وأعطاهم مهلة وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً، فكيف يكون الجمع بين هذا الحديث وبين هذه الآية: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله عليم بالظالمين)؟! والجواب -والله تعالى أعلم-: أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم، أما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلا مكة يكتنفانها جنوباً وشمالاً، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم صلى الله عليه وسلم، فالآية هذه في مقام محاورة، وقد وصل الحوار بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفار إلى أنهم تحدوه بقولهم: لو كنت صادقاً فأنزل علينا العذاب عاجلاً الآن، وفي هذه الحالة جاءت الآية تشير إلى أن الرسول عليه السلام يجيبهم ويقول: (لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم) أي: لوقع بكم العذاب فوراً ما دمتم تطلبونه وتسألون تعجيله آية على صدقي. أما الحديث فليس فيه أن الحوار وصل إلى هذا الحد، وإنما هم ردوا قوله ورفضوا الإيمان به، لكن لم يصل الحوار بينه وبينهم إلى أنهم تحدوه بأن ينزل عليهم العذاب، ولأنهم لم يفعلوا ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم سأل الله لهم التأخير والتأجيل رجاء أن يخرج الله سبحانه وتعالى من أصلابهم من يعبد الله عز وجل لا يشرك به شيئاً. وبهذا ينتهي هذا الربع وهو تفسير الربع، الذي يبدأ بقوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام:36]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

الأنعام [59 - 71]

تفسير سورة الأنعام [59 - 71]

تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو إلا في كتاب مبين)

تفسير قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو إلا في كتاب مبين) يقول تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]. قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب) مفاتح: جمع مفتح -بكسر الميم-، وهو المفتاح، ولأن اسم الآلة على وزن مفعل أو مفعال يكون المفرد بصيغة (مفتح) أو (مفتاح)، وقرئ: (وعنده مفاتيح الغيب) فهنا شَبه الأمور الجليلة التي يستنسخ منها بالأقفال ويبحث لها عن مفاتح وسيلة. وقوله تعالى: (لا يعلمها إلا هو) هذا تأكيد لمضمون ما قبله، يعني أن الله سبحانه وتعالى عنده مفاتح الغيب، وهو مختص بعلمها، كما أن فيه إيذاناً بأن المراد الاختصاص من حيث العلم، والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى ألتزم لكم بتعجيله، ولا معلوماً لدي لأخبركم بوقت نزوله، بل هو مما يختص به تعالى قدرةً وعلماً فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح. ولما بين تعالى تعلق علمه بالمغيبات وتأثر ذلك بالمشاهدات على اختلاف أنواعها وكثرة أفرادها أثبت -أولاً- اختصاصه سبحانه وتعالى بمعرفته مفاتح الغيب، وأنه لا يعلمها إلا هو، ثم بين أنه (يعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) إلى آخره. وقوله: (ويعلم ما في البر والبحر) أي: من الخلق والعجائب، ولا شك في أن كلمة (ما في البر)، أو كلمة (ما في البحر)، لو شرحت من المختصين في علوم الأسماك وعلوم البحار وعلوم النباتات والحيوانات وغير ذلك من العلوم وفصلوا لنا في أسماء الأنواع من خلق الله سبحانه وتعالى في البر والبحر لأتوا في ذلك بما يدهش، مع أن ما عندهم من العلم إنما هو كقطرة في بحر لجي، وما يعلمه الله سبحانه وتعالى مما وراء ذلك أكثر وأعظم. بل بلغ علمه عز وجل إلى الإحاطة بالجزئيات الفائتة للحصر، فعلم الله سبحانه وتعالى لا يفوته شيء، على خلاف بعض الضالين الذين يزعمون أن الله يعلم الكليات ولا يعلم جزئيات الأمور -والعياذ بالله-. يقول تعالى: (وما تسقط من ورقة إلا يعلمها) أي: لا يحصل شيء على الإطلاق في هذا الوجود ولا حركة إلا بعلم الله عز وجل (ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) قوله: (إلا في كتاب مبين) أي: مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي. وقوله عز وجل: (وعنده مفاتح الغيب) يدل على بطلان ما زعمته الإمامية من أن الإمام يعلم شيئاً من الغيب؛ إذ إن الشيعة الإمامية الرافضة -قبحهم الله- يزعمون أن الأئمة الاثني عشر يعرفون الغيب، ويذكرون عنهم معرفة كثير من أحوال الغيب، كما هو معلوم في غير هذا الموضع، فهذه الآية فيها رد عليهم؛ لأنه تعالى قال: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فلا يصح لأحد أبداً أن يدعي أنه يعلم مفاتح الغيب من دون الله كما يعلمه الله سبحانه وتعالى. وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي الكشف والإلهام، الذين يزعمون أنهم عن طريق الكشف أو الإلهام أو الكهانة والنظر في النجوم والذر بالرمل وغير ذلك يستطيعون أن يتوصلوا إلى معرفة الغيب، ويطاوعهم في ذلك الجهلة الذين لم يصححوا توحيدهم، ولم يفهموا عقيدة الإسلام، فهؤلاء يدعون ما ليس من شأنهم ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم. ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، من الكهنة والمنجمين والرمليين وغيرهم، الذين يزعمون أنهم مسلمون، وابتلي الإسلام بأن يصل إليه أمثال هؤلاء المعتدين الظالمين، وهذه الأنواع المفعولة لم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم فيها غير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى كاهناً أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم. فهؤلاء الذين يسلكون هذه المسالك ويطاوعون الكهنة والمنجمين وغيرهم خطتهم خطة شؤم لا تعود على فاعلها إلا بهذا الوعيد الخطير: (من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، فالعجب كل العجب حينما يفتح الشيطان باباً من أبواب الأحوال الغيبية حتى على الذين يزعمون أنهم ملتزمون بالدين، بل حتى على الذين يزعمون أنهم ينتسبون للمنهج السلفي ويدعون الناس إلى التوحيد، فظاهرة علاج الجن والكلام معهم لا شك في أنها فتحت باب شر وشؤم ونحس علينا معشر المسلمين، فقد وجدنا من يستدرجهم الشيطان باسم علاج الناس وباسم الرقية، وهكذا، إلى أن وصل بعضهم إلى ممارسة شيء من هذه الكهانة، ولبست الشياطين عليهم كثيراً من الأعمال، حتى إن بعضهم صار يفعل كما يفعل هؤلاء، فإذا سرق شيء يأتونه ويخبرهم عن الذي سرقه، ويقول: أنا أستعين بالجن! إلى غير ذلك من ضلالات النحس التي انقلب بها هؤلاء الجهلة عن الدعوة الإسلامية، وشوهوا بها دعوة التوحيد. ولكن نحمد الله تعالى على أن هذه الآن تكاد تخمد، حتى الذين أوغلوا في ذلك وتعمقوا إلى أقصى الحدود أغلبهم الآن قد رجع عن الخوض في هذا الموضوع ولله الحمد، فكفى خوضاً في هذا الطريق والانشغال به، ويكفى العدوان الذي حصل، فعلاج هذه القضية أن لا ننشغل بها ولا يفكر أحد أبداً فيها؛ إذ كم خربت من بيوت! وكم أحدثت من مآسٍ! ففي فترة الانشغال بهذا كان كل إنسان يظن أن الثاني يسلط عليه الجن، فيستعين بالجن ليؤذيه! وهذا من الهراء ومن السخافات التي ما زلنا نعاني بعض آثارها، وإن كان الوضع الآن أخف بكثير مما مضى، ولله الحمد. فالشاهد من هذا الكلام أننا كنا نحن -معشر السلفيين- أولى الناس بأن نتبرأ من ذلك ونكون محققين لقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، لكن بعض الناس -مع الأسف- يلتزمون زوراً، وأغلب هؤلاء لا حظ لهم على الإطلاق من العلم الشريف، فلا تجد الواحد ممن يخوض في هذا الباب ممن ينشغل بالعلم أو يسهر الليالي في حفظ القرآن أو حفظ الأحاديث أو مدارسة دروس الفقه، لكن فتح له عيادة، فأحدهم تجد عنده معمل تحاليل طبية، فأياماً يعالج فيه الجن وأياماً يعمل تحاليل، ويستقبل مرضاه ويوغل في هذه الأشياء! فنحن أولى الناس بأن نبرأ من الانزلاق في هذه الهوة، فالذي سرق منه شيء يجيء ويغلق ما يسمى بالمندل، وفلان حصل له سحر فيقول أولئك الضالون: نريد أن نفك عنه هذا السحر ويبدءون يفكرون في كيفية معرفة السحر حتى يفكوه! ضلالات وهذيانات وانحرافات ما أنزل الله بها من سلطان. فنحن أولى الناس بأن ندعو الناس إلى التوحيد، ونكون أشد الناس بصيرة بإزالة الشيطان وشركه، وللأسف أنه وقع بعض من ينسبون إلينا في هذه الأشياء! فهذه حقيقة من حقائق عقيدة التوحيد الواضحة الناصعة (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو). ثم إن هذا الجني الذي يزعم أنه يخبرك بهذه الأشياء التي غابت عنا أنت لا تعرف من هو، وما اسمه، وما شكله، وما دينه، حتى لو قال: إنني مسلم فما أدراك؟! ومن أين تعرف أنه صادق؟! ومن شهد له بذلك؟! ونجد اليوم أن من كانت عنده مشكلة مع زوجته يقول قريبه: هذا مسحور، ونحن نلاحظ بأن في عينيه كذا، وأعتقد أنه مسحور! فدائماً نسمع كلمة (مسحور) فنقول: دعوا هذا الكلام للعجائز، ولا يصح أبداً أن نكون نحن فيه، فما أدراك أنه مسحور؟! يقول: لقد ابتعدت عنه وهو متعلق بها جداً! فهل هذا دليل على أنه فيه سحراً؟! ثم يبدأ ذلك الشخص في العلاج ويفكر في أنه كيف يسلك مسالك السحر حتى يفك به السحر، ونفتح على أنفسنا باب هذه الضلالات وهذا الانحراف، فنأمل أن يسد هذا الباب، وأن نتعامل مع كل الظروف التي تصل إلينا معاملة البشر مع الأسباب التي خلقها الله، فالمريض يذهب للأطباء، ويسلك مسالك البشر الذين هم لحم ودم وعظم يتعاملون مع الأسباب التي سخرها الله سبحانه وتعالى لهم، لا أن تبقى هناك عشرات التخصصات للجن يعملونها! حتى العمليات الجراحية يعملها الجن! ثم نجلس لنقول كلاماً ما رأيناه ولم نعرف صدق من يقوله، ونظل نقول: إنه يوجد متخصص في السرطانات، وآخر في العقم! فالمرأة التي لا تلد يقال عنها: فسبب ذلك جني يمنعها من الإنجاب! فما هذا الخوض الشديد، ولماذا لم تزدهر هذه الطريقة في التفكير إلا في هذه السنوات الأخيرة؟! فليسلك الإنسان المسالك التي سخرها الله له (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه دواء). أما قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) فقد قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب. وقال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق. وقال الضحاك: خزائن الأرض وعلم نزول العذاب. وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب. وقيل: هو انقضاء الأجل وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمارهم. واللفظ أوسع من ذلك فإن مفاتح الغيب لفظ أوسع يشمل كل ما غاب عنا مما استأثر الله تعالى بعلمه، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى، لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يدري أحد متى يجيء المطر)، وهذا أخرجه البخاري. والروايات في هذا المعنى كثيرة، وقوله: (ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام)، يعني: بعلم بغير آلة. فلا يشكل على هذا بعض الأساليب الحديثة الآن التي تقوم بتصوير حركة الجنين أو نوعه وهو في بطن أمه؛ لأن هذا لا يتنافى مع أن الله سبحانه وتعالى يستأثر بعلمه؛ لأنه من الممكن بآلة أن نطلع على هذا، وبالتالي لا يصبح غيباً، بل يصبح شهادة، فلو أتينا بمشرط وفتحنا الرحم واطلعنا على الجنين فلا نكون بهذا قد اطلعنا على الغيب، وإنما صار شهادة،

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ينبئكم بما كنتم تعملون)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ينبئكم بما كنتم تعملون) قال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام:60]. قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) يعني: ينيمكم فيه. واستعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصل التوفي قبض الشيء بتمامه. وقوله: (ويعلم ما جرحتم بالنهار) أي: ما كسبتم في النهار. فخصص الليل بالنوم، والنهار بالكسب جرياً على المعتاد، فهذا هو الحال المعتاد لأغلب البشر، أن النهار للعمل وللسعي، والليل للنوم والراحة. (ثم يبعثكم) يعني: يوقظكم. وأطلق البعث ترشيحاً للتوخي (فيه) أي: في النهار (ليقضى أجل مسمى) أي: ليتم مقدار حياة كل أحد، حتى يستوفي كل منكم ما كتب الله له سبحانه وتعالى في هذا الأجل، فتمر بكم الأيام إلى أن يأتي الأجل المحسوم. وقوله: (ثم إليه مرجعكم) أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت. وقوله: (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) أي: في ليلكم ونهاركم، وذلك بالمجازاة عليه. وهذا مبالغة في عدله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)

تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:61] يعني: هو المتصرف في أمورهم لا غيره، يفعل بهم ما يشاء سبحانه وتعالى. وقوله: ((وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً)) أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وهم الكرام الكاتبون، كقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11]، وقوله عز وجل: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]. وقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] الحكمة في إرسال الحفظة أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رءوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن المعاصي، ولذلك قال بعض العلماء لإخوانه: (هل لو كنتم تعلمون أن بينكم من يرفع عملكم إلى السلطان أكنتم تتكلمون بشيء؟! قالوا: لا. قال: فإن معكم من يرفع أعمالكم -وهم الملائكة- إلى الله سبحانه وتعالى) يعني أنه لو كان عليك من السلطان أو الحاكم رقيب يحصي عليك كل ما تقوله ويسجله ثم يعرض عليه بعد ذلك فلا شك في أن هذا سيكون زجراً عن التمادي فيما لا يصح من الكلام. فالعبد إذا وفق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطَّلعين عليه، وهذه إشارة إلى وجود هؤلاء الملائكة الكرام الكاتبين حتى نكرمهم ونستحييهم. وقوله: (حتى إذا جاء أحدكم الموت) يعني أسباب الموت ومباديه. وقوله: (توفته رسلنا) أي: الملائكة الموكلون بقبض الأرواح. قوله: (وهم لا يفرطون) أي: بالتواني أو التأخير، فلا يمكن أن يخلفوا الموعد، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد كتب للرجل الموت في مكان محدد وفي لحظة محددة فلا يمكن أن يتقدمَ عن هذه اللحظة ولا أن يتأخر عنها طرفة عين، بل لا بد من أن يأتي في الموعد الذي كتبه الله سبحانه وتعالى. وقال ابن كثير: (وهم لا يفرطون) أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين.

تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق)

تفسير قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) ثم قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62]. قوله تعالى: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) المقصود بمولاهم هنا: الذي يتولى أمورهم ويدبرها (الحق) أي: العدل الذي لا يحكم إلا بالحق، قال ابن كثير: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) الضمير للملائكة يعني: رد هؤلاء الملائكة إلى الله سبحانه وتعالى، أو (ردوا) أي: الخلائق المدلول عليهم بأحد. يعني في قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) ثم بعد ذلك يرد هؤلاء الناس المتوفون إلى الله مولاهم الحق. فإما أنها تعود إلى الملائكة، وإما أنها تعود إلى آحاد الناس الذين تتوفاهم الملائكة، وهذا يعني أنهم يردون إلى الله سبحانه وتعالى بعد البعث فيحكم فيهم بعدله، ولذلك قال: (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) أي: ليحاكموا ويحكم فيهم الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، وقال عز وجل: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49] فقوله: ((أَلا لَهُ الْحُكْمُ)) أي: يومئذ لا حكم فيه لغيره (وهو أسرع الحاكمين) أي: يحاكم الخلائق في أسرع زمان. وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في هذا الموضع الحديث المشهور الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان رجلاً صالحاً قالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج) يعني أن هذا كله يقال للعبد الصالح في أثناء خروج روحه إلى أن يتم خروجها، يكرر عليه هذا النداء الطيب: (فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال من هذا؟ فيقال: فلان فيقولون: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أدخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل -المقصود التي فوقها- وإذا كان رجل السوء قالوا: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فسيفتتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترمى من السماء ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثلما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثلما قيل في الحديث الأول) والأحاديث في هذا معروفة ومشهورة.

الجمع بين قوله: (الله يتوفى الأنفس) وقوله: (يتوفاكم ملك الموت) وقوله: (توفته رسلنا)

الجمع بين قوله: (الله يتوفى الأنفس) وقوله: (يتوفاكم ملك الموت) وقوله: (توفته رسلنا) قال الخازن: فإن قلت قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] في هذه الآية نسب التوفي إلى الله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، وقال في آية أخرى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، وقال هاهنا: ((تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)) فنسب التوفية إلى الملائكة، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ قلت: وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، لأن الآية: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال:50] جاءت بصيغة الجمع، فدل على أن لملك الموت أعواناً. فإذا قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] إن قلت: ملك واحد فنعم، ولكن دلت الآيات الأخرى على أن له أعواناً (توفته رسلنا)، وإذا قلنا ملك الموت اسم جنس فمعناه هؤلاء الملائكة، وإذا قرأت قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] فإن الله هو الفاعل للتوفي في الحقيقة، فالمتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت نفسه، فحصل الجمع. قال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناوله حيث شاء، وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم. ثم أمر تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يوبخ المشركين وأن يبكتهم بأن هؤلاء الذين اتخذوهم شركاءهم أحط مما يزعمون لهم من الصفات، والدليل على أنهم لا يستحقون هذه العبادة منكم أنكم عند الشدائد تنسونهم ولا تفزعون إليهم وإنما تمخضون الإخلاص والدعاء لله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر)

تفسير قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام:63]. قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر) أي: من شدائده، كخوف العدو وضلال الطريق (والبحر) كخوف الغرق والضلال عن الطريق وسكون الريح. والمقصود من الظلمة في قوله: (ظلمات البر والبحر) الشدة، لاشتراك الشدة مع الظلام في الهول وإثقال الأبصار ودهش العقول، يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل وظهرت الكواكب فيه. وقوله: (تدعونه تضرعاً) أي: تذللاً إليه تحقيقاً للعبودية (وخفية) يعني: سراً، تحقيقاً للإخلاص، فأنتم تتضرعون إليه في ظاهركم؛ لأنكم بذلك تحققون العبودية، ثم في الباطن تدعونه سراً، وبذلك تحققون الإخلاص في هذه الشدة. وجملة (لئن أنجانا) حال من الفاعل بتقدير القول، يعني تقولون: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين) وهذا وعد منهم بأن الله سبحانه وتعالى إذا نجاهم من هذه الشدة المعبر عنها بالظلمات، ومعنى (لنكونن من الشاكرين) أي: من الشاكرين لك، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل.

تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)

تفسير قوله تعالى: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون) قال تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:64]. بعد ما أمره تعالى أن يبكتهم بانحطاط شركائهم عما زعموا لهم؛ لأنهم يخصون الحق سبحانه وتعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد أمره تعالى بالجواب تنبيهاً على ظهوره وتعينه عندهم، تنبيهاً على أن الجواب عندهم معروف، فأنتم تلجئون إلى من؟ (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون). أو المقصود بالجواب هنا الإهانة لهم بقوله: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) يعني: ينجيكم منها من غير شفاعة من أحد ولا عون (ثم أنتم تشركون) أي: ثم أنتم بعدما تشاهدون النجاة من هذه الظلمة وهذه الشدة التي تعدوننا فيها بالشكر وعداً وثيقاً بالقسم حيث تحلفون (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) وتدعونه تضرعاً وخفيةً وتنسون ما يشركون، ثم بعد ذلك إذا نجوتم تنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه سبحانه وتعالى بالدعوة إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر! ولا شك في أن لكثير من الناس في هذا الزمان حظاً من هذا البلاء المتلاطم والمتراكم، فكم نسمع من القصص الخيالية التي يُلبس بها على الناس أن الشيخ الفلاني كان في أناس فوق سفينة وكادوا يغرقون، فقالوا: يا شيخ فلان ودعوه فنجاهم! ولا شك في أن هذه الصورة هي أقبح من هذه الصور التي حكاها القرآن عن المشركين الأوائل؛ لأن هؤلاء كانوا يوحدون الله سبحانه وتعالى بالدعوة ظاهراً وباطناً عند الشدة، ثم بعد ذلك يشركون للجهل، والآن نجد من يشرك بالله سبحانه وتعالى حتى في الشدة، ويتجه إلى البدوي والدسوقي والحسين وآل البيت إلى غير ذلك من هذه الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل، حتى إن الواحد منهم -كما حكى أكثر من واحد من العلماء عن هؤلاء الناس الذين يزعمون أنهم مسلمون- إذا سألته المحكمة أن يحلف بالله عز وجل حلف به كاذباً، فإذا قال له القاضي: احلف بالشيخ فلان تلعثم ونطق بالحق! وكأن الله سبحانه وتعالى أهون عنده من هؤلاء الذين يتخذهم أنداداً من دون الله عز وجل. وقوله تبارك وتعالى: (تدعونه تضرعاً وخفية) استدل به بعض المفسرين على أن الإسرار بالدعاء أفضل من الجهر به، قيل: وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره.

تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا لعلهم يفقهون)

تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً لعلهم يفقهون) قال تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65]. قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال المهايمي: أي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر: إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد. يعني أنكم وحدتم الله سبحانه وتعالى ودعوتموه ظاهراً وباطناً وأخلصتم له في الدعاء وأسررتم هذا التضرع وهذا الدعاء والتذلل لأنكم كنتم تخافون من الهلكة في هذه الظلمة وهذه الشدة التي طرأت عليكم، ثم أقسمتم ووعدتم بأن تكونوا من الشاكرين، فلما نجاكم الله سبحانه وتعالى وكشف عنكم هذه الغمة إذا بكم تعودون إلى ما كنتم عليه من الشرك، فتشركون بالله سبحانه وتعالى، وتبدلون الشكر بالشرك، وإنما كان الدافع لكم هو أمنكم من الشدائد؛ لأنكم عدتم إلى حالة الأمن والرخاء واليسار، لكن العاقل إذا فكر يعلم أنه لا وجه للأمان منها، لاستمرار من سيلقوه -وهي القدرة الإلهية- على أنواع الشدائد من الجهات كلها، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، وقدرته عز وجل واسعة، فيستطيع سبحانه وتعالى بقدرته العظيمة أن يعيد عليكم الكرة ويأتيكم بالشدائد بأي لون أو من أي جهة حتى لو كنتم تأمنون هذه الجهة، فهو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة، فكيف لا يكون قادراً على إنزال شدائد مثلها؟! فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم) يعني أن العذاب ممكن أن يأتيكم من كل جهة، فلا وجه للأمان وللفرار بأن الله أنجاكم فتعودون للشرك، فهنا حجة قوية جداً وحجة ظاهرة في إبطال هذا المسلك، فالذي جعلهم يعدون ويقسمون أنهم يوحدون ويشكرون لله سبحانه وتعالى هو الخوف من الهلكة، ثم بعدما أمنوا وزالت عنهم الشدة عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك ونكثوا عهدهم من بعد أيمانهم، والدافع إلى ذلك هو الشعور بالأمان، فالإنسان يكون في البحر وتكاد السفينة أن تغرق فيدعوا الله ويبتهل، ثم إذا نجاه للبر يعود إلى الشرك، وينسى هذا العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى به. ألم يعلم هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يبعث عليهم عذاباً في هذا البر؟! بل الآية هنا فيها أن الله عز وجل قادر على أن يأتيكم بالعذاب من أي جهة، وقادر على أذاكم بأنواع عظيمة من العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم، وقادر على أن يعيد عليكم هذه الشدائد وأمثالها ويأخذكم فيها. يقول تبارك وتعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) يقول المهايمي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد، لكن لا وجه للأمان منها، لاستمرار من سيلقوه -وهو القدرة الإلهية- على أنواع الشدائد من الجهات كلها؛ إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم، كإرسال النار أو الحجارة، أو إسقاط السماء، أو من تحت أرجلكم كالخسف والطوفان، أو يلبسكم شيعاً، وهذا نوع آخر من العذاب الذي يعذِّب الله سبحانه وتعالى به أعضاء الأمم، وهو أن يخلطكم فرقاً خلط افتراق، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال، بأن يقوي أعداءكم ويذيق بعضكم بأس بعض، يعني شدة بعض، فيسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب. وقوله: (انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) قوله: (نصرف) يعني: نحولها من نوع إلى آخر، فعند النظر والتتبع للآيات من أوائل هذه السورة إلى هذه اللحظة نجد أن الله سبحانه وتعالى ينوع لهم الحجج والمجادلة والدلائل والبراهين. (لعلهم يفقهون) أي: يفهمون ويعتبرون فيكفون عن كفرهم وعنادهم. روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: (قل هو القادر على أن ينزل عليكم عذاباً من فوقكم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك (أو من تحت أرجلكم) قال: أعوذ بوجهك (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال: هذا أهون، أو: هذا أيسر). قال الحافظ ابن حجر: وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يفسر به حديث جابر رضي الله تعالى عنه، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعاً، فرفع عنهم ثنتين وأبى أن يرفع عنهم ثنتين، دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض وأن لا يلبسهم شيعاً ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الخسف والرجم) يعني أن هذه الأمة لا تعاقب بالخسف ولا بالرجم (وأبى أن يرفع عنهم الأخريين) وهما أن يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، فيستفاد من هذه الآية المراد بقوله: (من فوقكم أو من تحت أرجلكم) ويستأنس له -أيضاً- بقوله تعالى: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68]. وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين، فصلينا معه، ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة -بالجدب والقحط- فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها). وليس معنى ذلك أن أي أمة من الأمم الإسلامية أو بلد من البلاد الإسلامية لا يهلكها الله سبحانه وتعالى بالغرق، فليس هذا هو المقصود في هذا الحديث، وإنما المقصود هنا شمول الأمة كلها والإتيان بالعذاب الذي يستأصل الأمة كلها، فهذا لا يقع، أما وقوع آحاد من الخسف ووقائع من الغرق والسيول وغير ذلك فهذا لا يتنافى مع الحديث؛ لأن المقصود عذاب يستأصل الأمة كلها، فهذا هو الذي لا يقع. قال الخفاجي: فإن قلت: كيف أجيبت الدعويان وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب كما روى الترمذي وغيره؟ قلت: الممنوع خسف مستأصل لهم. أي أن: الخسف الذي يستأصل الأمة هذا هو الممنوع، وأما عدم إجابته له في جعل بأسهم بينهم فهو بسبب ذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم نصيحته لهم لم يعملوا بقوله. وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية (قل هو القادر) إلى آخره فقال: أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد) يعني ما يتعلق بالفتن التي ستقع فيما بعد مما ستطبق عليه الآية وما يقع بالمسلمين. وبعض المفسرين لهم أقوال أخرى في هذه الآية، حيث قال بعضهم: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قالوا: هو أئمة السوء (أو من تحت أرجلكم) خدم السوء. ولا شك في أن التهويل وتعظيم العذاب والفتن المتوعد بها في هذه الآية أعظم من أن يكون خادم السوء أو أئمة السوء؛ لأن العذاب كلما كان مراً على النفس شق عليها، فهذا القول ينبو ويقل عن مقام التهويل وشدة الوعيد في هذه الآيات الكريمة. فالظاهر أن بعض السلف كانوا يتلون بعض الآيات لبعض المقامات إشعاراً بأن معناها يحاكي تلك الواقعات فقط، دون أن تكون الآية نزلت في تلك القضايا بأعيانها، فلا شك في أن من الحكام مثلاً من هو وراء السوء، أو أن ثلة من الناس يشتمون العلماء ويشتمون الأفاضل، ففي هذه الحالة يقال: إنه يصدق عليهم معنى الآية، لا أن هذا هو المراد من الآية أصلاً أو أنها نزلت فيه.

تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق وسوف تعلمون)

تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق وسوف تعلمون) قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:66]. قوله تعالى: (كذب به قومك) أي: بالقرآن المجيد (وهو الحق) أي: الكتاب الصادق في كل ما نطق به (قل لست عليكم بوكيل) أي: لم يفوض إليَّ أمركم فأمنعكم من التكذيب وأجبركم على التصديق، إنما أنا منذر وقد بلغت. وبعضهم أرجع الضمير في قوله تعالى: (وكذب به) إلى العذاب. وقوله: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] أي: لكل خبر عظيم وقت استقرار لصدقه أو كذبه (وسوف تعلمون) أي: مستقر هذا النبأ ومآله وأن العاقبة له، كما قال تعالى {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]. قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون)، يعني: بالطعن والاستهزاء (في آياتنا)، أي: المنسوبة إلى مقام عظمتنا، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا. فحق آيات الله سبحانه وتعالى أن تعظم؛ لأنها كلام الله، فتعظم كعظمة المتكلم بها، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وإذا رأيت الذين) (الذين) هنا كناية عن مشركي مكة، فقد كان ديدنهم الخوض في آيات الله. (فأعرض عنهم) أي: لا تجالسهم وقم عنهم (حتى يخوضوا في حديث غيره) أي: حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا. (وإما ينسينك الشيطان) بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) يعني: إن أنساك الشيطان فجلست معهم فلا تؤاخذ به ما دام الذي دفعك إلى الجلوس معهم هو نسيان النهي والوعيد الوارد في هذه الآية، لكن إذا ذكرت النهي فبادر بالقيام، فلا تقعد معهم؛ لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز عناداً. فالنسيان معفو عنه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).

وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو

وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو وهذه الآية الكريمة في سورة الأنعام هي المشار إليها في آية سورة النساء، وهي قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء:140]، فالمقصود بقوله تعالى: (في الكتاب) هذه الآية التي في سورة الأنعام؛ لأن الأنعام نزلت قبل النساء {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140]؛ لأن في حضور المنكر مع إمكان التباعد عنه مشاركة لصاحبه، قال السيوطي في الإكليل: (في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو) فيؤخذ من هذه الآية أنه واجب على الإنسان أن يهجر مجالس اللغو ومجالس الملاحدة، وما أكثر مجالس الملاحدة! ومجالس الملاحدة اليوم متعددة، كمجلاتهم والنظر إلى التلفزيون وغير ذلك؛ لأن الحال الآن تنوع وتلون ألواناً كثيرة، فكم من آية يسخرون منها! وكم من حكم شرعي يستهزئون به! وكم من حديث يذكر في مقام الاحتقار والازدراء والعياذ بالله! فهؤلاء جميعاً من هؤلاء الملاحدة، كالممثلة التي رقصت في مسرحية على أنموذج للكعبة المشرفة، حيث صنعوا أنموذجاً للكعبة وصعدت الراقصة فوقه ترقص عليه -والعياذ بالله-!! فهذا إلحاد كفر بالله عز وجل واحتقار لما عظمه الله سبحانه وتعالى، وهو بيت الله الحرام، ومثلها الممثلة التي سخرت من كلمة التوحيد فقالت: (لا إله أُلَّا الله) والناس يضحكون، يضحكون بصورة صارخة على هذا الكفر وهذا الشرك والعياذ بالله، فالإنسان لا يجوز له أبداً أن يجالس هؤلاء الفسقة أو الملاحدة بتعبير أدق، وإلا كان شريكاً لهم في الإثم، والأنواع والأمثلة كثيرة جداً لشهرتها، والمفروض أن الإنسان يتجنب كل مجلس غلب على ظنه أن فيه الخوض في آيات الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا نوع من المجالسة لهؤلاء الفاسقين، سواء أكان في التلفزيون أم في الراديو أم في المسارح أم في المجلات، ومجلات الملحدين الآن معروفة ومشهورة، ومن ثم لا ينبغي للإنسان أن يجالسهم أو يطالع ما معهم إلا لمقصد شرعي. قال السيوطي في الإكليل: (في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين وأهل اللغو، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف، وأنه إذا ذكر عاد إلى التكليف، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه، ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات).

الخوض في آيات الله المقصود به: الخوض بالطعن والاستهزاء

الخوض في آيات الله المقصود به: الخوض بالطعن والاستهزاء وقال الرازي: (ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وكتابه) قال: لأن ذلك خوض في آيات الله، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية ويعني بهذه الآية قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] إلى آخر الآية الكريمة، فبعض هؤلاء استدلوا بأنها تنهى عن المناظرة في ذات الله تعالى وصفاته، باعتبار أن هذا خوض في آيات الله عز وجل، والجواب عن ذلك: أن المراد من الخوض في الآية الشروع في الطعن والاستهزاء، فسقط هذا الاستدلال والله تعالى أعلم. فالمقصود الخوض أي: بالطعن والاستهزاء، لكن الإنسان إذا تعلم مثلاً كيف يؤمن بأسماء الله عز وجل وصفاته، ويتعرف على قواعد السلف الصالح في ذلك فإن هذا ليس من الخوض، لأنه متعلم وطالب علم ومستفهم راغب في التعلم ومعرفة الحق من القرآن والسنة، فكيف يسمى هذا فوضى. وفي هذا أيضاً رد على ذلك الرجل الذي كتب في الأسبوع الماضي في جريدة الشعب، وجريدة الشعب حاولت أن تتنصل من جريمتها، وعملت مقدمة: أننا نرحب بالرأي والرأي الآخر -حتى يتقنون بذلك عدوانهم- ونحن ما نوافق الكاتب في الكلام الذي كتبه في هذه المقالة، وإنما نحن فقط ضد هؤلاء الناس الذين يشغلون المسلمين بالأمور الفرعية التافهة إلى آخر هذه الإسطوانة التي حفظناها. ثم كتب هذا الكاتب مقالة كلها ظلم وعدوان وتعد على السلفية، كان يسميها -فيما أظن- السلفية وقذائف التكفير، يعتبر أن السلفيين يقذفون الناس بقذائف التكفير، وهو سلاح تكفير العلماء والدعاة وغير ذلك، وحشا مقاله بالجهل وبالعدوان، وكان مما قاله: إن من ضمن المسائل التافهة أو القشور الفارغة التي يفرق بها السلفيون الأمة الكلام في القضايا الفرعية، مثل أسماء الله وصفاته إلخ. فالرجل لا يعرف ما هي الأصول وما هي الفروع، وكل الفرق -حتى الفرق الضالة- متفقة على أن قضية التوحيد والأسماء والصفات أصل الأصول في الدين، وأن معرفة الله سبحانه وتعالى هي أصل التوحيد، فكيف يدرجها في الفروع والقشور كما يزعم؟! والحقيقة أن المقالة لا تستحق الاهتمام بها؛ لأنها كانت مبنية على الظلم، وهي نفثه مصدور، أي الإنسان الذي في صدره شيء ويريد أن ينفس عنه فقط، ليس فيها أي علم ولا حتى شبهة تستحق الرد عليها، كلها شتائم وإلقاء الكلام جزافاً واصطياد في الماء العكر؛ لأن ما جاء به كان في الرد على إحدى المقالات في مجلة سلفية وهي تتكلم عن تصرفات بعض الشيوخ المشاهير المتعلقة بانحرافات في قضية التوحيد في الصوفية والقبورية وشيء من هذا، فلأن ذلك الشيخ كان مشهوراً جداً فهو أراد أن يعكر الماء أولاً ثم يصطاد فيه، ليبين أن السلفيين يكفرون الناس! ولا شك في أن المنهج السلفي أضبط المناهج في قضية التكفير، وهو أمر معلوم للجميع. فالشاهد أن معرفة صفات الله تعالى ونحو ذلك هذا ليس خوضاً في آيات الله، وإنما الخوض أن تنحرف عن منهج السلف بالتأويل والتمثيل والطعن والاستهزاء، هذا هو الخوض في آيات الله، أما أحد يتعلم -مثلاً- قضية القضاء والقدر، أو قضية أسماء الله وصفاته في ضوء فهم السلف الصالح وبالنقل عن العلماء والأئمة فهذا ليس من الخوض في شيء والله، تعالى أعلم.

ثمار الآية الكريمة

ثمار الآية الكريمة وثمرة هذه الآية أحكام: الأول: وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله، أن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة، وأذكر مجلساً من هذه المجالس قال فيه وزير التعليم لإخوانه الذين كانوا يجلسون إليه: لا تقلقوا من موضوع الجماعات الإسلامية، فأنا سوف أتولى هذا الأمر، فلن أوصل طالباً إلى الجامعة إلا إذا كان لا يفرق بين مسلم ومسيحي على حد تعبيره! فأين هو من آيات القرآن الكريم؟! وكان رجلاً صادق وعد، وبر في هذا المنهج المعادي للإسلام في مناهج التعليم ومحو الولاء لله ورسوله ومحو الإسلام من كل مراحل التعليم حتى المراحل المبكرة جداً، ونزع أي لفظ يزرع بذرة التدين في قلب هذا البرعم! فحسبنا الله ونعم الوكيل. لكن مهما أنفقوا ومهما أجهدوا أنفسهم في محاربة دين الله فلربما ينجحون لشهر أو شهرين أو لسنة أو سنتين، لكن الله سبحانه وتعالى سيحبط كيدهم قطعاً؛ لأنه مهما غير ومهما بدل ولو محا كلمة الله من كل كتب مدارس التربية والتعليم على المدى، ولو محا اسم الله واسم رسوله وأهلك كل شيء له علاقة بالدين فماذا سيفعل بالقرآن؟! نحن ضامنون أن القرآن سيبقى؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو المتكفل بحفظه، حيث قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فأمثال هؤلاء يقذف الله سبحانه وتعالى بهم في هذا الإلحاد والانحراف هو سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45] فكيف يظن أنه يكيد المسلمين ويكيد الله، والله سبحانه وتعالى سوف ينصر دينه ويبطل كيد أعداء هذا الدين مهما طال الأمد؟! فلا شك في أن العاقبة للمتقين وأن العاقبة للتقوى، فإذا كان وقف حياته على القضاء على الإسلام ومحو الاعتزاز بالإسلام والولاء له من قلوب الأجيال فإن غيره ممن كانوا أشد قوة واستكباراً في الأرض وحرباً لله ورسوله كانوا أولى بأن يفعلوا ذلك، لكن أطفأ الله نورهم، ولا يذكرون إلا باللعنة وبالدعاء عليهم من عباد الله سبحانه وتعالى، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يغار على أوليائه ويقول: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) فكيف بمن يعاديه هو عز وجل؟! فهو أولى بأن يبارزه الله بالحرب، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يخذل كل عدو لهذا الدين، وأن يخذلهم وأن يكيدهم كيداً ويرد كيدهم في نحورهم، فمثل هذا المجلس الذي قال فيه هذه الكلمة كان يجب على أي مسلم حضر أن يفارقهم، ولا يسمع مثل هذا الكلام. ففي الآية وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله وبحججه أو برسله، أن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة، وذلك لأن التكليف عام لنا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يجب الإعراض وترك الجلوس معهم إذا لم يطمع في قبولهم، فإذا انقطع طمعه فلا فائدة في دعائهم، ويجب القيام من مجالسهم إذا عرف أن قيامه سيكون سبباً في ترك الخوض، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف إذا كان وقوفه يوهم عدم الكراهة. الحكم الثاني: جواز مجالسة الكفار مع عدم الخوض، فكما أنه يجب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله سبحانه وتعالى فإنه يجوز أن يجالس الكفار مع عدم الخوض؛ لأنه إنما أمر بالإعراض مع الخوض، وأيضاً قال تعالى: {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:140] إلى هذه الغاية، يعني: إذا خاضوا في حديث آخر غير حديث الاستهزاء فإنه يزول التحريم هنا، والآية تدل -أيضاً- على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة إذا أظهروا المنكرات، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض، كما إذا كان للتذكير، فيمكن أن تجالس الظلمة والفسقة حتى الكافرين إذا كان ذلك بهدف التذكير بآيات الله، ودعوتهم إلى التوحيد وإلى الإسلام وإلى الاستقامة، أو إنكار المنكر. وفي الآية -أيضاً- دلالة على وجوب الإنكار؛ لأن الإعراض إنكار. قال: وتدل على أن التقية من الأنبياء بإظهارهم المنكر لا تجوز يعني أن الأنبياء وأئمة الدين لا يجوز لهم التقية؛ لأن هؤلاء إذا مارسوا التقية -وهم قدوة للبشر- فسوف يلتبس الحق بالباطل على الناس، وإنما يترخص من دونهم في التقية كما ذكرنا، خلافاً للإمامية؛ لأن الإمامية يجوزون على الأئمة الاثنى عشر التقية كما هو معروف. كذلك الآية تدل على جواز النسيان على الأنبياء؛ لأن المخاطب في الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحكام الآية أن الناسي مرفوع عنه الحرج، وأن النسيان سببه وسوسة الشيطان والإعراض عن الذكر.

تفسير قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون)

تفسير قوله تعالى: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون) يقول تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:69]. يعني: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء عما يحاسبون عليه من خوضهم (ولكن ذكرى) يعني: أمروا بالإعراض عنهم ليكون ذكرى لضعفاء المسلمين، لئلا يقع شيء من مطاعن المستهزئين في قلوبهم (لعلهم يتقون) أي: يبلغون مبلغ التوقي من شبهاتهم بالجلوس مع علمائه بدلهم. فالمقصود من الآية أن أهل الخوض إذا جالسهم المتقون فليس عليهم شيء مما يحاسبون عليه من خوضهم (ولكن ذكرى) أي: لكن أمر المتقون بالإعراض خشية أنهم إذا لم يعرضوا فسيكون في ذلك فتنة لضعفاء المسلمين قليلي العلم أو ضعيفي الإيمان، فيجالسونهم اقتداء بهم، ومن ثم فربما وقع في قلوب بعضهم شيء من مطاعن هؤلاء المستهزئين. وقيل في تفسيرها: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى) يعني: على المتقين إذا سمعوا خوضهم أن يذكروهم بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم. وقد يستدل بهذه الآية (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون) على أن من جالس أهل المنكر وهو غير راض بفعلهم فلا إثم عليه، لكن آية النساء تدل على أنه آثم ما لم يفارقهم، فإذا كان قادراً على أن يفارقهم وجب عليه أن يفارقهم، وإذا بقي في المجلس دون أن يفارقهم وهو يقول: أنا غير راض وأنا كاره لفعلهم فإنه يبقى آثماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140] يعني: إن قعدتم فإنكم مثلهم {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140] أي: إن قعدتم فأنتم مثلهم في الإثم، لكن هي في حق المؤمن تكون إثماً، أما في حق الكافر فهي كفر، فالمثلية في مطلق المخالفة. والمناظرات ينبغي أن تكون مغلقة وليست مفتوحة؛ لأنه لا يؤمن -أولاً- أن يطلق أحد من رءوس الكفر شبهة واضحة، فيعجز المناظر عن أن يرد عليه؛ لأنه بشر ربما غاب عنه الجواب، فينتهزها هذا الخبيث فرصة، وقد يأتي الجواب ضعيفاً، فتعلق بعض الشبهات بقلوب المستمعين من العوام أو من ضعفاء القلوب وضعفاء الإيمان، فيؤثر في إيمانهم، فالمفروض في المناظرة أن يحضرها من هو متسلح بالعلم وبالإيمان وباليقين، دون أن يحضرها عوام الناس، والله تعالى أعلم. أما المناظرات التي يحضرها الغربيون فليس على بالهم إسلام ولا نصرانية، وإنما كما يقال في الكرة: لا ندري من نشجع فالواحد منهم يراها كأي مسرحية، فقد تجدهم أحياناً -وهم كفرة- يصفقون لـ ديدات تصفيقاً شديداً جداً، ومتى تحولوا إلى الإسلام؟! فهذا يتكلم بطريقة جيدة فيشجعه، والثاني يرد في المرة الثانية فيشجعه! فالموضوع لا يأخذونه بمأخذ الجد.

تفسير قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا)

تفسير قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً) ثم يقول تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70]. قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم) أي: الدين الذي كلفوا أن يدخلوا فيه فلو قيل: كيف يقال: (دينهم) وهم لم يدخلوا في الدين أصلاً؟ وكيف نسب إلى الكفار الدين وهو الإسلام؟! فالجواب أن المقصود هو الدين الذي دعوا إليه، والذي كلفوا أن يدخلوا فيه، وليس المقصود بذلك أنهم أسلموا، لكن نسب إليهم لأنهم دعوا إليه وكلفوه. وقوله: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً) حيث بخلوا به واستهزءوا به. (وغرتهم الحياة الدنيا) أي: اطمأنوا بها، وزعموا أن لا حياة بعدها أبداً، وأن السعادة في لذاتها، فـ (ذرهم) يعني: أعرض عنهم ودعهم، ولا تبال بتكذيبهم، وأمهلهم قليلاً، فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم. قال تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام:70]. قوله تعالى: (وذكر به) أي: ذكر الناس بهذا القرآن. وقوله: (أن تبسل نفس بما كسبت) أي: مخافة أن تبسل. يعني: تسلم إلى الهلاك وترتهن بسوء كسبها وغرورها بإنكار الآخرة، يقال: أبسله لكذا أي: عرضه له ورهنه، أو أسلمه للهلكة. وقوله: (ليس لها من دون الله ولي) يعني: ينصرها بالقوة (ولا شفيع) أي: يدفع عنها بالمسالمة (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) يعني: وإن تفدي كل نوع من أنواع الفداء بما يقابل العذاب لا يقبل منها؛ لبعدهم عن مقام الفداء، والعدل: الفدية؛ لأن الفادي يعدل المفدى بمثله (أولئك) يعني: أولئك الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً (الذين أبسلوا) يعني: سلموا للهلاك بحيث لا يعارضه شيء (بما كسبوا) يعني: بهذا الاغترار من إنكار الآخرة والانهماك في الشهوات المحرمة. وقوله: (لهم شراب من حميم) أي: من ماء مغلي يتجرجر في بطونهم، وتتقطع به أمعائهم، فمعنى (حميم): الماء الذي انتهى غليه، (وعذاب أليم) أي: بنار تشتعل بأبدانهم (بما كانوا يكفرون) أي: بسبب كفرهم.

تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا لنسلم لرب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا لنسلم لرب العالمين) قال تبارك وتعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]. قوله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) أي: أنعبد من دون الله ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه، ولا على ضرنا إن تركناه.

الأنعام [80 - 94]

تفسير سورة الأنعام [80 - 94]

تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان)

تفسير قوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان) قال تبارك وتعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام:80]. قوله تعالى: (وحاجَّه قومه) أي: جادلوه وأرادوا مغالبته بالحجة فيما ذهب إليه من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه تارةً بأدلة فاسدة واقفة في حضيض التقليد، وأخرى بالتخويف، وقد أشير إلى جواب كل منهما. (قال: أتحاجوني في الله وقد هدان) يعني: أتجادلونني في توحيد الله تعالى (وقد هدان) لإقامة الحجج ورفع الشبه عن نفي إلهية ما سواه، وقد ثبت أنها -أي: هذه الآلهة التي تعبدون من دون الله- ناقصة في ذواتها، فكمالاتها من غيرها، ولا إلهية للناقص المفتقر بذاته، والناقص المحتاج إلى غيره لا يمكن أن يكون إلهاً؛ لأن كماله لا يكون مطلقاً. وقال: (أتحاجوني في الله وقد هدان) بتشديد الجيم والنون، أي: بإدغام نون الجمع في نون الوقاية؛ لأن أصلها: (أتحاجونني) فنون الجمع أدغمت مع نون الوقاية، فصارت نوناً مشددة (أتحاجونِّي) وقرئ بحذف الأولى. وقوله تعالى: (ولا أخاف ما تشركون به) أي: لا أخاف معبوداتكم؛ لأنها جمادات لا تضر بنفسها ولا تنفع. وهو جواب عما خوفوه عليه الصلاة والسلام به في أثناء المحاجة من إصابة مكروه من جهة أصنامهم، وهذا هو حال الذين تدعوهم إلى توحيد الله وتبطل لهم بالأدلة عبادة غير الله عز وجل وإلاهية غير الله، فيقولون كما قال قوم هود لهود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] فهم -أيضاً- هنا خوفوا إبراهيم عليه السلام بأن هذه الآلهة إذا كنت تحذر منها ومن عبادتها فإنها قد تنتقم منك أو قد تؤذيك. وهذا كما يحصل في زمننا هذا، فإذا دعوت رجلاً إلى التوحيد ونبذ عبادة القبور والأولياء والأضرحة وغير ذلك فإنه يحذرك من أن هؤلاء الأولياء سيصيبونك بكذا أو كذا، أو يصيبك الجنون، أو تختطف إلى صحراء لا تجد فيها أحداً، إلى غير ذلك من الأساطير التي تقال في مثل هذا الزمان، وكلها تخرج من هذا النبع الواحد، وهو تخويف الموحد الذي يدعوهم إلى التوحيد بآلهتهم، كقول قوم هود: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]. وهذا التخويف وإن لم يسبق له ذكر لكنه فُهم، أي: لم يرد في الآيات السابقة ذكر أنهم خوفوه بآلهتهم، ولكن يفهم وقوع هذا التخويف من قول إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام:80] يعني: هذه الآلهة وهؤلاء الشركاء الذين تخوفونني بهم أنا لا أخاف منهم، ولا أخاف ما تشركون به. قال ابن كثير: أي: ومن الدليل على بطلان قولكم أن هذه المعبودات لا تؤثر شيئاً. يعني أن عجزها عن أن تنفع أو تضر هو أحد الأدلة على بطلان إلهيتها، فكيف أخافها؟! وإذا كان أحد الأدلة التي اعتمدت عليها في إبطال إلهيتها من دون الله هو أنها لا تستطيع أن تنفع ولا تضر لا نفسها ولا غيرها، ولا تؤثر شيئاً فلذلك لا أخافها، ولا أبالي بها مهما خوفتموني بها، فإن كان لها كيد فيكدوني بها ثم لا تنظرون. يعني: إن كانت تستطيع فعلاً أن تكيدني فهيا حرضوها على أن تفعل ذلك، ولا تؤجلوني، بل قوموا بدعوتها إلى الانتقام مني إن كانت تستطيع. ولا شك في أن هذا القول قول صاحب اليقين القوي الراسخ فيما يعتقده من إيمان ومن توحيد. ثم قال عليه السلام: (إلا أن يشاء ربي شيئاً) يعني: من إصابة مكروه بي من جهتها. يعني: لو فرضنا جدلاً أنه أصابني مكروه من جهتها فإنه ليس هذا بفعلها ولا بتغييرها ولا يد لها في ذلك، وإنما سيكون هذا من جهة الله تبارك وتعالى، ولا يد لمعبوداتكم في هذا الضرر أصلاً. فهو في الحقيقة لم يخف إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الخوف الذي أثبته هنا معلق بمشيئة الله وقدرته، فهو كَلاَ خوف منها، فما دام الخوف هو أن يحصل شيء بإذن الله وبإرادة الله فهو يساوي أنه لا خوف من هذه الآلهة وهذه الأصنام. وقوله: (وسع ربي كل شيء علماً) كأن هذا هو علة الاستثناء الذي ورد في قوله: (إلا أن يشاء ربي شيئاً) يعني: أحاط الله بكل شيء علماً، فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال الخوف بي من جهتها؛ لأنه إذا أحيل شيء إلى علم الله أشعر بجواز وقوعه، وهنا إظهار في موقع الإضمار، وهو قوله: (وسع ربي كل شيء علماً) ولم يقل: (وسع كل شيء علماً) ليكون الفاعل ضميراً مستتراً يعود إلى لفظ الجلالة، ولكن كرر وأظهر الضمير فقال: (وسع ربي كل شيء علماً) وكذلك -أيضاً- تعرض لعنوان الربوبية بقوله: (ربي) إظهاراً منه عليه السلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلامه لأمره واعترافه بكونه تحت ملكه وربوبيته. وقوله: (أفلا تتذكرون)، يعني: أفلا تعتبرون بأن هذه المعبودات جمادات لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السموات والأرض.

تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله)

تفسير قوله تعالى: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) قال تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]. قوله: (وكيف أخاف ما أشركتم) يعني: كيف أخاف معبوداتكم وهي مأمونة الخوف؟! وذلك بعدما وضح أنها لا تقدر على أن تضره، ولا أن تنفعه، ولا تنتصر لنفسها، ولا تستطيع أن تكيده، وتحداهم بهذا الذي قاله من قبل، فبيَّن قائلاً: (وكيف أخاف) أي: كيف يتسنى لي أن أخاف (ما أشركتم) من هذه الآلهة التي هي عاجزة وقاصرة عن أن تضرني وهي مأمولة الخوف؟! وقوله: (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً) قوله: (ما لم ينزل به) الهاء تعود إلى الإشراك، يعني: ما لم ينزل بإشراكه سلطاناً. و (سلطاناً) هنا بمعنى: حجة. وهذا هو المعروف من أن السلطان في القرآن إذا ورد فالمراد به العلم أو الحجة. فقوله: (ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به) أي: بإشراكه (عليكم سلطاناً) أي: حجة؛ إذ الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، والمعنى: ما لكم تنكرون عليَّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع أعظم المخوفات وأهولها؟! وكيف تنكرون عليَّ أني آمن من تهديداتكم بأن تنالني آلهتكم بسوء، وهذا هو موضع أمن في الحقيقة؟! لأنها لا تستطيع أن تسوءني، فلذلك أنا آمن وليس في قلبي أي خوف من أن تصيبني هذه الآلهة بأي شر. وقوله: (وكيف أخاف ما أشركتم) يعني: من معبوداتكم وهي مأمونة الخوف، ولا تستطيع أن تنالني بسوء. وقوله: (ولا تخافون أنكم) يعني: ولا تنكرون على أنفسكم الأمن مع أنكم تأتون بأعظم موجب من موجبات الخوف والهول، وهو الإشراك. وقوله: (فأي الفريقين) أي: أي فريقي الموحدين والمشركين (أحق بالأمن) يعني: من أحق بالأمن من لحوق الضرر (إن كنتم تعلمون)؟! أهو الذي يعبد الله سبحانه وتعالى الذي هو النافع الضار الذي وسع كل شيء علماً، والذي يملك مقاليد السموات والأرض وهو القاهر فوق عباده، الذي أوعدهم على الشرك بأشد النكال وأشد العذاب، فهو قادر على أن ينفذ وعيده، أم الذي يعبد هذه الآلهة التي تخوفونني بها وهي لا تملك لنفسها -فضلاً عن غيرها- نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟! فلذلك قال: (فأي الفريقين) من الموحدين والمشركين أحق وأجدر وأقدم بالأمن من لحوق الضرر (إن كنتم تعلمون) أي: تعلمون ما يحق أن يخاف منه، أو من أحق بالأمن، أو (إن كنتم تعلمون) يعني: إن كنتم من أولي العلم. وجواب الشرط محذوف تقديره: (فأخبروني) أو: إن كنتم من أولي العلم فأخبروني.

تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)

تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ثم بيَّن تعالى من له الأمن جواباً عما استفهم عنه الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى على هذا السؤال الذي سأله الخليل عليه السلام فقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي: بشرك، كما يفعله الفريق المشركون؛ حيث يزعمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل، وأن عبادتهم للأصنام من تتمات إيمانهم وإحسانهم لأجل التقريب والشفاعة، كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وهذه نفس الحجة التي تذكر الآن في هذا الزمان على ألسنة من يدعون الإسلام ويعبدون الأضرحة والمقامات والموتى من دون الله سبحانه وتعالى، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن نحن نتوسل بهم إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يقربوننا إلى الله، وأما نحن فبذنوبنا ومعاصينا وتقصيرنا لا يليق بنا أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ فلابد من واسطة بيننا وبين الله عز وجل، وهذه الواسطة هم هؤلاء الأولياء أو الملائكة أو الجن أو غير ذلك مما عبد من دون الله سبحانه وتعالى. وأصحاب الهياكل أو أصحاب الأشخاص لم يقولوا: نحن نعبد الهياكل التي هي أجرام الكواكب نفسها، ولا الأشخاص الذين صوروهم، إنما قالوا: نحن نستغلها كي تذكرنا بعبادة الله، وتتوسط بيننا وبين الله، وهذا هو كما يقول عباد القبور والأضرحة في هذا الزمان إذا قامت عليهم الحجة، ترى أحدهم يقول: نحن ما نعبدهم، لكن هؤلاء يقربوننا إلى الله، وهم وسائط وشفعاء -والعياذ بالله- إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الظلم الذي لابسوا إيمانهم به، وهو المقصود بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، فالموحدون لا يشوبون إيمانهم بشرك كحال هؤلاء الفريق الآخر الذين يلبسون إيمانهم بالشرك، حيث يزعمون أن هذه الأصنام تقربهم إلى الله زلفى. وقوله: (أولئك لهم الأمن) يعني: يوم القيامة (وهم مهتدون) أي: إلى الحق. وقوله: (وهم مهتدون) مبتدأ وخبر، ومعناه حصر للهداية في هؤلاء الموحدين، يعني: هم المهتدون لا غيرهم، ومن عداهم في ضلال. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال أصحابه صلى الله عليه وسلم: وأينا لم يظلم نفسه -فهموا أن الظلم هنا معناه المعاصي-؟ فنزلت: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13])، وهذا لفظ رواية البخاري، ولفظ رواية الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] إنما هو الشرك)، فهذه الرواية توضح رواية البخاري السابقة عن ابن مسعود التي قال فيها فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] من جهة أن النزول يراد به تفسير الآية أحياناً، فيقال -مثلاً-: هذه الآية نزلت في كذا. والمقصود أن هذه الآية تفسر هذا الموقف أو هذا الكلام، لا أنه كان سبب نزولها بالفعل، وهذا من الاصطلاحات الدقيقة للصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم، ورحمهم الله أجمعين. فحينما يقول: نزلت الآية في كذا يعني: أن حكم الآية يدخل في هذا الموضوع المتكلم فيه، لا أنها نزلت فيه بالفعل، فالنزول هنا يراد به التفسير، فكلام ابن مسعود حين قال: (لما نزلت: ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان:13]) هل المقصود منه أنها نزلت بالفعل؟ A لا؛ لأن هذه الآية كانت نزلت قبلها، وهي في سورة لقمان، فمعنى قول ابن مسعود: (فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]) فيراد بسبب النزول هنا تفسير الآية، لا أنه بالفعل سبب نزولها، لسبب بديهي جداً، وهو أن آية لقمان كان نزولها من قبل. ولـ ابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً: ((وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) قال: بشرك. وقد نقل ذلك عن جملة كبيرة جداً من الصحابة والتابعين، فلا يُعلم مخالف من الصحابة والتابعين في تفسير الظلم هنا بالشرك، وذلك في قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) يعني: بشرك، وقوفاً مع الحديث الصحيح في ذلك؛ لأن هذا الحديث بين أن الآيات القرآنية يوضح بعضها ما أبهم في بعض. وحصل نوع من اللبس عند الصحابة في أن الظلم يعم المعاصي فضلاً عن الشرك، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم في هذه الآية خاصة يقصد به الظلم الأكبر الذي هو الشرك في قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ففسَّر القرآن بالقرآن، وحيث صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفسير فلا يجوز النظر في غيره إذا خالفه، وأي تفسير يخالف ما ثبت عن المعصوم عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الأخذ به أو النظر فيه. فمتى ما صح الحديث في تفسير آية فيجب أن نصير إلى هذا التفسير، فلو قيل: لا يلزم من قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} أن غير الشرك لا يكون ظلماً! أي: قد يقول قائل: إن قوله تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))، هل معناه أن غير الشرك لا يكون ظلماً؟ فيجاب بأن التنوين في كلمة (بظلمٍ) للتعظيم، يعني أن أعظم الظلم وأخطر الظلم وأكثر الظلم هو الشرك، فالتنوين هنا للتعظيم، فهذا التعظيم أشار إلى نوع خاص من الظلم وهو الشرك، فكأنه قيل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم) وهذا الظلم العظيم هو المشار إليه في قوله تعالى: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد (لم يلبسوا إيمانهم بشرك)، أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده. وسياق الآية يؤكد أن هذا هو المقصود، فقوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) يعني: بالشرك الذي هو الظلم العظيم؛ لأن هذه القصة هي قصة إبراهيم عليه السلام من أولها إلى آخرها، وهي إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد، وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات، فوجب حمل الظلم هاهنا على ذلك، إذ كل سياق القصة في قضايا التوحيد وإبطال ألوهية ما عدا الله سبحانه وتعالى، وليس فيها أحكام شرعية، ولا فيها طاعات ولا عبادات، حتى يقال: إنه يحتمل أن الظلم هنا يقصد به المعاصي، وإنما كله في هذا السياق. يقول القاسمي: حيث علم أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فسر الآيات بما تقدم فليعض عليه بالنواجذ، وأما ما هذى به الزمخشري من قوله في تفسير الآية: أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر فإن هذا الكلام مدفوع. يعني أن الزمخشري معتزلي، وعدو لدود من أعداء أهل السنة والجماعة، وهو مع براعته في بلاغة القرآن وفي إظهار إعجاز القرآن البلاغي، لكنه -للأسف الشديد- تلبَّس بهذه البدعة الغليظة، وهي مذهب الاعتزال، ولا يخلو تفسيره -مع نفاسته في باب البلاغة والإعجاز- من محاولة ليّ أعناق بعض الآيات حتى توافق مذهب المعتزلة، فلذلك تصدى له الإمام ناصر الدين في كتابه (الانتصاف) وكشف عورات مذهبه الاعتزالي، وأبان عن وجه الحقيقة فيما دسه الزمخشري من تفاسير أو آراء يحاول بها أن يطوع آيات القرآن لتصحيح مذهبه، ففي مثل هذه المواضع الحساسة تجد الزمخشري يضل ضلالاً مبيناً في تفسير الآيات، فمع وضوح الحديث -وهو متفق عليه- تعين تفسير الظلم هنا بأنه الشرك الأكبر الذي هو الظلم العظيم، إلا أنه أبى ذلك، وقال: لو فسرنا الظلم بالشرك العظيم أو بالشرك الأكبر فكيف يكون عنده الإيمان ويختلط بالشرك؟ وهل الشرك أو الكفر يجامع الإيمان؟! وفسرها بقوله: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر؛ لأن لبس الإيمان بالشرك مما لا يتصور، لأنهما ضدان لا يجتمعان على زعمه! وهذا الكلام مدفوع بأن الشرك يلابس الإيمان، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ويقال له كما قال الله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِ} [البقرة:85] ولا شك أن تخصيص الأمان بغير العصاة لا يوجب كون العصاة معذبين البتة، بل خائفين ذلك متوقعين له. وفي (الانتصاف): إنما يروم الزمخشري بذلك تنزيله على معتقده في وجوب وعيد العصاة، وأنهم لا حظ لهم في الأمن، يعني أن العصاة مثل الكفار والمشركين في أنه لا حظ لهم في الأمن المذكور في قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) ويجعل هذه الآية تقتضي تخصيص الأمن بالجامعين بين الأمرين. يعني أن الأمن لا يكون إلا لمن جمع بين أمرين: الإيمان والبراءة من المعاصي، بأن يكون مؤمناً الإيمان الذي ينافي الشرك، وبريئاً من المعاصي، ونحن نسلم ذلك، ولا يلزم أن يكون الخوف اللاحق للعصاة هو الخوف اللاحق للكفار؛ لأن العصاة من المؤمنين إنما يخافون من هذا العذاب المؤقت، فإذا كانوا موحدين وماتوا على معاصٍ لم يتوبوا

تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)

تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) قال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83]. قوله: (وتلك) الإشارة إلى الدلائل المشار إليها، وهي الدلائل السابقة التي استدل بها إبراهيم عليه السلام وحاج بها قومه، من قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74] إلى قوله تبارك وتعالى هنا: (وتلك حجتنا آتيناها) ومعنى (حجتنا) أي: التي لا يمكن نقضها، وهي حجة التوحيد، ودلائل التوحيد لا يستطيع أحد أبداً أن يهزمها. قوله: (آتيناها إبراهيم) يعني: أرشدناه عليه السلام إليها، وعلمناه إياها بلا واسطة معلم، بل هو تعليم مباشر من الله سبحانه وتعالى. قوله: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) أي: آتيناه حجة ودليلاً على قومه الكثيرين ليغلب وحده. يعني أن قومه كانوا كثيرين ومجموعة كبيرة من عباد الأصنام، وهو وحده، فانظر إلى الإبداع في هذا التعبير (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم) أي: وحده في مواجهة كل قومه، ومع ذلك غلبهم عليه السلام بهذه الحجة الناصعة. وقوله: (نرفع درجات من نشاء) يمتن الله سبحانه وتعالى على إبراهيم عليه السلام بأنه رفعه بالعلم والحكمة، وهذا على قراءة (نرفع درجاتِ من نشاء) وهناك قراءة أخرى: (نرفع درجاتٍ من نشاء). وقوله: (إن ربك حكيم) يعني: في رفعه وقبضه (عليم) بحال من يرفعه واستعداده له.

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا)

تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا) قال تبارك وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84]. قوله: (ووهبنا له) أي: لإبراهيم عليه السلام. لأن إبراهيم صار غريباً في قومه، ومحارباً من قومه أجمعين، فعوضه الله سبحانه وتعالى عن قومه الذين نبذوه العداء، ومن أجل ذلك اعتزلهم وما يعبدون من دون الله، فاعتزلهم لوجه الله، فامتن الله عليه سبحانه وتعالى بالتعويض؛ لأنه ما ترك أحد شيئاً لله إلا عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه، فلما اعتزل قومه ونبذهم لأجل الله عوضه الله سبحانه وتعالى بأن وهبه عِوضاً عن قومه لما اعتزلهم وما يعبدون. وقوله: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) يعني: وهبنا له ولداً وولدَ ولدٍ، فالولد هو إسحاق، وولد ولد هو يعقوب، لتقر عينه ببقاء العقب، وأن عقبه ونسله امتدوا وانتشروا. وقوله: (كلاً هدينا) أي: كلاً منهما هديناه الهداية الكبرى بلحوقهما بدرجة أبيهما في النبوة، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49]. قال ابن كثير: يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، وذلك بعد أن طعن في السن وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، كما قال تعالى عنها: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:72 - 73]. فبشروهما فتعجبا، وبشروهما مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلاً وعقباً، كما قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112] يعني: لم يبشره فقط بأنه سيرزق بإسحاق ولداً ثم سيرزق ولدَ ولدٍ، وهو يعقوب عليه السلام، وإنما بشر -أيضاً- بأنه يكون نبياً من الصالحين، وسبق أن بينا أن وصف الأنبياء بالصلاح يكون مدحاً لمرتبة الصلاح، وكذلك وصف الأنبياء بالإسلام؛ لأنه لو كان المدح هنا لصفة الأنبياء أنفسهم لاستووا مع عوام أمتهم، لكن المقصود هنا مدح صفة الإسلام والصلاح؛ حيث يتصف بها الأنبياء عليهم السلام. فقال تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين) وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة، وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. ولا شك في أن هذه الجملة من الآيات فيها دليل واضح على أن الذبيح كان إسماعيل ولم يكن إسحاق؛ لأنه لا معنى للابتلاء بذبح إسحاق وقد ضَمن أبوه أنه سيعيش ويولد له أولاد؛ لأنه قبل أن يولد إسحاق بُشِّر إبراهيم عليه السلام بإسحاق وبولد ولده يعقوب بن إسحاق، ولا معنى لأن يكون الذبيح هو إسحاق، فإذا كان من المضمون -والوعد أتاه من الله، ووعد الله لا يخلف- أن إسحاق سيعيش ويكبر حتى ينجب ولداً فهل يصح أن يكون الذبيح -وهو صبي صغير- إسحاق عليه السلام؟! A لا يمكن ذلك، لكن اليهود -لعنهم الله- حنقاً على أهل الإسلام وأهل التوحيد من نسل إسماعيل عليه السلام يأبون الاعتراف بهذه الحقيقة، ويحاولون أن يحتجروا هذا الشرف بأن ينسبوا موضوع الذبيح إلى إسحاق عليه السلام. وقوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، وإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يُتوهم أنه لا يعقد لضعفه قالت: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} [هود:72] فربما يقع احتمال أن من يُنجب بعد هذا السن الكبير يكون عقيماً لا يولد له، فلذلك وقعت البشارة به وبولد اسمه يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكانت هذه المجازاة لإبراهيم عليه السلام لأنه اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم، وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله عز وجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقر بهم عينه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:49]. ثم قال تعالى: ((وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ)) يعني: ونوحاً هديناه من قبلك كما هديناك. وعُدَّ هداه نعمةً على إبراهيم من حيث إنه أبوه، وشرف الوالد يتعدى إلى الولد؛ لأن نوحاً عليه السلام هو الأب الثاني للبشرية، قال ابن كثير: كل منهما له خصوصيات عظيمة، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به -وهم الذين صحبوه في السفينة- جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم إنما كانوا من ذرية نوح عليه السلام أبي البشرية الثاني. وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عز وجل بعده نبياً إلا من ذريته، يعني: إذا كان كل البشر بعد نوح من ذريته فهذه صفة عامة، وإبراهيم عليه السلام كل الأنبياء بعده هم من ذريته عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، وهذا مقطوع به، فلم يبعث نبي بعد إبراهيم إلا وهو من ذريته، سواء أكان من نسل إسحاق، وهو يعقوب ومن بعده إلى آخر أنبياء بني إسرائيل، أم من نسل إسماعيل عليه السلام، وهو سيد الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاهما من ذرية إبراهيم. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [مريم:58]، ثم قال: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} [مريم:58]، وقوله: (وهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته) يحتمل أن تكون الهاء عائدة على نوح أو على إبراهيم عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (وزكريا ويحيى فضلنا على العالمين)

تفسير قوله تعالى: (وزكريا ويحيى فضلنا على العالمين) ثم قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:85 - 86]. اعلم أن المقصود من هذه الآيات وما قبلها وما يلحقها تعديد نعم الله تعالى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام جزاء اعتزاله قومه وما يعبدون، وقيامه بنصرة التوحيد ودحض الشرك، فذكر تعالى أولاً أنه رفع درجته بإيتائه الحجة على قومه وتخصيصه بها، ثم جعله عزيزاً في الدنيا حسباً ونسباً، أصلاً وفرعاً؛ أصلاً لأنه تولد من نوح أول المرسلين برسالة عامة، ووهبت له الذرية الطاهرة أنبياء البشر، ولذا ذهب الأكثرون إلى أن الضمير في قوله: (ومن ذريته) يعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن مساق اللفظ لبيان شئونه العظيمة، فأكثر المفسرين على أن الهاء تعود على إبراهيم عليه السلام؛ لأن سياق الآيات قبلها وبعدها هو في بيان رفعة شأن ومنزلة خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولأن مساق النظم لبيان شئونه العظيمة، فكأنه قيل: ولم نزل نرفع درجاته بعد ذلك؛ إذ هدينا من ذريته داود وسليمان إلى آخره. فهو المقصود بالذكر في هذه الآيات، وذكر نوح عليه السلام لأن إبراهيم أحد أولاده، وكونه أحد أولاده يكون هذا من موجبات رفعته، وهذا حتى يبين الله سبحانه وتعالى رفعة شأن إبراهيم عليه السلام أصلاً وفرعاً، فذكر نوح ليبين رفعة أصله، وأنه من ذرية نوح عليه السلام. والغاية هي إلزام من ينتمي إليه من المشركين، وإقامة الحجة على المشركين ومحاجتهم؛ لأنه يريد أن يلزمهم، يعني: أنتم -أيها المشركون، أو أيها العرب- تنتمون إلى إبراهيم عليه السلام، وتنتسبون إلى ملة إبراهيم عليه السلام، فهذا هو إبراهيم عليه السلام الذي كان على خلاف ما أنتم عليه من اتخاذ الأنداد والشركاء، ولا يقال: إن لوطاً ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه، فإن القرآن نزل بلغة العرب، والعرب تجعل العمَّ أباً، كما أخبر تعالى عن أبناء يعقوب عليه السلام أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} [البقرة:133]، مع أن إسماعيل عم يعقوب، لكنه دخل في آبائه تغليباً. وقال محيي السنة الإمام البغوي رحمه الله تعالى: (ومن ذريته) أي: ذرية نوح عليه السلام، ولم يرد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر في جملتهم يونس، وكان من الأسباط في زمن شعياء، أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى من الموصل. وقال: إن لوطاً عليه السلام كان ابن أخي إبراهيم عليه السلام، آمن بإبراهيم وخرج معه مهاجراً إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم. ومن قال: الضمير يعود إلى إبراهيم يقدر الكلام: (ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان هدينا)، لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر، وذكر نوح لتعظيم إبراهيم، ولذلك قاسم بيونس ولوط، وجعلهما معطوفين على قوله تعالى: (نوحاً هدينا) من عطف الجملة على الجملة، فكأن إدخال لوط هو على سبيل التغليب، أي: أنه من ذرية أخيه، فذكر على سبيل التغليب؛ لأن من ذكر من الأنبياء هم من ذريته عليه السلام. وبالجملة فالآية المذكورة من المنن على إبراهيم على كلا الوجهين؛ لأن شرف الذرية وشرف الأقارب شرف، لكنه على الأول أظهر، ويكون في هذا تطرية في المدح لإبراهيم عليه السلام بالعود إليه مرةً بعد أخرى. قال الحافظ ابن كثير في ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم: هذا فيه دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل؛ لأن عيسى لا أب له، ومع ذلك ذكر أنه من ذرية إبراهيم أو نوح، ولا تعارض. فدل هذا على دخول ذرية البنات في ذرية الرجل؛ لأن انتساب عيسى ليس إلا من جهة أمه مريم عليها السلام، وقد روى ابن أبي حاتم أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، هل تجده في كتاب الله؟ وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده، قال: أليس تقرأ سورة الأنعام (ومن ذريته داود وسليمان) حتى بلغ: (يحيى وعيسى)؟! قال: بلى. قال: أليس -يعني: عيسى- من ذرية إبراهيم وليس له أب؟! قال: صدقت. فما ثمرة هذه المسألة؟ ثمرتها أن ذرية الرجل يدخل فيها بناته، فإذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه، أو وقف على بنيه دون ذريته فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه، وبنو بنيه، أي: أولاده الذكور وأولاد أولاده بنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم، بما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) فسماه ابناً، فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز. وعلى أي الأحوال فالمسألة مختلف فيها، والقائل بها استدل بهذه الآية وآية المباهلة. وآية المباهلة هي قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الحسن والحسين ليطبق قوله تعالى: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فدل على أنه اعتبر الحسن والحسين -مع أنهما من ذرية بنته فاطمة عليها السلام- من أبنائه، فهذا -أيضاً- يؤيد ذلك. والقائل بهذا الكلام الذي ذكرناه استدل بهذه الآية هنا، وهو ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح، وهو لا يمت إليهما إلا من طريق الأم؛ لأنه لا أب له، وكذلك في آية المباهلة، حيث قال تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61]، فجمع الحسن والحسين بعد ما نزلت هذه الآية، إلا إذا قيل: إن من خصائصه عليه الصلاة والسلام أن أولاد بنته هم من ذريته. ولم يذكر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، كما هو ظاهر من الآية هنا، فإنه تعالى قال: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)) ولم يقل: وإسماعيل. وإنما ذكر إسماعيل بعد ذلك في قوله: ((وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا))، وإنما أخر ذكره لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب، وأما إسماعيل فلم يخرج من صلبه من الأنبياء إلا خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم، ولا يقتضي المقام ذكره صلى الله عليه وآله وسلم. وإبراهيم لما ترك قومه وما يعبدون إلى عبادة الله وحده رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا، ومنها إيتاؤه أولاداً أنبياء. واعلم أنه تعالى ذكر هنا ثمانية عشر نبياً من الأنبياء عليهم السلام من غير ترتيب، لا بحسب الزمان ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، لكن هنا لطيفة في هذا الترتيب، وهي أن الله تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بنوع من الكرامة والفضل، فذكر أولاً نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأنهم أصول الأنبياء، وإليهم ترجع أنسابهم جميعاً. فذكر في أول السياق هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، أعني نوحاً وإبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ لأن هؤلاء هم أصول الأنبياء، ولا شك في أن نوحاً أصل هذه الأصول كلها، وإبراهيم خرج منه هؤلاء الأنبياء، خاصة أنبياء بني إسرائيل؛ لأنهم الأكثرون، والسياق فيه الامتنان على إبراهيم بكثرة الأنبياء في ذريته، وهذا إنما أتى من إسحاق ويعقوب وذريتهما. ثم من المراتب المعتبرة بعد النبوة الملك والقدرة والسلطان، فبعد النبوة هناك مرتبة الملك والقدرة والسلطان، وقد أعطى الله داود وسليمان من ذلك حظاً وافراً، فلذلك قال تبارك وتعالى بعد ذلك: (وسليمان وأيوب) إلى آخره. ومن المراتب الصبر عند نزول البلاء والمحن والشدائد، وقد خص الله بهذه أيوب عليه السلام، ومن المراتب مرتبة الصبر على الشدة بجانب الملك والسلطان، واجتمعتا في يوسف عليه السلام، فإنه صبر على البلاء والشدة إلى أن آتاه الله ملك مصر مع النبوة. ثم من المراتب المعتبرة في تفضيل الأنبياء عليه السلام كثرة المعجزات، وقوة البراهين، وقد خص الله موسى وهارون من ذلك بالحظ الوافر. ثم من المراتب المعتبرة الزهد في الدنيا، والإعراض عنها، وقد خص الله بذلك زكريا ويحيى وعيسى وإلياس عليهم السلام، ولهذا السبب وصفهم بأنهم من الصالحين، ثم ذكر الله من بعد هؤلاء الأنبياء من لم يبق له أتباع ولا شريعة، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط، فإذا اعتبرنا هذه اللطيفة على هذا الوجه كان هذا الترتيب من أحسن شيء يذكر، والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه. وقد استدل بقوله تعالى: ((وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ)) من يرى أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن العالم اسم لكل موجود من سوى الله تعالى، فيدخل فيه الملك، فاستدل بهذه الآية (وكلاً فضلنا على العالمين)، من قال بأن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن كلمة (العالمين) تشمل الملائكة. وقوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا) ذكر الله سبحانه وتعالى نعمة الهداية في سياق تعديد نعمه على إبراهيم عليه السلام بشرف أصوله وبشرف فروعه؛ لأن الولد لا يعد نعمة ما لم يكن مهدياً، فامتن عليه بذرية مهدية، أما إذا كانت الذرية غير مهدية فلا تعد نعمة، فأعظم النعمة أن تكون الذرية مهدية، فلذلك وصفهم بقوله: (كلاً هدينا).

تفسير قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم)

تفسير قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) قال تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:87]. العطف على (كلاً) أو (نوحاً)، أي: كلاً منهم فضلنا، وفضلنا بعض آبائهم، أو هدينا من آبائهم ومن معهم للدين الخالص جماعات كثيرة. فالمفعول محذوف، يعني: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم هدينا معهم جماعات كثيرة. وقوله: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط المستقيم) يعني: في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، فجعلت لهم هذه الفضائل أيضاً، ولحقت بإبراهيم فازداد ارتفاع درجاته عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء)

تفسير قوله تعالى: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء) قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]. قوله: (ذلك هدى الله) إشارة إلى الدين الذي كانوا عليه (يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا) يعني: لو أشرك هؤلاء الأفاضل من الأنبياء عليهم السلام مع عظمتهم (لحبط عنهم ما كانوا يعملون) يعني: من الأعمال المرضية. فالأنبياء لا شك في أنهم يعملون أعمالاً مرضية عظيمة جداً أكثر من أي امرىءٍ من البشر، ومع ذلك لو وقع منهم الشرك لحبطت أعمالهم المرضية، فكيف بمن عداهم ممن هم أقل منهم مرتبة إذا أشركوا بالله سبحانه وتعالى؟! وهذا -بلا شك- فيه تعظيم لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. والسياق هنا سياق شرط، أي قوله تعالى: (لئن أشركت) وكذلك (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) فهل الشرط يقتضي جواز الوقوع؟ A لا، الشرط لا يقتضي جواز الوقوع، ومثال ذلك الشرط في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، فهل معنى ذلك أن هذا يقع بأن يكون للرحمن ولد؟ A لا، وإن كانت الآية فيها احتمالات كثيرة. وقوله: (قل إن كان للرحمن ولد) إن: نافية بمعنى (ما) مثل قوله تعالى: (إن هو إلا عبد) يعني: ما هو إلا عبد. فـ (إن) بمعنى (ما) النافية، فكذلك هنا، (قل إن كان للرحمن ولد) يعني: ما كان للرحمن ولد، (فأنا أول العابدين) لهذا الإله المنزه عن أن يكون له ولد. وهناك تفسير آخر في قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد)، وهو: إن كان لله ولد فأنا أول العابدين المستنكفين عن عبادة إله يحتاج إلى الولد. أو أن قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد) مجرد شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، وإنما الشرط لتبيين شيء معين، أو حكم معين، لكن لا يقتضي أن المشروط يقع بالفعل؛ لأن الأنبياء إذا كانوا معصومين من المعاصي فأولى بهم أن يعصموا من الشرك، فهذا لا يقع من الأنبياء قطعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعصمهم ويحفظهم من ذلك. فإذاً: المقصود هنا مجرد بيان خطورة الشرك، وتشنيع لأمره وتغليظ لشأنه تنفيراً منه، فالشرط لا يقتضي الوقوع، مثل قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17]. فالشرط لا يقتضي جواز وقوع هذا الفعل. وفي قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر:4] شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، وكذلك في قوله هنا: ((وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) فهو شرط، وهو لا يقتضي جواز وقوعه.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]. قوله: (أولئك)، إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر، والمعطوفين عليهم عطفوا لاستلطافهم بما ذكر من الهداية وغيرها. وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب)، الكتاب هنا اسم جنس، والكتب هي كثيرة، لكن هنا المقصود جنس الكتاب المتحقق في ضمن أي فرد كان من أفراد الكتب السماوية. وقوله: (آتيناهم الكتاب)، المقصود بالإيتاء: التفهيم التام لما فيه من الحقائق، والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق، وهذا أعم من أن يكون بالانزال ابتداءً أو يالإيغاث إسقاءً، فإن المذكورين لم ينزل على كل واحد منهم كتاب معين. وقوله: (آتيناهم الكتاب والحكم)، أي: الحكمة، أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق والصواب، (والنبوة)، أي: الرسالة، وقيل: (النبوة)، وإن كانت أعم إلا أن المراد بها ما يشمل الرسالة؛ لأن المذكورين رسل. ولا تعارض بين قولك: محمد نبي الله ومحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن كلمة النبوة أعم، هذا هو السبب في عدم التعارض؛ لأن النبوة تشمل الرسل، وتشمل غير الرسل، فهي مرتبة أعم، لكن أخص منها مرتبة الرسالة، فلا تعارض، بل بينهما عموم وخصوص، لكن في تفسير هذه الآية إذا أردنا أن نفسر قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة)، فنخص المعنى العام للنبوة بمعنى الرسالة؛ لأن المذكورين كلهم رسل، ولم يقتصروا على مرتبة النبوة. وقوله: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء)، الهاء في قوله: (بها) تعود إلى هؤلاء الثلاثة: الكتاب، والحكم، والنبوة، يعني: بهذه الثلاثة المذكورة. وقوله: (هؤلاء)، يعني: قريشاً، فإنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون لما يصدقه جميعاً، كما هو معروف أن الإيمان حقيقة كلية متركبة من أجزاء، وهذه الأجزاء لا ينفصل بعضها عن بعض، فإذا حبطت واحدة منها حبط جميع الإيمان، يعني: لو أن الإنسان آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولكنه كفر باليوم الآخر، والبعث والنشور فإن كل إيمانه يحبط، فيصح أن يوصف -مع أنه يصدِّق بالأنبياء ويصدق بالله- بأنه لا يؤمن باليوم الآخر، ولا يؤمن بالله، ولا بالملائكة، كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. ونحن نعلم أن أهل الكتاب يؤمنون بالبعث وبالنشور، ويؤمنون باليوم الآخر، لكن أطلق عليهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر؛ لأنهم بكفرهم بمحمد عليه الصلاة والسلام، أو بعيسى -وهذا كان في حق اليهود- فقد كفروا بجميع الأنبياء، لو واحد مسلم آمن بجميع الأنبياء لكنه قال: إلا عيسى، أو إلا يونس، لصار كافراً متساوياً سواء بسواء مع إخوانه في الكفر، فيحبط كل إيمانه، ولو آمن بكل الملائكة ما عدا جبريل فإنه أيضاً يحبط كل إيمانه، ويسمى كافراً خارجاً من ملة التوحيد. فمن ثمَّ قال تعالى: (فإن يكفر بها هؤلاء) يعني: المشركين من قريش (فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين)، يعني: وفقنا للإيمان بها (قوماً ليسوا بها بكافرين)، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وأتباعهم، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الأظهر؛ لأنه إذا قلنا: ((فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ))، وهذا يصلح أن يكون في مقابلة كفار قريش لأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، فإن في إيمانهم غنية عن إيمان الكفرة بها. ولا شك أن في التكنية عن توفيقهم للإيمان بها بالتوكيل إيذان بفخامتها وعلوها، وأنه مما ينبغي أن يقدر قدرها، قياماً بحق الوكالة. قال الرازي: دلت هذه الآية على أن الله تعالى سينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقوي دينه، ويجعله مستعلياً على كل من عاداه، قاهراً لكل من نازعه، وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع، فكان جارياً مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزاً.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90]. قوله: (أولئك) إشارة إلى الأنبياء المذكورين. قوله: (الذين هدى الله) أي: إلى الصراط المستقيم. قوله: (فبهداهم اقتده) أي: بطريقتهم، وهي بالإيمان بالله، وتوحيده، والأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة، ونحو ذلك. واستدل بهذه الآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ. أي أن الأصل هو أن شرع من قبلنا شرع لنا؛ لأن قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) أي: اقتد بهداهم. ولذلك لما سئل بعض العلماء عن دليل من القرآن الكريم عن وجوب إعفاء اللحية استدل بهذه الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) أي: هؤلاء الأنبياء المذكورون، ووجه الاستدلال أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه ووجدهم قد اتخذوا العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه، فقال له هارون عليه السلام: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] ومعنى ذلك أنه كانت له لحية عظيمة بحيث أنها تمسك، ولم تكن مثل اللحية المجوسية التي تكون مقصوصة بحيث لا تمسك؛ لأن هذه هي سنة المجوس، فالمجوس كانوا يقصونها، وهناك فرق بين القص وبين الحلق، فالحلق استئصال، أما القص فتكون فيه اللحية موجودة. فمن قصَّر لحيته إلى حد الحلق فلا يعتبر قد خالف المشركين؛ لأن المجوس كانوا يتركونها بحيث تكون قريبة جداً إلى الحلق. والشاهد من الكلام أن الأمر للقدوة أمر لأتباعه، كقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فهذا الأمر موجه للرسول عليه الصلاة والسلام، لكن المقصود به هو وأتباعه، فأمر القدوة أمر لأتباعه، فإذا أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهؤلاء الأنبياء ومنهم هارون الذي كان ذا لحية طويلة فهو أمر لنا؛ لأننا مأمورون -أيضاً- بالاقتداء بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم. لكن قد يعكر على هذا الاستدلال أنه يفتقر إلى دليل يدل على أن هارون أتى بها على سبيل الوجوب، وهذا الاستدلال من لطائف الاستدلال. واستدل بها ابن عباس رضي الله عنهما على استحباب السجدة في سورة (ص)؛ لأن داود عليه السلام سجدها، رواه البخاري وغيره، ولفظ البخاري عن العوامي قال: سألت مجاهداً عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟! يعني: أين دليلك على سجودك؟! قال: أو ما تقرأ (ومن ذريته داود وسليمان) إلى قوله: (أولئك الذين هدى الله فبداهم اقتده)؟! فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: اقتداءً بداود؛ لأنه أمر بالاقتداء به. واحتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقريره أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وقد تنوعت الكمالات التي اتصف بها الأنبياء، سواء في الصبر على البلاء، والشدة، والبأس، والملك، والسلطان، ونحو ذلك، فكانت هذه الخصال مفرقة في الأنبياء عليهم السلام، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]. وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين، وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس كان صاحب التضرع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم إنه تعالى لما ذكر الكل أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم بأسرهم، فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فأُمر نبينا عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهم في كل خصال الفضائل والكمالات التي تحلو بها، فكأنه أمر بأن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، وهو معصوم عن مخالفة ما أمر به، فإذا أمر الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام بأمر فإن النبي لا يتصور أبداً أنه يخالف أمر الله عز وجل؛ لأنه معصوم عن مخالفة ما أمره الله به، ومعنى ذلك أنه بالفعل امتثل هذا الأمر، واجتمع فيه جميع ما تفرق فيهم من الكمال، فثبت بذلك أنه أفضلهم، ولا شك في أن هذا استنباط حسن. وقوله: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) هذه الهاء تسمى هاء السكت، ويقرأ بسكون الهاء وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت، ومن العلماء من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها بهاء الضمير، ومنهم من يكسرها، وفيه وجهان: أحدهما: أنها هاء السكت أيضاً، شبهت بهاء الضمير، وليس بشيء، والثاني: أنها هاء الضمير، والمضمر المصدر، أي: اقتد الاقتداء. وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:23] الهاء في قوله: (عليه) المقصود بها القرآن، أو المقصود بها التبليغ، فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما. وقوله: ((إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) (إن هو) أي: البلاغ، أو أن المقصود به القرآن، ولذلك قلنا: إن السياق يشير إلى أن قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه) يعني البلاغ أو القرآن الكريم، وقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) أي: عظة وتذكير لهم؛ ليرشدوا من العمى إلى الهدى. وفي هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس، وأن دعوته قد عمت جميع الخلائق، فقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين) أي: لجميع العالمين، وجميع الخلائق الجن والإنس، رغم أنف هؤلاء الذين يحاولون أن يزعموا أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قاصرة على العرب. وهناك برنامج في الإنترنت قال عنه بعض الإخوة: إن موسوعةً عن الإسلام موجودة فيه باللغة الإنجليزية، فاطلعت على أشياء منها عن طريق ورق مكتوب فرأيت من ضمن الأشياء أن واحداً من الخبثاء تكلم عن كلمة القرآن، وشرح قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)، فأشار إلى أن القرآن نزل باللغة العربية حتى يعقلها العرب، ثم قال: إن القرآن نزل على الشعوب العربية، ومضى في الكلام كأنه يمدح الإسلام! ولا شك في أن هذا معنىً خطير؛ لأنه حصر الإسلام في العرب، وهذا من المقطوع ببطلانه، وهو من البديهيات المعروفة في دين الإسلام.

حكم أخذ الأجرة على التعليم وتبليغ الدعوة

حكم أخذ الأجرة على التعليم وتبليغ الدعوة قيل: إن الآية تدل على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام، وللفقهاء في هذه المسألة كلام، فقوله تعالى: ((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) قال فيه بعض المفسرين: في هذه الآية إشارة إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم العلوم؛ لأن ذلك جرى مجرى تبليغ الرسالة. وعلى كل الأحوال فالآية تدل على نفي سؤاله صلى الله عليه وسلم منهم أجراً كي لا يشق عليهم الامتثال، أما استفادة الحل والتحريم من الآية ففيه خفاء، فالقائل بالإباحة يقول: المعنى: لا أسئلكم جعلاً تعففاً. يعني: وإن حل لي أخذه فأنا أتعفف عن أخذه. فيقول: إن الآية تدل على إباحة أخذ الجعل. والقائل بالتحريم يستدل بالآية على تحريم أخذ الأجرة على التعليم، وقال في قوله تعالى: (لا أسألكم عليه أجراً) أي: لأنه حرم عليَّ ذلك. قال ابن القيم: وأما الهدية للمفتي ففيها تفصيل: فإن كانت بغير سبب الفتوى، كمن عادته أنه يهاديه، أو مَنْ لا يَعرِفُ أنه مفتٍ فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافأ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سبباً إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تجزل المعاوضة عن الإفتاء. وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجاً إليه جاز له ذلك، وإن كان غنياً عنه ففيه وجهان. فطلب الأجرة لا يجوز؛ لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا يجوز المعاوضة عليه، كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة. أو سئل عن حلال وحرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة. فهذا حرام قطعاً، ويلزمه رد العوض، ولا يملكه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اقرءوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به). وقال أيضاً: (من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به، فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به). وعن أبي بن كعب قال: (علمت رجلاً القرآن فأهدى لي قوساً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: إن أخذتها أخذت قوساً من نار). وهناك أحاديث أخر، وبها استدل على حظر أخذ الأجرة على التعليم، وأما أخذ الأجرة على التلاوة ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قصة اللديغ قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهماً)، وكان هذا الأجر على الرقية. والشوكاني يقول: قوله: (أحق ما أخذتم عليه أجراً) عام يصدق على التلاوة في الرقية أو التعليم، وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك، وأخذ الأجرة على الرقية، وأخذ ما يدفع إلى القارئ من العطاء لأجل كونه قارئاً، ونحو ذلك، فيخص من هذا العموم تعليم المكلف، ويبقى ما عداه داخلاً تحت العموم. والموضوع كبير، وفيه اختلاف كبير بين العلماء، وليست غايتنا أن نحقق هذه المسألة، ولها موضع آخر في أحكام الإجارة.

تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)

تفسير قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91]. ولما بين تبارك وتعالى شأن القرآن العظيم، وأنه نعمة كبرى على العالمين أتبعه ببيان كفرهم بذلك على وجهٍ سرى إلى الكفر بجميع الكتب المنزلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:89 - 90]، فبيَّن لهم النعمة الكبرى التي هي القرآن الكري بقوله: (إن هو إلا ذكرى للعالمين)، ومع ذلك كفروا به، فقال عز وجل: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا)) لما جاءتهم نعمة القرآن والوحي (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ). قوله: (وما قدروا حق قدره) يعني: ما عظموه حق تعظيمه. وكلمة (حق) في قوله تعالى: (حق قدره)، منصوبة على المصدرية؛ لأن أصلها (وما قدروا الله قدره الحق)، فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه. وقوله: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) يعني: حين اجترءوا على التفوه بهذه الجملة الشنعاء، إذ طاوعتهم قلوبهم أن يقولوا هذه الكلمة، يعني أن قول هذه الكلمة يعكس أنهم ما قدروا الله وما عظموا الله حق تعظيمه تبارك وتعالى، وذلك منهم مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا ينفون نزول القرآن على الرسول عليه السلام فقط، وإنما ينفون أصل إرسال الكتب من الله سبحانه وتعالى إلى جميع الأنبياء مبالغة في نفي الرسالة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلاً، حيث قيل في جواب سلبهم العام لإثبات قضية جزئية بديهية التسليم: ((قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ)) أي: ضياءً من ظلمة الجهالة وبياناً يفرق بين الحق والباطل ((تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا)) أي أنهم كانوا يجزئونه أوراقاً يبدونها للناس مما ينتخبونه، فكيف ينكر إنزال شيء وهذا المنزل المذكور ظاهر للعيان موجود في قراطيس؟! أي: في أوراق مكتوبة. وعدل عن التوراة إلى ذكر الكتاب وصفته فقال: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) ولم يقل: قل: من أنزل التوراة. ثم مدح الكتاب بقوله: (نوراً وهدى للناس) فكل هذا لزيادة التقريع، وتشديد التبكيت، وإلقام الحجر. وقوله تعالى: (وتخفون كثيراً) أي: تبدونها وتخفون. أي أن قوله تعالى: (تخفون) معطوف على (تبدونها) والعائد محذوف، فقوله: (وتخفون كثيراً) أي: كثيراً منها. ومع ذلك فالإلزام يكفي بما يبدونه، وبالمعترف لديهم بأحقيته، وفيه نعي على أهل الكتاب لسوء صنيعهم المذكور؛ إذ ما يريدون بإخفاء كثير منها إلا تبديل الدين. وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام:91] يعني أهل الكتاب، (وعلمتم) يعني: على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم (ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) يعني: من المعارف التي لا يرتاب في أنها تنزيل رباني، ومن الذي أنزل هذا؟ (قل الله) أي: أنزله الله. أو: الله أنزله. وأمره بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، يعني أنه يسألهم السؤال ثم يجيب، إشارة إلى أن الجواب متعين، ولا يحتمل أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب، وتنبيهاً على أنهم بهتوا، بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب، فتولى هو الجواب فقال: (قل الله) يعني: هو الذي أنزل هذا الكتاب. وقوله: (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) أي: بعد التبليغ وبعد إلزامهم الحجة (ذرهم) أي: اتركهم (في خوضهم) أي: باطلهم (يلعبون) أي: يفعلون فعل اللاعب، وهو ما لا يجر لهم نفعاً ولا يدفع عنهم ضرراً، مع تضييع الزمان، وهذا هو حال اللاعب، فهذا حال هؤلاء الذين كفروا بالقرآن الكريم، وهو أنهم يفعلون فعل اللاعب، واللعب لا يجر للإنسان نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً، بجانب أنه يضيع عليه الوقت والزمان. وهذه الآية فيها قولان: القول الأول: أنها مكية النزول تبعاً للسورة؛ لأن سورة الأنعام مكية، وأن القائل: (ما أنزل الله على بشر من شيء) هم المشركون، وإلزامهم بإنزال التوراة لأنها كانت عندهم من المشاهير الذائعة، فألزمهم بإنزال التوراة؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى اليهود على أنهم أعلم منهم، وأنهم أهل كتاب، وكانوا يعرفون بالتوراة، هذا هو الظاهر. وقال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: هذه الآية نزلت في قريش. قال ابن كثير: وهو الأصح. وهذا اختيار الإمام ابن جرير؛ لأن اليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، ولأن اليهود ما قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شيء) وأما كفار قريش فكانوا ينكرون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من البشر، كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس:2]، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:94]، وكذلك قالوا هنا: (ما أنزل الله على بشر من شيء). إذاً: يكون المقصود بها كفار قريش لا أهل الكتاب. فألزموا بإنزال الكتاب الذي جاء به موسى، وهو التوراة التي علموا هم وكل أحد أن الله أنزلها على موسى تكذيباً لقولهم وإيقافاً على عنادهم، ومعلوم ما كان بين قريش ويهود المدينة من التعارف، وتسليم قريش بأنهم أهل كتاب، وأنهم أعلم منهم لأجل هذا الكتاب، مما يوجب اعترافهم بأحقية التوراة، وأنها منزلة من لدنه تعالى. القول الثاني: أن هذه الآية مدنية النزول، ولا يرد أن هذه السورة مكية، فلا إشكال في أن تكون السورة مكية في العموم، لكن يكون فيها بعض الآيات مدنية؛ لأن مناظرات اليهود إنما جرت في المدينة النبوية، ولأن كثيراً من السور المكية ألحقت بها آيات مدنية، وحينئذ فقولهم: هذه السورة مكية يعني أنها سورة مكية إلا ما استثني مما ألحق بها. والقائلون بأنها مدنية قالوا: نزلت في طائفة من اليهود، أو في فنحاص أو في مالك بن الصيف. وذكر المفسرون لكلٍ من هذه الأقوال قصصاً تؤيد قولهم. وقال أبو السعود رحمه الله تعالى: ليس المراد بالآية مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط -أي: في قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) - بل إلزامهم بإنزال القرآن أيضاً، فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعاً؛ لأن التوراة تشهد للقرآن الكريم، ولأن التوراة فيها أدلة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تضعونه في قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة. فقوله تعالى: (تجعلونه قراطيس) يعني: تجعلونه في قراطيس، وحذف حرف الجر بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم، أو: تجعلونه نفس القراطيس المقطعة، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم، كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، يعني أنهم يجعلونه قراطيس لكي يظهروا البعض ويكتموا البعض الآخر. وقوله تعالى: (تبدونها ويخفون كثيراً) يعني: يبدونها ويخفون، دلالة على أنه لا يجوز كتم العلم الديني عمن يهتدي به.

تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه)

تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه) قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92]. ولما أبطل كلمتهم الشنعاء بتقرير إنزال التوراة بين تنزيل ما يصدقها بقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ). قوله: (وهذا كتاب) يعني: هذا القرآن. وقوله: (أنزلناه مبارك) يعني: كثير المنافع والفوائد؛ لاشتماله على منافع الدارين، وعلوم الأولين والآخرين، وما لا يتناهى من الفوائد. قال الرازي: العلوم إما نظرية وإما عملية، فالأولى أشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجدوه في هذا الكتاب، وأما الثانية التي هي العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب، وهو المسمى بتهذيب الأخلاق وتزكية النفس، ولا تجد هذين العلمين مثلما تجده في هذا الكتاب. ثم جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا القرآن الكريم والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة، وقد شوهد هذا في كل عصر، فإن الله سبحانه وتعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين. وقوله: (مصدق الذي بين يديه) يعني: من التوراة. أو: من الكتب التي أنزلت قبله. وفيه إثبات التوحيد موافقاً لها، فالأمر بالتوحيد في نفي الشرك وفي النهي عن الشرك موجود في سائر أصول الشرائع التي لا يطرأ عليها النسخ. قوله: (ولتنذر أم القرى ومن حولها) أم القرى هي مكة، سميت بذلك لأنها مكان أول بيت وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلهم ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل. وفي ذكرها بهذا الاسم المنبئ عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستلزم لإنذار أهل الأرض كافة، وإنذار أهلها يلزم منه إنذار كل القرى والمدن والبلاد في أرجاء الأرض وما حولها، أي: من أطراف الأرض شرقاً وغرباً، كما قال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال أيضاً: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -وذكر منهن- وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة). ثم قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) فمن صدَّق بالآخرة خاف العاقبة، وما يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب. وقوله: (والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) يعني: بالنبي أو بالقرآن، ويحافظون على الصلاة، وخصص الصلاة لكونها أشرف العبادات بعد الإيمان وأعظمها قدراً؛ ولأن من حافظ على الصلاة فهو لما سواها أحفظ، فلذلك اقتصر على ذكر الصلاة فقال: (وهم على صلاتهم يحافظون). ولذلك لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] والمقصود به الصلاة، ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر) وفي هذا نظر؛ لأن الكفر قد أطلق على غير ترك الصلاة من المعاصي.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي) قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام:93] أي: اختلق إفكاً فجعل له شركاء أو ولداً، أو افترى أحكاماً في الحل والحرمة، كـ عمرو بن لحي وأشباهه ممن ينطبق عليهم قول الله: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام:93] وممن ادعى النبوة كذباً، وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة، وهذا تهديد على سبيل الإجمال، كعادة القرآن، فإنه يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك. وقوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) يعني: لا أحد أظلم من هؤلاء، (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) يعني من ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي، بما يفتريه من القول، كـ النضر بن الحارث، وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31]. فقوله: {وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:93] يعني من ينكر إعجاز القرآن الكري، حتى قال: (سأنزل مثلما أنزل الله) مع أنه قد عرف إعجازه، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله، وكأنه -أيضاً- ادعى الإلهية لنفسه؛ لأن القرآن لا يقدر على أن يأتي به على هذه الصورة المعجزة إلا الله سبحانه وتعالى، فمن قال: سأنزل مثلما أنزل الله فكأنه يدعي أنه قادر على ما لا يقدر عليه إلا الله من هذه المعجزة الظاهرة، وكأنه يسوي قدرته بقدرة الله، ويلزم من ذلك أنه يدعي الإلهية لنفسه، ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة، فيعلم ما للظالمين فيها المبَيَّن في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام:93] يعني أصحاب هذه الأقوال وهذه الأفعال المذكورة في أول الآية بقوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) فإنه لا أحد أظلم من هؤلاء، وهؤلاء هم الظالمون؛ لأن الإنسان الذي عنده إيمان بالآخرة وخوف من العاقبة والآخرة وما أعد الله للظالمين فيها لا يجترئ على أن يأتي بشيء من هذه الأشياء المشار إليها في الآية، فمن ثمَّ استطردت الآية في ذكر أحوال الظالمين في الآخرة، باعتبار أن هؤلاء أظلم الظالمين. يقول تعالى: (ولو ترى) أي: انظر إلى أحوالهم: (وَلَو تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) قوله تعالى: (في غمرات الموت) أي: في شدائده وسكراته وكرباته (والملائكة باسطوا أيدهم) أي: بالضرب والعذاب. وهذا كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]. وقوله: ((أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ)) أي: قائلين لهم: أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم. تغليظاً وتوبيخاً وتعنيفاً لهم، والظاهر أنه لا يمكن أن يكون في ذلك مجاز، وإنما هو حقيقة، وأن هذا يحصل حقيقة مع الكفار عند احتضارهم على الصورة المحكية، ومتى ما أمكن حمله على الحقيقة فلا نعدل عنه إلى المجاز. قال الحافظ ابن كثير: إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصي وتأبى الخروج، وروحه تهرب خوفاً من الملائكة، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم وهم يخرجون: (أخرجوا أنفسكم) ومما يؤيد الحقيقة ويبعد المجاز قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50] فإن الحقيقة صريحة في قوله: (ولو ترى) وقوله: (يضربون)، ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل. قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية بيان حال الكافر عند القبر وعذاب القبر، واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعواناً من الملائكة. لأنه هنا ذكر مجموعة من الملائكة وليس ملكاً واحداً. يقول تعالى: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} قوله: (اليوم) يعني وقت الإهانة، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له، أي: من الآن فصاعداً، فمن وقت الإهانة لكم عذاب دائم لا ينقطع. وقوله: (تجزون عذاب الهون) أي: الهوان الشديد (بما) أي: بسبب (بما كنتم تقولون على الله غير الحق) كالتحريف، وكدعوى النبوة الكاذبة، وهو جرأة على الله متضمنة للاستهانة به سبحانه وتعالى (وكنتم عن آياته تستكبرون) حتى قال بعضكم: (سأنزل مثل ما أنزل الله).

تفسير قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى)

تفسير قوله تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى) قال تعالى في آخر هذا الربع: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94]. قوله تعالى: (ولقد جئتمونا) أي: جئتمونا للحساب والجزاء (فرادى) أي: منفردين عن الأموال والأولاد وما آثرتموه من الدنيا، أو: (فرادى) ليس معكم أعوان ولا أوثان ممن زعمتم أنهم شفعاء، و (فرادى) جمع فريد، كأسير وأسارى. وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حفاةً عراة غرلاً ((كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) [الأنبياء:104]) أخرجه الشيخان. ورويا -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحشرون حفاة عراةً غرلاً. قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك). وروى الطبري بسنده عن عائشة (أنها قرأت قول الله عز وجل: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) فقالت: يا رسول الله! واسوأتاه! الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوءة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال، شُغِلَ بعضهم عن بعض). وقوله: ((وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ)) يعني: ما تفضلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة من الأموال والأولاد والخدم وغير ذلك، فتركتم ما خولناكم من النعم (وراء ظهوركم) يعني: في الدنيا، ولم تحملوا منه نقيراً. وفي هذا إشارة إلى أنهم لم يصرفوه إلى ما يفيدهم في الآخرة، بل انشغلوا به عن الآخرة، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!)، وزاد في رواية: (وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس). ثم قال تعالى: ((وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ)) يعني: شركاء لله في الربوبية واستحقاق العبادة، ((لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ))، وفي قراءة أخرى بالرفع (لقد تقطع بينُكم)، أي: شملكم. فإن البين من الأضداد، فيستعمل للوصل ويستعمل للفصل، أي: تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات. وقوله: ((وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)) أي: ذهب عنكم ما زعمتم من رجاء الأنداد والأصنام. وهذا كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167]، وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، وقال عن إبراهيم عليه السلام مخاطباً قومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بينكم فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت:25]، والآيات في هذا كثيرة جداً. سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.

الأنعام [95 - 101]

تفسير سورة الأنعام [95 - 101]

تفسير قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى)

تفسير قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95]. قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) هذا شروع في ذكر بعض مبدعاته الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وفي هذا تقرير شأن توحيده تبارك وتعالى، وقد بين الله عز وجل وقرر في الآيات السابقة التوحيد، وحاجَّ القرآن الكريم المشركين، ودحضهم، وأبطل شبهاتهم، وشرع الله عز وجل هنا في بيان بعض المبدعات، وما استبعدوه من المخلوقات الدالة على كمال قدرته وعلمه وحكمته، وذلك للتنبيه على أن المقصود الأعظم هو معرفته سبحانه وتعالى بجميع صفاته وأفعاله، وأنه مبدع الأشياء وخالقها، ومن كان كذلك كان هو المستحق للعبادة، لا هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، وفي هذا التعريف بخطئهم في الإشراك الذي كانوا عليه. والمعنى أن الذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فعل كذا وكذا وكذا مما سيأتي من الآن فصاعداً، فالذي يستحق العبادة دون غيره هو الذي فلق الحب عن النبات، وخلق من النواة النخلة. وفي معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (إن الله فالق الحب والنوى) قولان: أحدهما: أن (فالق) بمعنى (خالق) والثاني: أن الفلق هو الشق. أما القول الأول في (فالق): فهو أنه بمعنى (خالق) أي: إن الله خالق الحب والنوى. وهذا قول ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال الضحاك ومقاتل، قال الواحدي: ذهبوا بـ (فالق) مذهب (ثاقب)، يعني: خالق. وأنكر الطبري هذا، وقال: لا يعرف في كلام العرب (فلق الله الشيء) بمعنى (خلق)، ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه، يعني: جواز أن يعبر عن (خلق) بـ (فلق)، وكذا المجد في القاموس. قال الرازي: الفطح هو الشق، وكذلك الفلق، فالشيء قبل أن يدخل في الوجود كان معدوماً محضاً ونفياً صرفاً، والعقل يتصور من العدم ظلمةً متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق، فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود، فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه -يعني: أوجده- وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق، فبهذا التأويل لا يزعم حمل الفالق على الموجد والمبدع. فهنا الرازي يذكر وجه التعبير عن (خلق) بـ (فلق)، أو عن (خالق) بـ (فالق): فهذا هو وجه القول الأول، وهو أن (فالق الحب والنوى) بمعنى: خالق الحب والنوى. أما القول الثاني -وهو قول الأكثرين- فهو أن (فالق) بمعنى الشاق الذي يشق الحب والنوى. وكون الفلق هو الشق في معناه وجهان: أحدهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة. وهو قول الحسن والسدي وابن زيد، قال الزجاج: يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقاً أخضر. أما الوجه الثاني فهو أن الفلق هنا بمعنى الشق الذي يوجد في الحب والنواة، كحبة الشعير -مثلاً-، حيث يوجد فلق ونوع من الشق في الحبة نفسها، وكذلك النواة كما في نواة التمر، فإنه يوجد فيها شق يقسم الحبة إلى اثنتين. لكن ضعف هذا الوجه الثاني بأنه لا دلالة فيه على كمال القدرة، أما الحب فهو ما ليس له نواة، كالحنطة والشعير والأرز، وأما النوى فهو جمع نواة، وهو الموجود في داخل الثمرة، مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما. قال الرازي: إذا عرفت ذلك فنقول: إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة، ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تبارك وتعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً آخر، فالأول يخرج منه الشجر الصاعد إلى الهواء، والثاني يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض المسماة بعروق الشجرة، وهي التي نعبر عنها بالجذور، وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض. وذكر الإمام الرازي -كما نقل القاسمي - كلاماً بديعاً جداً في عجائب صنع الله سبحانه وتعالى في فلق الحب والنوى، والحقيقة أن الكلام في غاية الإبداع، وباختصار فإنه لا شك في أن من يدرس علم النبات فإنه يطلع على أسرار وعجائب عظيمة جداً في خلق الحب والنوى. ونلاحظ هنا أن الرازي هو كـ ابن القيم وكـ الغزالي وغيرهما من العلماء الذين اجتهدوا في محاولة إعمال العقل البشري في التدبر في آيات الله سبحانه وتعالى الكونية. وكلهم كانوا يتحدثون على مستوى الثقافة التي كانت في عصرهم، وهذا أقصى ما وصل إلى علم البشر في ذلك الوقت، ولا شك في أنه يوجد اليوم من مظاهر الإبداع وعلامات وآثار التوحيد في خلق الله سبحانه وتعالى في عالم النبات ما يبهر العقول. والكلام هنا هو عن طبيعة إحدى الشجرتين، فالتوجه إلى أسفل هو المقصود بالجذور، وطبيعة الشق الآخر التوجه إلى أعلى، وهو الذي يخرج منه الشجر، فواحدة منهما تقتضي الهوي إلى عمق الأرض، ومع ذلك تولدت منها الشجرة التي تصعد في الهواء، فالحس والعقل يشهد بكون طبيعة تلك مضادة للطبيعة الأخرى، لكن اجتمعتا، فعلمنا بذلك أنه ليس هذا مقتضى الطبع والخاصية، وإنما هو مقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع، فلو أنك بذرت بذرة فول أو نحوها فبقدرة الله سبحانه وتعالى تنمو الجذور من جهة معينة، فلو أن الحبة وضعت في الأرض مقلوبة بحيث يكون الجذر إلى أعلى فسنجد الحبة نفسها بقدرة الله عز وجل تعدل وضعها، بحيث يتجه الجذر إلى أسفل، والنبات يتجه إلى أعلى، والعجائب في هذا كثيرة جداً. ومن هذه العجائب التي أشار إليها أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ الأسنة القوية فيه، فلو أنك أتيت بسكين حاد وحاولت أن تغوص به في داخل الأرض فإن لم تكن تربة لينة فستكون هناك مقاومة، وهذه الجذور بعضها في غاية دقتها ولطافتها ولينها، ولو أتيت بهذه الجذور أو الشعيرات الجذرية ودلكتها بيدك فإنها تصير مثل الماء، وتلين في يدك وتتمزق بمجرد ضغط الأصابع عليها، ومع أنها في غاية الدقة وفي غاية اللطافة تقوى بقدرة الله سبحانه وتعالى على النفوذ في الأرض الصلبة، والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة، فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لابد من أن يكون بتقدير العزيز الحكيم سبحانه وتعالى. ومن سافر من مصر ماراً في الطريق البري فإنه يرى العجائب في سيناء، ويرى الجبال التي في سيناء وفيها عجائب مذهلة من عجائب قدرة الله سبحانه وتعالى. وهكذا ترى النخيل صنوان وغير صنوان خارجاً من أعماق صخر عتيد في غاية الصلابة والقوة، وفي تلك الصخور العاتية تجد النخل قد نبت من هذه الصخور، فما يكون ذلك إلا بقدرة الله عز وجل. ومن هذه العجائب أنه يتولد من تلك النواة شجرة، وهذه الشجرة يحصل فيها طبائع مختلفة، فإن قشر الخشبة له طبيعة خاصة، وفي داخل ذلك القشر الخشبة، وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش، ثم يتولد من جسم الشجرة أغصانها، ويتولد من الأغصان الأوراق أولاً، ثم الأزهار والأنوار -جمع نَورة، وهي البراعم- ثانياً، ثم الفاكهة ثالثاً، ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر، مثل الجوز، فالجوزة من الخارج يكون فيها قشرة خضراء، لكن هذه لا تراها؛ لأنك تتعامل مع الطبقة التي تليها، والذين يبيعونه يأخذون هذا القشر، فالأول طبقة تتكون من هذه القشرة الخضراء، وبعد ذلك يكون القشر الذي نراه نحن وهو الذي يشبه الخشب، ثم تحت القشرة ذلك الخصل الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب، وتحته ذلك اللب، ثم ذلك اللب مشتمل على جرم كثيف، وهو أيضاً كالقشر، وهذا الجرم اللطيف هو الدهن، وهو المقصود الأصلي، فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها يدل على أنها نفسها تتعرض لمؤثرات واحدة في تربة واحدة متجانسة، وتسقى من ماء واحد، والشمس واحدة، وهكذا العوامل التي تؤثر عليها واحدة، ومع ذلك بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذه الأنواع التي لا حصر لها من خلق الله سبحانه وتعالى من أنواع الفواكه التي تذهل العقول إذا تدبرت وتفكرت ملياً في عظم قدرة الله سبحانه وتعالى فيها، فهذا التنوع كله من ماء واحد، وتربة واحدة، وعوامل محيطة واحدة، ومع ذلك يخرج هذا حلواً وهذا حامضاً مختلفاً ومتفاوتاً، والنوع الواحد يتفرع إلى أنواع، كالتمر مثلاً، كل ذلك يدل على تدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا تدبير العناصر والطبائع. وكذلك نجد أحوال الفواكه مختلفة، وبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز، وبعضها تكون الفاكهة المطلوبة منه في الخارج وتكون النواة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها تكون النواة فيه لها لب، كما في نوى المشمش والخوخ، وبعضها لا لب له، كما في نوى التمر، وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر، بل يكون كله مطلوباً في الداخل والخارج، مثل التين، فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه. وأيضاً الحبوب مختلفة في الأشكال والصور، فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة، وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما، وشكل العدس كأنه دائرة، وشكل الحمص على وجه آخر. فهذه الأشكال المختلفة لابد من أن تكون لأسرار وحكم، وقد علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل، وبعض الحبوب يكون لها خاصية، والأخرى تكون لها خواص ومنافع أخرى، وقد تكون ثمرة واحدة غذاءً لحيوان وسماً لحيوان آخر، فهذا كله يدل على توحيد الله سبحانه وتعالى وقدرته عز وجل. وإذا أخذت ورقةً واحدة من ورق الشجر تجد خطاً واحداً مستقيماً في وسطها، ثم ينفصل إلى يمنةً ويسرةً، وإلى شعب أخرى لا تزال تزداد حتى تخرج عن الإدراك بسبب ذلك الصغر، حتى لا تكاد تُرى، والخالق تعالى إنما فعل ذلك لتقوى القوى المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، حتى إ

قدرة الله تعالى في إخراج الحي من الميت والميت من الحي

قدرة الله تعالى في إخراج الحي من الميت والميت من الحي يقول عز وجل: ((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ)) فأنت ترى البيضة التي هي تعتبر أكبر خلية نواة والمادة الحيوانية -البروتوبلازم- حولها، ولو فتحت البيضة تجد أن الذي فيها ميت، ثم بقدرة الله عز وجل يخرج منها هذا المخلوق الحي بكل ما فيه من إبداع خلق الله سبحانه وتعالى، فمن الذي فعل هذا؟! وهل يقوى جميع علماء الكرة الأرضية بأمريكا وبالغرب وبالشرق بكل ما معهم من قوى وعلم على فعل ذلك؟! وهل يقدرون -لا نقول: على خلق فرخ من بيضة- بل على خلق نملة أو خلق بكتيريا أو فيروس؟! وهل يقوون على ذلك؟! A مستحيل، فالتحدي قائم، ومع ذلك يجحدون، ولا يعترفون بجهلهم وضعفهم أمام قدرة الله تبارك وتعالى. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74]. وهكذا الجاحدون في كل وقت (ما قدروا الله حق قدره) فلا يعظمون الله عز وجل تعظيمه اللائق به، ولا يقدرونه حق قدره عز وجل. فقوله عز وجل: ((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) كالحيوان من النطفة، والنبات الغض الطري من الحب اليابس (ومخرج الميت) كالنطفة والحب (من الحي) كالحيوان والنبات. وقوله تعالى: (ذلكم الله) الفالق للحب والنوى، والمخرج الحي من الميت وعكسه هو الله القادر العظيم الشأن المستحق للعبادة وحده، (فأنى تؤفكون) أي: أنى تصرفون عنه إلى غيره؟! والمقصود أن الحي والميت متضادان متنافيان، فلعله إذا كان يحصل المثل من المثل -أي: حي يخرج من حي- فقد يتوهم الإنسان أن هذا بسبب الطبيعة والخاصية، أما حصول الضد من ضده، كالحياة من الموت والموت من الحياة فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن كان ميتاً فكيف هو بذاته يعطي حياة، فخروج الضد من الضد دليل على أنه لابد من أن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا)

تفسير قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً) ثم قال عز وجل: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:96]. قوله: (فالق الإصباح) هذا خبر آخر لـ (إن)، أو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو فالق الإصباح والإصباح مصدر سمي به الصبح، يقال: أصبحت إصباحاً. لكن عبر هنا عن الصبح نفسه بالمصدر، وهو الإصباح، قال امرؤ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلِ بصبح وما الإصباح منك بأمثل يعني: وما الإصباح الذي يولد منك. لأن الإصباح أول ما يخرج منه ضوء الفجر، وهو يولد من الليل، فمثل هذا الإصباح ليس بأمثل من هذا الليل الطويل. وقوله: (فالق الإصباح) يعني: يشق بهذا الصباح ظلمة الليل. وقوله: ((وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)) يعني: صير الظلام يُسكن إليه ويُطمأن به استرواحاً من تعب النهار، أو (سكناً) يسكن فيه الخلق، أي: يقرون ويهدءون، فيكون هذا من السكون، كقوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس:67]، وقُرئ: (وجاعل الليل سكناً). وقوله: ((وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا)) أي: على أدوار مختلفة؛ لتحسب بهما الأوقات التي نيطت بها العبادات والمعاملات، كما ذكروا في سورة يونس في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5]. قوله: (ذلك) يعني: التسيير من الحساب المعلوم (تقدير العزيز) أي: الغالب على أمره (العليم) بتدبيرهما ومراعاة الحكمة في شأنهما، وهنا استدلال بالأحوال الفلكية على دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته؛ لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية. وقوله: (فالق الإصباح) قرأ (فالق الأصباح) على أنه جمع صبح، كقفل وأقفال، وإذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر فكثيراً ما يختم الكلام بالعزة والعلم، كما في هذه الآية، وكما في قوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:37 - 38]. وقال هنا: (ذلك تقدير العزيز العليم)، ولما ذكر الله خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة (فصلت) قال: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:12]. وفي العزة معنى القهر، أي: الذي قهرهما بجعلهما مسخرين، ولا يتيسر لهما إلا ما أريد بهما، كما قال: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] وفيها معنى القدرة الكاملة أيضاً. و (العزيز) إشارة إلى كمال قدرته، و (العليم) إشارة إلى كمال علمه، ومعناه أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة وحركاتها المقدرة في المقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات، فهذا يدل أن هذا التخصيص إنما هو بفعل الفاعل المختار سبحانه وتعالى، لا بفعل الطبع أو الخاصية.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها) {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:97]. ثم بين تعالى نعمته في الكواكب إثر بيان نعمته في النيرين -أي: في الشمس والقمر- إعلاماً بكمال قدرته وحكمته ورحمته، فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:97]. قوله: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) يعني: في ظلمات الليل أثناء سيركم في طرق البر أو البحر. وقوله: (قد فصلنا الآيات) يعني: بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر (لقوم يعلمون) يعني: يعلمون وجه الاستدلال بها، فإنما خلقت للاستدلال المتأكد بالعمل بموجبها، أي: الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه، واستحقاقه العبادة وحده تبارك وتعالى. وإذا تأملنا قوله تعالى هنا: (قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون)، وتأملنا آيات الله سبحانه وتعالى في مثل هذه المواضع (قوم يتفكرون)، (قوم يعقلون)، (آيات للمتوسمين)، (أفلا تتفكرون)، (أفلا تعلقون) ندرك مدى تعظيم الإسلام للعلم والعقل وللتدبر والتفكر، وعدم التقليد والانقياد، فالإسلام هو دين العلم، لكن العلم الصحيح بمعناه الحقيقي الذي يقود إلى توحيد الله عز وجل. العالمانيون لأن العلمانيين أعداء الله وأعداء رسول الله عليه الصلاة والسلام يخدعون السذج من الناس، وذلك أنهم يستغلون التشابه اللفظي في الحروف بين كلمة العلمانية وكلمة العلم، وفي الحقيقة لا توجد علاقة على الإطلاق بين العلمانية وبين العلم أبداً؛ لأن أصل كلمة (العلمانية) هذه الذي ينطقونها كلمة أجنبية، وكلمة حديثة، فلذلك احتاروا في ترجمتها، وأصلها كلمة (سيكيولارزم) أي: الحاجة اللادينية المتعلقة بهذا العالم، بغض النظر أو مع إهمال أي عالم آخر، كعالم الآخرة أو العالم الغيبي، فهي تعني العالم الدنيوي الذي لا علاقة له بأي غيبيات أو آخره أو دين أو غير ذلك. فلذلك اختلفوا في ترجمتها، ونحن نعلم أن القواميس الأولى التي وضعت إنما وضعها النصارى، وبعض القواميس تقول في ترجمة هذه الكلمة: اللادينية. وهذا أدق التعابير عن معنى العلمانية، ومعنى اللادينية: رفض الدين. ثم إن نسبة (العلمانية) نسبة غير قياسية، فكلمة (العلمانية) ليست مأخوذة من العلم، وإنما هي مأخوذة من العالم. فينبغي أن نفوت عليهم الفرصة، فبدلاً من أن نستعملها بكسر العين الذي يخدعون الناس به، ويزعمون أن (العلمانية) مأخوذة من العلم نبين لهم أنها مأخوذة من كلمة العالم، بمعنى هذه الحياة الدنيوية. فمعناها: الدنيوية أو اللادينية أو العالمانية، وهذا المصطلح هو أدق. وبعضهم يقول: علينا أن نهجر استعمالها بلفظ (العلمانية) حتى لا نخدم أهداف أعداء الدين في نسبتها إلى العلم، وهي لا علاقة لها بالعلم على الإطلاق، بل هي في الحقيقة جهل؛ لأن الذي يجهل آيات الله سبحانه وتعالى سواء التكوينية أو التنزيلية ويعرض عن هداها ويدرس كل العلوم بغض النظر عن صانعها، وعن خالقها سبحانه وتعالى جاهل أشد الجهل بلا شك، وعلى هذا فهذه جهلانية وليست علمانية. فمن أجل ذلك علينا أن نتحرى دائماً أن ننطقها (العالمانية) حتى تأخذ معناها الصحيح، وهو نسبتها إلى هذا العالم الدنيوي الذي يغفل ويهمل ويتجاهل العالم الأخروي أو العقيدة الدينية. وبعض الشيوخ المشهورين تكلم في هذا الأمر، فسئل فأجاب وقال: إن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية. لأنه يحسب أن العلمانية بمعنى العلم، و (العالمانية) أو (العلمانية) إنما هي بمعنى العالم، أي: الاقتصار فقط على الدنيا وعلى المادة، وإهمال جانب الغيبيات وجانب الآخرة وجوانب الدين كلها. فانظر إلى قوله تعالى هنا: ((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) فهذا هو العلم الحقيقي الذي ينسب الفضل إلى صاحبه، وينسب الخلق إلى خالقه عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) الآية

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) الآية يقول تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:98]. قوله: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) يعني آدم عليه السلام (فمستقر ومستودع) تُقرأ: (مستقَر) وتقرأ: (مستَقِر ومستودَع) بفتح الدال لا غير، أي أن الكسر والفتح هو فقط في كلمة (مستقِر) أما (مستودع) فبفتح الدال لا غير. وقوله: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع) يعني: فلكم استقرار واستيداع. أو: موضع استقرار واستيداع. وهذا الاستقرار إما في الأصلاب أو فوق الأرض؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24] يعني: على أنها مكان، أو في الأرحام؛ لقوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} [الحج:5] أو: (مستقر) في أصلاب الرجال و (مستودع) في أرحام النساء، فجعل الصلب مستقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب، يقول عز وجل: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:6 - 7]. وهذا أمر معروف الآن في علم التشريح، وهو أن الغدة التي تخرج منها الحيوانات المنوية التي تكون سبباً في خلق الإنسان تكون موجودة أساساً بين الصلب والترائب، ثم بعد ذلك يحصل الهبوط لها إلى موضعها في أسفل الجذع، لكنها توجد بين الصلب والترائب ثم بعد ذلك تنزل. فهذه -أيضاً- يعتبرونها من آيات الإعجاز العلمي، فقوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب) يعني: يخرج من الغدة والخصية التي تكون في هذا الموضع، ثم تنزل بعد ذلك حتى بعد أن يولد المولود. فقوله: (فمستقر ومستودع) مستقر النطفة الصلب، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر، وإنما من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، ثم تخرج من صلب الرجل، فكأن هذا الشخص نفسه هو الذي استودعها في هذا الموضع. أو يكون المعنى: تحت الأرض أو فوقها؛ فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرةً أخرى، يقول الشاعر: وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع وعلى قراءة: (فمستقِرٌ ومستودَع) يكون المعنى: منكم قار ومنكم مستودع.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به) {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99]. ثم بين تبارك وتعالى وتعالى حجةً كبرى على كمال قدرته، ومنةً أخرى من مننه ونعمه، فقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيء} [الأنعام:99]. قوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب. لقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69]، و (المزن) السحاب، وسمى السحاب سماءً لأن العرب تسمي كل ما علا سماءً، فسماء الحجرة هو السقف، والدليل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] وفي هذه الآية إشارة إلى حتمية نصر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن لا يصدق هذا وكان يظن أن الله لن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم ويعز دينه فليس له حل إلا أن يموت، وهذا مثل أن تقول لواحد: اذهب ومت، حيث لا توجد فائدة إلا كذلك. فمن كان يظن أن الله لن ينصر محمداً ويعز دينه صلى الله عليه وسلم فلا يوجد أمامه غير أنه يموت؛ لأن هذا لن يقع. فقوله: (فليمدد بسب) أي: ليربط حبلاً في السماء، والمراد: يربط الحبل في سقف الحجرة ويثبته حوله عنقه -بنفس نظرية الشنق- ويقف على الكرسي ويحرك الكرسي ثم يتدلى ثم ليقطع صلته بالأرض فيتدلى في الهواء، (فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) يعني: هو لا يكيد إلا نفسه، ولن يستطيع بهذا الظن أو بهذا الأمل في خذلان الإسلام أن يضر إلا نفسه. فهذا منتهى كيده أنه يكيد نفسه، لكن لا يستطيع أبداً أن يعطل وعد الله بنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى: (فليمدد بسبب إلى السماء). وكذلك هنا قوله: {(وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام:99]، ففي لغة العرب كل ما علاك فهو سماء. فقوله: (وهو الذي أنزل من السماء ماء) أي: من السحاب (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) هنا أسلوب بلاغي يسمى أسلوب التفات، وهذا التفات بشأن ما أنزل الماء لأجله، أي: فأخرجنا بعظمتنا ذلك الماء مع وحدته مَاءً نبات كل شيء، إشارة بهذا الالتفات إلى بيان كمال اعتناء الله سبحانه وتعالى بهذا الذي أخرجه من ماء واحد، ومع ذلك أخرج بماء واحد نبات كل شيء، أي: كل صنف من أصناف النبات والثمار المختلفة الطعوم والألوان، كقوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4]. وقوله: (فأخرجنا منه)، الهاء تعود على النبات في قوله: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ)) يعني: من النبات. والمقصود: من أصول النبات (خضراً) أي: شيئاً غضاً أخضر. يقال: أخضر وخضر، كأعور وعور، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. وقوله: (نخرج منه) صفة لـ (خضراً)، أي: نخرج من هذا الخضر (حباً متراكباً) أي: متراكماً بعضه على بعض، مثل سنابل البر والشعير والأرز. قال الرازي: ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الإبر، والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة. ونحن نلاحظ هذا، فمن نظر إلى السنابل يجد فيها أشياء مثل الإبر حتى لا تأتي الطيور فتلتقط تلك الحبوب من السنبلة. وهذا -أيضاً- علم عجيب جداً من العلوم، فمن كان يقرأ في هذه الأشياء والوسائل الدفاعية التي يزود الله سبحانه وتعالى بها الكائنات من أجل الحفاظ على بقائها وعلى حياتها؟! ومما سمعته من إخواننا الذين يشتغلون بزراعة التين أنهم يقولون: إن التينة ما لم تصل إلى استوائها ونضجها يوجد في أسفلها مادة لبنية تظهر إذا عصرت أسفلها، وهذه المادة اللبنية هي التي تحدث الشقوق والجروح في الشفتين وفي اللسان، فالذي يأكل تيناً كثيراً يحس أنه يوجد جرح في الشفتين وفي اللسان، فإذا استوت التينة لا توجد فيها هذه المادة، يقولون: كأن هذه عقوبة لمن يقطف الثمرة قبل أوانها. فعليك أن تعرف ذلك، وأن تتجنب أكل الشيء قبل أن يستوي وينضج، ومن تعجل الثمرة قبل أوانها وقبل نضجها واستوائها فإنه يفيد حلقه ولسانه هذا الإفراز اللبني الموجود في أسفل التينة. وهذا سمعته من الذين عندهم خبرة في زراعة التين، فهذا من الوسائل الدفاعية، حتى النبات يزوده الله سبحانه وتعالى بما يدفع عنه. وبعض الحيوانات البحرية يفرز حبراً أسود إذا ما تعرض لخطر وهذه المادة تعكر الرؤية على العدو القادم الذي يريد أن يلتهمه أو يؤذيه، وهكذا العالم كله عجيب جداً، وكل هذا الذي نقوله من آيات الله عز وجل. فبين تعالى ما يخرج عن النوى من الشجر فقال: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا)) يعني: متراكماً بعضه فوق بعض ثم بين تعالى ما ينشأ عن النوى من الشجر إثر بيان ما ينشأ عن الحب من النبات فقال سبحانه: ((وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ)) أي: الطلع أول ما يبدو من ثمر النخيل، فإن أول ما يظهر من ثمر النخيل هو الطلع، يكون كالكيزان الذي فيه العذق، فإذا شق عنه كيزانه سمي عذقاً، وهو القنو، وهو -أيضاً- العرجون بما فيه الشماريخ، وجمعه قنوان، والجمع والمثنى سواء، فالمثنى قنوان والجمع -أيضاً- قنوان، ولا يفرق بينهما إلا الإعراب. و (دانية) بمعنى: ملتفة يقرب بعضها من بعض، أو قريبة من المتناول، ولذا اقتصر على ذكرها لدلالتها على مقابلها، أي: البعيدة، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] ولزيادة النعمة فيها؛ لأنه قال عز وجل هنا: ((وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ))، (دانية) أي: إما أنها قريبة من بعضها، وإما قريبة لمن يتناولها، ولذا يجدها دانية. فهي تشمل الدانية والبعيدة، لكن لإظهار كمال النعمة اقتصر على ذكر الدانية، وإن كان السياق من حيث التفسير والمعنى يشمل -أيضاً- نعمة الله فيه البعيدة، لكن اقتصر على إحداهما لدلالة السياق عليه، كما اقتصر في قوله: (سرابيل تقيكم الحر) يعني: والبرد. قوله: ((وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ)) عطف على: (نبات كل شيء) أي: وأخرجنا به جنات. أو عطف على (خضراً). (مشتبهاً وغير متشابه) حال من الزيتون، واكتفى به عن حال ما بعده، أو حال من الرمان لقربه، والمحذوف حال الأول. قال الزمخشري: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك: استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً، ولذلك قال هنا: (مشتبهاً) من فعل (اشتبه) (وغير متشابه) من الفعل (تشابه). وقُرئ: (متشابهاً وغير متشابه)، والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم، وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها. وقوله: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) أي: ثمر كل واحد من ذلك إذا أخرج ثمره، انظروا كيف يكون ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به (وينعه) يعني: انظروا إليه في بداية خروج الثمر، وكيف يكون هذا الثمر ضئيلاً وضعيفاً، ثم انظروا إلى (ينعه) أي: إلى حال ينعه ونضجه، وكيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، أي: انظروا إلى ذلك نظر اعتبار واستفسار واستدلال، وليس المقصود أي نظر، ولا مجرد حاسة النظر المادي، وإنما المقصود التدبر والتفكر والاستبصار، ولا شك في أن الإنسان يعتبر بذلك. ولو سألك أحد عن دليل توحيد الله سبحانه وتعالى وعظم قدرته وعمله عز وجل فافتح له ثمرة الرمان، وقل: هذه دليل الوحدانية وتأمل في العجائب في مثل هذه الثمرة، وهذا مجرد أنموذج، والقرآن يدلنا على ما هو أكثر من ذلك، فتأمل في خلق ثمرة الرمان، وبدائع صنع الله سبحانه وتعالى فيها، سواء في منظرها، أو في مذاقها، أو في طريقة تركيبها، وحاول أن تعمل عقلك: كيف يخرج هذا من بين ماء وطين؟! و {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد:4] فانظر إلى هذه الثمار وتفكر فيها، والإنسان يعتقد أن ثمرة الرمان خاصة من أعظم ما يتجلى فيه عجيب صنع الله سبحانه وتعالى، فافتح مرة ثمرة الرمان لا لتأكلها ولكن لتتأمل فيها، ودقق في تراكب حباتها وعظم صنع الله سبحانه وتعالى فيها! يقول عز وجل: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) يعني: تأملوا حالة الثمر، سواء في بداية خروج الثمرة، وهي حالة الضعف؛ إذ لا يمكن أن ينتفع بهذه الثمرة، أو إلى حالة ينعها، وهي حالة النضج، وكيف ينتقل إلى هذه المرحلة من النضج والاستواء والانتفاع والملاذ. والمقصود: انظروا نظر اعتبار واستدلال على توحيد الله وقدرته، وعلى وقع الرحمة والحكمة من حال إلى حال، فإن في ذلك آيات عظيمة دالةٍ على ذلك، كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، فلا ينظر نظر اعتبار واستدلال على قدرة الله إلا هؤلاء العقلاء الذين يؤمنون، يعني: يصدقون بأن الذي أخرج هذا النبات وهذه الثمار هو المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه هو القادر على أن يحيي الموتى ويبعثهم. وقوله: (إن في ذلكم لآيات لقومٍ يؤمنون) يعني: يؤمنون بأن بالذي يخرج هذا الثمار هو الله وحده الذي يستحق العبادة، أو (يؤمنون) أي: يستدلون بها على البعث والن

أشرف أنواع الأشجار

أشرف أنواع الأشجار وقد تكلم هنا -أيضاً- الرازي بكلام يبخل الإنسان بأن يتجاوزه، يقول: اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أربعة أنواع من الأشجار: النخل، والعنب، والزيتون، والرمان، وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفاكهة، ولذلك قدم الزرع أولاً، ثم تكلم عن الشجر، وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهةً في خواص كثيرة، بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات، وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه، وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر تظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم، وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم بعدها يظهر الحصرم، وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى، وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، وهو من ألذ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها، فيمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر، وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة، ثم يبقى منه أنواع من المتناولات، وهي الزبيب والدبس والخل، ومنافع هذه لا يمكن أن يذكروها إلا في المجلدات، وأحسن ما في العنب عجمه، والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة، فثبت أن العنب سلطان الفواكه. وأما الزيتون فهو -أيضاً- كثير النفع؛ لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل -أيضاً- عنه دهن كثيف عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمالات. وأما الرمان فحاله عجيب جداً، وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام: قشره وشحمه وعجمه وماؤه، أما الأقسام الثلاثة الأول -وهي: القشر والشحم والعجم- فكلها باردة يابسة قابضة قوية في هذه الصفات، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات، فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال، وأشدها مناسبةً للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف، وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغيرين، فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم. واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة، التي هي أشرف أنواع النبات، واكتفى بذكرها تنبيهاً على البواقي.

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن)

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله شركاء الجن) قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100]. ولما ذكر تعالى هذه البراهين من دلائل العالم العلوي والسفلي على عظيم قدرته، وباهر حكمته، ووافر نعمته، واستحقاقه للألوهية وحده عقبها بتوبيخ من أشرك به والرد عليه، فقال عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100]. ونحن نعلم أن من أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية التركيز على آيات توحيد الربوبية، حتى تكون دليلاً ومقدمة لدعوة الناس إلى توحيد الإلهية، والسورة كلها هي في الدعوة إلى توحيد الإلهية، وأما ما فيها من آيات الربوبية فهو يقود مباشرةً إلى توحيد الإلهية. قوله: (وجعلوا لله شركاء الجن) أي: جعلوهم شركاءه في العبادة. فإن قيل: فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ أي أن هؤلاء القوم كانوا يعبدون الأصنام، فكيف اتخذوا الجن شركاء من دون الله؟ فالجواب أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم بذلك، فالذين أمروهم بعبادة الأصنام هم الجن، كما في قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:117 - 119] فكل المعاصي -سواء أكانت الكفر، أم ما دون الكفر- الآمر بها في الحقيقة هو الشيطان، كما في هذه الآية، وكقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} [الكهف:50]، وقال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44] لأن الذي يأمر بالشرك وعبادة الأصنام هو الشيطان، ووالد إبراهيم كان يعبد الأصنام، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام:74] إذاً: كان يعبد الأصنام يتخذها آلهةً، وهو ظاهر الآية الكريمة، فمن الذي أمر بذلك؟ إنه الشيطان، ولأن الشيطان هو الذي يأمر بهذا الشرك، فالذي يفعل هذه المظاهر من الإشراك يكون عابداً في الحقيقة للشيطان وأوليائه وأتباعه وذريته من الجن، ولذلك قال هنا: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ)) كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]. ولو أتيت إلى النصراني أو اليهودي أو المجوسي وقلت له: أنت تعبد الشيطان فربما استنكر منك ذلك جداً، ولقال اليهودي: أنا أعبد الله. أي: حسب تصوره، ولقال النصراني: أنا أعبد المسيح. وهكذا كل واحد يحاول أن يدافع عن المنهج الذي اختصه، لكن إنما هم في الحقيقة عابدون للشيطان؛ لأنه هو الذي يزين لهم ذلك، وهو الذي يأمرهم به. قوله: (وأن اعبدوني) يعني: وحدي. وقد ظهر في هذه الأزمان عجائب الفتن من عبادة الشيطان صراحةً في أوروبا وفي أمريكا، فيعبد الشيطان هناك صراحةً، ويتكلمون عن بطولة الشيطان، وعلى أنه هو الإله والعياذ بالله! وقبل هذا كانت هذه القضية مغطاة، وكنت إذا قلت لأحدهم: أنت تعبد الشيطان ينكر عليك ذلك، أما الآن فيعبد الشيطان صراحةً، حيث توجد معابد رسمية لعبدة الشيطان، ويمارسون كل الطقوس الشركية المعروفة عنهم والجرائم التي يفعلونها، ويسمون رسمياً بعبدة الشيطان، ولهم معابدهم، ولهم فرقهم والعياذ بالله! ويوجد ممن يسمون بالأدباء عندنا هنا -أيضاً- من يدافع عن إبليس، ويظن أنه بطل في الروايات ونحو هذه الأشياء التي يسمونها تحفاً أدبية، وفيها -أيضاً- تقديس للشيطان ودفاع عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد ذكر الله سبحانه أن الملائكة تقول يوم القيامة: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41]. والشيطان معروف أنه أصل الجن، فمن ثمَّ قال تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ))، وإعراب قوله تعالى: (وخلقهم) أنه حال من فعل (جعلوا) مؤكدة لما في جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها، يعني: والحال أنهم يعلمون أن الله هو الذي خلقها. أي أنهم عبدوا الجن مع أنهم يعلمون أن الله هو الذي خلق الجن، وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن، وليس من يخلق كمن لا يخلق. وقيل: الضمير للشركاء أي: والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟! وهذا كقول إبراهيم: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96] فانظر إلى الوقف هنا: (أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون) فعلى أحد التفسيرين: خلقكم وأعمالكم. والتفسير الآخر: (خلقكم وما تعملون) من هذه الأصنام؛ وفي الحديث: (إن الله صنع كل صانع وصنعته) فإذا كان هو المستقل بالخلق وجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له، وقيل: المراد بالجن الملائكة. فإنهم عبدوهم وقالوا عنهم: بنات الله. وكلا الأمرين موجب للشريك، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الولد كفء الوالد، فيشاركه في صفات الإلهية. فقوله: (وجعلوا لله شركاء الجن) قيل: هم الملائكة. فإذا كان المقصود الملائكة فلماذا عبدوا الملائكة وجعلوهم شركاء من دون الله عز وجل؟! A لأنهم قالوا: إنما يستعان بالله سبحانه وتعالى عن طريقهم. أو قالوا: إن الملائكة -والعياذ بالله- بنات الله! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأما تسمية الملائكة جناً فهذه تسمية حقيقية وليست مجازاً؛ لأن لفظ الجن يشمل الملائكة لغةً؛ لأن الملائكة يخفون ولا يظهرون، ولذلك فإن الآية التي في سورة الكهف، وهي قوله تبارك وتعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] ذهب فيها بعض المفسرين إلى قول مرجوح، فقال: الجن نوع من الملائكة. أو أن طائفة من الملائكة تسمى جناً، والله تعالى أعلم. والراجح أن إبليس ليس من الملائكة. قوله: (وخلقهم) إشارة إلى الدليل القاطع على فساد كون إبليس شريكاً. وتقريره أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم، بل هو محدث، وإذا ثبت هذا فنقول: إن كل محدث له خالق وموجد، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى، ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح، والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى، فحينئذٍ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد، فإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا: لابد من إلهين. فسقط قولهم: إن هناك إلهين: إلهاً قديماً وإلهاً محدثاً، والعياذ بالله. فقوله: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم) يعني: اتخذوهم شركاء مع أنهم يعلمون أن الله خلقهم، أي: خلق العابدين أو خلق الشركاء أنفسهم (وخرقوا له) يعني: اختلقوا وافتروا له (بنين) وهذا كقول أهل الكتابين في المسيح وفي عزير، وهو -أيضاً- كقول بعض العرب في الملائكة، ولذا قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]، وبعض الناس تذهب عقولهم مباشرة في هذه الآية إلى النصارى فقط، وينسون أنها كذلك في غير النصارى الذين قالوا: اتخذ الله ولداً. فاليهود قالوا: عزير ابن الله. والنصارى قالوا: المسيح ابن الله. والمشركون قالوا: إن الملائكة بنات الله. فكلمة ولد تشمل الذكر والأنثى. فقوله: (وخرقوا) أي: اخترقوا واختلقوا وافتروا له (بنين وبنات بغير علم)، يقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه. وسئل الحسن عنه فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبةً في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله. يعني: اختلقها وافتراها. ويجوز أن يكون من (خرق الثوب)، إذا شقه، أي: اشتقوا له بنين وبنات. وقُرئ: (وخرَّقوا له بنين وبنات بغير علم) وهذا للتكثير. وقوله: (بغير علم) أي: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب، ولكن رمياً بقول عن عمىً وجهالة من غير فكرٍ وروية، أو بغير علم بمرتبة ما قالوا، وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقدر قدره، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون بمجرد الرأي والهوى، وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه تعالى إلا ما جُزم به وقام عليه الدليل. ثم نزه ذاته العلية عما نسبوه إليه بقوله سبحانه وتعالى: (سبحانه وتعالى عما يصفون) يعني: من أوصاف الحوادث الخسيسة من المشاركة والتوليد.

تفسير قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة)

تفسير قوله تعالى: (بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة) ثم استدل تعالى على بطلان ما اجترءوا عليه بوجوه أربعة، بدأ منها بقوله عز وجل: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:101]. قوله: (بديع السموات والأرض) أي: مبدعهما بلا مثال سابق. يعني: يبدع ويحدث شيئاً لا نظير له من قبل، يقال: هذا شيء بديع، أي: لم يسبقه مثله في حسنه. وقيل: بمعنى عجيب النظير فيهما. قال أبو السعود: والأول هو الوجه، والمعنى أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة، فهو سبحانه فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال بالمرة، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟! يعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أبدع أقطار كل ما في العالم العلوي والسفلي من غير أن يكون له نظير من قبل أو مثال سابق، وخلق كل هذه الكائنات في السماوات وفي الأرض بلا مادة، فهو فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال بالمرة، أي: يحدث الأثر في غيره ولا يؤثر فيه سبحانه وتعالى شيء، فلا ينفعل بشيء، وإنما يفعل هو ويدبر ويصرف أحوال خلقه. ومعروف أن الوالد عنصر الولد، فالوالد هو العنصر الأساسي الذي يخرج منه الولد منفعلاً بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد تبارك وتعالى؟! ولذا قال: ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ)) يعني: من أين وكيف يكون له ولد كما زعموا، والحال أنه ليس له على زعمهم -أيضاً- صاحبة يكون الولد منها، ويستحيل ضرورةً وجود الولد بلا والدة وإن أمكن وجوده بلا والد، وأيضاً الولد لا يحصل إلا بين متجانسين، ولا مجانس له تعالى. وقوله: (أنى يكون له ولد) هذه جملة مستأنفة لتقرير تنزهه عن الولد، والحالية بعدها مؤكدة للاستحالة المذكورة، فقوله: (ولم تكن له صاحبة) جملة حالية، والمقصود منها تأكيد استحالة أن يكون لله تعالى ولد. وقوله: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) يعني: أنى يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء وانتظمه، وأوجد الموجودات التي من جملتها ما سموه ولداً له تعالى؟! فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولداً لخالقه؟! فإذا كان الله سبحانه خالق كل شيء فهذا الولد سيكون من هذه الأشياء المخلوقة له عز وجل، فكيف يكون المخلوق ولداً لخالقه؟! وقوله: (وهو بكل شيء عليم) أي: مبالغ في العلم أزلاً وأبداً. فهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء، أي أنه سبحانه عالم بكل المعلومات، فلو كان له ولد فلابد من أن يتصف بصفاته، ومنها عموم العلم، وهو لغيره تعالى منفي بالإجماع، وهذا الذي يدعونه ولداً ليس بهذه الصفة؛ فإنه سبحانه وتعالى الذي ينفرد بكونه بكل شيءٍ عليم.

الأنعام [102 - 110]

تفسير سورة الأنعام [102 - 110]

تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء)

تفسير قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء) قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102]. هذه الآية كقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام:101]. قوله تعالى: (ذلكم) أي: الموصوف بما سبق، البعيد رتبة عن مراتب من يشارك أو ينسب إليه الولادة، (ذلكم) الإله المنزه عن أن يكون له شريك، وعن أن يكون له ولد، (ذلكم الله ربكم) يعني: ذلكم الموصوف هو الله ربكم (لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه) يعني: بالإيمان به وحده. والمقصود: فاعبدوه وحده بلا شريك؛ فإن من جمع تلك الصفات استحق العبادة وحده. وقوله: (وهو على كل شيء وكيل) أي: رقيب وحفيظ، يدبر كل الخلق ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.

تفسير قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)

تفسير قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]. قوله: (لا تدركه الأبصار) هذه جملة مستأنفة، إما أنها مؤكدة لقوله تعالى: (وهو على كل شيء وكيل) وذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يُرى فليحذر، أي: أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء وكيل، أي: رقيب وحفيظ من حيث لا يُرى، أي أنه يراكم ويرى أعمالكم ويراقبكم، وأنتم لا ترونه. فقوله: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) مؤكد لقوله: (وهو على كل شيءٍ وكيل) فهو رقيب من حيث لا يُرى، فينبغي الحذر منه سبحانه وتعالى. وإما أنها مؤكدة لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليه عن إفكهم أعظم تأكيد، وذلك ببيان أنه لا تراه الأبصار المعهودة، يعني: أبصار أهل الدنيا لا تراه؛ لجلاله وكبريائه وعظمته، فإذا كان الله سبحانه وتعالى بهذه العظمة والتنزه والتعالي فكيف ينسب إليه هذه العظيمة التي هي نسبة الولد والشريك إليه؟! فالله سبحانه وتعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)؛ لأنه تعالى لم يخلق لأرباب هذه النشأة الدنيوية استعداداً لرؤيته، فالخلقة التي خلق الله عليها أهل الدنيا -خاصة أبصارهم- لا تؤهلهم لأن يروا الله عز وجل، فبالخلقة التي خلقنا عليها نحن لا نطيق رؤية الله عز وجل، ولذلك قال هنا: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، فعجز الناس عن رؤية ربهم في الدنيا هو بسبب ضعف نشأة هذه الدار، إلا لمن أمده الله بالقوة، وهذا بخلاف نشأة الآخرة؛ فإن المؤمنين والكافرين أيضاً تعاد نشأتهم من جديد في الآخرة، فالصفات والطاقات والقدرات لمن يخلقه الله سبحانه وتعالى في الآخرة تختلف تماماً عما هو عليه الحال في الدنيا. فمثلاً: قامة الإنسان وصورته وحجم أعضائه كل ذلك يتفاوت تماماً، فكل أهل الجنة يعاد خلقهم من جديد على صورة أبيهم آدم، وآدم كان طوله في السماء ستين ذراعاً، أي: ما يساوي عمارة الآن ارتفاعها خمسة عشر طابقاً، فهذا كان طول آدم عليه السلام، فكذلك أهل الجنة يدخلون على نفس هذه الصورة التي خلق عليها آدم عليه السلام، وقد صح في الأحاديث -أيضاً- أن ضرس الكافر في جهنم مثل جبل أحد، أي: الضرس الذي في فمه يكون مثل جبل أحد، وطول جبل أحد قرابة ستة كيلو مترات، فلك أن تتخيل كم يتضاعف إحساسه بالآلام وبالعذاب والعياذ بالله! فقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) (أل) هنا للعهد، يعني الأبصار المعهودة في الدنيا، وليست الأبصار مطلقاً؛ لأن أبصار أهل الجنة ترى الله سبحانه وتعالى، فالأبصار هنا الأبصار المعهودة التي نعرفها التي هي أبصار أهل الدنيا، فإنها لا تدرك الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الأحداق ما دامت على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). والله سبحانه وتعالى يرى كل المخلوقات لا يغيب عنه شيء. فبالنسبة لنا -نحن المخلوقين- هناك غيب وهناك شهادة، أما الله سبحانه وتعالى فكل شيءٍ عنده شهادة، فلا يغيب عن الله شيء أبداً، فحجابه النور، ولو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، أي: لاحترقت كل الكائنات لو كشف هذا الحجاب؛ لأنها لا تطيق ولا تتحمل رؤية الله عز وجل في الدنيا. قال ابن كثير: وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤيا فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] قال: يا موسى! إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده. يعني: تحطم واندك. قال عز وجل: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يعني: في الدنيا، {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، يعني: انظر هذا الجبل مع عظمته وضخامته ومتانته فإنه لا يتماسك إذا تجلى له الله سبحانه وتعالى {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] يعني: أنا أول المصدقين والمؤمنين بأنك لا تُرى في الدنيا، وإنما يُرى الله عز وجل في الآخرة. فالمنفي من الإدراك في هذه الدنيا هو الإدارك الدنيوي خاصة، ولا يحتاج إلى حجة ولا برهان، فقوله: (لاتدركه الأبصار) ليس مطلقاً، وإنما المقصود الأبصار المعهودة عند أهل الدنيا، فهي التي لا تدرك الله سبحانه وتعالى، (وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير). لكن بعض الفرق كالمعتزلة فهموا من هذه الآية: أن المنفي هو الإدراك في النشأتين، فقالوا: لا تدركه الأبصار لا في هذه النشأة في الدنيا ولا في الآخرة أيضاً؛ ولذلك ججدوا رؤية الله في الآخرة، فمن نحى هذا المنحى فقد نادى على نفسه بالجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المتواترة. أما الكتاب: فمثل قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] * {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] فلما أتبعها بـ (إلى) عين أن المقصود هو رؤية حقيقية، وأنها تنظر إلى الله سبحانه وتعالى في الجنة. وقال تبارك وتعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]. قيل: المزيد هو روية الله عز وجل في الجنة. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقد صح أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل. وقال تبارك وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فعوقبوا بالحجاب عن رؤية الله عز وجل، أما المؤمنون فقال تعالى عنهم: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] يعني: ينظرون إلى الله سبحانه وتعالى. وأما السنة فالأحاديث متواترة عن عدد كبير جداً من الصحابة الذين أثبتوا في أحاديثهم رؤية الله في الآخرة، فمن السنة ما رواه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري ومسلم قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صالة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]) وليس المقصود من التشبيه تشبيه المرأي بالمرأي، وإنما تشبيه الرؤية بالرؤية، ووجه الشبه هو شدة الوضوح، فليس المقصود من هذا الحديث تشبيه الله عز وجل بالقمر، معاذ الله! إذ كيف يشبه الله بالقمر؟! وإنما المقصود بقوله: كما ترون هذا القمر)، أن القمر كان بدراً منيراً في السماء ولا سحاب دونه، يعني أن رؤية الله في الآخرة ستكون كرؤيتكم القمر في الدنيا في شدة الوضوح، أما كيفية رؤية الله فالله أعلم كيف ستكون. لكن المقصود هنا تشبيه الرؤية بالرؤية، أي: تشبيه رؤية الله في الآخرة برؤية القمر في الدنيا، ووجه الشبه هو شدة الوضوح. وقوله: (إنكم سترون ربكم) خطاب للمؤمنين. وقوله: (لا تضامون) بتشديد الميم، من الانضمام؛ لأن الناس إذا أرادوا أن يروا شيئاً غير واضح فإنه ينضم بعضهم إلى بعض كي تقوى الشهادة بما يرونه، فترى أحدهم يقول: انظر فأنا أرى. فيأتي آخر فينضم إليه لكي يرى، وينضم بعضهم إلى بعض لكون الشيء الذي يرونه ليس واضحاً. فمثلاً: رؤية الهلال في أول الشهر، ربما احتاج الناس إلى أن ينضم بعضهم إلى بعض؛ لأنه يكون دقيقاً جداً في السماء، بحيث يمكن أن لا يرى، فلذلك قد يتضامون، أي: ينضم بعضهم إلى بعض حتى يؤكد الواحد منهم ما يراه الآخر إن سبق عدم وضوح المرئي. أو أن المعنى (لا تضامون في رؤيته) من الضيم الذي هو الظلم، يعني: لا يظلم بعضكم بعضاً بحيث يرى البعض والبعض الآخر لا يرى، فهذان الاحتمالان كلاهما ينفيان عدم وضوح رؤية الله في الآخرة، فلذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) أي: لا تحتاجون للانضمام، ولا يظلم بعضكم بعضاً، فيرى بعضكم وبعضكم لا يرى، وذلك لشدة الوضوح. قال: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا. ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]). قال ابن كثير: تواترت الأخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجرير وصهيب وبلال وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات. وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): وأدلته -يعني: في القرآن والسنة- طافحة بوقع ذلك في الآخرة لأهل الإيمان دون غيرهم، ومنع ذلك في الدنيا، إلا أنه اختلف في نبينا صلى الله عليه وسلم. يعني: حصل الاختلاف حول رؤية الله في الدنيا في حق الرسول عليه الصلاة والسلام: هل وقعت أم لا. قال ابن كثير: كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية. فـ عائشة كانت تستدل بهذه الآية، وهي قوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ

نفي وجود التعارض بين نفي الإدراك وإثبات الرؤية

نفي وجود التعارض بين نفي الإدراك وإثبات الرؤية وهذا الكلام الذي مضى في الآية (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) إنما هو بناء على أن نفي الإدراك هنا هو بمعنى الرؤية، فإذا نفينا وقلنا: (لا تدركه الأبصار) بمعنى: لا تراه الأبصار فنحن نقول: الأبصار المعهودة هنا في دار الدنيا. وهناك قول آخر قاله فريق آخر من العلماء، وهو أنهم قالوا: إنه لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ لأن الإدراك ليس المقصود به مطلق الرؤية. وقالوا: (لا تدركه الأبصار) الإدراك معناه الإحاطة ومعرفة الكنه، فهذا نفي الحقيقة، وهو ثابت، سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ إذ لا يحيط أحد بالله سبحانه وتعالى أبداً، ولذلك قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. يقول ابن كثير: وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك؛ فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو، فقيل: الإدراك المنفي هو معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو. أي: حتى لو رأى المؤمنون ربهم فإنهم لا يحيطون بالله علماً، ولا يدركون كنه الله عز وجل؛ فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وهذا مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة، لكن لا يعني ذلك أنهم يحيطون به علماً، أو أنهم يدركونه إدراك إحاطة، أي: لا يعرفون حقيقته وكنهه عز وجل، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فإذا قلت: نحن نرى القمر فهل معنى ذلك أنك تحيط علماً بالقمر؟! والجواب أن هذا لا يعني أنك تعرف تفاصيل القمر، بل العكس، فنحن لا نرى للقمر إلا جهة واحدة فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك، وهو أولى بذلك، وله المثل الأعلى، فنحن نرى القمر، لكن لا نحيط به، فمن باب أولى أن المؤمنين حتى لو رأوا الله فليس معناه أنهم يحيطون به، أي: لا يدركون كنه الله عز وجل وحقيقته. وقال آخرون: الإدراك أخص من الرؤية، فالإدراك بمعنى الإحاطة. وقالوا: لا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، فإذا قال الله سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فهل كوننا لا نحيط بالله علماً أننا لا نعلم شيئاً عن الله؟! و A لا؛ بل نحن نعلم من صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله ما بلغنا عن طريق الوحي، ونحن نعلم هذه الأشياء الخاصة التي جاءتنا عن طريق الوحي، لكن هل معنى ذلك أننا نحيط بالله علماً؟ A لا، فلا يتعارض كوننا لا نحيط بالله علماً مع كوننا نعلم بعض صفات الله سبحانه وتعالى، حتى أسماء الله لا نعرفها جميعاً، بل من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه. فكما يثبت لنا العلم بالله مع عدم الإحاطة كذلك يثبت للمؤمنين رؤية الله في الآخرة مع عدم الإدراك، فقوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: لا تحيط به الأبصار. ومثال ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) يعني: لا أستطيع أن أوفيك حقك من الثناء، فهل كونه لا يحيط بالثناء أو لا يستوفي كل ما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء هل هذا ينفي أنه أثنى على الله؟! الجواب: بل هو يثني على الله، لكن بدون أن يحيط بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الثناء، ولذلك قال: (لا أحصي ثناءً عليك) فنفى إحصاء الثناء، وهذا لا يتعارض مع ثبوت ثنائه على الله، فكذلك هاهنا. وقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) أي أنه يرى جميع المرئيات، ويبصر جميع المبصرات، ولا يخفى عليه شيء منها. وقوله: (وهو اللطيف) أي: الذي يعامل عباده باللطف والرأفة. وقوله: (الخبير) أي: العليم بدقائق الأمور وجلياتها أو جليلاتها. ويجوز أن تكون الجملة تعليلاً لما قبلها، كنوع من اللف والنشر، فـ (لا تدركه الأبصار) لأنه اللطيف (وهو يدرك الأبصار) لأنه الخبير. فجاءت هكذا (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) فاللطيف متعلق بقوله: (لا تدركه الأبصار) والخبير متعلق بقوله: (وهو يدرك الأبصار).

تفسير قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه)

تفسير قوله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه) قال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]. قول الله تعالى: (قد جاءكم بصائر من ربكم) يعني: الآيات والدلائل التي تبصرون بها الهدى من الضلالة. والبصائر جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به، ويجوز أن يكون المعنى: قد جاءكم من الوحي ما هو كالبصائر للقلوب، والمقصود به النور. فهناك نور يستبصر به القلب، ويعبر عنه بكلمة (بصيرة القلب) كما أن البصر نور تستبصر به العين، فالنور الذي ترى به العين هو البصر، فهناك البصر وهناك البصيرة، فما تعلق برؤية العين فهو البصر، وما تعلق برؤية القلب فهو البصيرة. وقوله: (قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر) يعني: من أبصر الحق بتلك البصائر وآمن به (فلنفسه)، يعني: فلنفسه أبصر؛ لأن نفع ذلك لها يعود على نفسه. وقوله: (ومن عمي) أي: من ضل عن الحق (فعليها)، ولا شك في أن التعبير عن الضلالة عن الحق بالعمى تقبيح لهذا الضلال وتنفير عنه. والمقصود بالعمى هنا عمى القلب؛ لأن الكلام هنا عن البصائر وليس عن الأبصار، وقد قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فكم من رجل له عينان حادتان مبصرتان ولكن لا بصيرة له، ولكنه أعمى القلب! وكم من رجل أعمى لا يرى بعينه لكن عنده بصيرة يرى بقلبه الحق ويهتدي إليه! قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، فالكلام هنا هو عن عمى القلب وليس عن عمى البصر، والآية هنا تتكلم عن البصائر التي هي نور القلب الذي يبصر القلب به الحق. ولذلك قال: (فمن أبصر) يعني: أبصر الحق بهذه البصائر فلنفسه (ومن عمي) يعني: ضل عن الحق (فعليها) وقد أشرنا أنه قبح الضلال عن الحق بأن وصفه بالعمى. وقوله: (فعليها) يعني: فعلى نفسه عمي، وإياها ضر بالعمى. وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ) أي: برقيب يرقبكم ويحفظكم عن الضلال، بل أنا منذر، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام:105]. قوله: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: نوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع، أي: ننوع الآيات ونوردها بصورة وبأخرى حتى نقيم الحجج والدلائل، وكذلك نصرف الآيات ونوردها على وجوه كثيرة في سائر المواضع لتكمل الحجة على المخالفين. وقوله: (وليقولوا درست) أي: وليقولوا في ردها: درست. وليقولوا في محاولة إبطالهم هذه الآيات التي نصرفها: درست أي: ليس هذا وحياً أوحاه الله إليك، وإنما أنت حصلت على هذه العلم عن طريق المدارسة، وتعلمته من غيرك، وقرأته على غيرك وحفظت منه أخبار من مضى. فكأن العلم الذي يحدث به النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أن يعزوه إلى العلم الكسبي، وحقيقة الأمر أن العلم الذي أوتيه الرسول هو علم وهبي وهبه الله سبحانه وتعالى له بالوحي، وعلمه الله إياه بالوحي، كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]. وهذه الآية هي كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن هؤلاء الكافرين: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]، يقال: درس الكتاب يدرسه دراسة: إذا أكثر قراءته وذل له حفظه. قال ابن عباس: (وليقولوا درست) يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن يقولون: درست. يعني: تعلمت من يسار وخير -وكانا عبدين من سبي الروم- ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله. وقال الفراء: معنى (درست): تعلمت هذا العلم من اليهود. وما زال الكفار إلى الآن -وكأنهم قد تواصوا بهذه الفرية- يقولون: إن القرآن عبارة عن صدى للتوراة والإنجيل. وهذا من جهلهم وكذبهم على الله سبحانه وتعالى وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يصوغ لهم الشيطان ما هم عليه من الكفر بالقرآن الكريم، فيتواصون بهذه العبارة، وينصح بعضهم بعضاً بها، ويرددونها كالببغاوات، لكن عند التمحيص بأدنى قدر من العقل والبصيرة يثبت أن هذا كذب وافتراء، والأمر بالعكس، فالقرآن مهيمن على ما في هذه الكتب وحاكم عليه، وشتان ما بين القرآن وبين هذين الكتابين المحرفين. وقُرئ: (وليقولوا دارستَ) بالألف وفتح التاء، يعني: دارست غيرك ممن يعلم أخبار الأمم الماضية. وهذا كقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، أي أنهم كانوا يزعمون أن الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن هو بشر أعجمي من الروم، فالله سبحانه أبطل قولهم بقوله: (لسان الذي يلحدون إليه) أي: هذا الشخص الذي يشيرون إليه ويميلون إلى أنه هو الذي علم الرسول عليه الصلاة والسلام هو رجل أعجمي عيي لا يعرف العربية الفصحى (وهذا لسان عربي مبين) فالقرآن في أعلى قمة الفصاحة والبلاغة، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان هذا أعجمياً عيياً لا يعرف العربية الفصحى فكيف يتسنى له أن يأتي بمثل هذا القرآن العربي المبين؟! وقُرئ أيضاً: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دَرَسَت) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع. كما قالوا: (أساطير الأولين). وهذه القراءات الثلاث متواترة، وهي (وليقولوا دَرَسْتَ) (وليقولوا دَارَسْتَ) (وليقولوا دَرَسَتَ) يعني: مضت وتقدمت وتكررت على الأسماع. وقُرئ في قراءة شاذة: (وليقولوا دُرست) على البناء للمجهول. أي: تليت وعفيت تلك الآيات. وقرئ أيضاً: (درَّست) مشدداً معلوماً، وتشديده للتكثير أو للتعبية، يعني: درست غيرك الكتب. وقُرئ مشدداً مجهولاً: (وليقولوا دُرِّسَت). وقُرئ: (دورست) مجهول دارس، ودارست. وقُرئ: (درُسَت) وكل هذه قراءات شاذة، أما القراءات المتواترة فهي الثلاث الأول. وقوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: نبين القرآن الكريم. وإن لم يجر له ذكر؛ لكونه معلوماً صريح السياق، فلم يرد فيه ذكر القرآن الكريم، لكن جاز التعبير عنه بالضمير (ولنبينه) لأنه يفهم من السياق أن الكلام إنما هو عن القرآن الكريم. (لقوم يعلمون) أي: يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه. وقيل: إن اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) لام العاقبة، واللام الثانية في قوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) بمعنى (كي) أي: وكي نبينه لقوم يعلمون. أي أنها لام تعليل. أما اللام الأولى في قوله: (وليقولوا درست) فهي لام العاقبة، أو لام الصيرورة، أي: لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا: (درست). فيقول تعالى: (وكذلك نصرف الآيات) يعني: لتكون الحجة على المخالفين، (وليقولوا) في ردها: (درست). فهل الله سبحانه وتعالى يصرف الآيات لسبب أن يقولوا: (درست)؟ A كلا، بل هو يصرف الآيات ليبينها لقوم يعلمون، ولكن آل أمرهم إلى أن يقولوا: (درست)، وهذا مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] فهل آل فرعون حينما التقطوا موسى كانوا يريدون بذلك أن يكون لهم موسى عدواً وحزناً؟ A العكس هو الحاصل، فقد قالت زوجة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9] فهم لم يلتقطوه للعداوة، وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين، ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى عداوة موسى عليه السلام، فاللام هنا لام العاقبة أو لام الصيرورة، وليست لام التعليل. فكذلك الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: (درست) ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، فشبه به. قال الخفاجي: وجوز أن يكون على الحقيقة أبو البقاء وغيره. أي أن اللام في (وليقولوا درست) هي على الحقيقة وليست لام الصيرورة أو العاقبة، يعني أنها لام تعليل. قالوا: لأن نزول الآيات هو لإضلال الأشقياء وهداية السعداء، كما قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]. وقال الرازي: حمل اللام على العاقبة بعيد؛ لأنه مجاز، وحمله على لام الغرض حقيقة، والحقيقة أقوى من المجاز، ولأن المراد منه هو عين المذكور في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة:26]. قال: ومما يؤكد هذا التأويل قوله: (ولنبينه لقوم يعلمون) يعني: أنه ما بينه إلا لهؤلاء، فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم، وإذ لم يكن بياناً لهم ثبت جعله ضلالاً لهم، فما لم يكن بياناً فإنه يكون ضلالاً لهم، ويضلون بأن يقولوا: (درست) ويكفروا به. فقوله: (وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون) اللام الثانية معروف أنها لام الحقيقة، أما اللام في: (وليقولوا درست) فمن قائل: إنها لام الصيرورة والعاقبة، ومن قائل: إنها لام الحقيقة كالتي في قوله تعالى: (ولنبينه لقوم يعلمون) فهؤلاء هم الذين يبين لهم الآيات، أما الأولون الذين سيقولون: (درست) فهم يضلون بهذه الآيات، ويزدادون بها كفراً وعناداً.

تفسير قوله تعالى: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو)

تفسير قوله تعالى: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو) قال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106]. ولما حكى تعالى عن المشركين قبحهم في تصريف الآيات أتبعه بالأمر بالثبات على ما هو عليه تقوية لقلبه وإزالة لما يحزنه، فقال عز وجل: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:106]. أي: أعرض عن هؤلاء الذين يقولون: (درست) ويردون الحق، واشتغل بما كلفت به. قوله: (اتبع ما أوحي إليك من ربك) يعني: من تبليغ الرسالة التي هي الآيات المصرفة مبالغة في إلزام الحجة. وقوله: (لا إله إلا هو) هذه الجملة اعتراضية أكد بها إيجاب الاتباع في قوله: (اتبع ما أوحي إليك من ربك) أو أنها حال مؤكدة. وقوله: (من ربك) يعني: منفرداً في الإلهية، فكأن (لا إله إلا هو) حال من (ربك) يعني: منفرداً في الإلهية. وقوله: (وأعرض عن المشركين) قال أبو مسلم: أريد بالإعراض الهجران لهم دون الإنذار وترك الموعظة، وليس المقصود من قوله: (وأعرض عن المشركين) أنك لا تنذرهم ولا تعظهم, وإنما المقصود: أعرض عنهم {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10] وليس معناها: أعرض عن نذارتهم وإبلاغهم الحق وإقامة الحجة عليهم، كلا؛ فإن هذا مستمر، لكن أعرض عن المشركين إما عن سفاهتهم وجهلهم وما يؤذونك به، وإما بهجرانهم ونبذهم، لكن لا يمكن حمل الآية: (أعرض عن المشركين) على معنى: لا تبلغهم الحق ولا تنذرهم. قال المهايمي: (وأعرض عن المشركين) أي: لا تحزن عليهم إذا أصروا على الشرك والعمى مع هذه البصائر، فلا تحزن عليهم، ولا تهلك نفسك من الحسرة والحزن عليهم لإعراضهم عنك وعن الحق. فهذه مواساة من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله يقول له: إني أردت بقاءهم على الشرك والعمى؛ لأن استعدادهم يقتضي ذلك، فطينتهم طينة خبيثة ترفض الحق، واستعدادهم يميل إلى الشر، فلم يرد الله سبحانه وتعالى بهم خيراً، ولم ييسرهم اليسرى، فأعرض عنهم فإنه لا ينفع فيهم شفقتك وحرصك عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا)

تفسير قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً) قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:107]. قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا) يعني: مع وجود الاستعداد للكفر في قلوبهم، فلو أن الله شاء أن يهتدوا وأنلا يشركوا مع وجود الاستعداد للشرك فيهم فإن مشيئة الله نافذة، لكن الحقيقة أن سنة الله جرت لرعاية هذا الاستعداد الذي في قلوبهم. وقوله: (وما جعلناك عليهم حفيظاً) أي: هم وإن كان لهم استعداد للإيمان في فطرتهم فقد أبطلوا هذا الاستعداد، فأنت وإن كنت داعياً إلى إصلاح الاستعداد الفطري فما جعلناك متولياً عليهم تحفظ مصالحهم حتى تكون مصلحاً لاستعدادهم الفطري. وقوله: (وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل) أي: ما أنت بوكيل تدبر عليهم أمورهم، أو تغيرهم من استعدادهم إلى استعداد آخر، بل هذا مفوض إلى الله تعالى يفعل بهم بمقتضى استعدادهم الطبيعي لهم من غير تغيير له، بل هو مفوض إلى اختيارهم. وفي قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) دليل على أن الله تعالى لا يريد إيمان الكافر، لا بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يمنعه عن الإيمان مع توجهه إليه، بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه؛ لعدم ترك اختياره الجزئي نحو الإيمان وإصراره على الكفر. أي أن الله تعالى يكله إلى نفسه ويخذله ولا يمده بالتوفيق والهداية إلى الحق، فإذا وكل إلى نفسه لا يأتي منها إلا الشر. وقوله تعالى أيضاً: (ولو شاء الله ما أشركوا) أي: كل ما يقع فإنما يقع بمشيئة الله، ولا شك في أن استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك وأسباب ذلك من تعليم الأذى والعادات وغيرها واقعة بإرادة من الله، وإلا لم تقع؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريد، فإن آمنوا بذلك فبهداية الله، وإلا فهون على نفسك؛ فما جعلناك تحفظهم عن الضلال، وما أنت بموكل عليهم بالإيمان. وهل قوله تعالى: (ولو شاء الله ما أشركوا) يتنافى مع ما عيرهم به فيما بعد من قوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]؟ وهل هذا يتعارض مع ذاك؟ A مستحيل أن يتعارض القرآن بعضه مع بعض، وإنما المقصود بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] أنهم قالوا ذلك احتجاجاً بالقدر في منع الشرك؛ لأنهم لو قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] على سبيل الاعتراف أو الإقرار بالقضاء والقدر لكان هذا شيئاً حسناً منهم، فإن قصدوا ذلك فهذا معنى محمود وصحيح؛ لأن كل شيء يجري بمشيئة الله، لكنهم ما أرادوا هذا، وإنما ساقوا هذه العبارة (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) للاحتجاج بالقدر، وليس لإثبات القدر. والقدر نحن نثبته ونقر به، لكن لا نحتج به على إبطال الشرع، وهذا كما في قوله تعالى في سورة يس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:47] أي: لو شاء الله أن يطعم هؤلاء الفقراء لأطعمهم، أي: أن ربنا شاء أن هؤلاء الفقراء يجوعون ويعرون ويفتقرون، فهل نغير ما شاءه الله؟! وكأنهم بهذا يثبتون القدر، لكن أليس الله قد شرع الشرائع وأمر بأوامر وتكليفات؟ A بلى، فقد أمركم أن تنفقوا على الفقراء، وأن تتصدقوا عليهم، فلماذا تضربون الشرع بالقدر؟ فالمؤمن يؤمن بالقدر لكن لا يحتج به، وإنما يحتج بالقدر في المصائب فقط، أي أن الاحتجاج بالقدر لا يكون إلا في المصائب التي تقع على الإنسان رغماً عنه بلا تسبب منه فيها ولا أسباب يستطيع أن يباشرها، فمثل هذا يحتج بالقدر، ولذلك تقول فيما فاتك مما لا سبيل إلى التفادي فيه: قدَّر الله وما شاء فعل. أو: قَدَرُ الله وما شاء فعل. فتأتي إلى مصيبة الموت فتقول: هذا قدر الله، ولكل أجل كتاب. وتتعزى في مصيبة الموت بالقدر، لكن هل إذا خالفت الشرع بارتكاب ما حرمه الله تقول: قدر الله أني فعلت هذا الذنب؟ وقدر الله وما شاء فعل؟ الجواب: لا يجوز لك ذلك، وهذه سنة من سنن المشركين، أعني الاحتجاج بالقدر في تعطيل الشرع. فإن تأملت الذنب الذي فيه مخالفة للشرع فستبقى طول عمرك تستغفر الله سبحانه وتعالى منه وتندم عليه، ولا يجوز لك أن تحتج بالقدر، فهؤلاء لو كانوا ساقوا هذه العبارة (لو شاء الله ما أشركنا) لإثبات القدر لكان هذا الكلام صحيحاً، لكن ما أوردوها إثباتاً للقدر، وإنما قالوها عناداً للشرع، وإبطالاً للشرع الذي يأمرهم أن يخرجوا من الشرك إلى التوحيد. فقولهم ذلك وإن كان صدقاً في نفس الأمر لكنهم كانوا به مكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين -أيضاً- بإرادة الله، فلماذا نحتج بالقدر فقط فيما يوافق أهواءنا؟! فيرتكب أحدهم المعاصي ويقول: هذا مكتوب عليّ! فلماذا لم تؤمن ولم تصل ولم تتصدق وتفعل الطاعات وتقول: إن هذا -أيضاً- قدر قد كتبه الله عليك؟! ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله لما بقوا مشركين، بل لكانوا موحدين، لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد وإثبات أنه لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم، فلذلك عيرهم به، لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر، فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله. فمن أين لك أن الله لم يشأ ذلك منك؟! وهل اطلعت على مشيئة الله وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق لم يرد إيمانهم الآن؟! فإنه ليس كلهم مطبوع القلب، بدليل إيمان من آمن منهم، فلو كان فيما مضى شاء الله أن تشرك فما يدريك الآن في هذه اللحظة أن الله شاء أن تقرأ أو تعمل عملاً ما؟ فربما يكون الله عز وجل شاء في هذا الزمان الحاضر أن تكون مؤمناً، بدليل أن من المشركين من أسلم بعد ذلك، فهل اطلعت على مشيئة الله لتعلم أن الله شاء منك أن تبقى على هذا الكفر؟! فلعله شاء منك أن تخرج من الكفر إلى الإيمان، كما قال جعفر الصادق: إن الله أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء -يعني: ما كتبه علينا من القدر والقضاء، وأراد منا الإرادة الشرعية التي كلفنا بها - فما أراده بنا كتمه عنا، وما أراده منا كشفه لنا، فما بالنا ننشغل بما أراده بنا عما أراده منا؟! يعني كونك من أهل الجنة أو من أهل النار وخاتمتك ومنزلتك عند الله ذلك شيء خبأه الله سبحانه وتعالى واستأثر بعلمه، لكن الله أراد منك شيئاً وأمرك بشيء، وهذا الشيء الذي أمرك به وضحه لك. فأمرك بالصلاة وبالزكاة وبالتوحيد ونحو ذلك، وحرم عليك كذا وكذا وكذا، فأنت لم تطلع على ما غيب عنك، لكنك تعرف جيداً أن الله أمرك بهذه الطاعة، فلا يجوز أن تلتفت إلى شيء مخبأ عن شيء ظاهر كلفت به وسوف تحاسب عليه.

تفسير قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:108]. قوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) يعني: لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح؛ لئلا يتجاوزوا إلى الجناب الرفيع. أي: إذا كان الحال أن المشركين إذا سببتم آلهتهم بالشتم والتقبيح وتعرفون من أحوالهم أنهم يردون عليكم بسب الله عز وجل فمن باب سد الذرائع لا تشرعوا في سب آلهتهم حتى لا يردون بسب الله عز وجل، مع أن آلهتهم تستحق السب، لكن نظراً إلى هذا المنكر الذي يترتب على إنشاء هذا الفعل من أجل ذلك نهى الله عن سب آلهتهم، وإن كان سبهم حقاً. روى عبد الرزاق عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهوا عنه لذلك. وقال الزجاج: نهوا أن يلعنوا الأصنام التي كانت تعبدها المشركون. وقوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) جملة (الذين يدعون) صلة تفتقر إلى العائد الذي هو الضمير الذي يعود على ما مضى، والعائد هنا مقدر، تقديره: ولا تسبوا الذين يدعونهم من دون الله، يعني الأصنام، والتعبير بـ (الذين) على زعمهم أنهم من أولي العلم، أو بناءً على أن سب آلهتهم سب لهم، كما يقال: ضرب الدابة صفع لراكبها. فإذا ضربت الدابة فكأنك تصفع من يركبها، وكذلك إذا شتمت الأصنام فكأنك تشتم عبَّادها، فمن ثمَّ قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله). فإن قيل: إنهم كانوا يقرون بالله وعظمته، وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون لهم شفعاء عنده فكيف يسبونه؟! أي: كيف يتوقع أن المشرك يسب الله سبحانه وتعالى ونحن نعلم أنهم كانوا يعظمون الله، وكانوا إذا عوتبوا فيما يأتونه من الشرك كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ويقولون: نحن نعلم أنها لا ترزق ولا تحيي ولا تميت، ولكن نحن نعبدها لتقربنا إلى الله زلفى ونتوسل بها إلى الله سبحانه وتعالى؟ فإذاً: كيف يسبونه؟! وهل يتصور مع تعظيمهم لله بهذه الطريقة أنهم يسبون الله؟! فالجواب أنهم لا يفعلون ذلك صريحاً، بل يفضي كلامهم إلى ذلك، وكأن مثل هذا أنك إذا سببت آلهته يشتمك ويشتم من أمرك بذلك، والعياذ بالله! ويحصل هذا الكفر الشنيع من بعض الناس، فقد يسب أحد الإنسان ويسب الذي خلقه، والعياذ بالله! فيرتد من الإسلام في طرفة عين، ويخرج من الملة صراحة، فإذا سب الشخص الذي يكلمه وسب -أيضاً- الذي خلقه -والعياذ بالله- فهذا كفر صراح بواح لاشك فيه على الإطلاق، ومثل هذه العبارات الشنيعة ينطق بها السفهاء. ولذلك فسرت كلمة (فيسبوا الله عدواً بغير علم) بأنهم لا يسبونه سباً صريحاً، وإنما يتلون في الكتاب بهذه الطريقة، أي: أنهم يأتون بكلام يفضي إلى سب الله، كشتمهم له ولمن يأمره بذلك أيضاً، فيشتمك ويشتم من أمرك بأن تشتم هذه الآلهة أو أمرك بأن تعظه به، وهذا تفسير حسن جداً، كما يقول القاسمي. وقوله: (فيسبوا الله عدواً بغير علم) فيه احتمال آخر، وهو أن سب الله سبحانه وتعالى يقع منهم بالفعل، أي: يسبون الله مباشرة وهم يعلمون أنهم يحبون الله، مع أنهم في وقت آخر يزعمون تعظيم الله؛ لأن الغيرة والغضب ربما حملهم على سب الله صريحاً، ألا ترى المسلم الذي ينتسب إلى الإسلام قد تحمله شدة غضبه على التكلم بالكفر، وهذا شيء نراه، وهو يزعم أنه مسلم وأنه موحد وأنه يشهد الشهادتين، ومع ذلك ربما يتمكن منه الشيطان إذا غضب حتى إنه لينطق بكلمة الكفر الصريح ويسب الله عز وجل والعياذ بالله! فمن باب أولى أن المشرك الذي يعبد الأصنام إذا تملكه الغضب والحمية الجاهلية يسب الله سبحانه وتعالى صراحة، وإن زعم في وقت آخر أنه يعظم الله، وأنه إنما يعبد الأصنام لتقربه إلى الله زلفى. وقوله: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) (عدواً) هنا مصدر، يعني: ظلماً وعدواناً. يقال: عدا عليه عدواً كـ (ضربه ضرباً)، ويقال: عدا عليه عُدُوَّاً وعداءً: إذا تعدى وتجاوز، وهو مفعول مطلق لـ (تسبوا) من معناه؛ لأن السب عدوان. فقوله: (فيسبوا الله عدواً) أي: فيسبوا الله سباً، فعبر عن المفعول المطلق الذي هو السب بالعدوان؛ لأن السب نوع من العدوان، أو أنها مفعول له، أو حال مؤكدة، مثل (بغير علم). قال ابن الفرج في الآية: إنه متى خيف من سب الكفار وأصنامهم أن يسبوا الله أو رسوله أو القرآن لم يجز أن يسبوا ولا دينهم. فمتى ما خفت وتوقعت من الكافر الذي تناظره أو تتعامل معه أنك إذا سببت آلهته أو أصنامه يرد عليك بأن يسب الله أو يسب الرسول عليه الصلاة والسلام أو يسب القرآن ففي هذه الحالة لا يجوز لك أن تسبهم، ولا أن تسب دينهم وآلهتهم.

الاستدلال بهذه الآية على قاعدة سد الذرائع

الاستدلال بهذه الآية على قاعدة سد الذرائع وهذه الآية أصل في قاعدة سد الذرائع، فقاعدة سد الذرائع الدليل الأصلي لها الذي تقوم عليها هو هذه الآية الكريمة: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)). وقال السيوطي: وقد يستدل بها على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا خيف من ذلك مفسدة أقوى، وكذا يترك كل فعل مطلوب إذا ترتب على فعله مفسدة أقوى من مفسدة تركه. وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية أن الحسن يصير قبيحاً إذا كان يحصل بفعله مفسدة. فلا يدفع الإنسان في هذه الحالة حسن النية، بل لابد مع حسن النية من بصيرة وحسن تقدير للعواقب، فالإنسان الذي يهجم على فعل أشياء دون النظر إلى العواقب لا يمدح، وإنما يكون مقصراً، فالفعل -حتى لو كان أصلاً جائزاً- إذا كان يترتب عليه مفسدة أشد من الفعل الذي ينهى عنه فمن الفقه أن لا يرتكب هذا الفعل الذي يؤدي إلى المفسدة الأقوى أو الأكبر. وقال الحاكم: نهوا عن سب الأصنام لوجهين: أحدهما: أنها جماد لا ذنب لها. يعني: أن الصنم جماد؛ لأنه من حجارة أو خشب أو عجوة أو نحو ذلك، فالأصنام جمادات، فإذا سببتها فأنت تسب جمادات. الثاني: أن ذلك يؤدي إلى المعصية بسب الله تعالى. وهذا هو المعنى الذي ذكرناه آنفاً. وهل معنى ذلك أن تسكت عن عبادة الأصنام؟ A لا، وإنما لا تسب آلهتهم إذا كان يترتب على السب أن يقابلوا سبك بسب الله أو سب الرسول عليه الصلاة والسلام أو سب القرآن، لكن لا يعني ذلك أن تسكت عن بيان أنه لا يجوز عبادتها، وأنها لا تنفع ولا تضر ولا تستحق العبادة، فهذا كله ليس بسب، وليس بداخل في السب. ولهذا قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم صفين: لا تسبوهم، ولكن اذكروا قبيح أفعالهم. أي: اذكروا أفعالهم القبيحة.

ترك النهي عن المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر

ترك النهي عن المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر قال الزمخشري: فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي؟ قلت: رب طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهي عنها؛ لأنها معصية لا لأنها طاعة؛ لأنها متى ما علم أنه يترتب عليها مفسدة فتخرج من حيز الطاعة إلى حيز المعصية، فيجوز أن ينهى عنها. يقول: كالنهي عن المنكر، بل هو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، فوجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر. فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنهما حضرا جنازة، فرأى محمد -يعني: ابن سيرين - نساءً خرجن مع الجنازة فرجع محمد بن سيرين، فقال: الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا يعني: هذا سيسقط علينا ديننا سريعاً، ويهلك ويضعف ديننا وإيماننا لو تركنا الطاعة لأجل المعصية. وقال -كما روي عنه أيضاً-: لا ندع حقاً لباطل. يعني: إذا كان أقرباء الميت -خاصة النساء- لا يراعون حرمات الله سبحانه وتعالى، فهل معنى ذلك أنك إذا مات أخوك المسلم الذي يرتكب أقاربه هذه المخالفات تقصر في حقه من اتباع جنازته أو الدعاء والاستغفار له؟! فهو ميت الآن وغير مكلف، وقد انتهى عمره، وطويت صحيفته، فبقي له عليك حق صلاة الجنازة وتشييعها والدعاء له والاستغفار إلى آخره. فلو أننا -خاصة في مثل هذا الزمان- تركنا هذا الحق لأجل الباطل الذي طرأ، وهو خروج النساء أو حصول كثير من المنكرات في الجنائز الآن فمعنى ذلك أنه لن تشيع جنائز إلا في القليل النادر؛ لأن الناس الذين يلتزمون بالشرع قلة، وهل هناك أسرة تخلوا من أناس لا يلتزمون بالشرع؟ فيوجد من النساء من تخرج تصرخ أو تنوح، ويمكن أن يوجد من أقرباء الميت من يأتي بالزهور، وربما وقع أشد من ذلك من الأحوال المعروفة في الجنائز. فالمقصود من الكلام أننا لو تركنا الطاعة لأجل معصية لأسرع ذلك في ديننا، كما قال الحسن. فهذا الفعل الذي فعله ابن سيرين ليس مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل في الجنازة طاعة، وهل حضور مثل هذه الجنازة التي خرج فيها النساء يكون سبباً في خروج النساء؟ وهل علاقة الحضور بوجود النساء علاقة السبب بالمسبب؟ أي: هل كان وجود ابن سيرين في الجنازة هو السبب الذي أخرج النساء كي يشيعن الجنازة؟ وهل إذا تخلف ابن سيرين سيتخلف وجود النساء أم سيبقين في الجنازة؟ فإذاً: لا يجوز الربط بين هذه الحادثة وبين ما نحن بصدده الآن من كلام في معنى الآية؛ لأن سب المشركين نهي عنه؛ لأنه يكون سبباً في أن يسبوا الله، فإذا سكت عن سبهم سكتوا عن سب الله، وهل وجود هذا الرجل سبب في وجود النساء؛ بحيث إذا انتفى السبب ينتفي المسبب، بمعنى أنه إذا تخلف سينقطع هذا المنكر؟ A لا ينبغي قياس هذا على ذاك، ولا يقاس هذا الموقف على ما نحن بصدده في معنى الآية. فمن ثمَّ يقول الزمخشري: فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر، فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين أنها حضرا جنازة فرأى محمد نساءً فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا مما نحن بصدده؛ لأن حضور الرجل الجنازة طاعة، وليس سبباً لحضور النساء؛ لأنهن يحضرنهن، سواء حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة، وإنما خيل إلى ابن سيرين أنه مثله، حتى نبه عليه الحسن. انتهى كلام الزمخشري. فـ ابن سيرين اعتبر هذا الموقف مثل الموقف المذكور في الآية حتى نبه عليه الحسن وبين خطأه في ذلك. ومنه قال بعض مفسري الزيدية: واعلم أن المعصية إن كانت حاصلة لا محالة سواء فعل الحسن أم لا لم يسقط الواجب، لا يقبح الحسن. وقال الخفاجي: إن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وكانت سبباً لها وجب تركها، بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها، وكثيراً ما يشتبهان، فلم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء، وخالفه الحسن للفرق بينهما. وقال الرازي: وفي الآية تأديب لمن يدعو إلى الدين؛ لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب؛ لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تضر ولا تنفع يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها. وهذا تنبيه مهم جداً، فليس معنى عدم سب الآلهة عدم بيان بطلان عبادتها، وأنها لا تستحق العبادة، وأنها لا تضر ولا تنفع، فهذا لابد منه، وهذا هو من التوحيد، وهذه هي الدعوة إلى الكفر بالطاغوت، لكن السب شيء وبيان بطلانها وعدم استحقاقها العبادة شيء آخر، فالنهي هنا عن سب الآلهة إذا كان يؤدي إلى سب الله سبحانه وتعالى. فإذاً: الذي يدعو الناس إلى الدين ينبغي أن لا يتشاغل بشيء لا يؤدي إلى فائدة مطلوب منه أن يحصلها. لكن يصف الأوثان بأنها جمادات، وأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ولا تملك لهم شيئاً، مما يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة إلى سبها مادام عندنا الأدلة والحجة على إبطال استحقاقها للعبادة، فنحن بعد ذلك لا نحتاج إلى شتمها.

تزيين الباطل وسهولته على النفس

تزيين الباطل وسهولته على النفس ثم قال تعالى: ((كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)) أي: كذلك زينا لكل أمة من الأمم الماضية الضلال. وقوله: (ثم إلى ربهم مرجعهم) يعني: بالبعث بعد الموت. قوله: (فينبئهم) يعني: يخبرهم بما كانوا يعملون في الدنيا، وذلك بالمحاسبة والمجازاة عليه. وقوله: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) يعني أن كل ما يظهر في هذه النشأة في الدنيا من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مستعارة مخالفة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة. مثلاً: المعاصي هي سموم قاتلة، لكنها برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة، كما نطقت هذه الآية (كذلك زينا لكل أمة عملهم). فالمعاصي تظهر في هذه الدنيا بصورة غير صورتها الحقيقية عند هؤلاء العصاة، فأحدهم يعتبر أن تحصيل المعصية نوع من المكسب العظيم إن استطاع أن ينجز هذا الإنجاز وأن يحصل على هذا المكسب، مع أن المعاصي في الحقيقة هي سموم قاتلة، فبرزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة كما نطقت به هذه الآية الكريمة. وكذا الطاعات، مع أن الطاعات هي أحسن المحاسن، لكنها ظهرت عند هؤلاء بصورة مكروهة مستثقلة، فيكره أحدهم العبادة والطاعة، ويرى فيها مشقة وعبئاً عليه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) فقوله: (حفت الجنة بالمكاره) يعني الأشياء التي تشق على النفوس (وحفت النار بالشهوات) يعني أن دخول بابها سهل؛ لأن الشيطان يدعو إليه، والنفس تدعو إلى المعاصي والهوى. فعوامل التردي والهدم كثيرة جداً، والهوى يساعد على ذلك، أما الجنة فتحتاج إلى نوع من المجاهدة والمقاومة، فحفت الجنة بالمكاره التي لا تخلو من مشقة على النفس، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] والتكليف شاق على المكلف، والتكليف الشرعي داخل في معنى المشقة، لكنها مشقة تدخل في طوق الإنسان وفي قدرته، وليست المشقة غير الاعتيادية؛ لأنه إذا كانت المشقة غير اعتيادية فإنه يأتي معها تخفيف عن المكلف. لكن أي عبادة لا تخلو من مشقة، فالصيام فيه مشقة، والصلاة فيها مشقة، والوضوء فيه مشقة، لكن هذه المشقة تدخل في استطاعة الإنسان، فهو مكلف بأن يتحمل هذه المشقة وهذه المكاره. فإذاً: الأعمال التي يعملها الكفرة برزت لهم في هذه النشأة بصورة مزينة تستحسنها الغواة، وتستحبها الطغاة، لكنها في النشأة الآخرة ستظهر بصورتها الحقيقية المنكرة الهائلة، فعند ذلك يعرفون حقيقة هذه الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا، فعبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها. قوله: (فينبئهم بما كانوا يعملون) يعني: يظهرها لهم في صورتها الحقيقية حتى يعلموا حقيقة ما كانوا عليه في الدنيا، وأنها إنما زينت لهم هذه المعاصي، وهذا هو سبب عدم توبة أكثر الناس؛ لأنهم يرون الأشياء على غير حقيقتها. كما قال تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة:37] وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، وهذا كحال الكافر والمبتدع، فأحدهما يرى الشيء القبيح حسناً، فإذا رآه حسناً هل يتصور أنه يتوب منه؟ لا يتصور؛ لأنه يراه حسناً، ولذا لن يفكر في التوبة. فمن ثمَّ قال بعض السلف: ليس لصاحب بدعة توبة. بمعنى أنه يستحسن البدع، ويراها بصورة حسنة، فكيف يتوب؟ فمن ثمَّ لا ترجى له توبة، بخلاف العاصي، فإن أمره أخف؛ لأن العاصي، الموحد يرى معاصيه فيبغضها، لكن الهوى يغلبه، فمن ثمَّ يرجى له التوبة، أما المبتدع فقد زين له سوء عمله فرآه حسناً. وقد قال تعالى في اليهود الذين عبدوا العجل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] يعني: تغلغل حب العجل في قلوبهم على أنه هو إلههم، وتخلل في قلوبهم حبه حتى أشربوه، وتشبعوا به، فصاروا يحبونه حباً ملك عليهم كيانهم. قيل لـ سفيان الثوري رحمه الله: ما بال أهل الأهواء شديدو المحبة لأهوائهم؟ فقال: ألم تر إلى قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93]؟ فلا تعجب إذا رأيت صاحب مبدأ هدام أو مبدأ ضال أو عقيدة إلحادية أو شركية أو كفرية وهو سعيد جداً بما هو عليه؛ لأنه زين له سوء عمله، والشيطان يزين له هذه الأشياء، فهو يعتقد أنه على الحق، وأنه على الصواب، وأنه مستعد لأن يضحي بروحه في سبيل نصرة هذه الباطل الذي هو عليه.

تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها)

تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109]. قوله: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) (جهد) مصدر وقع موقع الحال، أي: أقسموا بالله تعالى جاهدين في أيمانهم باذلين في توثيقها طاقتهم، يعني أنهم يقسمون ويجتهدون في توثيق اليمين المغلظة التي يحلفون. وقوله: (لئن جاءتهم آية) يعني: خارقة، كالآيات التي يقترحونها. وقوله: (قل إنما الآيات عند الله) أي: أمرها في حكمه وقضائه خاصة، يعني: إنما أنا عبد ورسول أبلغ ما أرسلت به؛ لأن التحكم في الآيات التي هي عبارة عن كشف لقدرة الله سبحانه وتعالى في المعجزات والخوارق ليس إلي، بل هذا إلى الله عز وجل يتصرف بها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة، فلا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته، وليست في قدرة أحد ولا في مشيئته حتى يمكنه أن يتصدى لاستنزالها للاستدعاء, وهذا سد لباب الاقتراح على أبلغ وجه وأحسنه لبيان صعوبة منالها وعلو شأنها. فاقتراح الآيات أمر ليس بالسهل، وليس أمراً موكولاً إليّ ولا إليكم، إنما هو مفوض إلى الله سبحانه وتعالى. فهذا من أعظم الردود في سد باب الاقتراحات على الله سبحانه وتعالى أن ينزل كذا، وقولهم: لو أن الله فعل كذا وكذا لنؤمنن به. وغير ذلك مما جاءت به كثير من الآيات. ثم قال تبارك وتعالى: (وما يشعركم) يعني: أيها المؤمنون! والخطاب للمؤمنين لأن المؤمنين كانوا يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم، فالمؤمنون كانوا يسمعون المشركين يقترحون الآيات على الرسول عليه الصلاة والسلام، فكانت قلوبهم تتطلع إلى أن يجيبه الله تعالى بهذه الآيات التي يقترحونها طمعاً في إيمان هؤلاء المشركين. فالله سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين ويقول لهم: (وما يشعركم) أيها المؤمنون (أنها إذا جاءت لا يؤمنون). وقيل: الخطاب للمشركين، والمعنى: وما يشعركم -أيها المشركون! - أنها إذا جاءت لا تؤمنون. لأنه جاء في قراءة أخرى: (لا تؤمنون) وإذا قلنا: وما يشعركم -أيها المشركون- أنها إذا جاءت لا يؤمنون سيكون فيها التفات، فقوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) هذا الخطاب متعلق بالمشركين، والخطاب -أيضاً- متعلق بالمشركين في قوله (يشعركم) لكن فيه التفات، ومما يؤيد هذا قراءة (لا تؤمنون).

تفسير قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة)

تفسير قوله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]. قوله: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) هذا عطف على قوله: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) أي أن هذه الآية داخلة في حكم (ما يشعركم)، والمعنى: وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه، لكن لا مع توجهها إليه واستعدادها لقبوله، بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية؛ لأن قلوبهم -أصلاً- معرضة عن الحق، ولا تريد الحق، فبذلك لا ينتفعون بهذه الآيات، ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر، دفعاً لتوهم أن عدم إيمانهم ناشئ من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. وقوله: (كما لم يؤمنوا به) يعني: بما جاء من الآيات. وقوله: (أول مرة) يعني: قبل سؤالهم الآيات التي اقترحوها. وقوله: (ونذرهم) أي: ندعهم. وقوله: (في طغيانهم يعمهون) أي: يترددون متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين. يعني أن الإنسان إذا ارتفعت عنه عناية الله فلابد من أن يغرق في الضلال، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلو وكل الله سبحانه الإنسان إلى نفسه طرفة عين لفسدت عليه كل أموره، فالمقصود هنا بقوله: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون) يعني: نحرمهم مما مننا به على المؤمنين من التوفيق والهداية؛ لأنهم إذا تركوا إلى نفوسهم وتركهم الله وودعهم فإنهم يعمهون ويتحيرون في العمى والضلال، فلا نهديهم هداية المؤمنين. وفي الآية دليل على أن الله تعالى يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فإن القلوب والأبصار بيده وفي تصريفه، فيقيم ما شاء منها، ويزيغ ما أراد منها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك). وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك. فقلت: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء). فالهداية والإضلال من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه قوله هنا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأنعام [111 - 121]

تفسير سورة الأنعام [111 - 121]

تفسير قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا)

تفسير قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً) قال تعالى: فقد انتهينا في تفسير سورة الأنعام إلى قوله تبارك وتعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109] * {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] بعدما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم اجتهادهم في الأيمان بقوله: ((وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا)) بين تعالى كذبهم في أيمانهم الفاجرة على أبلغ وجه وأكده فقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام:111]. قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) يعني: فرأوهم عياناً، أي أننا لم نقتصر على إيتاء ما اقترحوه هنا من آية واحدة، ولن نجيبهم فقط إلى آية واحدة يطلبونها، لكن سنأتيهم بجملة كبيرة من الآيات، ومنها أن ننزل إليهم ملائكة، كما قال تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]. وحكى عنهم أن من اقتراحاتهم الطويلة أنهم قالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92]. فيقول تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى) يعني: بإحيائنا إياهم. أي: نحيي الموتى فيكلمونهم. كما قالوا: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36]. وقوله: (وحشرنا عليهم) أي: جمعنا (كل شيء) سواء من الحيوانات أو النباتات أو الجمادات، أو كل شيء من الآيات التي اقترحوها. وقوله: (قبلاً) أي: مقابلة وعياناً حتى يواجهوهم قبلاً كما يكون الشيء في قبل الشيء، أي: في مقابلته في مواجهة ورؤية عينية حتى تحصل المواجهة، أو أن (قبلاً) جمع قبيل، وهو الكفيل والضمين. فقوله: (وحشرنا عليهم كل شيء) يعني: كل شيء اقترحوه أو سألوه من الآيات، أو كل شيء من الحيوانات والنباتات والجمادات. (قبلاً) أي: كفلاء، جمع كفيل، أي: بصحة ما بشروا به وأنذروا، بحيث تأتي هذه الأشياء كلها من النباتات والحيوانات والجمادات وينطقها الله سبحانه وتعالى، وتضمن لهم وتشهد بصحة ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من البشارة والنذارة، فتضمن لهم صدق هذه الأخبار، وتنطق لهم بذلك (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) أي: ما كانوا ليؤمنوا لغلوهم في التمرد والطغيان. وقوله: (إلا أن يشاء الله) يعني: إلا أن يشاء الله إيمانهم فيؤمنوا. وقوله: (ولكن أكثرهم يجهلون) يعني أنهم لو أوتوا كل آية لم يؤمنوا، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكون، أو يجهلون أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات. قال القاشاني: وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس وإقرار باللسان وليس في القلب من معناه شيء، كإيمان أصحاب السامري، والإيمان لا يكون إلا بالقلب، كما قال تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] وهنا تنبيهان: الأول: يقرأ قوله تعالى: (وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلاً) بضم القاف والباء، وعلى هذه القراءة يكون لقوله: (قُبُلاً) وجهان: أحدهما: أنه جمع قبيل بمعنى كفيل وضمين. والقول الآخر أنه مفرد، كقبل الإنسان ودبره، وعلى كلا الوجهين هو حال من (كل). ويقرأ -أيضاً- بالضم وسكون الباء، فبدلاً من أن نقول: (قُبُلاً) بضم الباء نقول: (قُبْلاً) بتسكين الباء. ويقرأ -أيضاً- بكسر القاف وفتح الباء (قِبلاً) منصوباً على أنه ظرف، كقولهم: لي قَبِلَ فلان حق. أي: عند فلان حق، أو أنه نصب على الحالية، وهو مصدر، أي: عياناً ومشاهدة. فمعنى (قبلاً): أي: مقابلة وعياناً. وهناك شاهد من القرآن الكريم على أن كلمة (قبل) تأتي بمعنى المشاهدة أو المعاينة، وهو قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف:26] يعني: من أمام. وقوله: (إلا أن يشاء الله) هذا الجزء من الآية حجة واضحة على المعتزلة، بدلالة أن جميع الأشياء بمشيئة الله تبارك وتعالى، حتى الإيمان والكفر، وقد اتفق سلف هذه الأمة على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وللمعتزلة تحيل في المدافعة بحمل المشيئة المنفية على مشيئة القصر والاضطرار، وإنما يتم لهم ذلك لو كان القرآن يتبع الآراء، فلو كان القرآن تابعاً لآرائهم وبدعهم لتم لهم هذا الاستدلال، بمعنى أنهم يحاولون تحريف آيات الله سبحانه وتعالى وتأويلها بما يوافق بدعتهم، فيجعلون بدعتهم وزبالة آرائهم هي الأصل، ثم بعد ذلك يحرفون معاني القرآن حتى توافق بدعتهم، فيجعلون معاني القرآن والسنة فرعاً على الأصول التي ابتدعوها، وإذا كان القرآن هو القدوة وهو المتبوع فما خالفه حينئذ وتزحزح عنه فإلى النار، وما بعد الحق إلا الضلال. ولذلك قال تعالى هنا: (إلا أن يشاء الله) فهذه الآية مما يدحض حجج المعتزلة، فإن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، وكل شيء يجري في الكون بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) ثم يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112]، فهنا تسلية ومواساة للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يلقاه من هؤلاء الكافرين. قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) شياطين بدل من (عدواً) منصوب، ويمكن فيه إعراب آخر، وهو: أنه مفعول به أول لـ (جعلنا)، وهنا حصل تقديم وتأخير بالنسبة للمفعول الأول والثاني في قوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) فالمعنى: وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الإنس والجن عدواً، فـ (عدواً) مفعول ثانٍ، و (شياطين) مفعول أول، يعني: جعلنا شياطين الإنس والجن عدواً. والعدو هنا بمعنى: أعداء، فظاهرها مفرد، لكن معناها أعداء، كما قال الشاعر: إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لم يضرهم بغضي فانظر كيف استعمل كلمة (عدو) في معنى الجمع! والعدو ضد الصديق والحبيب. وكلمة عدو تطلق على المفرد والمثنى والجمع والذكر والأنثى، كما قال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فهو يتكلم هنا عن جمع، ومع ذلك قال: (عدو لي إلا رب العالمين). وكذلك هنا في نفس هذه الآية (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً) فـ (عدواً) هنا بمعنى الجمع، بدليل أنه أبدل منها (شياطين الإنس والجن) أي: مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك قد جعلناه لكل نبي. يعني: هذه سنة الله سبحانه وتعالى فيمن سبقك من إخوانك من الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى يجعل لكل نبي عدواً من هؤلاء الشياطين. فكلمة (كذلك) إشارة إلى أن مثل ذلك الجعل الذي جعلناه في حقك من وجود هؤلاء الأعداء الذين يكيدونك جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين سبقوك أيضاً عدواً شياطين الإنس والجن، فحيث جعلنا لك عدواً يضادونك ولا يؤمنون قد جعلنا لكل نبي تقدمك عدواً من مردة الإنس والجن فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤك، كما قال تبارك وتعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]. وقال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، فهذه الآية بينت صفة أخرى لهؤلاء الأعداء شياطين الإنس والجن هي أنهم مجرمون. وقد قال: ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن نزل إليه جبريل ثم جاءت به خديجة إليه: (هذا الناموس الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك. قال: أومخرجي هم؟! قال: نعم؛ لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً). فالشاهد هنا من قول ورقة رحمه الله تعالى (لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي) فمن كان صاحب حق فإنه يعادى، وانظر إلى كلمة (بمثل) الدالة على دعوة التوحيد، فمن كان داعية إلى التوحيد فلابد من أن يعادى. وقد تزول العداوة إذا حصل تنازل عن الحق، وهذا لا يسلكه صاحب العقيدة الحقة؛ لأنه لا يقبل المساومة أبداً، ولا يحصل منه الالتقاء مع أعداء الدين في منتصف الطريق كما أراد المشركون، فالذين يتنازلون دائماً هم أصحاب الباطل، وهم الذين يتواضع بعضهم لبعض ويتنازل بعضهم لبعض ويتعايشون في سلام. أما صاحب الحق فلأنه لا يملك أن يحور هذا الحق أو يغيره فلا يملك أن يتنازل عنه، أو أن يلتقي مع أعداء هذا الحق في منتصف الطريق، وحينما ساوم الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعبدوا إلهه شهراً ويعبد إلههم شهراً فإن كان الحق أحدهما اتبعوه نزل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:1 - 6] يعني الباطل {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] يعني الحق. فلذلك لا يحصل مثل هذا الالتقاء أبداً، فالذي يعرض دائماً التنازل هم أصحاب الباطل، ولذلك نجد أهل المذاهب الباطلة كالمذاهب الديمقراطية ونحوها يقبلون التعايش فيما بينهم؛ لأن كل واحد يمكن أن يلتقي مع الآخر على أساس أن الكل يكون له فرصة متساوية وكذا وكذا من الكلام المعروف؛ لأنه باطل وصنع بشر، فلذلك يتنازل بعضهم لبعض، ويعطي بعضهم أصحاب المذهب الباطل أو الضال الحق في الحياة والحق في الوجود، وهذا إذا كانت المذاهب كلها متساوية في أنها أديان أرضية. أما إذا كان دين الإسلام فلا يمكن أبداً أن يُسوى الإسلام بغيره من الأديان أو المذاهب. وصاحب الحق إذا تنازل عن شيء من الحق فإنه يفقد بذلك عناصر قوته، ويستوي مع أهل الباطل في هذه الحال. ولذلك انظر إلى قول ورقة بن نوفل: (لم يأت رجل قط بمثل) وما زلنا نتأمل كلمة (بمثل ما جئت به إلا عودي). وقوله تعالى: (شياطين الإنس والجن) يعني: كما أن هناك شياطين من الجن فكذلك هناك شياطين من الإنس، وكلهم يطلق عليهم لفظ الشياطين، فمن الإنس -أيضاً- شياطين، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]، أي: شياطينهم من الإنس. والعرب تسمي كل متمرد شيطاناً، سواء أكان من الجن أم من الإنس أم من غيرهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الكلب الأسود شيطان)، فكل متمرد يسمى شيطاناً، سواء أكان من الجن أم الإنس أم من غيرهما. وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض) أي: يلقي ويوسوس، وأصل الوحي هو الإشارة السريعة في خفاء، فمعنى (يوحي) يلقي ويوسوس. وقوله (زخرف القول) القول المزخرف هو المزوق من الكلام الباطل. فقوله: (زخرف القول) يعني: المزوق من الكلام الباطل من القول، وأصل الزخرفة الزينة المزوقة، ولذلك قيل للذهب: زخرف. كما في قوله تعالى: {وَزُخْرُفًا} [الزخرف:35]. وبعض علماء اللغة يرون أن أصل الزخرفة هو الزينة، ولأجل ذلك فرع عليه تسمية الذهب زخرفاً. والبعض يقول: بل المعنى الأصلي هو أن الزخرف يعني الذهب، ولما كان الذهب حسناً في الأعين قيل لكل زينة: مزخرفة. وقد يخص بالباطل، كما في هذه الآية (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) فزخرف القول هو القول المموه المزيف الباطل. وقوله: (يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) يعني: ليغروهم بهذا الوحي، أو غارين إياهم بهذا الوحي. ويكون هذا الغرور للضعفاء؛ لأن الله تعالى جعلهم أهل الحجاب، وكذلك الغارين ليقهرهم بمقتضى استعدادهم، وفي الآية دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه؛ لأن هذا الجعل من الله، والجعل نوعان: جعل شرعي، وجعل كوني قدري. وهنا الجعل كوني قدري، وقد جاء في القرآن الكريم استعمال كلمة جعل بمعنى (شرع)، كما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] يعني: ما شرع لكم في الدين من حرج: وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة:103] يعني: ما شرع. فهنا الجعل كوني قدري، أي أنه من قدر الله سبحانه وتعالى وكلماته الكونية. قال المهايمي: حكمة أن جعل الله سبحانه وتعالى لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن كي تظهر الحجج لمجادلتهم وترتفع شبهاتهم، ولئلا يقال: إنه شخص ساعده الكل ليأكلوا أموال الناس، أو يتواصوا عليهم، لكن انقسم الناس عليه كما بين تبارك وتعالى. وقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) يعني: ما فعلوا ذلك، والإشارة إلى معاداة الأنبياء وإيحاء الزخارف، وهذا -أيضاً- دليل على المعتزلة، فالله تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير؛ لقوله: (ولو شاء ربك ما فعلوه) فهذا المحكي في الآية شر، والذي شاء أن يقع هذا الشر هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد سبحانه وتعالى. وقوله تبارك وتعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) تعرض هنا لوصف الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام، فقوله: (ولو شاء ربك) يعني: يا محمد. عليه الصلاة والسلام، فهذا يعرب عن كمال اللطف في التسلية. وقوله: (فذرهم وما يفترون) يعني: وما يفترون من الكفر. وقوله: (فسوف يعلمون) أي: عاقبة هذا الافتراء. ولاشك في أن قوله تعالى: (ولو شاء ربك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (ما فعلوه) صريح في أن المراد بالكثرة هنا المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن الخطاب هنا للرسول نفسه عليه الصلاة والسلام، والسياق نفسه يتحدث عن سنة الله في الأنبياء. فقوله تعالى: (ولو شاء ربك ما فعلوه) هو كالصريح في أن المراد الكفرة المعاصرون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون)

تفسير قوله تعالى: (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) ثم عطف سبحانه وتعالى علة ثانية لذلك الإيحاء فقال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]. قوله: (ولتصغى إليه) الهاء تعود إلى: (زخرف القول)، وقيل: الهاء تعود إلى الوحي في قوله: (يوحي بعضهم) أو إلى الغرور أو إلى العداوة؛ لأنها بمعنى التعادي. وأصل الصغو هو الميل، يقال: صغت النجوم صغواً: أي: مالت، وصغت الشمس: أي: مالت للغروب، وصغت الإناء: أملته، وأصغيت الإناء: أملته ليجتمع ما فيه، وتقول: أصغيت إلى فلان، بمعنى: ملت بسمعي نحوه كي يحسُن الإنصات. ومن ذلك قوله تبارك وتعالى هنا: (ولتصغى إليه) أي: إلى الزخرف أو الباطل أو الوحي أو الغرور أو العداوة، يعني: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغرهم به، ولتميل إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة لمساعدته لهم على أهوائهم، أي أنهم لا يؤمنون بالآخرة على الوجه الواجب من الإيمان به. قوله: (وليرضوه) يعني: يرضوه لأنفسهم بعدما مالت إليه قلوبهم. وقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: وليكتسبوا بموجب ارتضائهم له ما هم مقترفون، يعني: من الآثام ومن القبائح التي لا يليق ذكرها، فكأن القرآن أشار إلى أن هذا الذي يقترفونه من أمور قبيحة لا يليق ذكرها، حتى إنه أعرض عن ذكرها، وكنى بها بقوله: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني: الذي يقترفون بسبب العقيدة الفاسدة التي دخلت واستوطنت في قلوبهم واستقرت في أفئدتهم، فإنها تثمر أعمالاً قبيحة تصل إلى حد من القبح لا يليق أن نذكرها الآن في هذا السياق، ولذلك قال: (وليقترفوا ما هم مقترفون) يعني أشاء من القبائح لا يليق ذكرها. والاقتراف بمعنى الاكتساب، يقال: خرج يقترف أهله، أي: خرج يكتسب لهم، ومن العبارات المشهورة: الاعتراف يزيل الاقتراف. فإذا اقترق إنسان ذنباً واعترف كما في الحديث: (أبوء لك بنعتك علي)، أي: أقر وأعترف فإن اعترافه يزيل الاقتراف، أي: يزيل ما اكتسبه الإنسان من الإثم. قال الخشني: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] فتقوى غوايتهم ويتظاهرون بها، ويخرج ما فيهم من الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغياناً وتعدياً على النبي صلى الله عليه وسلم، فتزداد قوة كماله، وأيضاً تهيج بسببه دواعي المؤمنين؛ لأن الاستفزاز حين يحصل من أعداء الدين يهيج قلوب المؤمنين، وتحمى قلوبهم بالغيرة على حرمات الدين، فهذه من الحكم المترتبة على أن سلط الله الشياطين على محاربة الدين، ففيها تهييج بدواعي الغيرة على الدين في قلوب المؤمنين، وكذلك الذين في قلوبهم حب للنبي صلى الله عليه وسلم، فتنبعث حميتهم، وتزداد محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرهم إياه، فتظهر عليه كمالاتهم، فهذا فيما يتعلق بمعنى هذه الآية: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]. وقد ذكرنا أن الإصغاء هو الميل، يقول الشاعر: ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء أي: ميل وانحراف. فالسفيه يزيغ عن المحكمات؛ لأنه يميل إلى الأمور المشتبهة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة -حيث قال تعالى: ((وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) - مع أن قبائحهم كثيرة إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم، فإن لذَّات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل. وهذا فيه إشارة إلى قوله تبارك وتعالى في سورة المعارج: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:23 - 28]. والشاهد قوله: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] فالتصديق بيوم الدين والإيمان بالآخرة يترتب عليه هذه الثمرة، فهو إيمان يثمر أنهم من عذاب ربهم مشفقون؛ لأنهم يؤمنون به، فكل ما يؤدي إلى العذاب حتى لو كان محبباً إلى أهوائهم في الدنيا فهم يحترزون منه؛ لأنهم ينظرون إلى العاقبة السيئة، كما قال الشاعر: أماني كانت لأهلها في الشباب عذاباً فصارت في المشيب عذاباً فالمؤمن لا ينظر إلى بادي الأمور، إنما ينظر إلى العاقبة. فهذا التنبيه في الحقيقة في غاية الأهمية، وهو بيان الحكمة في عدم وصفهم بالإيمان بالآخرة خاصة دون ما عداه من الأمور التي يجب الإيمان بها؛ لأن الإنسان ما دام يؤمن بالآخرة فهو يزن أفعاله قبل أن يفعلها، حتى لو كان فيها آلام وفيها معاناة لكنها مما أمر به شرعاً فإنه يتحمل ذلك في سبيل اللذة الأخرى في الآخرة؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، فلا يصلح طريق الجنة إلا بالمكافحة وبالمجاهدة وبالمحاسبة، أما النار فطريقه سهل جداً، فمن أراد أن يدخل النار فما عليه إلا أن يتبع الشهوات ويطلق لنفسه العنان ويتبع الهوى، وفي هذه الحالة سهل جداً عليه أن يدخل النار، فالنار حفت بالشهوات، والشهوات حجاب يحجب النار، والشهوات كالفراش التي تحجب الضوء، فإذا اقترب أحد من الضوء تحرقه هذه النار، فلذلك جاءت الإشارة هنا في قوله: (الذين لا يؤمنون بالآخرة) إلى الذين يجترئون على اقتحام الشهوات؛ لأنهم بعدم إيمانهم بالآخرة يحجبون عن الخوف من سوء العاقبة في الآخرة، فهم لا يؤمنون بالنار ولا بالعذاب، فما الذي يردعهم؟! أما الذين يؤمنون بالآخرة فهم يتحملون المكاره؛ لأنه لا سبيل إلى الجنة إلا بتحمل هذه المكاره. يقول: إنما خص بالذكر عدم إيمانهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم. يعني: ما السر في أنهم يصغون ويميلون إلى ما توحيه إليهم شياطين الإنس والجن من زخرف القول؟ يقول: فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة -يعني: في الدنيا- بالمكاره، وآلامها مزينة بالشهوات، فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات، ودون هذه الشهوات آلاماً، وإنما ينظرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي، فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فكانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور، لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات؛ لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها، أفاده أبو السعود العنبي. والواقع هو أقوى ما يؤيد هذا الكلام، فأنت إذا تأملت أحوال الكافرين وتعظيمهم للدنيا واهتمامهم العظيم بها علمت أن الدنيا صارت إلهاً يعبدونه ويتبتلون وينقطعون لعبادته بأقصى ما يستطيعون؛ لأنهم لا يرون لهم حياة إلا في الدنيا فقط، ويرون أنه ما الحياة إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وبعد ذلك ليس هناك أي حساب، فمن يعتقد هذا فما الذي يجعله ينزجر عن شرب الخمر، أو فعل الفواحش، أو السرقة، أو الكفر، أو غير ذلك من الأفاعيل؟! وما الذي يردعه؟! فهو لا يؤمن من الأصل، وحينئذ ينعكس هذا في سلوكه. فلذلك يتعجب الإنسان جداً إذا رأى المسلم الذي يؤمن بالآخرة يستوي مع الكافر الملحد الذي لا يؤمن بالآخرة في تصرفاته! فهؤلاء القوم إذا وقعوا في الشهوات بهذه الطريقة وفي الفساد فالسبب في وقوعهم هو الذي ذكرناه؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]؛ لأنه ما دام لم يؤمن بالآخرة فلابد من أن يتبع هواه؛ لأن النفس فيها ميل إلى هذه الأشياء المحرمة وإلى هذه الشهوات التي عاقبتها النار، وهو قد لا يدرك أن عاقبتها النار، وقد لا يصدق بذلك، فما الذي يمنعه من أن يرتع كالحيوانات والبهائم في هذه الحياة البهيمية الحيوانية؟! فكيف بالمسلم الذي يؤمن بالآخرة ومع هذا يحرص على أن يتعاطى ما يسمى بالدش وبالفيديو ونحو ذلك من مظاهر الفساد؟! فهل الذي عنده إيمان بالآخرة لا يستحضر أنه إذا أنصت لهذه الأشياء تبعده عن الله؟! والذي يجعل الإنسان يجلس أمام الأفلام والمسرحيات وسائر أنواع الفساد هل هو دافع العقل والإيمان أم دافع الهوى؟! وكذب من يقول: إن دافعه هو العقل أو الإيمان أو التقوى. بدليل أنك إذا سألته أن يصدقك في الإجابة ويبحث عن معدل إيمانه، وهل كان قبل أن يجلس أمام هذه الأفلام أو هذه الأشياء أعلى إيماناً أم بعدها، وسألته أن يقيس إيمانه قبل أن يجلس أمام الأغاني أو المسرحيات أو الأفلام ويقيس إيمانه بعدما ينصرف، وكيف كان حاله، وهل سيزيد إيمانه وخشيته وتقواه ويبكي من خشية الله أم أنه ربما يوصله ذلك إلى الكفر إذا كان في هذه الأشياء استهزاء أو هجوم على المتدينين وطعن في شريعة الله سبحانه وتعالى، أو كان فيها -على الأقل- ما يخدش إيمانه في الوقوع في المعاصي كزنا النظر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، أو غير ذلك من البلاء، كل ذلك لو سألته عنه لأجابك بأنه ينقص إيمانه بعد مشاهدة تلك الأمور، ويقسو قلبه، وتقل خشيته وتقواه. فما الدافع الذي يدفعه إلى هذه الأشياء؟ و A أنه الهوى، وبذلك ي

تفسير قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب) ثم يقول تبارك وتعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام:114]. قوله: (أفغير الله) يعني: قل لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-: أأميل إلى زخارف الشياطين، وأعدل عن الطريق المستقيم؛ فأطلب حكماً غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق من المبطل؟! وقوله: (أفغير الله أبتغي حكماً) الحكم: هو الذي يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه، وهنا يوجد تقدير للقول، أي: أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل؟! والمعنى: أأطلب معبوداً غير الله؟! وقوله: (أبتغي حكماً) يعني: أطلب معبوداً. لأنهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم. يقول القاسمي: هذا عندي أظهر. يعني أن المقصود بقوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) أي: أبتغي معبوداً؛ لأن من خصائص الإله أن يتحاكم إليه، فهم كانوا يتحاكمون إلى طواغيتهم، وأنا لا يمكن أن أتحاكم إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأني إذا تحاكمت إلى غيره فكأني اتخذته معبوداً من دون الله تبارك وتعالى. ولذلك جاء في (تنوير المقباس) في قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) قال في تفسيرها: أعبد رباً. أما كون الآيات واردة على قولهم: اجعل بيننا وبينك حكماً فلا يصح؛ لأنهم بمعزل عن الانصياع لذلك، ولأنهم لا يمكن أن ينصاعوا لشرع الله كحكم. ثم قال تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)) (الكتاب) يعني القرآن المعجز (مفصلاً) يعني: فيه كل ما يصح الحكم به، أنزله مبيناً به الفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تذرون. وكثير من أهل البدع والضلال يحاولون أن ينحرفوا بتفسير القرآن والسنة؛ لأنهم يجعلون البدع التي اخترعوها هي الأصل، ثم يجعلون القرآن والسنة فرعاً، ويستدلون بالأدلة بعد تحريف معانيها أو تفسيراتها للتمويه على الناس وإسناد باطلهم. وآيات القرآن يمكن أن تكون طيعة، بمعنى أنه إذا لم يتكلم الإنسان عن علم فلا نملك أن نحجزه عن أن ينطلق بهواه بتفسير آيات القرآن بأي صورة فيها انحراف، ولذلك يقول الشاعر: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل ولذلك فإن المنهج السلفي يتميز بالأخذ بالقرآن والسنة على فهم السلف الصالح، ويضاف هذا الضابط حتى يتميز أهل السنة عن أهل البدعة؛ لأن كل الفرق تستدل على ضلالتها غالباً بالقرآن والسنة، لكن بفهم مخالف لفهم السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان. قال الإمام السيوطي في (الإكليل): استدل الخوارج بهذه الآية ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) على إنكارهم التحكيم، وبذلك كفروا أمير المؤمنين علياًً رضي الله تعالى عنه لأنه قبل التحكيم. قال -أي: السيوطي -: وهو مردود؛ فإن التحكيم المنكر هو أن يريد حكماً يحكم بغير ما حكم الله تعالى به. ومن راجع كتاب: (تلبيس إبليس) في مناظرة ابن عباس مع الخوارج فسيجد التفاصيل في ذلك، فهم قالوا: لا حكم إلا لله. وفهموا بعقولهم الضعيفة أن قوله تعالى: ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) يعني إبطال التحكيم مطلقاً، وإنما المقصود إبطال التحكيم الذي يصادم شرع الله، أو الذي فيه حكم بغير ما أنزل الله، أما أن تلجأ إلى حكم يحكم بينك وبين غيرك بما أنزل الله فما هذا إلا مظهر من مظاهر التوحيد والانقياد لشرع الله، وليس هذا مضاداً لشرع الله، ولذلك أفحمهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالآية التي في سورة المائدة، والتي فيها كفارة قتل المحرم الصيد، وهي قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فإذا كان هذا في دم أرنب أمر الله سبحانه وتعالى فيه بالتحكيم فكيف بما هو أعظم من ذلك من القتال الذي كاد أن يقع بين المسلمين؟! ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى (تلبيس إبليس) ففيه حكاية المناظرة بالتفصيل. إذاً: فمعنى الآية ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)) يرد به على الخوارج؛ لأن المراد بالتحكيم المذكور هو أن تريد حكماً يحكم بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى، وهذا -للأسف الشديد- ينطبق على بعض الناس في كثير من المناطق التي يخير فيها بين الحكم بالشرع، وبين الحكم بالأعراف والقوانين الوضعية، أو بقول القبائل ونحو هذه الأشياء، فأي مسلم يعرض عليه مثل هذا لا يجوز له إلا أن يقول للشرع: سمعنا وأطعنا. ولا يتصور أبداً أن المؤمن يقبل الخيار أصلاً كمبدأ. والحكم أبلغ من الحاكم، وأدل على الرسوخ، فوصف الحكم أقوى من وصف الحاكم؛ لأنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم، بخلاف الحاكم. وفي هذه الآية الكريمة تنبيه على أن القرآن الكريم كافٍ في أمر الدين، ومغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيله، وهذه الآية مثل قوله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وتقدم أن قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم، وكذلك هنا. وقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا)) يعني: يتضمن كل شيء وهل معنى ذلك أن تستدل بالآية -كما فعل الضالون ممن يسمون زوراً بالقرآنيين- على عدم الاحتجاج بالسنة؟! A كلا، بل نقول: إن مما دل على حجية السنة القرآن الكريم نفسه، فهو الذي دلنا على أن السنة حجة كالقرآن الكريم. ثم يقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ))، قوله: (والذين آتيناهم الكتاب) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبلك. والله لم يعطهم كتباً في أيديهم، وإنما أعطاهم علم الكتب المنزلة من قبل، كعلماء اليهود والنصارى، ولنتأمل كلمة (علماء) ولا نقول: مقلدة؛ لأن الكلام هنا في حق العلماء، أما غيرهم فقال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] وأي أنهم مقلدون. أما الذين نتحدث عنهم هنا والذين يصفهم الله بذلك فهم الذين يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم علماء أهل الكتاب. فقوله: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)) يعني: الذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله صلى الله عليه وسلم، كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم، فهؤلاء العلماء يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق. ولماذا خص بالذكر علماء أهل الكتاب؟ وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] والمقصود بالشاهد عبد الله بن سلام كبير أحبار اليهود، فلماذا خصهم بالذكر؟ والجواب أن بيان هذا الأمر من وجهين: الوجه الأول: أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، ونحن نتكلم عن علماء أهل الكتاب الذين يعلمون، وليس عن المقلدين؛ لأن العالم بالشيء هو الذي يستطيع أن يميز بين ما كان منتمياً إلى العلم الذي علموه وبين ما كان أجنبياً عنه، فمثلاً: لو ألف رجل كتاباً في الطب فسيكون الأطباء هم أعلم الناس بكونه طبيباً؛ لأنهم هم الذين يستطيعون أن يحكموا عليه. ومن ألف كتاباً في النحو سيكون أعلم الناس بكونه نحوياً هم علماء النحو، لا عموم الناس ولا المقلدون. وكذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله تبارك وتعالى على أنبيائه من هذا الوحي يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي، ولذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب في الحبشة على النجاشي سورة مريم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. فمن جاء بسورة من القرآن الكريم حتى لو كانت ثلاث آيات وهو من العلماء يُعرف أن هذا ليس من كلامه، فكيف برجل أمي لم يقرأ من قبل ولم يكتب عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197]. الوجه الثاني في سبب الإشارة إلى علماء أهل الكتاب: أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] ويقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) أي: لما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، ولتصديقه ما عندهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يمارس كتبهم، ولم يخالط علماءهم، وهذا تقرير لكونه منزلاً من عند الله، كما قال سبحانه: ((يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ))، أي: أن الذين وثق بهم المشركون من علماء أهل الكتاب عالمون بأحقيته ونزوله من عنده تعالى. وقوله تعالى: ((فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)) أي: في أنه منزل من ربك بالحق، بسبب جحود أكثرهم وكفرهم به، فهذا من باب التهييج والإلهاب، وليس معنى ذلك أنه يحتمل أن يطرأ الريب أو الشك على النبي صلى الله عليه وسلم، حاش

تفسير قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم)

تفسير قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) ثم قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. قوله: (وتمت كلمة ربك) يقرأ أيضاً: (وتمت كلمات ربك) بالجمع، يعني: بلغت أخباره وأحكامه ومواعيده الغاية (صدقاً) في الأخبار وفي المواعيد (وعدلاً) في الأقضية والأحكام، أي: تم قضاؤه تعالى في الأزل بما قضى وقدر من إسلام من أسلم وكفر من كفر، ومحبة من أحب وعداوة من عادى، قضاءً مبرماً وحكماً صادقاً مطابقاً لما يقع، عادلاً بمناسبة كل قول وكل كمال وحال لاستعداد من يصدر عنه واقتضائه له. وقوله: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أي: لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) لا يستطيع أحد أن يبدلها بما هو أفضل منها، أو بما هو أصدق أو أعدل منها، أو بتفسير آخر: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) لا أحد يقدر على أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة. وهذا على أن (كلماته) هنا المراد بها القرآن؛ لأنه لا يقوى أحد أن يحرف كلمات القرآن؛ لأن الله تكفل بحفظه، فقوله: (لا مبدل لكلماته) يعني: بذلك القرآن، لا كما حصل من التبديل في التوراة، فتكون هذه الآية ضماناً -أيضاً- لحفظ القرآن الكريم، وحينئذ تكون موافقة لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] أي: من التغيير والتحريف والتبديل. وقيل: (لا مبدل لكلماته) أي: لأحكامه الأزلية التي سبق القلم القضائي والقدري بها. وقال السيوطي في (الإكليل): يستدل به من قال: إن اليهود والنصارى لم يبدلوا لفظ التوراة والإنجيل، وإنما بدلوا المعنى؛ لأن كلمات الله لا تبدل. وهذا إذا قلنا بالعموم في قوله: (لا مبدل لكلماته) كما أشرنا، فيكون معنى (لا مبدل لكلماته) أي: لأحكامه التي سبق بها قلم القضاء، أو (لا مبدل لكلماته) أي: القرآن خاصة، فتكون موافقة لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وإذا قلنا: (لا مبدل لكلماته) أي: كل كتب الله -سواء القرآن أو التوراة أو الإنجيل- فسيكون هذا التفسير دليلاً لمذهب من يرى: أن التوراة والإنجيل لم يحرفا تحريفاً لفظياً، وإنما التحريف الذي وقع فيهما هو تحريف معنوي، وبهذا قال ابن عباس، كما رواه عنه البخاري في صحيحه. وقوله: (وهو السميع) أي: لما يظهرون من الأقوال (العليم) أي: بما يخفون.

تفسير قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) بعدما بين الله سبحانه وتعالى حال هؤلاء الكافرين المعرضين عن الحق حذر وبين أن مثل هؤلاء لا يستحقون أن يطاعوا، ومثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، والذين يصدون عن سبيل الله بهذه الصورة لا يستحقون أن ينقاد لهم المسلم، ولا أن يكون تابعاً لهم، فقال تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116]. قوله: (وإن تطع أكثر من في الأرض) يعني: أكثر من في الأرض من الناس، وهم الكفار؛ لأن أكثر من في الأرض هم من الكافرين، وهذا نستطيع أن نعرفه بمراجعة حديث: (إن الله سبحانه وتعالى يقول لآدم يوم القيامة: يا آدم! أخرج بعث النار) فحينما يستوضح آدم: ما بعث النار؟ يأتيه A ( من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) أي: يذهبون إلى النار، وواحد فقط هو الذي ينجو، فهذا دليل واضح جداً بجانب الأدلة القرآنية على أن أكثر أهل الأرض من الكفار، ولذلك يقول تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17]، ويقول أيضاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، وقال أيضاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8]. وقوله: ((يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) يعني: عن الطريق الموصل إلى الله سبحانه وتعالى بتزيين زخارفهم عليك ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه من اتباع الهوى، كما قال عز وجل: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)) و (إن) هنا بمعنى (ما). والمراد ظنهم أن آباءهم كانوا على حق، فهم يقلدونهم. وقوله: ((وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)) يعني: يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه، كاتخاذ الولد، وجعل عبادة الأوثان صلة إليه، وتحليل الميتة، وتحريم البحائر إلخ. ((وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)) من الخرص، والخرص هو الحزر والتخمين، ولا يستعمل إلا فيما يشك الإنسان فيه ولا يكون على يقين منه، وقد يعبر به عن الكذب والافتراء. وأحياناً تكون كلمة الخرص بمعنى الكذب، وأصل الخرص القول بالظن، وقول ما لا يستيقن ويتحقق منه، ومنه: خرص النخل خرصاً، وخرص النخل هو حزره ليأخذ منه الخراج أو الزكاة. والمقصود من الآيات أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم، بل لا يتبعون إلا الظن، وهم كاذبون في ادعاء القطع؛ لأنهم في الحقيقة يزعمون أنهم يقطعون بأن ما هم عليه هو الحق، وأن هذا الدين الذي هم عليه حق وصدق، فنقول: إنهم في الحقيقة لا يتبعون إلا الظن، وهم كاذبون في ادعائهم القطع بصحة ما هم عليه من الباطل.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين)

تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:117]. في هذه الآية تقرير لمضمون الشرطية وما بعدها، وتأكيد لما يفيده من التحرير، يعني: هو أعلم بالفريقين، فاحذر أن تكون من الأولين الذين يضلون عن سبيل الله، كما قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] فإذا كان الله أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فاحذر أن تكون من هؤلاء المذكورين، فإن الله سيعلم ذلك. وهاتان الآيتان تمسك بهما نفاة القياس، وفي ذلك نقاش مفصل يمكن الرجوع إليه عند القاسمي.

تفسير قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) ثم قال تبارك وتعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118]. قوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) ذكر الله هذا بعدما نهى في الآيتين السابقتين عن اتباع وطاعة الكثرة إذا كانت ضالة، وذلك في قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:116 - 117]، وكثيراً جداً ما يقترن في القرآن الأمر بالتوحيد مع النهي عن مظاهر الشرك في موضوع النسك والذبائح؛ لأن موضوع الذبائح من أجل مظاهر الشرك في العبادة التي مارسها المشركون مع أصنامهم، فلذلك نجد أنه بعد أن ذكر القضايا في الكلام على القضية الكبرى -وقضية صد هؤلاء عن سبيل الله وعن التوحيد والعقيدة- عقب مباشرة بربطها بالنهي عن هذه المظاهر. وهذا معروف، فإننا نجد كل من يقع في الشرك يقع في الذبح لغير الله، ونجد الذين يعبدون البدوي ونحوه دائماً يمارسون مظاهر شركية فيها صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى، بل يقع عندهم الحلق تشبيهاً بمناسك الحج والعياذ بالله! ويحسبون أنهم على شيء، فكما أنه يحلق الحاج أو المعتمر ويقصر في الحرم كذلك يفعل هؤلاء الضالون الضائعون، وعندهم مناسك، وترى الحلاقين موجودين في طنطا وفي نحوها من الأماكن، وفي الموالد يحلقون للناس رءوسهم في مناسك حجهم إلى البدوي -والعياذ بالله! - وكذلك الذبح معروف عندهم، وما زال موجوداً إلى الآن، والله المستعان. وتجدهم يصحبون معهم الهدي من أطراف الأرض، ويأتون به لأجل البدوي، فلا يُركب ولا يُحلب ولا يُستعمل؛ لأن هذا من أجل البدوي في زعمهم، وهذا كالسوائب والبحائر التي ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة. يقول تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118] وهذا أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين؛ لأن هؤلاء يضلونك عن سبيل الله. ومن مظاهر الإضلال تحليل الحرام وتحريم الحلال، وذلك أنهم خاصموا وجادلوا المسلمين، فقالوا: ما ذبحتم أنتم تأكلونه. وهذا من وحي الشياطين إليهم، وهذا أخرجه النسائي عن ابن عباس، وفيه: فنزلت هذه الآية: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام:118]. والمعنى: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه؛ لرفعه تنجيس الموت إياه؛ لأنه هو المانع من الأكل، ولأنه لو مات حتف أنفه فإن الموت ينجسه، في حين أن الذبح بالسكين يزيل التنجيس بالموت عنه؛ لأن هذا التنجيس هو المانع من أكله. أي: كلوا مما ذكر اسم الله عليه لا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا مما مات حتف أنفه. فإذاً النهي هنا هو عن أكل الذي لم يذكر اسم الله عليه، يعني: كلوا مما ذكر اسم الله عليه مما ذكيتموه، أي: بجانب الشروط التي في عملية التذكية نفسها؛ لأن هناك شروطاً في الذابح وشروطاً في المذبوح، فلابد -مثلاً- من أن يكون المذبوح حلالاً، فلا يكون خنزيراً، ولا يكون ذا ناب من السباع ونحو ذلك مما حرم الله تبارك وتعالى، والذابح لابد من أن يكون إما مسلماً وإما كتابياً، وعملية الذبح فيها شروط معينة. فالمقصود: كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه وكان الذابح مسلماً والمذبوح حلالاً، فلا يجوز أن تأتي بخنزير -مثلاً- وتسمي عليه وتذبحه، ولا يصح أن يأتي ملحد ويذبح، حتى ولو قال: بسم الله. فإن ذبيحة المشرك والوثني لا تحل. ولا تأكلوا مما ذكر عليه اسم غير الله، ولا تأكلوا أيضاً مما مات حتف أنفه. وقوله: ((إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)) أي أن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله واجتناب ما حرمه الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يكفر بآيات الله، فإنه يحرم الحلال ويحلل الحرام.

تفسير قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم)

تفسير قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم) ثم قال تبارك وتعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام:119]. قوله: ((وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) هذا إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر عليه اسم الله تعالى من البحائر والسوائب وأمثال هذه الأشياء لم يحرمها الله تعالى، فكلوها وهي حلال لكم ما دمتم قد ذكرتم اسم الله عليها، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] فما يمنعكم من ذلك (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) أي: أي غرض لكم في أن تتحرجوا من أكله؟! وما هو الذي يمنعكم عنه؟! وقوله: ((وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)) يعني: بين ووضح في الشريعة وفي القرآن الكريم ما حرمه عليكم، وهذا ليس مما حرمه عليكم. وبعض المفسرين قالوا: إن المقصود بهذه الآية: الإشارة إلى ما نزل في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة:3] إلى آخر الآية، ولكن هذا القول قد رد. فبعض المفسرين قالوا قولاً ضعيفاً، قالوا: إن قوله: (وقد فصل لكم) فيه إشارة إلى ما في سورة المائدة. وهذا القول ضعيف؛ لأن سورة الأنعام سورة مكية، وسورة المائدة سورة مدنية، بل من آخر ما نزل في المدينة من القرآن الكريم سورة المائدة، وفيها قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] كما هو معروف، فإذا كانت سورة المائدة من آخر ما نزل فكيف يحيل القرآن في سورة مكية على ما سينزل بعد في سورة مدنية؟! فقوله: ((وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ)) ظاهرها أن هذا التفصيل قد حصل في الماضي، فالصواب أن التفصيل يأتي فيما بعد في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145]، فتكون هنا الإشارة إلى التفصيل فيما يأتي من الآيات، فإنه ذكر بعد بيسير، وهذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد، وتكون الآية التي أتت بالتفصيل في نفس السورة بعد شيء يسير؛ إذ لا مانع أن يكون المراد بقوله: (فصل لكم) يعني: فيما هو يأتي قريباً في نفس هذه السورة. وقوله: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) يعني: فصل لكم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم أنزل بعد ذلك في القرآن في سورة المائدة تفصيل ما حرم. وفي قراءة: (وقد فَصل لكم ما حرم عليكم) والقراءة الأخرى: (وقد فُصل لكم ما حُرم عليكم)، ومعنى الآية: لا مانع من أكل ما ذكر، وقد بينا لكم المحرم أكله، وهذا ليس منه. وقوله: (إلا ما اضطررتم إليه) يعني أن ما حرم عليكم يباح لكم عند الاضطرار، فإذا دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة فيباح لكم. وقوله: ((وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ)) (ليَضلون) قُرئ بفتح الياء وضمها، وقوله: (بغير علم) يعني: من غير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ إن هؤلاء المجادلين من المشركين قالوا: ما ذبحتم أنتم حلال، وما ذبحه الله حرام! أي: الذي يموت حتف أنفه، فجادلوا المسلمين في هذا، فلذلك جاء الجواب هنا. وقوله: ((وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ)) أي: في شأن الذبائح ((بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) فالعلم دائماً ضد الهوى، كما هو معلوم، فالهوى مقابل الوحي، والوحي هو العلم، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] يعني: وحياً. فقوله تعالى: ((وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) يعني: من غير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ الحكمة في الذبح إخراج ما حرمه الله تعالى علينا من الدني، بخلاف الذي مات حتف أنفه؛ لأن الذي يموت حتف أنفه من هذه الأشياء ينحبس الدم فيه في داخل الجثة، فالحكمة من الذبح إراقة الدم وإخراجه، والله سبحانه وتعالى سخر لنا هذه المخلوقات، كما قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] فأباح لنا أكلها، وأباح لنا ذبحها لمصلحتنا، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا. فالحكمة في الذبح إخراج الدم من جسد الذبيحة، بخلاف ما مات حتف أنفه فإن الدم يبقى فيه، ولذلك شرع الله سبحانه وتعالى الذكاة في محل مخصوص، وهو في الرقبة، ليكون الذبح فيه سبباً لجذب كل دم في الحيوان، بخلاف غيره من الأعضاء، والذبح لم يكن في الورك أو الفخذ أو في الجسد أو في الرأس، وإنما كان الذبح في العنق؛ لأن الوريدين والأوعية الدموية التي هي موجودة في الرقبة إذا قطعت في الذبح الشرعي يؤدي قطعها إلى استنزاف الدم من جسد الذبيحة، والحركات العضلية التي يحدثها المذبوح تدفع الذي يبقى من الدم إلى خارج الجسد، فهذه الحركات التي تحصل من الذبيحة الهدف منها أن تطرد الدم حتى يخرج وحتى يتطهر بدنها من وجود هذا الدم. إنه إذا أراد أحد أن يعمل مزرعة فلابد من أن يحدد نوع البكتيريا التي قد تصيب هذه المزرعة؛ لأن البيئة صالحة جداً لنمو البكتيريا، فالخبراء يأخذون عينة ويضعونها على طبق فيه دم، وتترك حتى تتكاثر بسرعة، ولما يكثر عددها يستطيعون أن يعدوها وأن يعرفوا كثافتها، وفي نفس الوقت يعرفون نوع هذا الميكروب أو البكتيرياء، وحينئذ يستطيعون أن يأتوا بمضاد حيوي خاص بهذا النوع حتى يقتله. فالشاهد أنه في المعامل الطبية أو معامل التحريك إذا أردنا أن تنمو البكتيريا الميكروبات وضعناها في الدم، وإذا قارنت عينة من بقايا الدم الموجودة في الذبيحة بعينة أخرى من بهيمة مثلها تموت حتف أنفها دون أن يخرج منها الدم فستجد نسبة هائلة جداً من البكتيريا الضارة في هذه التي بقي الدم فيها؛ لأن وجود الدم في داخلها سيؤدي إلى تكاثر البكتيريا والميكروبات بشكل سريع جداً، وهذا مما يسبب ضرراً على صحة الإنسان، فأين هؤلاء الذين أرادوا أن يقولوا: إنكم ترون أن ما أماته الله حرام، وما ذبحتموه أنتم حلال؟! فهؤلاء يجادلون ويضلون بأهوائهم من غير علم بالحكمة التي من أجلها شُرع الذبح، والحكمة هي إخراج ما حرمه الله علينا من الدم؛ لأن هذا الدم حرام علينا أن نأكله، بخلاف ما مات حتف أنفه، فإن الدم ينحبس فيه، ولهم اعتبارات تجارية، منها أن الدم إذا انحبس في الجثة يكون وزنها أكثر، وهذه نظرة تجارية، وحينئذ يضلون بترك إخراج ذلك الدم، وهؤلاء الجهلة من المشركين في الغرب يعتبرون الذبح جريمة ووحشية، ويتكلمون بجهلهم أحياناً على الذبح بأنه نوع من الوحشية والقسوة وغير ذلك، والذي نعلمه أن في أمريكا الآن منع في القانون أكل ما لا يذبح، ولكنه ليس تعبداً وطاعة لله، وإنما هو انقياد للقواعد الصحية؛ لأنهم اضطروا إلى هذا الأمر بسبب الضرر الذي ينتج من وجود الدم داخل الذبيحة. قال الرازي: دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام؛ لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة، والآية دلت على أن ذلك حرام. وقال بعض الزيدية: في الآية دلالة على تحريم الفتوى والحكم بغير دلالة، ولكن باتباع الهوى.

تفسير قوله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون)

تفسير قوله تعالى: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) ولما بين تعالى تفصيل المحرمات أتبعه بما يوجب ترك هذه المحرمات بالكلية فقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام:120]. قوله: (وذروا ظاهر الإثم) أي: سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح، فهناك آثام يرتكبها الإنسان بالجوارح وتكون واضحة يراها الناس، وهناك آثام وكبائر باطنة يرتكبها بقلبه، فظاهر الإثم هو الذي يكون بالجوارح، (وباطنه) أي: ما يُسر منه بالقلب. وباطن الإثم لا شك في أنه أشد وأخطر من ظاهره، وكبائر القلوب أشد من كبائر الجوارح، ويكفيك أن من ذنوب القلب العقائد الفاسدة، فلو أن رجلاً يشرب خمراً ويعتقد بقلبه أنها حرام فإنه مسلم عاصٍ، وإن كان ظاهره أنه يشرب الخمر ويعصي الله سبحانه وتعالى، ولو أن رجلاً آخر لا يشرب الخمر، لكنه يعتقد بقلبه أن الخمر حلال فهذا أسوأ حالاً، بل هو كافر مرتد خارج من الملة؛ لأن الكفر هنا بالقلب، فهذا باطن الإثم، فباطن الإثم هو الذي يرتكب بالقلوب كالعقائد الفاسدة والعزائم والنيات الباطلة؛ لأن النية محلها في القلب، وعلى هذا فإن النيات والعزائم الفاسدة من بواطن الإثم. أو أن معنى ((ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)) أي: ما يعلن من الذنوب وما يسر منها ويستتر فيه، أي: الذنوب عموماً، لكن بعضها يعلنها الإنسان أمام الناس وبعضها يرتكبها في خفاء. قال السدي: (وظاهره): الزنا مع البغايا ذوات الرايات (وباطنه): مع الخليلة والصدائق والأخدان. يعني: في السر. ولا يخفى أن اللفظ عام في كل محرم، ولذا قال قتادة: (ظاهر الإثم وباطنه) يعني: سره وعلانيته، قليله وكثيره، صغيره وكبيره، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] فما ظهر وما بطن هو كقوله تعالى: (ظاهر الإثم وباطنه). وقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ)) (يقترفون) يعني: يكتسبون. قال الشهاب: الاقتراف في اللغة: الاكتساب، وأكثر ما يقال في الشر والذم، ولذا قيل: الاعتراف يزيل الاقتراف. وقد يرد في الخير. وأحياناً تستعمل كلمة (الاقتراف) في الخير، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] يعني: يكتسب. لكن الغالب أنها تستعمل في الشر. وقد روى مسلم وغيره عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) فجعل إتيان المعاصي في السر وحشة في الصدر، والحد الفاصل بين الإثم وبين البر أن البر هو حسن الخلق، والإثم ما حكاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس. قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أن العبد يؤاخذ بأفعال القلب كما يؤاخذ بأفعال الجوارح. وهذا على التفسير الأول في هذه الآية، وهو أن قوله: ((وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ)) يعني سيئات الأعمال الظاهرة والعقائد والنيات الفاسدة.

تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)

تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ثم قال تبارك وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. قوله: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ))، يعني: عند ذبحه. فقوله: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) أي: إن ذكر عليه اسم غير الله فلا تأكلوه، مثل أن يهل به لغير الله، وعلى هذا لا يكون في الآية تعرض لذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله عليها؛ لأن ما ذكر عليه غير اسم الله لا يدخل فيما ذكر عليه اسم الله. والآية تحتمل أن يكون المراد ما لم يذكر اسم الله عليه، وتحتمل أن يكون المراد ما يذكر عليه اسم غير الله، وتحتمل أيضاً: أن مسلماً يذبح ذبيحة ولا يذكر اسم الله عليها، فإذا عممناها وجعلناها تشمل هذه الحالات ففي هذه الحالة لا يجوز الأكل من ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية، وفي المسألة تفصيل فيما إذا كان عامداً أو ناسياً. وقوله: (وإنه لفسق) الفسق هو ما أهل لغير الله به، كما في الآية الآتية في آخر السورة، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن؛ لأنه في الآية التي في أواخر هذه السورة قال تبارك وتعالى فيها: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] فهنا -أيضاً- وصف هذا الفعل بأنه فسق، فمن ثمّ قال بعض المفسرين: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) أي: مما أهل به لغير الله. يعني: لأن هذا هو نفس الفسق، فلا تتناول الآية -على هذا القول- ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية. وقوله: (وإنه لفسق) الفسق هو الخروج عن الحسن إلى القبح بتناول ما تنجس بالموت بلا مانع عن تأثيره. وقوله: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ))، المقصود: إبليس وجنوده، (ليَوحون) يعني: يوسوسون (إلى أوليائهم) يعني الذين اتبعوهم من الكفار (ليجادلوكم) يعني: بالوساوس الشيطانية، أو بما نقل من أباطيل المجوس، والمراد: ليجادلوكم في تحليل الميتة، يريدون أن تستحلوا الميتة وتأكلوها فيجادلوكم بهذه المناقشة التي سبق أن ذكرناها. والمجادلة هي دفع القول عن طريق الحجة بالقوة، وكلمة (المجادلة) مشتقة من الأجدل، والأجدل طائر قوي، فالمجادلة هي دفع القول عن طريق الحجة، أي أنك تبطل قول خصمك عن طريق الحجة القوية بهذه القوة العلمية. وقيل: مأخوذة من الجدالة، والجدالة هي الأرض، فكأنه يغلبه بالحجة ويقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض. وقيل: مأخوذة من الجدل، والجدل هو شدة الفتل، كالذي يفتل الحبال، فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقاً في نصرة الحق وباطلاً في نصرة الباطل، فالمجادلة الصحيحة كقوله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] والمجادلة المذمومة هي المجادلة في دفع الحق ونصرة الباطل، كقوله تعالى: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ)) أي: في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله. وقوله: ((إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) أي: مشركون لهم مع الله فيما يختص به من التحليل والتحريم. وقوله: ((لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)) روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قيل له: إن المختار الذي ادعى النبوة يقول: (يوحى إلي)! أي: يزعم أنه يوحى إليه. فقال عبد الله بن عمر: (صدق ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ))) أي أنه يوجد نوع من الوحي الباطل عن طريق الوساوس كما ذكرنا. وكان مما يحكى في أوائل الثمانينات أنه كان هناك بدعة ضالة مشهورة عن الحرماوي، وقد ضل ضلالاً عجيباً، والقضية فيها كلام كثير لا نريد أن نفصل الكلام فيها، يقول الذين كانوا معه في الزنزانة: إنه كان يستيقظ بعض الإخوة في الليل -والزنزانة فيها سور يفصل بين دورة المياه وبين العنبر- فكانوا يجدونه بالليل وهو متسلق فوق هذا السور يقول: هات هات. أي: كأنه يستقبل وحياً، ويمكن أن يكون يوحى إليه فعلاً، والذي يوحي إليه هم الشياطين، كما قال تعالى: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) ولا مانع من أن يسمى هذا وحياً؛ لأنه بمعنى الوسوسة بهذه الأوهام وهذه الأباطيل. وهناك من يدعي أنه يحكم على الأحاديث بقلبه، فيحكم على الحديث هل يقبل أم لا يقبل بقلبه. وهناك من يحرمون الاكتساب، ويقولون: لا يجوز للإنسان أن يسعى في طلب الرزق أبداً، بل يعيش هكذا. ولا يجوزون قتل أي نوع من الحشرات، لا الفئران ولا الصراصير ولا البراغيث ولا القمل ولا غيرها؛ لأنها تسبح الله، والجنون فنون! فهذا أيضاً من الوحي، ولكنه وحي من الشياطين، وهذا كالوحي الذي كان يأتي غلام أحمد القادياني، فإنه كان يقول: أتاني وحي في سورة رجل إنجليزي حسن الصورة وقال لي كذا وكذا. ونحن نقول: نعم، إنه شيطان كان يوحي إليه.

سبب نزول قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) الآية

سبب نزول قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) الآية هنا تنبيهات تتعلق بهذه الآية: الأول: روي في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ما نقتل، ولا نأكل ما يقتله الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى: ((فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)) إلى قوله: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))) أخرجه أصحاب السنن. وفي رواية لـ أبي داود في قوله تعالى: ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)) أنهم قالوا: (ما ذبح الله فلا تأكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا! فأنزل الله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ))) وفي آية أخرى: ((فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) فنسخ واستثنى من ذلك فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5]. وعند النسائي قال: (خاصمه المشركون فقالوا: ما ذبح الله لا تأكلونه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه!).

مشروع التسمية عند الذبح

مشروع التسمية عند الذبح التنبيه الثاني: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح، وهذا من دقة القاسمي، حيث استعمل كلمة (مشروعية) فأتى بلفظ عام؛ لأنه ليس في مقام تحقيق حكم التسمية، فلذلك تخلص من الانحياز لأحد القولين بأن أتى بالمشروعية، فالمشروعية تشمل الواجب وتشمل المستحب أيضاً، فلذلك قال هنا: دلت الآية على مشروعية التسمية عند الذبح، فقيل: (باسم الله) بهذا اللفظ الكريم، وقيل: بكل قول فيه تعظيم له كالرحمن وسائر أسمائه الحسنى، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].

حكم الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها

حكم الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها التنبيه الثالث: ما قدمناه من حمل الآية على ما ذبح لغير الله تعالى هو الأظهر في تأويلها، أي أن الآية ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) تساوي ما ذكر اسم غيره عليه، فـ القاسمي يميل إلى هذا، ويقول: هذا هو الأظهر في تأويل هذه الآية ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ))، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] يعني: لا تشمل ذبيحة المسلم الذي لم يسم، لقوله تعالى بعد: ((أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)) وهذا من باب مراعاة النظائر في القرآن، فالنظائر القرآنية أولى ما يلتمس المراد بها. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: نزلت في ذبائح كانت تذبحها قريش على الأوثان، وذبائح المجوس. وقد حاول بعضهم أن يقويه. وقوله: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) لأن من أكل الميتة أو ما ذبح على النصب يفسق، وإذا استحلها يكفر، فلو أن رجلاً أكل الميتة وهو معتقد أنها حرام في غير حالة الضرورة فإنه يكون فاسقاً، لكن لو اعتقد أنها حلال حتى لو لم يأكلها فهذه ردة وكفر. فقوله: (وإن أطعتموهم) يعني: في استحلال الحرام، أو تحريم الحلال (إنكم لمشركون). يقول القاسمي: وحينئذ فلا دلالة في الآية على تحريم ذبيحة المسلم التي تركت التسمية عليها عمداً أو سهواً. واحتج البيهقي بحديث عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوه. قالت: -يعني: عائشة - وكانوا حديثي عهد بكفر)، رواه البخاري. قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها؛ لأنهم لا يعرفون هل سموا أم لم يسموا، فلما قال لهم: (سموا عليه أنتم وكلوه)، فما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن التسمية شرط لذبيحة المسلم، ولذا لم يرخص لهم إلا مع التحقق من وجود التسمية. يقول الخطابي: فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة؛ لأنها لو كانت شرطاً لم تستبح الذبيحة بالأمر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يُعلم هل وقع في الذكاة المعتبرة أم لا. وهذا هو المتبادر من سياق الحديث، حيث وقع الجواب فيه (سموا أنتم) ومعنى (سموا أنتم) يعني أن هناك شكاً في نحوهم سموا أم لا، وكأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك، بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا. وهذا من الأسلوب الحكيم، ومما يدل عليه -أيضاً- قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]، فأباح الأكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم هل سموا أم لا. هذا وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها، وإن كان الذابح مسلماً، وأخذوا بظاهر هذه الآية. يعني أنهم فسروا قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) إما بأن يكون قد أهل لغير الله به، أو بأن تترك التسمية عليه حتى لو كان الذابح مسلماً؛ لأنه يصدق عليه ظاهر الآية، وهو أنه مما لم يذكر اسم الله تبارك وتعالى عليه. يقول: وقد تمسك بظاهر الآية قوم، فذهبوا إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً عمداً ترك التسمية أو نسياناً، فالظاهر يدل على هذا، واحتجوا -أيضاً- بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] وهنا أمر بذكر (بسم الله). واحتجوا -أيضاً- بالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد، كحديثي علي وأبي ثعلبة: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل) يعني صيد الكلب المعلم يباح، لكن صيد الكلب الجاهل لا يباح عند أهل العلم، وفي هذا بيان شرف الكلب المتعلم على الكلب الجاهل، فتباً لمن يحذرون الناس من طلب العلم ويزهدونهم فيه ويفيضون في ذكر فضائل الجهل، وأن الصحابة كان منهم من لا يعرف كذا ولا كذا ولا كذا، والعياذ بالله! فإذا كان بالعلم فُضل الكلب على أخيه الكلب، فكيف لا يُفضل الإنسان المؤمن المتعلم على الذي لا يتعلم؟! ولكن هنا شرطان: أن يكون الكلب معلماً، وأن تذكر اسم الله، فدل على أنه إذا لم يذكر اسم الله فلا يأكل، وفي حديث رافع بن خديج: (ما أنهر الدم -يعني: أراق الدم- وذكر اسم الله عليه فكلوه)، وهو في الصحيحين أيضاً، وفي حديث ابن مسعود الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه) وفي حديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، فمن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله)، أخرجاه. ففي هذه الأحاديث إيقاف الإذن في الأكل على التسمية، والمعلق بالوصل ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصل، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأنعام [123 - 136]

تفسير سورة الأنعام [123 - 136]

تفسير قوله تبارك وتعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها)

تفسير قوله تبارك وتعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) قال تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]. قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)) هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل وغمط الحق كذلك قد جعلنا مثل هذا في كل قرية أرسلنا إليها الرسل، فجعلنا أكابرها مجرمين، وكانوا متصفين بصفات المذكورين، وكانوا مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليفعلوا المكر على أتباعهم بالتلبيس ليتركوا متابعة الرسل، فغاية مكرهم هو أن يصدوا الناس عن اتباع رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. وأكابر المجرمين هم أهل الترف، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] وقال تبارك وتعالى مبيناً أن أكابر المجرمين هم أهل الترف: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وقال تبارك وتعالى مبيناً هذا المكر وحاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا} [نوح:22 - 23] إلى آخر الآية الكريمة. قال ابن كثير: المراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال، ليزينوا لهم هذا الباطل الذي هم عليه، وكانوا يزخرفون لهم أفانين القول، كما قال عز وجل إخباراً عن قوم نوح: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22]، وكقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} [سبأ:31 - 33] أي: مكركم بنا بالليل والنهار. وهذا يبين أن مكرهم مكر متصل في الليل والنهار، فكانوا يزخرفون لهم القول ويلبسون عليهم كي يصدوهم عن سبيل الله تبارك وتعالى. وقوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ)) في إعراب (أكابر مجرميها) قولان: الأول: أن (أكابر) مضاف إلى مجرميها، فـ (أكابر): مضاف، و (مجرميها) مضاف إليه، وعليه فيكون (أكابر) مفعولاً أول لـ (جعل) وأما المفعول الثاني فهو الجار والمجرور في قوله تعالى: ((فِي كُلِّ قَرْيَةٍ)) أي: وكذلك جعلنا أكابر المجرمين في كل قرية. فهذا هو القول الأول في إعراب (أكابر مجرميها). القول الثاني: أن (مجرميها) مفعول أول، و (أكابر) مفعول ثانٍ، والتقدير: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، و (أكابر) تُمنع من الصرف، فسبب عدم وجود التنوين في الإعراب الأول هو الإضافة، وفي الإعراب الثاني المنع من الصرف، والأكابر جمع الأكبر. قال الزمخشري: خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال، وهم الذين يحرضون الناس ويقودونهم إلى الضلال، بجانب أنهم غالباً الأقدر على الفساد، فهم الموجود عندهم القدرة، والمتمكنون من نشر الفساد في الناس، وهم الماكرون بالناس كافة، كما قال عز وجل: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]. وقوله: ((وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) يعني: لا يضرون بمكرهم إلا أنفسهم؛ لأن وباله يحيط بهم، كما قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] وقال عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]. قال الزمخشري: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم موعد بالنصرة عليهم. وقوله: ((وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) يعني أن هذا الكيد والمكر يرتد في نحورهم؛ لأنهم حتى لو مرت بهم الدنيا دون عقاب فإنهم في الآخرة يتحملون أوزار كل من أضلوهم عن سبيل الله، يعني أن أصحاب الأوزار لا يتحملون أوزارهم وحدهم، لكن كل من أضلوهم عن سبيل الله يحملون من أوزارهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله)

تفسير قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124]. قوله: ((وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ)) أي: برهان وحجة قاطعة. وقوله: ((قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)) يعني: كما نزل الوحي على الأنبياء بالمعجزات المصدقة لهم، فكذلك نحن لن نؤمن حتى يحصل معنا نفس هذا الشيء، وينزل علينا الوحي كما نزل على رسل الله تبارك وتعالى. فمعنى (حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله) أي: لن نؤمن حتى تأتينا الملائكة بالرسالة، كما فعلت مع رسل الله عز وجل، وهذا -أيضاً- كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21]، وكما قال تبارك وتعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52]، وكما قال -أيضاً- حاكياً عن اقتراحاتهم: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:92]. ويحتمل أنهم يريدون أن يروا الملائكة عياناً يأتون ويشهدون له بالرسالة، أو أنهم أرادوا أن تأتيهم الملائكة بالرسالة وبالوحي كما جاءت إلى الأنبياء. وقوله تعالى: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) هذا الجزء من الآية يصحح أنهم إنما طلبوا النبوة ولم يطلبوا مطلق نزول الملائكة لتشهد للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الجواب أتى من الله بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فالذي يستحق الرسالة يعلمه الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]. إذاً: هذا هو الجواب عليهم على ما اقترحوا، فإنهم قالوا: ((لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)) أي: أما أن تنزل عليهم الملائكة ليشهدوا للرسول، وإما أن تنزل عليهم الملائكة بالوحي كما كانت مع الرسل، وهذا القول الثاني أرجح، بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ))، فهذا كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن الله لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، فيليق للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره مما لو انكشف لغيره انكشافه له لطابت له نفسه، أو ذهبت بعقله دلالته وعظمته، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم، والله سبحانه أعلم بالمحل الذي يليق به أن يصطفى ويختار نبياً ورسولاً لله عز وجل، وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل اصطفى -أي: اجتبى- من ولد إبراهيم إسماعيل) يعني: أن إسماعيل عليه السلام مصطفى من جميع ولد إبراهيم عليه السلام باختيار واصطفاء، قال: (واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) ورواه مسلم. وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً) صلى الله على نبيه وسلم. ثم قال تبارك وتعالى: ((سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ)). قوله: (صغار) أي: ذلة وهوان وضيم في مقابلة ما كانوا عليه في الدنيا من التكبر ومن التعاظم على خلق الله تبارك وتعالى والاستكبار عن الحق، ولذلك صح في الحديث أن المتكبرين يحشرون يوم القيامة في صورة الذر الدقيق الذي يضعف عن شعاع الشمس، ولذا يمر في المكان الذي فيه ظل، فالمتكبرون يكونون على الصورة الإنسية، لكن في حجم الذر، يطؤهم الناس في الموقف تحقيراً لهم، ومعاملة لهم بنقيض ما قصدوا، فهم قصدوا في الدنيا التكبر والعلو، فعوقبوا بالذل والصغار يوم القيامة، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: ((سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ)) أي: ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم. وقوله: (صغار عند الله) يعني: صغار من عند الله، أو صغار عند الله ثابت لهم، يعني يوم القيامة جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره برد آياته وتكذيب رسالته، كما صح في الحديث: (الكبرياء ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته). فالكبرياء لله عز وجل، كما قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:37] فلا ينبغي لأحد أبداً أن ينازع الله سبحانه وتعالى في صفة الكبرياء، فهؤلاء لما نازعوه عز وجل في هذه الصفة، وردوا آياته وكذبوا رسله، واعترضوا على الله عز وجل لأنه اختص بالرسالة غيرهم عاقبهم بهذا الصغار الثابت لهم عند الله. قوله: (وعذاب شديد) يعني: في الآخرة (بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ) أي: بما كانوا يمكرون في الدنيا إضراراً بالأنبياء أو إضراراً بأتباع الأنبياء من الصالحين، وكانوا يأتمرون ويخططون من أجل إطفاء نور الإسلام وحرب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير: لما كان المكر -غالباً- إنما يكون خفياً -وهو التلطف في التحيل والخديعة- قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاءً وفاقاً، ولا يظلم ربك أحداً. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل، يركز في هذا اللواء ليفضح أمام أهل الموقف لأنه كان يكتم المكر في الدنيا، وكانت المؤامرات تعقد في الخفاء، ويتآمرون على المسلمين، ويمكرون بأهل طاعة الله سبحانه وتعالى، فيعاقبون بهذا الغدر يوم القيامة بأن يفضحوا ويكشف غدرهم، وكل غادر يكون يوم القيامة بهذه المثابة حتى يصير ذلك علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.

تفسير قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)

تفسير قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]. قوله: (فمن يرد الله أن يهديه) يعني: للتوحيد (يشرح صدره) أي: يوسع ويفسح صدره (للإسلام) أي: يصبح ثقيلاً بنور الهداية، فيقبل نور الحق، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] وروى عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ قال: (نور يقذف فيه، فينشرح له وينفتح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت)، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال ابن كثير: وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً. وقوله: ((ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً)) أي: شديد الضيق، فلا يتسع للاعتقادات كلها، ولا للأمور الأخروية، وأصل الحرج موضع الشجر الذي يكون كثيفاً وملتفاً، فكأن قلب الكافر كذلك. وحين يكون الشجر كثيفاً وملتفاً على بعضه التفافاً شديداً جداً وكثيفاً يترتب على ذلك أنه لا ينفذ الضوء منه، ولا يمكن أن يسمح بنفاذ الضوء، فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره. فقوله: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا)) أي: شديد الضيق. وقوله: ((كأنما يصعد في السماء)) أي: يتكلف الصعود في جهة السماء، وطبعه يهبط إلى الأرض، يعني: طبيعته الهبوط إلى الأرض، وإذا أراد أن يصعد إلى أعلى فإنه يعاني في ذلك أن طبيعته وخليقته وفطرته المنحرفة تجذبه إلى الأرض، فكلما أراد أن يصعد لا يستطيع أن يرقى إلى السماء، فشبه -للمبالغة- ضيق صدره بمن يزاول أمراً غير ممكن؛ لأن صعود السماء مما يمتنع ويبعد. يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: الصعود إلى السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة. والآن لم يعد الصعود في السماء أمراً ممتنعاً أو خارجاً عن حدود الاستطاعة، بل سخرت من الأسباب العلمية ما جعل الناس يصعدون في السماء. وهذه الآية ذكرت الكتب المصنفة أنها مما وافق عليه الإعجاز العلمي القرآن الكريم، حيث يقول أولئك المصنفون: إن هذه الآية الكريمة تحوي إخباراً بأمر ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت الوحي أن يكتشفه بطبيعته البشرية؛ لأن الجبال في مكة ليست شديدة الارتفاع بحيث تظهر فيها هذه الظاهرة، لكن هذه الظاهرة تظهر عند الناس الذين يهوون التسلق في جبال مثل جبال الهملايا وقمة إفرست ونحوها، فمن الأشياء المعروفة جداً أنه كلما أراد الإنسان أن يصعد إلى أعلى يقل الأكسجين في طبقات الجو العلياء، وحينئذٍ يضيق صدره، ويضيق تنفسه لقلة الأكسجين، فلذلك يصيبه الإعياء والتعب الشديد، وهذا كما وصفه تبارك وتعالى هنا بقوله: ((يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كأنما يصعد في السماء)) فكلما ارتفع الإنسان إلى طبقات الجو العلياء يقل الأكسجين. فهذه الأشياء التي اكتشفت سواء عن طريق المناظير، أو عن طريق أخبار هؤلاء الناس الذين يتسلقون إلى الجبال العالية لم يكن لها مصدر بشري في زمن الوحي كي يتلقى منه النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه المعلومة، وهي قلة الأكسجين كلما ارتفع الإنسان في طبقات الجو العليا، الأمر الذي يؤدي إلى ضيق الصدر والصعوبة في التنفس، فلذلك عدت هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي؛ لإخبارها عن هذا الأمر الذي ما كان يعرفه العرب في جزيرة العرب. وقيل معناه: ((كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)) أي: نبواً عن الحق وتباعداً في الهرب منه. وقوله: ((كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)) يعني: في الاعتقادات والأخلاق، والرجس هو ما استقذر من العمل، فسميت أخلاق الكفار واعتقاداتهم رجساً مبالغة في ذم ما هم عليه، فما عليه الكافر من الاعتقادات والأخلاق والشرك كله داخل تحت قوله تعالى: ((كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون)

تفسير قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) ثم قال تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:126]. أي: هذا البيان الذي جاء به القرآن الكريم، أو أنه إشارة إلى طريق التوحيد، وإسلام وجه العبد إلى الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وهذا صراط ربك) يعني: طريق الله الذي ارتضاه. وقوله: (مستقيماً) أي: لا ميل فيه، بلا إفراط ولا تفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، أو (مستقيماً) لا اعوجاج فيه. وقوله: (قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) يعني: بينا الآيات لقوم يتذكرون المعارف والحقائق التي هي مركوزة في استعدادهم فيسعدون بها.

تفسير قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون)

تفسير قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) ثم يقول عز وجل في مصير هؤلاء الذين يذَّكرون: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:127]. قوله: (لهم دار السلام) يعني السلامة من المكاره، ودار السلام بهذا المعنى هي الجنة التي لا يصيب سكانها حزن ولا هم ولا نصب ولا أي مكروه، ولذلك توصف بأنها (دار السلام) أي: السلامة من المكاره، وهي الجنة؛ لكونهم في مقام القرب من الله سبحانه وتعالى. وقوله: (عند ربهم) يشير إلى قربهم عند الله عز وجل. وقوله: (وهو وليهم) يعني: يتولاهم بمحبته، ويجعلهم في أمانه. وقوله: (بما كانوا يعملون) أي: بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه المستقيم، أي: بسبب ما كانوا عليه من الاستقامة.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128]. قوله: (ويوم يحشرهم جميعاً) يعني: واذكر يا محمد -عليه الصلاة والسلام- فيما تقصه عليهم وتنذرهم به (يوم يحشرهم جميعاً). وقوله: (ويوم يحشرهم) يعني: الجن. وقوله: (أولياؤهم من الإنس) أي: الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً. وقوله: (يا معشر الجن) يعني: نقول لهم بعد أن نحشرهم: (يا معشر الجن) والمقصود بمعشر الجن هنا شياطين الجن. قال المهايمي: خصهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر، فالمكر أساساً ينبع من شياطين الجن، ويتبعهم في ذلك شياطين الإنس؛ فلذلك خصهم بالنداء فقال: (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) يعني: قد استكثرتم من إغواء وإضلال الإنس، أو: (قد استكثرتم من الإنس) بأن جعلتموهم أتباعكم وأهل طاعتكم، وسولتم وزينتم لهم الحطام الدنيوي واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستم لهم بالمعاصي، فحشروا معكم. وهذا فيه التوبيخ والتقريع، يعني: أنتم استكثرتم من هؤلاء الأتباع فهاهم الآن يحشرون معكم بعدما أضللتموهم بمكركم ووسوستكم. وقوله: (وقال أولياؤهم من الإنس) يعني الذين أطاعوهم وتولوهم، ومعروف أن أولياء الشياطين من الإنس هم الذين يطيعون الشياطين في وسوستهم وإضلالهم. ومن ذلك مظاهر الشرك التي يقع فيها كثير من الإنس حينما يتولون الجن، حتى إنهم يخافون منهم الخوف الذي لا ينبغي أن يكون إلا من الله سبحانه وتعالى، فيتعوذون بهم، ويذبحون لهم، وكم نرى أناساً يذبحون للجن كل ما يطلبونه منهم، فتراهم يطلبون ديكاً لونه كذا، ولون عنقه كذا، ولون ريشه كذا! وبعض الناس إذا افتتح مصنعاً أو شقة أو أي شيء من هذه الأشياء يأتي بالذبيحة فتذبح على عتبة هذا الباب للجن، والعياذ بالله! وغير ذلك من هذه الأفعال الشنيعة، فيقول الله تعالى لهم يوم القيامة: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ)) أي: الذين أطاعوهم وتولوهم من الإنس ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)). قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت الإنس وعملت. أي أن الجن كانت تأمر والإنس تعمل، كما قال عز وجل في حق الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، أي أنه لم يجبرهم على ذلك، لكن الجن تأمر وهؤلاء يطيعون وينقادون. فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة على اللذات الغائبة، ولذا قال تعالى عنهم: ((اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)) فالجن استمتعوا بتعظيم الإنس لهم، والإنس استمتعوا باللذات الحاضرة، وآثروا هذه اللذات الحاضرة من الشهوات وغيرها بسبب وسوسة وتزيين الجن لهم. وقوله: ((وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا)) يعني: بالموت أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة وأسوأ عيشة. قال أبو السعود: قالوا هذا الكلام: ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا))، اعترافاً بما فعلوا من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث، وإظهاراً للندامة عليها، وتحسراً على حالهم، واستسلاماً لربهم. والله سبحانه وتعالى اقتصر على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة، فلم يقدروا على التكلم أصلاً، أي: أن الجن أنفسهم أفحموا تماماً، فلم يستطيعوا جواباً إلا ما أجاب به هؤلاء الأولياء من الإنس، حيث قال تعالى: ((وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ)) أي: على سبيل الندم والتحسر والتأسف ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا)) ولم يحك عز وجل، ولم يقص علينا خبراً عن جواب المضلين الذين هم الجن إيذاناً بأن المضلين من الجن أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً. وقوله: ((قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ)) يعني: منزلكم، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين. وقوله: ((خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)) يعني: إلا وقت مشيئته أن تخفف، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركاً راسخاً في اعتقاده. وهذا القول في الحقيقة غير متوجه؛ لأن الخطاب هنا للمشركين، فلا يتناول العصاة الموحدين، والله تبارك وتعالى أعلم. وقد أطال المفسرون الكلام هنا على قوله تعالى: ((إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)) وهو بحث طويل في الحقيقة، وهو أحد الموضعين اللذين ورد فيهما الاستثناء: (إلا أن يشاء الله): الأول: هو هذا الموضع. والثاني في سورة هود، في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106 - 107]، وهذا هو بحث القول بفناء النار، ويستند القائلون بفنائها إلى هذه الآية، ولا شك في بطلان هذا المذهب؛ لأن الأدلة المتواترة تقطع بأن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فمن زعم أن النار تفنى فقد خالف عقيدة أهل السنة والجماعة. يقول الناصر في الانتصار: قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتاً قطعياً، فمن ثمّ اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية وفي أختها في سورة هود، فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة؛ لأنهم لا يخلدون، وهذا قول بعيد. وبعضهم قال: إن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، يعني أنهم مخلدون في النار إلا أن يشاء الله، أي: لو شاء الله لأخرجهم من العذاب. وفائدة هذا الاستثناء أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يوقف عنهم هذا العذاب، والإعلام بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاء أن يخلدوا، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك، فجاءت جملة (إلا أن يشاء الله) إشارة إلى أنهم مخلدون إلا أن يشاء الله، ولو شاء عدم تخليدهم لم يخلدهم، ففائدة الاستثناء إظهار قدرة الله عز وجل، والإعلام بأن خلودهم في النار إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم أيضاً فمن الجائز أن لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى ومحض مشيئة الله سبحانه وتعالى. وفي الآية تأويلات أخر، منها ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه تعالى استثنى قوماً قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يعني أن قوله تعالى: (خالدين فيها)، معناه: أن الكفار الذين كان هذا شأنهم في الدنيا يستحقون أن يخلدوا في النار (إلا ما شاء الله) يعني: إلا من شاء الله منهم أن يسلم قبل موته ويحسن إسلامه، فيخرج عن استحقاق الخلود في جهنم، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي، وأن (ما) بمعنى: من. ومن تأويلات الآية -أيضاً- أنهم يخرجون من النار، فإذا توجهوا لدخول الجنة أغلقت في وجوههم استهزاءً بهم، فقوله: (إلا ما شاء الله) أي: في هذه الفترة فقط التي يغرون فيها بدخول الجنة، حيث تفتح لهم أبواب الجنة، فإذا أرادوا أن يدخلوا بعدما يخرجون من النار تغلق في وجوههم استهزاءً بهم، وهذا معنى قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34]، يعني: حينئذٍ يضحك المؤمنون ويسخرون منهم كما كانوا يفعلون بهم في الدنيا جزاء وفاقاً. فإن قيل: أي فائدة في هذا الفعل؟ وما وجه الحكمة فيه؟ فالجواب أن وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أشق على نفوسهم وأعظم في مكروههم، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه واشتد حرصه على ذلك ثم حيل بينه وبين الفرج ورد إلى المكروه يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه، ولا شك أنهم يصدمون صدمة قوية حين ينتقلون من طرف إلى طرف. وإذا صح هذا القول أنهم يخرجون من النار ثم تفتح لهم أبواب الجنة إغراءً لهم بالتوجه ناحية الجنة فإذا أرادوا أن يدخلوها أغلقت الأبواب في وجوههم وأعيدوا إلى العذاب فلا شك أن هذا تيئيس من الفرج، وهو نوع من العقوبة الشديدة التي تعظم وتضاعف حسرتهم. وقوله: ((إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ))، يعني: لا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة، (عليم) أي: بمن يعذب بكفره فيدوم عذابه، أو يعذب بسيئة أعماله فيعذب على حسبها، ثم ينجو من هذا العذاب.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) ثم يقول عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]. قوله: (وكذلك نولي بعض الظالمين) يعني: من الإنس، (بعضاً) أي: نجعلهم يتولونهم بالإغواء والإضلال، كما فعل الشياطين وغواة الإنس. وقوله: (بما كانوا يكسبون) يعني: بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي. قال الرازي: لأن الجنسية علة الضم. أي: لا تقع موالاة إلا بسبب وجود تناسب بين المتولين، لأن المحبة هي عبارة عن تناسب ومشاكلة وتجانس، فلذلك قال تعالى هنا: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي)) أي: نوجد الولاية والمحبة والنصرة. وقوله: (نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) يفيد أنهم اتحدوا على غرض ومقصد واحد، وهو معاداة الله ومعاداة رسول الله وشرع الله عز وجل، فلذلك تجد أن أهواءهم سواء ومتناسبة، ويوجد بينهم من الوثائق الخبيثة ما يجعل بعضهم يأوي إلى بعض. فالجنسية علة الضم، فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، والطيور على أشكالها تقع، والأسماك على أشكالها تقع، وأنت إذا نظرت إلى الطيور تجد كل القافلة التي تطير تكون كلها من نوع واحد، فإذا كانت قافلة غربان تكون كلها من الغربان، ولا تجد شيئاً يشذ، حتى الناس الذين يغوصون في البحار ويرون قوافل الأسماك وهي تمشي في الماء يرون أن الأسماك -أيضاً- على أشكالها تقع. وكذلك بني آدم يأوي كل واحد إلى جنسه وإلى من يشاكله وإلى الشخص الذي يجد فيه نوعاً من التناسب والموافقة في الصفات وفي الطباع وفي الاستعدادات، فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث، وكذلك القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية. ولا شك في أن هذه الآية تعطينا نفس معنى الحديث الذي يروى ولا أظن أن أحداً صححه من العلماء وهو: (كما تكونون يولى عليكم). يقول السيوطي في الإكليل: الآية معنى حديث: (كما تكونون يولى عليكم) أخرجه ابن قانع في (معجم الصحابة) من حديث أبي بكرة، وكذلك أسند في (الجامع الصغير) تخريجه إلى الديلمي في (الفردوس) عن أبي بكرة، وإلى البيهقي عن أبي إسحاق السبيعي، ورمز له بالضعف. وعلى أي الأحوال فمعنى الحديث صحيح، وقد عبر بعض السلف عن هذا المعنى بقوله: أعمالكم عمالكم. يعني أن العمال هم الحكام والولاة والأمراء، فعلى جنس وأنواع أعمالكم يكون هؤلاء الذين يتولون أموركم، فإذا كانت الشعوب ظالمة فاسقة متعدية لأمر الله عز وجل وتاركة دينها يعاقبها الله سبحانه وتعالى ويسلط الله عليها حكاماً ظالمين من نفس جنسهم. فالله تعالى يولي بعض الظالمين بعضاً، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] يعطي نفس معنى: (كما تكونون يولى عليكم) ومعنى (أعمالكم عمالكم). ومن يتتبع التاريخ يجد هذا الأمر، وقد روي أن بعض الناس في زمن أحد الخلفاء انتقد ذلك الخليفة بأنه لا يسير فيهم بسيرة عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له: أما عمر فكان والياً علي وعلى مثلي من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما أنا فصرت والياً على أمثالكم. وفي هذا إشارة إلى هذا المعنى: (كما تكونون يولى عليكم)، فهناك تفاعل بين الرعية الرعاة، فإذا كان الرعية ظلمة يسلط عليهم بسبب ذنوبهم هؤلاء الولاة الظالمون. وأسند في (الدر المنثور) عن منصور بن الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا)) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أُمِّر عليهم شرارهم. وقال أبو الليث السمرقندي في تفسيره: ويقال في معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذله. والآية لها معانٍ أخرى. وقوله: ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا)) (نولي) بمعنى: نسلط، وهذا -أيضاً- من سنن الله سبحانه وتعالى التي نراها بين وقت وآخر، فنحن نرى أن الشخص الذي يعين الظالم ويتذلل له ويكون جندياً من جنوده ونصيراً من أنصاره وولياً من أوليائه إذا بالأيام تدور ثم ينقلب عليه، كما يقال: من أعان ظالماً سلطه الله عليه. فبعدما يكون بينهم هذه الموالاة وهذه المناصرة تدور الأيام وتجري فيهم سنن الله سبحانه وتعالى، حتى إن هذا الذي أعانه ينتقم الظالم منه، ويذيقه من نفس الكأس، فالانقلابات العسكرية والخيانات والقتل والاغتيال ما هي إلا عبارة عن انتقام ينتقم الله به من ظالم بظالم، ثم ينتقم من الظالمين جميعاً، فسنة الله سبحانه وتعالى أنه لا تدوم للظلم دولة، لكن تجد الظالم ينتقم الله به من ظالم مثله، ثم ينتقم من الظالمين أجمعين، وتكون العاقبة للمتقين. ولذلك يقول السمرقندي: معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضاً فيهلكه أو يذله. قال: وهذا كلام لتهديد الظالم لكي يمتنع عن ظلمه، ويدخل في الآية جميع من يظلم. فالآية عامة، وليست فقط كما نتحدث -في الولاة، ولكن في كل من يرتكب أي نوع من الظلم، سواءٌ أكان راعياً في رعيته، أم تاجراً يظلم في تجارته، أم سارقاً يظلم الناس بأخذ أموالهم، أم غير ذلك. قال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجباً. يعني: وتذكر هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي)) أي: نسلط ((بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)). فمعنى (نولي) نسلط بالمعاقبة، أو (نولي) بمعنى: يقع بينهم التناسب والموافقة، وكل إنسان يختار الذي هو على شاكلته ويرضاه ويتولاه. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: معنى هذه الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاءً على ظلمهم وبغيهم.

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم)

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) ثم بين تبارك وتعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم؛ كما في الآية السابقة التي قال فيها تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:128 - 129]. فبين عز وجل ما يكون من توبيخ الكفار يوم القيامة بعدما بين توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم، وأعلم أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل، فيشهدون على أنفسهم بالكفر، وأنهم لن يعذبوا إلا بالحجة، فقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130]. قوله: (وينذرونكم) أي: يخوفونكم. وقوله: (لقاء يومكم هذا) وهو يوم الحشر الذي عاينوا فيه الأهوال. وقوله: (قالوا) الواو تعود إلى الجن والإنس. وقوله: (شهدنا على أنفسنا) أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم وبتكذيب دعوتهم، كما فصل في قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9]، فيقرون ويعترفون بأن الحجة قد قامت عليهم، وأن الله سبحانه وتعالى ما كان ليظلمهم، ولكن كانوا هم أنفسهم يظلمون، فيشهدون على أنفسهم، ويقرون بجريمتهم، وأن الرسل جاءتهم، وأقامت الحجج عليهم، ودعتهم إلى الحق، ولكنهم استكبروا واستنكفوا. وقوله: (وغرتهم الحياة الدنيا) يعني: غرهم ما فيها من الزهرة والنعيم، وهو بيان لما أرداهم في الدنيا إلى الكفر، فالكافر يميل إلى الكفر؛ لأن الدنيا تجذبه إليها، وتشغله عن الآخرة. وقوله: (وشهدوا على أنفسهم) أي: في ذلك الموقف في الآخرة. وقوله: (أنهم كانوا كافرين) يعني: بعدما شهدت عليهم الجوارح؛ لأنهم في البداية ينكرون، وقد سبق في آيات أخرى في سورة الأنعام أنهم يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24]، لأن الكافر يجد الهلاك محققاً في الآخرة، فيقول: أحاول أي محاولة لعلي أنجو. فيقول لله سبحانه وتعالى: يا رب! إنك حرمت الظلم، وأنا لا أقبل علي شهيداً إلا من نفسي. فتأتي الملائكة فتشهد عليه والكتاب مفصلة فيه أعماله فيقول: ما أجيز إلا شاهداً من نفسي. فيختم الله سبحانه وتعالى على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون. وقوله: (وشهدوا على أنفسهم) يعني: في الآخرة بعدما شهدت عليهم الجوارح وقال الواحد منهم لجوارحه: سحقاً لكُنَّ؛ فعنكن كنت أناضل. وقوله: (أنهم كانوا كافرين) يعني: في الدنيا بما جاءتهم به الرسل.

هل من الجن رسل؟

هل من الجن رسل؟ هنا بعض التنبيهات: أولاً: قوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ))، كلمة: (منكم) هل يفهم منها أن هناك رسلاً من الجن كما أن هناك رسلاً من الإنس؟ A كلا، فليس من الجن رسل، إنما من الجن نذر ودعاة فقط، فمن ذهب إلى أن الله سبحانه وتعالى بعث إلى الجن رسلاً من الجن استدل بقوله تعالى هنا: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)) بعدما قال: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ)). وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم. والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط، نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف. قال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر فقط. يعني: دعاة يبلغون وينذرون، لكن لم يرسل الله رسلاً من الجن. وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها مضافاً، فقوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) المقصود: رسل من أحدكم، وهم الإنس فقط، أو أنه من إضافة ما للبعض للكل، أي: إضافة ما للبعض الذي هو الإنس للكل، وهذه الإضافة تصح؛ لأنها إضافة إلى المجموع، فلا يتعارض أن يكون المقصود واحد من الفريقين فقط، مثل قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] بعدما قال عز وجل: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] فالمفسرون يقولون: وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من أحدهما، وهو المالح دون العذب، وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله تعالى: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)) [الرحمن:19]، ثم قال بعد ذلك: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]. وهو جائز في كل ما اتفق في أصله، فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين وهم الإنس، وهذا قول الفراء والزجاج. فمعنى الآية: يا معشر الجن والإنس! ألم يأتكم رسل من جملتكم؟! فاعتبر هنا معشر الجن والإنس المكلفين كأنهم شيء واحد، فحينما يقول الله: ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)) يقصد المجموع كله، لكن حين نفصل نعلم أنه لم ترسل الرسل إلا من الإنس، ولم يكن في الجن رسل. والمعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم؟! لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً، بل من الإنس خاصة. وإنما جعلوا منهما إما لتأكيد وجوب اتباعهم والإيذان بتقاربهما ذاتاً واتحادهما تكليفاً وخطاباً، وكأنهما من جنس واحد، ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر. وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، فإذا حملناها على ظاهرها فالمقصود من قوله: (رسل منكم) ليس رسلاً فقط من الله سبحانه وتعالى، وإنما تحمل على رسل الرسل، كما قال تبارك وتعالى في سورة يس: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس:13] أي: مرسلون من عند عيسى عليه السلام؛ لأنهم رسل رسول الله عيسى عليه السلام، فأطلق الرسل على رسل عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فإذاً: يكون المراد في قوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) -إذا قلنا: إن من الجن رسلاً- يكون المقصود رسل الرسل الذين ينذرون قومهم ويحملون إليهم رسالة رسل الله عز وجل. وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم، حيث نطق به قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31] أي: الرسول عليه الصلاة والسلام. وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الرسول كلامه في قلوب قوم من جن عصره فيسمعون كلامه ويأتون قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به، وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه، فقال سبحانه وتعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس:14]. وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما وبخ الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر، فهذه الآية فيها توبيخ للكفار وإظهار أن الله أزال عذرهم وأقام عليهم الحجة، ولم يبق عندهم أي عذر. فقوله: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)) وأي أن الله سبحانه وتعالى أزال العذر بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين، فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلاً. قال الحافظ ابن كثير: والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:163] إلى قوله تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] وقال عز وجل عن إبراهيم: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] وذرية إبراهيم من الإنس، فامتن الله على إبراهيم بأن جاء حصر الأنبياء من بعده في ذريته فقط، سواء أكانوا من إسماعيل أم من إسحاق عليهما الصلاة والسلام. فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] أي: لأنهم بشر. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب.

وجه الجمع بين قوله تعالى: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)

وجه الجمع بين قوله تعالى: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) وقوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) قال عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130]، فما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله عز وجل: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] ففي هذا الموضع حلفوا وأقسموا على أنهم ما كانوا مشركين، وفي الآية الأخرى: ((وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))؟ والجواب أنه ينبغي أولاً أن يكون السؤال أن تقول: ما الحكمة؟ أو ما السر في كذا؟ أو ما السبب في كذا؟ لكن أن تقول: هناك تعارض بين هاتين الآيتين فهذا من سوء الأدب؛ لأن كلام الله لا يضرب بعضه ببعض، وإنما من الأدب أن تقول: ما وجه الجمع؟ أو كيف يرفع الإشكال بين كذا وكذا؟ أو: غير ذلك من التعبيرات، لكن أن يزعم امرؤ -والعياذ بالله- أن بينهما تعارضاً، فهذا من سوء الأدب مع كلام الله عز وجل. فبعد هذا السؤال يأتي A بأن يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فتخيل أنك يوم القيامة تحاول أن تمعن فهي بعقلك، فقدر يوم القيامة خمسون ألف سنة مما نعد، فالواحد منا يعيش ستين سنة إلى مائة سنة مثلاً، فتخيل يوماً مقداره خمسون ألف سنة لا يعمل الإنسان فيه شيئاً، ولا تستطيع أن تستدرك أو تستثمر هذه الخمسين ألف سنة حتى تنجو؛ لأنك انتقلت إلى دار الجزاء، فالإنسان إذا حاول أن يدرك مقدار هذا اليوم العظيم يستطيع أن يستشعر ما فيه من الأهوال والمعاناة، ويجتهد في العمل لأجل هذا اليوم، ثم إذا ترقى بعد ذلك وتخيل الحياة الدائمة الخالدة التي لا نهاية فيها ولا موت على الإطلاق -سواء في جنة أو في نار- يدرك -أيضاً- أن الأمر جد لا هزل فيه. فالخمسون ألف سنة هذه تكون حافلة بالأحداث وبالوقائع وبالأحوال المختلفة، وتتنوع فيها الأحوال، فتارة يقر الخلق، وفي مناسبة معينة وفي ظروف أخرى يجحدون، وتارة يقولون: نشهد على أنفسنا أننا كنا كافرين. ومرة أخرى يقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. فهذا هو سبب التعارض في الأقوال وفي الإقرارات، فمرة يحلفون ويقولون: والله ربنا ما كنا مشركين. ومرة أخرى يعترفون ويقرون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين. مثلاً: إذا كان وكيل نيابة يأخذ أقوال أحد فإنه يعترف بشيء، ثم بعد ذلك يتردد، ثم ينفيه، ثم يرجع فيثبته مرة أخرى، فهذا الاضطراب يدل على شدة الخوف والفزع واضطراب الأحوال، فلا شك في أن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه، حتى إنه لو حصل شيء من التضارب في الأقوال فإن التحقيق كله يلغى؛ لأن هذا يدل على أن الإنسان لم يكن في حالة نفسية مستقرة، فكونه يقول كلاماً ثم ينفيه، ويصدقه ثم يكذبه يدل على أن حالته النفسية غير مستقرة عند التحقيق لسبب أو لآخر، فبالتالي يُرفض التقرير كله. فالشاهد أن هؤلاء يقرون مرة ويجحدون مرة أخرى، فمرة يحلفون ويقولون: (والله ربنا ما كنا مشركين) وهذه يمين مغلظة، ويتهمون الملائكة أنهم افتروا عليهم، وأنهم سجلوا في صحائف أعمالهم ما لم يفعلوه، ويقول أحدهم: لا أريد شاهداً إلا من نفسي. ثم يفحهم الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك حينما يحاولون كل طرق الخلاص يعترفون، كما قال عز وجل: ((وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ))، يعني: بالفعل. وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) أن المراد: شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قيل: لماذا كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم في الآية الكريمة: ((قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) فالأولى حكاية لقولهم، فكيف يقولون ويعترفون؟ فالجواب أن المتكلم في المرة الأولى في قوله تعالى: ((شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا)) هم الكفار أنفسهم، فهذه حكاية لما قالوه بحروفه. وأما المتكلم في المرة الثانية في قوله تعالى: ((وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)) فهو من كلام الله سبحانه وتعالى، يقصد به ذمهم وتخطئة رأيهم ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم. فما أعظم حجة القرآن الكريم! فإن كل هذه المحاورات من أجل مصلحتنا نحن، فيجب على كل إنسان مسلم وكافر أن يستحضر هذه المواقف، ويستعد لها من الآن؛ لأنه ليس هناك إقامة للحجة أكثر من هذا، فكل تفاصيل يوم القيامة، وحجج التوحيد، ومجادلة المشركين، وتنويع الخطاب بهذه السور إنما المقصود به أن تقوم الحجة على الناس، فلن يهلك على الله إلا هالك عاتٍ متمرد قاس يستحق عذاب الله سبحانه وتعالى. فالله يقول له: لو كفرت ستخلد في جهنم وتعذب هذا العذاب الأليم، وهذه هي الحجج وهذه هي البراهين: ومع ذلك يصر، مع أنه أعطاه الله الفرصة، وأرسل إليه الرسل، وقامت عليه الحجج، فلا شك في أنه يستحق العذاب، وأن الله ما ظلمه؛ لأنه سبق أن أنذره بذلك.

تفسير قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون)

تفسير قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) ثم يقول عز وجل: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131]. في هذه الآية إعلام بأنه تبارك وتعالى أعذر إلى الثقلين الجن والإنس بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتبيين الآيات وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد، وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم لم تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه، وينبههم على بطلانه؛ لأنه ينافي الحكمة. إذاً: ينبغي أن نضم هذه الآية إلى آية أخرى في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. فقوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام:131] أي أن الله سبحانه وتعالى ما كان له أن يهلك أي قرية أو أي أمة بظلمهم، حتى لو كان هذا الظلم هو الظلم الأكبر وهو الشرك الذي هو الظلم العظيم. وقوله: (وأهلها غافلون) يعني: لم تقم عليهم الحجة الرسالية، ولم تأتهم رسالة الرسل والأنبياء. فالله سبحانه وتعالى كتب على نفسه أنه لا يعذب أمة حتى تقوم عليها الحجة وتصل إليها الرسالة، مع أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، والفطرة تهدي إلى التوحيد، فلو أنك تخيلت مولوداً صغيراً يعيش في حجرة مغلقة -بغض النظر عن توفير سبل الحياة كالرضاعة والطعام بصورة أو بأخرى- بدون أن يتصل بأي مخلوق آخر من أم أو أب أو أخ، ويظل منفرداً في حجرة وينمو وينمو إلى أن يشب ويبلغ ويصير مكلفاً فإنه سينطق بالتوحيد، وهذا كل واحد منا يحسه في نفسه؛ لأن أقوى دليل على وجود الله عز وجل وعلى توحيد الله هو الفطرة. فلا ترهق نفسك إذا سمعت كلام الفلاسفة الدجالين الذين يقولون: إن الشك أول اليقين. أو: ينبغي أن تبدأ بالشك. أو نحو هذا الكلام الذي يقوله الدجالون، وغرضهم به هو الصد عن سبيل الله. فأنت -أيها الإنسان- تولد على الفطرة التي تجعلك تفزع إلى الله سبحانه وتعالى، وتشعر بأنك تأوي إلى الله عز وجل، وتكون هناك صلة وثيقة بينك وبين الله. وأي واحد منا إذا تذكر أيام صباه الأولى سيجد أن هذا الشعور كان مغروساً في أعمق أعماق قلبه، أي أن الاعتراف بالله سبحانه وتعالى والفزع إلى الله واللجوء إلى الله في الشدائد شعور فطري مغروس في كل واحد منا لا يحتاج إلى أن يدلل عليه؛ لأنه موجود في قلبه، فالله سبحانه وتعالى فطر الناس على التوحيد، كما قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] يعني: لا تبدلوا خلق الله، ولا تفسدوا فطرة الناس وتصدوهم عن التوحيد. وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: مهيأً لتقبل الحق. فأولاد اليهود والنصارى ما لم يكلفوا ولم يبلغوا هم على هذه الفطرة النقية فطرة الإسلام وفطرة التوحيد. ثم أعطى الله الناس العقول التي ميزوا بها على البهائم وعلى العجماوات كي يتدبروا في آيات الله عز وجل، ثم أرسل إليهم الرسل، وبث لهم الآيات الكونية في كل آفاق الدنيا، وكلها تدلهم على توحيد الله عز وجل فضلاً من الله ومنة، والله عز وجل تكفل بأنه لا يعذب أحداً حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، إذ لابد من أن تبلغه حجة الرسل، ولابد من أن تبلغه وتصل إليه دعوة الرسل، فإذا رفضها فحينئذٍ يستحق العذاب. فهذه الآية فيها دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة، ولا حكم للعقل، إنما الحكم للشرع والنقل، كقوله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].

تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون)

تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) ثم قال عز وجل: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132]. قوله: (ولكل) أي: من المكلفين. وقوله: (درجات) أي: مراتب. وقوله: (مما عملوا) أي: من أعمالهم، يبلغونها ويثابون بها، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، واستدل بها -على هذا التأويل- على أن الجن يدخلون الجنة ويثابون، وهذه المسألة محل خلاف؛ لأن بعض العلماء يذهبون إلى أن مؤمني الجن ثوابهم أن لا يعذبوا، لكن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن مؤمني الجن يدخلون الجنة مثل مؤمني الإنس، ودليل ذلك في سورة الرحمن، ففي سورة الرحمن الخطاب موجه إلى الجن والإنس، وذلك في قوله تعالى: ((يا معشر الجن والإنس)) وكذلك في آيات: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فالخطاب في سورة الرحمن كلها متوجه إلى الجن وإلى الإنس، كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47] وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الجنة نعيم يستحقه مؤمنوا الجن ومؤمنوا الإنس أيضاً. ومما يدل على صحة هذا المذهب -أيضاً- قوله تبارك وتعالى هنا: ((وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا)) على أساس أن قوله: (لكل) يعني: لكل فريق من الجن والإنس (درجات مما عملوا) يعني أن مؤمني الجن يستحقون درجات الجنة تبعاً لأعمالهم. قال ابن كثير: ويحتمل أن يعود قوله: (ولكل درجات مما عملوا) لكافري الجن والإنس. يعني: ولكل واحد درجة في النار بحسبه، كقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88].

تفسير قوله تعالى: (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم)

تفسير قوله تعالى: (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم) ثم قال عز وجل: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133]. قوله: (وربك الغني) أي: الغني عن خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. وقوله: (ذو الرحمة) يعني: يترحم عليهم بالتكليف تسهيلاً لهم، ويمهلهم على المعاصي، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من إرسال الرسل ليس لأن إرسال الرسل يعود إلى الله سبحانه وتعالى بالمنفعة، معاذ الله! وإنما إرسال الرسل ما هو إلا رحمة لعباد الله تبارك وتعالى. فقوله: (وربك الغني) أي: غني عنكم (ذو الرحمة) أي: يرسل الرسل ليرحمكم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فانظر إلى الربط هنا بين الغنى والرحمة، يعني أن الله سبحانه وتعالى غني عنكم، وغني عن عبادتكم، وأنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد، فما يرسل الرسل إلا لمنفعتكم أنتم دون أن ينتفع هو سبحانه وتعالى من ذلك بشيء. وقوله: ((وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ)) تمهيد لقوله بعد ذلك: ((إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)) يعني: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدك ما يشاء من الخلق يعملون بطاعته كما أنشأكم أنتم من ذرية قوم آخرين ذهب بهم ثم بذريتهم، لكنه أبقاكم ترحماً عليكم، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة القتال: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: سيكونون أفضل وأطوع لله منكم.

تفسير قوله تعالى: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين)

تفسير قوله تعالى: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين) ثم قال عز وجل: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]. قوله: (إنما توعدون) يعني: من البعث وأحواله وأهواله. وقوله: (لآتٍ) يعني: لكائن لا محالة. وقوله: (وما أنتم بمعجزين) أي ما أنتم بفائتين، والله لا يعجز عنكم. وهذا رد لقول هؤلاء المشركين: إن من مات فقد فات. أي: لن يستطيع أحد أن يعيده إلى الحياة. فرد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وبين أنه قادر على إعادتهم وإن صاروا رفاتاً، فقال: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، أي: لن تعجزوا الله؛ لأنهم زعموا: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] أي: إذا تهنا وضعنا في الأرض وصرنا تراباً فكيف نكون في خلق جديد؟ فقال الله عز وجل رداً عليهم: (إنما توعدون) أي: من البعث والنشور (لآتٍ) قطعاً (وما أنتم بمعجزين) أي: ما أنتم بفائتين، بل نحن قادرون على بعثكم ونشوركم وحسابكم.

تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون)

تفسير قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون) ثم قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:135]. قوله: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) يعني: على غاية تمكنكم واستطاعتكم، وابذلوا أقصى ما في إمكانيتكم في هذا العمل، يقال: مكن مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن. أو أن معنى (اعملوا على مكانتكم) أي: على جهتكم وحالتكم. من قولهم: مكان ومكانة كمقام ومقامة، والمعنى: أنتم رضيتم بالكفر فاثبتوا على هذا الكفر. وهذا تهديد لهم، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] لأنه ليس المقصود به أن هناك اختياراً بين الكفر والإيمان، لكنه تهديد وتوعد، وهذا مثل قول جبريل في الحديث: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به)، فقوله: (اعمل ما شئت) تهديد، وكذلك هنا يكون قوله: (اعملوا على مكانتكم) يعني: ابذلوا غاية ما تستطيعون وما تقدرون عليه. أو: (اعملوا على مكانتكم) يعني اثبتوا على كفركم وسترون عاقبة هذا الكفر. وقوله: (إني عامل) أي: ما أمرت به من الثبات على الإسلام. وقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ))، أي: الدار التي بنيت لعبادته تعالى وحده دون غيره، فسوف تكون العاقبة للذي يضع العبادة في موضعها لا للظالم الذي يضع العبادة في غير موضعها. والدار هنا المقصود الدنيا، كما قال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وقال عز وجل أيضاً: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. فالمراد بالدار الدنيا، وبالعاقبة في قوله: (فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار) عاقبة الدنيا، أي: عاقبة الخير؛ لأنها الأصل، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة للآخرة وقنطرة المجاز إليها. وقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) أي: الكافرون. والظلم هنا المقصود به الظلم الأكبر، وهو الشرك، ووضع الظلم موضع الكفر، ولم يقل سبحانه وتعالى: إنه لا يفلح الكافرون، وإنما قال هنا: (إنه لا يفلح الظالمون) لأن الظلم هو وضع الشيء في غير محله وفي غير موضعه، فوَضع الظلم موضع الكفر إيذاناً بأن امتناع الفلاح يترتب على أي فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم الظلم؟! أي: أن الشخص الذي يقع في أي نوع من أنواع الظلم حتى لو كان دون الظلم الأكبر الذي هو الشرك فإنه لا يفلح، ولا يمكن أن الظالم يفلح، فما بالك إذا كان هذا الظلم هو أكبر وأخطر أنواع الظلم الذي هو الشرك العظيم بالله سبحانه وتعالى؟!

لطائف في قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) الآية

لطائف في قوله تعالى: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل) الآية هنا بعض اللطائف: منها: إرادة التهديد بصيغة الأمر، فقوله تعالى: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) فهذه مبالغة في الوعيد، وكأن المهدِّد يريد تعذيبه مجمعاً عليه، وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يبلغهم بما أمره الله به في قوله: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)) كأنه يريد أن يعذب هؤلاء القوم، وأن النية والقصد ثابت وأكيد في أنهم سيعذبون، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه، وتسجيل بأن المهدِّد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصى عنه. وقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)) هنا لفتة طيبة جداً من اللطائف العظيمة في القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) ولم يقل: فسوف تعلمون أن العاقبة ستكون لنا. وإنما قال: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) وهذا فيه معنى الإنذار، وفيه -أيضاً- إنصاف في المقال وحسن الأدب، حيث لم يقل: العاقبة لنا. وإنما فوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا من الكلام المنصف، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] وهذا ليس فيه تنازل عن الحق، وإنما فيه نوع من التلطف بالخبر، حتى لو كان المخاطب كافراً؛ لأن المقصود هو جذبه إلى الحق، فلذلك حينما تقول له: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) يدفعه ذلك إلى حسن ظن بك أنك غير متعصب أو أنك منصف، وحينئذٍ يسهل جذبه إلى هذا الحق، فكذلك هنا قال: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)) ولم يعين المقصودين الذين تكون لهم عاقبة الدار. وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق، ومع ذلك فإن في الآية قطعاً بأن المنذر على يقين بأنه هو صاحب الحق. فقوله: ((قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ)) يعني: ثابت على الإسلام الذي هو دين الله سبحانه وتعالى. وفيه تبشير أيضاً بأن العاقبة لمن يثبت على الحق، فقوله: ((فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ))، قال ابن كثير: وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه، فمكن له في البلاد. ولنعلم أن سورة الأنعام سورة مكية، ونزلت في الوقت الذي كان المسلمون يضطهدون فيه أشد الاضطهاد في مكة، وكان الصحابة يعذبون، وكان الإسلام غريباً، وكان هناك أذىً للرسول عليه السلام ولأصحابه، وعانى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه البلاء الشديد والاضطهاد في مكة المكرمة من كفار قريش، ومع هذا فإن هذه الآية نزلت عليهم في هذه الحال، فقال الله تعالى لنبيه: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:135]، فانظر كيف كان على ثقة من وعد الله سبحانه وتعالى بالتمكين في الدين، فهذا وعد الله له في فترة الاضطهاد والقهر، وقد أنجز الله له موعوده، فمكن له في البلاد، وحكمه في مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب بما في ذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم. ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، وقال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:24 - 52]، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]. وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة، ولله الحمد والمنة.

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) ثم بين عز وجل نوعاً من جهالات مشركي قريش ومكة وضلالاتهم، وهو أنهم كانوا يرجحون جانب الأصنام على جانب الله تبارك وتعالى بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه، فقال عز وجل: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]. قوله: (وجعلوا لله مما ذرأ) يعني: مما خلق. وقوله: (من الحرث) أي: الزرع. وقوله: (والأنعام نصيباً) جعلوه لله بأن كانوا يصرفونه إلى الضيوف وإلى المساكين والفقراء، فهذا هو نصيب الله سبحانه وتعالى الذي كانوا يجعلونه له. وقوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) أي أنهم جعلوا لله نصيباً وللأصنام نصيباً، وكيف يجعلون للأصنام نصيباً وهي لا تأكل ولا تشرب؟ و A كانوا يجعلونه للسدنة الذين يخدمون هذه الأصنام، وأيضاً كانوا يذبحون لها للتنسك. فإذاً: النصيب الذي كانوا يجعلونه لله يصرفونه إلى الضيفان والمساكين، ونصيب الأصنام يصرفونه إلى الأصنام بالتنسك والتعبد وللسدنة الخدام، وإنما لم يذكرو اكتفاءً بما بعده. وقوله: (فقالوا هذا لله بزعمهم) أي: هذا مستقر له الآن من غير استقرار له في المستقبل العارض. يعني: هذا لله الآن، لكن لا نضمن أنه في المستقبل سيكون لله، فإذا حصلت ظروف فسيتوجه لغير الله! وقوله: (وهذا لشركائنا) يعني: هذا مستقر لشركائهم، وليس هذا فحسب، بل يستقر لشركائهم ما ليس لهم أيضاً، فيأخذون ما كان لله ويدفعونه إلى نصيب الشركاء، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، وإذا سقط في نصيبها شيء من نصيب الله تركوه، كما قال تعالى: ((فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ))، أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من إكرام الضيفان والتصدق على المساكين. أي: أن ما يتعلق بالأموال أو بالزرع أو باللحم أو بأي شيء مما هو لله سبحانه وتعالى إذا سقط مع النصيب الذي هو للأصنام يتركونه للأصنام، أما إذا سقط نصيب الشركاء مع ما هو لله يلتقطونه ويعطونه للأصنام، بل إن نصيب الله أصلاً يأخذونه ويعطونه للأصنام. فقوله: (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله أو هلاك ما هو لله، فلا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من إقراء الضيفان والتصدق على المساكين. وقوله: (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو للأصنام أو هلاك ما لها، فينفقون عليها بذبح نسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك، وكانوا يفلسفون هذا الضلال وهذا الظلم بقولهم: إن الله غني، ولكن هذه الأصنام محتاجة، فنحن نأخذ ما كان لله -الذي كان من المفروض أن يأخذه الفقراء والمساكين- ونبذله للسدنة أو للذبح والتقرب لهذه الأصنام. وقوله: (ساء ما يحكمون) يعني: ساء ما يقسمون، وذلك لأمور: أولاً: لأنهم عملوا ما لم يشرع لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع لهم هذه القسمة بينه سبحانه وتعالى وبين الأصنام. ثانياً: لأنهم عملوا أولاً ما لم يشرع لهم ومع هذا ضلوا في القسمة؛ لأنه تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه، لا إله غيره ولا رب سواه، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يعدلوا فيها، بل جاروا فيها؛ إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية على حق الله، فهذا التقسيم باطل وفاسد، ثم بعد ذلك لم يحترموا هذا التقسيم الفاسد الذي ألزموا أنفسهم به، وهذا يذكرنا بآية أخرى في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ويذكرنا بالكلام الذي يدور حول الديمقراطية، فالديمقراطية أصلاً مخالفة للدين ومخالفة للتوحيد؛ لأن الديمقراطية حكم الشعب للشعب، فالشعب هو الذي يشرِّع، وهو الذي يحل، وهو الذي يحرم، ومع أن هذا هو الدين الذي ارتضوه بديلاً عن الإسلام لم يحترموا قوانينه، والكل يعلم الأحوال التي تجري في بلاد المسلمين. فقوله: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا)) يعني: هذه الرهبانية ما شرعها الله لهم، ولا شرع لهم أن يحرموا الطيبات والزواج ونحو ذلك، وإنما هم الذين اخترعوها وابتدعوها. وقوله: ((مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ))، أي: ما فرضناها عليهم. وقوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، هذا استثناء منقطع، بمعنى (ما كتبناها عليهم) أي: ما شرعناها لهم، لكن كتبنا عليهم أن يبتغوا رضوان الله عن طريق العبادات المشروعة لا العبادات المبتدعة. وقوله: ((فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا))، أي: مع أنهم هم الذين ألزموا أنفسهم بالقوانين الرهبانية ونظام الرهبنة، لكنهم مع ذلك ما رعوها حق رعايتها، حتى الأشياء التي ألزموا أنفسهم بها لم يحترموها، فهذه الآية من نفس هذا الباب. وقوله تعالى: ((وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ)) أي أن الله هو الذي خلق، وهو الذي ذرأ، ومع ذلك انظر كيف يقسمون! وقوله تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، أي: في تعظيمهم للشركاء أكثر من تعظيم الله سبحانه وتعالى. كحال هؤلاء الناس الذين حكي عنهم أن الواحد منهم إذا طلب منه أمام القاضي في المحكمة أن يحلف بالله عز وجل فإنه يحلف يميناً غموساً تغمسه في النار؛ لأنه كاذب فيها، لكن إذا قال له: احلف بالولي أو بالشيخ فلان أو بحياة أولادك أو بغير ذلك يتلعثم ويقر بالحقيقة، والعياذ بالله! وهذا شرك عظيم، فانظر كيف يستهزئ باسم الله ثم كيف يعظم هؤلاء الأولياء! فقوله: ((سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) يعني: من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته وعدم صلاحية الإلهية لغيره، وهم يعللون هذا القسمة الضيزى فيقولون: لأن ربنا غني، لكن هذه الأصنام محتاجة! وإذا كانت محتاجة فهل تصلح أن تتخذ آلهة؟! فإذاً: العلة نفسها التي اعتلوا بها واستندوا إليها هي نفسها تحمل في طياتها إبطال هذا الشرك الذي هم عليه، فهي محتاجة؛ والمحتاج لا يصلح إلهاً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير، فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية الكريمة: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً، وللوثن جزءاً، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإن سقط منه الشيء فيما سمي لله سبحانه وتعالى الأحد الصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئاً جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا الوثن فقير، فيعطونه هذا الشيء، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة إلى الله تعالى، فقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام:136] إلى آخر الآية.

الأنعام [143 - 150]

تفسير سورة الأنعام [143 - 150]

تفسر قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين)

تفسر قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين) قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143]. قوله: ((ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) ثمانية بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142]، ويمكن أن يكون مفعولاً به لقوله: (كلوا) يعني: يباح لكم أكل (ثمانية أزواج). وقوله: (أزواج) الأزواج: جمع زوج، والزوج هو ما معه آخر من جنسه يزاوجه، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم:45] وقد يقال بمجموعهما، والمراد الأول، أي أن كلمة الزوج تطلق أحياناً على المجموع، ويمكن أن يطلق على كل واحد منهما أنه زوج الآخر. ثم فصل عز وجل فقال: ((ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)). قوله: ((مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ)) يعني: من الضأن زوجين اثنين. أي: ذكراً وأنثى، وهو الكبش الذكر والنعجة الأنثى. وقوله: ((وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)) وهما التيس والعنز، والتيس هو ذكر الماعز، والعنز هي الأنثى. قال تعالى: (قل) تبكيتاً لهم وإظهار لانقطاعهم عن الجواب ((آلذَّكَرَيْنِ)) يعني: من الضأن والمعز ((حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ)) وقوله: (آلذكرين) المراد هنا الكبش والتيس، وهما من الضأن والمعز. وقوله: ((حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ)) يعني: حرم الله عليكم -أيها المشركون- الأنثيين منهما، وهما النعجة والعنز؟! وقوله: ((أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ)) أي: أم ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى، أي: الجنين، كما قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام:139]. وقوله: ((نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ))، أي: أنتم تحرمون وتحللون، وتقولون: هذا ما أحل الله سبحانه وتعالى، وهذا ما حرمه، فماذا فعلتم أنتم؟ وهذا تسكيت لهم. وقوله: (بعلم) يعني: بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين والنوعين الآتيين. وقوله: (إن كنتم صادقين) يعني: في دعوى التحريم فائتوني بدليل. وفي قوله تعالى: (نبئوني بعلم) تكرير للإلزام، وتثنية للتبكيت والإفحام.

تفسير قوله تعالى: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين)

تفسير قوله تعالى: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين) وفي الآية التي بعدها أضاف الأربعة الأخرى، فالمجموع ثمانية أزواج، فقال: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144]. قوله: (ومن الإبل اثنين) عطف على قوله تعالى: (من الضأن اثنين) أي: وأنشأ من الإبل اثنين، يعني: زوجين، وهما: الجمل والناقة، (ومن البقر اثنين) يعني: ذكر البقر وأنثاه. وقوله: (قل) يعني: قل لهم إفحاماً حتى في هذين النوعين أيضاً، كما سبق إفحامهم فيما مضى: (آلذكرين حرم) أي: آلذكرين من الإبل ومن البقر: ((حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ)) يعني: من ذينك النوعين، والمعنى: إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك، وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وتارة أخرى يحرمون إناثها، ويحرمون أولادها كيفما كانت الأجنة، سواء أكانت ذكوراً أم إناثاً، ويسندون هذا كله إلى تشريع الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أن الله هو الذي أمرهم بهذا، وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعه الصغار ونوعه الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التسكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة مبالغة في الرد عليه. أي: لم يقل تبارك وتعالى: قل: آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث. بل فصل؛ لما في التسمية والتكرير من المبالغة في التسكيت والإلزام، ومبالغة في الرد عليهم بإنكار كل مادة من مواد افترائهم، فلم يذكرها الله سبحانه وتعالى مجملة، بل فصلها؛ لما علم من أن في ذلك تسكيتهم وتوبيخهم وإظهار كذبهم. ثم كرر الإفحام فقال عز وجل: ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا)) فقوله: (أم كنتم شهداء) يعني: حاضرين (إذ وصاكم الله بهذا) أي: حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله؟! فهذا من التهكم، يعني: أنتم تزعمون أن الله حرم هذا، فهل شهدتم هذا؟! وهل كنتم حاضرين حينما شرع الله لكم ذلك كما تزعمون؟! وقوله: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) يعني: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم. أي: أنه نسب إلى الله وزعم أن الله حرم ما لم يحرمه الله عز وجل (ليضل الناس بغير علم) يعني: بغير دليل. ثم ختم الله الآية بقوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين). قال ابن كثير: أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء، وأول من سيب السوائب، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، كما ثبت ذلك في الصحيح، والحديث أخرجه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: أمعاءه-؛ كان أول من سيب السوائب)، أي أنه هو الذي سن هذه السنن السيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها، والوصيلة هي الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعده بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى وليس بينهما ذكر، والحامي: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه، أي: تركوه للطواغيت، وعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئاً، وسموه الحامي، ولذلك قال أبو السعود في تفسير هذه الآية: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) المراد: كبراؤهم المقرون لذلك، أو: عمرو بن لحي؛ لأنه هو المؤسس لهذا الشرع، أو الكل سواء عمرو بن لحي وكل من اقتدى به فيما زعم؛ لاشتراكهم في الافتراء على الله سبحانه وتعالى. قال السيوطي رحمه الله: دلت الآية على إباحة أكل لحوم الأنعام، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود، وعلى رد ما كانت الجاهلية تحرمه بغير علم.

تفسير قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه)

تفسير قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه) ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزام المشركي وتسكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145]. وقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً) يعني: طعاماً محرماً. وهذا يفهم من قوله: (على طاعم يطعمه) يعني: قل: لا أجد فيما أوحي إلي طعاماً محرماً من المطاعم على طاعم يطعمه. أي: على آكل يأكله، سواء أكان ذكراً أم أنثى، رداً على قولهم: (محرم على أزواجنا) فهم كانوا يفرقون بين الرجال والنساء، فرد تعالى عليهم بقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً). وقوله: (على طاعم يطعمه) لفظ (يطعمه) لزيادة التقرير، وقوله: (إلا أن يكون ميتة) أي: إلا أن يكون ذلك الطعام ميتة؛ لأن الموت سبب الفساد، فهو منجس بالموت، إلا أن يمنع من تأثير تنجيس الموت لهذه الأطعمة مانع، مثل ذكر الله سبحانه وتعالى، أو إسالة الدم؛ لأنها تطهر الميتة، أو كونه من الماء، كالسمك، فإنه ميتة، لكنه مباح، كما قال صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فقوله تعالى: (إلا أن يكون ميتة) لأن الميتة منجسة، إلا ما استثني من الميتة، وكلمة الموت عامة هنا، تشمل ما ذكي، وتشمل ما ذبح. أي: كأن الموت ينجس إلا أن يمنع من تأثير الموت بالتنجيس مانع، مثل ذكر اسم الله عليه، أو كونه من البحر أو من الماء؛ لأن البحر (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، أو غيرهما. وقوله: (أو دماً مسفوحاً)، أي أن المحرم هو الميتة أو الدم المسفوح، والمسفوح هو السائل لا كبداً ولا طحالاً؛ لأنه وإن كان من الدم لكن ليس بسائل. وقوله: (أو لحم خنزير فإنه رجس) لأن الخنزير يتعود أكل النجاسات. وقوله: (أو فسقاً أهل لغير الله به) هذه الآية تفسير الآية في قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، فإنه يترجح تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) بأنه لا يؤكل مما ذكر عليه اسم غير الله؛ لأن هذا فسق وهذا فسق، فيستويان. فقوله: ((أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ)) أصل الفسق هو الخروج، والمقصود الخروج عن الدين، فقوله: (أو فسقاً) يعني: خروجاً عن الدين الذي هو كالحياة المطهرة، وقوله: (أهل لغير الله به) أي: ذبح على اسم الأصنام، ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، وإنما سمي ما أهل به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق، ومنه قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، فالإنسان إذا أكل ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فهذا كله أيضاً داخل في معاني الفسق والخروج عن طاعة الله وعن الشريعة، لكن هذه وصفها بالرجس، وخص ما أهل به لغير الله بوصف الفسق مع اشتراك كل ما مضى في وصف الفسق؛ لأن الذبيحة التي يذكر عليها غير اسم الله موغلة في الفسق؛ إذ إن ذلك من مظاهر الشرك. وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر. وقوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] يعني: غير باغٍ على مضطر مثله تارك لمواساته، فهذا من البغي، (ولا عادٍ) يعني: متجاوز قدر حاجته من تناوله؛ لأن الضرورة تبيح ما يسد الرمق، فلو أن الإنسان أشرف على الموت وأمامه ميتة إن لم يأكل هذه الميتة سيموت وسيهلك، فإنه يباح له الأكل، لكن هل يباح له الأكل حتى يشبع؟ A لا، وإنما يباح له ما يسد رمقه، أي: ما يحفظ عليه حياته، لكن لا يأكل ويتمادى في الأكل حتى يشبع ويقول: قد أبيحت لي، وإنما يباح له من الضرورة ما يدفع الحاجة أو الضرورة التي أحلت له هذا الحرام؛ فلذلك قال تعالى: (ولا عادٍ) يعني: غير متجاوز حد الضرورة في تناول هذا المحرم، لكن يقتصر على قدر حاجته التي تحفظ عليه الحياة حتى لا يموت، ولا يتمادى في الأكل؛ فإن الضرورة تقدر بقدرها. وقوله: (غير باغٍ) أي: غير باغٍ على شخص آخر، فقد يكون الاثنان مضطرين، فيعتدي الباغي على المضطر الآخر ويأكل -مثلاً- ما معه من الطعام الذي سينقذ به روحه، أو يكون معه طعام ثم يبغي على جاره المضطر أيضاً بأن يمنعه من المواساة ولا يواسيه فيما معه. فقوله: (فمن اضطر) أي: أرغمته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر، (غير باغٍ) أي: على مضطر مثله تارك لمواساته، (ولا عادٍ) أي: متجاوز قدر حاجته من تناوله، ((فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) يعني: لا يؤاخذه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه الكفاية. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} إلى آخره، فإن الذي حرمه الله سبحانه وتعالى بالوحي هو الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وما عدا ذلك فلم يحرم، وإنما هو عفو مسكوت عنه، فكيف تزعمون أنه حرام؟! أي: أنتم تقولون بتحريم السائبة والوصيلة والحام وغير ذلك من عند أنفسكم، فإذا كنتم تزعمون ذلك فإني رجعت إلى الوحي الذي أنزله الله علي فلم أجد فيما أوحي إلي محرماً مما تذكرون إلا ما وجدت فيه من تحريم كذا وكذا وكذا مما ذكر الآن، فكيف تزعمون أنه حرام؟! ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله تعالى؟! وهذا لا ينفي تحريم أشياء أخر بعد ذلك، أي: في هذا الوقت لم يكن قد حرم في الوحي غير هذه الأشياء، فهل معنى ذلك أن نأخذ بظاهر هذه الآية الكريمة ونقول: إنه لا يحرم أبداً من المطاعم إلا ما ذكر في هذه الآية؟ A لا؛ لأنه ثبتت نصوص -سواء في القرآن أو في السنة- بتحريم أشياء أخر غير الأشياء المذكورة في هذه الآية بعد ذلك، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية، ولحم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، فهذه حرمت وهي غير مذكورة في الآية، فمعنى ذلك أنها لم تكن حرمت في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك جاءت النصوص بتحريمها، فلا تعارض. وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيرها، فقوله: ((قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)) أي: في ذلك، الوقت الذي كان يخاطبهم فيه فالوحي كان يشتمل على تلك المحرمات إلى تلك الغاية في ذلك الوقت الذي كان القرآن يحاور المشركين في هذه القضية، ففي ذلك الوقت لم يكن حرم إلا هذه الأشياء، فهل يتعارض هذا مع ما حرم بعد ذلك؟ الجواب: لا، بل هو مقيد بغاية زمنية معينة، ولا يمنع أن يأتي تحريم بعد ذلك في شيء آخر، كما قال تعالى في سورة المائدة: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة:3] وذلك لأن سورة الأنعام مكية، وسورة المائدة مدنية، فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم -أيضاً- هو طارئ، فالمحرمات غير المنصوص عليها في هذه الآية تحريمها طارئ نزل بعد ذلك، لكن في وقت نزول هذه الآية لم يكن حرم إلا ما وجده الرسول في الوحي. وقيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخاً لما اقتضته هذه الآية من تحريم. أي: أن بعض العلماء قالوا: إن معنى ذلك أنكم تقولون بالنسخ؛ لأن المنخنقة والموقوذة والمتردية طبقاً لهذه الآية التي في سورة الأنعام كانت مباحة؛ لأنها لم تكن حرمت، فمعنى ذلك أنه حينما نزل التحريم نسخ هذه الإباحة. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم، وليس بنسخ لما في الآية؛ لأن الآية نصت على أنواع محددة، وهذه الأنواع بقي حكمها كما هو؛ لأنه لم ينته هذا الحكم حتى يسمى نسخاً، وإنما حصلت زيادة في التحريم، وليس هذا بنسخ لما في الآية. فإذاً: يصح تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير، ومن الناس من يسمي هذا نسخاً بمعنى أن النسخ يأتي بمعنى التوضيح، والتفصيل بعد الإجمال، ورفع إشكال بعد الإيهام، فهذا كله يطلق عليه نسخ، فالسلف يستعملون اصطلاح النسخ بمرادات كثيرة، وليس بالمعنى الأصولي الذي هو الإزالة ورفع الحكم تماماً. واحتج بهذه الآية كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها، فمن ذلك الحمر الأهلية، فقد أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قال: قلت لـ جابر بن يزيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحمر الأهلية! فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر -أي: ابن عباس - وقرأ: ((قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)) إلى آخره، يعني: ليس في الآية الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه) وهذا الحديث ضعيف. ونحن قلنا: إن هذا التحريم هو إلى غاية نزول قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً) أي: حتى الآن، والوحي كان ما يزال ينزل، فيحتمل أن يحصل تحريم بعد ذلك، فلا ينبغي الاستدلال بها على تعميم إباحة كل ما عدا ما ذكر في هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي

تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر)

تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة تحقيقاً لافتراء المشركين فيما حرموه إذ لم يوافق شيئاً مما أنزله الله تعالى، يعني: ما حرمتموه لا الوحي الذي عندي حرمه، ولا الوحي عن الأنبياء السابقين حرمه، وذكر اليهود فقال سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]. قوله: (وعلى الذين هادوا) يعني: على اليهود خاصة (حرمنا كل ذي ظفر) قال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع. يعني: لا توجد له أصابع متميزة، لكن تكون أظفاره متميزة، كالجمل والوبر والأرنب، فإنها من ذوات الأظفار غير المشقوقة، أي: غير منفرجة، وأما ذو الظفر المشقوق -وهو البهائم- فلم يحرم عليهم، فقوله: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) يعني: الذي ليس منفرج الأصابع. وقوله: (ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) يعني: لا لحومهما. ففي البقر والغنم بالذات كان يحرم على اليهود أن يأكلوا شحوم البقر والغنم، لكن اللحوم كانت حلالاً لهم. وقوله: (إلا ما حملت ظهورهما) أي: ما علق في الظهر من الشحوم، فما كان من الشحوم على الظهر فهو حلال، وما عدا ذلك من الشحوم في البقر والغنم فقد كان حراماً على اليهود. وقوله: (أو الحوايا) يعني: الأمعاء والمصارين؛ لأن الأمعاء والمصارين تختلط بها الشحوم، فالمقصود أن الشحوم التي تختلط بالأمعاء كانت حلالاً لهم. وقوله: (أو ما اختلط بعظم) يعني: كالمخ والعصب. وقوله: (ذلك) يعني تحريم تلك الأطايب عليهم (جزيناهم ببغيهم) يعني: بسبب ظلمهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير الحق، فكانوا يعاقبون بهذه التشريعات التي فيها تشديد عليهم، وكان الله يشدد عليهم -لعنهم الله- لما كانوا يرتكبون من الجرائم. وقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) هذا كما قال تبارك وتعالى في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161]، فالباء هنا سببية، يعني: بسبب ظلمهم وبغيهم وهذه الجرائم التي ارتكبوها عوقبوا بالتغليظ عليهم في شريعتهم وبهذه الأغلال وهذه الآصار، أما هذه الأمة المرحومة فرفعت عنها هذه الأغلال وهذه الآصار. قال المهايمي: أي: ولم يكن لغيرهم ذلك البغي، فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها قائمة في أنفسهم. يعني: لأنهم بغوا حرمت عليهم، أما الذين لم يبغوا فلم تحرم عليهم هذه الطيبات. وقوله: (وإنا لصادقون) يعني: إنا لصادقون في كل ما نخبر به من الأخبار التي من جملتها هذا الخبر، وهذا الخبر هو تخصيص التحريم بسبب بغيهم، فالله سبحانه وتعالى حرم عليهم هذه الأشياء عقاباً لهم على بغيهم، لا كما زعموا بأن إسرائيل هو الذي حرمها على نفسه، وقد ألقمهم الله سبحانه وتعالى الحجر في قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93].

تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة)

تفسير قوله تعالى: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:147]. قوله: (فإن كذبوك) الضمير إما لليهود؛ لأنهم أقرب ذكراً، وإما للمشركين، والأقرب أن الضمير في قوله: (فإن كذبوك) عائد على اليهود؛ لأنه جاء مباشرة بعد قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]. فقوله: (فإن كذبوك) يعني: اليهود، والذي يؤيد ذلك أنه لما أراد أن يتكلم عن المشركين في الآية الثانية قال: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا))، فوصفهم بوصف الإشراك، فالضمير هنا إما لليهود، وهذا الأقرب، وإما للمشركين، وإما للفريقين معاً، يعني: فإن كذبتك اليهود وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ، وأصروا على ادعاء قدم التحريم، أو كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم، أو هما فقل: إن الله يمهلكم على التكذيب، فلا تغتروا بإمهاله، فإنه لا يهمل، فهذا معنى قوله: ((فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)) ومن رحمته الواسعة أنه يمهلكم رغم أنكم تكذبونه وتفترون عليه الكذب، لكن لا تغتروا بهذه الرحمة الواسعة؛ فإنه لا يهمل، فقوله: (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) أي: سيمهلكم ويعطيكم مهله، لكن ((وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ))، يعني أنه مع رحمته وحلمه ذو بأس شديد، وفيه ترغيب في ابتغاء رحمة الله الواسعة، باتباع رضوانه، وترهيب من المخالفة.

تفسير قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا)

تفسير قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148]. ليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر تعالى عنهم بما سيقولون له من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا، فهنا أخبر الله سبحانه وتعالى مقدماً قبل أن يقولوا، أنهم سيقولون ذلك، فهذا من التسليح بالحجج قبل أن تقع مثل هذه المجادلة، فإنهم وقد ألقموا الحجر وقد أبطلت مزاعمهم في كل الآيات السابقة فزعوا إلى حيلة أخرى، أو إلى أسلوب آخر يتنكرون به مما فعلوه من الإشراك، فلما لزمتهم الحجة وبطل ما كانوا عليه من الشرك وتحريم ما لم يحرمه الله أخبر تعالى أنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا، وفائدة الإخبار بما سوف يقولون له توطين النفس على الجواب، ومكافحتهم بالرد، وإعداد الحجة قبل أوانها، وهذه آخر حيلة عند المشركين. فقوله: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) أي: كل شيء بقدر الله، وكل شيء بمشيئة الله، فنحن نشرك، وشركنا هو بإرادة الله. فأبطل القرآن الكريم شركهم، وأبطل تحريمهم ما أحل الله، فقوله: (سيقول الذين أشركوا) يعني مشركي قريش والعرب (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء)، أي أنهم فزعوا إلى الاحتجاج بالقدر، وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما حرمنا ما حرمناه أو ما حرمه آباؤنا من البحائر والسوائب والوصيلة والحامي وغير ذلك. وقوله: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا) يعني أنهم ظلوا يقولون ذلك حتى نزل عليهم عذاب الله. وقوله: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) أي: هل عندكم أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا؟ وقوله: (إن تتبعون إلا الظن) أي: فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرمتم، (وإن أنتم إلا تخرصون) أي: تكذبون.

تفسير قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين)

تفسير قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) قال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. قوله: (الحجة البالغة) أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، ومنه قولك: أيمان بالغة، أي: أيمان مؤكدة، أو البالغة هي: التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه، فتكون من باب (عيشة راضية)، أي: مرضية. وقوله: (فلو شاء لهداكم أجمعين)، ولكنه لم يشأ ذلك، ولم يشأ أن يهديكم، وإنما هدى غيركم، فشاء هداية بعض؛ فصرف اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وشاء ضلالة آخرين، فصرف قلوبهم إلى خلاف ذلك، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، فوقع ذلك على الوجه الذي شاء، وهذه الآية في مشركي العرب، حيث قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة، وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء وأضافوا ذلك إلى الله، فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول (لو شاء الله ما أشركنا)، وقصدهم الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال، فهم يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لم يشأ الترك، وشاء الفعل، ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق؛ لأنه خالق، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه، فهو حق. وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جداً. وقضية الاحتجاج بالقدر لها تفصيل واسع في بحثنا (القضاء والقدر)، والقاسمي، وقد عقد فصلاً كبيراً جداً في بيان هذا الأمر، فمن شاء فليراجعه في تفسير القاسمي، أو يراجع كتاب (القضاء والقدر) للدكتور عمر الأشقر. ونقول هنا باختصار شديد: إن القدر لا يصلح حجة، فهذا الكلام الذي قالوه صحيح، لكن ما قالوه من أجل الإقرار بالقدر، وإنما قالوه من أجل الاحتجاج بالقدر، فالقدر نحن نؤمن به، لكن لا نحتج به، فيجب عليك أن تؤمن بالقدر، وأن كل شيء بمشيئة الله، وكل شيء يقع في الكون بإرادة الله عز وجل، لكن لا يجوز لك أن تحتج بالقدر على المعاصي، وإلا فلو كان القدر حجة لكان حجة لكل أحد، فمثلاً: الشخص الذي يسرق مالك ويقول لك: أنا سرقت بقضاء الله وقدره هو صادق في إثبات القدر، فكل شيء يجري بمشيئة الله، لكنه ضال في الاحتجاج بالقدر على مخالفة الشرع؛ لأن الله حرم عليه السرقة ونهاه عنها، فلو كان القدر يصلح حجة له فيما فعل فهو حجة لك أنت أيضاً إذا ضربته، فاضربه وقل: وأنا أضربك -أيضاً- بقضاء الله وقدره. ولذلك روي عن عمر أنه لما أراد أن يقطع يد سارق، قال له: سرقت بقضاء الله وقدره، فقال: (وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره). فإذاً: القدر لو كان حجة لأحد لكان حجة لكل الناس، فغالب الناس الذين يحتجون بالقدر يحتجون بالقدر في صفهم فقط. فهذه الآية تكرر مجيئها في التنزيل الكريم في عدة سور، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها، فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر، ومعلوم أن من عقيدة الفرقة الناجية: الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد، وخالف في ذلك عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، لأنهم يقولون بخالقين، فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو سبحانه لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد. فعندهم أن أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى، ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة تبرأ منهم الصحابة، وأصل بدعتهم -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه.

تفسير قوله تعالى: (قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا)

تفسير قوله تعالى: (قل هلّم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا) ثم قال تبارك وتعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:150]. قوله: (قل هلم شهداءكم) يعني: أحضروا شهداءكم، وقوله: ((الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا)) يعني: يشهدون على ما تقولون وما تزعمون تحريمه من الأنعام والحرث، والمراد بشهدائهم قدواتهم الذين ينصرون قولهم. وإنما أمروا باستحضارهم لتلزمهم الحجة، ويظهر انقطاعهم وضلالتهم، وأنه لا متمسك لمن يقلدهم، فيحق الحق ويبطل الباطل. وقوله: (فإن شهدوا) يعني: حتى لو حضر رؤساؤهم وقدواتهم وأتوا وشهدوا أن الله حرم هذا (فلا تشهد معهم) ولا تصدقهم ولا تسلم لهم ما شهدوا به؛ لما علمت من افترائهم على الله، ومشيهم مع أهوائهم. وقوله: ((وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) وضع المظهر موضع المضمر، أي: قال: (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) بدل أن يقول: ولا تتبع أهواءهم، وإنما وصفهم بأنهم (كذبوا بآياتنا) للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره -أي: سوى به الأصنام- فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى.

الأنعام [154 - 164]

تفسير سورة الأنعام [154 - 164]

تفسير قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن)

تفسير قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) قال عز وجل: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:154]. قوله: (ثم آتينا موسى الكتاب) أي: أعطينا موسى الكتاب، يعني التوراة. وقوله: (تماماً على الذي أحسن) يقرأ بفتح النون في (أحسن) على أنه فعل ماض، وفاعله إما ضمير الذي، أي: تماماً لإكرام الله ولنعمة الله على هذا الشخص الذي يحسن ويكون من المحسنين. يريد به جنس المحسنين، وتدل عليه قراءة عبد الله: (تماماً على الذين أحسنوا)، وإما ضمير موسى عليه السلام، ومفعوله محذوف، وعلى هذا فقوله: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) يعني: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به، أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع؛ من (أحسن الشيء): إذا أجاد معرفته. أي: زيادة على علمه على وجه التتميم. فعلى القول الأول يكون قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) يعني: تمام الكرامة والنعمة على الذي كان محسناً صالحاً، وعلى هذا فيكون إعراب (تماماً) أنه مفعول له أو مفعول لأجله. وعلى القول الثاني يكون قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن) يعني: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به، أو (تماماً على الذي أحسن)، أي: على موسى الذي أحسن العلم والشرائع، فتكون الجملة حالاً من الكتاب، أي: حال كون الكتاب تماماً على الذي أحسن. وقرأ يحيى بن يعمر: (على الذي أحسنُ) بالرفع، أي: على الذي هو أحسن، أو: على الوجه الذي هو أحسن ما تكون عليه الكتب، قال ابن جرير: هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، يعني: قراءة (تماماً على الذي أحسنُ)، وإن كانت في العربية لها وجه صحيح فإن التفسير يعتبر هذه القراءة شاذة ولا يعتمدها. وقوله: (وتفصيلاً لكل شيء) أي: وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين، (وهدى) يعني: هدىً لهم إلى ربهم في سلوك سبيله، (ورحمة) أي: عليهم بإفاضة الفوائد، (لعلهم)، أي: أهل الكتاب، (بلقاء ربهم يؤمنون)، أي: يصدقون بلقائه للجزاء. ويلاحظ هنا أنه في الآية السابقة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. ثم قال تعالى: ((ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ))، فهل (ثم) في قوله تعالى: (ثم آتينا) هنا تفيد العطف مع الترتيب؟ A لا، ويؤيد هذا أن هذه الوصايا هي في هذا القرآن الكريم، فقوله تعالى: (ثم آتينا موسى) هل يفيد موسى أن أتى بعد القرآن الكريم؟! A لا، وهذا شاهد قوي لمن قال: إن (ثم) أحياناً لا تفيد الترتيب؛ لأنه لا يتخيل أن يكون محمد هو الذي أتى أولاً ثم موسى بعده عليهما السلام، ولذلك قال السيوطي في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: (ثم آتينا) من قال: إن (ثم) لا تفيد الترتيب. وقال ابن كثير: و (ثم) هنا لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب، يعني: أن (ثم) هي هنا لمجرد العطف وليست للترتيب، كما قال الشاعر: قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده ففي هذا البيت مجرد عطف الخبر بدون إرادة الترتيب؛ لأنه لا يسود الابن الحفيد وبعده يسود الأب وبعده يسود الجد، بل يسود أولاً الجد ثم الأب ثم الحفيد. وقال أبو السعود: و (ثم) للتراخي في الأخبار، كما في قولك: بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب. يعني أن (ثم) هنا تفيد التراخي ولا تفيد الترتيب، وهي تفيد التراخي من ناحية أهمية الكلام أو مقدار ما يتعجب منه فيه، لكن ليس المقصود الترتيب الزمني، وإنما تفيد التراخي فيما يتعجب منه، أو التفاوت في الرتبة، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة؛ فإنها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها مما هو أعظم من التوصية بها فقط، ثم أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن التوراة وإن كنت تماماً على النهج الأحسن فالقرآن أتم منها وأزيد حسناً، فهو أولى بالمتابعة، أي: أن الله سبحانه وتعالى أثنى هنا على موسى وعلى التوراة، لكنه أشار في الآية التي تليها مباشرة إلى أن القرآن أعظم وأشرف وأكمل، كما قال تبارك وتعالى في سورة المائدة: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة:44] إلى آخر الآية، ثم بعد ذلك قال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة:46]، ثم قال بعد ذلك: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، فالقرآن هو الحاكم على ما سبق من الكتب، وأشرف منها جميعاً.

تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون)

تفسير قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) ثم قال عز وجل مبيناً أن القرآن أفضل من التوراة وأزيد حسناً، فالقرآن أولى بالمتابعة من هذه الكتب: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155]. قوله: (وهذا) أي: القرآن، (كتاب أنزلناه مبارك)، يعني: أكثر نفعاً من التوراة ديناً ودنيا، (فاتبعوه) أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام، (واتقوا) يعني: اتقوا مخالفته واتباع غيره؛ لأن القرآن نسخ ما قبله، (لعلكم ترحمون) أي: لعلكم ترحمون بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه، وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحب هذه المتابعة بلقاء ربه، فلو أن امرءاً يؤمن بالآخرة، وأنه يوجد يوم قيامة وحساب وجنة ونار، لكن لا يتبع القرآن، وإنما يتبع كتاباً منسوخاً كالتوراة أو الإنجيل فإنه لا يستحق أن يرحم، ولا تجوز عليه الرحمة، والدليل على ذلك قوله: (لعلكم ترحمون) فلا سبيل إلى الرحمة إلا باتباع القرآن، أما اتباع ما نسخه القرآن فلن ينجي من العذاب، حتى لو آمن بقضايا الإيمان الأخرى. وتعلم القرآن فرض عين، أي أن الأمة كلها ينبغي أن تتعلم القرآن الكريم، لكن إذا قام بهذا الواجب طائفة بأن حفظوا القرآن وتعمقوا في علومه سقط الواجب عن الباقين، لكن ما الذي يتعين من القرآن؟ و A هو ما لا تصح الصلاة إلا به، كقراءة الفاتحة. وهنا ملاحظة يشير إليها ابن كثير كثيراً في لطائف تفسيره المباركة، وهي الربط دائماً بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، والربط باستمرار بين القرآن وبين التوراة، وعيسى عليه السلام وإن كان هو بين محمد وبين موسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام، لكن عيسى إنما جاء مكملاً ومتمماً لما جاء في التوراة، وأوجه الشبه بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وبين موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كثيرة، والشواهد على ذلك كثيرة، يقول ابن كثير: إنه تعالى كثيراً ما يقرن بين الكتابين: القرآن والتوراة، كهذه الآيات. يعني: بعدما قال تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] قال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:154 - 155]، فذكر التوراة ثم عقب بالقرآن الكريم، وفي قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف:12] قرن عز وجل بين كتاب موسى وبين كتاب محمد عليهما الصلاة والسلام، وقوله تعالى في أول السورة: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام:91] ثم قال بعدها: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] إلى آخر الآيات. وقال تعالى مخبراً عن المشركين: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48] فانظر إلى الربط -أيضاً- بين القرآن والتوراة. وكذلك في صدر سورة الإسراء يوجد هذا الربط، وفي سورة القصص في مواضع كثيرة، وفي سورة الأحقاف قال تعالى حاكياً عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30]. والنجاشي كان نصرانياً، ومع ذلك لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب سورة مريم بكى وقال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، وورقة بن نوفل لما تلا عليه الرسول عليه الصلاة والسلام سورة العلق، قال: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى)، وهذا ليس إهمالاً لشأن عيسى، لكن صاحب الرسالة الأساسية هو موسى عليه السلام، وعيسى جاء مكملاً، فرسالة موسى كانت فيها الشرائع، وكان فيها الجهاد ونحو ذلك، بخلاف رسالة عيسى عليه السلام، فإنما جاء عيسى عليه السلام ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وكان يغلب على دعوة عيسى عليه السلام الرحمة.

تفسير قوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين)

تفسير قوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين) ثم يقول تبارك وتعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]. قوله: (أن تقولوا) علة لقوله: (أنزلنا) أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة. أو: لئلا تقولوا يوم القيامة (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) فالله سبحانه وتعالى يقيم الحجة على هذه الأمة، حتى لا يأتوا يوم القيامة فيقولوا: نحن ما جاءنا كتاب. وقوله: (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) هم اليهود والنصارى لعنهم الله (وإن كنا عن دراستهم) أي: عن تلاوة كتابهم (لغافلين) أي: لا علم لنا بشيء منها؛ لأنها ليست بلغتنا. قال أبو السعود: ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهم لا ينافي عموم أحكامه، فلمَ لم تعملوا بأحكامه العامة؟! والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم؛ إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا. وبهذا يتبين أن معذرتهم هذه غير مقبولة، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، كما أنه قد قطعت تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله -أيضاً- عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط. وقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156] أي: بلغة غير لغتنا، فلم نتمكن حتى من معرفة الأحكام العامة التي تشملنا وتشملهم، كالأمر بالتوحيد ومكارم الأخلاق وغير ذلك، فالآن ما بقي لكم حجة، فقد آتاكم الله هذا الكتاب المبارك لعلة أن لا تقولوا: إنما أنزل الكتاب -التوراة والإنجيل- على طائفتين من قبلنا. فقد جاءكم الآن هذا الكتاب المبارك (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

تفسير قوله تعالى: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم)

تفسير قوله تعالى: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) ثم قال تبارك وتعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام:157]. قوله: (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب)، يعني: كما أنزل عليهم (لكنا أهدى منهم)، أي: لكنا أسرع إلى الحق وأسرع إجابة للرسول صلى الله عليه وسلم لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل. (فقد جاءكم بينة من ربكم) كأن كلمة (فقد) متعلقة بمحذوف تنبئ عنه هذه الفاء التي يسمونها بالفصيحة، يعني: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم. وإما أن تكون واقعة في جواب الشرط، يعني: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما طلبتم وجاءكم ما كنتم تتعجلونه، (فقد جاءكم بينة من ربكم)، أي: كتاب حجة واضحة، (من ربكم) يعني: جاءكم من ربكم كتاب، أو (فقد جاءكم بينة من ربكم)، أي: بينة كائنة من الله تعالى لا يتوهم فيها السحر (وهدىً) أي: بإقامة الدلائل ورفع الشبه (ورحمة) أي: بإصابة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات. وقوله: (فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) أي أن مجيء الآيات المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه؛ فإن هذا القرآن مشتمل على أقصى درجة من الهدى والرحمة والبيان والحجة والبرهان، فإذا كان هو بهذه الحالة فهل يوجد أظلم ممن يكذب بمثل هذا القرآن الذي اشتمل على أقصى وأعلى وغاية الهدى والرحمة، فإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصرف عنها؟! أي: صرف الناس وصدهم عن اتباع القرآن الكريم، فجمع بين الضلال والإضلال، حيث كذب بآيات الله بنفسه، وصدف عنها، أي: صد غيره عن سبيل الله تبارك وتعالى، والمعنى: إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساوياً له. وقوله: ((سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا))، يعني: يصدون ويصرفون الناس عن آياتنا التي لو لم يصرفوا عنها لعرفوا إعجازها، أي: أنهم هم الذين يحولون بين الناس وبين آيات الله ومعرفة إعجاز كلام الله. وقوله: ((سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ))، يعني العذاب السيء، وهذا كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88] أي: لأنهم كانوا فاسدين في أنفسهم ومفسدين لغيرهم، فكانوا كافرين في أنفسهم وصادين الآخرين عن سبيل الله، وكانوا يصدفون عن آيات الله، فحملوا وزرهم ووزر الذين أضلوهم بغير علم، فلذلك قال: (زدناهم عذاباً فوق العذاب)، فهم يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم، ولا يشترط أن يكون لهم في ذلك حجة، لكن المقصود المبالغة في إبطال كل المعاذير المحتملة التي يحتمل أن يعتذروا بها، وهذه المسألة متعلقة بمسألة أخرى، وهي حال المشركين قبل نزول القرآن الكريم قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فهل هم مسئولون عن الشريعة فهل هم من أهل النار، أم أنهم معذورون؛ لأنه لم يأتهم رسول؟ والظاهر أنهم كانوا على بقية من دين إبراهيم عليه السلام؛ لحديث: (إن أبي وأباك في النار).

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك)

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك) ثم قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158]. قوله: (هل ينظرون)، يعني: قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الرسالة، فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟ قال البيضاوي: أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين. يعني أن هذا الشيء الذي سيقع يلحقهم تماماً كما يلحق الشخص الذي ينتظر الذي سيقع. وقوله: (إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك)، يعني: للحكم والفصل والقضاء بين الخلق يوم القيامة، قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة. وهذه الآية هي كما قال عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210]، ومذهب السلف إمرار ذلك بلا كيف، أي: لا يتعرض الإنسان لتأويل قوله تعالى: (إلا أن يأتيهم الله)، أو قوله تعالى: (أو يأتي ربك)، ولا يقل: كيف الإتيان؟ ولا يقال: لله سبحانه وتعالى كيف. لأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنثبت الصفة على ما يليق بالله عز وجل، ولا نشبه الله بخلقه، وفي نفس الوقت لا نعطل الصفة ولا ننفيها، هذا هو مذهب السلف. وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) قيل: ملائكة الموت لقبض أرواحهم. والتفسير المعتمد هو أنه تأتيهم الملائكة يوم القيامة. وقوله تعالى: (أو يأتي بعض آيات ربك) وهذا كائن قبل يوم القيامة، وهو من أمارات الساعة وأشراطها، كما روى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها)، لكن هذا الإيمان لن ينفع، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) ورواه مسلم أيضاً، ولـ مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض). وقوله: (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل) جملة: (لم تكن آمنت من قبل) صفة لـ (نفساً) وجملة (أو كسبت في إيمانها خيراً) عطف على (آمن)، والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء يؤمن الناس إذا رأوه؛ لأن هذه الآية حينئذٍ فيها إلجاء وفيها اضطرار إلى الإيمان؛ لأنهم إذا رأوا الشمس تطلع من المغرب علموا أن هذه الآية قاطعة على قدرة الله سبحانه وتعالى الذي أتى بها من المغرب، وحينما يعلمون أن القرآن أخبر بذلك وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وأن الساعة تكون قد اقتربت من هذه العلامة، فحينئذ يؤمنون، لكن هذا الإيمان لا ينفع؛ لأن أوان التكليف قد انتهى، ففي هذا الوقت يتوقف وينقطع أوان التكليف عند حصول هذه الآية، فلن ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور هذه الآية، فالإيمان الذي ينفع الإنسان هو الذي يكون قبل أن تظهر هذه الآية، أما إذا ظهرت فلا ينفع ذلك الإيمان. وكذلك إذا كان الشخص مؤمناً قبل مجيء هذه الآيات كطلوع الشمس من مغربها، ولكن مع إيمانه لم يكتسب في إيمانه خيراً، ولم يستكثر من الأعمال الصالحة، فإنَّه في هذا الوقت لا يستطيع أن يستزيد، بل يتوقف أوان التكليف في هذه الحالة، فهي تشمل كل الناس، تشمل المؤمنين وتشمل الكافرين، تشمل الكافر الذي يؤمن حين تأتي الآية، وتكون الآية في حقه مثل الغرغرة، فلا ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان ناشئ عن اضطرار وعن إلجاء بظهور هذه الآية العظيمة، وكذلك النفس المؤمنة التي لم تكسب في إيمانها خيراً لا تستطيع بعد ظهور هذه الآية أن تزيد في عملها شيئاً. يقول: والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء -وهي آية ملجئة مضطرة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآية، أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيراً، فتوبتها حينئذ لا تجزئ. يعني أن المؤمن أو المسلم الذي هو فاسق ولم يكتسب خيراً بالتوبة قبل ظهورها إذا جاءت هذه الآية وأراد أن يكتسب الخير ويعمل أعمالاً صالحة أو يتوب لا ينفعه ذلك. قال الطبري: معنى الآية: لا ينفع كافراً لم يكن آمن قبل الطلوع إيمان بعد الطلوع، ولا ينفع مؤمناً لم يكن عمل صالحاً قبل الطلوع عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذٍ حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة، وذلك لا يفيد شيئاً، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر:85] فإذا أتى عذاب الله لا تقبل التوبة، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر). وبالجملة فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركاً إيمانه، ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وذلك لذهاب زمن التكليف. قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. وكأنه يقول: إن هذه الحالة غير مذكورة هنا في الآية؛ لأن الآية سكتت عن الشخص الذي كان قبل نزول الآية مؤمناً يعمل صالحاً، فسكت عن كونه بعد طلوع الآية يتوقف -أيضاً- عمله ويتوقف التكليف في حقه، فـ الضحاك يذهب إلى أن هذه الحالة لا تستوي مع الحالتين السابقتين: حالة الكافر الذي يؤمن عند نزول الآية، فإنه لا ينفعه بعد ذلك أن يؤمن، أو المسلم الفاسق الذي لم يتب قبل نزول هذه الآية، فإنه لا تنفعه توبته عند طلوع الشمس من المغرب، وسكتت عن المؤمن الذي كان قبل الآية مؤمناً وكان يعمل الصالحات مستقيماً، فلذلك يقول الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار، كما لو أرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك؛ لمعاينتهم الأهوال والشدائد التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهي أنه إذا نزل عذاب الله لا يقبل التوبة من هؤلاء القوم؛ لأنهم رأوا من الآيات ما يجعلهم يوقنون ويؤمنون، لكن العبرة بالإيمان الاختياري، أما هذا فهو إيمان اضطراري، كإيمان الكفار يوم القيامة حين يقولون كما حكى الله عنهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]. وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر يومئذ إيماناً لم يقبل منه، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذ لم تقبل منه توبته، كما دلت عليه الأحاديث، وعليه يحمل قوله تعالى: (أو كسبت في إيمانها خيراً) أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن صاحبها عاملاً به قبل ذلك، أي: قبل مجيء الآية. والأحاديث المشار إليها منها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه)، وروى الترمذي عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (باب من قبل المغرب مسيرة عرضه -أو قال: يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة- خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه) أي: لا يغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من المغرب، ولـ أبي داود والنسائي من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، يعني نهاية التوبة في عمر الدنيا، لكن هناك توبة في حق كل واحد منا، وهي ما قبل الغرغرة، وحديث أبي داود والنسائي عن معاوية رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) قال ابن حجر: سنده جيد، والظاهر أن القاسمي يقصد ابن حجر العسقلاني، وإلا فبعض المصنفين -للأسف- أحياناً يعمل نوعاً من التدليس، فيقول: وصححه ابن حجر أو: وحسنه ابن حجر. ويكون يقصد بذلك ابن حجر الهيتمي، بالتاء المثناة، وهذا يثبت التدليس، وهذا مثل الذي يقول مثلاً: رواه البخاري، وهو صادق في أنه رواه البخاري، لكن عند الإطلاق يفهم أنه رواه البخاري في الجامع الصحيح، ويكون الحديث في (الأدب المفرد) أو في (التاريخ الكبير) أو في غيرهما من الكتب التي هي للبخاري، فهذا -أيضاً- نوع من التدليس إذا تعمده الإنسان، فحين يقول: رواه البخاري ويسكت، ولا يقول: رواه البخاري في (الأدب المفرد) يعتبر كلامه إيهاماً، ولذلك تجد رموز الجامع الكبير للسيوطي أو الصغير تختلف، فـ (خ) للبخاري، و (خد)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) ثم بين تبارك وتعالى أحوال أهل الكتاب إثر بيان أهل المشركين، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]. قوله: (إن الذين فرقوا دينهم) أي: اختلفوا فيه مع وحدته في نفسه، فهو دين واحد أصلاً، لكن هم الذين تفرقوا فجعلوه أهواءً متفرقة (وكانوا شيعاً) أي: فرقاً تشيع كل فرقة إماماً لها بحسب غلبة تلك الأهواء، وكل شيعة تناصر من اتخذته إماماً في هذه الأهواء، فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع. وقوله: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي: من عقابهم، أو: أنت بريء منهم محمي الجناب عن مذاهبهم، أو المعنى: اتركهم؛ فإن لهم ما لهم. قال القاشاني: أي: لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء، لا تقدر أنت على هداية قلوبهم، وليست مسئوليتك أنت؛ إذ هم أهل التفرقة لا يجتمع همهم ولا يتحد قصدهم. وقوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ)، أي: في جزاء تفرقهم ومكافأتهم لا إليك. وقوله: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ)، يعني: إذا وردوا يوم القيامة. وقوله: (بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، أي: من السيئات والتفرقة لمتابعة الأهواء، ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم. قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وروى العوفي عن ابن عباس في الآية: أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا. وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة، وخاصة على الخوارج، ورووا في ذلك حديثاً رفعوه، ولا يصح إسناده كما قال ابن كثير. ثم قال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا اضطراب، فمن اختلفوا فيه وكانوا شيعاً -أي: فرقاً- كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13] إلى آخر الآية، والمقصود بذلك: وحدة الدين، وجميع الأنبياء دعوا إلى دين الإسلام، وفي الحديث: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات)، يعني: أولاد زوجات شتى لرجل واحد، فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء، والرسل برآء منها، كما قال تعالى: ((لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ))، فهذا التفرق والتشيع والتحزب ليس من الدين في شيء. ثم قال: ((إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ))، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج:17] وقد أخرج أبو داود عن معاوية رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)، ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وفيه: قالوا: (من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي).

تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)

تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) ثم بين لطفه سبحانه وتعالى في حكمه وعدله يوم القيامة، فقال عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160]. قوله: (من جاء بالحسنة) يعني: من جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة، (فله عشر أمثالها) يعني: عشر حسنات أمثالها في الحسن. قال المهايمي: كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب، يعطيه بما يليق بسلطنته لا قيمة العنقود، والعشر أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بالسبعين، وبسبعمائة، وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص؛ لأن المضاعفة أقلها عشر، الحسنة بعشر أمثالها، لكن هذا لا يمنع المضاعفة بأكثر من ذلك، أو أريد بعشر أمثالها مطلق الكثرة وليس عدد العشر بالذات؛ لأن من الأعمال ما يضاعف إلى سبعين، ومنها ما يضاعف إلى سبعمائة، ومنها ما يضاعف بغير حساب بلا حدود. قوله: (ومن جاء بالسيئة) أي: بالأعمال السيئة، (فلا يجزى إلا مثلها) أي: في القبح. قال المهايمي: فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره، كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله، ومن فعل معصية عذب بقدرها، كمن أساء إلى آحاد الرعية. أي: لأن الشرك إساءة إلى الله سبحانه وتعالى، بخلاف الإساءة للخلق فهذه تكون معصية، لكن الإساءة إلى الله سبحانه وتعالى بالشرك بأنواعه ليست كغيرها من المعاصي. والأحاديث كثيرة في معنى هذه الآية، منها قوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تعالى: (إن ربكم تبارك وتعالى رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عنه، ولا يهلك على الله إلا هالك)، أي: لا يهلك على الله إلا إنسان موغل في الإجرام؛ بحيث يستحق أن يهلكه الله؛ لأن هذا الإنسان الذي يهلك معناه: أن آحاده غلبت عشراته، أي: آحاد المعاصي عنده غلبت عشرات الحسنات، فالحسنات تضاعف إلى عشر أمثالها أو إلى سبعمائة ضعف أو إلى ما شاء الله، فإن كان له حسنات وضوعفت هذه المضاعفة فإنه يتوقع أن تكون كثيرة، ثم السيئات إما أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنها، وإما أن يعطيه السيئة بمثلها آحاداً، لكن هذا إنسان غلبت آحاده مئاته، فكل هذه الأضعاف غلبتها آحاد السيئات، ومعنى هذا أنه هالك عن جدارة وعن استحقاق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ولن يهلك على الله إلا هالك). وروى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة). وروى الشيخان عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة) هذا لفظ البخاري، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله)، يعني أن اليوم يساوي عشرة أيام.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه وتعالى عليه من إرشاده إلى دينه القويم، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159].

تفسير قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) ثم قال عز وجل مبيناً نعمته على نبيه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161]. قوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده المخلصين (ديناً قيماً) النصب هنا على البدل؛ لأن قوله: (إلى صراط مستقيم) يعني: صراطاً مستقيماً، و (ديناً) نصب على البدل من محل (إلى صراط)؛ لأن معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:175]، أو أنه مفعول لمضمر يدل عليه المذكور، فقوله: ((قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا)) يعني: عرفني ديناً قيماً: ((مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)) أو مفعول (هداني) فقوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً) يعني: هداني ديناً، فـ (هدى) يتعدى إلى مفعولين، و (قيماً) صفة (ديناً)، ويقرأ بالتشديد: (قيّماً)، أي: ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل، ولا يستطيع أحد أن يغيره ويبدله، ولا تنسخه الشرائع والكتب، يقوم ويعدل ويصلح أمر المعاش والمعاد، و (قيماً) أصلها: (قوماً)، كـ (عوض)، فأعل لإعلال فعله. وقوله: (ملة إبراهيم حنيفاً) (حنيفاً) حال من إبراهيم، يعني أن إبراهيم كان حنيفاً مائلاً عن كل دين وطريق باطل إلى دين الإسلام ودين الحق، فـ (حنيفاً) يعني: مائلاً عن كل دين وطريق باطل فيه شرك ما. وقوله: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من اعتقاد وعمل، وفي قوله: (وما كان من المشركين) إشارة إلى أن إبراهيم بريء من هؤلاء الذين يزعمون الانتساب إلى إبراهيم مع أنهم واقعون في الشرك، سواء أكانوا من مشركي العرب أم من اليهود أم من النصارى، قال ابن كثير: هذه الآية كقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها. أي: هل يلزم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر باتباع إبراهيم أن معنى ذلك أن يكون إبراهيم أكمل عند الله من رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ A لا يلزم ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قام بها قياماً عظيماً، وأكملت له صلى الله عليه وسلم إكمالاً تاماً ولم يسبقه أحد إلى هذا الكمال، ولهذا قال: (أنا خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم). وهو صاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى إبراهيم الخليل نفسه عليه السلام، كما في حديث الشفاعة، فإن جميع الأنبياء يحيلون الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (أنا لها أنا لها)، عليه الصلاة والسلام، فيظهر الله سبحانه على مشهد من جميع الأمم وجميع الأنبياء والمرسلين وجميع الخلائق يوم القيامة شرف رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. عن ابن أبي أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: (أصبحنا على كلمة الإسلام وكلمة الإخلاص وملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)، وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قيل لرسول صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: (الحنيفية السمحة)، وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زخم الحبشة، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنهم، وقالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: ليعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة).

تفسير قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. هذا المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق متعلق بأصولها. أي: أن الأمر السابق أمر متعلق بأصول العقيدة، وهو قوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)، فقرر الأمر هنا؛ لأنه يقصد هنا فروع الشريعة، والقضايا العملية، فقوله: (قل إن صلاتي) يعني: صلاتي إلى الكعبة (ونسكي) يعني: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة أو عبادتي كلها؛ لأن النسك يطلق إما على الذبح، وإما على العبادة كلها. وقوله: (ومحياي ومماتي) يعني: ما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، أو (محياي) يعني: طاعات الحياة و (مماتي) الخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات لله رب العالمين. وقوله: (لا شَرِيكَ لَهُ) يعني: خالصة لله لا أشرك فيها غيره، (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: بذلك القول أو بذلك الإخلاص أمرت، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) يعني: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته. قال ابن كثير: يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.

تفسير قوله تعالى: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء)

تفسير قوله تعالى: (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء) ثم قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام:164]. قوله: (قل أغير الله أبغي رباً) يعني: فأشركه في عبادته، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، حيث يفهم من ذلك أنهم عرضوا عليه أن يشاركهم في عبادة آلهتهم، ودعوه إلى ما هم عليه من الشرك، فجاء الجواب عليهم: (قل أغير الله أبغي رباً)، أي: هل يصلح أن أبغي رباً غير الله سبحانه وتعالى كما تدعونني؟ وفي إيثار نفي البغية والطلب على نفي العبادة أبلغية لا تخفى، أي: أنه لا يفكر في مجرد أنه يطلب رباً أو يبغي رباً فضلاً عن أن يعبد هذا الرب. فقوله: (قل أغير الله أبغي) يعني: أطلب رباً، ولم يقل: قل أغير الله أعبد رباً، أي: أن مجرد أن يتطلع إلى رب غير الله غير وارد، ولا شك في أن هذا من الأساليب البلاغية الرفيعة، فمجرد أنه يفكر في إله غير الله أمر مرفوض، فكيف يعبد غير الله؟! وقوله: (وهو رب كل شيء) أي: وكل ما سواه مربوب، يعني: مهما تدعونني لعبادة أي إله تدعونني إليه فهو مربوب لله ومخلوق، والذي خلق هذا الإله هو الله سبحانه وتعالى، فكيف أعدل عن عبادة الرب الخالق إلى عبادة المربوبين؟! وكيف أعبد مخلوقاً؟ وقوله: (وهو رب كل شيء) حال في موضع العلة للإنكار والتدليل على هذا الإنكار. وقوله: (أغير الله) أي: وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلن أكون عبداً لعبده، قال ابن كثير: أي: فلا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة لله تعالى لا شريك له، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً، كقوله تعالى مرشداً عباده إلى أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

الأعراف [1 - 9]

تفسير سورة الأعراف [1 - 9]

الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور

الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور سورة الأعراف هي: (طولى الطوليين) والطوليان: هما الأنعام والأعراف. وقد أخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: الأعراف مكية إلا آية: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] فمدنية، وآياتها مائتان وست آيات. وقد افتتحت سورة الأعراف بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {المص} [الأعراف:1]. ولأننا نحتاج بين وقت وآخر إلى الكلام في فواتح السور، فسنقف هنا وقفة يسيرة مع فواتح سور القرآن، كي نحيل عليه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور وأشكالها

ذكر الحروف المقطعة في أوائل السور وأشكالها هذه الحروف المقطعة وردت في أوائل تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، وأخذت أربعة عشر شكلاً بعد حرف الفواتح المكررة وهي: {ص} [ص:1]، {ق} [ق:1]، {ن} [القلم:1]، {حم} [غافر:1]، {طه} [طه:1]، {طس} [النمل:1]، {يس} [يس:1]، ((الم)) [البقرة:1]، ((الر)) [يونس:1]، {المص} [الأعراف:1]، {المر} [الرعد:1]، {كهيعص} [مريم:1]، {حم * عسق} [الشورى:1 - 2]. فجاءت: (ص)، (ق)، (ن) على حرف واحد. (حم)، (طه)، (طس)، (يس) على حرفين. و (حم) جاءت في غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف. و (طس) جاءت في النمل فقط. وأما (الم) ففي البقرة، وآل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة. وأما (الر) ففي يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر. وأما (طسم) ففي الشعراء، والقصص. وأما (المص) ففي سورة الأعراف فقط. وأما (المر) ففي سورة الرعد فقط. وأما (كهيعص) ففي مريم فقط. وأما (عسق) في سورة الشورى فقط.

القول بأن الحروف المقطعة من المتشابه

القول بأن الحروف المقطعة من المتشابه وقد قسم العلماء آيات الذكر الحكيم إلى قسمين: قسم المحكم والمتشابه، وهذا التقسيم قائم على أساس قوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]. أما فيما يتعلق بالحروف المقطعة فقد انقسم العلماء في ذلك إلى فريقين: فريق توقفوا عن أن يدلوا فيها بأي رأي اجتهادي تورعاً، وفوضوا العلم بها إلى الله سبحانه وتعالى. أما الفريق الآخر: فحاولوا أن يؤولوا ليدركوا معانيها، ومع ذلك فلم تتفق كلمتهم على رأي قاطع في هذه المسألة، بل تعددت أقوالهم. فالفريق الأول اعتبروا هذه الفواتح من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فعلى هذا الأساس تكون هذه الفواتح من الأسرار المحجوبة التي لم يطلع الله عليها أحداً من خلقه، فهي: كالساعة والغيث وعلم ما في الأرحام وغير ذلك، فواجب المؤمن التصديق بها حتى ولو غاب عنه تأوليها، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (عجزت العلماء عن إدراكها)، أي: عن إدراك سر هذه الحروف المقطعة في أوائل كتاب الله عز وجل، فهي لها معنى بلا شك، وهناك حكمة من إيرادها، لكن العلم بالمراد منها موكول إلى الله سبحانه وتعالى. قال الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين: هي -أي الفواتح- سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر، فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت؛ ولذلك لما سئل الشعبي عنها قال: (سر الله عز وجل فلا تطلبوه). وقال أبو حاتم: (لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله عز وجل بها). وبعض العلماء جمع هذه الحروف، وحذف منها المكرر، وكوَّن منها جملة مفيدة، فخرجت هذه الجملة: (نص حكيم قاطع له سر!!). وهذه ليست طريقة علمية في الاستنباط، لكن هذا مما يستأنس به، ومما يستملح. وقال الربيع بن خثيم: (إن الله تعالى أنزل هذا القرآن، فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما كل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون). وعلق أبو بكر الأنباري على مقولة الربيع قائلاً: (فهذا يوضح أن حروفاً من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختباراً من الله وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد). وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: (من تكلم في بيان معاني هذه الحروف، جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عز وجل فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسره به راجعاً إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك)، فهذا هو الاحتمال الأول الذي ذكره الشوكاني في حق من يدلي بدلوه في هذه القضية. أنه: إن كان يزعم أن له سلفاً من العرب في هذا الفهم وهذا التفكير لهذه الحروف المقطعة، فنقول: هذا كذب بحت وافتراء محض؛ لأن العرب لم تعرف هذا الأسلوب على الإطلاق في الكلام من قبل.

ذكر قول من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات عربية

ذكر قول من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات عربية وهنا نتوقف قليلاً -قبل أن نستطرد في ذكر بقية كلام الشوكاني رحمه الله تعالى- ونتعرض لشبه قد يقولها بعض الناس، وقد يطالعها بعض الإخوة في كتب التفسير: فإن الملاحظ أن بعض العلماء ذكروا عن بعض العرب الاقتصار على حرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، وهذا هو الذي دفع بعض الناس إلى أن يقولوا: إن هذا أسلوب -أي: فواتح السور- كان للعرب عهد به من قبل، فالقرآن خاطبهم بنفس العهد، ومن ثم بدءوا يقولون: إن هذه الحروف هي عبارة عن حرف من كلمة حذف باقيها، يستشهدون بقول شعراء العرب مثلاً: (فقلت لها قفي فقالت قاف) أي: وقفت، فاقتصر على التعبير عن كلمة (وقفت) بحرف قاف. وقال زهير: بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إلا أن تا (بالخير خيرات) يعني: أجزيك بالخير خيرات (وإن شراً فا) بألف يعني: فشر، فحذف كلمة فشر أو اقتصر منها على حرف الفاء فقط ومده. (ولا أريد الشر إلا أن تا) يعني: إلا أنت تشاء، فاختصر كلمة تشاء إلى حرف التاء. وقال آخر: نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلهم ألا فا (نادوهم ألا الجموا ألا تا) يعني: ألا تركبون، فاقتصر من كلمة تركبون على حرف التاء. (قالوا جميعاً كلهم ألا فا) يعني: فاركبوا. وكما قيل أيضاً: (كفى بالسيف شا)، يعني: شافياً أو شاهداً. ويبرزون في هذا حديثاً ضعيفاً، وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه: آيس من رحمة الله)، لكن من ناحية اللغة قد يعتبره العلماء شاهداً بفرض صحته، على أساس أن الإنسان يعين على قتل أخيه بقوله: اقـ، بدل كلمة اقتل، فهي من هذا الباب. فعلى أساس هذا الاستعمال العربي ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الأسلوب في القرآن الكريم أسلوب معهود من ذي قبل، وممن انتصر لذلك الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، فقد ذهب إلى أن هذه الحروف كانت شائعة الاستعمال في الأدب العربي في الحقبة التي نزل فيها القرآن، وقد استخدمها الشعراء والكتاب على السواء، ولأن معناها كان مفهوماً لديهم آنذاك لم يعترض عليه أحد قط، أي: لا أحد من الصحابة ولا من العرب اعترض على وجود هذه الحروف في أوائل السور، بل لم يستفهموا عنها ولا عن استعمالها إذ لم تكن عندهم ألغازاً ولا طلاسم يلزم حلها وتفسيرها.

الرد على من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات

الرد على من جعل الحروف المقطعة أجزاء مختصرة من كلمات والجواب على كلام الإمام العلامة المودودي رحمه الله أو من ذهب إلى مذهبه هو: أن هذه الحروف المقطعة لم تأتِ إلا في فواتح السور، بخلاف استعمالات العرب، فإن الحرف يأتي في جواب كلام أو في سياق جملة، فيفهم معناه من السياق كله، فالقاف في قوله: (قلت لها قفي فقالت قاف)، تقدمها كلام دل على معناها. ومثلها: (بالخير خيرات وإن شراً فا) بل لو قلنا لتلميذ في الابتدائية أكملها فسيقول: فشر، لأن الشر جزاء الشر، وإن لم تذكر الفاء، وكذلك: (نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعاً كلهم ألا فا). أو: (كفى بالسيف شا). فإذاً يوجد سياق للكلام قبل هذا الحرف يدلنا على المعنى المراد بهذا الحرف، لكن أين ذلك في آيات القرآن في فواتح السور؟ فليس من الصحيح أن نقول: إن فواتح السور هي من جنس استعمالات العرب لهذه الحروف، بل الصحيح منع هذه الشبه، وأن هذا الأسلوب لم يكن معروفاً عند العرب من قبل. قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على حرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن يتقدمه ما يدل عليه ويفيد معناه، بحيث لا يلتبس على سامعه، كما في الشواهد التي ذكرناها من قبل، ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم) يعني كما في قولهم: (يا صاح!) والمقصود: يا صاحبي! (يا مال!) يعني يا مالك! وكذلك: (عم صباحاً) فيها حذف، وأصلها: أنعم صباحاً). وقال ابن قتيبة: وكما يحذفون من الكلام البعض، إذا كان فيما أبقوا دليل على ما ألقوا، كقول ذي الرمة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح يعني: من حين أقبل، ومن ذلك أن هذا النوع من الحذف، يعني: هذا النوع من الحذف موجود في القرآن الكريم، لكن ليس له علاقة بموضوع فواتح السور، وأنتم تلاحظون في التفسير أن كثيراً ما نجد السيوطي -رحمه الله- وغيره من المفسرين، يقول مثلاً: هذه الآية لم تذكر فيها النتيجة لأن النتيجة معروفة وهي كذا، أو هذا شرط والجواب محذوف، وكل هذا من أساليب العرب، فمثلاً قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد:31]، جواب الشرط فيها محذوف تقديره: لكان هذا القرآن، فحذف الجواب. وكذلك يحذفون من الكلمة الحرف أو الشطر، والأكثر يرتجزون به، كما يقولون: في لجة أمسك فلاناً عن فل منه تظل إبلي في الهوجل يعني: فلاناً عن فلان. وقال العجاج: قواطناً مكة من ورق الحم. يعني: الحمام. إذاً هناك فارق كبير بين اقتصار العرب على حرف أو أحرف من الكلمة، وبين الفواتح في أوائل السور، وإذا كان الكلام العربي قد زخر بأدوات استفتاح وتنبيه كثيرة، لكنها لا تشبه هذه الفواتح التي أتى بها القرآن الكريم لأول مرة في تاريخ العرب، ولم يعثر أحد عليها لا في شعرهم ولا في نثرهم، فأين ألا مثلاً أو (أما) في قول لبيد بن ربيعة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل وقول صخر الهذلي: أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر نرى هنا أدوات الاستفتاح: ألا وأما، أين هي من (حم عسق) و (الم) و (الر)، لا شك أن هناك فارقاً شاسعاً بين هذه وتلك، فهذا هو الجواب على من زعم أن هذه الفواتح هي من نفس الأسلوب الذي استعمله العرب. يقول الشوكاني: وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادعوه من لغة العرب وعلومها، لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين: الأول: إما أنهم يفسرون ما يفسرون بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصد عنه والتنكب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه وتعالى من أن يجعلوا كتاب الله ملعبة يتلاعبون بها. وإما أنهم يفسرون ما يفسرون بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو الطريق الواضح والسبيل القويم، بل الجادة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا فغير ملوم أن يقوله بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل: لا أدري، أو الله أعلم بمراده، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه، مع كونه ألفاظاً عربية وتراكيب مفهومة، وقد جعل الله تتبع ذلك -المتشابه- صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده؟! قال: وهذا في السور متشابه المتشابه -يعني: أشد الآيات تشابهاً- فهي أولى ما يمسك عن الخوض فيه بغير علم.

دراسة نقدية للتأويلات العددية والتفسيرات الإشارية

دراسة نقدية للتأويلات العددية والتفسيرات الإشارية هنا دراسة نقدية للتأويلات العددية والتفسيرات الإشارية للدكتور/ محمد محمد أبو فراخ، أستاذ التفسير والتجويد وعلوم القرآن المساعد في جامعة الإمام محمد بن سعود، يتكلم فيها على هذا الموضوع. وقد ذكر أن فريقاً من العلماء رأى أن هذا علم مستور ومحجوب عنا لا نستطيع إدراكه، وذكر الدكتور أن بعض العلماء ذهبوا مذهباً آخر، فاجتهدوا في محاولة تأويل فواتح هذه السور، فاتجه جمع كبير من العلماء إلى محاولة الكشف عن أسرار هذه الحروف والوقوف على معانيها ومدلولاتها والانتفاع بها، تحقيقاً للهدف الذي رمى إليه القرآن من ذكرها، قالوا: إن القرآن أنزل كي يتدبر: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، فعلينا أن نعمل عقولنا في محاولة فهم ما وقف عنده الفريق الأول الذي فوض العلم في هذه الأحرف إلى الله سبحانه وتعالى، والذي يرى الوقف لازماً عند قوله تبارك وتعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}، ثم يستأنف الكلام: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} إلى آخر الآية، فالوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) وما بعده استئناف لكلام آخر، وهو قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به). فالعلماء آمنوا بالمتشابه الذي لا يعلم تأويله أحد غيره تعالى، ومن أجل ذلك الإيمان والتفويض أثنى الله عليهم. والفريق الثاني الذي ذهب إلى تفسير هذه الفواتح، جعل قوله تعالى: (والراسخون في العلم) معطوفاً على ما قبله، أي: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) يعني: لا يعلم تأويل هذه الآيات المتشابهة إلا الله سبحانه وتعالى والراسخون في العلم. فإذاً يكون الوقف على قوله تعالى: (والراسخون في العلم) يعني ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) وقوله: ((يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) جملة جديدة. وقد روي عن ابن عباس: أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به: (يقولون آمنا به)، وقال بهذا الرأي: الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم. وروي عن مجاهد أنه عطف الراسخون على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه، واحتج له بعض أهل اللغة فقال: معناها: والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: (آمنا به كل من عند ربنا)، وزعم أن موضع (يقولون) نصب على الحال. لكن القرطبي لا يقبل هذا الرأي ولا يقف على قوله تعالى: (والراسخون في العلم) ولا يجعل الواو للعطف، وينكر نصب جملة (يقولون) على الحال؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فلا يجوز أن تقول: عبد الله راكباً بمعنى: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل، كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فيصلح هنا إعرابها حالاً. فكان قول عامة العلماء بالابتداء بقوله تعالى: (والراسخون في العلم) مستقيم مع مذاهب النحويين، وهو أولى من قول مجاهد الذي جعل الواو للعطف وزعم أنهم يعلمونه.

ذكر قول من جعل فواتح السور تدرك بحساب الجمل ونحوه

ذكر قول من جعل فواتح السور تدرك بحساب الجمل ونحوه ويزعم بعضهم أنه يعلم فواتح السور بحساب الجمل!! وهذه الطريقة تنسب لليهود، ومعنى حساب الجمل التي هي: أبجدهوز إلخ: أن كل حرف منها يساوي عدداً معيناً، ويبدأ العد على حسب ترتيبها: واحد اثنين ثلاثة أربعة إلى حد العشرة، ثم بعد ذلك يقول: عشرة عشرين ثلاثين أربعين إلى حد المائة، ثم يقول: مائة مائتين إلى آخرها. فكل حرف من الكلمة يساوي عدداً معيناً، فيجمعونها ويحاولون أن يستخلصوا منها بعض المعلومات، فهذه طريقة يهودية ليست من الإسلام في شيء. ومن هذه الضلالات ضلالة فرسان خليفة الذي ذهب إلى عمل حسابات معينة بالكمبيوتر أو الحاسب الآلي الجديد، ومن خلال إعطاء أوامر للكمبيوتر يعطيه العلاقات، وما أدري رقم تسعة عشر يتكرر كم مرة في القرآن؟! وتقديسٌ للرقم تسعة عشر بصورة تذكرنا تماماً بمنهج الباذيين والبهائيين!! وهذا موضوع يستحق في الحقيقة الكلام عليه، لكنه هنا أمر عارض فلن نفصل فيه.

القول بأن الحروف المقطعة ليست من المتشابه

القول بأن الحروف المقطعة ليست من المتشابه على أي حال من الأحوال فهذا الفريق الثاني من العلماء رأى أن الفواتح ليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قالوا: لو كانت هذه الحروف من المتشابه لجاز أن يرد في كتاب الله ما لا يكون مفهوماً للناس، والله تعالى يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فكيف يأمرنا الله بتدبر القرآن كله وبعضه غير مفهوم؟! قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]، فالقرآن نزل ليفهمه الناس ويتدبروه؛ ولذلك نزل بلسان عربي مبين، كما قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:28]. وعن عمرو بن مرة قال: ما مرت بي آيات لا أعرفها إلا أحزنني؛ لأني سمعت الله يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وهكذا ذكروا عن بعض السلف آثاراً تدل على الحرص على فهم القرآن الكريم كله، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الله سبحانه وتعالى لم يقل في المتشابه: لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، إنما قال: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، فالله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا على ما دلت عليه أدلة كثيرة، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على كلمة: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، فكان مذهب الصحابة وجمهور التابعين وجماهير الأمة.

ذكر أقوال الذين أولوا فواتح السور

ذكر أقوال الذين أولوا فواتح السور وهذا الفريق الثاني بعدما اتفقوا على ضرورة التكلم في فواتح السور لإدراك معانيها وتلمس فوائدها، بناءً على أنها ليست من المتشابه في مذهبهم، تشعبت آراؤهم واختلفت أقوالهم في بيان المعنى المقصود منها!

قول من جعلها أسماء للسور

قول من جعلها أسماء للسور فأول فريق: قالوا: إن هذه الفواتح هي أسماء للسور، وإن هذا الحرف هو عبارة عن اسم للسورة التي افتتح بها، وهذا منقول عن زيد بن أسلم، ونسبه صاحب الكشاف إلى الأكثر، ونقل القرطبي عن زيد بن أسلم قوله: هي أسماء للسور، يعني: أن كل سورة تعرف بما افتتحت به منها. قد يرد إشكال هنا: وهو أن هناك بعض السور افتتحت بنفس الحروف فكيف تميز؟ كـ (الم) مثلاً و (حم). قالوا: يمكن تمييزها بإضافتها إلى اسم آخر، كأن تقول: (حم السجدة) لتميزها عن (حم الدخان) مثلاً أو الزخرف أو غيرها، أو (الم البقرة)، و (الم العنكبوت) و (الم تنزيل) وهذا يكون مثل ما يحصل من الوفاق في الأسماء، فلو أن أحداً اسمه محمد والثاني محمد والثالث محمد، فيمكن أن تقول مثلاً: محمد أبو علي، محمد أبو الحسن، محمد أبو بكر، فتميزه بالكنية أو باللقب. قال صاحب المنار: (الم) هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به، ولا يضر وضع الاسم الواحد كـ الم لعدة سور؛ لأنه من المشترك الذي يعين معناه اتصاله باسمه، كأن تقول: الم البقرة، تقصد بذلك سورة البقرة، وقد نقل عن سيبويه مثل هذا الرأي، ويعتضد هذا بمثل ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم السجدة)، و ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ)) [الإنسان:1]). وذكر أبو السعود: أن الذي عليه الأكثر كونه أسماءً للسور المصدرة بها، وإليه ذهب الخليل وسيبويه، هذا هو المذهب الأول من مذاهب الذين قالوا بالخوض في تأويل هذه الفواتح.

قول من جعل فواتح السور أسماء للقرآن

قول من جعل فواتح السور أسماء للقرآن المذهب الثاني: أن الفواتح أسماء للقرآن الكريم نفسه مثل: الفرقان ومثل الذكر والكتاب وغير ذلك. فقد نقل القرطبي عن قتادة في قوله: (الم) قال: اسم من أسماء القرآن. وعن قتادة قال: كل هجاء في القرآن فهو اسم من أسماء القرآن، وقوله: كل هجاء يعني به حروف التهجي التي تليت في أول السور.

قول من جعل فواتح السور مأخوذة من أسماء الله وصفاته

قول من جعل فواتح السور مأخوذة من أسماء الله وصفاته المذهب الثالث: أن الفواتح حروف مأخوذة من أسماء الله وصفاته, فبعضهم قال: إنها تدل على اسم الله الأعظم، فعن شعبة قال: سألت السدي عن (حم) و (طس) و (الم) فقال: قال ابن عباس: هي اسم الله الأعظم! ونحن نحتاج في مثل هذا إلى تحقيق الأسانيد؛ لأن ابن عباس قد كذب عليه، وكثير من الأقوال روِّجت بنسبتها إلى ابن عباس. وروي أيضاً عن فاطمة بنت علي بن أبي طالب أنها سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يا كهيعص! اغفر لي، ومن هنا استنبطوا أو ادعوا أن هذه الفواتح هي أسماء لله عز وجل، وهذا أيضاً مما يحتاج إلى أن يثبت بسند صحيح. ومن ذلك أيضاً ما روي عن الربيع بن أنس في قوله: (كهيعص) قال: يا من يجير ولا يجار عليه! وأخرج ابن أبي حاتم عن أشهب قال: سألت مالك بن أنس أينبغي لأحد أن يتسمى بيس؟ قال: ما أراه ينبغي لقول الله: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2]، يعني: بناءً على أن الحروف أسماء لله عز وجل، فمن ثم لا يجوز لأحد أن يتسمى باسم الله، فهذا الفريق قال: إن (يس): اسم من أسماء الله، (طه): اسم من أسماء الله، (الم): اسم من أسماء الله. وعن ابن عباس وغيره (الم) حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله. ونلاحظ أن من الممكن بسهولة جداً أن نجد في أغلب المذاهب من ينسب قوله إلى ابن عباس، وذلك لأن علوم القرآن ما خدمت الخدمة الواجبة على الأمة إلى الآن، بخلاف السنة فإن الأمة ولله الحمد تيقظت لأهمية التحقيق فيها، ولكن ما زالت علوم القرآن تحتاج لكثير من التحقيق. وروي عن أبي العالية في قوله تعالى: (الم) قال: هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً دارت فيها الألسن كلها، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه. وهذه طريقة أخرى تلتقي مع نفس الطريق، يقولون: إن كل حرف من هذه الحروف رمز لاسم من أسماء الله، أو جزء منه، كما قيل: الألف من الله، فالألف يعني: الله، واللام: مأخوذة من جبريل، والميم: من محمد عليه الصلاة والسلام. وعن ابن عباس في قوله: (كهيعص): أن الكاف من كافٍ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، والهاء: من هادٍ، والياء من: حكيم، والعين من: عليم، والصاد من: صادق، فهذه الفاتحة في مريم يجتمع بها صفات كثيرة؛ لأن كل حرف منها مفتاح اسم أو صفة من صفاته تعالى. ولا يبعد أن يستدلوا لهذا بما صدرنا به الكلام في موضوع استعمال العرب للحروف، وقد ذكرنا الفرق بين استعمالات العرب للحروف المقتصرة عليها وبين فواتح السور. وروي عن ابن عباس أنه قال: الم: أنا الله أعلم، ألف: أنا، لام: الله، ميم: أعلم، وكذا قال سعيد بن جبير، وقال السدي عن أبي مالك. وقيل: إنها صفات الأفعال، أي: (الم) مثلاً: الألف: آلاؤه، واللام: لطفه، والميم: مجده وملكه، نقل ذلك أبو السعود. وهذا الكلام غير منضبط من الناحية العلمية، فما الذي يمنع أن تكون الياء من حكيم، أو من خبير أو من لطيف أو من أي اسم من أسماء الله؟!

قول من جعل فواتح السور أيمانا

قول من جعل فواتح السور أيماناً المذهب الرابع: أن الفواتح أيمان أقسم الله سبحانه وتعالى بها، فعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (الم) هو قسم أقسم الله به، فيجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بالحروف المقطعة كلها واقتصر على ذكر بعضها من ذكر جميعها، فقال: (الم) وهو يريد جميع الحروف، كما يقول القائل: تعلمت: ألف باء، وهو يقصد تعلمت الحروف الأبجدية، فبدل أن يقول: ألف باء إلى الياء يختصر ويقول: تعلمت (ألف باء)، فكذلك هنا، وكأن الله أقسم بجميع الحروف الهجائية، لكن اقتصر على أجزاء من هذه الحروف المقطعة، فلما طال أن يذكرها كلها اكتفى بذكر بعضها، والناس يدلون بأوائل الأشياء عندما يقولون: قرأت {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] يعني: قرأت فاتحة الكتاب، وإنما أقسم الله بحروف المعجم لشرفها وفضلها؛ ولأنها مبادئ في كتبه في المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله عز وجل ويوحدون. وقد أقسم في كتابه العزيز: بالفجر، وبالطور، وبالعصر، وبالتين، وبالقلم إعظاماً لما يسطرون، ووقع القسم بها في أكثر السور على القرآن، يعني: أقسم بهذه الحروف التي هي رمز للحروف الأبجدية. قالوا: إنه يلاحظ في أكثر سور القرآن أن هذه الحروف تأتي في فاتحة السورة، ثم يغلب وجود إشارة إلى القرآن الكريم: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2]، كأنه قال: أقسم بحروف المعجم إن هذا لهو الكتاب الذي لا ريب فيه.

بيان تناقض تفسيرات الحروف المقطعة وذكر الصواب في ذلك

بيان تناقض تفسيرات الحروف المقطعة وذكر الصواب في ذلك وهناك تفسيرات الصوفية لهذه الأشياء، لكن لا نريد أن نفصل في ذلك، ولا في ضلالات الباطنية وتأويلاتهم، وأنهم يستعملون القرآن في الناحية الرمزية التي توصلوا بها إلى أهوائهم ومآربهم. وقد استنكر الباقلاني وغيره من العلماء التفاسير المتناقضة التي لم تحدد المراد من الفواتح تحديداً دقيقاً، والمنسوبة للصحابة والتابعين، مثل الإشارة بهذه الحروف إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفه من صفاته، أو اسم الله الأعظم، فلماذا لا تكون القاف مثلاً الحرف الأول من القاهر بدل من القدوس؟! ولماذا تدل النون على الناصر لا على النور؟! ويقولون: ص: الصمد، فلماذا لا تكون من الصادق؟! وهكذا، إلى غير ذلك من الأقوال المختلطة الفاسدة المتناقضة في التفاسير الإشارية والباطنية في الفواتح، وكذا التفاسير العصرية ذات الأرقام العددية، والتي لا يجوز الأخذ بها في تفسير كلام الله رب العالمين. ولذا قال بعضهم: من ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام. يقول الشوكاني: إن المروي عن الصحابة في الفواتح مختلف متناقض، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر، كان تحكماً لا وجه له، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض ولا يجوز. ثم هاهنا مانع غير هذا المانع، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه، كسائر ما هو مأخوذ عنه. أي أنه لو صح هذا الكلام عن الصحابة، فهو من الأقوال المختلفة، فلا يمكن أن يكونوا قد تلقوها عن النبي عليه السلام وهي متناقضة، إذ لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمهم ذلك لما اختلفوا ولا اتفقت كلمتهم، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه، لاسيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها. يقول الشوكاني: والذي أراه لنفسي ولكل من أحب السلامة واقتدى بسلف الأمة، ألا يتكلم بشيء من ذلك، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عز وجل لا تبلغها عقولنا، ولا تهتدي إليها أفهامنا، فكم في الكون من أسرار تنقضي الدنيا ولا ندركها! وكم في التكاليف والعبادات من أسرار لا يملك العبد أمامها إلا أن يمتثل أمر ربه! ولم يكتشف العلم إلا قطرة من بحر خلق الله الذي لا يعرف مداه سواه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]. ليست الحروف المقطعة في أوائل السور القرآنية سوى حروف قرآنية موحىً بها من عند الله عز وجل، ويجب ألا نقول فيها شيئاً من عند أنفسنا، أو ندخل في تفسيرها بظن لا يستند إلى دليل صحيح من كتاب أو سنة، فلا نرمز بها إلى أعداد معينة كأصحاب الحاسب الآلي، أو نشير بها إلى معاني الباطنية الفاسدة كأقوال بعض الصوفية، إننا لسنا أمام تاريخ حادثة حربية، أو تقليد نظرية فلكية، أو مناقشة قضية مدنية، ليتذكر الجميع أننا نقف أمام كتاب رب العالمين الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]؛ ولذا يجب الوقف في هذه الفواتح على الظاهر منها، وهو أنها حروف من حروف المعجم، تنطق بأسمائها ويمد كل حرف منها مداً مثقلاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها حرف ساكن مدغم فيما بعده، ويمد كل حرف منها مداً مخففاً إذا كان هجاؤه ثلاثة أحرف: أوسطها مد وآخرها ساكن غير مدغم. فليست لهذه الحروف المقطعة معان غير مسمياتها حتى يتكون منها الكلام. أما من حيث القطع في معانيها الحقيقة في أنفسها وبيان المراد منها في أوائل السور، فلم يرد في ذلك شيء صحيح من كتاب أو سنة؛ لذا نقول: الله أعلم بمراده، ومن الكف عن الخوض فيما لا سبيل إلى علمه إذا لم يرتبط بذلك حكم أو تكليف، فيكفي تدبر هذه الفواتح على الأسلوب الذي جاءت به في المصحف الشريف. نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بالكلام على الفواتح، وإنما أطلت النفس فيه، باعتبار أن هذا سنحتاجه فيما بعد إن شاء الله، فسنحيل على هذا البحث الذي ذكرناه هنا.

تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) قال تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2]. ((المص)) تقدم الكلام عليه. ((كتاب)) أي: هذا الكتاب، ((أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه)) أي: لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه، مخافة أن يكذبوك، أو أن تقصر في القيام بحقه. فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قومه، وتكذيبهم له، وإعراضهم عنه وأذاهم له، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، لأن في الحديث: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً قلت: يا رب! إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة). فهذا يدل على أنه عليه السلام كان يشفق من أذى قومه ويضيق صدره لذلك، ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود:12]. والشنقيطي رحمه الله تعالى قال في تفسير قوله: ((فلا يكن في صدرك حرج منه)): قال مجاهد وقتادة والسدي: حرج أي: شك، أي: لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً. وعلى هذا القول، فالآية كقوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس:94] وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} [يونس:94]، يقرن إثبات أحقية القرآن وأنه من عند الله بالنهي عن المراء. وعلى هذا التفسير لا يكون الخطاب حقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل ظاهره للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نهي غيره عن الشك في القرآن، كقول الشاعر: إياك أعني واسمعي يا جاره وكقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24]، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً، لكن المقصود غيره، وقد يصرح به أحياناً في القرآن والمراد غيره مثل: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]. وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، فالرسول عليه السلام معصوم من الذنوب ومن الآثام، فكيف لا يعصم من الشرك عليه الصلاة والسلام؟! فهو لا يمكن أبداً أن يصدر منه شرك، وكذا قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة:120]، وهو معصوم من ذلك أيضاً عليه الصلاة والسلام، ولكن الله يخاطبه؛ ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم. فهذا هو الاحتمالالذي ذكره الشنقيطي في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه) أي: مرية أو شك. أما جمهور العلماء فمذهبهم أن المراد بالحرج في الآية هو: الضيق، كما بينه القاسمي رحمه الله؛ لأن تحمل عداوة الكفار والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات، مما يضيق به الصدر، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود:12]، وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، ويؤيده أيضاً: أن الحرج في لغة العرب: الضيق، ومنه قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] أي: ضيق، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] حرجاً أي: شديد الضيق. إلى غير ذلك من الآيات. قال تعالى: ((لِتُنذِرَ)) أي تنذر المشركين، ((به)) يعني: بهذا الكتاب المنزل، ((وذكرى للمؤمنين)) أي: عظة لهم. ولا ينافي ما ذكرناه من أن الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين، أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11] لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً على المؤمنين صار خصهم بالذكر؛ لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم، ومن أساليب العرب أنهم يعبرون عن قليل النفع بأنه لا شيء، فالذي لا ينتفع بالسمع يعتبره العرب أصم، والذي لا ينتفع بالنظر يعتبره العرب كالأعمى، وهذا سر نفي هذه الحواس عن هؤلاء الكفار. والإنذار يطلق في القرآن إطلاقين: أحدهما: عام لجميع الناس، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] أي: كل الناس. وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس:11]، وإنما قصر على المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالذكر دون غيرهم. النوع الثاني من الإنذار: إنذار خاص بالكفار؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، فهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وقوله هنا: ((لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)). والإنذار في اللغة العربية هو: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً.

تفسير قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون)

تفسير قوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]. خطاب منه تعالى لكافة المكلفين باتباع ما أنزل وهو القرآن الكريم. وفي قوله تعالى: ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم)) عموم، فيشمل كلّ ما أنزل من الله سبحانه وتعالى في الوحي، والوحي وحيان: قرآن وسنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). والأدلة على أن السنة وحي كثيرة جداً، وحيثما وردت الحكمة مقترنة بالقرآن في سياق الامتنان على هذه الأمة، فالمقصود بها السنة، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:142 - 143]. فهذه الآية يؤخذ منها أن الذي شرع استقبال بيت المقدس في الصلاة هو الله سبحانه وتعالى لكن بواسطة الوحي لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولم ينزله في القرآن؛ لأن ربنا يقول: ((وما جعلنا)) وليس المصدر الوحيد للتشريع هو القرآن، كما يقول ملحد ليبيا وأذنابه: إن المصدر الوحيد للتشريع هو القرآن!! والله المستعان، اللهم أرح المسلمين من هؤلاء الأشرار. فلنفترض إن المصدر الوحيد هو القرآن الكريم، فأين في القرآن الكريم الآية التي تأمر المسلمين باستقبال بيت المقدس في الصلاة؟! فتشوا فلن تجدوا هذا في القرآن، ولم يوجد هذا إلا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم. ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وهنا لم يقل: (وما ينطق بالهوى)، وإنما قال: ((وما ينطق عن الهوى)) لتنزيه المصدر نفسه، فدل على أن كلّ ما يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين وحي من الله عز وجل. قال السيوطي في الإكليل: استدل به بعضهم على أن المباح مأمور به؛ لأنه من جملة ما أنزل الله وقد أمرنا باتباعه بقوله ((اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)) قال: إن معناها أن المباح مأمور به؛ لأنه مما أنزله الله، وقد أمرنا الله باتباعه فهو مأمور به، يقول القاسمي: وهذا غلو في الاستنباط وتعمق بارد، وهذا من التكلف المرفوض، ويرحم الله القائل: إذا اشتد البياض صار برصاً، فينبغي عدم التنطع والتعمق في الاستنباط بهذه الصورة. ((وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)) أي: لا تتبعوا أولياء غيره تعالى من الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع. ((قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) أي: ما تتعظون إلا قليلاً، حيث لا تتأثرون ولا تعملون بموجبه، وتتركون دينه تبارك وتعالى وتتبعون غيره.

تفسير قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا إنا كنا ظالمين)

تفسير قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا إنا كنا ظالمين) قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:4 - 5]. ((وكم من قرية أهلكناها)) أي: أردنا إهلاكها ودليل ذلك سياق الآية: ((فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون)) فلو كانت كلمة (أهلكناها) تعني أن قد أهلكناها؛ لكانت أهلكت بالفعل وانتهت، لكن المقصود هنا: أردنا إهلاكها بسبب أنهم خالفوا ما أنزل إليهم من ربهم، وهو المشار إليه في الآيات السابقة. ((فجاءها بأسنا)) أي: فجاء أهلها عذابنا. ((بياتاً)) أي بائتين في الليل، والبيتوتة: الدخول في الليل، يعني أهلكناها ليلاً قبل أن يصبحوا. ((أو هم قائلون)) يعني: نصف النهار، لأن هذا وقت القيلولة، كقوم شعيب، والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له، ليلاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة، وكل ذلك وقت الغفلة، والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفي هذا وعيد وتخويف للكفار، كأنهم قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة، ونظيرها قوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97 - 98] إلى آخر الآية ثم بعد ذكره تعالى لعذابهم الدنيوي أتبع ذلك ببيان عذابهم الأخروي، فقال عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف:4]: خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أهلك كثيراً من القرى؛ بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها بياتاً يعني: ليلاً، ومنهم من أهلكها وهم قائلون، أي: في حال قيلولتهم، والقيلولة: الاستراحة وسط النهار، يعني: فاحذروا تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثلما أنزلت بهم. أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10]، وقال عز وجل: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، وقال عز وجل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]، وقال أيضاً: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] فقوله تعالى بعدها: (وللكافرين أمثالها) بيان للغاية التي من أجلها سيق هذا الأمر، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد:10]، فبعد أن يبين أنه يريد من هذا تهديدهم قال: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] يعني: إن فعلتم مثلهم كانت لكم نفس العاقبة. وقد هدد تعالى أهل القرى بإتيان عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحىً في حالة اللعب، قال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97 - 98] وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47]، ومعنى (معجزين): فائيتن، أي: لن تفوتوا ولن تهربوا من عذاب الله سبحانه وتعالى. وقوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:5]، فهذه القرى الكثيرة التي أهلكها الله في حال البيات أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين، أوضح هذا المعنى في قوله عز وجل: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:11 - 12]، يركضون: أي يحاولون أن يهربوا منها {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15]: يعني: جعلوا يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، حتى استأصلهم العذاب. قال الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى: في هذه الآية دلالة واضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم)، قال الراوي: قلت لـ عبد الله بن مسعود: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: ((فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين)) يعني: هذا العذاب نحن نستحقه عن جدارة واستحقاق، وليس ظلماً من الله سبحانه وتعالى، بل نحن الظالمون، فلا يهلكهم الله حتى يصرحوا هم بأنفسهم أن هذا بسبب ظلمهم.

تفسير قوله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)

تفسير قوله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. ((الذين أرسل إليهم)) المرسَل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا به رسلهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]. ((ولنسألن المرسلين)) عما أجيبوا به، كما قال سبحانه: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، والمراد ب Q توبيخ الكفرة وتقريعهم. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، لم يبين هنا الشيء المسئول عنه المرسلون ولا الشيء المسئول عنه الذين أرسل إليهم؟ وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم، قال في الأول: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]؟ وقال في الثاني: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]، وبين في موضع أخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون يقول عز وجل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. وهنا إشكال معروف وهو أنه تعالى قال هنا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] وقال أيضاً: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92] وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39]. فهذه من الآيات الكريمة التي توهم الاضطراب في ظاهرها، فما الجواب عن هذا؟ يقول: اعلم أولاً أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة، أخف من السؤال المثبت فيها، فالسؤال المنفي السؤال عن الذنب: ((ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)) ((فيومئذ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان)) فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل ليس عن ذنب فعلوه، فلا مانع من وقوعه، وكذلك الموءودة فإنها كانت مظلومة، فستسأل لكن لا عن ذنب والمنفي إنما هو خصوص السؤال عن ذنب، مع أنه ورد في أدلة عامة عن السؤال؛ لكن لا عن الذنوب. ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]، وبعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116]، قال سبحانه وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]. والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات المراد به: سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن علمه جل وعلا محيط بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه، وهو سؤال التوبيخ والتقريع؛ لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع، كقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:24 - 25] فهذا سؤال المقصود به: التوبيخ، والتقريع، والتبكيت، والإيلام، والإهانة: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} ومثله أيضاً قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] فهذا سؤال مقصود به التوبيخ والتقريع إلى غير ذلك من الآيات.

تفسير قوله تعالى: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين)

تفسير قوله تعالى: (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين) قال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]. أي: نقص على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم، (بعلم) أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة. ((وما كنا غائبين)) أي: عنهم وعما وجد منهم. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)) بين تعالى فيها اطلاعه عليهم في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط بكل ما فعلوه، من صغير وكبير، وجد هزل، وهذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]. وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس:61] إلى آخر الآية. وفي هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة، القائلين إنه تعالى عالم بذاته لا بصفة قامت بذاته وهي صفة العلم. وهكذا في قولهم: قادر ومريد وحي وسميع وبصير ومتكلم، فيقولون: إنه تعالى عالم بذاته، قادر بذاته، دون أن يتصف بصفة العلم أو القدرة أو السمع أو الحياة أو التكلم إلى آخره، ففي هذه الآية يثبت الله سبحانه وتعالى لنفسه صفة العلم، فيقول عز وجل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف:7]، ونظيره قوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه.

تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق بما كانوا بآياتنا يظلمون)

تفسير قوله تعالى: (والوزن يومئذ الحق بما كانوا بآياتنا يظلمون) قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8 - 9]. ((والوزن يومئذ الحق)) أي: وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، وذلك يوم يسأل الله الأمم ورسلهم. ((فمن ثقلت موازينه)) أي: من ثقلت حسناته في الميزان. ((فأولئك هم المفلحون)) أي: الناجون من السخط والعذاب. ((ومن خفت موازينه)) يعني: من خفت حسناته في الميزان. ((فأولئك الذين خسروا أنفسهم)) يعني: بالعقوبة ((بما كانوا بآياتنا يظلمون)) أي: يكفرون. قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية ذكر الميزان والإيمان به، هذه من العقائد التي يجب الإيمان بها، ووزن الأعمال، معناه في الميزان يوم القيامة، قيل: الأعمال نفسها هي التي توزن، وإن كانت الأعمال أعراضاً إلا أن الله سبحانه وتعالى يقلبها يوم القيامة أجساماً توزن. قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح: (أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة). ومن ذلك ما ثبت في الصحيح في قصة القرآن، عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يشفع لصاحبه فيقول: أنا الذي أسهرت ليله واظمأت نهاره). وفي حديث البراء في قصة سؤال القبر: (فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح)، وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق. فالذنوب والمعاصي تتجسد هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: (إنه إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، ولا بُعد في ذلك، ألا يرى أن العِلْم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن -لعله يقصد بذلك تأويل اللبن في المنام بالعلم، من حديث عمر حينما وسقاه النبي في المنام لبناً فأول ذلك بالعلم- فهذا هو القول الأول: أن الأعمال هي التي توزن. والقول الثاني: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال التي كتبتها الملائكة، ويبينه حديث البطاقة، وهو الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب! فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، وإنه لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة مكتوب فيها: أشهد أن لا إله إلا الله فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم) فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال؛ لأن هذا الرجل وزنت سجلاته التي فيها أعماله وفيها الشهادة. والقول الثالث: أن الذي يوزن هو صاحب العمل، فالإنسان نفسه هو الذي يوزن، كما في الحديث: (يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ثم قرأ قوله تعالى: ((فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)) [الكهف:105]). وفي مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتعجبون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد)، فمعنى ذلك أن ساقي ابن مسعود رضي الله عنه ستوزنان في الميزان. قال الحافظ ابن كثير: وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً، فتارة يوزن الأعمال، وتارة يوزن محلها، وتارة توزن فاعلها. والله تعالى أعلم. يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله في فتح البيان راداً على الذين أولوا وقالوا: المقصود بالميزان الفصل في القضاء والحكم بالعدل إلى آخر هذه العبارات التي يقولها من استبعدوا هذه الأقوال المدعمة بهذه الأدلة؛ يقول: وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقيقتها، فلم يأت في استبعادهم شيء من الشرع يرجع إليه.

الأعراف [31 - 46]

تفسير سورة الأعراف [31 - 46]

تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد إنه لا يحب المسرفين)

تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد إنه لا يحب المسرفين) قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]: ((يا بني آدم خذوا زينتكم)) المقصود هنا: الزينة من اللباس. ((عند كل مسجد)) إذا قلنا: إن المسجد يعني اسم مكان، فسيكون معناها: خذوا زينتكم عند كل بيت بني للعبادة، وإذا قلنا: إن المسجد مصدر فسيكون المقصود من قوله: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) أي: عند كل سجود، أي: كلما هممتم بالصلاة والعبادة فخذوا زينتكم، فإن العبادة أولى أوقات التزين. ((وكلوا واشربوا)) يعني: أيام الحج لتتقووا على العبادة. ((ولا تسرفوا)) يعني: إسرافاً يوجب الانهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة، أو: لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم. ((إنه لا يحب المسرفين)) أي: المعتدين.

سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت عراة

سبب نزول هذه الآية أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بالبيت عراة روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانت المرأة تطوف في البيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافاً تجعله على فرجها) والتطواف هو: ثوب تلبسه المرأة تطوف به. وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها أبداً، بل يتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، ويسمى: اللقاء، حتى جاء الإسلام، فأمر الله سبحانه وتعالى بستر العورة فقال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يطوف بالبيت عريان). فالمقصود هنا: ستر العورات إبطالاً لما كان عليه الجاهليون من الطواف عراة. يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول: (اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله) فنزلت هذه الآية الكريمة: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا. وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً في هذه الآية قال: كان رجال يطوفون في البيت عراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس، وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك من زينة البز والمتاع، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد. وأخرج أبو الشيخ عن طاوس قال: أمروا بلبس الثياب. وأخرج من وجه آخر عنه قال: الشملة من الزينة. وقال مجاهد: كان حي من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجاً أو معتمراً يقول: لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه، فكان يقول الواحد منهم: من يعيرني مئزراً، فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً، فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)). وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس هم: قريش وأحلافهم، فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس فإنه يلقي ثيابه ويطوف عرياناً، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها، يعني: إذا قضى طوافه جعلها حراماً عليه؛ فلذلك قال تعالى: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) والمراد من الزينة: لبس الثياب التي تستر العورة. قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة. وقال ابن كثير: هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها، إنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة. انتهى كلام ابن كثير. يقول القاسمي: فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة؛ لأنه اللازم المأمور به الذي بينه سبب النزول، دون لباس التجمل المتبادر منه. وذلك أن أول ما يتبادر للذهن من كلمة (زينة) أن الزينة تعني الرياش أو الأشياء التي يتجمل بها الإنسان وهي من قبيل الكماليات أو التحسينيات؛ لكن إذا رجعنا إلى سبب النزول، نعرف أن هذا ليس هو المقصود، وإنما المقصود بصفة أصيلة ما يواري العورات؛ لأن المستفاد من قوله: (خذوا) هو وجوب الأخذ، فهو أمر، وظاهر الأمر الوجوب، فالذي يجب أن يلبسه الإنسان هو ما يستر به العورة. ولباس التجمل مستحب وليس واجباً، قاله الشهاب.

الزينة لفظ يطلق على كل ما يستر العورة

الزينة لفظ يطلق على كل ما يستر العورة وأقول: دلت الآية بما أفاده سبب نزولها، على أن الزينة لا تختص لغة بالجيد من الثياب كما توهم كلمة الزينة، التي تستعمل كرياش أو للتجمل فقط، لكن الزينة لفظ يطلق أيضاً على ما يستر به العورة. وفي التهذيب: الزينة اسم جامع لكل شيء يتزين به. وقال الحرالي: الزينة تحسين الشيء بغيره، من لبسة، أو حلية، أو هيئة. وقال الراغب: الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا لا في الآخرة. ونقل الرازي إجماع المفسرين على أن المراد بالزينة: لبس الثياب التي تستر العورة، قال: والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات، قال: وأيضاً فإنه تعالى قال في الآيات المتقدمة: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، فبين أن اللباس الذي يواري السوءة من قبيل الرياش والزينة. ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية، وهي قوله: ((قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا))، ما وظيفته؟ ((يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)). وأيضاً فقوله: خذوا زينتكم: أمر، والأمر للوجوب فثبت أن أخذ الزينة واجب، وكل ما سوى اللبس فغير واجب، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان.

من الزينة في الصلاة لبس النعال إذا أمنت الفتنة

من الزينة في الصلاة لبس النعال إذا أمنت الفتنة وقد روى بعض المفسرين ما يدل على أن الآية نزلت في الصلاة في النعال، هذا روي عن أنس رواه الحافظ ابن مردويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً، وعن أبي هريرة مثله، وقال ابن كثير: وفي صحته نظر، والله تعالى أعلم، يعني أنه من حيث السند غير صحيح وفيه نظر، أما من حيث المعنى فالمعنى صحيح؛ لأن النعال مما تشمله الزينة، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم: نزلت في كذا لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به، بل مخصوص بنوعه، فتعم ما أشبهه. والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعال كثيرة جداً، منها: حديث سعيد بن يزيد قال: (سألت أنساً أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم)، وهذا متفق عليه. وقال العراقي في شرح الترمذي: وممن كان يفعل ذلك -يعني لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي، وذكر عدداً كبيراً من التابعين كانوا يصلون في النعال. وقد ثبت أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما)، وكذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً). فإذاً يمكن على هذا الأساس إدراج لبس النعال على أنه من الزينة التي يتخذها الإنسان عند الصلاة، والمقصود بالصلاة في النعال أن الإنسان يصلي حسبما يتيسر له الحال، فإن كان منتعلاً يصلي منتعلاً، ولا يتكلف خلع النعل من أجل الصلاة، وإن كان حافي القدمين فلا يتكلف لبس النعلين لأجل الصلاة، وهذا بشرط ألا يؤذي من في المسجد، فإذا كانت المساجد -كما هو الحال الآن- مفروشة بالبسط والسجاجيد، وكثرة توارد الأقدام بالأحذية عليها مما يؤذي الناس ويلوث ثيابهم، فهنا: (لا ضرر ولا ضرار)، وفي مثل هذه الحالة ليس من الحكمة أن يتعمد الإنسان لبس النعل ويصلي فيها، ويستفز مشاعر الناس ويؤذيهم، لكن على الأقل ينبغي عليه أن يعلم الناس أن هذه سنة. وأحياناً يحتاج الإنسان إلى الصلاة في النعال، كأن يكون المسجد مزدحماً، والصفوف موجودة في خارج المسجد، وهو يريد أن يلتحق بها بسرعة، وليس هناك شيء مفروش على الأرض، ففي هذه الحالة يصلي بدون أن يتكلف خلع النعل حتى لا يفوته جزء من الصلاة، فيصلي بالنعلين، والناس الآن بسبب شدة غربة الإسلام، وشدة تفشي الجهل بينهم، يستقبحون أن يصلي الإنسان في النعل، وهذا بسبب جهلهم بالسنة، وبحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح.

الاستدلال بالآية على اشتراط وجوب ستر العورة عند الطواف

الاستدلال بالآية على اشتراط وجوب ستر العورة عند الطواف دلت الآية أيضاً على وجوب الستر عند الطواف؛ لأنه سبب النزول، خلافاً لبعض المذاهب ممن يرى أن ستر العورة ليس بواجب في الطواف، ولكن هذه الآية؛ لأن سبب نزولها هو حال المشركين الذين كانوا يطوفون عراة، فنزلت الآية توجب ستر العورة في أثناء الطواف؛ لأن الطواف صلاة، والفرق بين الطواف وبين الصلاة: أن الله سبحانه وتعالى أباح فيه الكلام. قالوا: واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد)) فيستدل بنفس هذه الآية -أيضاً- على أحد شروط الصلاة وهو ستر العورة، فهذه الآية يصح الاستدلال بها على اشتراط ستر العورة في الطواف وفي الصلاة.

مشروعية التجمل عند الصلاة استدلالا بالآية

مشروعية التجمل عند الصلاة استدلالاً بالآية وقد حاول بعض العلماء استنباط التجمل عند الصلاة من هذه الآية، حيث قال: لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة في الصلاة، فهم منها في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها. هذه الآية هي أساساً في الأمر بالزينة الأساسية التي هي ستر العورة، لكن يفهم من روح الآية أيضاً أنها تندب المسلم إلى أن يحسن هيئته إذا أراد أن يصلي أو أن يذهب إلى المسجد، خاصة في الجماعات وفي صلاة الجمعة والأعياد وغير ذلك. قال الكيا الهراسي: ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد للفضل الذي يتعلق به، تعظيماً للمسجد والفعل الواقع فيه، فالإنسان إذا لقي صديقه، أو قريبه، أو صاحب وجاهة أو سلطة، فإنه يتزين ويهتم بمظهره، فأولى أن يهتم الإنسان بمظهره وزينته إذا أراد أن يقف بين يدي الله عز وجل، وكان بعض السلف يختار أحسن وأفضل ما قدر عليه من الثياب حينما يلقى الله سبحانه وتعالى في الصلاة. وقال ابن الفرس: استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية. وهذا يعني أن الزينة مسألة نسبية، خاضعة لحال المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، فينظر كيف تكون زينتهم فلا يتعمد أن يشذ عن ملابس القوم الذين يعيش فيهم، لكن بشرط أن يكون هؤلاء ملتزمين بالشرع، وملابسهم على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومن غرائب الغلو في انتزاع المعاني من الآيات، ما ذهب إليه بعض الناس من أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين! باعتبار أن هذه زينة. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأن الطيب من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل اللباس البياض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم)، وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين: أن تميماً الداري اشترى رداءً بألف وكان يصلي فيه.

وجه الربط بين الأمر في قوله: (خذوا زينتكم) وقوله بعدها: (وكلوا واشربوا)

وجه الربط بين الأمر في قوله: (خذوا زينتكم) وقوله بعدها: (وكلوا واشربوا) وهنا سؤال وهو: لماذا أتبع الله سبحانه وتعالى الأمر في قوله: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ))، بقوله: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا))، فما وجه الربط بين هذين الأمرين؟ يقول: إن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماًً، يعظمون بذلك حجهم، أي أنهم كانوا يعتبرون الامتناع عن أكل الشحوم والدهون من تعظيم الحج، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)). وقال السدي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم -يعني الشحم- فقال الله تعالى لهم: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل، وذلك بتحريمه.

وجوه الإسراف

وجوه الإسراف وقيل: تدل الآية على المنع من الإسراف، وهو على وجهين: أولهما: إنفاق في معصية، كأن يصرف الإنسان أمواله في القمار واللعب والزنا والخمر ونحوها. وثانيهما: أن يتعدى الحدود، وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار، أي: أن موضوع الإسراف فيما أباحه الله سبحانه وتعالى بتعدي الحدود المعقولة، أمر نسبي يتفاوت بتفاوت أحوال الناس، فمثلاً الإسراف في حق الرجل الذي عنده قدر يسير من المال، أن ينفقه في ضيافة أو في طيب أو في ثياب خز، فهذا ترف محرم؛ ولذلك فإن قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، بينه قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما فضل عن النفقة الأساسية، وهي نفقة الأهل والأولاد وغير ذلك من أنواع النفقة الواجبة، ولهذا لا يكون التصدق إلا بعد أداء الفريضة أولاً، لأن التطوع يكون بعد الفريضة، فكذلك الإنسان الذي عنده مال محدود يحتاجه هو وعياله وأطفاله، فإذا أنفقه في إكرام الناس بالضيافات أو بالطيب أو بثياب فخمة فهذا بلا شك إسراف؛ لأنه هو نفسه وأولاده ومن يعولهم يحتاجون إلى هذا المال. ومثل هذا القدر من المال الذي ينفقه في الطيب أو في الملبس الجيد رجل موسر، نسبة هذا المال إلى ماله نسبة قليلة، لا تفقره ولا تضره، فمثل هذا في الموسرين لا يقبح، وإذا اشترى هذا الموسر طيباً أو ثياباً جيدة فهذا لا يكون في حقه من الإسراف. فإذاً موضوع الإسراف موضوع نسبي، والعبرة بأن يؤدي الإنسان ما عليه، خاصة من الزكاة. وتدل الآية على أن الأشياء على الإباحة: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا))، والعقل يدل على ذلك؛ لأنه تعالى خلقه لمنافعهم، والسمع ورد مؤكداً، ولذلك قال: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ)) يعني: معناها أنه لا يطالب بدليل سمعي، فكلمة: (من حرم) يعني: ائتونا بدليل سمعي يدل على أن الله سبحانه وتعالى حرم ما تذكرون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، من غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده)، وقال البخاري: قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف أو مخيلة. هذا هو الضابط في النفقة: (كل ما شئت والبس ما شئت) ما لم تقع في إحدى هاتين الاثنتين، وهما الإسراف أو المخيلة، والتكبر على عباد الله عز وجل. وقال الشهاب: هذا لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء: أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي، ويلبس ما يشتهيه الناس. نصيحة نصيحة قالت بها الأكياس كل ما اشتهيت والبسن ما اشتهته الناس ((إنه لا يحب المسرفين)) وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء؛ لأن من لم يحبه الله سبحانه وتعالى لم يرض عنه. ثم ذكر القاسمي هنا كلاماً مفصلاً في الربط بين قواعد الصحة الغذائية في قوله تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) فذكر أن هذه الآية الكريمة جمعت الطب كله، ثم نقل عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ما يدل على اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب واشتمال السنة المطهرة على بدائعه في كتابه زاد المعاد، فتكلم بالتفصيل عن أمراض القلوب وعلاجها من القرآن الكريم والسنة، فبين أن أمراض القلوب إما مرض شبهة وشك، وإما مرض شهوة وغي، وبين أيضاً أمراض الأبدان، وتكلم عنها بالتفصيل، ثم تكلم عن الحمية التي هي الوقاية، ثم فصل بعد ذلك في الكلام على طب القلوب، وذكر كلاماً كثيراً جداً، لكن لضيق الوقت لن نفصله. ونحن الآن حالنا في الحقيقة من أعجب الأحوال، يعاني كثير من الناس الآن من أمراض السمنة التي تنشأ من كثرة الأكل وعدم الانضباط في تناول الطعام والشراب، أو الإسراف الذي نهى الله عنه في هذه الآية، ثم ينفقون من الأموال القدر العجيب في سبيل أن يحافظوا على نظام غذائي معين، من أجل أن يوقف وزنه! ولو أن الواحد منهم التزم بالهدي القرآني: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) ما احتاج إلى ما وقع فيه من هذه السمنة، ولا ما وقع فيه من الكلفة التي تكلفها في سبيل التحرر من هذه الأوزان الزائدة، فهذا أيضاً من الحيدة عن الاعتدال: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين).

تفسير قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]. ((قل)) أي: لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وبطباعهم. ((من حرم زينة الله)) يعني: من الثياب وسائر ما يتجمل به، (التي أخرج لعباده) يعني: أخرجها من النبات كالقطن والكتان، وأخرجها من الحيوان: كالحرير والصوف، ومن المعادن كالدروع، هكذا عمم المفسرون هنا. (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) أي: من المستلذات من المآكل والمشارب. قال المهايمي: إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل -الذي هو العبادة- فيحرمان معها فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته، ليتزينوا بها حال العبادة. وهذا طبعاً كان مفهوماً طارئاً على الإسلام، وإن كانت الصوفية قد اقتبسته من الرهابنة ومن نساك النصارى، وهو أن كل ما يتمتع به الإنسان من ملاذ الدنيا، فهو مضاد لعبادة الله سبحانه وتعالى، فيزعمون أن التزين والتلذذ ينافي ويضاد التذلل والعبادة، ولهذا حرموا هذه الطيبات لأنها تنافي عبادة الله سبحانه وتعالى. فهذه الآية ترد على هؤلاء، حيث أعلمهم سبحانه وتعالى فيها أنه قد أخرج هذه الطيبات لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة، ولذلك أمرنا بالتزين: ((خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)). ((قل من حرم)): ائتونا بدليل ((من حرم زينة الله التي أخرج لعباده))، فهذه الزينة أخرجها لعباده الأتقياء العباد ليتزينوا بها حال العبادة، فعبيد الملوك يحرصون على التزين وأن يظهروا بمظهر لائق أمام سادتهم، ولا ينافي ذلك تذللهم لهؤلاء الملوك، ولله المثل الأعلى، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده، فهي نعمة على عباده الموحدين ليشكروه، والشكر عبادة، ويكون على التنعم بنعم الله سبحانه وتعالى، فلا ينافي الشكر العبادة لأن الشكر في حد ذاته عبادة يحبها الله سبحانه وتعالى. بل قد يكون الشكر مدعاة إلى هذه العبادة: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والشكر ليس بالكلام، إنما الشكر بالعمل، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، وذلك بأن تصرف النعمة في مرضاة مهديها ومعطيها وهو الله سبحانه وتعالى. وفسرت الطيبات في قوله: ((وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)): بالحلال، وفسرت أيضاً: باللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم، وفسرت: بالبحائر والسوائب كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا} [يونس:59]، إلى آخر الآية. والعبرة بعموم اللفظ، فكل ما ذكر يدخل في الآية دخولاً أولياً. وقوله: ((قل من حرم زينة الله)) هذا اللفظ يتناول جميع أنواع التزين، ومنه تنظيف البدن؛ لأن العرب كان عندها مثل مشهور يقولون: أطيب الطيب الماء، يعني: الإنسان يهتم بنظافة بدنه بالماء نظافة جيدة، ثم بعد ذلك يضع الطيب، وإنما اشتهر الغربيون بالعطور لأنهم ما كانوا يعرفون عادة الاغتسال، وحتى الآن قد يمكث الواحد مدة طويلة قد تزيد على سنة لا يقرب الماء، فلما كانت تتراكم على أجسادهم الروائح الخبيثة والعرق كانوا يجتهدون في اختراع العطور التي تحاول أن تغطي هذه الروائح المنتنة التي تنبعث من أجسادهم، وهم ما عرفوا الاستحمام إلا من المسلمين عندما كانوا في الأندلس، فكان الطلبة يفدون للتعلم من المسلمين، فإذا عادوا نقلوا من المسلمين هذه العادات، حتى إنه لما كان أيام نفي المسلمين من الأندلس وكان من المسلمين من ينكر أنه مسلم بسبب المذابح التي حصلت في محاكم التفتيش، فكانوا يلجئون إلى التعرف على هؤلاء الناس، هل هم مسلمون أم غير مسلمين بأن يفتشوا البيوت، فالبيت الذي فيه حمام هو بيت مسلم، فيقتلون من فيه أو يجبرونه على التنصر، فكانت علامة الإسلام وجود حمام في البيت. فالأوروبيون ما برعوا في صناعة العطور -وبالذات العطور الفارسية المشهورة- إلا بسبب أنهم كانوا يجتهدون في اصطناع العطور التي تغطي الروائح المنبعثة من أجسامهم، وهذا إلى الآن موجود، ومن عاش مع القوم يعرف هذه الروائح الخبيثة التي يكاد الإنسان أن يختنق منها، وهذا كلام حقيقي ليس مجازياً، وفي وقت من الأوقات توقف المصعد ودخل بعض هؤلاء الكفرة، فما وجدت حيلة سوى أني أتوقف تماماً عن التنفس، وإلا فالإنسان يكاد يختنق من خبث روائحهم. فالإسلام دين النظافة، وأهم النظافة هو ما يزيل هذه الروائح، فالإنسان يهتم أولاً بتطييب بدنه بالماء، ثم بعد ذلك يضع العطور ويضع الروائح الطيبة. فالزينة تشمل جميع أنواع التزين ومنه تنظيف البدن، ومنه المركوب، ومنه أنواع الحلي، يعني: حلي النساء، ويدخل تحت الطيبات: كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، ولا حرج في ذلك على الإطلاق، ما دام يصادف ما أحل الله سبحانه وتعالى للمؤمن، ويروى الحديث بلفظ موضوع: (حبب إلي من دنياكم ثلاث)، فكلمة (ثلاث) معناه: إن الصلاة تكون من الدنيا، وفي هذا المعنى نكارة إلى جانب عدم ثبوته. وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، حيث هم عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه بالتبتل والاختصاء كي يتقي الشهوة، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأن هذا ليس من هدي النبي عليه الصلاة والسلام. وذهب ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالوها لما أخبروا بها، فكل واحد أراد أن يسلك مسلكاً من الاجتهاد في العبادة والامتناع عن الطيبات، يظن أنه يقربه إلى الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب وقال: (أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، أي: ليس على هديي، وليس على طريقي، وليس على ديني، فانظر كيف زجر بهذا الزجر الشديد الذي يقال غالباً في الكبائر من الذنوب، وذلك لأجل إبطال هذه العادات المقتبسة من الرهابنة ومن غير المسلمين. ودلت الآيات على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة؛ لأن الاستفهام في قوله: (قل من حرم) لإنكار تحريمها على وجه بليغ؛ لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه. وفي الآية رد على من تورع في أكل المستلذات ولبس الملابس الأنيقة، ويمكن أن تراجع التفاصيل في كتاب: تلبيس إبليس، أو نقد العلم والعلماء للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى. فبعض الناس حكي عنه كما في بعض الكتب أنه كان يتورع عن أكل اللحم، فلما سئل، قال: لا أستطيع أن أؤدي شكره، فأنكر عليه العالم الجليل وقال له: هل تؤدي شكر شربة الماء؟! فالمسألة ليست مقايضة، بمعنى أن تأتي النعمة ونحن نشكر شكراً مكافئاً لها، وإلا فلا يمكن للإنسان أن يتعاطى أي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإطلاق، فأيهما أهم قطعة اللحم، أم الماء الذي تشربه؟ الماء أهم؛ فلذلك هذا المتفلسف لما امتنع عن أكل اللحم بحجة أنه يخشى ألا يؤدي شكرها، أفحمه ذلك العالم بقوله: هل أنت تؤدي شكر نعمة الماء؟! يعني: إذاً لا تشرب الماء، وإلا فكيف ستؤدي شكر نعمة الماء؟ وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري: لقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، مع وجود السبيل إليه من حله، يعني: ما دام الإنسان يستطيع أن يلبس القطن ويلبس الكتان، وأيضاً أخطأ من أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة. وبعض الناس أخطأ أيضاً فاستدل بالآية على تجويز الحرير والخز للرجال، فأخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز، فقال له الناس: مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم: من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم بالحرير ولا بالديباج، ولكن كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه. وعلى أي الأحوال: فهذه الآية لا تشمل الحرير، وهذا أمر غني عن البيان؛ لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العام ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، هذا عام، لكن أتى ما يخصص هذا العام في تحريم الذهب والحرير على الرجال، فاستنباط حله من الآية مردود على قائله. وقوله: ((قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) يعني: زينة الله والطيبات، مخلوقة للذين آمنوا في الحياة الدنيا. أي: هذه الزينة ما خلقها الله سبحانه وتعالى إلا للذين آمنوا في الحياة الدنيا بالأصالة، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع. أما في الآخرة فلا تحصل هذه المشاركة، بل تكون الطيبات خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، أي: لا يشاركهم فيها غيرهم؛ لأن الله حرم الجنة وما فيها من النعيم على الكافرين. وانتصاب (خالصةً) على الحالية وقرئ بالرفع: (خالصةٌ) خبر بعد خبر. قال المهايمي: إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة، وما خلق الله سبحانه وتعالى في الدنيا شيئاً إلا لجعله أمارة على الآخرة، حتى الحر والقر إنما هو أمارة وعلامة كي يعرف الإنسان إذا أخبر عن الزمهرير، وعن حر جهنم، لأنه إذا لم يذق ذلك ويعانيه فلن يستطيع أن يتخيل هذا العذاب؛ فلذلك جعل الله سبحانه وتعالى من حكمة خلق النعيم والآلام في الدنيا أن تكون

تفسير قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. ((قل)) لا تحرموا من تلقاء أنفسكم ((إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) يعني: ازهدوا في هذا الحرام، وهي أعلى وأهم درجات، ولاشك أن الزهد يمدح ويستملح حتى في الطيبات، لكن هذا موضوع آخر، فنحن الآن بصدد بيان الزهد الواجب وهو الزهد عن الحرام وليس الزهد عن التمتع بالطيبات. فالطيبات والزينات من المنافع لا تستلزم الوقوع في التكبر أو الانهماك في الشهوات، فهذا أمر غير متحقق، فإذا أفضت إلى ذلك فالحرام هو المفضى إليه بالذات؛ لأنه (إنما حرم ربي الفواحش) يعني: ما تفاحش قبحه من الذنوب وتزايد كالكبائر، والفواحش هي ما تعلق بالفروج: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) يعني: ما جاهر فيه بعضهم بعضاً، وما ستره بعضهم عن بعض، وما ظهر من أفعال الجوارح، وما بطن من أحوال أو أفعال القلوب. ((والإثم)) يعني: ما يوجب الإثم، وهو عام لكل ذنب، وذكر هنا التعميم بعد التخصيص: وقال بعض المفسرين: إن الإثم هو الخمر، قال الشاعر: نهانا رسول الله أن نقرب الزنا وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا يعني: أن نشرب الخمر. وأنشد الأخفش: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول ويصدقه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، وقال ابن الأنباري: لم تسم العرب الخمر إثماً في جاهلية ولا إسلام، والشعر المذكور موضوع، ورد بأنه مجاز؛ لأنه سببه سبب الإثم، وقال أبو حيان: هذا التفسير غير صحيح هنا، لأن سورة الأعراف سورة مكية، وإنما نزل تحريم الخمر في المدينة بعد غزوة أحد، فلم تكن الخمر قد حرمت وقت نزول هذه الآيات حتى يقال إن الإثم هو الخمر. كذلك الحصر يحتاج إلى دليل، والإثم عام لكل ذنب، فحصره في نوع واحد من الذنوب -وهو الخمر- يحتاج إلى دليل. ((وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) البغي الاستطالة على الناس وظلمهم، وإنما أفرده بالذكر مع دخوله فيما قبله للمبالغة في الزجر عنه. وقوله: (بغير الحق) متعلق بالبغي، يعني: البغي بغير الحق، وقيل: البغي قد يخرج عن كونه ظلماً إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص، إلا أن مثله لا يسمى بغياً حقيقة بل مشاكلة، أي: فإذا أطلق البغي بحق على مثل القصاص فهذا ليس حقيقة، وإنما هذا نوع من المشاكلة، كما في قوله تعالى مثلاً: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وكما في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40]. ((وأن تشركوا بالله)) يعني: وقد حرم الله أن تشركوا به (ما لم ينزل به سلطاناً) أي: برهاناً، والمعنى: ما لم يقم عليه حجة. قال الزمخشري: فيه تهكم، فالله سبحانه وتعالى هنا يتهكم هؤلاء المشركين الذين يشركون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً. لأنه لا يجوز أن ينزل برهاناً بأن يشرك به غيره، وليس من المحتمل أن إنساناً يعبد غير الله أو يشرك بالله ويكون عنده برهان على هذا الباطل، بل هذا مستحيل. وهذا كما في قوله تبارك وتعالى في آخر سورة المؤمنين: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، فهذه الآية ليس لها مفهوم معتبر، فكل ما عبد من دون الله لا يمكن أن تقوم حجة أو دليل أو برهان على صحة عبادته. قال الرازي: وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل، وتبعه البيضاوي فقال: في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان. ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) يعني: وحرم عليكم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي: أن تتقولوا عليه الكذب في التحليل والتحريم أو في الشرك. وهذه الآية ذكرت فيها هذه المحرمات من باب التدرج من الأدنى إلى الأعلى. فأكبر الكبائر أن يقول على الله بغير علم، وقد وضح ذلك الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى في: إعلام الموقعين، وبينه بياناً شافياً. وتدل هذه الآية على تحريم جميع الذنوب؛ لأن قوله الفواحش والإثم يشتمل على الصغير والكبير والأفعال القبيحة والعقود المخالفة للشرع والأقاويل الفاسدة والاعتقادات الباطلة. فدخل في قوله: ((ما ظهر منها وما بطن)) أفعال الجوارح وأفعال القلوب والخيانات والمكر والخديعة. ودخل تحت قوله: ((والبغي)) كل ظلم يتعدى فيه على الغير، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج والأمراء إذا انتصروا بغير حق. ودخل تحت قوله: ((وأن تشركوا)) تحريم كل شرك وعبادة لغير الله. ودخل تحت قوله: ((وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)) كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق وشهادة زور ونحو ذلك. فالآية جامعة في المحرمات كما أن ما قبلها جامعة في المباحات، وهي قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]. أما هذه فجامعة في المحرمات: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. وفيها تعليم للآداب ديناً ودنيا، وتدل على بطلان التقليد؛ لأنه أوجب اتباع الحجة لقوله: (ما لم ينزل به سلطاناً) والسلطان: الحجة.

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)

تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. وهذه الآية تدل على أن لكل أحد وقت حياة ووقت موت لا يجوز فيه التقديم والتأخير، فيبطل قول من يقول: المقتول مات قبل أجله. ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه وتعالى كما نزل بالأمم فقال عز وجل: ((ولكل أمة أجل)) أي: مدة أو وقتاً لنزول العذاب بهم. ((فإذا جاء أجلهم)) أي: ميقاتهم المقدر لهم. ((لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)) أي: لا يُتركون بعد الأجل شيئاً قليلاً من الزمان، ولا يهلكون قبله كذلك، والساعة مثل في غاية القلة من الزمان، وليست الساعة الستين دقيقة التي نعرفها.

تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

تفسير قوله تعالى: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلاً يهدونهم وبشر وأنذر بقوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:35 - 36]. قوله تعالى: ((يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي)) ذكره بحرف الشرط، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب، وضمت إليها ما: (إما) لتأكيد معنى الشرط، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة فقال: ((إما يأتينكم)). والمراد ببني آدم جميع الأمم، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم، ولا يدخل في المراد بالرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا خلاف الظاهر. وجواب الشرط قوله تعالى: ((فمن اتقى)) أي: اتقى التكذيب ((وأصلح)) أي: عمله، ((فلا خوف عليهم)) من العذاب ((ولا هم يحزنون)) في الآخرة، لأن سياق الكلام في الرسل السابقين: ((يَا بَنِي آدَمَ)) يعني: الأمم الأخرى، ((إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) * {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا} [الأعراف:36] أي: تكبروا عنها، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:36].

تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)

تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم بقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف:37]. (من أظلم) يعني: لا أحد أظلم، ممن تقول على الله كذباً بالتحليل والتحريم، أو بنسبة الولد والشريك، أو كذب بآيته المنزلة. ((أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ)) يعني: يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك، مع أنهم ظلموا وافتروا على الله الكذب وكذبوا الرسل، ولكن لا يحرمون ما قدر لهم من العمر والرزق إلى انقضاء آجالهم. وفي الآية وجوه أخر، هذا أظهرها وأقواها في المعنى، وتتمة الآية تدل عليه، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} [يونس:69 - 70] والمتاع هو نصيبهم من الكتاب يتمتعون به ((أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ))، أي: يصل إليهم رزقهم وعمرهم ومتاعهم؛ ولذلك قال هنا: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [يونس:69] * {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:70]، وهذه الآية نظير قوله هنا: ((أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا))، وهذه مثل قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس:70]. ونظير هذه الآية أيضاً قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:23 - 24]. وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} [الأعراف:37]، أي: ملائكة الموت تقبض أرواحهم. ((قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء، فلا نراهم يخلصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد؟ وفائدة السؤال وجهان: توبيخ وتبكيت لهم يزيدهم غماً إلى غم. ولطف بالمكلف؛ لأنه إذا استحضر ذلك صرفه عن التكذيب، لأنه يتذكر أنه سوف يسأل هذا Q (( أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ)). ((قالوا ضلوا عنا)) أي: غابوا عنا فلم يخلصونا من شيء. ((وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين)) أي: عابدين لما لا يستحق العبادة، واعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.

تفسير قوله تعالى: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس)

تفسير قوله تعالى: (قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس) قال تعالى: ((قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:38]. ((قال ادخلوا في أمم)) أي: قال الله سبحانه وتعالى لهم في الآخرة: ((ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ))، يعني: في جملة أمم قد مضت. ((من قبلكم من الجن والإنس)) يعني: كفار الأمم الماضية من النوعين من الجن والإنس ((في النار)) أي: انضموا إليهم في جملة واحدة في النار. ((كلما دخلت أمة)) يعني: كلما سقطت وهوت أمة في النار -والعياذ بالله- ((لعنت أختها)) التي قبلها لضلالها بها، تنزل أمة ثم تأتي الأمة التي بعدها فتلقى في النار فتلعن التي قبلها؛ لأنها هي التي دعتها إلى الضلال، كما قال الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25] هذا ما نراه اليوم في كثير من الشعارات كقول: بالروح والدم نفديك يا فلان! وغير ذلك من هذه العبارات التي فيها المودة والارتباط والتحزب. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]. قوله: ((حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا)) أي: تداركوا، بمعنى: تلاحقوا وراء بعض واجتمعوا في النار، فكل الأمم المهلكة دخلت النار واستقرت فيها واجتمعوا جميعاً بعد تتابعهم ولعن بعضهم بعضاً. وفي هذه الحالة بعد الاستقرار معاً في جهنم والعياذ بالله: ((قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ))، والأوائل هم الرؤساء المقدمون، كما قال الله سبحانه وتعالى عن فرعون أنه {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود:98] أي: يسوق قومه إلى النار وهو في مقدمتهم، فالذي يدخل العذاب أولاً هم الرؤساء والوجهاء والسلاطين ورؤساء البدع والضلالات والكفر والطواغيت، ثم يتبعهم الأتباع. و ((أخراهم)) الذين هم في الذيل وهم الأتباع. ((قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ)) أي: لأجل أولاهم؛ لأن الخطاب ليس لأولاهم إنما الخطاب هو لله سبحانه وتعالى، والمعنى: قالت أخراهم لأجل أولاهم مخاطِبةً الله عز وجل. قال ابن كثير: أي ((قالت أخراهم)) دخولاً وهم الأتباع، ((لأولاهم)) وهم المتَّبَعون؛ لأنهم أشد جرماً من أتباعهم فدخلوا قبلهم، وهؤلاء الأتباع الذين يشكون الرؤساء إلى الله يوم القيامة؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون: ((رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا)) يعني: سنوا لنا الضلال ودعوا إليه فاقتدينا بهم، ((فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ)) يعني: مضاعفاً؛ لأنهم ضلوا وأضلوا، وكفروا وصدوا عن سبيل الله. ((قال)) الله تعالى: ((لِكُلٍّ ضِعْفٌ)) أي: لكل عذاب مضاعف، أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال، عذاب على الضلال وعذاب على الإضلال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، وأما الأتباع والسفلة فبالضلال وبتقليد أهل الضلال مع ظهور الحق بالبراهين القاطعة، عذاب على الضلال في أنفسهم، وعذاب لأنهم قلدوا الضالين وأعرضوا عن الأنبياء وما جاءوهم به من الحجج والأدلة والبراهين القاطعة. ((قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون)) أي: لا تعلمون ما لكل فرقة منكم، وقرئ بالياء ((ولكن لا يعلمون)) وعليها فهو تذييل لم يقصد إدراجه في جواب.

تفسير قوله تعالى: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)

تفسير قوله تعالى: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون) قال تعالى: {وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:39]. يعني: أن الرؤساء يردون على الأتباع بعد الشكوى التي شكوها. فيقولون: ((فما كان لكم علينا من فضل)) يعني: أنتم لستم أحسن منا ولا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال، حتى يكون عذابنا مضاعفاً دونكم، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. ((فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)) وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى للفريقين، وهو أظهر. وهذه الآية تدل على أن الكفار والضلال والأتباع وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم وتوادوا في الدنيا، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم. كما أن الآية تدل على فساد التقليد وفساد الاغترار بقول علماء السوء؛ فبعض المنسوبين للعلم وللفتوى يتكلم كما يتكلم السوقة والرعاع، فتصدر عنه فتاوى مضادة تماماً لكتاب الله ولسنة رسول الله ولإجماع المسلمين، وفيها تحليل لما حرم الله، ومع ذلك يتكلم كما يتكلم الرعاع والسوقة فيقول: اتبعوني وأنا سأتحمل عنكم الوزر! وهذا هو منطق السوقة والغوغاء من الناس، وليس منطق من ينتسب إلى العلم الشريف؛ لأنه يأتسي في ذلك بمن قالوا: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت:12]. ثم ألم يسمع قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38]، فالإنسان لا يعد معذوراً في متابعة علماء السوء الذين وقفوا يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، وكثير من الناس يستند إلى كلام هؤلاء الناس ويقول: "اجعلها في رقبة عالم واخرج منها سالم"، أو: "من قلد عالماً لقي الله سالماً" وينسبون ذلك جوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هذه الآية بعكس قولهم، فهي تذم التقليد وتذم الانقياد لعلماء السوء، خاصة أن الله سبحانه وتعالى يطفئ نورهم ويجعل على كلامهم ظلمة، ولا يقبلها حتى عوام الناس الذين لا يفقهون ولا يعلمون، ويكون الضلال في كلامهم بحيث لا يفتن به إلا صاحب هوىً له في نفسه غرض، فيسوغ الباطل كتعاطي الربا والتعامل مع البنوك، بحجة أن المفتي قال كذا والعياذ بالله. فلا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول علماء السوء. وتدل الآية على أن الداعي إلى الضلال مضل، كما تدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له، وتدل أيضاً على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة، بخلاف الاشتراك في محن الدنيا. فإن الناس يقولون: إن المصيبة إذا عمت طابت، وكما تقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فإذا شملت المصيبة عدداً كبيراً هانت على الإنسان، وهذا نحسه حتى في أشياء دقيقة، فلو أن أحداً وهو ذاهب إلى الكلية أو إلى العمل وتأخر قليلاً ثم رأى ناساً معه متأخرين، فالمصيبة تخف عليه، وإحساسه بالتقصير يخف؛ لأن ناساً معه في نفس هذا الشؤم، فالمصيبة إذا عمت طابت. فلا يظن ظان أن الحال سيكون كما كان عليه في الدنيا، بأنهم إن اشتركوا جميعاً وتوحدت الآلام والمحن سيحصل نوع من المواساة، فإنهم سيحرمون من هذا الشعور، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. وتدل الآية على أن ذلك الإضلال فعلهم، وهذا يبطل قول المجبرة في المخلوق والهدى والضلال.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40]. ((لا تفتح لهم)) أي: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله، أي لا يقبل ذلك منهم؛ لأنه ليس صالحاً ولا طيباً، ومن شرط العمل الصالح أن يبنى على الإيمان، وأن يقتدى فيه بالرسول عليه السلام، وأن يراد به وجه الله، وما علق على أكثر من شرط لا يتحقق بشرط واحد، بل لابد أن تجتمع فيه كل الشروط، وإلا عدم الفعل. فالعمل الصالح الذي يقبله الله لابد أن يكون صاحبه أولاً موحداً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97]، فلابد أن يكون موحداً، ثم لابد أن يكون مخلصاً خالياً من الرياء. والثالث: لابد أن يكون عمله موافقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فلا يرفع هذا العمل إلى السماء؛ لأن الله قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] قال ابن عباس: أي لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء. أو أن المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة ولا يغاثون؛ لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:11]. أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء، ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة. على ما روي أن الجنة في السماء. أو المعنى: لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا أبواب السماء كما تفتح لأرواح المؤمنين، وقد ورد في ذلك حديث طويل عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه. والشاهد منه أنه ذكر في قبض روح الفاجر: (وأنه يصعد بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه فيأتون بها إلى السماء فيستفتحون فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ))) إلى آخر الآية، فكون السماء لها أبواب وأن هذه الأبواب تفتح للدعاء الصالح وللأعمال الصالحة أو للأرواح وارد في النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويلها ولا ينبغي أبداً أن يؤول قوله تعالى: ((لا تفتح لهم أبواب السماء)) بل يقال: هي أبواب حقيقية تفتح كما ذكرنا. كذلك التضعيف في قوله: ((تفتَّح)) ليس لتكثير الفعل وإنما هو لتكثير المفعول مناسبة للمقام، كذلك قرئ بالتخفيف في: (تفتح)، وبالياء: (يفتح)، وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب يعني: لا يفتح الله لهم. وقوله: ((وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) هذا من باب تعليق الأمر على شيء مستحيل، كأن تقول مثلاً: أزورك عندما يشيب الغراب، والغراب لا يشيب. ((حتى يلج الجمل)) يعني: يدخل الجمل ((في سم الخياط)) يعني: في ثقب الإبرة، وهل من الممكن أن يمر الجمل من ثقب الإبرة؟! هذا غير ممكن، فكذلك دخولهم الجنة غير ممكن؛ لأنه علق على شيء لا يقع. وقد قرأ الجمهور: ((الجمل)) بفتح الجيم والميم: وفسروه بأنه الجمل المعروف، وهو البعير، قال الفراء: الجمل زوج الناقة، وقال شمر: البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة، وقرئ في الشواذ: (الجُمَّل)، كسكّر، و (الجُمَلِ) كسُرَر، و (الجُمْل) كقفل، و (الجُمُل) كعنق. والجمّل كسكر هو حبل غليظ جداً من الحبال التي يستعملها الملاحون، فهذه الحبال الكثيفة في السفينة لا يمكن أن تمر من ثقب الإبرة، لكن هذه القراءة الأخيرة شاذة. وقال أبو البقاء: يقرأ في الشاذ بسكون الميم الجَمْل، والأحسن أن يكون لغة؛ لأن تخفيف المفتوح ضعيف، ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها الذي هو: الجُمّل وهو: الحبل الغليظ، وهو جمع مثل: صوّم وقوّم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل: أَسَد وأُسُد، ويقرأ كذلك بها إلا أن الميم ساكنة. وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة لغات في البعير ما عدا جمّلاً كسكّر وجملاً كقُفْل، ونوقش في ذلك. قال الزمخشري: وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الله سبحانه وتعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، لأن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه. إلا أن قراءة العامة التي هي (الجمَل) أوقع؛ لأن سم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، والمقصود من ثقب الإبرة مجرد التشبيه، يقال: أضيق من خرق الإبرة، وقالوا للدليل الماهر الذي يكون خبيراً بالطرق والدروب والمسالك في الصحراء (خريت) لأنهم إذا أرادوا أن يمروا في المضايق والطرق الملتوية أو غير المعلومة يبدأ هو أولاً ثم يقود من معه، فقالوا للدليل الماهر (خريت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخراق الإبر، والجمل مثَل في عظم الجرم وعظم الجسم، وسم الإبرة مثَل في ضيق المسلك، كما يقول حسان بن ثابت: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم جسم البغال وأحلام العصافير وفي رواية أخرى في الديوان: (جسم البغال وأحلام العصافير) وأحلام: المقصود بها العقول. فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان في ثقب الإبرة، فالجمل المقصود به ضرب المثل في ضخامة الجثة، وثقب الإبرة المراد به ضرب المثل في ضيق المسلك أو المنفذ. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: (زوج الناقة) استجهالاً للسائل. وإجابة ابن مسعود بهذه الإجابة فيها أولاً: الاستجهال للسائل وثانياً: إشارة إلى أن البحث وتطلب معنىً آخر غير هذا المعنى المتبادل نوع من التكلف غير حميد. وخلاصة الكلام أن الجمل لما كان مثلاً في عظم الجسم لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب، وخرق الإبرة مثلاً في الضيق، ظهر التناسب، على أن في التفسير بالجمل وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة. وعكس هذا الكلام حكاه الزمخشري عن ابن عباس قال: الجُمَّل أنسب من الجَمَل؛ لأن الجُمَّل هو الخيط الغيلظ؛ لكن بين القاسمي رحمه الله تعالى أن إيثار الجَمَل أفضل، ومعلوم أنه ليس من شأنه أن يمر من ثقب الإبرة، فكذلك الكفار ليس من شأنهم أصلاً أن يدخلوا الجنة، فهنا ظهر التناسب بهذه الصورة، فهذه فيها مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة. أما السم فهو الثقب الضيق، قال أبو البقاء: بفتح السين وضمها، ويقال أيضاً في القاتل المعروف: السُّم، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنبيه، والأفصح فيما يشرب ليقتل أنه بالضم (السُّم). وقال الزبيدي: لم أر من تعرض لكسرهما وكأنها عامية: وهي فعلاً عامية، والأفصح أن تقول في الثقب السَم، وفي القاتل السُم. وقال الزمخشري: وقرأ في سم الخياط بالحركات الثلاثة. وكفى به مرجعاً. "الخياط" ككتاب ما خيط به الثوب والإبرة، قال الزمخشري: وقرأ عبد الله (في سم المخيط) وهي قراءة شاذة. قال السيوطي في الإكليل: في قوله تعالى: ((حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)) جواز فرض المحال والتعليق عليه كما يقع كثيراً للفقهاء، والتعليق على المحال معروف في كلام العرب، كقوله: إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب يعني: فلن يأتيهم أبداً؛ لأن الغراب لا يشيب. (وصار القار) وهو الزفت الأسود الذي ترصف به الشوارع أبيض (كاللبن الحليب). ((وكذلك نجزي المجرمين)) مثل هذا الجزاء الفظيع.

تفسير قوله تعالى: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين)

تفسير قوله تعالى: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين) قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41]. ((لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ)) يعني: فرش من تحتهم. ((وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)) أي: أغطية، إذ أحاطت بهم جهنم كما أحاطت بهم الخطيئة من كل جانب: ((وأحاطت به خطيئته)) وهي الشرك يحيط به من كل جانب، كذلك العذاب يحيطه من كل جانب. ((وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ)) أصلها الغواشي: أغطيه، إذ أحاطت بهم الخطيئة. ((وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)) أي: بالكفر، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين، وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور، تنبيهاً على أنه أعظم الجرائم.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها هم فيها خالدون)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلا وسعها هم فيها خالدون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42]. ثم أتبع الله سبحانه وتعالى وعيده بوعده على طاعته سبحانه عز وجل في تنزيله الكريم فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف:42] الذين آمنوا: مبتدأ والخبر فيه وجهان، إما الخبر لا نكلف نفساً إلا وسعها يعني: فحذف العائد كما حذف في قوله: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]. القول الثاني: إن الخبر {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [البقرة:82]، (ولا نكلف) هذه معترض بينهما، والوسع ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويسر، أما أقصى الطاقة فيسمى جهداً لا وسعاً، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.

تفسير قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون)

تفسير قوله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون) قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]. ((ونزعنا ما في صدورهم من غل)) أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعداوة أو نطهرها منها، حتى لا يكون بينهم إلا الثواب والتعاطف؛ لأن أهل الجنة كما في الحديث يدخلون الجنة ووجوههم مثل البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد، لا يوجد بينهم نزاع ولا غل ولا أحقاد ((ونزعنا ما في صدورهم)) وهنا عبر عن المستقبل بالماضي إيذاناً بتحققه وتقرره. ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)) هدانا لما جزاؤه هذه الجنة، أي لأسباب هذا العلو بإرسال الرسل والتوفيق للعمل. ((وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)) أي: ما كنا لنصل لذلك العمل الذي هذا ثوابه لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته. وهم يقولون ذلك: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به، لا تقرباً ولا تعبداً؛ لأن الجنة ليست دار تكليف وعمل، كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك ألا يقوله للفرح والتوبة. ((لقد جاءت رسل ربنا بالحق)) يعني: فاهتدينا بإرشادهم. ((وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا، فالميراث مجاز عن الإعطاء، إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجباً وإن كان سبباً بحسب الظاهر، أي أن الأعمال ليست أسباباً موجبة لدخول الجنة، لكنها أمارات مخيلة، لأن من وفق إليها فإنه يكون من أهل الجنة، كما أن الإرث ملك بدون كسب، وإن كان النسب مثلاً سبباً للإرث، وعلى ما تقرر فلا يقال: إنه معارض لما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، ولا يحتاج إلى الجواب عنه، ولا أن يقال: الباء للعوض لا للسبب، وهذا تمجيد للوعد بإثابة المطيع، لا بالاستحقاق والاستيجاب، بل هو بمحض فضله تعالى كالإرث، فالباء هنا: (بما كنتم تعملون) ليست باء العوض، كما تشتري ثوباً وتقول: اشتريته بكذا، أي أن الثمن مقابل للسلعة، والعمل الذي تعمله في الدنيا لا يساوي الخلود في جنات النعيم، والفارق شديد، وفي شرح هذا الحديث يطول الكلام، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مفصلة ومفيدة فيه، نرجو أن تأتي فرصة أخرى ونفصل فيها. وروى الإمام مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً)، فذلك قوله عز وجل: ((ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)).

تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار وهم بالآخرة كافرون)

تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار وهم بالآخرة كافرون) قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:44 - 45]. ((وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)) الكلام هنا عن أصحاب الجنة بعدما استقروا في منازلهم في الجنة، ((أَصْحَابَ النَّارِ)) توبيخاً وتحقيراً لهم ((أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا))، حيث نلنا هذه المراتب العالية. ((فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا))، يعني: من تنزيلكم أسفل سافلين لاستكباركم على الآيات والرسل ((قَالُوا نَعَمْ))، يعني: وجدناه حقاً. ((فَأَذَّنَ)) أي: نادى ((مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ)) أي: بين الفريقين ليسمعهم، زيادة في شماتة أحد الفريقين، وزيادة في ندامة الآخر. ((أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) من هم هؤلاء الظالمون؟ ((الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم الذي بينه على ألسنة رسله لمعرفته وعمارة الدارين، ((الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)) [الأعراف:45] أي: يبغون لها زيغاً وميلاً عما هي عليه حتى لا يتبعها أحد. ((وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ)) أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون فيأتون المنكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يرجون حساباً عليه ولا عقاباً فهم شر الناس. وقد سبق أن بينا حكمة وصف الكافرين بأنهم لا يؤمنون بالآخرة، لأن الإيمان بالآخرة ينعكس في سلوك المؤمن، أما إذا كان لا يؤمن بالآخرة فلن يخشى عقاباً ولن يرجو ثواباً، وما أحسن ما صدر الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى أحد مصنفاته، حيث كان يهدي في الصفحات الأولى من الكتاب إلى والده، فيقول ما معناه: إلى أبي الذي علمني أن أقول دائماً لمن يظلمني ومن يتجنى علي: إنه لولا الإيمان باليوم الآخر لكان لنا معه شأن آخر. إيمان المؤمن باليوم الآخر يجعله إذا ظلم ينتظر أن ينصفه الله في الآخرة، وينتظر ثواب الله عز وجل، فيعزيه ذلك على ما يلقاه من الآلام، أما إن كان لا يؤمن باليوم الآخر فإنه يتغير مسلكه تماماً، كما يفعل هؤلاء الملاحدة والمجرمون من الكافرين الذين لا يحرمون حراماً ولا يحلون حلالاً، وإنما يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، هذه ثمرة الإلحاد وثمرة الكفر، وثمرة العقيدة الفاشلة، فلذلك قال عز وجل هنا: ((وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ))، فبالتالي لم يخافوا عقاباً ولم يرجوا ثواباً.

تفسير قوله تعالى: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال)

تفسير قوله تعالى: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال) قال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}. ((وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ)) أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار؛ ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى، وقد سمي هذا الحجاب سوراً في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]. ((وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ)) أي: على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، والأعراف: جمع عرف مستعار من الشيء العالي فيقال: من عرف الفرس لأنه عال، وعرف الديك لأنه عال، وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض، يعرف لأنه ظاهر مما انخفض فكان أسفل، فالأعراف هذا جمع عرف وهو: السور الذي يكون بين الجنة والنار أو بين أهل الجنة وأهل النار. وقد حكى المفسرون أقوالاً كثيرة في رجال الأعراف عن التابعين وغيرهم: فقال بعض المفسرين: هم فضلاء المؤمنين، أو: هم الشهداء أو: هم الأنبياء، وأن الحكمة من وجودهم على سور الأعراف أن يرقبوا مصير المؤمنين ومصير الكافرين ويشهدوا نعمة الله عليهم. أو: هم قوم أوذوا في سبيل الله فاطلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم فعرفوهم بسيماهم وسلموا على أهل الجنة، واللفظ لإبهامه يحتمل ذلك، فقوله تعالى: (رجال) مبهم، لم يقطع القرآن الكريم بهوية هؤلاء الرجال، إلا أن السياق يدل على سمو قدرهم لاسيما لجعل منازلهم الأعراف؛ لأن الأعراف هي الأعالي والشرف كما تقدم. ((يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)) يعني: يعرفون كلاً من أهل الجنة والنار بعلاماتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه في المؤمنين، وسواد الوجه في الكافرين، والسيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيماء بكسرهن: العلامة، من سام إبله إذا أرسلها في المرعى، أو من وسم -على القلب- كالجاه من الوجه. ((وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ)) والذين نادوا هم رجال الأعراف، (نادوا أصحاب الجنة) وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة. ((أن سلام عليكم)) بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره، والوجه الأول -الذي هو الدعاء والتحية- مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة؛ ليعرفوا من في الجنة، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله من أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام. ((لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ))، الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية: حال من فاعل يدخلوها، أي: نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد، حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين. فإن قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلم تأخر دخولهم؟! قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء، وإن تأخر دخولهم لظهور فضلهم وجلالة طريقهم إلى منازلهم. فهذا هو الجواب الذي قاله الجشمي. يقول القاسمي: ولا يبعد عندي أن تكون جملة (لم يدخلوها وهم يطمعون) حالاً من أصحاب الجنة، أي: نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة، يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة وعلو منازلهم على سواهم، والله تعالى أعلم. وذهب أبو مجلز: إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة أي: نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، وهو وجه جيد، فالجملة الأولى: حال من المفعول وهو أصحاب الجنة، والثانية: حال من فاعل يدخلوها.

الأعراف [47 - 54]

تفسير سورة الأعراف [47 - 54]

تفسير قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار)

تفسير قوله تعالى: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47]. (وإذا صرفت أبصارهم) يعني: إذا صرفت أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة. (تلقاء أصحاب النار) لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم، فأما أهل الجنة فوجوههم متوجهة إليهم سروراً بهم، فلا يحتاجون إلى تكلف؛ لأن الأصل أنهم مقبلون على أهل الجنة ومقبلون على النظر إلى الجنة- فهذا هو الوضع الأصلي لهم، لكن إذا نظروا إلى أهل النار فإنهم يحتاجون إلى أن تصرف وجوههم إلى أهل النار، ففيها نوع من التكلف، لأن هذا نظر عداوة. وقيل: لأنهم مع أهل الجنة بعداء من أهل النار، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار. وهذه الآية تدل على وجوب اجتناب الظلمة في الدنيا كي لا يكون المرء معهم في الآخرة، وذلك لقوله: ((وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) ففيها إرشاد إلى تجنب كلّ ما يجعل الإنسان محشوراً أو مرتبطاً أو متواجداً مع القوم الظالمين. قوله عز وجل: (تلقاء أصحاب النار) يعني: إلى جهة أصحاب النار، (قالوا) من شدة خوفهم تعوذاً بالله: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) في النار. وقال أبو السعود: في وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء، إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم. أي: لم يقولوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم المعذبين) إشارة إلى السبب الذي أداهم إلى سوء العذاب.

تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون)

تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48]. (ونادى أصحاب الأعراف رجالاً) يعني: من عظماء أهل الضلالة (يعرفونهم بسيماهم) بعلاماتهم التي تدل على أعيانهم وعلى أشخاصهم، حتى وإن تغيرت صورهم. (قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أي: كثرتكم، والمقصود بها إما الجمع العددي، وهي الكثرة الكاثرة، أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات، فالإنسان إذا كان معه مال يدفع الآفات عن نفسه بالعلاج وبغيرها من الأسباب. (وما كنتم تستكبرون) عن الحق أو على الخلق، والمعنى: ولم ينفعكم استكباركم على الحق أو على خلق الله عز وجل، وقرئ: (وما كنتم تستكثرون) من الكثرة، يعني تستكثرون من الأتباع الذين يستعان بهم أيضاً في دفع الملمات. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم، وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، أي: ماذا نفعكم جمعكم؟ ثم نظروا إلى الجنة فرأوا فيها من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم ويحتقرونهم ويزدرونهم في الدنيا لفقرهم وضعفهم، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)). أي: أهؤلاء الضعفاء من المؤمنين الذين أقسمتم وأنتم في الدنيا لا ينالهم الله برحمة، وهذا لأنكم قلتم: كما قد أعطانا الله المال والبنين في هذه الدنيا، فلابد أنه سيفضلنا في الآخرة؛ لأنه ما أعطانا ذلك إلا لكرامتنا عليه عز وجل، {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، هكذا كان الكافر يمني نفسه ويغرها {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17] يعني: ليس الأمر كما تزعمون، فإن الدنيا يعطيها الله سبحانه وتعالى من يحب ومن لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا من أحب. ويكفي من هوان الدنيا على الله سبحانه وتعالى أنه ترك أحب الخلق إليه وأفضلهم وأكرمهم عليه وهم الأنبياء والرسل يبتلون فيها ويؤذون ويقتلون ويجرحون ويضطهدون من قومهم، فدل على أن الدنيا ليست دار جزاء، لكن العبرة بالآخرة؛ فلذلك يقول أصحاب الأعراف: ((أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ)) أي: بأن لا يرفع درجاتهم في الآخرة، فهاهم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون. ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ)) (لا خوف عليكم) أي: من العذاب الذي ينزل بالكفار، (ولا أنتم تحزنون) كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف بعضهم لبعض بعدما يبكتون أهل النار ويوبخونهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:47 - 48]. والاحتمال الثاني: هو أنه من كلام أهل الأعراف للمؤمنين الضعفاء، حيث إنهم قالوا للكفار: (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) ثم يلتفت أصحاب الأعراف إلى المؤمنين فيقولون لهم: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون). والاحتمال الثالث: أنه من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، أي: كأنه قيل لهم: انظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة، كيف نالوا هذه الرحمة؛ حيث قيل لهم من قبل الله تعالى: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون). وعلى كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازاً للعلم به، والعلم به من السياق: فإما أن أصحاب الأعراف يتآمرون بينهم، ويدعون بعضهم بعضاً لدخول الجنة. أو إما أن أهل الأعراف يقولون ذلك للمؤمنين. وإما أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقول ذلك للمؤمنين.

تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء)

تفسير قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء) قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. ثم بين تعالى ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم -بعد التكبر عليهم، وبعدما أقسموا لا ينالهم الله برحمة- وأنهم لا يجابون إلى ذلك. (أن أفيضوا علينا من الماء) أي: الذي رحمكم الله سبحانه وتعالى به ليسكن حرارة النار والعطش. وإنما قالوا (أفيضوا) لأن الإفاضة تكون من أعلى إلى أسفل، وأهل الجنة أعلى مكاناً، والمعنى: أنزلوا علينا، (من الماء أو مما رزقكم الله) من الأطعمة والفواكه؛ لأن أهل النار يعذبون بكل أنواع العذاب، وبما لا يعلمه على حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى، سواء كان الجوع أو العطش أو الضيق والزحام أو الظلمة أو النار أو العقارب والحيات وغير ذلك من أنواع العذاب. والحقيقية أن الإنسان إذا تخيل هذا العذاب الذي يكون في جهنم والتي نارها ضعف نار الدنيا سبعين مرة، فإنه لا يهنأ عيشاً ولا يطيب له طيب ولا يقر له قرار!. وهذه الآية مما يدل على أنهم يعانون العطش والجوع، وإذا قدر للإنسان أن يدخل عنبر الحرائق في أي مستشفى عمومي؛ لوجد العناء الذي يعني يلاقيه من يحرق حرقاً، وكيف يصرخ هؤلاء المرضى طلباً لرشفة ماء واحدة فقط من شدة تعطشهم إلى هذا الماء. فكيف يكون الحال إذا كان الحريق أضعافاً مضاعفة؟! فهؤلاء يعانون الجوع ويعانون العطش: (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) هاهم الآن يتذللون لهم، ويؤملون أن يفيضوا عليهم مما أتاهم الله سبحانه وتعالى من الأطعمة والفواكه. (قالوا إن الله حرمهما على الكافرين) يعني منعهما عنهم؛ لأنه أنعم عليهم في الدنيا فلم يشكروه، فمنعهم نعمه في الآخرة وحرمها عليهم، فالتحريم هنا هو تحريم منع وليس تحريماً شرعياً؛ لأن الآخرة ليس دار تكليف.

تفسير قوله تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا) ثم وصف الكافرين بقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:50 - 51]. (الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً) يعني: مما زينه لهم الشيطان، واللهو: كل ما صد عن الحق، واللعب: كل أمر باطل، أي: ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك، فبدل الدين الذي هو عبادة الله عز وجل وتوحيده، إذا بهم يتخذون اللهو واللعب ديناً، إذ هو دأبهم وديدنهم. (وغرتهم الحياة الدنيا) أي: بزخارفها العاجلة، فلم يعملوا للآخرة. (فاليوم ننساهم) أي: نتركهم ترك المنسي، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة. (كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي: كما فعلوا بلقائه فعل الناسين فلم يخطر ببالهم ولم يهتموا به. قوله تعالى: ((وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)) أي: وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تبارك وتعالى. روى الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: (قالوا يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب؟)، يعني: إذا نظر الناس وقت الظهيرة إلى السماء وليس هناك سحاب فهل يضار بعضهم بعضاً إذا أرادوا أن يروا الشمس؟! ومعلوم أن الشيء إذا كانت رؤيته غير واضحة فمن الممكن أن يزدحم الناس عليه، فهذا يدفع هذا وهذا يدفع ذاك لعدم وضوح الشيء المرئي، فيؤذي بعضهم بعضاً من شدة المدافعة أو الزحام أو عدم وضوح الرؤية؛ لكن هل يتصور أن يحتاج الناس إلى المضارة بينهم حتى يتحققوا من وجود الشمس في السماء وقت الظهر؟! لا شك أنهم لا يضارون في ذلك، ولا ينضم بعضهم إلى بعض، كما في بعض الروايات: (لا تضامون)، من شدة وضوح الرؤية. (هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، قال: فيلقى العبد فيقول: أي فل -اختصار لفلان- ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي ربي، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، أمتني بخير ما استطعت، فيقول: هاهنا إذاً، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليه، فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله؛ وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه). فالشاهد هنا في الحديث قوله: (فاليوم أنساك كما نسيتني).

تفسير قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدىً ورحمة لقوم يؤمنون) قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52] ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا، بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وأن الحجة قامت عليهم، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، فذكر أن سبب هذا الشقاء هو من عند أنفسهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، يقول تعالى: ((وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ)) أي: بينا فيه الاعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلاً مبيناً. (على علم) أي: عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء محكماً قيماً غير ذي عوج، هذا كقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء:166]. (هدى) أي: دلالة ترشدهم إلى الحق وتنجيهم من الضلالة. (ورحمة) أي: ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه. (لقوم يؤمنون): لأن المؤمنين هم المغتنمون لفوائده.

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله)

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله) قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف:53]: (هل ينظرون إلا تأويله) يعني: ما ينتظرون إلا ما يئول إليه أمر هذا الكتاب الذي جئناهم به من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، ومعنى التأويل هنا: عاقبة الأمر، وما يئول إليه هذا الأمر، وذلك حين يتبين صدقه بأن يظهر ما نطق به القرآن من الوعد والوعيد، لهؤلاء الذين يسمعون القرآن في الدنيا. والمعنى: ما الذي يمنعهم من الإيمان بالقرآن الكريم؟ هل ينتظرون إلا وقوع أخبار هذا القرآن من الوعد والوعيد يوم تقوم الساعة وتأتي القيامة؟ فالنظر هنا بمعنى الانتظار، وليس من الرؤية. والتأويل بمعنى: العاقبة وما يقع في الخارج، وهذا هو أصل معنى كلمة التأويل، ويطلق على التفسير أيضاً، كما كان يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: القول في تأويل قوله تعالى: كذا وكذا، وذكر القاسمي في تفسيره أن التأويل هو: التفسير، لكن أصل معنى التأويل هو العاقبة وما يئول إليه الشيء. والمعنى: أنهم قبل وقوع ما هو محقق كانوا منتظرين له؛ لأن كل آت قريب، فهم على وشك ملاقاة ما وعدوا به، فلا يقال: كيف ينتظرونه مع جحدهم، فإنهم وإن جحدوه إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم، من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة، فسواء آمنوا أم جحدوا، فإنهم في الحقيقة ينتظرون هذا الأمر القريب منهم جداً. (يوم يأتي تأويله) يعني: يوم القيامة لأنه يوم الجزاء، فهو اليوم الذي تئول إليه أمورهم، وعاقبة ما فعلوه في الدنيا، (يقول الذين نسوه من قبل) يقول الذين تركوه ترك المنسي حين كان ينفعهم الذكر، فتركهم كان كترك الشخص الناسي للشيء تماماً؛ لأنهم بالغوا في عدم الاستعداد للآخرة، وعدم الانتفاع بالذكر الذي أنزل عليهم وكأنهم نسوه، وكأنهم ما كانوا على ذكر منه على الإطلاق، فهم تركوه في الوقت الذي كان ينفعهم الإيمان به وينفعهم فيه التذكر، وينفعهم فيه اليقين، وهو دار الابتلاء، فلم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب. ((يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ))، فمعنى ذلك: أنهم لم يؤمنوا به إلا عند معاينة العذاب، فالكفار يؤمنون إيماناً صادقاً عند معاينة العذاب، ومثل هذا الإيمان لا ينفع ولا يجدي، فحينئذ يقولون كما أخبر الله عنهم: ((قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ))، وهذا كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] أي نحن مصدقون الآن، لكن هذا لا ينفع في دار ظهور النتيجة، إنما العبرة بذلك في دار الابتلاء ودار الامتحان وهي الدنيا. (قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي: أننا الآن نشهد بذلك، فهم لما عاينوا العذاب، ولما رأوا أهوال يوم القيامة قالوا: ((قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ))، يعني: بما هو واقع من الاعتقادات والوعد والوعيد، فهم أنفسهم سيعترفون ويقولون: إن الرسل قد أتوا وأخبرونا بالحق، وهذا الذي نراه مطابق تماماً لما قالوه ونحن مؤمنون بهم ومصدقون ((فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا)) يعني: في إزالة العذاب ((أَوْ نُرَدُّ)) إلى الدنيا من جديد، ((فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ))، من الجحود واللهو واللعب وأعمال الدنيا، قال عز وجل: ((قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ)) يعني: أنهم صرفوا أعمالهم في الكفر، ((وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله سبحانه وتعالى، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين. فانظر إلى رحمه الله سبحانه وتعالى بعباده، حيث أقام عليهم الحجة من كل جانب، وتفاصيل الحوار والمناظرة والشبهات وما يقولونه يوم القيامة كله موجود الآن في القرآن الكريم، وهذه الأشياء ذكرها الله سبحانه وتعالى رحمة وتلطفاً بعباده؛ لأنها ستقع. لو فرض أن الإنسان اعوج عن صراط الله المستقيم، وأصر على ذلك إلى أن مات والعياذ بالله، ثم جاء يوم القيامة وبعث ونشر فإنه سيقول: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، فهو يطلب العودة إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فليفترض أنه قد وقع ذلك، وأنه الآن قد رجع إلى الدنيا ليستدرك ما فات، فعليه أن يعمل الصالحات ولا يفرط في أوامر الله، ولا يفرط الإنسان حتى يموت، فيكون ممن قال الله تعالى فيهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. وهذا أمر واقع نشاهده في أحوال الناس، فالذي تنزل به الملمة والمصيبة يستيقظ رصيد الفطرة في قلبه، ويضل عنه كلَّ ما كان يدعو من دون الله، ويفرد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد وبالدعاء وبالإخلاص، ويعاهد الله سبحانه وتعالى أن سيتوب إذا فرجت عنه هذه الكربة، وبعدما تفرج يعود إلى ما كان عليه من قبل، وينسى ذلك العهد الذي عاهد الله سبحانه وتعالى!! ((قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)).

كلام الشنقيطي على مساءلة الكفار وندمهم

كلام الشنقيطي على مساءلة الكفار وندمهم يقول العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} ذكر تعالى في هذه الآيات الكريمة أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار يعرفونهم بسيماهم: لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا، وبين في مواضع أخر وجه ذلك، وهو أن الإنسان يوم القيامة يحشر فرداً لا مال معه ولا ناصر ولا خادم ولا خول، وأن استكباره في الدنيا يجزى به عذاب الهون في الآخرة، كقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]، وقوله عز وجل: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80]، فلا حشم ولا حرس ولا أي شيء من هذا، وقوله عز وجل: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، وقال عز وجل: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20]. أما قوله تعالى: ((يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)). فيقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة، يقرون بأن الرسل جاءت بالحق ويتمنون أحد الأمرين: أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد؟ وهل يردون؟ وماذا يفعلون لو ردوا؟ فهي ثلاثة أسئلة لم يبينها القرآن الكريم في هذا الموضع، لكن بينتها مواضع أخر من القرآن الكريم. فبين أنهم لا يشفع لهم أحد لقوله عز وجل: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101]، كقوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وهذا مع قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، فهذا نص على أن الكافر ليس ممن ارتضاه الله سبحانه وتعالى فلا شفاعة له وقوله عز وجل: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:12 - 13]، فقوله عز وجل: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم) هذا دليل على أن النار وجبت لهم فلا يردون ولا يعذرون، ومنها قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، وذلك يوضحه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أخره حتى بلغ ستين سنة)، فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا بالإمهال مدة يتذكرون فيها، وإنزال الرسل هو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله: جواباً لقولهم لما قالوا: ((أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل)) فجاءهم A بأنه قد فاتت الفرصة، ((أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال)) فمعنى ذلك أن الله لن يقبل عذرهم. وقال عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر:12]، وهذا جاء بعد قوله تبارك وتعالى حاكياً عنهم: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11]. وقال عز وجل أيضاً: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45] وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44]. وقوله هنا: (قد خسروا أنفسهم) بعدما قال عز وجل: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد) إلى آخره، يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه. وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان، وهو قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]. وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد، كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى، وهذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به في قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم: (قد جاءت رسل ربنا بالحق) لا ينفعهم، كقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11]، وقوله: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، ونحو ذلك من الآيات.

تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام)

تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] لم يفصل هنا في ذلك، ولكنه فصله في سورة فصلت، فقال عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:9 - 12]. فقوله هنا عز وجل: (إن ربكم الله) أي: إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس هو الله الذي أنشأ أعيان السماوات والأرض في مقدار ستة أيام، وكلمة (اليوم) في اللغة هي: مطلق الوقت، فإن أريد هذا فالمعنى في ستة أيام يعني: في ستة أوقات كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال:16] يعني: وقتئذ، فعبر عن الوقت باليوم، وإن أريد اليوم المتعارف وهو الزمن الذي بين طلوع الشمس وغروبها، فالمعنى في مقدار ستة أيام؛ لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسماوات، كما في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]، ثم قال عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11]، إلى آخر الآيات. وفي شرح القاموس: أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والثاني هو تعريف شرعي عند الأكثر. ويستعمل (اليوم) أيضاً بمعنى: مطلق الزمان كما قال سيبويه ومثل لها بقوله: أنا اليوم أفعل كذا، فهم لا يريدون يوماً بعينه، إنما يريدون الوقت الحاضر فقط، وبه فسروا قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] يعني: في هذا الوقت أكملت لكم دينكم، وكما في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (بين يدي الساعة أيام الهرج يزول فيها العلم ويظهر فيها الجهل)، وأيام الهرج تعني: وقت وأزمنة الهرج، وبالتأكيد أن اليوم في هذه الحالة لا يختص بالليل ولا بالنهار، إنما يقصد به الوقت، وأيام الهرج يعني: زمان الهرج. وقال ابن كثير: يخبر تعالى أنه خلق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام: الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، وفيه اجتمع الخلق كلهم، وفيه خلق آدم عليه السلام، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام، كما هو المتبادر إلى الأذهان، أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، يعني: هل هي من أيام الله: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أم أنها كأيام الدنيا المعروفة، فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت ومعناه: القطع. أما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الإثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر يوم الجمعة، آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل). فهذا الحديث رواه مسلم والنسائي من غير وجه، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: ((فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ))؛ ولذلك تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وذلك أن في خلق الأشياء بهذا التدرج حثاً على التأني في الأمور، مع أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلقها كلها بقوله: كن فتكون، لكن في ذلك حث على التأني في الأمور.

الكلام على الاستواء

الكلام على الاستواء ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، اعلم أن الاستواء ورد على معانٍ اشترك لفظه فيها، فجاء الاستواء بمعنى: الاستقرار، ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] يعني: استقرت على جبل الجودي، ويأتي بمعنى: القصد، ومنه قوله عز وجل: ((ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)) [فصلت:11]، وذلك إذا تعدى بحرف إلى. وكل من فرغ من أمر وقصد لغيره فقد استوى له واستوى إليه، قال الفراء: تقول العرب: استوى إلي يخاطبني يعني: أقبل إلي يخاطبني، ويأتي الاستواء بمعنى: الاستيلاء كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق لكن يقطع بعض العلماء المحققين بأن هذا البيت مصنوع وليس صحيحاً، لكن نحن نتعرض له لأنه يكثر استدلال بعض الناس به. فإذا كان البيت مصنوعاً فلا يبقى هناك شاهد لهذه اللغة، وهو استعمال الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقال آخر أيضاً: فلما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وكاسر وإن كان هذا الشعر لم يعرف قائله. ويأتي الاستواء بمعنى العلو، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:28]، ومنه هذه الآية فهي من الاستواء بمعنى: العلو، أي: قوله تعالى: (ثم استوى على العرش). قال البخاري في آخر صحيحه، في كتاب الرد على الجهمية في باب قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] قال مجاهد: استوى: علا على العرش. وفي كتاب العلو للحافظ الذهبي قال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول: الرحمن على العرش استوى أي: ارتفع. ونقل ابن جرير عن الربيع بن أنس أنه بمعنى ارتفع، وقال: إنه في كل مواضعه بمعنى: علا وارتفع. وأقول: لا حاجة إلى الاستكثار من ذلك، فإن الاستواء غير مجهول، وإن كان الكيف مجهولاً، فالكيف يقال للشيء الذي سبق أن تعرفت عليه من قبل أو رأيته، فترسم صورة في ذهنك لهذا الشيء، بحيث إنك إذا غبت عنه فقيل لك مثلاً: كيف شكل السيارة؟ فإنك تتذكر هذه الصورة، ولو فرض أن إنساناً من يوم أن خلقه الله لم ير شيئاً اسمه سيارة، فلن يعرف أية سيارة؛ لأنه ما رآها، لكن إذا كان قد رآها من قبل وارتسمت لها صورة في ذهنه، فإنه إذا قيل له: سيارة يقفز إلى ذهنه السيارة، إذا قيل: طائرة يعرف ما هي الطائرة وهكذا، فمن رأى الله سبحانه وتعالى حتى يكيف لنا الاستواء على العرش؟! هذا مما لا أمل فيه على الإطلاق، قد آيسنا الله سبحانه وتعالى أن نطلع على هذه الكيفية؛ فلذلك لا يقال لله عز وجل: كيف؟ فلا يعرف كيفه إلا هو سبحانه وتعالى {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. وكما ضربنا المثال مراراً على أننا نعجز عن معرفة كثير من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وذكرنا لكم قصة ذلك الرجل أو ذلك الشاب الذي كان يقع في التشبيه والتجسيم والعياذ بالله، فأتاه أحد العلماء الحديث الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الحقيقية وله ستمائة جناح، فقال هذا العالم لذلك الشاب: أخبرني عن خلق من خلق الله له ستمائة جناح؟ فحار وما استطاع أن يقول كلمة، فقال له: فأنا أضع عنك سبعة وتسعين وخمسمائة جناح، ويبقى الثلاثة الأجنحة، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ كيف تركب هذه الأجنحة فحار، فقال له: نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال في الجنة: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، والجنة مخلوق من مخلوقات الله، فكيف بالخالق عز وجل؟! ونحن قد أكثرنا من الكلام من قبل في هذا الأمر، وأننا لا نطمح في أن نعرف كيف استوى؟ كيف يد الله؟ كيف عين الله؟ فهذه الأشياء كلها قد توقع الإنسان في التعطيل، حيث إنه أولاً يشبه إذا سمع يد الله يعني: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فإذا وقع من البداية في التشبيه فإنه يفر من التشبيه إلى التعطيل والنفي -والعياذ بالله-. لكن المؤمن الموحد الذي يسلك مسلك السلف الصالح لا يشبه أصلاً، بل يقول: (أمروها كما جاءت)، يعني: لا نكيف ولا نشبه الله سبحانه وتعالى بخلقه، مع القطع والجزم الأكيد واليقين بأن الله ليس كمثله شيء أبداً، ولا يشبه الله سبحانه وتعالى شيء: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] يعني: أنت تثبت لله صفة السمع، فهل سمع الله كأسماعنا؟ وهل بصر الله كأبصارنا؟! فأنت تثبت هذه الصفة مع نفي الكيفية ومع نفي المشابهة، فكذلك سائر صفات الله عز وجل. وقد فصلنا في هذا عند دراسة كتاب العقيدة في الأسماء والصفات للدكتور الأشقر، وتكلمنا في هذا أيضاً في درسنا من قبل كتاب مختصر كتاب العلو.

الأعراف [65 - 72]

تفسير سورة الأعراف [65 - 72]

تفسير قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون)

تفسير قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) قال تبارك وتعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف:65]: قوله تعالى: ((وإلى عاد)) متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى: (أرسلنا)، في قصة نوح، فالمعنى: وأرسلنا إلى عاد. وعاد قبيلة كانت تعبد الأصنام، وكانت ذات بسطة وقوة، قهروا الناس بفضل هذه القوة، وفي كتاب الأنساب، عاد هو: عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، كان يعبد القمر، ويقال: إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف، وأنه نكح ألف جارية، وكانت بلادهم إرم المذكورة في القرآن، وهي من عمان إلى حضرموت. ومن أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة، كذا في تاج العروس. وقال ابن عرفة: قوم عاد كانت منازلهم في الرمال وهي: الأحقاف، جبال من الرمال المستطيلة، {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21]، في جنوب الجزيرة العربية، ما بين عمان إلى حضرموت. وقال ابن إسحاق: الأحقاف: رمل فيما بين عمان إلى حضرموت. ((وإلى عاد أخاهم هوداً)) يعني: أخاهم في النسب، وليس أخاً لهم في العقيدة وفي الإيمان، ولكنه أخاهم في النسب؛ لأنه منهم في قول النسابين. وقيل: الناس كلهم إخوة في النسب؛ لأنهم ولد آدم وحواء، فالمراد أخاهم هوداً يعني صاحبهم هوداً، وواحد من جملتهم، كما يقال: يا أخا العرب! والمقصود واحد من العرب، وإنما قال: ((وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)) إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسولاً منهم من أنفسهم، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله، وأرغب في اقتفائه، فربما إذا كان من قبيلة أخرى يستنكفون عن أن ينقادوا إليه. وأشار الحافظ ابن كثير إلى أن مساكنهم كانت في اليمن، فإن هوداً عليه السلام دفن هناك، وقال: إنهم كانوا يأوون إلى العمد في البر، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6 - 7] يعني: مدينة إرم، {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:8] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15]. ولذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه كما قال تعالى: ((يَا قَوْمِ)) أي: قال هود: يا قوم! أي: ما دمت أنا منكم وأنتم مني وما دمتم أنتم قومي فحقكم أن تكونوا مثلي في الإيمان وأن توافقوني. (اعبدوا الله) أي: وحده. (مالكم من إله غيره أفلا تتقون) أي: أفلا تخافون عذابه.

تفسير قوله تعالى: (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين وأنا لكم ناصح أمين)

تفسير قوله تعالى: (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين وأنا لكم ناصح أمين) قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:66 - 67]. (في سفاهة) يعني: خفة علم وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفاً (في سفاهة) على طريق المجاز، يعني: كأنه غرق ودخل في هذه السفاهة، يريدون أنه عليه السلام متمكن من هذه الصفة، غير منفك عنها، حتى كأنها تحيط به وهو في داخلها. (وإنا لنظنك من الكاذبين) أي: في ادعائك الرسالة، إذ استبعدوا أن يرسل الله أحداً من أهل الأرض إليهم، {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:67] يعني: رسول من رب العالمين إليكم، لإصلاح أمر نشأتكم يعني: هذه النشأة في الدنيا، وأيضاً في النشأة الآخرة. {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68] أي: ناصح لكم فيما آمركم به من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأمين على تبليغ الرسالة لا أكذب فيها.

تفسير قوله تعالى: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم لعلكم تفلحون)

تفسير قوله تعالى: (أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم لعلكم تفلحون) قال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف:69]. يقول هود عليه السلام لقومه: ((أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ)) يعني: ينذركم أيام الله ولقاءه عز وجل، يعني: لا تعجبوا من هذا، ولكن احمدوا الله على هذه النعمة. ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ)) أي: خلفتموهم في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً بعدهم. إما خلفاء بمعنى: كما يخلف الملك الملك الآخر، فأنتم الملوك بعد قوم نوح عليه السلام، أو خلفاء بمعنى: خلفتموهم في مساكنهم، كما قال تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:45]. ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)) أي: قامة وقوة. ((فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ)) يعني: اذكروا آلاء الله في استخلافكم وبسطة أجرامكم -يعني: أجسامكم- وما سواهما من عطاياه لتخصصوه بالعبادة ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)) أي: تفوزون بالفلاح. قال الزمخشري: في إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلال والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم: أدب حسن وخلق عظيم، إشارة إلى حسن خلق الأنبياء عليهم السلام، وصبرهم على أذى قومهم، وعظم حلمهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد سبق ما ذكره الله في مسلك نوح مع قومه، لما دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، فكان A { قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61] وما قال لهم: أنتم أهل الضلال، وإن كان يعلم أنهم الضلال، ومتمكنون في صفة الضلال، لكن قال: ((وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:61 - 62]. كذلك هنا قال قوم هود لهود عليه السلام: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف:68]. ففي جواب الأنبياء بالكلام الصادر عن الإغضاء والحلم، وترك المقابلة بما قالوا لهم بالمثل، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، في ذلك كله أدب حسن وخلق عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم، ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم، يعني: أن تستر على السفيه حتى وإن آذاك وتتغاضى، كما قال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني لأن الانشغال بالدفاع عن الذات وبرد هذه السفاهات، وهذه السباب والشتائم، ليس من شأن صاحب الحق، فإنه يريد التمكين لحقه وتوضيحه وبيانه، ولا يريد الانتصار لنفسه، بل لا يفكر في الانتصار لنفسه، وإنما يتألم لما هم عليه من الضلال. وفي ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، فإذاً كأن الله سبحانه وتعالى بحكاية هذا الكلام وهذه المواقف بين الأنبياء وقومهم يعلمنا أنه ينبغي لكل ناصح ألا يثأر لنفسه، أو يغضب لنفسه، وإنما يكون كل همه وجل ما يعنيه هو تبليغ الرسالة وإيضاح الحق. وهذا أوضح ما يكون أيضاً في مناظرة موسى مع فرعون، خاصة في أوائل سورة الشعراء، ترى العجب من إغراق فرعون في السفاهة والجهالة والضلالة والكفران، وتمكن موسى عليه السلام من العلم والحجة والبصيرة، فكلما رد بحجة قابله فرعون بالسفاهة أو بالتهديد أو بالأذى، كما هو معلوم لمن يراجع أوائل سورة الشعراء.

الكلام على ما ينقل من ضخامة عاد ومدينتهم

الكلام على ما ينقل من ضخامة عاد ومدينتهم أيضاً هنا تنبيه يتعلق بقول الله تبارك وتعالى: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، دون أن يضعوا هذه الأخبار على محك النظر والنقد والتمحيص، كالمبالغة في طول قوم عاد، لأن الله سبحانه وصف قوم عاد بقوله عز وجل: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً))، فترى بعض هؤلاء يحكون حكايات غريبة في ضخامة أجسام قوم عاد وطول قامتهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعاً. فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي وهو وهم. لكن عندنا دليل حسي على ذلك، وسنبينه إن شاء الله. فقوله جل شأنه مخاطباً لقوم عاد: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)): لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها. ونحن الآن في هذا العصر الذي نعيشه، نرى أن الإنسان القصير لا تنقص قامته عن مقدار معين، ومهما زاد الإنسان في عظم خلقته، فبعض الأجناس وبعض الشعوب مشهورون بضخامة جثثهم، لكن لها حد محدود، فلا نرى الرجل الآن طوله مثلاً خمسة أمتار، فإن هذا لا يقع، ولكن نرى حدوداً معينة للأطوال بحد أقصى لا يزيد عنها، فمهما زاد الإنسان في الجسم بسطة ومد الله له في قامته فإن له حداً لا يزيد عليه، فمثل هذه المبالغات مما لا يقبل، فمجرد قوله تعالى: ((وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً)) لا يسوغ لنا أن نقبل أي شيء يروى فيما يتعلق بضخامة أجسام هؤلاء القوم. فالتفاوت بين الشعوب والأمم في أطوال الجسم وأحجامها من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتاً قريباً، ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا لا تتفاوت عنها تفاوتاً كبيراً: مساكن ثمود قوم صالح الباقية، وقوم ثمود مقاربين لقوم عاد، ومساكن قوم ثمود ما زالت حتى الآن ماثلة ومعروفة في ديار ثمود قوم صالح في الطريق الذاهب إلى تبوك في الجزيرة العربية، وهي كتل من الجبال منحوتة من الداخل، فقد كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، فالجبل وهو كتلة من الصخر ضخمة جداً، أو كتل متلاصقة، فكانت الجبال تفرغ من الداخل عن طريق النحت، وليس مجرد نحت الزخارف كما كان يفعل قدماء المصريين، فإنكم ترون في صور معابد أبي سنبل وغيرها، أنهم ينحتون التماثيل في الجبل، لكن هؤلاء كانوا يجوفون البيت من الداخل، فالسلالم والحجر والدواليب والأرفف، كلها أشياء لا تركب، وإنما هي منحوتة في الجبال! فهي مناظر تدل على عظم بأس هؤلاء القوم، وشدة تمكنهم في هذه الأشياء، لكن مع ذلك نلاحظ أن قاماتهم تدل عليها الحجرات وارتفاعاتها، وهذه الأشياء تدل على أن قامتهم كانت معتدلة، وليست بالطول البالغ إلى الحد الذي سنحكيه الآن. ومثله في الكذب، بل أعرق منه في الوهم: ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان، من أنه كان يحتجب بالسحاب، يعني: إذا وقف فإن جسمه يحجب بالسحاب، أي أن السحاب يصل إلى صدره إذا وقف!! يقف فيصل للسحاب ويشرب منه مباشرة!! ويتناول الحوت من أعماق البحار فيشويه بعين الشمس!! فهذا كله كلام لا يصدق، وهو من الغلو، والسبب في انتشار مثل هذا الكلام ما أولع به بعض المؤرخين من الحكايات الغريبة التي يأنس لها جهلة الناس وعوامهم دون نقد ودون تمحيص. ثم إنه لو كان يريد أن يشوي السمكة فإن درجة الحرارة تكون على سطح الأرض أعلى منها على الجبال؛ ولذلك تجد دائماً أن الجليد يكون في قمم الجبال. وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في مقدمة تاريخه، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين، هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسيمة، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى، فيتخيلون لأصحابها أجساماً تناسب ذلك. والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، واتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره. وأنكر أيضاً ما ينقلون من قصة جنة عاد، وأنها مدينة عظيمة، قصورها من ذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحاري عدن بناها شداد بن عاد، ولما تم بناءها أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسم هذه المدينة: إرم ذات العماد، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8]. ويزعمون أنها لم تزل باقية في بلاد اليمن، وإنما حجبت عن الأبصار، وحيث إن ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه ولا نلتفت إليه. صحيح أنه إذا لم يرد شيء في مثل هذا عن الصادق الأمين عليه السلام فلا نعول عليه، لكن لا يمنع أن يكتشف شيء من هذه الأشياء التي كانت محجوبة، ولا يمنع في مثل هذا المقام أن ننقل عن مجلة نيوزويك سبعة عشر فبراير، سنة اثنين وتسعين، صفحة ثمانية وثلاثين، نشرت خبراً غريباً جداً، يقول: إن القرآن يصف كيف أن الأرض ابتلعت مدينة مترفة أو باذخة فيها ترف جامد، ولكنها مدينة مهدمة أو مخربة، وهي مدينة الأبراج، وتدعى إرم، هذا نص عبارة مجلة النيوزويك، وهذا جزء كان من تحليل كبير يتكلمون فيه على اكتشاف، يقولون إنه عن طريق الأقمار الصناعية، استطاع الخبراء ومجموعة من الأخصائيين والمتمرسين في التكنولوجيا الحديثة، ومجموعة من علماء طبقات الأرض، أن يكتشفوا هذه المدينة القديمة في عمان، في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، ورجل يدعى نيكولاس كلاس عمل فيلماً وثائقياً عن البعثة التي ذهبت إلى هناك، والتي درست هذه المنطقة، سواء عن طريق الأقمار الصناعية أو الطبقات الجيولوجية. فيقول في النيوزويك: فالزيجرد -وكأنه يذكر طريقة تصوير ببعض الأجهزة الحديثة تكشف عما تحت الأرض- كان يرى حالياً مركز المدينة المرتطمة أو المحطمة، كما وصفها القرآن، هذه عبارتهم: كما وصفها القرآن؛ لأنها كانت بنيت فوق كذا وكذا وحقيقة المقالة كلها فيها أن القرآن أعطانا الحق عن هذه المدينة التي تدعى: عاد، وبقيت هناك علامات كثيرة حتى تأتي لهؤلاء، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أبقى آثار هذه المدينة لمن يتفكرون ويؤمنون بوحدانية الله سبحانه وتعالى. وهذا يعني أنهم ربطوا بين هذا الاكتشاف الحديث وبين آيات القرآن الكريم التي تثبت وجود هذه المدينة، التي كانت بهذه الضخامة، التي حكاها الله سبحانه وتعالى في القرآن، واقتبسوا من القرآن الكريم تراجم لمعاني القرآن الكريم، يجمعون بينها وبين هذا البحث، وهي موجودة في النيوزويك مجازيم، سبعة عشر فبراير، سنة ألف وتسعمائة واثنين وتسعين، صفحة ثمانية وثلاثين. يقول: وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصطنعة هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل.

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد أباؤنا فانتظروا إني معكم من المنتظرين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد أباؤنا فانتظروا إني معكم من المنتظرين) ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم على هود عليه السلام بقوله سبحانه وتعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:70 - 71]. ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ)) أي: لنخصه بالعبادة. ((وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)) يعني: من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) لأنه كان يتوعدهم: فهنا قالوا: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا))، والذي تأمرنا بأن نتقيه من عذاب الله. ((إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) يعني: في الإخبار بنزول العذاب. ((قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)) أي: عذاب. والرجس بالسين والرجز بالزاي بمعنىً، حتى قيل: إن أحدهما مبدل من الآخر، كالأسد والأزد، وأصل معنى الرجس أو الرجز: الاضطراب، يقال: رجست السماء يعني: رعدت رعداً شديداً وتمخضت، وهم في مرجوسة من أمرهم يعني: في اختلاط والتباس. ثم شاع استعمال الرجس أو الرجز في العذاب؛ لأن العذاب إذا حل بقوم اضطربوا وماتوا. وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز؛ لأنه حقيقته في الشيء القذر فاستعير لجزائهم، وظاهر اللغة أنه حقيقة وليس بمجاز، ووجه التعبير بالمضي عما سيقع: تنزيل المتوقع كالواقع، أي: كأنه قد وقع بالفعل وصار يخبر عنه بصيغة الماضي، كما في قوله تبارك وتعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]. ((وغضب)) أي: سخط؛ لإشراككم معه من هو في غاية النقص في أعلى كمالاته التي هي الإلهية. ((أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) [الأعراف:71] يعني: في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات، وليس لها حقيقة؛ لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:42] يعني: هي كالعدم. وقال الشهاب: جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة، فعبر عن الأصنام بكلمة أسماء، كما يقال لما لا يليق: ما هو إلا مجرد اسم، فالمعنى أتجادلونني في مسميات لها أسماء لا تليق بها، فتوجه الذم للتسمية الخالية عن المعنى، والضمير حينئذ راجع إلى أسماء. ((مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)) أي: حجة ودليل، يعني: لم يقم دليل وحجة على تسميتها آلهة؛ لأن المستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكل، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة، وكلاهما مستحيل، فتحقق بطلان ما هم عليه. ((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)) أي: لو كانت تستحق الإلهية وليست مجرد أسماء عارية عن الحقيقة؛ لأنزل الله آية أو دليلاً أو حجةً أو برهاناً يؤكد إلهيتها، فلما لم يقع شيء من ذلك، بل مستحيل أن يقع، تحقق بطلان ما أنتم عليه. ودلت الآية على كساد التقليد حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم: ((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) أي: تقليداً لآبائكم. وتدل على أن المعارف مكتسبة. وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه لقوله: ((مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)). ويدل قوله: ((أَتُجَادِلُونَنِي)) على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق، وأن يتأمل ويتحرى ويبحث عن الحق بتجرد وإنصاف، لا أن يجادل عن الباطل الذي هو عليه. وبين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة، من غير دليل يدل على تحقيق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهار لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم. ((سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)) هذا إشارة إلى غاية الجهالة وفرط الغباوة منهم وآبائهم. ((فَانتَظِرُوا)) أي: نزول العذاب الذي استعجلتموه وطلبتموه بقولكم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف:70] لأنه وضح الحق، وأنتم مصرون على العناد، فلم يبق إلا انتظار العذاب الذي تستعجلون، ولذلك قال لهم: {فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:71] أي: لما يحل بكم، فجاء منتظرهم بحيث لم ينجُ منهم بمجرى العادة أحد، وجعل هلاكهم بالريح التي تتقدم الأمطار لكفرهم برياح الإرسال.

تفسير قوله تعالى: (فأنجيناه والذين معه)

تفسير قوله تعالى: (فأنجيناه والذين معه) قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:72] أي: ممن آمن به على خرق العادة ((بِرَحْمَةٍ مِنَّا)) ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة كما رحمناهم في الدنيا، فإنهم يرجون ويؤملون في أن يرحمهم الله أيضاً من عذاب الآخرة. ((وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)) أي: استأصلناهم، فقطع الدابر كناية عن الاستئصال وإهلاك الجميع، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمر على غيره، فإذا أردت أن تأتي بكلام يثبت أنهم كلهم قد هلكوا ولم ينج منهم أحد، فإنك تأتي بالأول فالثاني وهكذا، فإذا قلت: أهلكت آخرهم، فهذا تعبير يبين أنهم جميعاً قد هلكوا واستؤصلوا، والدابر بمعنى الآخر. ((الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)) يعني: كذبوا ولم يؤمنوا. قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: ((وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)) مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريض بمن آمن منهم كـ مرثد بن سعد ومن نجا مع هود عليه السلام، يعني كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم، ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين ونجى الله المؤمنين، وفي هذا إشارة إلى حسن عاقبة المؤمنين.

الأعراف [103 - 137]

تفسير سورة الأعراف [103 - 137]

تفسير قوله تعالى: (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين فأرسل معي بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين فأرسل معي بني إسرائيل) قال تبارك وتعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:103 - 105]. ((وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين)) أي: أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه سبحانه وتعالى. ((حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)) أي: جدير بذلك وحري به؛ لما علمت من حالي، وهناك قراءة أخرى: ((حقيق عليَّ أن لا أقول على الله إلا الحق)) بمعنى: واجب علي أن لا أقول على الله إلا الحق، أو ((حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق)) أي: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق. والباء وعلى يتعاقبان، تقول: جاء على حال حسن، وتقول: جاء بحال حسن، فحقيق على يعني: حقيق بألا أقول، وقرأ أبي رضي الله عنه: (حقيق بأن لا أقول). وقوله: (قد جئتكم ببينة من ربكم) أي: آية قاطعة وواضحة تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة. ((فأرسل معي بني إسرائيل)) روي أن الله تبارك وتعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له: إن إلهنا أمرنا أن نسير ثلاثة أيام في البرية ونقرب له قرابين ونعبده، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون، ولكن ليظهر آياته على يد موسى عليه السلام ويهلك عدوه، فلما أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه أنكر أمر الرب له، وقال: لماذا نعطل الشعب عن أعماله، هذا سيؤثر على الإنتاج وسيؤثر على الاقتصاد، كيف نتركهم يخرجون معك يتعبدون ويتعطلون عن الأعمال التي سخرهم فرعون من أجلها؟ فقد كانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن، وأمر حينئذ بزيادة عملهم، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فإذا هي بيضاء للناظرين)

تفسير قوله تعالى: (قل إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فإذا هي بيضاء للناظرين) ثم طلب فرعون من موسى آية كما قال تعالى: {قَالَ إِنْ كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:106 - 107]. ((فألقى عصاه)): التي هي جماد، من غير سترة ومن غير معالجة سبب، فكان الأمر لا لبس فيه على الإطلاق، لا كما يفعل المهرة من الحواة أو السحرة وغير هؤلاء، يخبئ شيئاً في فمه ويظهره من الجانب الآخر إلى آخر هذه الحيل التي تعتمد على خفة اليد، فيظهر شيئاً خلاف الشيء الذي كان ظاهراً من قبل، أو يستر الشيء الذي يتعامل معه ثم يظهر منه شيئاً آخر، وغيرها من الحيل المعروفة عند الحواة. فيقول تبارك وتعالى: ((فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ)) أي: بدون سترة فلم تكن العصا مستورة، وبدون معالجة سبب من الأسباب كي تتحول إلى هذه الآية. وكلمة: (فإذا) فجائية، والثعبان هو: الحية الضخم الذكر، وهو أعظم الحيات، أي حية كبيرة هائلة، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه. ((مبين)) يعني: ظاهر لا متخيل. ((ونزع يده)) يعني: أخرج يده من جيبه بعدما أدخلها فيه. ((فإذا هي بيضاء للناظرين)) يعني بيضاء بياضاً خالياً من البرص، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]: لأن البياض أحياناً يكون بسبب مرض البرص، فقوله: ((فإذا هي بيضاء للناظرين)) يعني: بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة، يجتمع عليه النظار تعجباً من أمره فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية وتتقوى بها الحياة بالله.

تفسير قوله تعالى: (قال الملأ من قوم فرعون فماذا تأمرون)

تفسير قوله تعالى: (قال الملأ من قوم فرعون فماذا تأمرون) قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:109] ((الملأ)) الأشراف الذين يكرهون شرف الغير عليهم، قالوا: في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق، ومحاولة إبطال ما أظهره موسى عليه السلام من الآية والمعجزة: ((إن هذا لساحر عليم)) أي: ماهر في السحر. وبين تعالى في سورة الشعراء أن فرعون قال أيضاً نفس هذا القول: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:34 - 35] أي: يخرجكم من أرض مصر بسحره، ليتملك عليها. فهذا فرعون وملؤه يقولون إن موسى عليه السلام يريد أن ينازعهم، وتكون له الكبرياء والملك في الأرض، وذلك بالتستر وراء الدين للحصول على مآرب سياسية. ((فماذا تأمرون)) أي: ماذا تشيرون في أمره، وهذا القول من تمام الحكاية عن قول الملأ، أو هو مستأنف من فرعون، ويدل على هذا الوجه الثاني: قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111] في الرد والجواب عليه.

تفسير قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه ساحر عليم)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه ساحر عليم) {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:11 - 112] وقولهم ((أرجه وأخاه)) أرجه أو أرجئه بالهمز، يعني: أخر أمرهما وأصرفهما عنك الآن حتى ترى رأيك فيهما وتدبر شأنهما؛ لئلا تنسب إلى الظلم الصريح، فحسن صورتك حتى لا يظن بك أنك ظلمتهم ظلماً صراحاً، لكن أظهر أنك تعطيهم الفرصة، وأنك كما يقال الآن: ديمقراطي وكذا وكذا. مع أنه تقدم منه أمر آخر يفهم من هذا، وهو أن فرعون هم بقتل موسى عليه السلام أولاً، ثم أشار عليه هؤلاء المستشارون بأن يؤخره كي يتبين حاله للناس. ((وأرسل في المدائن)) أي: في مدائن الصعيد من نواحي مصر، ((حاشرين)) أي أرسل من يأتيك بكل ساحر عليم وقرئ: (يأتوك بكل سحّار عليم) أي: ماهرين في باب السحر، ليعارضوا موسى بنظير ما أراهم من البينات، قال الجشمي: تدل الآية على عظيم علم موسى، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله سبحانه وتعالى، ويستحيل أن تشتبه معجزة النبي بالسحر. فلا يمكن أن تنقلب العصا إلى حية حقيقة، فهؤلاء لشدة جهلهم لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله سبحانه وتعالى، حتى نسبوا ذلك إلى السحر، كما تدل الآية على أن عادة البشر أن من رأى أمراً عظيماً يسعى إلى أن يعارضه، لذلك لما رأوا تحول العصا إلى حية، فزعوا إلى استنفار فرعون، وجعلوا يحصدون له السحرة ويجمعونهم له. فيقول: تدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمراً عظيماً أن يعارضه، فلذلك دعا فرعون بالسحرة، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن أيضاً لعارضوه، وهذا معروف، فقد تحداهم الله سبحانه وتعالى به، ومع ذلك ما استجابوا للتحدي، وهم أفصح البشر. وتدل الآية على أن الطريق في المعجزات: المعارضة؛ ولذلك قال تعالى في القرآن: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] إذا صدق الإنسان في المعارضة فليأت بمثل هذه المعجزة، وهيهات أن يفلح في ذلك! ولذلك فإن فرعون وقومه حينما رأوا آية موسى عليه السلام ما استطاعوا أن يأتوا بمثلها، لكن حاولوا المعارضة بجمع السحرة، وإلقاء الشبه، فلما بان عجزهم لجأ فرعون إلى التهديد. وتدل الآية أيضاً على أنهم أنكروا أمر الرسالة خوفاً منهم على الملك والمال، كما يقال: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والذي يدل على ذلك قوله: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} [الشعراء:35]، فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين هي المحافظة على الرئاسة والمال والجاه، كما هو عادة الناس في هذا الزمن. ثم تسابقت شرط فرعون ينتشرون في الآفاق، يحشرون له أمهر السحرة كي يعارضوا موسى عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون وإنكم لمن المقربين)

تفسير قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون وإنكم لمن المقربين) قال عز وجل: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114]. يعني: إن لكم أجراً عظيماًَ معلوماً ومضموناً على هذا، ثم زادهم على ما طلبوا من الأجر فقال: ((وإنكم لمن المقربين)). والإنسان إذا كان يعبد الله سبحانه وتعالى واستحضر هذه الآية، حرص بعبادته على أن يكون من المقربين، ولذلك فإن أعلى درجات أهل الجنة هم المقربون، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولما توثقوا من فرعون، يعني ضمن لهم هذا الأجر وهذا التقريب:

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين وجاءوا بسحر عظيم)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين وجاءوا بسحر عظيم) قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:115 - 116]. كان السحرة كفاراً، لكنهم هنا تأدبوا مع موسى عليه السلام، وقد نفعهم هذا الأدب حتى قال القرطبي رحمه الله تعالى: تأدبوا مع موسى فكان ذلك سبب إيمانهم، ((قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ)) أي: أن نكون نحن أول من ألقى، كما في الآية الأخرى. قيل: خيروا موسى إظهاراً للجلادة فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره، وقال الزمخشري: تخييرهم إياه أدب حسن، وهذا من المجاملة، فإنهم التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع. ((قَالَ أَلْقُوا)) أي: قال موسى لهم: ألقوا يعني: ألقوا ما أنتم ملقون، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً. يقول ابن زيد: كان الاجتماع بالإسكندرية، فبلغ ذنب الحية وراء البحيرة، يعني كانت الحية ضخمة جداً، ولا أدري بالضبط ماذا يقصد بالبحيرة إذا صح هذا الكلام. ((فلما ألقوا سحروا أعين الناس)) أي: خيلوا لها ما ليس في الواقع، إذاً ما ألقوه من الحبال هي في الحقيقة بقيت كما هي! وإنما السحر أثر على أبصارهم؛ ولذلك قال عز وجل هنا: ((سحروا أعين الناس)) لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي أو يؤثر في المرئي، فهذه الآية تدل على أن هذا النوع من السحر كان مما يؤثر في عين الرائي، فيرى الشيء على خلاف ما هو عليه. ((واسترهبوهم)) يعني: أفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما قال في الآية الأخرى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:66 - 69]. ومثل هذه الآية لا يصح الاستدلال بها على نفي تأثير السحر؛ لأن السحر أنواع كثيرة ولا ينحصر في نوع واحد، فسواء كان السحر هنا نوعاً من الحيل بحيث إنهم وضعوا في الحبال أو في التجويف زئبقاً، والزئبق جعل هذه الحبال تلتوي، أو أن السحر إنما كان بالأعين، وهذا هو الأكيد قطعاً بنص القرآن. فالاستدلال على نفي السحر بمثل هذه الآية استدلال بها على غير وجهها، فيستدل بعض الناس على نفي السحر وأنه مجرد تخييل، بأن هذا السحر إنما كان في أعين الناس، {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] أي: عظيم في باب السحر وفي مجال السحر، فمن رآه عده سحراً عظيماً، فإنه ألقى كل واحد عصاه فصارت العصي ثعابين. قال الجشمي: تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، بما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر، وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله، وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، وليس ذلك في وسع طبيب، وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به.

الفرق بين السحر والمعجزة

الفرق بين السحر والمعجزة وتدل -أي الآيات- على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة، حتى أوهموا أنها أحياء، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعلم، وكان مثله مقدوراً لكل من يتعاطى صناعتهم علم أنه شعبذة، ولهذا تفترق المعجزة عن الشعبذة. ويمكن أن نميز بين المعجزة والشعبذة بما يلي: أولاً: الشعبذة يوقف على أصلها، كما يصنع الحاوي أحياناً في بعض الأشياء التي يفعلها والناس يعتبرون ذلك شيئاً خارقاً للعادة، لكن في نفس الوقت يمكن أن يشرح لهم كيف فعل هذا الشيء، فيأتي بأصل هذا الأمر، فيقول مثلاً: سوف أخبئ الشيء مثلاً في كمي وبخفة يد سأخرج الأشياء المعروفة هذه إلخ. أما المعجزة فلا يمكن أن تقف على أصلها، إلا أن تنسبها إلى قوة الله سبحانه وتعالى الذي يخرق الأسباب متى شاء وكيف شاء. فهؤلاء السحرة كانوا يعرفون ما أصل حكاية السحر التي قلبت الحبال إلى ثعابين، وذلك إما أنهم عملوا نوعاً معيناً من السحر يؤثر في أعين الناس، أو أن عملهم للسحر كان حيلة حيث وضع الزئبق في الحبال بحيث تلتوي، فبهذا يكونون قد سحروا أعين الناس حين رأوا الشيء على غير ما هو عليه. الفارق الثاني: أن الشعبذة يمكن الإتيان بمثلها، يمكن أن تعارض ويؤتى بمثلها، وكل من عنده خبرة بهذا الفن يستطيع أن يأتي بمثلها، لكن المعجزة يستحيل أن يأتي بشر بمثلها إلا نبي من أنبياء الله. الفارق الثالث: أن الشعبذة يخفى أمرها بخلاف المعجزة، وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه، وبلا شك أن مثل هذا لا يصلح إلهاً، فكيف يكون إلهاً، ثم إذا أصابه هذا المكروه فزع إلى مرهوبيه الذين يفترض أنهم أضعف منه، كي ينصروه على من يخاصمه أو يتحداه، فهذا يدل على اعتراف فرعون بالذل وبالعجز وبالضعف.

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون وتوفنا مسلمين)

تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون وتوفنا مسلمين) قال عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:117 - 126]. ((تلقف)) أي: تبتلع، ((ما يأفكون)) يعني: ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو في الحقيقة باطل، وأصل الإفك الكذب، ((فوقع الحق)): ظهر الحق وثبت الإعجاز، ((وبطل ما كانوا يعملون)) أي: من السحر لإبطال الإعجاز. ((فغلبوا هنالك)) يعني: في مكان وعر، وهو المكان الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوة فرعون لهم لظنه غلبة السحرة، ففرعون حشر الأقباط وحشر السحرة {قال مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] أي: في وقت واضح في النهار، بحيث لا يلتبس الأمر على أحد. ((فَغُلِبُوا هُنَالِكَ)) يعني: في هذا المكان، ((وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ)) أي: رجعوا ذليلين، ((وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)) وفي الحال: ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) ((رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)). قال الجشمي: دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال. ((قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ))، وهذا وعيد شديد من فرعون، ثم فصله فقال: ((لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِين)) أي: لأقطعن من كل جانب عضواً مغايراً للآخر، كأن تقطع اليد من اليمين والرجل من الشمال والعكس. قال الشهاب: ((من خلاف)) حال يعني: مختلفة، وهنا تفسير ضعيف وهو أن: ((من خلاف)) يعني: لأجل خلافكم. وهذا بعيد. ((ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)) أي: فضيحة لكم وتمثيلاً وزجراً لأمثالكم. ((قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ)) يعني: فلا نبالي بما تهددنا به من الموت؛ لأن هذا الموت الذي تخوفنا به هو وسيلة انتقالنا إلى الدار الآخرة، حيث نحيا حياة هي خير من هذه الحياة الأولى، فما تهددنا به وهو الموت أو القتل هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا حياة هي خير من الحياة الدنيا. ((وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا)) أي: ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، وأعظم شيء نعتز به؛ لأنه خير الأعمال وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك. وهكذا المؤمنون المضطهدون في كل زمان، جريمتهم التي تنقم عليهم هي إيمانهم بالله عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا)) الإفراغ: هو الصب، أي: ربنا اصبب علينا صبراً، فشبهوا الصبر بسائل أو مطر سينزل عليهم، أي يصبه الله سبحانه وتعالى عليهم ويكثر من هذا الإفراغ، أي: أفض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك، وذلك عند القطع والصلب. ((وتوفنا مسلمين)) أي: ثابتين على الإسلام، فيقصدون هنا حسن الخاتمة.

تفسير قوله تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى)

تفسير قوله تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى) قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127]. ((وقال الملأ من قوم فرعون)) أي: خوفاً من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا السحرة جاهروا بالإسلام ولم يبالوا بالتوعد. ((أتذر)) يعني: أتترك ((موسى وقومه ليفسدوا في الأرض)) بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل، وقوله: ((ليفسدوا في الأرض)) أي: في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك. ((ويذرك وآلهتك)) الآلهة: جمع إله بمعنى: المعبود. وكان للمصريين آلهة كثيرة منها الإله الذي كانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور الذي كانوا يعبدونه أيضاً، وكانوا يعبدون الظلام أيضاً، ويعبدون صنماً يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان، وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس وللقمر وللنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض، هكذا حكى عنهم بعض المدققين. وقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل: أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام. وقال بعض المفسرين: (ويذرك وآلهتك) يعني: وطاعتك، أو (ويذرك وإلهتك) يعني: عبادتك، الإلهة أو الألوهة هي العبادة. وقال بعضهم: إن كلمة الآلهة: لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا هاهنا لم يبعد، ويكون المعنى: ويذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر وإلهاب قلب فرعون على موسى وإثارة غضبه. والأظهر ما قدمناه أولاً: (ويذرك وآلهتك) جمع إله وهو المعبود. ((قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ)) والقراءة الأخرى: (قال سنقتل أبناءهم) أي: المولودين. ((وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)) أي: نستبقي نساءهم للاستخدام. ((وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)) أي: بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فلما فعل بهم هذا الوعيد من قتل الأبناء، واستحياء النساء، شكا بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]. وهنا: ((قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ)) ولم يقل: سأقتل موسى؛ لعلمه أنه لا يقدر عليه، وقال سعيد بن جبير: كان فرعون قد ملئ من موسى رعباً، فكان إذا رآه يبول كما يبول الحمار. فالله أعلم بصحة ذلك.

تفسير قوله تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا فينظر كيف تعملون)

تفسير قوله تعالى: (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا فينظر كيف تعملون) قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} * {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:128 - 129]. ((قال موسى لقومه)) لما شكوا إليه ما لقوه من فرعون، (استعينوا بالله) يعني: عليكم أن تفزعوا إلى الله سبحانه وتعالى وأن تستعينوا به على هذا البلاء، ((واصبروا)) يعني: على أذاهم. ((إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا)) أي: يعطيها ((مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) يعني: أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم، وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أصلهم ويهلكهم، وينجي قومه من عذابه لآل فرعون؛ فلذلك بشرهم بهذا: ((إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)). وعاقبة كل شيء: آخره، ولكنها إذا أطلقت فهم منها في العرف: الخير كما في هذه الآية، وهنا لم يقل: العاقبة الحسنى ولا العاقبة السوء، فهي تأتي بهذه الاستعمالات، لكن إذا أطلقت انصرفت عرفاً إلى الخير. قال الجشمي: تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته عدلوا إلى إغراء فرعون وتحريضه واستعدائه على موسى، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وعند ذلك أوعده. وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى؛ لأن هذه حيلة العاجز. فهروب فرعون إلى التهديد وإلى التخويف وإلى التوعد، مع أنه قد أتى بالمعجزة، ومع أنه تحداهم، ومع أنهم عجزوا عن أن يستجيبوا للتحدي، فهذا من أعظم الأدلة عند العقلاء على صحة نبوة موسى عليه السلام؛ لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ما دام أنهم قد عجزوا عن الإتيان بمثلها؛ ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن إلى القتال دل ذلك على عجزهم. يقول: وهكذا حال كل ضال مبتدع إذا أعيته الحجة عدل إلى التهديد والوعيد. وتدل الآية على أنه عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعانة به والصبر، ولا نفزع إلا بهذين الأمرين، وهما: الانقطاع إلى الله عز وجل بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر. وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي. {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فبماذا أجاب قوم موسى؟ {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129]. أي: هؤلاء القوم الأقباط فعلوا بنا الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها، ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة، لأن موسى حين مضى رمز إليهم بالبشارة، حينما قال: ((إن الأرض لله يورثها من يشاء من عبادة والعاقبة للمتقين)) يعني أن هذه سنة كونية من سنن الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، كذلك أتى بها في كلمتين فقال: (والعاقبة للمتقين)، فكان ينبغي أن يفهموا من ذلك أنه بشرهم بأن النصر والظفر لهم، فحينما قالوا له: ((أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)) صرح لهم بما رمز إليه فقال: ((عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ)) يعني: فرعون وجنوده، ((وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) يعني: فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها؛ ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون) قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130] يعني: لما امتنعوا عن إجابة موسى وإرسال قومه معه أخذهم بالسنين، أي: بالجدب والقحط، ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون أي: يتعظون فيرجعون عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى. و ((لعلهم يذكرون)) لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب في الضراعة إلى الله سبحانه وتعالى، {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]. قال الجشمي: تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفاً وصلاحاً في الدين؛ لذلك قال: ((لعلهم يذكرون)) فالإنسان لا يدري ما يصلح قلبه وما يصلح حاله كما جاء في الحديث الصحيح: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير: إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له). فعلى المرء أن يثق بأن ما يقدمه الله سبحانه وتعالى له هو الخير، فرب مصيبة تلم بالإنسان تكون سبباً في رقة قلبه وانكسار كبريائه واختياله والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى؛ وهذا يؤخذ من هذه الآية: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130]، فالحكمة من ذلك: رجاء أن يتذكروا وأن يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى. فإذاً الشدائد يقدرها الله على عباده لهذه الحكمة العظيمة ((لعلهم يذكرون)) أي: يتذكرون ويتبصرون ويصلحون حالهم مع الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه)

تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه) قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131] ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم والشدائد لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً، فقابلوا عقاب الله سبحانه وتعالى بالسنين ونقص الثمرات الذي كان يرجى أن يكون من ورائه تضرع وتذلل ورقة في قلوبهم، بأن تمردوا وازدادوا عتواً وكفراً. قوله تعالى: ((فإذا جاءتهم الحسنة)) أي: الصحة والخصب، ((قالوا لنا هذه)) أي: هذا لأننا نستحق هذه النعمة، فهي لأجلنا واستحقاقنا كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ولم ينسب الفضل إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك هؤلاء إذا جاءتهم الحسنة قالوا: لنا هذه، أي: نحن نستحق هذه وهي أتت لأجلنا واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم فيشكروه على إنعامه. ((وإن تصبهم سيئة)) شدة ((يطيروا بموسى ومن معه)) يعني: يتشاءموا وأصله (يتطيروا) يعني: أنهم عندما تأتيهم المصيبة أو العذاب أو نقص الثمرات والجدب والقحط يقولون: هذه بشؤم موسى وهؤلاء المؤمنين معه -والعياذ بالله-. فأبطل الله سبحانه وتعالى كلامهم بقوله عز وجل: ((أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ)) أي: شدتهم وما صار إليهم من القضاء والقدر، ((عند الله)) لا عند غيره، يعني: هذا إنما هو من قبل الله عز وجل بقضائه وقدره، ((ولكن أكثرهم لا يعلمون)) أن ما أصابهم من الله تعالى فيقولون ما يقولون مما حكى عنهم. وقوله تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله) يعني: أن شؤمهم، وما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم هو عند الله سبحانه وتعالى، وأصل كلمة الطائر أو التطير: التفاؤل بالطير؛ لأن العرب في الجاهلية كان إذا أراد أحدهم أن يفعل شيئاً أو يمضي في سفر، فإنه كان ينفر الطير، فإن اتجه إلى اليمين سموه السانح، وإن اتجه إلى اليسار سموه البارح، فإن اتجه يميناً تيمنوا وتفاءلوا وسافروا، وهي استخارة شركية، وإذا اتجه شمالاً تشاءموا وتركوا السفر. ثم بعد ذلك استعمل لفظ التطير في كل ما يتفاءل به ويتشاءم، ولذلك روي في الحديث -وفيه ابن لهيعة والكلام فيه معروف-: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك). وأيضاً قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] يعني: عمله الذي صدر عنه من خير أو شر، ألزمناه إياه في عنقه. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)): ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي: قحط وجدب ونحو ذلك تطيروا بموسى وقومه، فقالوا: ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] كما تقدم في سورة النساء، وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47]، وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس:18]. وبيَّن تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم ومعاصيهم، لا من قبل الرسل، فقال عز وجل: ((أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ))، وقال في سورة النمل في قوم صالح: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، وقال في يس: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19].

تقسير قوله تعالى: (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين)

تقسير قوله تعالى: (وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين) {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:132 - 133] أخبر تبارك وتعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم، وأنهم لم يكتفوا بالتكذيب بموسى مع كل ما مضى، بل جاءهم العذاب فلم يتذكروا ولم يتضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما ازدادوا عتواً، وكانوا إذا أصابهم الخير قالوا: لنا هذه! فلم يشكروا الله سبحانه وتعالى، وإذا أصابهم الشر تشاءموا وقالوا: هذه بشؤم موسى ومن معه، تمادوا في ذلك حتى تجاسروا وتكبروا بقولهم: ((وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)) أي: بمصدقين بالرسالة، فجاءت العقوبة مباشرة: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133]. ((فأرسلنا)) أي: على آل فرعون ((الطوفان))، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم فلم ينلهم ولا حل بهم سوء من الطوفان ولا غيره. والطوفان لغة هو: المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعم الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، وتواصلت الرعود والبروق ونيران الصواعق في جميع أرض مصر، وعلينا أن نتفكر في هذا لقوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:45]، فكل من سكن مساكنهم مخاطب بهذه العبرة وبهذه العظة فهذه سنة الله سبحانه وتعالى في الدنيا أنها دار ابتلاء كما كررنا مراراً، فالله عز وجل قادر بكلمة من حرفين: ((كن)) على أن يكون البشر كلهم على أتقى قلب رجل واحد، وهو قلب رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، ولكننا لسنا ملائكة في الدنيا، فهذه مجرد فترة امتحان في دار امتحان. فالعزة التي كانت والعتو والتمرد والاستكبار الذي أصاب فرعون وقومه، ومقابلة آيات الله عز وجل بمزيد من التمرد والعتو، تدعونا لننظر إلى العاقبة لمن كانت؟ فالدنيا دار ابتلاء، فنفس هذه الأشبار أو الأمتار التي نعيش عليها عاش عليها من قبلنا، والإنسان أحياناً يغفل عن تدبر هذا الأمر، فلسنا أول من يطأ هذه الأرض، بل وطأ نفس هذه البلاد قرون وقرون وقرون كانوا أعظم منا وأشد قوة، ومع ذلك لما كفروا مكر الله سبحانه وتعالى بهم؛ فلذلك {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] العتو والاستكبار إنما هو جولة ليست هي النهاية، فالنهاية والعاقبة حتماً ستكون للتقوى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] كما أخبر الله عز وجل. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن ينزل صاعقة من السماء على كل من يعادي الإسلام أو يعادي أولياء الله سبحانه وتعالى، والناس ينظرون إليه، لكن هذا سينافي حكمة الابتلاء، فلو أن كل من يكفر بالله، وكل من يحارب الإسلام، تنزل عليه صاعقة وتأخذه أمام الناس، فهنا سيبطل اختيار الناس وسيؤمنون كرهاً وليس طواعية، وحكمة الله سبحانه وتعالى: أن يكون الإيمان المعتبر هو الإيمان الاختياري وليس الإيمان الذي يأتي بالإجبار؛ فلذلك تستمر سنن الله سبحانه وتعالى، وتنتهي فصول بعض الأحداث في الدنيا والتي قد تكون بنهاية غير سارة، لكن ليست هذه هي العبرة، العبرة أنهم صاروا من أهل النار، فعلينا أن نستحضر هذا التعاقب بين عتو قوم فرعون ثم العذاب الذي يأتيهم. ومن رحمه الله سبحانه وتعالى: أنه يأتينا بهذه النذر لعلنا نتذكر أو لعلنا نتضرع، إنعاماً في إقامة الحجة عليهم، فانظر أتتنا من قبل الزلازل وأتتنا الفئران وأتانا الجدب والقحط من سنوات إذا كنتم تتذكرون، ومن قبل أشياء كثيرة جداً، والآن حينما عم وانتشر هذا البلاء المسمى بجنون البقر، انظر كيف كان رد فعل الناس لمثل هذا الأمر، حتى أنهم بالغوا في هذه الردود بمقاطعة لحم البقر حتى إن الجزارين تأثروا بذلك. يخبرنا الله سبحانه وتعالى به وهو أصدق القائلين من أن هذا حلال، وأن هذا حرام، وأن هذا يغضب الله، وأن هذا يرضي الله، ونحن لا نبالي بأوامر الله عز وجل ولا بشرع الله عز وجل، ولا نبالي بمحاربة دين الله. وقد انتشر الآن جنون البقر، والناس خافوا من هذه الأشياء، ألا ينبغي علينا حينما يخبرنا الله بشيء: أن فيه هلاكنا وأن فيه دخول النار أن نحذر؛ لأننا عصينا الله وحاربنا دين الله، فتكون عاقبتنا كذا وكذا، فأولى أن نصدق خبر الله سبحانه وتعالى ونعمل به. والآن وزير الصحة اليمني أو اليماني أعلن أن الآلاف من اليمنيين يموتون بالسرطان الذي ينشأ عن مضغ القات، ويحتمل أنهم الآن يرتدعون، ومن قبل كان العلماء ينصحونهم أن القات فيه كذا وكذا من المضار، أو أنه محرم شرعاً، فلا يبالون، والقات منتشر هناك أشد من التدخين هنا، بين النساء والرجال والأطفال والكبار والصغار بصورة مقززة وسيئة، فهم يتعاطون هذا القات ويمضغونه ويكومونه في أشداقهم فيما يسمونه تخزين القات، ومع ذلك لم يبالوا بكلام العلماء حينما زجروهم عن ذلك، لكن يحتمل الآن أن ينفعلوا ويبدءوا في تصحيح أوضاعهم إذا أذيع لهم أن الآلاف منهم يموتون بالسرطان؛ بسبب مضغ القات. فحينما تأتينا الأخبار أو التحذيرات من بشر مثلنا نقبلها، حينما يأتيك الطبيب ويقول لك: لا تأكل السمك ولا تأكل كذا، وربما منع عليك أشياء معينة بسبب مرض معين تنصاع، بل تسلم له نفسك كي يفتح بطنك بالمشرط ويجري لك عملية جراحية، فإذا أخبرك الله سبحانه وتعالى أن في ذلك شراً لك أو أن في ذلك خيراً لك لا تبالي بشرع الله سبحانه وتعالى، ولا تسارع إلى طاعته والخوف مما حذرك الله عز وجل منه.

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل)

تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل) قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133]. ((فأرسلنا عليهم)) أي: على آل فرعون ((الطوفان)) كما قلنا: هو المطر الغالب، فعم الطوفان الصحراء وأتلف عشبها وكسر شجرها وتواصلت الرعود والبروق ونيران الصواعق في جميع أرض مصر. ((والجراد)) فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، يعني: الذي بقي من الثمار بعد الطوفان جاء الجراد بعد ذلك فقضى على ما تبقى من هذه الثمار والأعشاب، حتى لم يبق شيء من ثمرة، لا خضرة في الشجر ولا عشب في الصحراء. ((والقُمَّل)) فعم أرض مصر، والقمل هو: صغار الذباب، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد على وزن كلمة: سُكَّر، فالقمل، قيل: هو صغار الذر، أو شيء صغير بجناح أحمر، أو دواب صغار من جنس القردان، أو الدبا الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار، وتقرأ: القُمَّل والقَمْل قيل: هما لغتان، وقيل: هو القَمْل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد القُمَّل يكون في الطعام. ورد ابن سيده وتبعه المجد في القاموس القول: بأن المراد به قمل الناس، والقمل من الحشرات المعروفة. ((والضفادع)): جمع ضفدع، فطلعت الضفادع من الأنهار والخلج والمناقع وغطت أرض مصر. ((والدم)) فصارت مياه مصر جميعها دماً عبيطاً أحمر، ومات السمك فيها وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئاً. ((آيات)) حال ((مفصلات)) أي: مبينات، لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو ((مفصلات)) أي: مفرقات بعضها إثر بعض، تأتي آية ثم تليها التي تليها وهكذا. ((آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا)) أي: رغم كل الضنك والعذاب الشديد الذي أنزله الله بهم، أصروا واستكبروا فلم يؤمنوا لموسى ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. ((وكانوا قوماً مجرمين)) أي: عاصين. قال الجشمي: تدل الآية على عناد القوم وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد أنهم لا يؤمنون بها، {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:132]، وليس هذا عادة من غرضه الحق، فالشخص الذي غرضه الحق لا يحلف ولا يعاهد بمثل هذا العهد، أنه مهما تأته البينات والحجج فلن ينقاد، هذه طبيعة المجرم المتكبر كما وصفهم الله سبحانه وتعالى. وتدل هذه الآيات على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها، وتدل على وجوب التدبر في الآيات. ولما وقع عليهم الرجس أي: نزل بهم العذاب المفصل آية تلو آية: {قَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف:49] يعني: بعهده عندك، وعهد الله عند موسى هو النبوة، فما: هنا مصدرية. قال الشهاب: سميت النبوة عهداً؛ لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا عليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقاً تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك)

تفسير قوله تعالى: (ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]. أي: لنرسلن معك الذين أُرسِلْتَ لطلبهم ليعبدوا ربهم تبارك وتعالى، فنلاحظ أن كل مطلب موسى من فرعون أن يسلِّم بني إسرائيل فقط؛ لأن موسى أرسل إلى بني إسرائيل؛ لأن القاعدة أن كل الأنبياء نبي قبل رسول الله عليه السلام كان يبعث إلى قومه خاصة، وأنه عليه الصلاة والسلام اختص من بين سائر الأنبياء بأن بعثه الله عز وجل إلى العالمين كافة. وهذه الآية تدل على أن قوم فرعون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وعلى أن فرعون كان كاذباً في إنكار ذلك، فبعض الآيات ظاهرها أن فرعون كان ينكر وجود الله عز وجل، لكن لا يوجد دليل من القرآن الكريم كله، على أن هناك طائفة أنكرت وجود الله، فإنكار وجود الله عز وجل لم يقل به أحد، حتى فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] والذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] قد قص الله سبحانه وتعالى علينا في آخر سورة الإسراء قصته وفيها: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:101 - 102] فموسى يخبر عما في قلب فرعون لأن الله أعلمه بذلك. ((لقد علمتَ)) يعني: يا فرعون! ((مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ))، فإذاً فرعون حتى لو كان قد أعلن أنه ينكر الله سبحانه وتعالى، فقد كذب في هذه الدعوى. وكذلك قوله تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:13 - 14]، فهذا الكفر الذي كانوا عليه هو عبارة عن جحود، لكن في قلوبهم كانوا يعرفون صدق موسى عليه السلام وأنه مرسل من عند الله عز وجل. والدليل الثالث: هو هذا الموضع، ونظائره في القرآن الكريم من أنه كان إذا نزل عليهم العذاب من الله سبحانه وتعالى يفزعون إلى موسى: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، فيطلبون منه أن يشفع لهم عند الله أن يوقف عنهم هذا العذاب.

تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم الرجز وكانوا عنها غافلين)

تفسير قوله تعالى: (فلما كشفنا عنهم الرجز وكانوا عنها غافلين) قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:135 - 136] يعني إلى الوقت الذي أجل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم، ((إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ)) أي: ينقضون العهد الذي التزموه فلم يفوا به، فإن فرعون كان كلما حل بمصر نقمة مما تقدم يدعو موسى ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد وقسا قلبه، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم أتتهم النقمة القاضية. ونلاحظ أن كل النقم الماضية كانت مؤقتة، تأتي البلية ثم تنكشف، ثم تأتي الحسنة، ثم تليها سيئة، ثم أتتهم الآيات التي ذكر الله سبحانه وتعالى، فحينما لم يتعظوا بما شاهدوه أتتهم النقمة القاضية فأخذوا بالإهلاك الذي قضي عليهم، فقال عز وجل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:135 - 136]. ((فأغرقناهم في اليم)) أي: في البحر، بسبب ((أنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)) أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم وعدم مبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون بعدما أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاءوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلاً بكل ما معهم من غنم وضأن ومواشٍ، ولما سمع فرعون بارتحالهم ندم على ما فعل من إطلاقهم، فجمع جيشه ومراسله الحربية ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر، حينئذ خاف الإسرائيليون وأخذوا يتذمرون على موسى، فقال لهم: لا تخافوا إن الله معنا، قال: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] على يقين، ثم أمر تعالى موسى فمد يده بعصاه إلى البحر الأحمر فانشق ماؤه وصار فيه طريقاً واسعاً، وأرسل الله ريحاً شرقية شديدة فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده بإذن الله على البحر فارتد ماؤه سريعاً وغمر فرعون وجنوده ومراكبه فغرقوا جميعاً، ثم طفت أجسادهم على وجه الماء وانقذفت إلى الساحل فشاهدها الإسرائيليون عياناً، هذا ملخص ما روي هنا. قال الجشمي: تدل الآيات أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم في الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث والإعراض فعلهم، فلذلك عاقبهم عليهما.

تفسير قوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها)

تفسير قوله تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها) قال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]. قوله تعالى: ((وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون)) أي: بالاستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة. ((مشارق الأرض ومغاربها)) أي: الأرض المقدسة أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا في أكنافها. وقوله تعالى: ((التي باركنا فيها)) أي: بالخصب وسعة الأرزاق. ((وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل)) أي: مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين. ((بما صبروا)) أي: بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه. قال الزمخشري: وحسبك به حاثاً على الصبر، فمن قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج. وعن الحسن قال: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله تعالى وتلا الآية، ومعنى خف: طاش جزعاً وقلة صبر ولم يرزن رزانة أولي الصبر. ((ودمرنا)) أي: خربنا وأهلكنا ((ما كان يصنع فرعون وقومه)) أي: ما كانوا يعملون من العمارات وبناء القصور، ((وما كانوا يعرِشون)): أو (وما كانوا يعرُشون) بكسر الراء وضمها، أي: من الجنات، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان. وهذا كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]، وقال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28]. قال الزمخشري: اقتص الله من ملأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملك فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر، من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه {لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، جهول كنود إلا من عصمه الله {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة، فقال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:138 - 140].

الأعراف [138 - 155]

تفسير سورة الأعراف [138 - 155]

تفسير قوله تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر)

تفسير قوله تعالى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) قال عز وجل: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]. قال الزمخشري فيما مضى من الآيات التي انتهت بقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] قال: وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه باقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر، من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهراً وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي؛ ليعلم حال الإنسان، وأنه كما وصفه ((لظلوم كفار))، جهول كنود إلا من عصمه الله {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة من الكيد والتآمر والغدر والخيانة. ثم شرع عز وجل في بيان سلوك بني إسرائيل مع نبيهم مع ما رأوه من قبل من آيات الله عز وجل العظام، وكيف أنهم سرعان ما بدلوا وغيروا! فبمجرد أن جاوز الله بهم البحر وقعوا في هذا الأمر العظيم. وقوله تعالى: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)) يعني: نفس البحر الذي أغرق الله فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم، وهو ما يسمى الآن بالبحر الأحمر، كما يقول القاسمي كان في شرقي مصر قرب جبل الطور، أضيف إليه لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس، فالقلزم أصلاً هي اسم لمدينة السويس، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر فقد أخطأ، ولا شك أنه لا يصح أبداً تفسير البحر بأنه النيل، وإنما هو البحر الأحمر المعروف الآن بهذا الاسم. وقوله: ((فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ)) قرئ: (يعكُفون)، وقرئ (يعكِفون)، بضم الكاف وكسرها، أي: يواظبون على عبادتها ويلازمونها. وقوله: ((قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ))، أي: اجعل لنا صنماً نعكف عليه، كما لهم أصنام يعكفون عليها. وقوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) أي: تجهلون شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله سبحانه وتعالى. قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه: اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله سبحانه وتعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكل ذلك لشدة جهلهم.

تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون)

تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) ثم قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:139]. قوله: ((إن هؤلاء)) يعني: أن عبدة تلك التماثيل ((متبر ما هم فيه)) أي: مهلك ما هم فيه من الشرك، ((وباطل ما كانوا يعملون)) أي: من عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى فإنه كفر محض. قال الرازي: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي خلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل، وخلق الأشياء المنتفع بها، والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب ألا تليق العبادة إلا به عز وجل. وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم)، أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم. وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي رحمه الله: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البر والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها. يعني أن ذلك يعتبر أنموذجاً أو صورة من صور ذوات الأنواط التي ينبغي أن تقطع؛ قطعاً لذريعة الإشراك بالله عز وجل. وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتابه (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد. يعني: دهنها بالخلوق وبالطيب، كما يحصل الآن تماماً في بعض المقامات والأضرحة وغير ذلك؛ حيث يعطرون حجارتها بالعطور، ويعظمون هذه الأشياء، ويتمسحون بها، ومنها ما يزعمون أنها آثار كف النبي عليه الصلاة والسلام أو قدمه، كما في مسجد البدوي في طنطا، فإنه يوجد ركن معين يوجد فيه أثر قدم مطبوعة يزعمون أنها قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ولنفرض جدلاً أن هذا أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ماذا؟! هل يقتضي ذلك التعبد أو إرادة هذا الحجر من دون الله عز وجل والتمسح به وتخليقه وحث الناس على تعظيمه؟! وكذلك يقبلون المقصورات النحاسية أو الذهبية التي حول هذه القبور، وهذا كله ليس من دين الإسلام في شيء، بل هذا كله تشبه وإحياء لسنة بني إسرائيل مع هؤلاء القوم الذين قالوا لموسى: ((اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)). يقول: وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه. يعني: أنك تجد عامتهم يفعلون ذلك وأكثرهم ربما لا يصلون، ومتوقع أنهم لا يصلون؛ لأنه إذا كانت الصلاة ثاني أركان الإسلام فإن التوحيد أول أركان الإسلام، وهم لا يحسنون التوحيد، فإذا كانوا لم يصححوا عقيدتهم ولم يفهموا أصلاً معنى لا إله إلا الله، فهل أمثال هؤلاء يكونون مصلين؟! فكثيراً ما تجد هؤلاء لا يصلون، بل ربما يرتكبون أفحش الأشياء في هذه الموالد والاحتفالات، كتعاطي المخدرات، والاختلاط الفاحش بين الرجال والنساء! وتجد النساء يجلسن يتعاطين الشيشة في الخيام التي ينصبونها، وكل هذه الأشياء لا مناسبة ولا ربط لها بالدين؛ فما علاقة كل هذا بالإسلام وبالتوحيد وبالمساجد والعبادات؟! وإنما هؤلاء من أهل الفسق والفجور، وليسوا من أهل الذكر، بل هم من أهل الغفلة، ومجالسهم ليست ذكراً لله، ولكنها غفلة عن الله سبحانه وتعالى، وغفلة عن حقوق التوحيد. يقول أبو شامة: فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. ثم شرح الإمام أبو شامة شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط التي في الحديث! وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة، ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لـ ابن القيم فلتنظر. والآن أيضاً ظهرت أشياء جديدة من نفس هذا الباب، كاتخاذ التمائم للوقاية من السحر ومن الحسد وغير ذلك من الشرور، لكن بصورة مزركشة أكثر، فبدل الكف الذي كانوا يصنعونها من قبل أصبحوا الآن يستعملون هذه الخرزات ذات اللون اللبني أو الأزرق، وهذه الحجارة أصبحت مشهورة تعلق في كل مكان، فتعلق في السيارات وفي العيادات وفي المنازل، وكأنها نوع من الزينة، وكثير منهم يقصدون بها دفع الشر، وحتى لو كتبوا عليها المعوذتين أو كتبوا القرآن إذا اتخذت لأجل دفع السوء فهذا نوع من اتخاذ التمائم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من تعلق تميمة فقد أشرك، أو: فلا أتم الله له). وكذلك يعلقون آية الكرسي سواء في السلاسل على الصدور كالنساء مثلاً، أو غير ذلك مما يتخذ من أجل أن هذه القماشة التي كتب عليها ذلك هي التي ستحفظه، فإن أردت أن تعتصم بالله عز وجل فارق نفسك أو أولادك أو بيتك أو الشيء الذي تريد رقيته بالرقية الشرعية، فكثير من هؤلاء الناس أصلاً لا يصلون ولا يوحدون الله، فكيف يقال: إن هذه المعوذات سوف تحميهم؟! فإذا أردت أن تتعوذ بالله عز وجل فاقرأ أنت المعوذات، واقرأ القرآن، وعليك أن تدعو الله سبحانه وتعالى، وتتجه إلى الله عز وجل، لا إلى هذه الأحجار.

تفسير قوله تعالى: (قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين)

تفسير قوله تعالى: (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين) قال تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140]. أي: قال موسى مذكراً قومه نعم الله تعالى عليهم الموجبة لتصديقه تعالى بالعبادة: (أغير الله أبغيكم إلهاً)، أي: أغير الله أطلب لكم معبوداً؟ يقال: أبغاه الشيء: طلبه له، كبغاه إياه، ويتعدى إلى مفعولين، كما في قوله هنا: (أبغيكم إلهاً)، وفي الحديث: (ابغني أحجاراً أستطيب بها). والاستفهام في الآية للإنكار والتعجيز والتوبيخ، فقوله: (قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) يعني: والحال أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وكل آية فيها تفضيل بني إسرائيل على العالمين فهي مقيدة ليست على إطلاقها، وإنما المقصود: فضلهم على العالمين في زمانهم فقط، وليس على الإطلاق؛ لأن الأمة المفضلة على العالمين أجمعين على الإطلاق هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) قال تعالى: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف:141]. ((وإذ أنجيناكم من آل فرعون)) أي: من فرعون وقومه، ((يسومونكم سوء العذاب)) أي: بالعمل الذي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه: كلفه إياه وجشمه وألزمه، أو أولاه إياه. وقوله: ((يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)) أي: فنجاكم وحده دون شفاعة من أحد، وهذه الآية تدل على أن هلاك الأعداء نعمة من الله سبحانه وتعالى يجب مقابلتها بالشكر، وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس ويجري مجراه.

تفسير قوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)

تفسير قوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر) ثم قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]. روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر نزلوا في برية طور سيناء، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهراً ونصفاً، ولما نزلوا تلقاء الجبل صعد موسى إليه، وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه، ثم انحدر موسى عليه السلام إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضباباً وصوت رعود وبروقاً، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل، وكان مغطىً بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام، وأقام في الجبل أربعين يوماً لم يأكل ولم يشرب لما أمد به من القوة الروحانية والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه كان على وجهه أشعة نور مدهشة، حيث كان موسى عليه السلام إذا رجع من تكليم الله تعالى إياه كان يرجع وعلى وجهه نور مدهش، لا يقوى أحد أن ينظر إلى وجهه من شدة النور الذي على وجهه، يقول: ولما رجع إلى قومه كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعاً، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة رفعه وإذا أتاهم وضعه. والله تعالى أعلم. ((وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ)) يعني حينما توجه للمناجاة: ((اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)) أي: كن خليفتي فيهم، ((وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)) يعني: لا تتبع سبيل من سلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه. قال الجشمي: تدل الآيات على أنه استخلف هارون عند خروجه لما رأى أنهم أشد طاعة له وأكثر قبولاً منه، ومخاطبة موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]، وقول هارون: {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} [طه:94]، وقوله: {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف:150] كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية وإن اشتركا في النبوة، يعني: أن هذا يدل على أن مرتبة موسى كانت أعلى من مرتبة هارون، كما هو واضح أن السياق كله هنا أنه استخلفه لما أراد أن يخرج إلى المناجاة، والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع؛ لأنه هو المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل الآية على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله؛ عظة له واعتباراً لغيره، وتأكيداً ومصلحة للجميع.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) ثم قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]. قوله: ((ولما جاء موسى لميقاتنا)) أي: حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا، ((وكلمه ربه)) أي: خاطبه من غير واسطة ملك. ((قَالَ رَبِّ أرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) أي: لن تطيق رؤيتي؛ لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية لا طاقة لها بذلك؛ لعدم استعدادها له، بل ما هو أكبر جرماً وأشد خلقاً وصلابة وهو الجبل، لا يثبت لذلك، بل يندك. فالله سبحانه وتعالى أراد أن يعلم موسى عليه السلام ذلك، فأولاً قال له: ((لن تراني))، ثم بين أن المقصود: لن تراني بهذه الهيئة التي أنت عليها، يعني: البنية الآدمية في هذه الحياة الدنيا، لأنها غير مؤهلة لرؤية الله عز وجل، ولا تطيق ذلك أبداً، فليس من شأن أهل الدنيا أن يروا الله تبارك وتعالى، وبين له في درس عملي أن الجبل الذي هو أقوى منك جرماً وحجماً وصلابة لا يثبت لرؤية الله سبحانه وتعالى ولتجليه عز وجل، فكيف يثبت الآدمي الضعيف؟! ولذلك قال له تعالى: ((لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ)) يعني: انظر إلى الجبل الذي هو أقوى منك. ((فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)) يعني: إن ثبت مكانه حين أتجلى له ولم يتزلزل فسوف تراني، أي: سوف تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة لك، وفيه من التلطف بموسى والتكريم له والتنزل القدسي ما لا يخفى. وقوله تعالى: ((فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ)) أي: ظهر له وبان، ((جَعَلَهُ دَكًّا))، يعني: جعله التجلي دكاً، أي: مفتتاً، فلم يستقر مكانه، فنبه تعالى على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بألا يستقر، وفيه تسكين لفؤاد موسى عليه السلام، وتطمين لموسى عليه السلام أن الذي منعني من التجلي لك هو أنك لا تطيق ذلك بهذه البنية التي أنت عليها الآن في الدنيا، وليس المانع من التجلي أن الرؤية مستحيلة، فرؤية الله ليست مستحيلة، لكن الله عز وجل لا يقوى أحد على رؤيته في هذه الدنيا. ((وخر)) أي: سقط ووقع ((موسى)) عليه السلام ((صعقاً)) أي: مغشياً عليه من هول ما رأى من اندكاك الجبل وانفعاله لرؤية الله سبحانه وتعالى له لما تجلى له، ((فَلَمَّا أَفَاقَ)) موسى عليه السلام، ((قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ)) من الإقدام على سؤال الرؤية، ((وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: أنا أول المؤمنين بأنه لا يستقر ولا يثبت لرؤيتك أحد فيه هذه النشأة الدنيوية. قال الناصر في الانتصاف: إنما سبح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وعن الخلف في خبره الحق وقوله الصدق، فلما تبين أن مطلوبه كان خلاف المعلوم سبح الله أن سبق في علم الله عز وجل أن الله قضى أنه لا يراه أحد، ولا يقوى أحد أن يراه في الدنيا. وقوله: ((قال سبحانك)) يعني: لا مبدل لكلماتك ولا لعلمك بأنه لا يستطيع أحد أن يراك في الدنيا، وأما التوبة في حق الأنبياء فلا تستلزم كونها عن ذنب؛ لأن منصبهم الجليل ينبغي أن يكون منزهاً مبرءاً من كل ما ينحط به، ولا شك أن التوقف في سؤال الرؤية على الإذن كان أكمل، وقد ورد: (سيئات المقربين حسنات الأبرار)، يعني: لا شك أنه كان الأولى في حق موسى ألا يسأل، أو يستأذن؛ لكنه لم يفعل ذلك، فكان عدم الاستئذان كأنه ذنب، ولذلك قال: ((تبت إليك)) يعني: لا أعود إلى سؤال الرؤية مرة ثانية. وقوله: ((وأنا أول المؤمنين)) هل هو أول المؤمنين بالله؟ A لا؛ لأنه قد سبقه أنبياء آخرون كثيرون ومؤمنون من المسلمين، لكن المقصود: أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك أحد في هذه الحياة الدنيا بهذه النشأة.

وجه إثبات رؤية الله من قوله: (رب أرني أنظر إليك)

وجه إثبات رؤية الله من قوله: (رب أرني أنظر إليك) قال المتكلمون: دلت الآية على جواز رؤيته تعالى من وجهين: الوجه الأول: أن سؤال موسى عليه السلام الرؤية يدل على إمكانها؛ لأن العاقل فضلاً عن النبي لا يطلب المحال، ولا مجال إلى القول بجهل موسى عليه السلام بالاستحالة؛ فإن الجاهل بما لا يجوز على الله لا يصلح للنبوة، يعني: أن موسى عليه السلام كان يعلم أن رؤية الله ممكنة وليست مستحيلة، لكنه كان لا يعلم أن هذه الرؤية لا تكون في الدنيا إنما تكون في الآخرة. الوجه الثاني: أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه. أي وإذا علق الشيء على أمر ممكن فهذا يدل على أنه ممكن، وإذا علق على أمر مستحيل فهذا يدل على أنه مستحيل، وأقرب مثل لذلك هو: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فعلق دخولهم الجنة على دخول الجمل في سم الخياط، سواء قلنا: إن المقصود هنا بالجمل: الحبل الضخم الذي يستعمل في السفن، أو الحيوان المعروف، فهو مستحيل، ومثله قولك: لن أفعل كذا حتى يبيض القار، مع أن القار لا يبيض! وكذلك: حتى يشيب الغراب، والغراب لا يشيب. أما إذا علق على أمر ممكن فيدل على أنه ممكن، فعندما يقول مثلاً: سوف آتيك إذا طلعت الشمس، فهذا معناه: أنه يمكن أن يأتيك. فالله سبحانه وتعالى علق الرؤية هنا على استقرار الجبل، واستقرار الجبل أمر ممكن في نفسه، والمعلق على الممكن ممكن؛ لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة.

الرد على الذين ينكرون رؤية الله عز وجل يوم القيامة

الرد على الذين ينكرون رؤية الله عز وجل يوم القيامة وأما زعم المعتزلة أن الرؤية مجاز عن العلم الضروري، وأن معنى قوله: ((أرني أنظر إليك)) أي: اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً. وبهذا وقع المعتزلة في إشكال؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطعنوا فيما ذكرناه آنفاً من أن النبي أعلم بالله من أن يسأله ما يستحيل عليه سبحانه وتعالى. فالآية واضحة: ((رب أرني أنظر إليك))، لكنهم أولوا الآية كعادة أهل البدع والضلال حينما تصادم النصوص أهواءهم، فإذا كان حديثاً كذبوه، وإذا كانت آية أولوها وأفسدوا معانيها، وجعلوا أهواءهم هي الأصل، فلذلك قالوا في قوله: (رب أرني أنظر إليك): يعني: اجعلني عالماً بك علماً ضرورياً، وهذا التأويل خلاف ظاهر القرآن الكريم، فقوله: (رب أرني أنظر إليك) ظاهر، وانظر إلى كلمة: (أنظر إليك)، فهل هذه معناها: اجعلني أعلم بك علماً ضرورياً؟! A لا؛ لأن النظر الموصول بـ (إلى) نص في الرؤية البصرية، فلا يترك بالاحتمال، مع أن طلب العلم الضروري بمن يخاطبه ويناجيه غير معقول. وكذا يبطل زعمهم أن موسى عليه السلام كان سألها لقومه، يعني: يوجد مخرج آخر أراد المعتزلة أن يخرجوا به من هذه الورطة، فقالوا: موسى كان يعلم أن رؤية الله سبحانه وتعالى مستحيلة، لكنه سأل الله عز وجل أن يراه، وليس المقصود أن يراه هو، لكن لأن قومه قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] فهو سأل رؤية الله استجابة لطلب قومه، وأراد بذلك أن يعلم قومه أن الرؤية مستحيلة، فزعمهم أن موسى عليه السلام كان سألها لقومه حيث قالوا: ((لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)) وهذا الزعم خلاف الظاهر، وهو تكلف يذهب رونق النظم، فترده ألفاظ الآية. وقد ثبت وقوع رؤيته تعالى في الآخرة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وأما السنة فلا تحصى أحاديثها، ولكن إذا أصيب المرء بداء المكابرة في الحق الصراح عسر إقناعه مهما قوي الدليل وعظمت الحجة، وهذه آفة المعتزلة فإنهم يكذبون الأحاديث الواردة في الرؤية، ويؤولون الآيات التي تثبت الرؤية في الآخرة.

الرد على الزمخشري المعتزلي في إنكاره لرؤية الله عز وجل يوم القيامة

الرد على الزمخشري المعتزلي في إنكاره لرؤية الله عز وجل يوم القيامة قال في (فتح البيان): رؤيته تعالى في الآخرة ثبتت بها الأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه أباه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب، والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء، وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق؛ غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع! فإنه صار بها باب الحق مرتجاً، وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح انتهى. ويقول القاسمي: وهذا تعريض بالمعتزلة،, في مقدمتهم الزمخشري، وقد انتقل -عفا الله عنه- أخيراً إلى هجاء أهل السنة، أي: أن الزمخشري من أئمة الاعتزال، ورغم اعترافنا بما للزمخشري من باع عظيم جداً في إظهار بلاغة القرآن وإعجاز القرآن الكريم اللغوي والبياني، لكن ما أكثر ما أطال لسانه في علماء أهل السنة! فقد هجاهم وتطاول عليهم تطاولاً قبيحاً، ومن ذلك أنه هجا أهل السنة والجماعة أهل الحق بقوله: لجماعة سموا هواهم سنة اعتبر أن كلمة (أهل السنة والجماعة) يعني: أهل الهوى. لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة يصفهم -والعياذ بالله- بأنهم حمر. قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة ويعني بالبلكفة قولهم: (بلا كيف) وهذا هو ما يسميه علماء اللغة النحت، فمثلاً: بدل أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، تقول: البسملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله: الحوقلة، وحي على الصلاة أو حي على الفلاح: الحيعلة، فهذا يسمى نحتاً، فهو يقول هنا في ذم أهل السنة والتطاول عليهم: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة يشببهم بالحمير التي عليها الإكاف الذي يوضع عليها. وقوله: (قد شبهوه بخلقه) يزعم أن أهل السنة شبهوا الله بخلقه، فهو يعني بزعمه أنهم لما أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة فكأنهم شبهوا الله بخلقه، والمعتزلة لهم ضلال مبين في فهم الأحاديث، والعوج هو في فهمهم هم وليس في النصوص؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتواتر -يعني: نقل بنفس الطريقة التي نقل بها القرآن-: (هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب أو القمر ليس دونه سحاب)، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سيرون الله سبحانه وتعالى كما يرون الشمس أو القمر ليس دونها سحاب، وهنا أركان التشبيه موجودة، لكن هل معنى هذا أن الحديث يشبه الله سبحانه وتعالى بالشمس أو بالقمر؟! A لا، بل التشبيه للرؤية بالرؤية، وليس للمرئي بالمرئي، ووجه شبهه شدة وضوح الرؤية فقط، وليس معنى ذلك أنك تشبه المرئي هنا بالمرئي هنا، معاذ الله! فهذا مستحيل. فلذلك أثبت أهل السنة الرؤية على أنها رؤية حقيقية، وتكون واضحة أشد الوضوح لا ريب فيها، لكن الله أعلم بكيفيتها، فأهل السنة قالوا: بلا كيف، وهذا شأن أهل السنة في سائر هذه الأشياء، والزمخشري يقول في أهل السنة: (قد شبهوه بخلقه)، أي: أن أهل السنة شبهوا الله بخلقه، (وتخوفوا شنع الورى)، أي: وخافوا أن يشنع الناس عليهم بالتجسيم وبالتشبيه، فوضعوا ستاراً يستترون وراءه، وهو البلكفة، يقصد كلمة (بلا كيف)، فيذم أهل السنة بأنهم يسترون عقائد التجسيم والتشبيه وراء عبارة (بلا كيف)، هذا هو معنى قوله: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا شنع الورى فتستروا بالبلكفة قال في (الانتصاف): ولولا الاستنان بـ حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعره والمنافح عنه وروح القدس معه، لقلنا لهؤلاء المتلقبين بالعدلية: سلاماً. ويعني بالعدلية: المعتزلة؛ لأنهم يسمون أنفسهم أهل العدل، أي: العدل في التوحيد، ويسمون أنفسهم بالناجين، أي: الذين هم أهل النجاة بضلالهم وانحرافهم. فيقول: كان الأصل أن نقول لهم: سلاماً؛ يريد أن يصفهم بالجهل، والله سبحانه وتعالى مدح المؤمنين بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فيقول: الأصل أن مثل هذا الشخص المتطاول الذي يسب أهل السنة هذا السب الشنيع كان ينبغي أن نقول: سلاماً؛ لأنه جاهل. ولكن كما نافح حسان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه، فنحن ننافح عن أصحاب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءهم. أي: أن حسان كان ينافح عن رسول الله، والإمام الناصر يقول: ونحن نرد أيضاً بالشعر على هذا المعتدي الظالم، وننافح عن أصحاب سنة رسول الله الذين هم أهل السنة والجماعة، فنقول: وجماعة كفروا برؤية ربهم حقاً ووعد الله لنا لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه فانتصر لأهل السنة بهذا الشعر الجميل. وقوله: (وجماعة كفروا برؤية ربهم) يقصد به المعتزلة كـ الزمخشري وأمثاله. وقوله: (ووعد الله لنا لن يخلفه)، يعني: أن الله وعد المؤمنين بالرؤية، والله لن يخلف وعده. وقوله: (وتلقبوا عدلية)، أي: أنهم لقبوا أنفسهم أنهم أهل العدل، قوله: (قلنا: أجل)، أي: أنتم عدلية، لكن لا نسبة إلى العدل، وإنما نسبة إلى العدول عن الله سبحانه وتعالى. وقوله: (وتلقبوا الناجين كلا إنهم إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه) يعني: أنهم إن لم يكونوا بالفعل دخلوا لظى فهم على شفها جهنم. وقال أبو حيان في الرد على الزمخشري: شبهت جهلاً صدر أمة أحمد وذوي البصائر بالحمير الموكفه وجب الكفار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفه أترى الكليم أتى بجهل ما أتى وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه إن الوجوه إليه ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم هذا سفه نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى فهوى الهوى بك في المهاوي المتلفه وتلاحظون أنهم يردون عليه بنفس الوزن وبنفس القافية، فيقول له هنا: (شبهت جهلاً صدر أمة أحمد). أي: شبهت السلف الصالح وعلماء أهل السنة والجماعة بالحمير الموكفة. وقوله: (وجب الكفار عليك فانظر منصفاً في آية الأعراف فهي المنصفة) أي: تأمل في آية الأعراف، وهي هذه الآية التي نحن بصددها، ثم بين فقال: (أترى الكليم أتى بجهل ما أتى). أي: هل الكليم عليه السلام كان يجهل ربه؟! وهل موسى ما كان يعرف ربه وهو نبي من أولي العزم من الرسل؟! فحينما قال: ((رب أرني أنظر إليك)) كان لا يعلم أن هذا مستحيل وأتى به، أو أنه أتى بذلك جهلاً؟! وقوله: (وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة)، يعني: هل شيوخك المعتزلة هم أصحاب العلم، وموسى عليه السلام كان جاهلاً بربه؟! وقوله: (إن الوجوه إليك ناظرة بذا جاء الكتاب فقلتم هذا سفه) يشير إلى قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وقال العلامة الجاربردي أيضاً في الرد عليه قال: عجباً لقوم ظالمين تستروا بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة قوله: (عجباً لقوم ظالمين تستروا بالعدل)، أي: أنهم يتسترون وراء العدل، وسموا أنفسهم بالعادلين، وهم في الحقيقة ظالمون. وفي الحقيقة القصائد كثيرة جداً على نفس هذا السياق من علماء أهل السنة، وكلهم يردون على الزمخشري عدوانه وتطاوله، وكتاب (الانتصاف لبيان ما في الكشاف من الاعتزال) للإمام ناصر الدين أخذ بثأر أهل السنة، وتتبع الزمخشري في كل موضع تطاول فيه على علماء أهل السنة والجماعة.

تفسير قوله تعالى: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس)

تفسير قوله تعالى: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس) ثم ذكر الله تعالى أنه خاطب موسى باصطفائه، فقال سبحانه وتعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144]. ((قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس)) أي: اخترتك على أهل زمانك، وليس أيضاً على إطلاقه؛ فإن الذي اصطفي على الناس أجمعين، هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وآثرتك عليهم ((برسالاتي وبكلامي))، أي: وبتكليمي إياك. ((فخذ ما آتيتك))، أي: خذ ما أعطيتك من شرف النبوة والمناجاة، ((وكن من الشاكرين)) أي: على النعمة في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء)

تفسير قوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء) ثم قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف:145]. ((وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء))، يعني: من الحلال والحرام. ((فخذها بقوة)) أي: بعزم على العمل بما فيها، يعني: خذ الألواح وخذ الشريعة بقوة، كما قال تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، يعني: تمسكوا به، واعزموا على العمل بما فيه. ((وأمر قومك يأخذوا بأحسنها)) أي: يأخذوا بأحسنها الذي أمروا به دون ما نهوا عنه. ((سأريكم دار الفاسقين)) وهي الأرض التي وعدوا بها من فلسطين، فإنهم لم يعطوها إلا بعد أربعين سنة من خروجهم من مصر، وبقائهم في البرية، كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]؛ فإن موسى عليه السلام لما مات خلفه يوشع بن نون، فحارب الأمم والملوك الذين كانوا يسكنون أرض كنعان، وفتح بلادهم، وصارت ملكاً لبني إسرائيل، والكنعانيون هم الفلسطينيون، فالعبرة في الانتماء في كل الأزمنة المختلفة في مثل هذه المواقع هي: من هم أهل الإيمان والتوحيد وأهل الإسلام، فمثلاً: في سورة البقرة قصة جالوت وطالوت، وداود عليه السلام، قال عز وجل: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251]، وجالوت كان من الفلسطينيين؛ لأنهم لم يكونوا على التوحيد، فكان الحق مع بني إسرائيل، وكذلك نحن في هذا الزمان؛ فلو بعث موسى عليه السلام فإنه سيكون مع المسلمين؛ لأنهم هم أهل العقيدة الصحيحة، ولو بعث سليمان عليه السلام فلن يسعى إلى إعادة بناء الهيكل؛ لأن بيت المقدس الآن هو مكان يعبد فيه الله سبحانه وتعالى، وسليمان إذا بعث سوف يكون تابعاً لشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويدخل في دين الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، أي: ما كان يجوز له أبداً إلا أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، بل عيسى عليه السلام حينما يأتي في آخر الزمان سيحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصلي خلف المهدي إماماً أول ما ينزل. ولو بعث علي عليه السلام هل سيكون معنا أم مع الشيعة الذين يزعمون حبه والتشيع له؟ A قطعاً سيكون مع أهل السنة، فكذلك لو بعث موسى وعيسى وسليمان وجميع أنبياء بني إسرائيل سوف ينحازون إلى أهل التوحيد وأهل الإسلام، ويحاربون من يزعمون أنهم على ملتهم ظلماً وزوراً. ويدل قوله: ((وكتبنا)) على أنه أعطاه التوراة مكتوبة في الألواح عند الميقات، فموسى عليه السلام أعطي التوراة مرة واحدة مكتوبة في الألواح التي آتاها الله عز وجل لموسى؛ لتكون محروسة، وليبلغه الحاضرون إلى الباقين، وليقع لهم العلم ضرورة، وهذا يدل على أن في التوراة شرائع ما يحتاج إليه. ويدل قوله: ((بقوة)) على أن العبد قادر على الفعل، وأنه يفعل بقدرة.

تفسير قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق)

تفسير قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) ثم قال عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146]. أي: سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمة الشريعة والأحكام عن قلوب المتكبرين عن طاعتي والمتكبرين على الناس؛ لأنهم كما استكبروا على خلق الله أذلهم الله بالجهل، فحرمهم من فهم آيات الله سبحانه وتعالى. وقوله: ((سأصرف)) يعني: سأمنع. ((عن آيتي)) أي: عن فهم وتدبر آياتي. ((الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق))، أي: ما داموا تكبروا بغير الحق في الأرض فسيعاقبهم الله سبحانه وتعالى بالجهل، وكفى بالجهل ذلاً! وهذا من باب مقابلة كبرهم. وهذا كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، وكقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. ((بِغَيْرِ الْحَقِّ))، أي: يتكبرون بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل، أو (بغير الحق) حال، يعني: يتكبرون غير محقين. وقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ)) أي: حجة من الآيات والحجج المنزلة عليهم. ((لا يُؤْمِنُوا بِهَا)) يعني: تكبراً عليها. وقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ)) أي: حين يرون طريق الحق والهدى والاستقامة واضحاً ظاهراً. ((لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا))؛ لأنه يتنافى ويتعارض مع أهوائهم. وقوله: ((وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ)) أي: الضلال عن الحق والهلاك. ((يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)) أي: طريقاً يميلون إليه، ((ذَلِكَ)) إشارة إلى الصرف عن الآيات، أو (ذلك) يعني: لاتخاذهم الغي سبيلاً، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ))، أي: لاهين لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها، أو غافلين عما ينزل بهم.

تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم) ثم بين عز وجل وعيد المكذبين بقوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:147]. ((والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة)) يعني: القيامة، وهي الكرة الثانية، وسميت آخرة لتأخرها عن الدنيا، و (الآخرة) صفة لمحذوف، ولقاء الدار الآخرة. وقوله: ((حبطت أعمالهم)) أي: بطلت فلم تعقب نفعاً، والمراد: حبط جزاء أعمالهم؛ لأن الحابط إنما يصح في المنتظر دون ما تقضى، وهذا كقوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، يعني: يروا ثواب أعمالهم. ((هل يجزون إلا ما كانوا يعملون)) أي: إلا جزاء عملهم من الكفر والمعاصي. وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: ((سأصرف عن آياتي)) إلى آخره كلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متصل بما سبق من قصصهم، وهو {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ} [الأعراف:100] إلى آخره، وإيراد قصة موسى وفرعون إنما هو للاعتبار، وإلا فالسياق أصلاً مع الكفار من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال الكعبي وأبو مسلم الأصبهاني: إن هذا الكلام كلام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه، ومعنى صرفهم: إهلاكهم، فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا عن منع المؤمنين من الإيمان بها، وهو شبيه بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة.

تفسير قوله تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار)

تفسير قوله تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار) ثم قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148]. يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم، فشكل لهم منه عجلاً جسداً لا روح فيه، وقد احتال بإدخال الريح فيه حتى صار يسمع له خوار، أي: صوت كصوت البقر، وقد أعلمه الله بذلك وهو على الطور؛ حيث قال إخباراً عن نفسه سبحانه وتعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85]. قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ قيل: ((وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا)) والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم؛ لأن رجلاً منهم باشره، فوجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا، وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه؛ لأن الذي يقر على المنكر شريك فيه، كما نسب عقر الناقة إلى ثمود، مع أن الذي عقرها واحد منهم، بدليل قوله تعالى: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12]. الوجه الثاني: أن يراد أنهم اتخذوه إلهاً وعبدوه. ثم قال: فإن قلت: لم قال: (من حليهم)، ولم يقل: الحلي لهم، وإنما كانت عواري في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، وكونها في أيديهم عواري كفى بها ملابسة، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما قال تعالى: {وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59]. قال النسفي: وفيه دليل على أن من حلف ألا يدخل دار فلان فدخل داراً استعارها يحنث، وأن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها. والحلي جمع حلية، كثدي وثدي، وهو: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة، كما قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من ناقص يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا إشارة إلى أن المرأة فيها نقص ظاهري في هيئتها، فهي تحاول تكميل هذا بالزينة، ولذلك أباح الله لهن الحرير والذهب والزينة. وقوله تعالى: ((أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا))، هذا تقريع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر والتفكر والتدبر، والمعنى: ألم يروا حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر، فهو جماد لا ينفع ولا يضر، يعني: أن العجل أحط من البشر؛ لأنه لا عقل عنده، ولا ينفع ولا يضر، فكيف يصلح أن يكون إلهاً؟! وقوله: ((اتَّخَذُوهُ)) هذا تكرير لتأكيد الذم، أي: اتخذوه إلهاً وعبدوه. ((وَكَانُوا ظَالِمِينَ)) أي: واضعين الأشياء في غير مواضعها، والجملة إما استئنافية، وإما اعتراضية تذييلية للإخبار بأن ذلك دأبهم وعادتهم قبل ذلك، فلا ينكر هذا منهم، أو حالية، أي: اتخذوه في هذه الحالة المستقرة لهم. قال الجشمي: تدل الآية على صحة الحجاج على الدين، وأنه تعالى دلهم في بطلان اتخاذ العجل إلهاً بأنه لا يتكلم ولا يهدي، وإنما ذكر الكلام لأن الخوار تنفذ فيه الحيلة، ولا تنفذ في الكلام، وتدل على أن إزالة الشبه في الدين واجب، كما أزالها الله تعالى، وتدل على أن القوم كانوا جهالاً غير عارفين بحقيقة الأشياء، لذلك عبدوا العجل، وتدل على أن تلك الحلي كانت ملكاً لبني إسرائيل، لذلك قال: (حليهم)، فإن ثبت أنهم استعاروه فيدل على زوال ملكهم وانتقال الملك إلى بني إسرائيل، كما تملك أموال أهل الحرث، وتدل على أن الاتخاذ فعلهم.

تفسير قوله تعالى: (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا)

تفسير قوله تعالى: (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) ثم قال تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149]. قوله: ((ولما سقط في أيديهم)) يعني: ندموا على عبادة العجل. ((ورأوا أنهم قد ضلوا)) يعني: علموا وأيقنوا أنهم قد ضلوا، عن الهدى وعن الحق. ((قالوا لئن لم يرحمنا ربنا)) يعني: بقبول توبتنا. ((ويغفر لنا)) أي: ما قدمنا من عبادة العجل، ((لنكونن من الخاسرين)) أي: بالعقوبة، يعني: لنكونن من الخاسرين الذين خسروا أعمالهم وأعمارهم، يقال للنادم على ما فرط منه: قد سقط في يده، أو أسقط في يده. قال الفراء: يقال: سقط في يده، وأسقط في يده من الندامة، و (سقط) أكثر وأجود. ويكفي في ذلك أن القرآن الكريم آثرها: (ولما سقط في أيديهم) وأنكر أبو عمرو (أسقط) بالألف، وجوزه الأخفش. قال الزمخشري: من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها، هذا أصل تعبير (سقط في يده)؛ لأنه يلزم من الندم الشديد أن يحصل العض على يده بفمه، فكأن فمه وقع وسقط في يده، فهذا العض مرتبط بالندامة، واستعير لأجل ذلك. وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى في العين. وقال الفارسي: (سقط في أيديهم) أي: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم. أي: أن الإنسان إذا ندم قد يضرب كفاً على كف، فمعنى سقط في أيديهم: ضربوا أكفهم على أكفهم من الندم، فإن صح ذلك فهو إذاً من السقوط. وقال في (العباب): هذا نظم لم يسمع به قبل القرآن -أي: هذا التعبير البليغ لم يستعمل قبل القرآن الكريم- ولا عرفته العرب، والأصل فيه: نزول الشيء من أعلى إلى أسفل، ووقوعه على الأرض، ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام: سقط؛ لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر في اليد، كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا} [الكهف:42]، فقوله: (يقلب كفيه) فيه تعبير عن الندم والحسرة، فتقليب الكفين يعكس ما في القلب، وأنت إذا رأيت إنساناً يفعل ذلك فإنه يعكس لك الشعور الذي في قلبه ونفسه؛ لأن اليد هي الجارحة العظمى، فربما يسند إليها ما لم تباشره، كقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10]، ولا يشترط أن تكون المعصية ارتكبت باليد، يعني: الإنسان إذا أكل حراماً وعوقب عليه يقال له: ذلك بما قدمت يداك، وإذا استعمل أي جارحة أخرى غير اليدين في المعصية فإنه يقال كذلك، فتنسب إلى اليد؛ لأنها أعظم جارحة في البدن، وعلى هذا يكون سقط من السقاط وهو كثرة الخطأ، كما قال: كيف يرجون سقاطي بعدما لفع الرأس بياض وصلع وقيل: من عادة النادم أن يطأطئ رأسه ويضعه على يده معتمداً عليها، وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه، على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكانت اليد مسقوطاً فيها، لتمكن السقوط فيها، ويكون قوله: (سقط في أيديهم) يعني: سقط على أيديهم، كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي: عليها. و (سقط) عده بعضهم من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس. وقرئ: (سَقط في أيديهم) بالبناء للمعلوم يعني: سقط الندم أو العض أو الخسران، وكله تمثيل، وقرئ: (أُسقط) رباعي مجهول، وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، كما قدمنا.

تفسير قوله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا)

تفسير قوله تعالى: (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً) {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150] ثم بين تبارك وتعالى ما جرى من موسى عليه السلام بعد رجوعه من الميقات، وكان قد أعلمه تبارك وتعالى بفتنة قومه فقال: ((وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا))، أي: شديد الغضب على قومه لعبادتهم العجل، وحزيناً على ما فاته من مناجاة ربه، فاشتد غضبه لما رأى قومه قد عبدوا العجل واتخذوه إلهاً، وأما كونه كان أسفاً حزيناً فلأن هذا الذي حصل هو الذي أدى إلى أن يسرع إليهم، فإنه أسرع إليهم لما علم ذلك، كما قال تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85] * {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86]، وكذلك قال هنا: ((وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا))، أي: غضبان لما قاموا به من عبادة العجل، أسفاً لأنهم تسببوا في قطع مناجاته لربه، فبدل أن يستمتع بالمناجاة مع الله سبحانه وتعالى تسببوا في قطع هذه المناجاة؛ لأنه تعجل الرجوع إليهم، فحزن على ما فاته من مناجاة ربه. وقوله تعالى: ((قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي))، أي: بئسما عملتم خلفي أو قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي، والخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجود بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه، ويدل عليه قوله تعالى: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف:142]، فكأن موسى عليه السلام أدخل هارون في ضمن من خاطبهم بقوله: ((بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي))، فالتقدير الأول هو: أن الخطاب لعبدة العجل، يعني: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى. وقوله: ((أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ)) أي: ميعاده الذي وعدنيه من الأربعين، فلم تصبروا إلى تمام الأربعين يوماً، وكانوا استبطئوا نزوله من الجبل، فتآمروا في صنع وثن يعبدونه وينضمون إليه، ففعلوا ذلك، وجعلوا يغنون ويرقصون، ويأكلون ويشربون، ويلعبون حوله، ويقولون: هذا الإله الذي أخرجنا من مصر. والعياذ بالله! وقال أبو مسلم: (أعجلتم أمر ربكم) يعني: سبقتم أمر الله فعبدتم ما لم يأمركم به. وقوله: ((وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ)) يعني: من شدة غضبه عليهم طرح الألواح، وهذه الآية تدل على المثل المعروف: ليس المخبر كالمعاين؛ لأن موسى عليه السلام كان معه الألواح عند أن أبلغه الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:85 - 86] حتى الآن كان خبراً، لكن لما عاين كان رد الفعل عند المعاينة أشد، ولذلك غضب هذا الغضب، وألقى الألواح، مع أنها كانت معه من قبل ولم يلقها. وأيضاً نفس هذا المثل يستنبط من موضع آخر في القرآن، وذلك من قوله تبارك وتعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، فهذا لم يقع من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لم يطلع عليهم، لكن لو اطلع: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]. وقوله: ((وألقى الألواح)) أي: طرحها من شدة الغضب وفرط الحزن بين يديه فتكسرت، وهي ألواح من حجارة كتب فيها الشرائع والوصايا الربانية، وإنما ألقاها عليه السلام لما لحقه من فرط الدهش عند رؤيته عكوفهم على العجل، فتأمل نعم الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل؛ كم نعمة أنعم الله عليهم بها! فقد أنجاهم من فرعون، وشق لهم البحر، ثم قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! ثم بعد ذلك هاهم الآن يعبدون العجل! فتخيل حال موسى حين يرجع فجأة ويرى قومه فرحين بعبادة العجل ملمين به عاكفين حوله! لذلك غضب وانفعل، واشتدت دهشته؛ حتى ألقى الألواح، فإنه عليه السلام لما نزل من الجبل ودنا من محلتهم ورأى العجل ورقصهم حوله استشاط غضباً، فألقاها غضباً لله وحمية لدينه، ولم يكن غضب موسى عليه السلام هو غضب الشخص العصبي الحاد المزاج، وإنما كان غضباً لله، وغيرة على توحيد الله، وحمية لدين الله، وكان هو في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً، ولذلك كان محبباً إلى قومه. وقوله: ((وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ)) أي: وأخذ بشعره، يجره إليه، ويمكن أن يفهم أيضاً أنه أخذ بما في الرأس؛ إما برأس الشعر أو رأس اللحية أيضاً؛ لأنه قال في الآية الأخرى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وهذا يدل على أن هارون كان ذا لحية عظيمة؛ بحيث إن موسى كان يمسكه منها، وأخذ برأس أخيه، ولذلك لما سئل بعض أهل العلم وقيل له: أريد دليلاً على وجوب إعفاء اللحية من القرآن الكريم، ففتح الله عليه بهذه الآية -وهو الشيخ محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله- إذ قال: إن قوله تعالى: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] يدل على أن هارون كان له لحية، ثم إذا رجعنا إلى سورة الأنعام نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر جملة من الأنبياء، وبعدما ذكرهم أمر نبيهم أن يقتدي بهم، فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. إذاً: رسولنا عليه الصلاة والسلام مأمور بالاقتداء بهؤلاء الأنبياء الذين من جملتهم هارون عليه السلام، وهارون كان ذا لحية عظيمة كما تدل الآية، ثم نحن مأمورون بالاقتداء برسولنا صلى الله عليه وسلم، وأمر القدوة أمر لأتباعه، كما قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] فالخطاب للنبي، لكن المقصود: أتباعه وأمته. لكن يتوقف الأمر هنا على إثبات المشروعية، وهل يثبت الوجوب؟ ينبغي أن يثبت بدليل آخر أن إعفاء اللحية كان واجباً على هارون عليه السلام، وهذا له بحث آخر، لكن هذا من لطائف التفسير والاستنباط من القرآن الكريم. وقوله: (وأخذ برأس أخيه) أي: بشعره، (يجره إليه) ظناً أن يكون هارون قصر في نهيهم عن عبادة العجل، كما قال في الآية الأخرى: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:92 - 94]، وقال هاهنا: ((ابن أم)) بالفتح، ويقرأ أيضاً بالكسر: (يا ابن أم)، وأصلها: يا بن أمي، خفف بحذف حرف النداء والياء، وذكر الأم كي يرقق قلبه، وليذكره أنه أخوه، فالأم بالذات تكون أشد حناناً وعطفاً. وقوله: ((إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي))، فهنا هارون عليه السلام أجاب بهذا الجواب إزاحة لتوهم التقصير في حقه؛ ليبين له أنه لم يكن مقصراً في نهيهم، لكنهم استضعفوه، وكادوا أن يقتلوه، والمعنى: بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي، أي: لما نهاهم عن عبادة العجل، فهنا بين أنه لم يقصر، وأنه فعل كل ما عليه، وأنهم استضعفوه وقهروه حتى كادوا أن يقتلوه عليه السلام. وقوله: ((فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ))، يعني: بالإساءة إلي، فأنت إذا أسأت إلي سوف تشمت بي الأعداء، والشماتة: سرور الأعداء بما يصيب المرء، ومن أشد الأشياء على النفس شماتة الأعداء، كما يقول الشاعر: كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الأعداء ويكفي أن نبياً من الأنبياء هنا يحذر شماتة الأعداء. ((وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) أي: في عقوبتك لي، لا تجعلني في عدادهم، أو لا تجعل أحداً يعتقد منهم أني مقصر مع براءتي وعدم تقصيري. وتدل الآية على أن الأمر بالمعروف قد يسقط في حال الخوف على النفس، وفي الحال الذي يعلم أنه لا ينفع، لذلك قال هارون: (استضعفوني)، وتدل الآية على أن الغضب والأسف على المبتدع محمود في الدين، فالله سبحانه وتعالى يحب الغيرة والحمية والغضب لدينه ولحرماته عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين)

تفسير قوله تعالى: (قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) ثم قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]. أي: قال موسى عليه السلام متضرعاً إلى ربه استنزالاً لرحمته وتعوذاً بمغفرته من سخطه، ولا يخفى اقتضاء المقام ذلك: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)). لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء قال: ((رب اغفر لي ولأخي))؛ ليرضي أخاه؛ لأنه تبين له أن هارون لم يقصر، فلذلك استغفر لأخيه هارون؛ وليظهر لأهل الشماتة رضاه عن أخيه هارون، فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، فدعا أن يغفر له ما فعل مع أخيه من جذب رأسه وشدته عليه، وأن يعفو لأخيه؛ لأنه قد يكون فرط في حسن الخلافة. وطلب ألا يتفرقا عن رحمته فقال: ((وأدخلنا)) مجتمعين غير متفرقين، ((في رحمتك)) ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة، عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم) ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]. يعني: من افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرسالة على كتفيه، وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري)، فبقدر مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام يصيب الإنسان ذل وصغار، فكلما خالفت هديه وقع عليك من الذل ما يوافق حجم هذه المخالفة التي ارتكبتها، فمن خالف أمره بالكفر فيكون حظه من الذل أعظم، وهكذا. قال الحسن البصري: إن ذل البدعة على أكتافهم، وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين. وهكذا روى أيوب عن أبي قلابة الجرمي أنه قرأ هذه الآية: (وكذلك نجزي المفترين) فقال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة. وقوله: ((كذلك)) معناه أنها ليست خاصة بهم. وقوله: ((إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا))، بين تعالى أن هذه سنة مطردة من سنن الله: ((وكذلك نجزي المفترين))، فإن كل من افترى على الله، وكل من ابتدع في دين الله عز وجل لابد أن يعاقب بهذه المذلة، ولذلك قال سفيان بن عيينة: ليس من صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، وتلا: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، فقيل له: هذه في بني إسرائيل أصحاب العجل، فرد عليهم بقوله تعالى: ((وكذلك نجزي المفترين)). فقوله: (وكذلك) إشارة إلى تعميم هذه العاقبة لكل من افترى على الله الكذب وابتدع في دين الله سبحانه وتعالى، وهذا كما قال عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:87 - 88]، ثم قال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، ففي هذا إشارة إلى أن من فعل مثلما فعل موسى ودعا بدعاء يونس عليه السلام فإن الله ينجيه؛ لأنه سبحانه قال: ((وكذلك ننجي المؤمنين)).

تفسير قوله عز وجل: (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا)

تفسير قوله عز وجل: (والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا) قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:153]. ثم قال عز وجل: ((وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا)) يعني: إلى الله ((آمَنُوا)) أي: أخلصوا الإيمان، ((إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) أي: محاء لذنوبهم، منعم عليهم بالجنة.

تفسير قوله تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح)

تفسير قوله تعالى: (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح) ثم قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154]. ((ولما سكت عن موسى الغضب)) يعني: لما سكن عن موسى الغضب ((أخذ الألواح)) التي كان ألقاها من شدة الغضب فتكسرت، ((وفي نسختها)) يعني: فيما نسخ منها أو كتب، والنسخة فعلة، بمعنى مفعول، كالخطبة بمعنى مخطوب. وقوله: ((وفي نسختها هدى ورحمة)) يعني: بالشرائع والوصايا الدينية الربانية المرشدة لما فيه الخير والصلاح، ((للذين هم لربهم يرهبون)) أي: يخشون، قال أبو السعود: في هذا النظم الكريم من البلاغة والمبالغة بتنزيل الغضب الحامل له على ما صدر عنه من الفعل والقول منزلة الآمر بذلك المغري عليه بالتحكم والتشديد، والتعبير عن سكونه بالسكوت ما لا يخفى. يعني: أنه تعبير في قمة البلاغة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يبين شدة تمكن الغضب من موسى عليه السلام شبه الغضب بإنسان يحرض موسى على ما صدر منه من الفعل بإلقاء الألواح، ومن القول باشتداده على أخيه هارون عليه السلام، فكأن هناك رجلاً اسمه الغضب كان هو الذي يغريه لأن يفعل ذلك، فلما سكت وتوقف الغضب عن هذا الإغراء حينئذٍ أخذ موسى الألواح. وأصل هذا الكلام للزمخشري حيث قال: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك. يعني: أن كل إنسان عنده تذوق بلاغي يستطيع أن يتذوق عظمة القرآن وبلاغته يستعظم ويقدر هذا التعبير في القرآن الكريم: ((ولما سكت عن موسى الغضب))، أي: لم يقع في قلبه التعظيم لهذه البلاغة العظيمة ولم يستفحصها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لأنه فهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى بين مثل الغضب كأنه إنسان يغري موسى عليه السلام ويأمره، ويقول له: قل لقومك كذا، ألق الألواح، جر برأس أخيك إليك، فسكت الغضب بعد ذلك وحينئذٍ أخذ موسى الألواح وفي نسختها إلى آخره. وعد بعض أهل العربية الآية من المقلوب، أي: من نمط قلب الحقيقة إلى المجاز، وكأن الأصل: ولما سكت موسى عن الغضب، كما تقول: خرق الثوبُ المسمارَ، قال في (الانتصاف): والتحقيق أنه ليس منه. وقوله: ((ولما سكت عن موسى الغضبُ)) بالرفع؛ لما فيه من المعنى البليغ، وهو أن الغضب كان متمكناً من موسى، حتى كأنه كان يصرفه في أوامره، وقرئت: (سكن) و (سكت) و (أسكت) أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه. واللام في ((للذين)) متعلق بمحذوف صفة لرحمة، أي: كائنة لهم، أو هي لام لأجل، أي: هدىً ورحمة لأجلهم. واللام في ((لربهم)) لتقوية عمل الفعل المؤخر، كما في قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43]؛ فلما أخر الفعل قوى كلمة الرؤيا باللام، وأصلها: إن كنتم تعبرون الرؤيا، فلما أخر الفعل أضاف اللام لتقوية عمل الفعل المؤخر، فقال: ((إن كنتم للرؤيا تعبرون))، كذلك هنا قال عز وجل: ((وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ))، وأصلها: للذين هم يرهبون ربهم، فلما أخر الفعل قوى عمل الفعل المؤخر بإضافة اللام إلى قوله: (لربهم يرهبون)، أي: يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء ولا للسمعة.

تفسير قوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا)

تفسير قوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا) ثم قال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} [الأعراف:155]. روى محمد بن إسحاق: أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، اختار من بني إسرائيل سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، توبوا وتطهروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقت له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فهم ذهبوا من أجل أن يتوبوا، ثم أيضاً يطلبون هذا الطلب: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، نريد أن نسمع كلام ربنا سبحانه وتعالى، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، يعني: شيء كالسحاب كان يغطي الجبل بمجرد دخول موسى إلى الجبل، ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا في سجود فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا لموسى: ((لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)) فأخذتهم الصاعقة، وهي الصاعقة التي يحصل منها الاضطراب الشديد، فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: ((رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي)) يعني: أتهلك من ورائي من بني إسرائيل، وفي رواية السدي: فقام موسى يبكي ويقول: يا رب! ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ وقال ابن إسحاق: اخترت منهم سبعين رجلاً الخيّر فالخيّر أرجع إليهم وليس معي رجل منهم واحد؟ ماذا أقول لبني إسرائيل؟ فما الذي يصدقونني أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ وعلى هذا فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا، يعني: قبل أن يأتوا معي للقاء الله سبحانه وتعالى، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني بأني تسببت في موتهم. وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أمتهم من قبل أن تبتليهم. قال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) بعد نقل كلام من ذكرنا: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود، والذي يظهر -والله تعالى أعلم بمراده ومراد نبيه- أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم، يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم، ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم مع ما فعلوه، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل -يعني: من عفوك ومغفرتك- وهذا كمن واخذه بسيده بجرم، فيقول: لو شئت واخذتني قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، فعلت من قبل ما هو أعظم من هذا الذنب ومع ذلك سامحتني، ولكن وسعني عفوك أولاً فليسعني اليوم. ثم قال نبي الله: ((أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)) هذا استفهام على معنى الجحد، يعني: أنت لست تفعل ذلك، والسفهاء هنا هم عبدة العجل. قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) من عبادة العجل، وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]. وفي معظم الروايات أنهم ماتوا بسبب تلك الرجفة، أي: ثم أحيوا. وقال وهب بن منبه: لم تكن الرجفة موتاً، ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة أخذتهم الرعدة فرجفوا، حتى كادت أن تبين مفاصلهم، فلما رأى موسى ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء على الخير سامعين له مطيعين، فعند ذلك دعا موسى وبكى وناشد ربه، فكشف الله عنهم تلك الرجفة، فاطمئنوا وسمعوا كلام الله. والله تعالى أعلم. وقوله: ((إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ)) يعني: ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا اختبارك وابتلاؤك وامتحانك لعبادك، فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لا يمتحن به ويختبر إلا أنت، فنحن عائذون بك منك، ولاجئون منك إليك. وقوله: (وتهدي من تشاء) قال الواحدي: هذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر، يشير إلى قوله تعالى: ((إن هي إلا فتنتك تضل من تشاء وتهدي من تشاء)). وقوله: ((أَنْتَ وَلِيُّنَا)) أي: أنت متولي أمورنا القائم بها. ثم ختم بقوله: ((فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)).

الأعراف [156 - 159]

تفسير سورة الأعراف [156 - 159]

تفسير قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة)

تفسير قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) قال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]. قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) أي: أسس لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة والتوفيق للطاعة، (وفي الآخرة) أي: حسنة أيضاً، وهي: المثوبة الحسنى والجنة، (إنا هدنا إليك) أي: تبنا إليك، يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد، ولبعضهم: يا راكب الذنب هد هد واسجد كأنك هدهد فقوله: (يا راكب الذنب هد) يعني: ارجع وتب، (هد) كرر الفعل للتأكيد. وقوله: (واسجد كأنك هدهد) الهدهد: الطائر المعروف. وقال آخر: إني امرؤ مما جنيت هائد يعني: راجع وتائب. قال أبو البقاء: المشهور ضم الهاء، يعني: (هُدنا إليك)، وهو على هذا من (هاد يهود) إذا تاب، وقرئ بكسرها، يعني: (إنا هِدنا إليك)، من (هاد يهيد) إذا تحرك أو حرك، وعلى هذا فقوله تعالى: (إنا هدنا إليك) يعني: إنا حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين: (هُدنا) و (هِدنا) يحتمل الوجهين: البناء للفاعل وللمفعول، فقوله: (إنا هدنا إليك) يحتمل أنها بمعنى: إنا ملنا إليك، أو أمالنا غيرنا، أو حركنا أنفسنا، أو حركنا غيرنا، فعلى القراءتين تحتمل البناء للمفعول والبناء للفاعل؛ وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، فاتحاد الصيغة (هُدنا) و (هِدنا) تصلح في البناء للمعلوم والمجهول، وكذلك يصح المعنى وإن اختلف التقدير. وقوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء) استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلام، وكأنه قيل: هذا دعاء موسى وقومه؛ لأنه قد قال موسى في الدعاء: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك)، فكأن سائلاً سأل وقال: فماذا قال تبارك وتعالى في جواب دعاء موسى؟ فقيل: قال: (عذابي أصيب به من أشاء)، أي: من أشاء تعذيبه من العصاة. وقوله: (ورحمتي وسعت كل شيء)، تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان والجنة، كما قال تعالى: (يدخل من يشاء في رحمته)، يعني: في جنته، فتطلق الرحمة على الجنة، ولعلها هي المرادة هنا: والمعنى: جنتي وسعت كل شيء؛ بدليل مقابلتها بالعذاب قبل، كما جاءت المقابلة أيضاً في قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31]. والله تعالى أعلم. وقوله: (فسأكتبها)، أي: هذه الرحمة، (للذين يتقون) أي: يتقون الكفر والشرك والمعاصي، (ويؤتون الزكاة) أي: يعطون زكاة أموالهم، (والذين هم بآياتنا) يعني: بكتابنا ورسولنا (يؤمنون) أي: يصدقون. قال الجشمي: تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص؛ لأنه قرن التوبة والرجوع بقولهم: (إنا هدنا إليك). قرنوه بالدعاء، وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل فقال تبارك وتعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها) أي: هذه الرحمة إلى آخره، وكما قال تبارك وتعالى من قبل في أوائل السورة: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، فهي لهم في الحياة الدنيا، لكن يشاركهم فيها الكافرون، وأما يوم القيامة فستكون: خالصة للمؤمنين دون أن يشاركهم فيها المشركون كما كان الحال في الدنيا، ومن تأمل هذا السؤال والجواب عرف عظيم محل هذا البيان؛ لأنه عليه السلام سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها. وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قول المرجئة؛ لأنه قال: (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ولم يقتصر على التصديق حتى أضاف إليه العمل، فهذا يبطل قول المرجئة في زعمهم أن الإيمان مجرد المعرفة ولا يدخل في مسماه العمل.

تفسير قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي)

تفسير قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]. ثم أبدل تبارك وتعالى من الموصول الأول هذا الموصول أيضاً فقال: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ))، فالذين بدل كل من الموصول الأول، وهو منصوب على المدح أو مرفوع عليه، يعني: أعني الذين، أو هم الذين. وقوله: (يتبعون الرسول) أي: الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم. (النبي) يعني: لم الذي نبئ بأكمل الاعتقادات والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي. (الأمي) يعني: لم يحصل علماً من بشر. (الذي يجدونه مكتوباً) أي: باسمه: محمد وأحمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا نعته، ففي التوراة والإنجيل إما التصريح بأسماء الرسول عليه الصلاة والسلام، كمحمد وأحمد، أو بصفته ونعوته، (عندهم) زيد هذا لزيادة التقرير والتأكيد، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلاً، يعني: أن أي يهودي أو نصراني عنده وبين يديه هذا الكتاب الذي يقدسه فعنده صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو اسمه في كتابه، ولكن التحريف والتبديل أدى إلى عدم وجود لفظ صريح باسم الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كانت صفاته ما زالت حتى هذه اللحظة موجودة بين أيديهم رغم باعهم الواسع العظيم في التحريف والحذف والتبديل، كما سنبين إن شاء الله تعالى. وقوله: ((يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ))، وأعرف المعروف: الإيمان بالله ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق، وجميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع. وقوله: ((وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ))، أي: الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق؛ لأن العقل والشرع ينكرانه. وقوله: ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)) يعني: التي حرمت عليهم لمعاصيهم، كما قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161]، فعقوبة لهذه المعاصي حرمت عليهم أشياء كانت حلالاً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. فقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) يعني: التي كانت قد حرمت عليهم عقوبة لهم من قبل في كتبهم. وقوله: ((وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)) أي: التي كانوا يتناولونها، كالخنزير والميتة والدم، وهذا في باب المأكولات، أما في باب التكاليف فقال: ((وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)). والإصر هو: الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة، فهناك شرائع شاقة وعسيرة أيضاً كانت عليهم، والأغلال جمع غل، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد، أي: العهود الحرجة والمواثيق الشديدة. والمقصود من قوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم): أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء يخفف عنهم ما كلفوه من هذه الشرائع الحرجة والشديدة، وهذا في باب العبادات. وقوله: ((فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ)) أي: بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَعَزَّرُوهُ)) يعني: عظموه ووقروه ((وَنَصَرُوهُ)) أي: على أعدائه في الدين فمنعوه منهم، ((وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ)) وهو القرآن الكريم، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه. ومعنى (أنزل معه) أنزل مع نبوته؛ لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به؛ فكما نزل الوحي بالقرآن نزل أيضاً بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا أول تفسير لمعنى قوله: (واتبعوا النور الذي أنزل معه) يعني: أن النور هو القرآن الذي أنزل مع نبوته؛ لأن القرآن اقترن بتنبيئه صلى الله عليه وسلم. وقيل: (معه) تتعلق بـ (اتبعوا) القرآن المنزل مع اتباع النبي؛ لأن الآية فيها: ((فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ))، أي: اتبعوا النور (القرآن) مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون هنا إشارة إلى العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، وبما أمر ونهى عنه، فيكون أمراً بالعمل بالكتاب والسنة. أو: هو حال، يعني: اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه، وفي التعبير عن القرآن بالنور إنباء عن كونه ظاهراً بنفسه لإعجازه، ومظهراً لغيره من الأحكام لمناسبة الاتباع. وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة.

الرحمة تخص المؤمنين دون غيرهم

الرحمة تخص المؤمنين دون غيرهم وهنا تنبيهات: الأول: يقول القاسمي: يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] إلى آخره، أن هذا جواب لموسى عليه السلام؛ وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، وطلب أيضاً حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب: أولاً: أن ذلك لا يحصل لقومه كلهم براً أو فاجراً؛ لما سبق من تقدير الله سبحانه وتعالى العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلاً، ولذلك قرأ الحسن وزيد بن علي هنا: (قال عذابي أصيب به من أساء ورحمتي وسعت كل شيء) وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة هو من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم. وثانيها: أنه لا يستأهل كتابة الحسنتين: في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة إلا المتقون المؤمنون بالآيات، المتبعون للنبي الأمي، فمن استقام على هذه الشرائط كتب له ذلك، ولا يقال على هذا: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنكم لو تأملتم هذه الآيات، لوجدتم أنها عبارة عن دعاء من موسى عليه السلام لقومه. ثم أتى الجواب يكشف لنا عظمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أن هذا الحوار والإجابة جاءت قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بمئات السنين، فانظر كيف عظم الله عز وجل قدره، ونوه به فيما أوحاه إلى موسى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156]؟ ثم استطرد عز وجل في وصف هؤلاء المؤمنين فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157]، فلا يقال: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ فإنا نقول: الاتباع أعم؛ هناك اتباع بالقوة، وهو: الإيمان به عليه الصلاة والسلام إجمالاً، فكل من تقدم على زمن بعثته، يجب عليهم أن يؤمنوا به إيماناً مجملاً، وأن يصدقوا بأخباره التي وردت على ألسنة رسلهم تبشيراً به صلى الله عليه وسلم، فهناك اتباع بالفعل، وهو اتباع فعلي وحقيقي وليس بمجرد القول، وهذا لمن لحق زمان بعثته صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية الكريمة تثبت أن موسى عليه السلام بشر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم بشأنه؛ لأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه، وذلك في قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون)، فذكر صفات هؤلاء الذي يستحقون الرحمة، ومن صفتهم الأساسية أنهم يؤمنون بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم. وقال بعضهم: إن جواب موسى ينتهي إلى قوله تعالى: (والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ثم استأنف تبارك وتعالى بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) إلى آخره، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب يصيب به من يشاء كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي: فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المذكور. ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقاً، وعليه فيكون قوله: (الذين يتبعون) مبتدأ، وخبره قوله تعالى: (أولئك هم المفلحون)، وتكون القصة تدعو بني إسرائيل بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي كانوا هم المفلحين. وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء) ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم، وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين ما لا يخفى.

إطلاق الرحمة على العطف والمغفرة والإحسان

إطلاق الرحمة على العطف والمغفرة والإحسان التنبيه الثاني: أن الرحمة تطلق على العطف والمغفرة والإحسان، يقول القاسمي: وعندي أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة كما قال عز وجل: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان:31] يعني: الجنة، بدليل أنه قابلها بقوله: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان:31]، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا: (ورحمتي وسعت كل شيء) بمعنى: الجنة، بدليل أنه قابلها أيضاً بالعذاب، فقال: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي) يعني: الجنة. وقال أبو منصور: ما من أحد مسلم وكافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، بها يتعايشون ويؤاخون ويوادون، وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، وذلك قوله: (فسأكتبها للذين يتقون) يعني: يتقون معصية الله وخلاف أمره عز وجل، (ويؤتون الزكاة)، كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:32]، جعل طيبات الدنيا مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها، فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة. والله تعالى أعلم. ويحتمل أيضاً في قوله عز وجل: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته، ومع أن الزكاة تدخل في التقوى (الذين يتقون) لكنه أفردها: لعلوها وشرفها؛ فإنها عنوان الهداية؛ ولأنها كانت أشق عليهم فذكرها لئلا يفرطوا فيها.

وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي

وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي أما وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ فهذا أمر مقرر مشهور، ولا شك أن هذا من أعظم علامات الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. وهل كتب النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أم لا؟ الراجح: أنه لم يكتب قطعاً؛ لأن قوله: (فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوضحه في الرواية الأخرى: (فأمر علياً فتكب)؛ لأن علياً هو الذي كتب، كما يقال: كتب السلطان إلى الولاة يأمرهم بكذا وكذا، مع أنه يكون له كاتب يكتب، لكن هو الذي أمر بذلك، فيصح أن ينسب إليه. وقوله تعالى: (الأمي) نسبة إلى أمة العرب؛ لأن الغالب عليهم أنهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، كما جاء في الحديث: (إنا أمة أمية؛ لا نكتب، ولا نحسب)، وطبعاً لا يقصد بقوله: (إنا أمة أمية) الدعوة إلى الأمية، أو تحبيب الأمية، وإنما المقصود: أن شريعتنا شريعة سهلة ميسورة لكل الناس ابتداءً من الأمي الذي لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب؛ حيث إنه يستطيع أن يقيم شعائر هذا الدين عن طريق معرفة العلامات الظاهرة، فمثلاً: في مواقيت الصلاة ودخول الشهر العربي لمعرفة الصيام أو الحج وغير ذلك من المواقيت، فيعتبر فيها ما هو معهود عند الأميين، ولا يخاطب طبقة خاصة من المؤهلين بالنظر في الفلك والحسابات والجداول، لأن شريعتنا شريعة أمية سهلة تخاطب بما هو معروف ومعهود عند الأميين، فالإشارة هنا إلى لطافة الشريعة وسهولتها. وأما نسبته إلى أم القرى فلأن أهله كانوا كذلك. وقيل: الأمي ينسب إلى أمه؛ لأن العلم أمر مكتسب، فعلم القراءة والكتابة وغيرها من العلوم المكتسبة، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78]، فإذا بقي الإنسان على أصل الخلقة التي خرج بها من بطن أمه فإنه ينسب إلى أمه، يعني: أنه بقي على الحالة التي خرج بها من بطن أمه لم يكتسب علماً، فيوصف بأنه أمي، فإذا تعلم خرج عن هذه الحالة، وإذا بقي عليها من حيث القراءة والكتابة وصف بأنه أمي. وطبعاً لا يعني كون الإنسان أمياً لا يقرأ ولا يكتب أنه ليس بعالم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم آتاه الله علماً عظيماً، فعلم الأمم بأكملها، وتحدى العرب الفصحاء البلغاء، ووصف الأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم مدح له عليه الصلاة والسلام. وقيل: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي منسوب إلى الأم، بمعنى: القصد، كما في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]، ويؤيده قراءة يعقوب: (الذين يتبعون الرسول النبي الأَمي)، من القصد؛ لأنه مقصود. ووصف تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي تنبيهاً على أن كمال علمه مع كونه أمياً هو إحدى معجزاته، فهي له مدح وعلو كعب؛ لأنها معجزة له، كما قال البوصير ي: كفاك بالعلم في الأمي معجزة فكما أن صفة التكبر لله ممدوحة وفي غيره مذمومة، فصفة الأمية في حق النبي عليه الصلاة والسلام مدح له؛ لأنها من كبريات معجزاته، فمع كونه أمياً إلا أنه أوتي هذا العلم من عند الله سبحانه وتعالى، وأما في حق غيره فقد تذم تماماً. وأما قوله تبارك وتعالى: (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) إلى آخر الآية، ففيه إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة): إن لله تعالى عوناً على أوامره وإغناءً عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، أي: أن الأنبياء حينما يأتي أحدهم ويدعي النبوة فإن الله سبحانه وتعالى يسهل لهم هذا الأمر؛ لأنهم إذا خرجوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان بنبوتهم يكون قد سبق ذلك نوع من الإرهاصات والبشارات السابقة التي تسهل وتؤسس لهم بناء النبوة، حتى قبل أن يبعثوا. يقول: فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة بما تقدمه من بشائرها، وتبديه من أعلامها وشعائرها؛ ليكون السابق مبشراً ونذيراً، واللاحق مصدقاً وظهيراً، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق، وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله على غيبه؛ ليكون عوناً للرسول وحثاً على القبول، فمنهم من عينه باسمه صلى الله عليه وسلم، ومنهم -أي: الأنبياء السابقين- من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال ويقيناً بعد الارتياب ثم سرد المارودي البشائر من نصوص كتبهم.

الأمور التي يستدل بها على صحة النبوة

الأمور التي يستدل بها على صحة النبوة وقد سبق من قبل أن بينا الاستدلال على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إن الاستدلال على صحة النبوة يقوم على أمور خمسة: الأمر الأول: الصفات الشخصية لصاحب الرسالة؛ فإن الأنبياء لهم صفات لا يشركهم فيها غيرهم من البشر، فهناك صفات خاصة بالأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، تتعلق بنسبهم وبملامحهم الخلقية: قوة البدن، وسلامة الحواس، وجمال الصورة، وشرف النسب وغير ذلك من الصفات التي يختص بها الأنبياء، لذلك لما سمع عبد الله بن سلام -وكان كبير اليهود وعالمهم الأكبر في المدينة- بوصول النبي صلى الله عليه وسلم أسرع إليه، فماذا كان تعليقه أول ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فلما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب)، عليه الصلاة والسلام، كما قال بعض الشعراء: كانت بديهته تأتيك بالخبر أي: حتى لو لم يكن معه من الآيات سوى شكله فإن من يراه يعرف أن هذا لا يمكن أن يكذب على الله سبحانه وتعالى، بل لابد أن يكون صادقاً فيما يقول عليه الصلاة والسلام. فصفات الأنبياء البدنية والخلقية والخلقية ونسبهم وملامحهم وتكوين أجسادهم تكون في أكمل الحالات في كل هذه الخصال. الأمر الثاني: الآثار؛ لأن الأنبياء يتركون بصمات وآثاراً في الدنيا لا تشتبه بآثار غيرهم من المصلحين؛ فالأنبياء حينما يوجدون في أمة من الأمم أو في عصر من العصور يتركون من الآثار ما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أيدهم ونصرهم، وأي عاقل لا يمكن أن يتصور أن يكون رسول كمحمد عليه الصلاة والسلام يمكنه الله سبحانه وتعالى هذا التمكين، وينشر دينه في الآفاق، ويظهر في كل الأزمان والأعصار بهذه الصورة، ثم يكون مع ذلك كاذباً، بل سنة الله سبحانه وتعالى أنه يفضح كل من ادعى النبوة كاذباً، ويجعلهم آية لمن يعتبر، كما فعل بغلام أحمد القادياني وبـ مسيلمة الكذاب وغير هؤلاء من المتنبئين، فلا بد أن يظهر الله فضيحتهم، وهذه سنة من الله ماضية؛ حتى لا يلتبس الحق بالباطل، فـ مسيلمة تسمى برحمان اليمامة، وادعى النبوة، وسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بصق في بئر ففاض ماؤها، وبورك في مائها، فذهب هو إلى بئر فبصق فيها فغار ماؤها، فهذه لا تسمى كرامة، إنما تسمى إهانة، وهي خرق للعادة، لكن يقصد بها إهانته، وكذلك لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على رأس الغلمان ذهب ليمسح على شعر صبي فسقط الشعر من على رأسه، حتى لما حاولوا أن يستجيبوا للتحدي ويأتوا بقرآن مثل القرآن ما استطاعوا أن يتخلصوا من أسر القرآن، وما استطاع أحد أن يبتكر أسلوباً جديداً، لكن كان دائماً يحاول أن يحاكي القرآن، فكان يأتي بأمور مضحكة، كقوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين! إلى آخر هذه الكلمات المعروفة التي يضحك منها العقلاء إذا سمعوها، فجعلهم الله ضحكة للعقلاء. وغلام أحمد القادياني أهانه الله سبحانه وتعالى في آخر لحظات حياته، وأظهر كذبه فيما كان يدعيه من أنه لن يموت إلا بعد كذا وكذا من السنوات إلى آخره، فالسنة ماضية من الله تعالى أنه لا يمكن أن يلتبس المحق بالمبطل والصادق بالكاذب. فمن صفات صاحب الرسالة: الآثار التي يتركها في الأرض، وبالذات نحن المسلمين لا يوجد أبداً نبي أيد بهذه الصفة مثلما أيد نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: انظر في آثار النبي عليه الصلاة والسلام في الصحابة الذين تربوا على يديه مباشرة رضي الله تعالى عنهم، وانظر كيف كانوا رجالاً ونساءً بل صبياناً وأطفالاً، فقد كانوا جبالاً تمشي على الأرض أو بحاراً من العلم تمشي على الأرض، والرجل الواحد منهم صار أمة في ذاته في كل أبواب الخير، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا عمالقة وجبالاً، ثم تأمل في التابعين وتابعي التابعين، وتأمل في سير الصالحين والحكام العادلين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز، وتأمل أخبار العباد والصالحين، وكل هذا ما هو إلا من آثار بعثته صلى الله عليه وسلم. وتأمل العدل مع الخصوم، وانظر إلى المسلمين لما سادوا العالم كيف رفقوا بالأمم ورحموها، وأحسنوا إلى الناس، واتقوا الله سبحانه وتعالى فيهم، وكل هذه المحاسن التي هي محاسن الإسلام في الناحية العملية التطبيقية والعملية النظرية كلها من آثار بعثته الشريفة صلى الله عليه وسلم. الأمر الثالث الذي يستدل به على نبوة النبي: المعجزات التي أيده الله بها. الأمر الرابع: البشارات، والبشارات هي إخبار الأنبياء السابقين ببعثة من يأتي بعدهم. الأمر الخامس: النبوءات، وهي: الإخبار عن أشياء تقع في المستقبل ثم تقع تماماً كما أخبر، وهذا مما عندنا فيه مئات من البشارات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مقطوع بها، فوقعت كما أخبر، وما لم يقع حتى الآن سوف يقع بإذن الله، كما قال عز وجل: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].

البشارات في الكتب السابقة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم

البشارات في الكتب السابقة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم والذي يناسب تفسير هذه الآية الكريمة هنا قصر الكلام على البشارات التي وقعت في الكتب السابقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. يقول صاحب كتاب (إظهار الحق): إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم توجد كثيراً إلى الآن أيضاً، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولاً طريق إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر، ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات وقابلها بالإخبارات التي نقلها بإنجيله أو في حق عيسى عليه السلام جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة. وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) ما نصه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشر به الأنبياء السابقون، وشهدوا بصدق نبوته، ووصفوه وصفاً رفع كل احتمال؛ حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته، غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمه -يعني: من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعاً، أي: أنهم لما رأوا المسلمين يستدلون على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام بوجود اسمه في كتبهم هربوا من ذلك بأن حذفوا هذه البشارات، ولكن لم يجدهم ذلك الحذف نفعاً؛ لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة، وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف، لكن من أمد غير بعيد قد شرعوا في تحريف بعض الصفات؛ ليبعد صدقها على النبي صلى الله عليه وسلم، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع اختلافاً لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصد به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليه؛ لانتشار النسخ بالطبع وتيسر المقابلة بينها، فالآن اتضح القول جداً جداً في إثبات التحريفات المقررة بين نسخ كتبهم التي يسمونها بالمقدسة، وها نحن نورد شذرة من البشائر:

البشارة بمحمد في سفر التكوين

البشارة بمحمد في سفر التكوين فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر، هكذا: (وقال لها ملاك الرب: أنت حبلى ستلدين ابناً، وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنساناً وحشياً يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن). وهذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم لا بجده إسماعيل؛ لأن إسماعيل عليه السلام لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص، بل في التوراة: أن إسماعيل وأمه هاجر أخرجا من وطنهما مكرهين. ولم يلد إسماعيل مع إسحاق، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش في الصحراء، ولم يسمع أن الأمم دانت لأولاد إسماعيل حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فدانت له الملوك، وخضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كل أحد تحت أيديهم، فكان ذكر إسماعيل مقصوداً به ولده، كما أنه في مواضع كثيرة من التوراة ذكر يعقوب والمقصود بالذكر ولد يعقوب، فمن ذلك: قوله في السفر الخامس: (يا إسرائيل ألا تخشى الله ربك، وتسلك في سبيله وتعمل له)، وهذا الخطاب لإسرائيل، لكن هو في الحقيقة لبني إسرائيل، فهو خطاب لهم باسم أبيهم، كما قال تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود هو وأمته، وهذا معروف، وله نظائر كثيرة في القرآن الكريم، فكذلك قوله لقوم موسى: (اسمع إسرائيل ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكبر وتنعم)، ونظائره كثيرة. إذاً: معروف في لغة كتابهم أنه يذكر اسم الأب ويراد الابن، وإنما يذكر مجازاً بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.

البشارة بمحمد في سفر التثنية

البشارة بمحمد في سفر التثنية ومنها: -أي من هذه البشارات-: في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية، هكذا: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته). فقبل أن يموت موسى عليه السلام بشر قومه بني إسرائيل بهذه البشارة، فقال: (جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم). ولا غموض بأن مجيء الله تعالى من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، هكذا يفسره أهل الكتاب، فيجب أيضاً أن تفسر باقي البشارة بنفس الأسلوب، وكان يجب أن يطرد التفسير؛ فيفسروا أيضاً (وأشرق لهم من ساعير) بأن المقصود به: إنزال الإنجيل على المسيح عليه السلام؛ لأن ساعير هي الناصرة، التي ينسب إليها النصارى، والتي ولد فيها المسيح عليه السلام، فيجب أن يكون إشراقه من ساعير عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح، حيث كان المسيح يسكن أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة، واسم النصارى مأخوذ منها. أما قوله: (وتلألأ من جبل فاران) (وتلألأ) أي: الرب، (من جبل فاران) كما فسروا: (جاء الرب من سيناء) بإنزال التوراة، (وأشرق لهم من ساعير) يجب أن تفسر بأنها إنزال الإنجيل، فالثالثة هذه لا تحتمل بأي حال إلا إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وتلألأ من جبل فاران)، تلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، وفاران هي: مكة، وهذا باتفاق أهل الكتاب أيضاً، ولا يخالفه أهل الكتاب؛ لأن كلمة (فاران) هي جبال مكة أو بلدة مكة، ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: (وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو إسماعيل رامي قوس، وسكن -أي: إسماعيل- في برية فاران -يعني: في مكة- وأخذت له أمة زوجة من أرض مصر)، ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، فإن كلمة فاران يقصد بها: جبال مكة، فقوله: (وتلألأ من جبل فاران) يدل على إنزال القرآن في مكة المكرمة. ونفس هذه البشارة هناك إشارة إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]. فقوله: (والتين والزيتون) التين والزيتون مشهور في القدس في فلسطين حيث بعث المسيح عليه السلام، وقوله: (وطور سينين) أي: جبل سيناء، وفي هذا إشارة إلى نزول التوراة في سيناء في الطور، وقوله: (وهذا البلد الأمين) أي: مكة، فهذه متطابقة تماماً مع قوله: (جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران)، فلا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، وفيها عاش، وبها دفن، وهذه البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهرة لا تخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر، فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد صلى الله عليه وسلم، وانتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها كما يقتضيه الاستعلان المذكور في البشارة؟ لأن قوله: (وتلألأ من جبل فاران) في ترجمة أخرى: (واستعلن من جبل فاران).

البشارة بنبي مثل موسى والدليل على أنه محمد لا يوشع

البشارة بنبي مثل موسى والدليل على أنه محمد لا يوشع ومن هذه البشارات: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا: (قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وصف إخوتهم مثلك -يعني: مثل موسى- وأجعل كلامي في فمه)، وفي هذا إشارة إلى أميته عليه الصلاة والسلام، وأنه ينطق بالقرآن، وفيه إشارة إلى أنه يعطيه عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، قال: (وأجعل كلامي في فمه، سيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)، يعني: من لا يستجيب لشريعة هذا النبي أنا أطالبه وأعاقبه. فهذه البشارة هي في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعاً؛ لأنه من ذرية إسماعيل، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم، فقوله: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك) أي: أن هذا النبي يكون شبيهاً بموسى عليه السلام من وسط إخوتهم، يعني: أنه ليس من بني إسرائيل، لكن من إخوتهم الذين هم أولاد إسماعيل عليه السلام، بدليل ما ذكر في التوراة في حق إسماعيل، وأنه قبالة إخوته ينصب المضارب، وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام عن بعد بعيد إخوة، كما دعي في القرآن هود وصالح إخوة لعاد وثمود، مع أنهم على بعد بعيد من أولاد الأعمام، كما قال تعالى إخباراً بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129]، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وكما قال في خطاب بني إسماعيل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]. وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى فهو باطل من وجوه: أولاً: أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل، لا من نفس بني إسرائيل، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل. ثانياً: أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام؛ لما في آخر سفر التثنية في الإصحاح الرابع والعشرين: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجهاً لوجه)، يعني: أنه لم يوجد بعد موسى في بني إسرائيل مثل موسى عليه السلام، في حين أن البشارة تقول: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك)، وما عرف بعد موسى أبداً نبي مثل موسى عليه السلام، حتى المسيح لما أتى قال: (ما جئت لأنقض موسى، ولكن جئت لأتمم) أي: أنه جاء مكملاً للرسالة، فالذي يستحق وصف (مثلك) ليس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا نلاحظه في القرآن الكريم، حيث نجد الربط المستمر بين موسى وبين محمد عليهما السلام، وبين أمة محمد وأمة موسى عليهما السلام، فمثلاً: في بداية سورة الإسراء قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء:1 - 2]، وفي سورة القصص كثير جداً من الآيات، وفي سورة الأحقاف قال عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30]. وجاء ورقة بن نوفل لما نزل الوحي على النبي عليه السلام في القصة المعروفة في باب الوحي، وفيها أنه قال: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى)، وقال النجاشي: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، فانظر كيف يأتي الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لأنه مثله! وأيضاً في قصة المعراج جاء الربط بين الأمتين كما بينا، فالشاهد: أن عندهم نصّاً في آخر سفر التثنية: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه)، ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهٍ، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى، وأيضاً يوشع عليه السلام كان حاضراً هناك، وقد أشير إليه بالعبارة الصريحة قبل هذه، ففي الباب الأول من هذا السفر: (يسوع بن نون الواقف أمامك وهو يدخل إلى هناك أنه هو يختمها لإسرائيل. ولا يحتمل بحال من الأحوال أن يكون قوله في هذه البشارة: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به).

الأدلة على أن المبشر به أنه مثل موسى هو محمد لا عيسى

الأدلة على أن المبشر به أنه مثل موسى هو محمد لا عيسى وأما ما زعمه النصارى من أن المراد به عيسى فهو أيضاً باطل لوجوه: أولاً: أن عيسى من بني إسرائيل، والمبشر به هنا من غيرهم، أي: من إخوتهم وليس من بني إسرائيل أنفسهم، وعيسى من بني إسرائيل، وأيضاً موسى بشر بنبي مثله، والنصارى يدعون أن عيسى إله، وينكرون كونه نبياً مرسلاً، وإلا لزم اتحاد المرسل والمرسل، وهو غير معقول، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما السلام أقوى من مشابهته لعيسى؛ لاتحادهما في كونهما ذوي والدين وأزواج، فموسى له أبوان، ومحمد له أبوان، أما المسيح فله أم فقط ولا أب له. ثانياً: من أوجه المشابهة بين موسى ومحمد: كونهما مأمورين بالجهاد، بخلاف عيسى عليه السلام، وقد أشار في هذه البشارة بقوله: (ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي أتكلم به باسمي أنا أطالبه)، وفي هذا إشارة إلى أن هذا النبي مأمور بجهاد من كفر بما جاء من عند الله والانتقام منه بسيفه البتار، وكذلك كون شريعتيهما مشتملتين على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء وإيجاب الطهارة وقت العبادة، وهذه كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام على ما تقول النصارى، ونظائر ذلك كثيرة. وفي هذه البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أمياً لا يقرأ، حيث قال: (يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي)، وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي)، وهي الآية التي نحن بصددها. من هذه البشارات: في الإنجيل في الباب الرابع عشر في إنجيل يوحنا هكذا: (المسيح عليه السلام كان يقول لتلامذته قبل أن يرفع إلى السماء: إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب، - الأب: اصطلاح لهم- فيعطيكم فارقليد آخر؛ ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه؛ لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم). وهذه بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس من يقوم مقامه وينوب في تبليغ رسالته وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبداً، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟! والأب هنا بمعنى: الرب والإله؛ لأنه اصطلاح أهل الكتابين، وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه روح الحق إلى أن الحق قبل مبعثه يكون كالميت لا حراك به ولا انتعاش، وأنه إذا بعث هذا النبي يعيد الروح للحق، فيصدع حينئذٍ قائماً في الأرض، ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي أحيا الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعدما اندرس ولم يبق منه شيء. ثم قال: (الفارقليد روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم)، ولا شك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق، وأوضح ما خفي من الدقائق، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عباد الله تعالى قربه إليه بالرسالة واصطفاه، وأنه لم يدع سوى عبادة الله وتوحيده وتنزيهه وتمجيده. وقوله: (باسمي) أي: بالنبوة، ثم أبان لهم سبب البشارة به قبل أن يأتي فقال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون؛ حتى إذا كان تؤمنون).

البشارة بالفارقليد في الإنجيل

البشارة بالفارقليد في الإنجيل وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور أيضاً: (فأما إذا جاء الفارقليد الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون؛ لأنكم معي من الاتباع). وفي الباب السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق -يعني: أرفع إلى السماء- لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطيئة وعلى بر وعلى حكم، أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم فارقليد، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم بجميع ما هو للأب)، ومن أمعن النظر في هذه العبارات ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحاوى والإشارات جزم بأن (الفارقليد) هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، وشهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده، وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحراً كذاباً، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم -سيما اليهود- على الخطايا، ولاسيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق الذي علم جميع الحقائق، وهو الذي أبان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، صلى الله عليه وسلم. وفسر العلامة ابن قتيبة قوله: (روح الحق الذي من الأب ينبثق) بقوله: أي: يصدر بكلام الله المنزل، واستدل بقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، والمراد به هنا: القرآن الكريم؛ لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة عما افتري عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه واهتدوا بهديه، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك، فتعين أن يكون هو المراد. أي: أن القرآن هو الكتاب الذي جاء بعد المسيح عليه السلام ينزه المسيح عن الربوبية، وينزهه عن السب الذي سبه إياه اليهود لعنهم الله وسبوا أمه به، فالقرآن هو الكتاب الذي أفاض في شأن عيسى، وفي بيان أنه كان نبياً رسولاً، وأفاض في مدح مريم عليها السلام، ولم تثبت شهادة أي كتاب بعد الإنجيل بذلك سوى القرآن الكريم. ثم تأمل قول المسيح عليه السلام: (إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد) فستجد فيه إشارة إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام؛ لأنه يقول لهم: (إنه خير لكم أن أنطلق)؛ لأنه لا يبعث محمد حتى يرفع المسيح عليه السلام، ففي هذا إشارة إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام. وأما لفظ (فارقليد) فهو يوناني الأصل، قيل: أصله فاركليد، وألـ (ف) تكتب أحياناً فا، ومعناه: المعزي والمعين والوكيل أو الشافع، وقيل فاركليثود فيكون قريباً من معنى محمد وأحمد. وطبعاً هناك عشرات من العلماء النصارى الذين أسلموا ألفوا في هذا الموضوع، منهم يدعى عبد الأحد داود، حيث كان من كبار علمائهم المتبحرين جداً في علومهم، ثم أسلم لله سبحانه وتعالى، وألف كتباً اشتهر منها كتابان: (محمد في التوراة والإنجيل) وأيضاً (الرد على أهل الصليب)، وكان يدعى: الأب عبد الأحد الأشوري أو الإلداني، وكان له شأن رفيع عندهم، ولكنه أسلم وانتصر للتوحيد، وله بحوث قيمة جداً في هذا الموضوع. وأيضاً كما حكينا لكم من قبل عبد الله الترجمان، كان أكبر علماء النصارى، وكذلك الهجري أسلم بسبب هذا النص الذي تلوناه عليكم الآن، وله قصة معروفة. ومما يذكر في هذا المقام أن الشيخ عبد الوهاب النجار حكى في كتابه (قصص الأنبياء) أنه تقابل مع عالم كبير جداً من علماء النصارى ومن علماء اللغة اليونانية القديمة، يدعى كارلن لينو، فسأله فقال: ما معنى كلمة (الفارقليد) التي تكلم بها المسيح عليه السلام؟ فقال له: إن الكتب والآباء يقولون: إنها بمعنى المعزي أو المعين أو الوكيل أو الشافع، فقال له: إني لست أسأل قسيساً، ولكنني أسأل الدكتور كارلن لينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، أي: أنا أسألك لا كقسيس، لكن أسألك كعالم في اللغة اليونانية، أخبرني بالاشتقاق اللغوي عندكم لكلمة (الفارقليد) ما معناها؟ فقال: إنه الذي في اسمه حمد كثير، قال: يعني الذي يوافق أفعل تفضيل من حمد؟ قال: نعم، فقال له: أليس هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام؟ لأن من أسمائه: أحمد، فقال: يا أخي! أنت تعرف كثيراً، وسكت على هذا! فالشاهد: أن هذه حقيقة لغوية معروفة، فإذا رجع الإنسان إلى لغتهم عرف هذه الحقيقة، وعلم أن كلمة (فارقليد) هي عبارة عن أفعل تفضيل من الحمد، يعني: أحمد، وهذا كما قال عز وجل: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، عليه الصلاة والسلام، فالأمر واضح غاية الوضوح، ولكنهم لما ترجموا لم يذكروا كلمة أحمد، ولكن ترجموها بالمعنى؛ لأن المسيح تكلم بها بالعبرية، ولم يتكلم بها باليونانية؛ لأنه كان يتكلم باللسان العبراني، كقومه بني إسرائيل، فلما ترجمت إلى اليونانية ترجموا معنى العلم، فجعلوها الفارقليد بمعنى أحمد، وقد كانت هذه البشارة سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان كما بينه في كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)، وقد كتم النصارى بعض الأناجيل المصرحة باسم محمد؛ لكونها شجىً في حلوق أهوائهم كإنجيل برنابا ففيه التصريح بقوله: (إلى أن يجيء محمد رسول الله)، كما نقله في (إظهار الحق)، وإذا كان هذا حالهم في تراجمهم في لقب إلههم ولقب خليفته ما علم، فكيف يرجى منهم صحة بقاء لفظ محمد أو أحمد، إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصواب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة والوسائل الصحيحة ما لا يبقى معه وقفة لحائر. هذا وفي كتبهم بشائر كثيرة تعرض لذكرها جلة من العلماء يزيد عددها عن العشرين، قال الماوردي: لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر. وقد اقتصرنا على ما قدمنا؛ روماً للاختصار، ولسهولة الوقوف على البقية في مثل (أعلام النبوة) للماوردي و (إظهار الحق) وغيرهما.

شهادة أهل الكتاب الذي أسلموا بوجود البشارات في كتبهم

شهادة أهل الكتاب الذي أسلموا بوجود البشارات في كتبهم وقال صاحب (برهان الحق) الشيخ رحمة الله عليه رحمة الله: إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل: عبد الله بن سلام وابن سعنة وبنيامين ومخيريق وكعب الأحبار وغيرهم من علماء اليهود، ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي والأسقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود والنجاشي والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى. وقد اعترف بصحة نبوته وعموم رسالته هرقل قيصر الروم، والقصة موجودة بطولها في أول صحيح البخاري في كتاب (بدء الوحي)، وهرقل لما جمع أبا سفيان ومن معه وسأله عدة أسئلة في نهاية هذه الأسئلة قال: فإن يكن الذي قاله حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وبين أنه كان يتمنى أن يتجشم ويتكلف لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا قومه إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلما حاصوا حيصة الوحوش وثاروا قال لهم: أنا كنت أمتحن إخلاصكم ووفاءكم وثباتكم على دينكم، فحينئذٍ سجدوا له وأقروه، لكنه في الحقيقة آثر الملك على الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان عنده فقه ووعي وفهم لتأمل في قول النبي عليه الصلاة والسلام في الرسالة التي بعث بها دحية الكلبي إليه يقول له فيها: (أسلم تسلم)، فوعده بالسلامة، لكنه لم يفقه أن هذا رسول الله، وقد وعده بأنه إذا أسلم سوف يسلم من السوء ولن يصيبه أحد بشر، فما فقه ذلك، وآثر الدنيا على سعادة الآخرة. وكذلك المقوقس صاحب مصر، وابن صوريا وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا. ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، فإذا كنتم واثقين أنكم على الحق فتعالوا نبتهل، فخافوا وأشفقوا ونكصوا على أعقابهم خوفاً من شؤم مغبتها، فكانوا كقوم فرعون الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].

تفسير قوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات)

تفسير قوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات) وقوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف) يحتمل أن يكون مستأنفاً، وأن يكون مفسراً لقوله: ((مَكْتُوبًا)) يعني: أنه يأمرهم بالمعروف إلى آخره. وقوله تعالى: ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ)) الطيبات أعم من الطيبات في المأكل، يعني: ليست فقط الطيبات في المأكل، ولكن أيضاً تعم، كالشحوم تعم أيضاً البحائر والسوائب والوصائل والحامي، والطيبات في حكم الشريعة كالبيع وما خلا كسبه عن سحت، وكذا الخبائث هي ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيثة. وقوله تعالى: ((يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)) فيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير والسماحة، ومعروف أن الإسلام هو دين اليسر ودين السماحة، وهذه حقيقة تعلم من دين الإسلام بالضرورة، كما قال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، وقال عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين متين)، (وإن هذا الدين يسر) وغير ذلك من النصوص القاطعة بأن هذا الدين دين اليسر والسماحة، بل إن التيسير من القواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية، يقول عليه الصلاة والسلام: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقال عليه الصلاة والسلام لأميريه: معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لما بعثهما إلى اليمن: (بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا). والإصر والأغلال استعارة لما كان في شرائعهم من التكاليف الشاقة، فمنها: تحريم طبخ الجدي بلبن أمه. ومنها: نظام الأعياد التي يعيدونها لله في السنة، وهي عيد الفطير وعيد الحصاد وعيد المظالم، وكذلك عيد كل سنة لا يعمل فيه أدنى عمل، وكذلك سبت المزارع، ففي كل سابعة سبت للأرض لا يزرع فيها، ولا يقطف الكرم، بل تترك الأراضي عقلاً وغلات الكروم مأكلاً لفقراء شعبهم ووحوش البرية. ومنها: أن من ضرب أباه أو أمه أو شتمهما أو تمرد عليهما وعصاهما يقتل حداً، وكذا من يعمل يوم السبت يقتل، ومن كان به جن يرجم بالحجارة حتى يموت، ومن تزوج فتاة فادعى أنه لم يجد لها عذرة ثم تبين كذبه يقتلان جميعاً، وإذا أمسكت امرأة عورة رجل تقطع يدها، وإذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات المنطوح يرجم الثور، ولا يؤكل لحمه، ومن اضطجع مع امرأة صامت يقطعان من شعبهم، ومن طلق امرأته ثم تزوجت آخر وطلقها أو مات عنها فلا يجوز لزوجها الأول أن يتزوجها، وغير ذلك من الآصار التي تقدم ذكر بعضها في آخر سورة البقرة. قال الجشمي: تدل الآية على أن شريعته صلى الله عليه وسلم أسهل الشرائع، وأنه وضع عن أمته كل ثقل كان في الأمم السابقة، وذلك نعمة عظيمة على هذه الأمة. وتدل على وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ونصره بالجهاد، ونصرته بنصرة دينه، وكل أمر يؤدي إلى توليد ما يتصل بذلك؛ لأن جميع ذلك من باب النصرة، وهذا لا يختص بعصره، فجميع ذلك لازم إلى انقضاء التكليف. يعني: أن كل مسلم مطالب أن يكون من أنصار السنة، ومطالب أن ينصر النبي عليه الصلاة والسلام في حياته، وينصر سنته بعد وفاته، ولعل الجهاد بالبيان وإيراد الحجة ووضع الكتب وحل شبه المخالفين يزيد في كثير من الأوقات على الجهاد بالسيف، ولهذا قلنا: منازل العلماء في ذلك أعظم المنازل. وقال العلامة البقاعي: لما تراسلت الآي وطال المدى في أقاصيص موسى عليه السلام وبيان مناقبه العظام ومآثره الجسام، وكان ذلك ربما أوقع في بعض النفوس أنه أعلى المرسلين منصباً وأعظمهم رتبة، ساق سبحانه وتعالى هذه الآيات هذا السياق على هذا الوجه الذي بين أعلاهم مراتب، وأزكاهم مناقب، الذي خص برحمته من يؤمن به من خلقه قوة أو فعلاً، وجعل سبحانه ذلك في أثناء قصة بني إسرائيل اهتماماً به وإكراماً له مع ما سيذكر مما يظهر أفضليته، ويوضح أكمليته في قصته مع قومه في مبدأ أمره وأوسطه ومنتهاه في سورة الأنفال وبراءة بأكملها، فكلها في بيان شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه. ثم قال البقاعي: لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حث على الإيمان به؛ إيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف. يعني: أن السياق والآيات طالت في شأن موسى عليه السلام والثناء عليه، فربما ظن ظان أن موسى أشرف الأنبياء، فبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة في أثناء خطاب موسى عليه السلام مع قومه أن محمداً أشرف فقال: ((وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ))، فانتقل السياق إلى مدح محمد عليه الصلاة والسلام، حتى الذين في زمن موسى كان عليهم أن يؤمنوا بمحمد؛ لأنه نزل في كتبهم بشارات بنبوته، فهم يؤمنون به بالقوة، يعني بغير العمل لكن بالقلب فقط، وبالتصديق، فأهل الكتاب مطالبون بالإيمان به إما بالقوة -يعني: بالتصديق بالبشارات التي أخبرت بنبوته قبل أن يوجد في هذا الوجود عليه الصلاة والسلام- وإما بالفعل إذا كانوا أحياءً بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فيجب عليهم الإيمان به، فلذلك نوهت الآيات بهذا الوصف العظيم للنبي عليه الصلاة والسلام إشارة إلى دفع هذا التوهم الذي قد يتوهمه بعض الناس من أن موسى أشرف رسل الله، فبين عز وجل أن أكمل وأعظم وأشرف رسل الله هو محمد صلى الله عليه وسلم. يقول: ثم لما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حث على الإيمان به إيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخر، أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه. يعني: الإيمان كان واجباً على كل مكلف، سواء كان في الزمن الماضي أو في الزمن الآتي، فكل من كان قبل في الزمن الماضي من اليهود والنصارى مطالبون بالإيمان به، وذلك بالتصديق بالبشارات التي جاءت بوصفه في التوراة وفي الإنجيل، أو بالفعل بعد بعثته. وهذا تلويح، ولكن أتى عز وجل مباشرة في الآية التي تليها بالتصريح بهذه الحقيقة وهو أنه رسول الله إلى الناس كافة عليه الصلاة والسلام، فصرح بما أخذ ميثاق الرسل عليه؛ تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته.

تفسير قوله عز وجل: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)

تفسير قوله عز وجل: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]. قوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) أي: كافة، (الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت) هذه كلها نعوت للفظ الجلالة، أي: الذي أرسلني هو خالق كل شيء، وربه، ومليكه، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة. والآية نص في عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود والعرب والعجم، وفي الحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقولهن فخراً: بعثت إلى الناس كافة: الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الشفاعة، فأخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً)، رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، ورواه أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملئ مني رعباً، وأحلت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها -كانوا يحرقونها- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً؛ أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم، وقيل لي: سل؛ فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن يشهد أن لا إله إلا الله)، قال الحافظ ابن كثير: إسنادهما جيد قوي، والحديث ثابت بمعناه في الصحيحين وغيرهما.

سهولة الاهتداء إلى الدين الحق

سهولة الاهتداء إلى الدين الحق أخرج مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار)، وهذا يشمل الرجل والمرأة. والأمة هنا المقصود بها: أمة الدعوة، فكل من بلغه أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد بعث يجب عليه وجوباً متأكداً، بل هذا أوجب من أي شيء آخر في حياته، أن يتحرى ويجتهد، ولا يقال: اجتهد فلان فوصل في اجتهاده إلى أن محمداً ليس رسول الله، فيكون معذوراً في ذلك، بل يجب عليه الاجتهاد أولاً، ويجب عليه أن يصيب الحق ثانياً؛ لأن أدلة صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لا يحتمل فيها أن من تحراها يخطئ؛ لشدة وضوحها وظهورها؛ بحيث إنه يطالب بالاجتهاد في البحث عن الحق، ثم ثانياً يجب عليه أن يصل إلى الحق؛ لأن أدلته أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولا يمكن أن يشك عاقل أبداً إذا أعمل عقله وكان مخلصاً في البحث عن الحق في أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً، وإنما آفة القوم الحسد؛ فإنهم يعرفون أنه رسول من عند الله، ثم يتكبرون عن الانقياد للمسلمين أو الانقياد لشريعته عليه الصلاة والسلام، كما قال عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، وإما أنهم يعرضون عن تحري مثل هذه القضية. وإذا راجعنا الحديث الذي فيه سؤال القبر: (أما الكافر فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ها ها! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) فهذا غاية ما عنده أنه سمع الناس يقولون شيئاً على النبي عليه السلام فردد خلفهم كالببغاء دون أن يعقل هذا الكلام، ودون أن يتحرى صدق هذا الكلام، في حين أننا نلاحظ أن هؤلاء القوم انقطعوا لخدمة الدنيا كأنها إلههم ومعبودهم من دون الله سبحانه وتعالى، ففي أمور الدنيا نجد أن هناك من يعمل رسالة دكتوراه بأحسن طريقة في أمور تافهة، فهذا يعمل رسالة دكتوراه في تكوين قشر السمكة، وهذا في نشاط الغدة الفلانية، أو في كذا أو كذا من الأمور، وينفق عمره وماله ووقته وجهده في تحري هذه الدقائق، ثم يعرف أسماء جميع فرق الكرة ولاعبيها، وهذا الدوري حصل كذا، والأولمبي الفلاني غلب الفلاني، والنادي الفلاني عمل كذا! ويعرف أسامي وأنواع السيارات، وأنواع الخشب، وأنواع القماش، وأنواع الملابس، وأنواع الأشجار والأسماك، ولا يعرف لماذا خلق! ولا يعرف ربه الذي خلقه! فهل هذا المخلوق إذا أراد أن يبحث عن الحق يجد هناك سلاسل ستقيده؟! A لا؛ بل الحق موجود، والقرآن موجود ومحفوظ، كما وعد الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فلم يحصل فيه تحريف، ولا يقوى أحد أن يغير حرفاً واحداً من القرآن الكريم، وهكذا سنة النبي عليه الصلاة والسلام لم تندثر؛ بل من أراد أن يعرف هدي محمد عليه الصلاة والسلام ليتبعه كما أمر هنا: (واتبعوه لعلكم تهتدون) فإنه يستطيع أن يصل بغاية السهولة.

العلوم الحديثة تدعو إلى التوحيد

العلوم الحديثة تدعو إلى التوحيد وقد أعطى الله البشر العقول لأجل التفكر بالآيات التكوينية وآيات التوحيد في الآفاق وفي أنفسهم، وهؤلاء وقفوا على آيات لم يقف المسلمون على عشر معشارها؛ لأنهم أوغلوا في هذه العلوم التي تكشف أسرار مخلوقات الله سبحانه وتعالى، لكن حولوا العلم الذي هو خادم للتوحيد إلى علم جاحد، ولا يكون الإنسان عندهم متبعاً للمنهج العلمي إلا إذا أعرض تماماً عن ذكر الله سبحانه وتعالى، فالواحد إذا كان في كلية الطب أو الصيدلة أو العلوم وجاء في قضية من القضايا العلمية فاستدل بآية أو بحديث فإنه يكون قد خرج عن المنهج العلمي! فالدين عندهم لابد أن يكون معزولاً على جنب، وممكن أن يتركوه يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، أو يتكلم في المقدمة أو الخاتمة بشيء فيه ذكر الله، لكن الذي يربط في صلب البحث بين هذه الآيات التي يجعلها الله حجة عليه وبين التوحيد هذا يكون قد خرج عن مجال العلم؛ لأن العلم لا يعترف إلا بما هو محسوس، أما الغيب فلا. فهذه نظرتهم إلى علم الغيب، مع أن كل آية تصرخ بتوحيد الله سبحانه وتعالى. ومن درس هذه العلوم وتأمل فيها بعلم وبصيرة يجد أن فيها آيات من آيات التوحيد، ونحن مطالبون بالتفكر فيها؛ لأنها تدل على توحيد الله عز وجل، وتدل على صفة الله عز وجل، كالخلق والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات الكمال، ومع ذلك يعطلون هذا العلم عن دلالته على خالقه، والله عز وجل يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]. فالشاهد: أن هؤلاء خاضوا في كل هذه العلوم، ولذلك يجعل الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه (عقيدة المؤمن) من الدلالة على وجود الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار الذين يقفون على هذه العلوم يكفرون بالله، يقول: لأنه لا يوجد تفسير لهذا أبداً غير أن هناك أقفالاً على قلوبهم، فكونهم يطلعون على هذه الآيات العجيبة الباهرة التي تدل على توحيد الله سبحانه وتعالى ثم لا ينقادون للتوحيد، هذا يدل على أن هناك قوة هي التي حالت بينهم وبين الهداية، كما قال الشاعر: فيا لك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة أليست وإن أصغت تجيب المناديا فلا يوجد تفسير للناس الذين يطلعون في الشرق والغرب من الكفار على آيات الله سبحانه وتعالى في كل العلوم بلا استثناء ثم لا يؤمنون إلا هذا؛ فحينما تتأمل في الذرة التي هي أصغر وحدة في المادة -كما يقولون- تجد أن نظامها هو نفس نظام المجرة، يعني: أن التركيب فيها هو نفس التركيب في المجرة، فمعنى ذلك: أن الصانع واحد سبحانه وتعالى، ولكن القوم لا يعقلون، فليس هناك تفسير لكفرهم سوى أن في قلوبهم أقفالاً هي التي تمنع قلوبهم من التدبر، فمن يسمع القرآن الكريم لا يتصور أن هذا الكلام يمكن أن يقوله بشر، فالإنسان العاقل الذي نور الله بصيرته لا يمكن أن يتخيل أن هذا القرآن بهذه الروعة يمكن أن يقوله بشر، ولكن كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179].

قيام الحجة على كل من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم

قيام الحجة على كل من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم فالشاهد أنهم لا يفقهون، وقد أعطاهم الله العقول كي يهتدوا بها إلى التوحيد فاستعملوها في كل شيء إلا الشيء الذي خلقوا له، وأنا أطيل في هذا لأن هناك من يقول: إن اليهود أو النصارى بمجرد أن يسمع أن محمداً قد بعث وأن القرآن قد نزل، وأنه يوجد دين اسمه الإسلام تكون الحجة قامت عليه، وأقول: نعم، تكون الحجة قد قامت عليه؛ لأنه لو أراد البحث عن الحق لما وجد هناك عائقاً أمامه؛ فالقرآن موجود، ولو بذل عشر معشار الجهد الذي يبذله في أمور الدنيا وتتبع المباريات والأغاني وموديلات السيارات ومتاع الدنيا لاهتدى إلى الحق، لكنه هو الذي عطل هذه القوى وهذه القدرات التي آتاه الله سبحانه وتعالى إياها، فهو مسئول، والعقل موجود، والآيات موجودة، والقرآن موجود، والحجة قائمة، والحق أقرب إلى أحدهم من عنق راحلته، فلا غرابة بعد ذلك أن نسمع قول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار). وقوله تعالى: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ)) أي: الذي نبئ بما يرشد الخلائق كلهم مع كونه أمياً، وفي نعته بذلك زيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين. وقوله عز وجل: ((الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)) أي: ما أنزل عليه وعلى من تقدمه من الرسل من كتبه ووحيه، ثم ختم تعالى الآية بقوله: ((وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)

تفسير قوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) ثم قال تبارك وتعالى مباشرة بعد هذه الآية الكريمة: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159]. عاد إلى السياق الأول من جديد؛ لأنه قد يفهم من هذا السياق الذي مضى ذم قوم موسى، فعادت الآيات إلى مدح طائفة من بني إسرائيل، وهم الفرقة الناجية من بني إسرائيل؛ لأن كل أمة فيها فرقة ناجية، والدليل هو هذه الآية: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}، ففي قوله: (ومن قوم موسى) تبعيض، فكما أن هذه الأمة انقسمت إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، فكذلك هناك فرقة ناجية حتى في قوم موسى، وكل نبي يكون له طائفة من أمته يكونون هم الفرقة الناجية. وقوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) أي: موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة، ويرشدونهم، فيهدون بالحق، وبالعلم، يعني: الحق في الأمور العلمية. (وبه يعدلون) في الأمور العملية التطبيقية، فبالحق يعدلون في الحكم، ولا يجورون، والآية سيقت لدفع ما عسى أن يوهمه تخصيص كتابة الرحمة والتقوى والإيمان لمتبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام، إذ قد يتوهم بعض الناس أن تخصيص الرحمة في قوله تعالى: ((فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)) أن أسلاف قوم موسى يحرمون من هذه الرحمة ومن كل خير، فبين تعالى أنهم ليسوا كلهم كما حكيت أحوالهم من التمرد والعتو والكفر والعناد، فلذلك قال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. وقيل: هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويأباه أنه قد مر ذكرهم فيما سلف. وهذه الآية هي كقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران:199].

الأنفال [12 - 24]

تفسير سورة الأنفال [12 - 24]

تفسير قوله تعالى: (وإذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) يقول الله سبحانه وتعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]. ((إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ)) أي: يوحي الله إلى الملائكة ويخبرهم أن الله مع المؤمنين، ويحتمل أن معنى قوله: ((أَنِّي مَعَكُمْ)) أنه مع الملائكة إذ أرسلهم ردءاً للمسلمين، فكأنه قيل: أوحى الله إلى الملائكة أني مع المؤمنين، فانصروهم وثبتوهم، وكونوا أنتم معهم أيضاً. ((فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))، أي: ثبتوا الذين آمنوا بدفع الوسواس، وبالقتال معهم، والحضور مدداً وعوناً. ((سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)) أي: الخوف، ولا شك أن هذا مظهر من مظاهر المدد الرباني الذي يمد الله سبحانه وتعالى به المؤمنين في جهادهم، حتى وإن كانوا أقل عدداً، فإنه سبحانه يمدهم بأسلحة كثيرة ومتنوعة، كما قال عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، ومن هذه الأسلحة أن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والوهن والخوف والفزع، فهذا بلا شك مما يرجح كفة المؤمنين في الجهاد، والأمر ليس مقتصراً على الأسباب الظاهرة التي يراها الناس، ولكن هناك أسباب خفية وجنود من جند الله سبحانه وتعالى لا يعلمهم إلا هو. وقوله: ((سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ))؛ أي: أنه من جهة يمدهم بالملائكة ومن جهة يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب. ((فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ)) هنا علمهم الله سبحانه وتعالى كيفية الضرب، وقوله تعالى: ((فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ))، إما أنها أمر للمؤمنين، وإما أنها أمر للملائكة. وإذا قلنا: إن الأمر موجه إلى الملائكة فإنه يكون فيه دليل على أن الملائكة قد قاتلوا بالفعل مع المؤمنين، لأن الملائكة لابد أن يطيعوا أمر الله سبحانه تعالى. وقوله: ((فَوْقَ الأَعْنَاقِ)) يعني: أعالي الأعناق؛ لأن أعالي الأعناق هي المذابح، وإذا حصل الذبح في أعالي الأعناق فإن الرءوس تطير. أو أن المراد: اضربوا الرءوس؛ لأن الرءوس هي التي فوق الأعناق. ((وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ))، البنان هي الأصابع، ومفردها بنانة، والمعنى: كل الأصابع، وقيل: المراد بالبنان مطلق الأطراف، أي: ليس فقط أطراف الأصابع، وإنما مطلق أطراف البدن، سواء في اليدين أو في الرجلين، فتكون من تسمية الكل بالجزء؛ لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل، والمعنى: اضربوهم كيفما اتفق، سواء ضربتموهم في الأماكن التي هي من المقاتل كفوق الأعناق أو على الرءوس، أو في غير المقاتل كالأطراف، فالمهم أن تصيبوهم بما استطعتم من النكاية.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13]. ثم قال تعالى: ((ذَلِكَ)) يعني: ذلك الضرب أو ذلك الأمر بالضرب. ((بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) أي: خالفوهما فيما شرعا. ((وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) وهذا تقرير لما قبله إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا، أو هو وعيد لما أعد لهم في الآخرة، بعد ما حاق بهم في الدنيا، وبيان لخسرانهم في الدارين.

تفسير قوله تعالى: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار)

تفسير قوله تعالى: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:14]. ((ذَلِكُمْ)) هذا خطاب للكفرة على طريقة الالتفات؛ لأن الخطاب في الآية السابقة موجه إلى الملائكة أو إلى المؤمنين: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] * {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}، الكفار {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:13]، ثم التفت لمخاطبة الكفار أنفسهم فقال عز وجل: ((ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ)) يعني: أيها الكفار! في الدنيا. ((وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ)) يعني: في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار) ثم نهى تبارك وتعالى عن الفرار من الزحف، مبيناً وعيده بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]. ((إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا)) والزحف هو الجيش الكبير أو الكثير العدد، ويسمى زحفاً تسمية له بالمصدر، كما تقول: هذا رجل عدل، والجمع: زحوف، مثل: سلس وسلوس، ويقال: زحف إليه، أي: مشى، وزحف الصبي على استه، أي: قبل أن يقوم، شبه مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان؛ لأن الجيش إذا كان عددهم كبيراً وضخماً فإنه مهما أسرع فإنه يبدو للرائي البعيد كأنه يزحف كما يزحف الوليد؛ فلكثرته يرى كأنه يزحف، أي: يدب دبيباً قبل الالتقاء للضراب أو الطعان، فمعنى قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا)): إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل. وقوله: ((فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ))، أي: لا تولوهم أدباركم، نهاهم عن أن يعطوهم ظهورهم، فضلاً عن أن يفروا أصلاً، يعني: إذا كان هذا الواجب عليكم وإن كنتم قلة وهم كثرة، فكيف إذا كنتم قريبين منهم عداً أو مثلهم عدداً؟ فأولى أن تثبتوا، وألا تولوهم الأدبار، وعدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار، فلم يقل: لا تولوهم الظهور، تقبيحاً للانهزام، وتنفيراً عنه.

تفسير قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة)

تفسير قوله تعالى: (ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]. قوله: ((إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ)) مستثنى من قوله: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ))، أي: فيكون له هذا الوعيد: ((فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)). قوله: ((مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ)) يعني: مائلاً لقتال، يقال: تحرف وانحرف واحرورف، أي: مال وعدل، ومثل هذا يحدث عندما يقاتل المسلمون أكثر من طائفة، وهناك طائفة أشد خطراً على المسلمين، فقتالها أهم، فيترك قتال الأولى ويوليها دبره؛ لأنه يريد أن يلحق بالطائفة الأخطر على المسلمين والأهم، فهذا لا يعد فراراً من الأعداء، وليس من التولي المنهي عنه في الآية، وإنما هو مستثنى، وهو نوع من أنواع التحرف لقتال. والنوع الآخر يكون بالفر والكر؛ لأن الحرب خدعة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيخيل للعدو أنه منهزم؛ كي يغتر العدو بذلك فيلحقه، حتى إذا خرج من بين أعوانه ومن بين الجنود الذين معه وانفرد عاد المسلم فكر عليه وحده أو مع كمين آخر من أصحابه المختبئين مثلاً، والذين يخططون لمثل هذا، فهذا باب من أبواب مكايد الحرب، والحرب خدعة، فهذا في الحقيقة ليس فاراً، وإنما فر في الظاهر ليخدع عدوه ويغره، ثم يقتله وحده أو مع الكمين الذي أعده له. وقوله: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ)) أي: منضماً إلى جماعة أخرى من المسلمين؛ ليستعين بهم، فهو يفر في الظاهر؛ لكنه يريد أن يتجه إلى مجموعة أخرى من المؤمنين، فينحاز إليهم؛ ليستعين بهم في القتال. وقوله: ((فَقَدْ بَاءَ)) أي: رجع، ((بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) أي: بئس ما صار إليه من عذاب النار. وقد دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي: وجوب الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف. وهذه الآية الكريمة تدل على أن الفرار يوم الزحف من الكبائر؛ لأنه توعد عليه وعيداً شديداً، وينضم إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها التولي يوم الزحف). وظاهر الآيات العموم لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا حالة التحرف أو التحيز، وهذا هو المروي عن ابن عباس، واختاره أبو مسلم، وقال الحاكم: وعليه أكثر الفقهاء, فأكثر الفقهاء أن هذه الآية عامة لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا حالة التحرف أو التحيز. وروي عن جماعة من السلف أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم بدر؛ لقوله تعالى: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ))، قالوا: فقوله: ((يَوْمَئِذٍ)) يعني: يوم بدر. و A أن الراجح أن الإشارة في قوله تعالى: ((يَوْمَئِذٍ)) تعود إلى يوم لقاء الزحف، لا إلى يوم بدر؛ لأن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا)) , و ((إِذَا)) صيغة شرط تفيد العموم، فقوله: ((إِذَا)) أي: في أي مرة تحت أي ظرف وفي أي مكان، فقوله: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ)) فيه إشارة إلى يوم لقيا الذين كفروا زحفاً. وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَة)) يعني: إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الجماعة التي هو فيها سواء قربت تلك الفئة أو بعدت، وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس؛ لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: (لو تحيز إليَّ لكنت له فئة)، يعني: ما الذي جعله يثبت أمامهم مع كثرة عددهم وانحصار المسلمين في هذا الجسر؟ أما إنه لو أوى إلى أمير المؤمنين لما عد فاراً، بل يدخل تحت قوله تعالى: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ)). والمعنى أنه إذا كان يولي من أمام العدو ليعود إلى الأمير أو إلى المسلمين ليتجهز من جديد ويخرج للقتال، فهذا ليس بالفرار المذكور، ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: (لو تحيز إليَّ لكنت له فئة) وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه: (أيها الناس! أنا فئتكم)، فأمير المؤمنين هو فئة هؤلاء المجاهدين. وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة: الفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. أي: أنه ما دام يفر ويرجع إلى النبي وإلى الصحابة رضي الله عنهم، ليتجهز للقتال ويعود من جديد فهذا ليس بفار. وحتى لو كان فراراً في الصورة فهو فرار مستثنى، لقوله سبحانه: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا))، أي: أو يفر متحيزاً إلى فئة، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، وجنح إلى هذا ابن كثير رحمه الله تعالى حيث قال: من فر من سرية إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة. ثم أورد حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم، قال: (كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟! ثم قلنا: لو دخلنا المدينة) ثم دخلوا المدينة وهم يشعرون بالخجل وبالخزي؛ لأنهم في نظرهم قد حاصوا، أي: فروا من أمام الأعداء، وبعدما دخلوا المدينة حدثتهم أنفسهم أن يعرضوا أنفسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بحكمه فيهم. قال: (ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا نهيم، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين). والعكارون هم الكرارون، يعني: أن هذا ليس بفرار، لكنه كر، فهذا ليس من الفرار، وإنما هو فرار في الظاهر بصورة مؤقتة؛ كي يكروا ويعودوا من جديد إلى قتال هؤلاء الأعداء؛ لأنهم إذا انضموا إلى الإمام الأعظم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم ليسوا فارين؛ لأنهم داخلون في قوله تعالى: ((أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ))، والخليفة فئة كل مسلم، فضلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: (فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، ثم قال: أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده)، صلى الله عليه وآله وسلم. قال الترمذي: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقال الحاكم في مسألة الفرار: إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده، فإن ظن المقاومة لم يحل له الفرار، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهاد. يعني: لا يشترط أن الفئة تكون في منطقة قريبة من ساحة القتال، بل يجوز ولو كانت بعيدة، ما دام سينحاز إلى فئة من المسلمين، إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهاد، وحمل عليه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكور. وعن الكرخي أنه قال: إن الثبات والمصابرة أمر واجب على المقاتل إلا في ثلاثة أحوال: أولاً: إذا لم يخش الاستئصال. بمعنى: أنه إذا خشي أن المسلمين يستأصلون تماماً وليس هناك أي ثمرة من القتال فهنا يجوز له الفرار، كما حصل من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في سرية مؤتة. ثانياً: أو عرف عدم نكايته في الكفار. ثالثاً: أو التجأ إلى مصر أو جيش للمسلمين. وكان ينبغي أيضاً الإشارة إلى اعتبار شرط العدد الآتي بيانه، فإذا زاد عدد الكفار عن ضعف عدد المسلمين، فهذه من الحالات التي يجوز فيها الفرار. وربما يكون قد أشار إليها ضمناً في قوله: إذا لم يخش الاستئصال، والله تعالى أعلم. وروي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ؛ لقوله تعالى: ((الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)) [الأنفال:66]، قال الحاكم: إذا أمكن الجمع فلا نسخ. ولكن لا نحتاج إلى هذا الجواب؛ لأن اصطلاح النسخ عند السلف ليس كاصطلاح المتأخرين، فالسلف قد يطلقون النسخ يريدون به عدة معانٍ، أما الخلف فاقتصر النسخ عندهم على أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، هذا عند الأصوليين، لكن النسخ يأتي في البيان، والإفهام بعد الإيهام، كما سبق أن بينا. يقول القاسمي: كنا أسلفنا أن السلف كثيراً ما يعنون بالنسخ تقييد المطلق أو تخصيص العام، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها، قال بعض الأئمة: هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة وإن تضاعف عدد المشركين أضعافاً كثيرة، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في هذه السورة: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال:65]، فأوجب الله المصابرة على الواحد بالعشرة، فلما شق ذلك على المسلمين، رحمهم الله تعالى وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين، فقال عز وجل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر)، يعني: يجب عليه أن يثبت أمام الاثنين. وبالجملة: لا منافاة بين هذه الآية وآية الضِعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله تعالى في آية الضِعف، فقوله عز وجل: {

تفسير قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)

تفسير قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) ثم بين تبارك وتعالى أن نصرهم يوم بدر مع قلتهم كان بحوله تعالى وقوته، فقال عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:17]. قوله: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)) أي: بقوتكم. يعني: ما وقع من النصر يوم بدر مع قلتكم ليس بفعلكم أنتم. وقوله: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)) يعني: سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنكم الفزع والجزع. وقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ))، يعني: أنت يا خاتم النبيين مَا رَمَيْتَ، أي: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، ((إِذْ رَمَيْتَ)) بالحصباء؛ لأنك أتيت بالسبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من الحصباء وألقاه وقال: (شاهت الوجوه)، فابتداء الرمي هو من فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ بدليل أن الله نسب إليه الرمي فقال: ((إِذْ رَمَيْتَ))، لكن هذه كانت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذا الإلقاء من كف واحدة ليس من شأنه في العادة أن يصل إلى عيون الكفار واحداً واحداً؛ فالله هو الذي أوصل هذه الحصباء إلى عين كل واحد منهم، فأشغله بنفسه. فهذه معجزة كانت من فعل الله سبحانه وتعالى في الحقيقة، وإن كان تسبب بها ابتداءً النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ))، يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، فالرمي المنفي غير الرمي المثبت، فالرمي المنفي هو نفي إيصاله إلى وجوه المشركين؛ لأن هذا النوع من الرمي الذي أدى إلى وصول الحصباء إلى عيون المشركين واحداً واحداً هو فعل الله تعالى، وهو المراد بقوله: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)). وأما رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو رمي مثبت ذو حدود، أما الرمي المنفي عن الرسول فإنه من فعل الله سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)) يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت بالحصباء؛ لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، ولذا قال سبحانه: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى))، يعني: بلغ في إيصال ذلك إليهم؛ ليقهرهم. وقال أبو مسلم في معنى الآية: أي: ما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم، وقد روى غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: (شاهت الوجوه)، ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، أي: أن يكونوا صادقين في الحملة على المشركين عقب هذه الرمية مباشرة، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، فانهزموا. يقول الجشمي: تدل الآية على أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه، فما دام الذي أعان ومكن هو الله سبحانه وتعالى، فينسب الفعل إلى الله عز وجل؛ إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ))، ولذلك يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه، وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر صارت أقوى، فلذلك قال: ((فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ))؛ لأن الله هو الذي أعانكم على قتلهم؛ سبحانه وتعالى. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة. وهذا غلط من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع، ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال؛ لأنه لا يقال في لغة العرب: رمى، إلا إذا حصل أنه ضرب بالسهم، والسهم أصاب الهدف، ولا تطلق كلمة الرمي على الحذف الذي لا يترتب عليه الإصابة، يعني: قبل الإصابة لا يطلق عليه رمياً، إنما يطلق العرب الرمي على أن يوجه السهم أو الضربة وأن تصيب، فإن لم تصب فلا يطلق عليه رمي، ولذلك قال تعالى: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ))، فقوله: ((وَمَا رَمَيْتَ)) يعني: ما وصلت وبلغت، وقوله: ((إِذْ رَمَيْتَ)) أي: حذفت. وقوله تعالى: ((وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ)) أي: ليمنحهم من فضله ((بَلاءً حَسَنًا))، أي: منحاً جميلاً بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه سبحانه وتعالى ويشكروه. وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))، أي: سميع لدعائهم واستغاثتهم، عليم بمن يستحق النصر والغلب.

تفسير قوله تعالى: (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين)

تفسير قوله تعالى: (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:18]. ((ذَلِكُمْ)) الإشارة إما إلى البلاء الحسن المذكور في قوله: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} [الأنفال:17]، وإما إلى القتل المذكور في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال:17]، وإما إلى الرمي المذكور في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]. وإعراب ((ذَلِكُمْ)) على الرفع خبر، أي: الأمر ذلكم، أو المقصود ذلكم. وقوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ))، أي: مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي: أن المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، فإنه قال: ((وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا))، ثم قال: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ}، وهذه بشارة أخرى، فمع ما حصل من النصر فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، وأن كيدهم في تبار ودمار، وقد وجد المخبر على وصف الخبر، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة.

تفسير قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)

تفسير قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ثم قال عز وجل مخاطباً المشركين: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]. قوله: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))، هذا خطاب للمشركين، يعني: إن تطلبوا الفتح وأن يفصل يبنكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم القضاء بما سألتم. روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن ثعلبة: أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة. يعني: أهلكه الغداة، فكان هو المستفتح؛ ليستعجل فصل القضاء من الله سبحانه وتعالى. وروي أيضاً في بعض الآثار: أنهم تعلقوا بأستار الكعبة، وأخذوا يدعون الله سبحانه وتعالى أن ينزل العذاب والهلكة، وأن يهزم أظلم الفريقين، وأقطعهم للرحم، وأفسدهم في الأرض، وأبعدهم عن الله سبحانه وتعالى. فهم استفتحوا، بمعنى: أنهم سألوا الله سبحانه وتعالى أن يفتح بين الفريقين، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: أنتم جلبتم ذلك لأنفسكم، ألستم أنتم الذين استفتحتم؟ ألستم الذين قلتم: اللهم أهلك أظلمنا وأقطعنا للرحم، وأبعدنا منك؟ فلذلك جاءت الآية: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))، أي: أنتم الذين استفتحتم وطلبتم أن يقضي الله سبحانه وتعالى بينكم. وعن السدي: أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال تعالى: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)). وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا؛ لأنهم أيضاً استفتحوا في الآية الأخرى، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]. وقيل: إن في هذا الخطاب تهكماً بهم. أي: أنتم الذين استفتحتم، ودعوتموني أن أنصر أعز الفريقين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين! فتهكم الله سبحانه وتعالى بهم بقوله: ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))؛ لأن الذي جاءهم هو الهلاك والذلة، وهذا كما في كلمة (بشر) في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3]، فإن الكافر عندما يسمع كلمة (بشر) ينشرح، فإذا صدم بكلمة (عذاب أليم) يعرف أن المقصود بها التهكم، فكذلك قوله تعالى هنا: ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)) المقصود بها التهكم؛ لأن الذي جاءهم كان الذلة والهلاك والصغار. والقول بأن المقصود من قوله تعالى: ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)) التهكم يصح إذا قلنا بأن الفتح بمعنى النصر. لكن له معنىً آخر فسرت به الآية أيضاً، وهو: أن الفتح هو الحكم والفصل بين الخصمين والقضاء بينهما، فقوله: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا))، أي: أنتم طلبتم القضاء والحكم، ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)) أي: حكمي وقضائي. وقوله: ((وَإِنْ تَنتَهُوا))، يعني: إن تنتهوا وتتوبوا عن الكفر وعن عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. ((فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)) في الدنيا وفي الآخرة. ((وَإِنْ تَعُودُوا)) لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نَعُدْ)) لنصره عليكم. ((وَلَنْ تُغْنِيَ))، أي: لن تدفع ((عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)) بالنصر، وقرئ: (وإن الله مع المؤمنين) استئنافاً. وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا)) للمؤمنين، أي: إن تطلبوا الفتح، ((فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ))، فيكون هذا بشارة للمؤمنين بالنصر، والمعنى: إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم فقد حصل لكم ذلكم، فاشكروا ربكم، والزموا طاعته. وقوله: ((وَإِنْ تَنتَهُوا)) يعني: عن المنازعة في أمر الأنفال -على أن الخطاب للمؤمنين- وعن طلب الفداء عن الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال:68]. فقوله تعالى: ((وَإِنْ تَنتَهُوا))، أي: عن مثله، ((فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا))، أي: إلى تلك المنازعات ((نعد)) عليكم بالإنكار، وتأييد العدو؛ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم، وهذا الوجه قرره الرازي، ونقله عنه البيضاوي. قال البيضاوي: ويؤكده الآية بعد؛ فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن الإعراض عنه. يعني: أن البيضاوي يرجح هذا التفسير الأخير، وهو أن الخطاب للمؤمنين. ((وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ))، أي: الكاملي الإيمان الذين لا يخالفون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المنازعات.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20]. قوله: ((وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ))، أي: لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره، ((وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ))، أي: تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته. والواقع الذي يعيشه الآن المسلمون بعدما وضعت راية الجهاد واقع مؤلم؛ ذاقوا فيه الذل والصغار على يد أحقر خلق الله سبحانه وتعالى، فلماذا يخاف أعداء هذه الأمة من يقظة روح الجهاد في المسلمين؟ وأتذكر واقعة حصلت في بداية حرب أفغانستان، وطبعاً الأوضاع كانت مختلفة تماماً عما نحن عليه الآن، فالسعودية كانت متحمسة جداً، كما كان الحال هنا أيضاً في مصر لجهاد الأفغان ضد الروس، ثم عقد مؤتمر لمناصرة أفغانستان في السعودية، وكان الملك فهد ولي العهد في أيام الملك خالد رحمه الله، فالمهم أن فهداً ارتفعت حرارته قليلاً، فتحمس في المؤتمر، وأعلن الجهاد، فقامت الدنيا كلها ولم تقعد، وحصلت ضغوط شديدة بصورة لم تكن متوقعة، ونحن نعرف عندنا أن هؤلاء عندما يعلنون الجهاد في مثل هذه المؤتمرات لن يكون هناك أي شيء، ومع ذلك ارتعدت جميع الدول الكافرة، فاضطر إلى أن يصدر تصريحاً آخر بعد ذلك، ويعلن أنه إنما كان يقصد جهاد النفس، وهذا يدل على الضعف والخور الذي نحن فيه، وأننا لا نستطيع حتى أن نقول: جهاد، وأصبح الحال كما يقول الشاعر: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع! هذا هو حال جهادنا الآن، ومع ذلك ما تحملوا حتى مجرد هذه الإشارة الخفيفة؛ لأنهم فقهوا مكامن القوة في الإسلام أكثر مما يفقهها كثير منا، وعرفوا أن هذا فقط هو الذي يعيد للمسلمين عزهم، أما إذا تركوا الجهاد فلابد أن يلزمهم الذل والصغار، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فصحح كلامه تحت الضغط مع أنه كلام في الهواء. ونقول: فلماذا تعلن عن الجهاد؟! فإن جهاد النفس معلن منذ زمان عند الصوفية وعند غيرهم، والله المستعان! فالشاهد: أننا ونحن نتعامل مباشرة مع الوحي الإلهي نحس بهذه الروح، وفعلاً حُقَّ لأعداء الإسلام أن يخافوا من القرآن، وحُقَّ لهم أن يخافوا من بعث روح الجهاد في المسلمين، ومهما راحوا أو جاءوا فلن يرفع شأن المسلمين إلا الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، لا في سبيل أرض، ولا وطن، ولا مبادئ مفسدة، كما بين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن القتال سيعود مع اليهود في آخر الزمان، وأن الحجر سينطق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لتقاتلن اليهود، حتى إن اليهودي يختبئ وراء الحجر أو الشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود). فلا يصفه ولا يقول له إلا: يا مسلم! يا عبد الله! قال عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، وبخلاف هذا لن نذوق إلا الذل والصغار والهوان أكثر مما نحن عليه الآن، والله المستعان.

تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)

تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ثم قال تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21]. قوله: ((كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا)) يعني: كالذين ادعوا السماع. وقوله: ((وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ))، يعني سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون، فالمنفي هنا سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، وإلا فإن السماع الذي هو سماع الحاسة موجود حتى عند البهائم، فلو أن واحداً أتى بالمعلقات السبع ووقف أمام بقرة أو حمار أو عنزة وظل يقرأ أمامها المعلقات السبع، فإنها ستسمع الحروف، لكن لا تفقه المعاني، وهذا هو السماع المنفي عن هؤلاء الكفار؛ حيث نفى الله عنهم السمع والبصر والعقل. والمقصود أن عندهم عقولاً لكنهم لم ينتفعوا بها في الهداية والتدبر والاتعاظ، وكما قال عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، فالحمار إذا ظللت تناديه أو تتلو أمامه قصيدة أو خطبة وتكلمه، فهو يسمع الحروف سماع دعاء ونداء، فيقول له صاحبه ألفاظاً معينة ويحفظها، فينفذ الأوامر، لكنه إذا كلمه وخاطبه لا يعقل، فهذا هو حال الكفار بالضبط، بل هم أضل من البهائم، كما سنبين إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}، أثبت للمؤمنين فيها سماع القرآن، وهو التدبر والفهم، ثم أردف ذلك بقوله: ((وَلا تَكُونُوا))، أي: إياكم أن تكونوا ((كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا))، أي: ادعوا أنهم يسمعون، لكن في الحقيقة ((وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ))، أي: سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون. فالمنفي سماع خاص، لكنه أتى به مطلقاً للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً، وذلك بجعل سماعهم بمنزلة العدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاك السمع والبصر والعقل لأجل أن تستعمل هذه الآلات في توحيده وفي فهم آياته، وهذه هي الغاية من خلق هذه الحواس، فإذا عطلتها عن وظيفتها فلم تستعملها فيما خلقت له، فكأنك لم ترزق، وأنت بهذا ما انتفعت الانتفاع المطلوب بهذه الحواس. قال الزمخشري: ((وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ)) والمعنى: أيها المؤمنون! إنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. هذا قول آخر للزمخشري.

تفسير قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)

تفسير قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]. ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم، وذلك بعد أن بين أنهم إن لم يسمعوا ويطيعوا فسيكونون مثل الكفار، فقال عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21]، فمبالغة في التحذير وتقريراً للنهي بيَّن سوء حال المشبه بهم، فقال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]. الدَّوَاب جمع دابة، والمقصود: ما يدب على الأرض. وبهذا المعنى العام يعتبر الإنسان من الدواب؛ لأنه يدب ويتحرك على الأرض، أو يقصد بها البهائم، فالمعنى: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ))، يعني: إن شر البهائم، ((عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ))، أي: عن سماع الحق ((الْبُكْمُ))، يعني: الذين لا ينطقون به، ((الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ))، أي: الذين لا يفهمونه، فجعلهم الله تعالى من جنس البهائم؛ لصرفهم جوارحهم عما خلقت له، وليس هذا فحسب، فإن الله سبحانه وتعالى لم يقل: إن هؤلاء الكفار دواب أو بهائم، وإنما قال: هم شر البهائم، فنظمهم في سلك البهائم والعجماوات التي لا تعقل، ثم وصفهم بأنهم شر هذه البهائم جميعاً، وهذا شيء منطقي وشيء مقبول؛ لأنهم عاندوا بعد الفهم، وكابروا بعد العقل، وهذا غاية في الذم، وقد كثر في التنزيل تشبيه الكافرين بنحو هذا، كقوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]. وهنا تنبيه مهم: وهو أن بعض الناس قد يحصل منه -ومنا عموماً- عدم دقة في استعمال بعض التعبيرات، فنسمع من يصف الكافر الفلاني بأنه خنزير، وهذا قرد وهذا كذا وكذا، وربما ظن أن هذا جائز، وأنه إذا شتم أحداً بمثل هذه الألفاظ لم يأثم، وإذا قيل له قال: إن في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176]، وقال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فنقول: أنت إذا ضبطت كلامك فهمت أن الآيات الكريمات لا تدل على ما تذهب أنت إليه؛ فالقرآن لم يقل: هم حمير، ولم يقل: هم كلاب، وإنما قال: (مثل) فشبه؛ وأنت إذا قلت: فلان كذا، وذكرت حيواناً من هذه الحيوانات فهذا كذب وفحش من القول، والأصل أن المسلم يتنزه عن هذا، إلا في حالات قليلة، لأنك إذا قلت: فلان خنزير فهو ليس بخنزير، لكن ممكن أن تشبهه بالخنزير، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، وقال أيضاً: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176]. فالله سبحانه وتعالى أكثر في القرآن الكريم من تشبيه الكفار بنحو ذلك، كقوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة:171]، أي: يدعو بصوت عالٍ، {بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، أي: يسمع الصوت لكن لا يفهمه.

تفسير قوله تعالى: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم)

تفسير قوله تعالى: (ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) ثم يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]. قوله: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ)) أي: في هؤلاء الصم البكم، ((خَيْرًا)) أي: صدقاً ورغبة في الحق، ((لَأَسْمَعَهُمْ)) الحجج والمواعظ، ولذلك ممكن أن تجد إنساناً موغلاً في الكفر ثم يمن الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية؛ لأن الله علم في قلبه خيراً، أي: هذا المعدن علم الله سبحانه وتعالى أن فيه خيراً، فلذلك أسمعه، ونزع القفل من على قلبه، وفتح قلبه للإيمان، فهداه الله سبحانه وتعالى، وأما الذين يحرمهم الله من نعمة الإيمان فإنه سبحانه علم أن هؤلاء ليس في قلوبهم خير، ولذا قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}. فالإنسان أحياناً يقف من أحوال بعض الكفار الذين هداهم الله سبحانه وتعالى للإسلام على شيء عجيب جداً، من شرح الصدر لنور الحق، الأمر الذي يتفوقون فيه على كثير ممن يحملون أسماء المسلمين وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام، وقد سمعت عن أخت أمريكية أو بريطانية أتت مع زوجها المسلم الذي التزامه ليس بذاك، فأتت معه إلى مصر، لكنها لما أسلمت صارت ملتزمة التزاماً متيناً بالدين، وتزوجت هذا المسلم، فلما أتت معه إلى شوارع الإسكندرية كانت طول ما هي ماشية في الشوارع تقول: ما شاء الله، الحمد لله، كل المسلمات في بيوتهن! يعني: أنها كانت تحمد ربنا سبحانه وتعالى على أن اللاتي في الشوارع المتبرجات هؤلاء كلهن غير مسلمات، وأن المسلمات المحجبات قارات في بيوتهن؛ لأنها فهمت أن كل المتبرجات يهوديات أو نصرانيات غير مسلمات، فهي تحمد الله أن المسلمات قارات في البيوت، ولا يخرجن في هذه الفتن، والله المستعان! وقوله: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)) يعني: لأسمعهم الحجج والمواعظ سماع تفهم وتدبر، أي: لجعلهم سامعين؛ حتى يسمعوا سماع المصدقين، ولكن لم يعلم الله فيهم شيئاً من ذلك؛ لخلوهم عن الخير بالمرة، ولم يسمعهم كذلك لخلو السماع عن الفائدة وخروجه عن الحكمة، وإليه أشير بقوله تعالى: ((وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا))، يعني: ولو أسمعهم سماع تفهم وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية لتولوا عما سمعوه من الحق، ((وَهُمْ مُعْرِضُونَ)) أي: عن قبوله جحوداً وعناداً.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ثم ذكر تبارك وتعالى آية من الآيات التي من المفروض أن كل واحد منا لا أقول: يعلقها على كل متر من بيته، لكن يثبتها في قلبه، ويجعلها دائماً نصب عينيه، خاصة في هذا الزمان، وهي قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]. قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) الاستجابة هنا بمعنى الإجابة. أي: أجيبوا الله والرسول، وكلمة: ((إِذَا دَعَاكُمْ)) تحتم أن يكون (استجيبوا) بمعنى: أجيبوا؛ لأن من دعاك فأجبه، كما تقول: من دعاك استجب له، وعلى هذا يكون معنى قوله: (استجيبوا) يعني: أجيبوا؛ لأنها تقابل الدعاء، قال الشاعر: وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب فقوله: (فلم يستجبه) يعني: لم يجبه، فمعنى الاستجابة الإجابة، والمراد بها الطاعة والامتثال، وإنما وحد الضمير في قوله تبارك وتعالى: ((إِذَا دَعَاكُمْ))، ولم يقل: إذا دعياكم أو دعواكم -أي: الله والرسول- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو المباشر للدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ولأن استجابته صلى الله عليه وسلم كاستجابته تعالى، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، كقول تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59].

معنى استجابة المؤمنين لما يحييهم

معنى استجابة المؤمنين لما يحييهم وقوله: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) قال عروة بن الزبير فيما رواه ابن إسحاق: أي: للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل. أي: وقواكم به بعد الضعف، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم. وإنما سمي الجهاد حياة لأن في وهن عدوهم بسببه حياة لهم وقوة، ولأن الجهاد يضعف العدو، فإذا ضعف العدو فهذا يعطي المسلمين الحياة والقوة، أو لأنه سبب لحصول الشهادة التي توجب لهم الحياة الدائمة، كما قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169]. فقوله: ((إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) على هذا التفسير أي: إلى الجهاد الذي يترتب عليه أن تنالوا الحياة الدائمة في جنات الفردوس. أو أن قوله: ((إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: إلى الجهاد الذي هو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]، يعني: لهي الحياة الدائمة، فيكون مجازاً مرسلاً بإطلاق السبب على المسبب. وقيل: إن قوله: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: لما يحييكم من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب كما أن الجهل موته. إذاً: في قوله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) أقوال: القول الأول هو: الطاعة والامتثال. القول الثاني: هو الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ لأن في وهن عدوكم بسبب الجهاد حياة لكم وقوة، أو لأنه يكون سبب الحياة الدائمة بعد الشهادة، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة. القول الثالث: العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب، كما أن الجهل موته. قال الشهاب: وإطلاق الحياة على العلم والموت على الجهل استعارة معروفة ذكرها الأدباء وأهل المعاني، وأنشد الزمخشري لبعضهم: لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت وثوبه كفن يعني: أن الزينة هي زينة العلم، ولذا لم يأمر الله تبارك وتعالى نبيه أن يسأله الاستزادة إلا من العلم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، يعني: وحياً، فالجهل يعبر عنه بالموت. وقول الشاعر: (لا تعجبن الجهول حلته)، يعني: أن الجاهل الذي يلبس حلة نفيسة وجميلة لا تغني عنه شيئاً، وإنما هذه الحلة بالنسبة له مثل الكفن على جسد الميت، وهل يغني الكفن الحسن عن الميت شيئاً؟! فكذلك الجهل. فهذا كله مما يرشح هذا القول بأن قوله: ((إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: العلم الذي يحييكم، والذي بدونه تكونون موتى، وقد جاء هذا في قول أبي الطيب من قصيدته التي أولها: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن ومنها: لا تعجبن مضيماً حسن بزته وهل تروق دفيناً جودة الكفن أي: هل الميت المدفون ينبسط؛ لأن الكفن الذي عليه جيد وحسن؟! والأظهر أن معنى قوله تعالى: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)): ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة، أي: أنه عام؛ لأن الصيغة هنا تعم جميع أعمال البر والطاعة، فيدخل فيه ما تقدم وغيره، فالجهاد منها، والشهادة في سبيل الله منها، والعلم الشرعي منها، والطاعة منها، والصلاة منها، والزكاة منها وهكذا. وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحداً وهو في الصلاة، فقد روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلا رضي الله عنه قال: (كنت أصلي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟! ألم يقل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))).

معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه

معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه وقوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يحتمل وجوهاً من المعاني: الوجه الأول: أنه تعالى يملك على المرء قلبه، يعني: اعلموا وتذكروا أن قلوبكم ليست ملكاً لكم، ولستم أنتم الذين تصرفونها وتوجهونها، وإنما مالك القلب هو الله سبحانه وتعالى وحده يصرفه كيف يشاء، فيحول بينه وبين الكفر إذا شاء له الهداية، ويحول بينه وبين الإيمان إذا أراد ضلالته. وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس وصححه، وقاله غير واحد من السلف، ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقيل: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم؛ إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها)، رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس، وفي لفظ مسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد؛ يصرفها كيف شاء)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك)، وفي رواية: (إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه). إذاً: المقصود من قوله تبارك وتعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) أن الله سبحانه وتعالى يملك القلب، ويتمكن منه، ويصرفه كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبه، فصاحب القلب نفسه الذي قلبه في بدنه لا يملك أن يوجه قلبه، لولا أن يتولى الله سبحانه وتعالى توجيهه. فقوله تبارك وتعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يعني: إذا علمتم ذلك فخافوا على أنفسكم، واستعينوا بالله سبحانه وتعالى على أن يثبت قلوبكم على الإيمان؛ لأنه يحول بين المرء وقلبه. وتخيل أنت الفرق الذي يكون بين الإنسان وقلبه الذي هو فيه، ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يحول بين المرء وقلبه، فانظر إلى قدرة الله سبحانه وتعالى وتمام ربوبيته وتصريفه لأحوال الخلق، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما سمي القلب قلباً لتقلبه)، وقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (مثل القلب كمثل القدر إذا استجمعت غلياناً -أو- للقلب أشد اضطراباً من القدر إذا اجتمعت غلياناً)، فالقدر بعد الغليان تتحرك فيه كل أجزاء السائل الذي يغلي، فكذلك القلب لا يعرف الثبات إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى. وقال عليه الصلاة والسلام: (ومثل القلب كمثل ريشة بأرض فلاة تحركها الرياح)، فكلمة القلب مأخوذة من التقلب، فالقلب لو رفعت عنه عناية الله لا يثبت، بل يتقلب، إلا أن يثبته الله سبحانه وتعالى. الوجه الثاني في تفسير قوله عز وجل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)): أنه حث على المبادرة إلى الطاعة قبل حلول المنية، أي: بادروا إلى التوبة وإلى الطاعة قبل أن يأتيكم الموت، فمعنى يحول بينه وبين قلبه: يميته، فتفوته الفرصة التي هو واجدها، فالآن لم يحل الله بينك وبين قلبك؛ لأنك ما زلت حياً، والقلب يدق وينبض بالحياة، فإذا تبت قبلت توبتك، فبادر الآن لإصلاح حالك مع الله سبحانه وتعالى قبل أن يحول بينك وبين قلبك؛ لأن أصل التوبة وأساس التوبة هو القلب، ويحال بينك وبين قلبك بالموت. فهذا معنى قوله عز وجل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))، يعني: بحلول الموت، فلا تملك التوبة إذا حل الموت، فاستدرك واغتنم الفرصة الآن وقد وجدتها، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله، فأي إنسان إذا أصيب بمرض في عضلة القلب يفزع فزعاً شديداً، وهل يكون انفعال الإنسان بالمرض الذي في قلبه -العضلة نفسها- مثل أي ألم في أصابعه أو جلده أو في أي جهاز آخر؟ فأفزع ما يكون الإنسان إذا علم أن في قلبه مرضاً، فإنه يفزع ويخاف من الموت، ويهرول إلى الأطباء يلتمس عندهم الشفاء، فأولى ثم أولى أن الإنسان إذا أحس أن في قلبه مرضاً أن يهرول إلى علاجه قبل أن يحول الله بينه وبين هذا القلب بموته. وكما أن البدن له أدوية يتعاطاها الإنسان فيشفى بإذن الله، فكذلك القلب أمراضه لها دواء، وعلى الإنسان أن يسارع بالتفتيش عن هذه العلاجات؛ ليطهر قلبه، ويرده إلى الصحة والعافية من جديد قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت، فلا يستطيع إصلاحه بعد الموت؛ فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلفوها لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه. الوجه الثالث: أن المقصود التعبير بها عن غاية القرب من العبد، فقوله: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) يعني: أن الله قريب منك جداً؛ لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما. وانفصال أحدهما عن الآخر معناه: كأن القلب في جهة والإنسان نفسه في جهة، والله سبحانه وتعالى يحول بين الاثنين، فمن الأقرب إلى الإنسان؟ ومن أقرب إلى قلبه؟ هل القلب أقرب إلى المرء، أم أن الله أقرب إلى الإنسان من قلبه وأقرب إلى القلب من الإنسان؟ فهذا المعنى يفيده قوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)) فيحول معناها: يقرب، وهذا المعنى نقل عن قتادة؛ حيث قال: إن قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] فيه تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما عسى أن يغفل عنها صاحبها. وقوله: ((وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) أي: فيجزيكم بأعمالكم.

تفسير ابن القيم لقوله: (إذا دعاكم لما يحييكم)

تفسير ابن القيم لقوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) وهنا كلام طيب جداً للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الفوائد نختم به الكلام على هذه الآية، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: قول الله تعالى ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، تضمنت هذه الآية أموراً: أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. يعني: لا يحصل الإنسان الحياة النافعة إلا إذا استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وكل من لم يستجب لله ورسوله فهو كالميت، وإن كانت له حياة بهيمية، فمثله مثل الطيور والأسماك والضفادع والبرمائيات والزواحف وهكذا، كل هذه الأعضاء في المملكة الحيوانية هو مثلها، يشترك معها في الحياة البهيمية الحيوانية. فقد تكون للإنسان حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، لكن ليس له هذه الحياة الحقيقية التي هي حياة روحية، ولا تحصل إلا بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، حتى بعد أن يموتوا فهم أحياء، وأقرب مثال: هذا الرجل الذي ألف هذا الكتاب ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الذي يخاطبنا الآن، فهو في الحقيقة حي، يعني: أن الحياة الحيوانية ذهبت بخروج روحه، لكنه حي معنا إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وكم ممن يعيش بيننا هو والميت سواء؟! فرغم أن الحياة البهيمية موجودة، لكن لا خير فيه، وإذا مات تستريح منه البلاد والعباد. فمن الحياة الحقيقية أن نتذكر هؤلاء الصالحين، في عبادتهم، وفي علمهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي تضحيتهم في سبيل الدين، فالذكر للإنسان عمر ثانٍ، كما يقولون. وأكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما زادت استجابة الإنسان للشرع المطهر وطاعة الله ورسوله قويت فيه هذه الحياة، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، بقدر ما يفوته من الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: للحق، وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاح والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر. قال ابن إسحاق وعروة بن الزبير واللفظ له: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل، وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم، وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة، وهي القيام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)): هو الجهاد، وهو قول ابن إسحاق، واختيار أكثر أهل المعاني. قال الفراء: ((إِذَا دَعَاكُمْ)) إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم. قلت - ابن القيم -: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة. يعني أن الجهاد من أعظم ما يحييهم الله سبحانه وتعالى به، فالجهاد يحيي المؤمنين في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة: أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد؛ لأن العدو إذا لم يقهروه سوف يقتلهم ويبيد حياتهم، فإذا قهروا عدوهم استبقوا حياتهم. وأما في البرزخ فقد قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم، ولهذا قال ابن قتيبة: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: الشهادة، وقال بعض المفسرين: ((لِمَا يُحْيِيكُمْ)) يعني: الجنة، فإنها دار الحيوان، وفيها الحياة الدائمة الطيبة، حكاه أبو علي الجرجاني. والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة، والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، وهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة.

حياة البدن بالعافية وحياة القلب بالإيمان

حياة البدن بالعافية وحياة القلب بالإيمان قال: والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار، ويؤثر ما ينفعه على ما يضره، ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك، ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك، فليست حياة الذي يحيا حياة ضنكٍ مثل حياة المعافى من هذا الضنك. ثم قال: وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل، فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم. يعني: كما أن البدن إذا كانت الشبكة العصبية فيه سليمة فإنه إذا أحس بوخزة دبوس أو بنار تلسع يتألم؛ لأن الشبكة العصبية سليمة، لكن لو أن الشبكة فيها قطع، أو فيها فساد، فممكن أن لا يتألم الإنسان، وقد تدخل فيه الشوكة أو المسمار ولا يحس بذلك؛ لضعف الحياة فيه. فالبدن كلما كان أتم حياة كان إحساسه بالشيء المؤلم والضار أكثر من غيره، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم، وكذلك القلب إذا بطلت حياته بطل تمييزه، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، فطاعة الله وطاعة الرسول عليه والسلام لها ثمرة، وهي أن يلقي الله في قلبه نوراً يستطيع أن يميز بين الحق والباطل، ولا يقع في الشبه والضلالات والوساوس. فكلما زادت حياة الروح بالقرآن وبالعلم النافع ازداد اتضاح الأمور أمامه، فيرى الأبيض أبيض والأسود أسود، والتميز بين الحق والباطل يكون حداً فاصلاً بدون اختلاط، فإذا بطلت حياته بطل تمييزه، وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار. يعني: إما أن يفقد حياة القلب تماماً فبالتالي لا يميز، كحال الكفار، فالكافر لا يمكن أن يرى الحق، وإما أن يكون عنده تمييز، لكن ليس عنده همة بأن يؤثر النافع على الضار وقد علم النافع من الضار، كما أن الإنسان لا حياة له، حتى ينفخ فيه الملك -الذي هو رسول الله- من روحه. وهنا في الحقيقة تعبير من أروع تعبيرات الإمام الجليل ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وخلاصة الكلام أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يلخص هذا الكلام الذي ذكرناه كله في أن الإنسان إذا أراد أن تتم حياته واستنارته فلابد أن يتوقف هذا على نفختين: نفخة من الرسول الملكي، ونفخة من الرسول البشري عليه الصلاة والسلام. ويقصد بالنفخة من الرسول الملكي: نفخة الملك عندما يأتي الجنين في بطن أمه وينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات، كما هو معلوم، فهذه النفخة تحدث للإنسان حياة البدن الدنيوية، وهذه الحياة هي الحياة البهيمية؛ لأنها مشتركة بين الكائنات كلها، وبين المؤمن وبين الكافر. وحتى تتم له حياة القلب لابد من نفخة من الرسول البشري، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يؤمن به، ويتبع هديه صلى الله عليه وسلم، فتتم له الحياتان هنا.

النفخة الملكية والنفخة النبوية لحياة الإنسان

النفخة الملكية والنفخة النبوية لحياة الإنسان يقول ابن القيم: كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه، فيصير حياً بذلك النفخ، وكان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى الله تعالى إليه. أي: القرآن الكريم، فإذا انتفعت بالقرآن الكريم وارتبطت بالقرآن الكريم فهذه هي النفخة التي تعطيك حياة القلب، وكلما ضعف ارتباطك بالقرآن الكريم ضعف هذا الإيمان في قلبك. يقول: فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الروح الذي ألقى الله إليه، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، ويقول تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. فأخبر أن وحيه روح ونور، فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي، فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان، ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين وفاتته الأخرى، فالكافر حصل نفخة الملك لأن فيه روحاً؛ لكن فاتته نفخة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يؤمن به، وبالتالي لن ينتفع بهدي القرآن الكريم، وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] بالإسلام، {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فجمع للمؤمن بين النور والحياة، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. وقال ابن عباس وجميع المفسرين: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] يعني: كان كافراً ضالاً فهديناه. وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] هذا يتضمن أموراً: أحدها: أنه يمشي وسط الناس هم في ظلمة وهو في نور، فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل، فضلوا ولم يهتدوا للطريق، وآخر معه نور يمشي به في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها. وثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره، فهم يقتبسون منه لحاجتهم إلى النور، هذا حال المؤمن المستقيم الداعية في وسط الذين يمشون في الظلام، ويتيهون ويعمهون ويترددون ويتحيرون، فهم محتاجون إلى هذا النور الذي معه؛ كي ينجوا في هذه الطريق. وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات حقدهم ونفاقهم.

معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه عند ابن القيم

معنى أن الله يحول بين المرء وقلبه عند ابن القيم وقوله تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))، المشهور في الآية أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته، وبين أهل معصيته وبين طاعته. وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين. وفي الآية قول آخر: أن المعنى: أنه سبحانه وتعالى قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية، فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة، وكأن هذا أنسب بالسياق؛ لأن الاستجابة أصلها بالقلب، فلا تنفع الاستجابة بالبدن دون القلب، فإن الله سبحانه وتعالى بين العبد وقلبه، فيعلم هل استجاب له قلبه، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه. وعلى القول الأول فوجه المناسبة: إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن يحول الله بينكم وبين قلوبكم. فإذاً هنا تهديد: لا تأمنوا، وإياكم أن يعاقبكم بأن يحول بينكم وبين قلوبكم، فلا يمكنكم بعد ذلك الاستجابة. فإذا لم تبادروا فلا تأمنوا أن يعاقبكم الله بالحيلولة بينكم وبين الاستجابة، وبين الحق واستبانته، فيكون هذا كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، لأنهم لم يبادروا، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، وقوله: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف:101]، ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب. كما أن الاستجابة لا تقتصر على الاستجابة بالجوارح، لكن تكون أيضاً بالقلب. فالله سبحانه وتعالى يحول بينكم وبين قلوبكم، ويطلع على قلوبكم، وهو أقرب منكم إلى قلوبكم. وفي الآية سر آخر: وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به -وهو الاستجابة- وبين القدر والإيمان به، فجمعه بين الشرع والقدر في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))، فهنا أمر شرعي طلبي، ثم قال: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ))، فيكون كمثل قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]، هذا شرع، ثم قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وكقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:55 - 56].

الأنفال [25 - 34]

تفسير سورة الأنفال [25 - 34]

تفسير قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)

تفسير قوله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) قال عز وجل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]. ختمنا الكلام في الدرس الماضي بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، ثم يقول تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)). والفتنة إما بمعنى الذنب، وعلى هذا فقوله: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) يعني: اتقوا الذنب الذي تترتب عليه هذه العقوبة، والذنب يكون مثل إقرار المنكر، وافتراق الكلمة، والتكاسل في الجهاد. وإما أن تكون الفتنة بمعنى العذاب، وعلى هذا فقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) أي: اتقوا العذاب. فإن أريد بالفتنة الذنب فقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً)) يعني: اتقوا ذنباً أو معصية، وقوله: ((لا تُصِيبَنَّ)) أي: لا يصيبن أثره أي: العذاب، ((الذين ظلموا منكم خاصة)). وإذا قلنا: إن الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] يعني: عذابكم، فالمعنى: اتقوا إصابة العذاب بنفسه. وقوله: ((لا تُصِيبَنَّ)) هذا جواب للأمر: ((وَاتَّقُوا))، أي: إن أصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم، لكن شؤمها يتعدى إلى الجميع، فتشمل الظالمين المذنبين وغيرهم؛ بشؤم صحبتهم؛ لأنهم عاشوا معهم، وخالطوهم، وتعدت رذيلتهم إلى من يخالطهم، فإن الأشرار والفساق يتعدى شؤمهم إلى من يساكنهم ويركن إليهم، فيصيبه شؤمهم بسبب مصاحبتهم، وذلك كقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]. وقد روى الإمام أحمد عن جرير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب). قال الكرخي: ولا يستشكل هذا بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، لأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فالواجب على كل من رآه أن يغيره إذا كان قادراً على ذلك، فإذا سكت الجميع فكلهم عصاة؛ هذا بفعله وهذا برضاه. وقدر الله تعالى بحكمته أن الراضي بمنزلة العامل، فانتظما في العقوبة، ودخل فيها الراضي؛ لأن السكوت علامة الرضا، ولذلك فإن العذاب يعم الجميع، وهذا لا يتعارض مع قوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؛ لأنهم ما داموا قادرين على التغيير ولم يغيروا فإن سكوتهم يعني الموافقة والإقرار والرضا، فاستووا مع الذين عصوا. فإنكار المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم، أما الإنكار باليد وباللسان فعلى التفصيل المعروف في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وليس بعد ذلك عذر لمعتذر، فالإنسان قد يكون للناس سلطان عليه بالقهر، فيمنعه ذلك من التغيير باليد أو باللسان، لكن لا سلطان لأحد على القلب، فإذا كان القلب لم ينكر المنكر فلا شك أن صاحبه راض بهذا المنكر وآثم بسبب ذلك. فإذاً: علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل، لكن ما دام قلبك يستقبح المنكر ويكرهه ويبغض أهله فلا وزر عليك، وإن كنت عاجزاً عن تغييره باليد أو باللسان، المهم أن القلب يكون مطمئناً بالإيمان ومتألماً بسبب هذه المعاصي. وذكر القسطلاني أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارهاً له إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن متألماً فهو راضٍ بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25]، يعني: لمن يخالف أوامره.

تفسير قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) فقال عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]. ثم نبه تعالى عباده المؤمنين من السابقين الأولين على نعمه عليهم؛ لأن الراجح أن الخطاب في الآية إنما هو للمهاجرين الأولين خاصة، فقد ذكرهم عز وجل بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، ورزقهم من الطيبات؛ ذكرهم بذلك ليشكروه بدوام طاعتهم واستمرارهم على طاعة الله سبحانه وتعالى. ((وَاذْكُرُوا)) أي: يا معشر المهاجرين! فالخطاب -على الراجح- للمهاجرين. ((إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)) يعني: إذ كنتم قليلي العدد، ((مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ)) أي: مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش. وقوله: ((تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)) إذا قلنا إن الخطاب للمهاجرين الأولين فالناس هم أهل مكة، وتخطفه واختطفه بمعنى: استلبه وأخذه بسرعة، فإذا أخذ أحد الشيء بسرعة يقال: تخطفه أو اختطفه. ((فَآوَاكُمْ)) أي: بعد هذا الاضطهاد والاستضعاف آواكم إلى المدينة المنورة دار الهجرة. ((وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)) يعني: أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره، وأما كيف قواكم؟ وكيف أتاكم نصره؟ فبمظاهرة الأنصار؛ لينصروا الدعوة، وبإمداد الملائكة، وبالتثبيت الرباني. ((وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) الطيبات هنا الغنائم؛ لأن الغنائم كانت من قبل محرمة على الأمم كلها، ولم تحل لأحد إلا لهذه الأمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي). ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) المولى على ما تفضل به وأولى. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة هو أنسب للمقام، والسياق يشعر به. وهناك قول آخر: أن الخطاب للعرب كافة، فقوله: ((وَاذْكُرُوا)) يعني: أيها العرب! ((إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ)) يعني: بالنسبة للأمم الأخرى كالفرس والروم، ((مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))، والناس المقصود بهم الأمم من حول العرب. وقد أيد هذا التفسير بقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية، قال: كان هذا الحي من العرب أذل الناس وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله عز وجل. هذه عبارة قتادة بن دعامة في تأييد أن المقصود بهذه الآية الكريمة العرب عامة بالنسبة لغيرهم من الأمم في ذلك الزمان.

تأثير البيئة على التوجه الشخصي إذا لم توجد عقيدة

تأثير البيئة على التوجه الشخصي إذا لم توجد عقيدة وفي ذلك إشارة إلى قوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، وأيضاً فهناك عوامل كثيرة تؤثر على الإنسان وعلى توجهه، ومن هذه العوامل عامل البيئة المحيطة بالإنسان، ودليله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). فالإنسان يتأثر بالبيئة من حوله، وهي مما يجعله ينحرف عن فطرة الإسلام. ولا يدفع تأثير البيئة إلا عامل أقوى من كل العوامل، وهو عامل العقيدة، فإذا وجدت العقيدة فهي التي تطغى على تأثير البيئة. فالعقيدة هي التي تحول الأمم والأفراد من حال إلى حال مغاير تماماً، وآية ذلك العرب مع الإسلام، فقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة بغيره أذلنا الله سبحانه وتعالى)، فالمنطقة التي كان يسكنها العرب منطقة متخلفة جاهلة في ذيل الأمم كسولة إلى آخر ما شئت من هذه الصفات. فلا يقوى على رفع تأثير البيئة إلا العقيدة، فإذا زالت العقيدة رجع تأثير البيئة من جديد، وهذا هو الوضع الذي نعيشه الآن؛ فالوضع الذي نعيشه الآن أننا في مؤخرة الأمم، حتى إن هتلر وضع العرب قبل اليهود، واعتبر اليهود أخس الأمم، لكن قبلهم مباشرة وضع العرب! ونحن لا نقول: إننا معشر العرب أخس من الأمم الأخرى، بمعنى: أن لا خير فينا، فالحمد لله نحن مسلمون، ولكن اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أنه كما أنعم علينا بنعمة الإسلام، ولم يجعل لنا سبباً إلى العز والنصر والتمكين إلا هذا الدين وهذا القرآن، فإذا كفرنا بنعمة الله فمن عدله سبحانه وتعالى أن يعاقبنا بأن يسلط علينا أخس الأمم، وأن نعود من جديد إلى تأثير البيئة، فهذه البيئة هذه طبيعتها، بخلاف البيئات الباردة؛ حيث طبيعة الناس أنه إذا لم يحصل نوع من النشاط والحركة والجدية في الحياة فإن الثلوج تدهمهم، أعني أن طبيعة الحياة وطبيعة البيئة في البلاد الأخرى تجعل الناس في حالة يقظة ونهضة وتقدم مستمر. أما نحن إذا تركنا الإسلام فإننا سوف نرجع للوضع الذي كنا عليه من قبل، ولا يزول عنا الذل إلا بالإسلام. وهذه الحقيقة الآن يعرفها الكفار أنفسهم قبل المسلمين، ولذلك هم حريصون دائماً على فصلنا عن الإسلام، وإلهائنا بعقائد غريبة جاءت بإفساد الأخلاق، وبإثارة الشبهات، ويحاولون إشغالنا بكل ما يلهينا عن هذه العقيدة؛ لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين إذا رجعوا إلى عقيدتهم سيكونون أقوى قوة على ظهر الأرض؛ لأن الذي نحن فيه من التخلف ليس ناشئاً عن تخلف عقلي، ولله الحمد، فالمسلمون عندهم كل الطاقات، حتى الطاقات النووية، فهناك قدرات تمتلكها الشعوب الإسلامية، ويكفي فقط الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتتي، فأغلبها عندها الطاقة النووية أو القوة النووية، والموارد الطبيعية، والعدد البشري الهائل، فالأمة الإسلامية وجميع الدول الإسلامية إذا توحدت فإن أمريكا بجوارها ستكون صفراً، ولا أقول: صفراً بالضبط، ولكن قطعاً سيكونون أقوى من أمريكا. فالتخلف الذي نحن فيه هو في جزء كبير منه تخلف مفروض علينا، حيث يحرم علينا نوع معين من التكنولوجيا حتى لا نتقدم، وتحرم علينا حتى محاولة الأخذ بأي أسباب القوة، في الوقت تكون حلالاً لأعداء الله اليهود، ويكفي أن نعلم ذلك في قضية هذه الصواريخ البسيطة التي من أجلها أقامت أمريكا الدنيا ولم تقعدها، وواضح أنها كانت صفقة مع كوريا الشمالية، ولكن أمريكا لم تستح من أن تعلن أنها ستفرض عقوبات اقتصادية على مصر بسبب شرائها هذه الصواريخ، ومع ذلك فقد تكفلوا بأن يحتفظوا بالتفوق العسكري لليهود لعنهم الله سبحانه وتعالى. فالشاهد من هذا الكلام: أن التخلف الذي نحن فيه هو تخلف مفروض علينا في جزء كبير منه.

إعراض المسلمين عن الدين هو سبب حرمانهم من التمكين

إعراض المسلمين عن الدين هو سبب حرمانهم من التمكين هذا في هذه الناحية من نواحي النهضة المادية، وأما من ناحية أسباب التقدم والتمكين في الأرض فهي موجودة في أمة المسلمين، ولكننا مع هذه الكثرة غثاء كغثاء السيل؛ فمع هذه الكثرة توجد فينا آفات هي السبب في تخلفنا، وأعظمها على الإطلاق هو أننا نبذنا هذا الدين الذي هو سبب عزنا وراءنا ظهرياً، وليس نبذاً فحسب، بل نحن نحاربه، بل نحن ليل نهار نسلط أعداء الله من العلمانيين والزنادقة ليطفئوا نور الله عز وجل، ويشككوا الناس في الدين، ويلهوا الشباب بالشهوات وبالفتن والشبهات. فبذنوبنا دامت بليتنا، والله يكشفها إذا تبنا، فالقرآن يدلنا على دائنا ويدلنا على دوائنا، فداؤنا راجع إلى أنفسنا، أما دواؤنا فهو في هذا القرآن، كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10]، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، ليس لأننا أحقر الأمم، فقد شرفنا الله بالإسلام؛ لكننا نبذنا هذا الإسلام، وطلبنا العزة في غيره. فإذاً: هل من رفعه الله سبحانه وتعالى بالقرآن يستوي مع من لم يرفعه بالقرآن؟ فمن امتن الله عليه بالقرآن وباللغة العربية وبالإسلام وبالتوحيد ومع ذلك رفض النعمة، فلابد أن تكون عقوبته أشد، وتلك سنة الله سبحانه وتعالى التي لا تتبدل، وقانون من قوانين الله سبحانه وتعالى في الكون، وسنة من سننه، وهي التي عبر عنها أمير المؤمنين بقوله: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. فهذا قانون، فكلما بحثنا عن العزة في غير الإسلام فلابد أن تكون العاقبة هي عاقبة الذل بكل ما تحويه كلمة الذل من معانٍ، فكلما أردنا أن نبتغي العزة في الاشتراكية وفي الرأسمالية والتبعية للغرب، أو في التطبيع مع اليهود؛ أذلنا الله! فما لم نعد إلى الإسلام فلن نحصد سوى الذل، وهذا أمر مقطوع به، وتؤيده النصوص الشرعية، وتؤيده الوقائع التاريخية الماضية والحاضرة، المستقبلة وإن شاء الله أيضاً، وذلك ما لم نعد إلى الله سبحانه وتعالى. يقول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله تعالى في هذه الآية: كان هذا الحي من العرب أذل الناس، وأشقاه عيشاً، وأجوعه بطوناً، وأعراه جلوداً، وأثبته ضلالاً. أي: أنهم كانوا في ضلال وذل وضياع في كل مجال من المجالات، ولم يرفع عنهم ذلك إلا بالإسلام، فبعد ما كانوا بهذه الصورة المذكورة في هذا الأثر عن قتادة أعزهم الله بالإسلام، وحققوا الإسلام، وانتصروا للإسلام، ورفعوا رايته، فمكنهم الله سبحانه وتعالى من أقوى إمبراطوريتين على ظهر الأرض في ذلك الوقت، وهما الروم وفارس، وفي أقل من نصف قرن امتدت الدولة الإسلامية من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، أي: ما بين الهند والصين شرقاً إلى المغرب غرباً، وهذا البطل الإسلامي الفاتح يقف على أقصى غرب ما كان يعرف بالعالم القديم وهي بلاد المغرب، ويخوض بفرسه في المحيط الأطلسي ويقول: والله لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً لغزوتها في سبيل الله تبارك وتعالى. يقول قتادة: والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشر منزلاً منهم؛ حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه؛ فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فإذا شكرنا نعمة الله سبحانه وتعالى بإقامة الإسلام، وإقامة حدود الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى يعطينا ما أعطى من قبلنا من السابقين الأولين، وإذا كفرنا بهذه النعمة عدنا إلى تأثير البيئة الأولى، وعدنا إلى الذل والهوان والضياع. يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعد ما حكى قول قتادة: أن الأمر في العرب: وهذا وإن كان كما ذكر قتادة، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآيات عليه تكلف لا يخفى، فالظاهر ما ذكرنا. يعني: مع أن كلام قتادة حق، لكن الراجح هو أن الآية تختص بالمهاجرين الأولين، فقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، فحمل كلمة ((النَّاسُ)) على من عدا العرب من الأمم فيه تكلف، ولذلك فهو قول بعيد، والأقرب أن تحمل كلمة ((النَّاسُ)) على كفار مكة. وقوله: ((فَآوَاكُمْ)) يعني: إلى المدينة، وهذا أقرب، ((وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)) في بدر، ((وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) بإباحة الغنائم لأول مرة، ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) ثم قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. لما ذكرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه، وكان من شكره الوقوف عند حدوده، بين لهم ما يحذر منها، فبين أن من شكره عز وجل الكف عن المعاصي والوقوف عند حدود الله عز وجل، ولذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه، ومجاوزة حدوده، ويدخل في خيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم رفض سنته، وإفشاء سره للمشركين. وقوله: ((وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ)) من خيانة الأمانة الغلول من المغانم، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر، وكل ما تعبدوا به. وقد روي في نزول الآيات شيء مما ذكرنا، ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره، ومن ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت في أبي لبابة رضي الله عنه حين حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فاستشار بنو قريظة أبا لبابة في النزول على حكم سعد. وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم. أي: كانت تجارته وأمواله وأولاده وأهله مع اليهود، وله مصالح عندهم. يعني: أشار إلى حلقه، يعني: أنه الذبح، قال أبو لبابة: (ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله عليه الصلاة والسلام). يعني: أنه ما تحول عن موضعه الذي كان فيه حتى أفاق إلى نفسه وانتبه، وعرف أنه بهذه الإشارة قد خان الله ورسوله؛ لأنه أفشى سر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخان الأمانة، ثم حلف فوراً في الحال ألا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه، وانطلق إلى المسجد، فربط نفسه بسارية، فمكث أياماً حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد، ثم أنزل الله توبته، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فحله، فقال: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة)، يعني: تكفيراً عن هذه المعصية، وشكراً لله أن تاب الله عليه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث أن تصدق به)، أي: لا تتصدق بكل مالك. قال بعض المفسرين: دل هذا السبب -سبب نزول الآية- على جواز إظهار الجزع على المعصية، أي: أنه يجوز للإنسان إذا وقع في معصية أن يظهر الجزع والتألم الشديد لهذه المعصية، وإتعاب النفس وتوبيخها، ويجوز أيضاً أن يعاقب الإنسان نفسه بأن يلزمها بما فيه مشقة عليها، توبيخاً لها على المعصية، والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي لبابة رضي الله تعالى عنه ما فعله بنفسه. ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة، فالإنسان إذا بدرت منه معصية وفرط منه ذنب فيستحب أن يبادر بأن يتبعه بالحسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، بل كما قال الله عز وجل في سورة هود: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فمن كفارة السيئات أن يتبعها الإنسان بأعمال صالحة، ومن هذه الحسنات الصدقة، كما في قصة أبي لبابة رضي الله تعالى عنه. وفي هذه الآية: نهي عن أي معصية، فأي معصية هي خيانة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فتضييع الزكاة خيانة لله والرسول وللأمانة، وتضييع الصلاة، وإطلاق البصر إلى الحرام، كل هذه تدخل في الخيانة؛ لأن الأمانة هي التكاليف الشرعية، كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72] إلى آخر الآية، فتضييع هذه الأمانات من الخيانة، كما أوضحت هذه الآية الكريمة. وفيها دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لقوله: ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ))، يعني: لا يستوي من علم أن هذا حرام مع من لم يعلم أن هذا حرام، فإذا قامت حجة الله سبحانه وتعالى عليك بالعلم والهدى من الوحيين الشريفين، فعليك أن تعمل بما علمت، وإلا فلو تجاسرت على انتهاك حدود الله سبحانه وتعالى، وارتكاب المعاصي وأنت تعلم، فالتوبيخ في حقك يكون أشد؛ لأن من يأتي المعصية عن علم ليس كمن يأتيها عن جهل. ففي قوله تعالى: ((لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) دليل على أن ذنب العالم أعظم من غيره؛ لأن المعنى: ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) أي: تعلمون تبعة ذلك ووباله.

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم)

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم) ثم قال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28]. الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد. فما الذي يدفع الناس إلى أن يسوغوا ما يرتكبونه من معاصٍ إلا الخوف على الأولاد والأهل؟ وما الذي يدفع المرتشي إلى الرشوة؟ يريد أن يرضي زوجته وينفق على أولاده. وما الذي يدفع الكذاب إلى الكذب؟ حب الأهل والأموال والأولاد. وما الذي يدفع إلى اقتحام الشبهات وتعاطي الشهوات؟ وما الذي يزين للناس هذه الخيانة التي نهي عنها في هذه الآية؟ إنه حب الأولاد وحب الأموال. قال الرازي: فلما كان الداعي إلى الإقدام على خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو حب الأموال والأولاد، نبه تعالى أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب، فرب عدو يلبس ثياب الصدق، قال عز وجل: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28]. فقوله: ((فتنة)) يعني: محنة من الله سبحانه وتعالى ليبلوكم؛ لأننا في الدنيا في دار الابتلاء وفي دار الامتحان، والآخرة هي دار ظهور النتائج، فقد يخفى علينا حقيقة أو عاقبة ما نفعل من أعمال؛ لأننا مازلنا في دار الابتلاء والامتحان، ولذلك يختبرنا الله سبحانه وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]. وكلمة (فتنة) مأخوذة من الفتن، يقال: هذا دينار فتين، أي دينار محروق، وذلك أن خام الذهب يكون مختلطاً بشوائب كثيرة جداً، ولذلك فإن بعض الأماكن قد يكون فيها ذهب، لكن تصنيع الذهب وتنقيته من الخامات يكلف أكثر من قيمة الذهب، فلذلك يعرضون عن محاولة استخراج الذهب من هذه الأماكن. فإذاً: المعدن الخام الذي تخالطه الشوائب إذا أردنا أن نستفيد منه، ونستخرج منه الذهب نصهره في الفرن؛ لأنه إذا صهر يتميز، قال عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]، فعملية صهر الذهب تسمى عملية الفتن، فالفتن هو: صهر الذهب الخام كي يتميز الذهب الخالص عن الشوائب التي تخالطه، ومن ذلك أخذت كلمة (الفتنة) في الشرع، كما قالوا في الإمام أحمد: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر. أي أن الإمام أحمد أدخل في فتنة القول بخلق القرآن فما زادته الفتنة إلا صلابة وإيماناً وثباتاً. فالفتنة هي اختبار، وهي كالفرن تماماً؛ لأن الله عز وجل يميز بها الخبيث من الطيب، فكل ما يعرض للإنسان من بلاء من أجل اختباره وامتحانه فهو فتنة، قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، أي: دون أن يبتلوا ويمتحنوا. ومن هذه الفتن الأموال والأولاد، فحب المال والولد فتنة، بمعنى: أن العداوة عداوتان: عداوة ظاهره وعداوة باطنة، فالعداوة الظاهرة كالشخص الذي يكاشحك ويظهر لك العداوة، وهذا يقال له العدو الكاشح، فأنت تعرفه، وهناك عدو أخطر، وهو شخص تحبه، لكنه يفتنك، بمعنى: أنه بسبب حبه يصرفك عن حب الله ورسوله، ويوقعك في معصية الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن ثمَّ يفسد عليك دينك، فيلتقي في النتيجة التي تترتب على محبته مع العدو الظاهر؛ لأن هذا يؤذيك وهذا أيضاً يؤذيك في دينك. فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((وَاعْلَمُوا))، وها اللفظ دليل للشعار الذي يرفعه الناس دائماً: اعرف عدوك. فإن الإنسان قد يكون له عدو شديد الإيذاء له وهو لا ينتبه لعداوته، كما قال عز وجل عن المنافقين: {لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]، فلذلك حذرنا الله سبحانه وتعالى منهم؛ لأن العدو الخفي أشد في نكايته من العدو الظاهر؛ لأنك تتقي العدو الظاهر وتحذر منه. وهكذا عداوة الأهل والأولاد للإنسان من حيث إفساد دينه عليه، فلذلك نبه الله سبحانه وتعالى أن كثيراً من الناس لا يتفطنون لهذه العداوة، ولذلك صدرت الآية بقوله: ((وَاعْلَمُوا))؛ لأن كثيراً من الناس لا يعلمون، ولا يستحضرون أن الأموال والأولاد فتنة. فهذا من باب: اعرف عدوك، وكثير من الناس يتمادون في طاعة إبليس وهم لا يشعرون أنهم جنود لإبليس ومطيعون لإبليس، مع أن الله سبحانه وتعالى لخفاء هذه العداوة بيّن أننا لا نرى إبليس أمامنا عدواً، فقال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فبلا شك أن مثل هذا العدو خطير. فمثلاً: سمعنا كثيراً عن أسطورة وخرافة طاقية الإخفاء، فتخيل لو وجدت حرب بين المسلمين واليهود، وافترضنا -جدلاً- أن من لبس طاقية الإخفاء اختفى، فأي نكاية يمكن أن يحدثها هذا باليهود، فإنه يدخل في صفوفهم دون أن يروه، ويفعل بهم ما يفعل وهم لا يرونه، فتكون النكاية شديدة؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إليه. فاستحضر أنت إذاً أن هذا العدو الخفي لابس طاقية إخفاء، والله سبحانه وتعالى قد حكم وقضى فقال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فانظر إلى إبليس وجنوده إلى أي مدىً يستطيعون أن يوقعوا الأذى بالإنسان، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى ومن بركة الوحي الذي أنزله أن أعلمنا بعداوته، فهو عدو لا نراه، ولكنه شديد العداوة لنا، وإن أي عدو آخر يمكن أن تعقد معه عقداً للمصالحة، أو تحسن إليه، فالإحسان له أثر، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى أن علينا معشر المؤمنين أن نيأس من أن يكون هذا الحال هو حالنا مع إبليس، فلا يوجد سبيل على الإطلاق للصلح مع إبليس، ولا يمكن عقد مهادنة معه ولا مصالحة، فالإحسان إليه لا يمكن أن يؤثر فيه، بل يزيده عداوة وحسداً، فبين الله سبحانه وتعالى أن مثل هذا العدو لا يوجد حل معه سوى أن نتخذه عدواً، فقال عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6]، وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]؛ لأنه عدو خفي. ومن الأعداء الأخفياء: الأهل والأموال والأولاد، فالولد في الظاهر هو ثمرة فؤادك وفلذة كبدك، لكنه إذا فتنك عن الدين وكان سبباً في ركوب الشبهات والمحرمات وخيانة الله ورسوله فإنه عدو، كما فعل أبو لبابة رضي الله عنه؛ فإنه كانت له مصالح عند اليهود؛ حيث كان عندهم الأولاد والأموال، فخشي عليهم، وكما فعل حاطب بن أبي بلتعة في القصة المعروفة، فهذه عداوة خفية، وهي شديدة النكاية؛ لأنها غير ظاهرة، وأغلب الناس لا يلتفتون إليها، فأحدهم يعتبر أن هذا عذر مقبول، وأنه حين يقبل الرشوة سوف يؤكل الأولاد، فبسبب ذلك يقبل الرشوة، ويسافر إلى بلاد الكفار، ويقول: سوف نأتي بمال ليأكل الأولاد منه، وأنا سوف آتي بمال وأثمره. ويغفل عن أن هذا المسوغ الذي يذكره قد حذرنا الله سبحانه وتعالى من أن نضعه في اعتبارنا حينما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28]. فقوله: ((فِتْنَةٌ)) يعني: محنة من الله، ليبلوكم هل تقعون بهما في الخيانة أو تتركون لهما الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا تلهون بهما عن ذكره، فسموا فتنة اعتباراً بما ينال الإنسان من الاختبار بهم. ويجوز أن يراد بالفتنة: الإثم والعذاب. وذلك باعتبار أن الأولاد والأموال سبب لحصول العذاب إن أدوا إلى خيانة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال الحاكم: قد أمر الله بالعلم بذلك. يعني: أن هذه الحقيقة أمرنا الله بأن نعلمها، وأنها مما ينبغي أن نتعلمه، ونتنبه له، ونتفطن إليه. فكيف نحصل هذا العلم؟ نحصل هذا العلم بالتفكر في أحوالهما وزوالهما، ونعلم أن المال غادٍ ورائح، وضيف زائل، والأولاد كذلك، ولا ينفعك إلا عملك الصالح. فطريق العلم بما أمرنا الله بأن نعلمه في هذه الآية: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ))، بالتفكر والتأمل في أحوالهما وزوالهما وقلة الانتفاع بهما، وكثرة الضرر منهما، وأنه قد يعصى الله بسببهما، صحيح أن هناك محبة فطرية للمال وللأولاد، لكن هذه المحبة إذا كانت على حساب الدين فهي تتحول إلى فتنة وإلى سبب من أسباب العذاب. وقوله سبحانه: ((وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) يعني: لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد، فلم يورط نفسه من أجلهما، وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة، في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، قيل: هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.

تفسير قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)

تفسير قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) نهانا الله تعالى عن خيانة الله ورسوله، ثم حذرنا من فتنة الأموال والأولاد، ثم بشر من يحصن نفسه من هذه الفتنة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29]. قال المهايمي: أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه. فالله عز وجل قال: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، ثم بعد ذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، ثم قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، ثم بشر من ترك الخيانة واستجاب لله أنه لا ينبغي أن يخاف على أهله وماله وعرضه، فأنت إذا تركت الرشوة -مثلاً- أو تركت الشبهات، مع أنك تريد المال لتثميره ولحاجات أولادك، اتقاء لله وخوفاً من عذابه، فلا تظنن أن الله يضيعك، بل أبشر إذا نجحت في هذه الفتنة بما ذكره هنا: ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ))، يعني: بعدم الخيانة ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)). فلا تخافوا على أهل ولا مال ولا عرض كما خاف أبو لبابة، فإن من اتقاه تعالى لم يجترئ أحد على أهله وحوزته؛ لأنه يؤتى فرقاناً يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز؛ لأنك إذا حققت تقوى الله سبحانه وتعالى فإن نور التقوى يضيء على أركانك وعلى كيانك، بحيث ينزل الله عليك من المهابة ومن عزة الإيمان والتقوى ما يجعل أعداءك يحجمون عن أذيتك. وقيل: إن معنى قوله: ((فُرْقَانًا)) أي: نصراً. فعلى التفسير الأول يعطيك مهابة وإعزازاً تتميز به عن غيرك، فلا يجترئ أحد عليك أو على أهلك وولدك، وعلى التفسير الثاني يعطيك نصراً؛ ومن كان معه فرقان فإنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال:41]، يعني: يوم النصر. وقيل: إن معنى قوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) يعني: بياناً وظهوراً يشهر أمركم، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم: بت أفعل كذا حتى طلع الفرقان. يعني: حتى طلع الفجر. وقيل: إن معنى قوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) أي: فصلاً بين الحق والباطل، ومخرجاً من الشبهات، على أن الفرقان هنا مخرج علمي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]. ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا استغلقت عليه مسألة من مسائل الفقه يبادر إلى المساجد العتيقة، ويترب وجهه بالسجود لله سبحانه وتعالى ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني. فيبادر إلى التقوى، وإلى التذلل، وإلى إرضاء الله سبحانه وتعالى، فيفتح الله عليه ما انغلق من المسائل، وكان أحياناً يكثر من الاستغفار، فيفتح الله عليه بإجابة هذه المسائل. إذاً: هذا مخرج ليس إلا لأهل الإيمان، فأنت كلما ضاق عليك الأمر في تحقيق التقوى كوفئت في الجانب الآخر، بأن يجعل الله لك مخرجاً، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2]، وإذا لم يجعل لك مخرجاً فارجع وابحث؛ فأنت لم تتق الله، وعندك خلل هو السبب في عدم حصول المخرج؛ لأن وعد الله لا يخلف. ولذلك نقول: إن هذه الآية هي الدليل الصحيح لهذا المعنى الذي ذكرنا، ويخطئ بعض الناس في الاستدلال لهذه المسألة بقوله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282]، حيث يشيع الاستدلال على ألسنة كثير من الخطباء والناس على أن التقوى سبب في حصول العلم، وهي حقيقة صحيحة، فالتقوى سبب حصوله، لكن المناقشة هنا ليست في المدلول، فنحن متفقون على المدلول، وإنما المناقشة في الدليل، هل يدل على ذلك أم يدل على أمر آخر؟ فلو كانت هذه الآية: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] كما يقولون لجزم الفعل (يعلمْكم) وحذف الواو، كما تقول: كل تسمنْ، ذاكر تنجحْ، اتق الله يعلمْك الله، فالفعل الذي يقع في جواب الأمر يكون مجزوماً. لكن هذه الحقيقة نفسها ثابتة، فإن التقوى سبب من أسباب حصول البصيرة والعلم. وليس دليلها قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، وإنما دليلها قوله تعالى هنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}، أي: نوراً وبصيرة وعلماً تميزون به بين الحق والباطل، ولذلك كلما ازداد الإنسان في التقوى وفي العلم زال عنه الاشتباه في كثير في الأمور، وكلما زاد علم الإنسان نتيجة التقوى كلما كان عنده بصيرة وتسديد، فلا تختلط عليه الأشياء، فالحلال يكون واضحاً والحرام واضحاً، والشبهات كثيراً ما تكون بسبب الجهل، ولهذا من كان عنده علم فإن الأمور تتضح له اتضاحاً جلياً، فعنده فرقان يفرق به بين الحق والباطل، ولا تلتبس عليه الأمور، وإنما تلتبس على من قل حظه من العلم والبصيرة اللذين ينتجان عن التقوى. وكذلك يدل على هذه الحقيقة قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]؛ لأن المخرج لا يكون في المسائل المادية وفي قضية الرزق فقط، بل يكون أيضاً في المسائل العلمية في معرفة الشبه والبدع والضلالات والعقائد، وهذه الأشياء يجد الإنسان فيها مخرجاً بالنور الذي يهديه الله به إلى الحقائق في هذه المسائل. فقوله: ((يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) (فرقان) مصدر فرق، أي: فصل بين الشيئين، سواء كان بما يدركه البصر أو بما تدركه البصيرة، فالفرقان إما يتعلق بالبصر وإما بالبصيرة، فبالبصر كمعاينة النصر مثلاً أو النور، كما يقال: طلع الفرقان، أي طلع الفجر، أو الفرقان بمعنى: ما تدركه البصيرة وليس البصر، إلا أن الفرقان أبلغ من الفرق؛ لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وبين الحجة والشبهة.

تفسير قوله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)

تفسير قوله عز وجل: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) ثم قال عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. ذكَّر الله تعالى المؤمنين بنعمه عليهم عموماً بقوله تعالى: ((وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ))، فقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، فذكَّر نبيه صلى الله عليه وسلم بنعمته عليه خاصة في حفظه من مكر قريش به؛ ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار، وأخذ نور الإسلام في الانتشار، فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار بناها قصي بن كلاب؛ ليصلح فيها بين قريش، ثم صارت لمشاورتهم، والندوة: هي الجماعة من القوم، وندى في مكان، أي: اجتمع فيه، ومنه النادي، يعني: مجتمع الناس. المهم أنهم اجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمره صلى الله عليه وسلم، فقال أبو البختري بن هشام: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، والمنون: الدهر، وريب المنون يعني: إلى أن يموت ويهلك، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: ((لِيُثْبِتُوكَ))، وقد استدل البعض على هذا بقوله تعالى في سورة الطور: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]. فقوله: ((لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ)) هذا حصل قبل الهجرة مباشرة، كما يدل عليه سياق هذه القصة، وسورة الطور مما نزل قبل ذلك، فلا يصح أبداً أن تكون الآية: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]، مقصود بها ما جاء في هذه القصة، فهذا من أسباب ضعفها. وقوله: ((لِيُثْبِتُوكَ)) يعني: ليحبسوك ويوثقوك؛ لأن كل من حبس شيئاً وربطه فقد جعله ثابتاً لا يقدر على الحركة. ثم اعترض رأي أبي البختري شيخ نجدي دخل معهم، ففي بعض الروايات: أن شيخاً أتى عليه مهابة ووقار فزعم أنه شيخ نجدي، وهم لا يعرفونه، فحضر معهم هذه المشورة، فلما اقترح بعضهم هذا الاقتراح الأول -وهو أن يحبسوه ويوثقوه- اعترض هذا الشيخ النجدي الذي كان هو إبليس، -إذا صحت هذه الرواية- فقال: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم! أي: إذا حسبتموه فإن قبيلته لن تسكت، وسيأتون ويقاتلونكم ويخلصونه من أيديكم. ثم قال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل، وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع. أي: ينفونه، وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: ((أَوْ يُخْرِجُوكَ))، يعني: من مكة، فاعترض هذا الشيخ النجدي، فقال: بئس الرأي، يفسد قوماً غيركم، ويقاتلكم بهم. أي: إن أخرجتموه من بينكم ونفيتموه فسوف تنتشر دعوته في مكان آخر، فيتقوى بهؤلاء الذين يؤمنون به، ثم يعود إليكم فيهزمكم. فقال أبو جهل لعنه الله: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا، وهذا ما ذكره تعالى بقوله: ((أَوْ يَقْتُلُوكَ)). ثم قال النجدي اللعين: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن الله له بالهجرة، فأمر علياً فنام في مضجعه، وقال له: (اتشح ببردتي؛ فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه). ثم خرج صلى الله عليه وسلم، وأخذ قبضة من تراب، فأخذ الله بأبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2] إلى قوله: {فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، ومضى مع أبي بكر إلى الغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه، فرأوا علياً! فقالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري، فاتبعوا أثره، فلما بلغوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه، فقالوا: لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر، فخيب الله سعيهم، وأبطل مكرهم، ثم مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثاً، ثم خرج إلى المدينة. وهذه القصة فيها كلام من حيث سندها، فموضوع العنكبوت والبيض والحمام وغير ذلك من الكلام المشهور ضعيف، والكلام في ضعف الحديث يصدم عواطف بعض الناس، ولكن ليس بأمانيكم، وإنما بحكم أهل الحديث وأهل الصنعة. وقوله: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ)) أي: يدبر ما يبطل مكرهم. وقوله: ((وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))، أي: أعظمهم تأثيراً، قاله المهايمي، وهو علي بن أحمد بن علي المهايمي ويقال المهائمي، توفي سنة (835هـ) وهو رجل هندي، كنيته أبو الحسن علاء الدين، ويعرف بلقب: المخدوم؛ لأنه يكثر ذكره في تضاعيف التفسير، فلذلك نذكر عنه هذه الثغرة، وهو من النوائف، والنوائف: قوم في بلاد الدكن من الهند. قال الطبري: هم طائفة من قريش خرجوا من المدينة خوفاً من الحجاج بن يوسف الثقفي، فبلغوا ساحل الهند، وسكنوا فيه. وهو باحث مفسر، وللأسف الشديد كان يقول بوحدة الوجود! وولد وتوفي في الهند في مكان اسمه مهائم، وذلك نسب المهايمي أو المهائمي، وهي بلده مجاورة للبحر المحيط أو على حدوده، له مصنفات عربية نفيسة، منها: تفسير الرحمن، وتيسير المنان ببعض ما يشير إلى إعجاز القرآن في مجلدين، ولعله هو الذي يستقي منه القاسمي دائماً، وله كتب في شرح فصوص الحكم وغير ذلك، لكن للأسف الشديد والأمر المؤلم أنه كان يقول بوحدة الوجود. يقول الله: ((وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))، هذه الآية تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقاناً يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهراً، يحفظه من مكر من مكر به، بل يمكر له على ماكره، قال سبحانه: ((إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ))، ثم أشار في الآية التي تليها إلى أن لا تخش الناس؛ فمن مكر بك مكر الله به، وأبطل كيده الذي يكيدك به.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا) أخبر تعالى عن كفار قريش وعتوهم وتمردهم، ودعواهم الباطلة عند سماع آياته تعالى، فقال عز وجل: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31]. قوله: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا)) يعني: هذا الكلام ليس جديداً علينا؛ فقد سمعنا مثل هذا القرآن. وقوله: ((لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا)) أي: مثل هذا القرآن المتلو، وهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن الكافر يتحلى بصفة الغباء والإيغال في هذا الغباء، ومثال ذلك فرعون؛ فإن الواقع كان يكذبه تماماً ومع ذلك كان لا يستحي من المكابرة. ومثال ذلك أيضاً المسيح الدجال الذي يخرج بهذه الأشياء التي يفعلها، ويدعي أنه هو الله سبحانه وتعالى، مع أن شكله الظاهر يثبت للناس كذبه، فإنه: أولاً: أعور العين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كأن عينه عنبة طافية)، وجاء في الحديث: (وإن الله ليس بأعور)، ومعاذ الله أن يشبه الله بخلقه، لكن المقصود أن العور عيب ظاهر، وهل الخالق الذي أعطى الخلق هذا الجمال الذي وزعه فيهم يعجز عن أن يجمل نفسه؟! نحن نتكلم من حيث الرد على المسيح الدجال، فهو أعور العين ويدعي أنه هو الله! لو كان هو الله -جدلاً- لدفع هذا العيب الخلقي عن نفسه. ثانياً: أن المؤمن يقرأ على جبين المسيح الدجال كلمة (ك، ف، ر)، حتى المؤمن الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وكذلك فرعون عيي غبي جاهل ركيك، ومع ذلك يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، فيصف موسى الذي هو أفصح الفصحاء أنه يحسن الكلام، ويقول: أنا الخطيب، ويقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]. ففرعون مع الدلائل الواضحة على هزيمته وضعفه وخيبته وقصوره البشري يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، بل إن هذا الكبر والاستنكاف إنما قاله بعد ظهور الآيات التي تفضح كذبه، وتؤيد صدق موسى عليه السلام, ومع هذا يصل به الأمر إلى أن يتبع موسى وبني إسرائيل داخل البحر، مع أنه يرى هذه الآية! فالكافر دائماً يتحلى بالغباء، وممكن أن يكون عنده قدر من الذكاء، لكن يغلب عليه الغباء، وعمى البصيرة، فما عنده نور البصيرة ولا نور الإيمان. فكذلك هؤلاء الذين يتكلمون هنا، كما قص الله سبحانه وتعالى خبرهم في هذه الآية: ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا))، فهذه غاية المكابرة ونهاية العناد؛ لأن القرآن الكريم يتحداهم من بداية الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، وإلى نهاية البعثة المحمدية والقرآن الكريم يتحدى هؤلاء المشركين الذين كانوا أفصح العرب على الإطلاق وأفصح الأمم، ولكن لم يستجب واحد منهم لهذا التحدي، وكل من تجاسر وحاول أن يستجيب للتحدي أتى بكلام يضحك منه العقلاء: الفيل ما الفيل، ذو ذنب قصير، وخرطوم طويل إلى غير ذلك من السخافات التي إذا سمعها الإنسان لم يتماسك من الضحك والاستهزاء بها. فهذا منهم أيضاً من باب المكابرة، فهم مهزومون، والقرآن يتحداهم ليل نهار، ثم يقول أحدهم: أنا لو أريد أن أكتب مثل القرآن لفعلت، فهذه غاية المكابرة والعناد، كيف لا، ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من أن يشاءوا ويفعلوا وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله؟ وليس هذا فحسب، بل قال عز وجل: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، فانظر التحدي والإعجاز، ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]. فقد كانت هذه فرصة حتى يثبتوا كذب الرسول عليه السلام، لكنهم لم يفعلوا وهذه من أوضح أدلة إعجاز القرآن الكريم، فإنه ذكر عجزهم عن فعل ذلك حتى في المستقبل، فلا شك أنهم لو قدروا على ذلك لاستجابوا للتحدي، لكن وقع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، فكان أعظم آية على أن القرآن كلام الله عز وجل. يقول: فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله، وقُرِّعوا على العجز، وذاقوا من ذلك الأمرين، ثم قورعوا بالسيف، فلم يعارضوا بما سواه مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا، خصوصاً في باب البيان الذي هم فرسانه المالكون لأزمته، وغاية اجتهادهم به، أي: بالبيان والبلاغة والفصاحة، ومع ذلك عجزوا. وقوله: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: ما سطروه وكتبوه من القصص، فالقرآن هذا -في زعمهم- عبارة عن أساطير الأولين، كما يحاول كثير من المنصرين إشاعة أن القرآن عبارة عن قصص مؤلفة عن التوراة والإنجيل، وهذا كذب صراح، ولا يقوله إلا إنسان جاهل جهلاً فاحشاً؛ لأن القصص القرآني مهيمن على ما عداه، فالقرآن لا يحاكي أبداً في قصصه ما وجد في التوراة والإنجيل، وإنماهو مهيمن ومصحح لما افتراه اليهود والنصارى على الله سبحانه وتعالى، وما افتروه على أنبياء الله، فالقرآن ليس محاكياً، وإنما هو مهيمن على ما سبقه من الكتب. وقوله: ((أَسَاطِيرُ)) جمع لا واحد له، وقيل: هو جمع أسطر وسطور وأسطار، وهي جموع سطر، وكأنه جمع الجمع، وقيل: هو جمع أسطورة، كأحدوثة، والأصل في السطر الخط والكتابة، يقال: سطر، أي: كتب، ويطلق على السطر من الشيء، كالكتاب والشجر. وقوله: ((قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، روي أن قائله النضر بن الحارث بن كلدة، وأنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وجاء منها بنسخة حديث رستم واسفنديار ولما قدم ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس ما قصه الله تعالى من أحاديث القرون، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، فزعم أنه مثل الأساطير التي أتى بها من هناك، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته، ثم يقول: بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمد وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر، وأسره المقداد، ثم أمر صلى الله عليه وسلم به فضربت عنقه. وإذا صح هذا الأثر الذي فيه أن قائل ذلك هو النضر بن الحارث، فاللفظ الكريم فيه نسبة الكلام إلى المجموع لا إلى واحد، وإسناد قوله إلى الجميع، إما لرضا الباقين به، أو لأن قائله كبير متبع، فهو رمز لمن يتبعونه. وقد كان اللعين قاصهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه ويغرهم بمثل هذه الجعجعة.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]. هذا أسلوب من الجحود بليغ، وهو غاية في الجحود، وأيضاً كما قلنا: فيه غاية الغباء وضعف العقل بالنسبة للكفار؛ لأنهم عدوا أحقية القرآن محالاً؛ فنتيجة الإيغال في الجحود قطعوا بأن القرآن مستحيل أن يكون حقاً؛ بدليل أنهم علقوا على أحقية القرآن أن ينزل الله عليهم العذاب، والمعنى: إن كان هذا القرآن حقاً منزلاً فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. وفي إطلاقهم الحق عليه: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)) ليسوا مفوضين الأمر لله، وإنما هذا تهكم، فهم وصفوا القرآن بأنه حق من باب التهكم بمن يقول ذلك، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين. وقوله: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ))، ليست هذه صيغة دعاء، لأن الداعي بإخلاص يقول: يا رب! إن كان هذا هو الحق فاهدني إليه، لكن قولهم: (إن كان هذا هو الحق من عندك) تهكم واستهزاء بمن يزعم أن القرآن حق. ونفهم من كلمة (أمطر) أنها تأتي من السماء؛ لأن الإمطار لا يأتي إلا من السماء، فما فائدة قوله عز وجل: ((مِنَ السَّمَاءِ))؟ A كأن القائل يريد أن يقول: فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع سجيل، يعني: أن كلمة (حجارة من السماء) تساوي سجيل. والمعروف أن السجيل: عبارة عن حجارة مسومة للمعذبين تمطر من السماء، كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، وأنت تريد درعاً، فبدل كلمة درع تقول: مسرودة من حديد، من قوله عز وجل: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11]، أي: الدرع. وقوله: ((أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)) يعني: إما أن تمطر علينا حجارة من السماء، أو تأتينا بعذاب أليم من نوع آخر، أو هو من عطف العام على الخاص. وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومي قومك -يعني: الذين كنت تنسب إليهم قبل الإسلام- حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ))، ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه. أي: الذي هو الأصلح لهم، ولا يخفى أنه يوجد فرق بين القولين، بين القول: إنه تهكم، وبين القول: إنه دعاء. والذي اعتمده القاسمي أن وصفهم القرآن بالحق نوع من التهكم، فقولهم: (إن كان هذا هو الحق من عندك) يعني: كما يزعم محمد وأصحابه (فأمطر علينا حجارة من السماء)؛ فلتمكنهم من الجحود علقوا نزول الحجارة على أن يكون القرآن حقاً، والمعروف أن العاقل لا يطلب أن ينزل عليه العذاب أو الحجارة من السماء. وهذه الآية كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53]، وكقوله عز وجل: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1]، أي: أنه يطلب أن ينزل عليه العذاب بسرعة. {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:2 - 3]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:187]. وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث. قال عطاء: لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر. يعني: هو الذي قال: ((قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، وأيضاً قال تبارك وتعالى: ((قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))، وعلى القول بأنه النضر فقد أجاب الله دعاءه، وأتاه ما سأله من العذاب يوم بدر. وروى البخاري عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل. أي: أنه هو الذي قال: ((إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)).

تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)

تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. وهنا يبين موجب إمهالهم، فإنهم استفتحوا وطلبوا العذاب، وقالوا: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ))، والواقع أن القرآن هو الحق من عند الله، فما الذي أوجب أن يمهلهم الله ولا يمطر عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بالعذاب الأليم؟! A هو كرامة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن ينزل العذاب وهو في وسطهم. ففي قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، بيان للموجب لإمهالهم، وعدم إجابة دعائهم. واللام في قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)) لتأكيد النفي، وفي هذا دلالة على أن تعذيبهم والنبي بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، فحكمة الله تقتضي حصول الفصال قبل نزول العذاب، كما حصل للأنبياء عموماً؛ حيث كان يأمرهم الله سبحانه وتعالى بأن يزايلوا قومهم، وأن يفارقوا قومهم، فسنة الله سبحانه وتعالى وحكمته ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها؛ لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه. وتشعر هذه الآية بأن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا انفصل عنهم وتركهم فحينئذ ينزل عليهم العذاب. وقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))، ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين. قال الطيبي: وهذا الوجه أبلغ؛ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة. وهذا معنىً لطيف جداً، فقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ))، أي: المشركين ((وَهُمْ)) أي المؤمنون ((يَسْتَغْفِرُونَ)) فالضمير (هم) لا يعود على المشركين، وإنما يعود على المؤمنين المستضعفين الذين كانوا موجودين بين ظهرانيهم، فهذا الوجه سر بلاغته أن فيه دلالة على أن بركة المؤمن متعدية، حتى إنها لتطال من يستحق نزول العذاب، فوجود الصالحين يكون مانعاً من نزول العذاب. الوجه الثاني: أن المراد به: دعاء الكفرة بالمغفرة؛ لأنهم كانوا في الطواف يقولون: غفرانك غفرانك، كما رواه ابن أبي حاتم، فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعاً من عذابه ولو من الكفرة. الوجه الثالث: أن المراد بالاستغفار التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره، فيكون القيد منفياً في هذا. فقوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) يعني: أن المقصود من الاستغفار: التوبة، والتوبة ينبغي أن تكون من الكفر، كما قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا} [الأنفال:38] يعني: بالتوبة {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة:5] يعني: تابوا إلى الإسلام والتوحيد. قال القاشاني: العذاب ثورة الغضب وأثره، فلا يكون إلا من غضب النبي أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان صورة الرحمة، والله تعالى قال في شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فلهذا لما كسروا رباعيته قال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26]، فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب، فهو رحمة حتى على الكفار، وكذا وجود الاستغفار، فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب، فالاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته، بل الاستغفار يوجب زواله، فلا يتسبب لغضب الله، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزل الله علي أمانين لأمتي: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة). وعلى أي الأحوال يقول: ابن كثير: يشهد لها ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك! لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله تعالى: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني)، وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى عليه وسلم أنه قال: (العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله). ثم بين تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم، فالله سبحانه وتعالى قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)) وفي هذا تأمينهم من نزول العذاب الذي استفتحوا وطلبوه. فالأمة كان فيها أمانان لنزول العذاب: الأمان الأول: وجود الرسول عليه السلام الذي هو رحمة للعالمين. الأمان الثاني: فإذا مضى الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ربه بقي الأمان الآخر الذي ينبغي لنا جميعاً أن نتشبث به، وهو كثرة الاستغفار؛ لقوله عز وجل: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام)

تفسير قوله تعالى: (وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام) ثم بين تعالى أنه لولا هذا المانع -وهو الاستغفار أو وجود الرسول عليه السلام بين ظهرانيهم- لنزل عليهم العذاب؛ لأنهم أهل لأن يعذبوا، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال:34]. قوله: ((وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ))، أي: كيف لا يعذبون وهم أهل للعذاب؟ وإنما منع العذاب منهم ما ذكرنا. وقوله: ((وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))، يعني: أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم وحالهم الصد عن المسجد الحرام، كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الهجرة، ولاشك أن هذا صد للمؤمنين وللنبي عن المسجد الحرام. قال القاشاني: أي: ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم، بل إنهم مستحقون بذواتهم لصدودهم وصدهم غيرهم، وعدم بقاء الخيرية فيهم، ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم. ثم قال: فهم ما داموا على الصورة الاجتماعية كان الخير فيهم غالباً، فلم يستحقوا الدمار بالعذاب، وأما إذا تفرقوا وتزيلوا فما بقي إلا شرهم خالصاً، فوجب تدميرهم، كما وقع في وقعة بدر، ومن هذا يظهر تحقيق المعنى في قوله تعالى: ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً))؛ لغلبة الشر على المجموع حينئذٍ. وقوله تعالى: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))، رد لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت الحرام؛ نصد من شاء، وندخل من شاء. فالله سبحانه وتعالى يقول: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))، يعني: ما كانوا يستحقون ولاية المسجد الحرام، ((إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ)) أي: الذين يتقون الشرك، والله تعالى أعلم.

الأنفال [35 - 47]

تفسير سورة الأنفال [35 - 47]

تفسير قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية)

تفسير قوله تعالى: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35]. هذه الآية وردت بعد قوله تبارك وتعالى: (وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:32 - 35] فكأن هذه الآية واردة في سياق بيان سبب استحقاقهم للعذاب. فقوله: ((وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) هذا سبب لاستحقاقهم العذاب، وقوله: ((وما كان صلاتهم إلخ)) سبب آخر، أي: وما لهم ألا يعذبهم الله وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية، فتكون الجملة معطوفة على قوله: ((وهم يصدون)). والمكاء هو التصفير، والتصدية هي التصفيق بالأكف، روى ابن أبي حاتم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حكى فعلهم فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضاً قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض، ويصفرون، ويصفقون. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون، ويصفقون. وعن مجاهد: أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته. يعني: أن بعض كفار قريش كانوا يصفرون ويصفقون؛ حتى يشوشوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي عند المسجد الحرام. وقال الزهري: يستهزئون بالمؤمنين. يعنى: بدل أن يصلوا لله عند المسجد الحرام كانوا يفعلون هذه الأفاعيل ليؤذوا المؤمنين. فإذاً: تكون هذه الجملة معطوفة على قوله تعالى: ((وَهُمْ يَصُدُّونَ))، في سياق تقرير استحقاقهم العذاب، أو تكون معطوفة على قوله تعالى: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ)). وعلى هذا تكون تقريراً وبياناً لأسباب عدم استحقاقهم ولاية البيت الحرام. وقوله: ((وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ))، أي: لأنهم ليسوا من المتقين، ولأن صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، فمن ثمَّ لا يستحقون ولاية المسجد الحرام. قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قول الفرزدق: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً فـ (أخشى) هنا بمعنى: أعلم؛ فالخشية تطلق على العلم كثيراً؛ لأن العلم سببه الخشية. فقوله: (وما كنت أخشى) يعني: ما كنت أعلم أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً. والأداهم: جمع أدهم، وهي الحيات السود، لكن المقصود هنا القيود، وكأنه يقول: بدل أن يكافئني أعطاني القيود وأوثقني. والمحدرجة السمر هي السياط، أي: جلدني وقيدني بدل أن يعطيني عطاءً ويهبني هبة. وكذلك هؤلاء بدل أن يصلوا لله حول الكعبة بالركوع والسجود والتسبيح، إذا بهم جعلوا صلاتهم التصفير والمكاء والتصدية، فقول الفرزدق: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمراً والمعنى: أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، وكفار قريش وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، فهذا من نفس هذا الباب، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته؛ لكي يخلطوا عليه. قوله تعالى: ((فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، أي: بسبب كفركم اعتقاداً وعملاً، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت والذي فيه استهزاء بالكعبة وبالصلاة وبالمؤمنين كفر؛ لأنه عقب قوله تعالى: ((وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية)) بقوله: ((فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)). ولا يفهم من هذا أن المكاء والتصدية يمكن أن تكون صلاة أو يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، وإنما المقصود ذم التشويش على المصلين أو السخرية والاستهزاء؛ ولذلك قال: ((فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، وهذا فيه إشعار بأن هذا الفعل كفر؛ لأنه استهانة بشعائر الله سبحانه وتعالى وسخرية بها. والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل ومن السبي، كما قاله غير واحد من السلف، واختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى. قال الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه هؤلاء المشركين. ومن خصائص الصوفية أنهم وضعوا ما يسمونه ذكراً وليس ذكراً، إنما هو غفلة عن الله سبحانه وتعالى، ونسيان له وليس ذكراً، وإلا فهذا كان شأن المشركين، وهاهو القرآن الكريم يعاتبهم على ذلك.

حكم الغناء وذكر تحريمه من القرآن الكريم

حكم الغناء وذكر تحريمه من القرآن الكريم وهذه الآية أحد أربعة مواضع في القرآن الكريم تكلم المفسرون -خاصة من يميلون إلى الاستفاضة في البحوث المتعلقة بالآيات- عندها عن المعازف والغناء وما إلى ذلك. والثانية قوله تعالى في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]. والثالثة قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64]، وصوت الشيطان هو المزامير والأغاني والموسيقى. والرابعة قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59 - 61] والسموء بلغة حمير هو الغناء. وموضوع المعازف والأغاني والموسيقى تحتاج إلى بحث مفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي ظهر فيه الغناء ظهوراً فاحشاً، وصار فناً جميلاً معترفاً به، وفتن به كثير من الناس، وصد كثيراً من الناس عن القرآن الكريم، وسمم قلوب كثير من الشباب، حتى صدقت فيه مقولة الخميني الهالك: الموسيقى أفيون الشعوب. ولكن نظراً لمنهجنا في استعراض التفسير بسرعة فنحن نضطر إلى تجاوز هذه النقطة مع قليل من التنبيهات، ولعل الله سبحانه تعالى ييسر فيما بعد محاضرة مفصلة، أو سلسلة من المحاضرات حول هذا الموضوع بكل جوانبه.

ذم ما يفعله الصوفية من العزف والغناء عند الذكر

ذم ما يفعله الصوفية من العزف والغناء عند الذكر يقول ابن القيم: المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقرآن والقراءة أشباه هؤلاء المشركين. قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة. يعني: حذار أن يفهم واحد أن هذه الأشياء يمكن أن تكون عبادة يتقرب بها إلى الله، ويأخذ ذلك من قوله: ((وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً))؛ فهي ليست صلاة، لكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، واستبدلوا بالصلاة والركوع والسجود والتوحيد والذكر المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي. يعني: جعل الجفاء والغلظة مكان الصلة والإحسان إليَّ، والمقصود: أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، لكن لهم قسط من الذنب. فنحن لا نقول: إن هؤلاء الصوفية كفار بنفس ذلك الفعل، لكننا نقول: هم متشبهون بالكفار؛ لأنهم يماثلونهم في هذا الجزء من الانحراف وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه وتعالى لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر؛ كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نابه في صلاته شيء فليسبح؛ فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء)، وكلمة (إنما) تفيد الحصر، فالرجال لا يصفقون. فعجباً ممن ينتسبون للإسلام كيف يكون التصفيق شائعاً في احتفالاتهم أو مجالسهم أو مؤتمراتهم بهذه الصورة تشبهاً بالكفار! وإذا أعجبوا بشيء من الشخص الذي يخطبهم -مثلاً- فإنهم يعبرون عن إعجابهم بالتصفيق، وهذه ليست سنة المسلمين؛ لأن في شرعنا أن التصفيق إنما هو للنساء في الصلاة، وأما الرجال فقد أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه كما يفعل المشركون لا لحاجة، وقرنوا به أنواعاً من المعاصي قولاً وفعلاً! وانحراف الصوفية بالذات في هذا الباب انحراف عجيب! ومع ذلك يريدون بشتى الحيل الشيطانية أن يسوغوا هذه الأفعال القبيحة التي يفعلونها؛ حتى إن الأمر يصل بهم إلى الاختلاط الفاحش مع النساء في الموالد ونحوها من المناسبات، ويحصل عندهم تعاطي الشيشة وتعاطي المخدرات ونحو ذلك، إضافة إلى أنها تكون مواسم للقمار والشعائر الكفرية مثل حلق رءوس الصبية، كما يفعل في مناسك حج البدوي، والطواف بالقبر والسجود له، والنذر والذبح للبدوي وكل هذه الأشياء التي ضاهوا فيها المشركين، وهذه لا شك شرك وكفر بالله سبحانه وتعالى، فعلى أي الأحوال هذه من مكائد الشيطان التي أضل بها القوم. وربما تجدهم بعد ذلك كالجثث الميتة لا حراك بها، لا يعرفون صلاة ولا إجابة مؤذن ولا عمارة للمساجد، وإنما هو موسم تجارة ولهو شبيه بكثير من مواسم الجاهلية، فهذا ليس ذكراً لله، وإنما يخدعون أنفسهم بتسمية هذا الضلال وهذا النسيان ذكراً، ويسمون الأشياء بضد ما تستحق، لأنه ما يفعلونه غفلة عن الله، ونسيان لله سبحانه وتعالى، وهو صد عن سبيل الله عز وجل. يقول: ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين؛ سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فالإنسان الذي يمتلئ قلبه بالإيمان وباليقين ويعمر بقراءة القرآن، إذا سمع الغناء أحس أنه يتعاطى سماً يسمم قلبه. فالمشكلة أن بعض الناس قد يصفون من يصرخون فيهم بحكم الله في الأغاني والمعازف ونحوها بأنهم متشددون؛ حتى إن بعض المشاهير من المشايخ قبل فترة قريبة كتب شعراً أو نثراً، يقول ما معناه: من لم يستمتع بالأوتار تحت الأشجار فهو من جنس طبع الحمار، يعني: أنه يجعل طبع الذين لا يستحسنون الغناء والمعازف من جنس طبع الحمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فنحن لا نقول: إن سماع الموسيقى ليس فيه متعة، بل فيه متعة، لكنها متعة محرمة، فمتعاطيها كالذي يستمتع بشرب الخمر أو يستمتع بغير ذلك مما حرمه الله سبحانه وتعالى، فإنه يجد في ذلك متعة، ويجد ميلاً طبعياً في نفسه لهذا الشيء. وأما المؤمن فإنه لا ينقاد وراء هذه المتعة دون أن يحكم شرع الله فيها.

القلب السليم يستمتع بالقرآن ويكره الغناء

القلب السليم يستمتع بالقرآن ويكره الغناء فالإنسان إذا كان قلبه سليماً عامراً بالتوحيد وبالذكر، وكان وثيق الصلة بالقرآن، فبلا شك أن هذا يجعل قلبه سليماً صادقاً في حكمه على الأشياء، فإذا سمع موسيقى حتى دون أن يعرف الحكم الشرعي فيها فإنه يشعر أن فيها سماً ينفذ إلى قلبه، ومثل هذا الشعور لن يتأتى إلا إذا كان قلب الإنسان عامراً بالقرآن الكريم، فإنه يحس أن هذا قرآن الرحمن، والأغاني والموسيقى قرآن الشيطان، فقلبه يتسمم منها. أما الشخص الذي غمرت قلبه محبة هذه الأشياء فمن الصعب أن يعطينا حكماً صادقاً، فمثلاً: أنت إذا أتيت شخصاً يتعاطى الدخان والسجائر فأخبرته بأضرار الدخان فإنه يقول لك: أنا لا أحس بشيء من هذا، بل بالعكس أنا أجد فيها متعة! في حين أن هذا الشخص لا يعد مقياساً سليماً؛ لأنه حصل له نوع من التطبيع مع المعاصي، وطبيعته السليمة قد تغيرت مع المعاصي، فلما حصل له تطبيع تلاقى في منتصف الطريق مع الباطل، وذاب فيه، وانسجم معه. لكن العبرة بكل إنسان سليم متحرر من هذا القيد، فلو أتيت بإنسان سليم لم يتعاط في حياته شيئاً من هذا الدخان وأعطيته سيجارة، فستجد بعض الآثار الصحية عليه في الحال، كأن يسعل ويشعر بالدوار والدوخة وغيرها، وكل هذه الأعراض نتيجة لأنه سليم. فكذلك القلب السليم إذا سمع الموسيقى يشعر بأنها سهام تطعن قلبه وتسممه، أما الشخص الذي هو غارق ليل نهار في الموسيقى مع هجره القرآن الكريم فلا يحس بحلاوة القرآن، ولا شك أن هذا يحجب عن قلبه الإحساس بالقرآن الكريم. ولذلك ننصح كل من ابتلي بشيء من هذا أن يمر أولاً بمرحلة انتقالية يجاهد فيها نفسه بأن يمتنع من سماع هذه المعازف، وفي نفس الوقت يوثق صلته بالقرآن، فكلما زادت صلته بقرآن الرحمن فإنه يحس بالكراهية لقرآن الشيطان، وهذه نتيجة طبيعية، ولكن ربما لا تتأتى عند كثير من الناس نتيجة المواعظ والبحوث والكلام الكثير، لكن إذا ملأ الإنسان قلبه بحب القرآن ووثق صلته بالقرآن فإنه هذا أنجح علاج؛ لأن الصحة والسلامة ستعود إلى قلبه، ويبغض هذه المعاصي، فضلاً عن أن يميل إليها ويتأثر بها.

ذم الأئمة لاتخاذ التصفيق والغناء قربة

ذم الأئمة لاتخاذ التصفيق والغناء قربة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك ديناً وطريقاً إلى الله وقربةً؛ فهذا ليس من دين الإسلام، وليس مما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين، بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين، بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة. ولهذا قال الشافعي لما رأى ذلك: خلفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير؛ يصدون به الناس عن القرآن. وسئل عنه أحمد رحمه الله فقال: أكرهه وهو محدث. قيل: أتجلس معهم؟ قال: لا. وكذلك كرهه سائر أئمة الدين، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه. ويقول شيخ الإسلام: وما ذكره الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه من إحداث الزنادقة من كلام إمام خبير بأصول الإسلام؛ فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة، كـ ابن الراوندي والفارابي وابن سينا وأمثالهم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن كان له خبرة بحقائق الدين وأحوال القلوب ومعارفها وأذواقها، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة إلا وفي ضمن ذلك من الضرر والمفسدة ما هو أعظم منه؛ فهو للروح كالخمر للجسد. يعني: أن الموسيقى والمعازف خمر للروح، وما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدث به، ولا من شيء يبعد عن النار إلا وقد حدث به، ولو كان هذا السماع لمصلحة شرعها الله ورسوله لحدث به؛ فإن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، كما أن الفقيه إذا رأى قياساً لا يشهد له الكتاب والسنة لم يلتفت إليه. وقد سبق أن الإمام القاسمي رحمه الله تعالى تكلم بشيء من التفصيل في بحث ماض في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) ثم قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]. هذه الآية نزلت فيمن ينفق على حرب النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عُني بها المطعمون منهم يوم بدر؛ حيث كان هناك في طائفة المشركين اثنا عشر رجلاً من قريش يتطوعون بإطعام الذين خرجوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشرة جزر. يعني: عشرة جمال. وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان، ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يخفى شمول الآية لأي كافر ينفق ماله ليصد عن سبيل الله، وليحارب دعوة الله، فكل من فعل ذلك فهو داخل في هذه الآية. واللام في قوله تعالى: ((ليصدوا)) هي لام الصيرورة أو لام العاقبة. ويصح أيضاً أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع، فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يعني: الذي هو في الحقيقة سبيل الله وإن كانوا هم لا يعتقدون أنه سبيل الله. أي: فإذا قلنا إنها للتعليل فهم يصدون عن سبيل الله بحسب الواقع، وإذا قلنا إنها لام الصيرورة ولام العاقبة؛ فلأنهم ينفقون هذا المال ويعتقدون أنهم على حق، وأن محاربة الدين أو محاربة الإسلام لإعزاز دينهم الباطل الذي يرونه حقاً، فهم لا يقصدون الصد عن سبيل الله، لكن فعلهم يئول إلى الصد عن سبيل الله؛ لأنه دين الله في الحقيقة. يقول: واللام في: (ليصدوا) لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وسبيل الله: طريقه، وهو دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ))، المعنى: أن الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله والصد عن اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم سيعلمون عما قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق وانقلابه إلى أشد الخسران من القتل والأسر في الدنيا والنكال في العقبى. وقوله: ((فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)) جعل نفس الأموال تصير عليهم حسرة. يعني: ندماً وتأسفاً، وإنما الندم والتأسف هو عاقبة أمرها، وليست هي ذاتها؛ فهذه مبالغة. وقوله: ((ثُمَّ يُغْلَبُونَ))، المراد الغلبة التي استقر عليها الأمر، فإن كانت الحرب قبل ذلك سجالاً فإن العاقبة تكون للمتقين. قال بعضهم: ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين، فكل من يبيع سلاحاً لحرب المسلمين أو سلاحاً في الفتنة فإنه يدخل في هذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب)

تفسير قوله تعالى: (ليميز الله الخبيث من الطيب) ثم قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]. ((ليميز الله الخبيث من الطيب)) أي: يميز الله الكافر من المؤمن، أو يميز الفساد من الصلاح. ((ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جنهم)) يعني: يركمه ويجمعه، ويضم بعضه إلى بعض؛ حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم. وقيل معناه أنه يضم إلى الكافر ما أنفق من المال ليصد عن سبيل الله، فيؤتى به وبماله ويجعله الله فوقه؛ ليزيد به عذابه، كما أن الذين يكنزون أموالهم يعذبون بها، وتقرن معهم هذه الأموال. وقوله: ((أولئك)) إشارة إلى الخبيث؛ لأنه مقدر بمعنى الفريق الخبيث، أو أن الإشارة إلى هؤلاء المنفقين أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. وقوله: ((أولئك هم الخاسرون)) أي: لأنهم خسروا أنفسهم، وخسروا أموالهم التي أنفقوها.

تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)

تفسير قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ثم قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]. قوله: ((قل للذين كفروا)) يعني: أبا سفيان وأصحابه، فالتعريف فيه للعهد، أو يكون التعريف للجنس، فالمراد بها كل الكفار، فيدخل فيهم دخولاً أولياً أبو سفيان وأصحابه. ((إن ينتهوا)) أي: إن ينتهوا عن الكفر وقتال النبي صلى الله عليه وسلم. ((يغفر لهم ما قد سلف)) أي: من الكفر والمعاصي. ((وإن يعودوا)) أي: إلى قتال النبي صلى الله عليه وسلم. ((فقد مضت سنة الأولين)) يعني: الذين تحزبوا على الأنبياء، فقد عرفتم كيف كانت سنتنا فيهم، وكيف دمرناهم تدميراً. أو أن المقصود بقوله: ((فقد مضت سنة الأولين)) الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. وقوله تعالى: ((فقد مضت)) فيه دليل لجزاء الشرط؛ لأن تقدير الكلام: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا) انتقمنا منهم. وقد استدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، يعني: يقطع ما قبله، كما جاء في الحديث، وفيها أن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم، أو إتلاف مال أو نفس. وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب، حيث قالوا: إن هذه الأحكام في كل الكفار، سواء كان الكفر أصلياً أو طارئاً ككفر المرتد؛ فإن تاب لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس؛ لعموم الآية. واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه أي: فلو أن رجلاً ذمياً وجبت عليه جزية ثم أسلم ولم يؤد هذه الجزية فإنه لا يطالب بها بعد إسلامه؛ لظاهر هذه الآية: ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا)) يعني: عن الكفر، ((يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)). وعن مالك قال: لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم؛ لأن الله تعالى قال: ((إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)) و (ما): عامة تعم كل ما سلف.

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ونعم النصير)

تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ونعم النصير) ثم قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:39 - 40]. ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)) فتنة: فاعل؛ لأن (كان) هنا تامة، لأنها إذا أتت بمعنى الوجود والحصول تكون تامة، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فذو هنا فاعل؛ لأن كان تامة. ((حتى لا تكون فتنة)) أي: شرك أو إضلال لغيرهم وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم، أو أن قوله: ((حتى لا تكون فتنة)) يعني: حتى لا تبقى فتنة، وحتى لا يبقى على وجه الأرض من يكفر بالله سبحانه وتعالى، وهذه هي غاية الجهاد. ((ويكون الدين كله لله)) أي: حتى يخلص التوحيد لله، فلا يعبد غيره سبحانه وتعالى. ((فإن انتهوا)) يعني: عن الكفر والمعاصي ظاهراً. ((فإن الله بما يعلمون بصير)) يعني: بما يعملون ببواطنهم بصير، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، أي: في البواطن؛ لأن البواطن لا نستطيع أن نطلع عليها، لكن نقبل منهم ما يظهرون. فقوله: ((فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير)) يعني: سيجازيهم، وعليه حسابهم، فكفوا عنهم وإن لم تعلموا ببواطنهم، واقبلوا منهم ما يظهرون، وهذا كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، وفي الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل). وفي الصحيح: (أن أسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال: لا إله إلا الله، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لـ أسامة: أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! فكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟! فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يكرر عليه: كيف تفعل بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ)، يعني: من شدة غضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه. وقيل: ((ويكون الدين كله لله))، أي: حتى يكون الخضوع كله لله. ثم قال تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40]. فقوله: ((وإن تولوا)) يعني: إن أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا عن الشرك. وقوله: ((فاعلموا أن الله مولاكم)) يعني: أن الله ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته. وقوله: ((نعم المولى)) أي: فلا يضيع من تولاه. وقوله: ((ونعم النصير)) أي: فلا يُغلَبُ من نصره.

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول)

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) ثم بين تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به من الغنائم فقال عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41]. قوله: ((واعلموا أنما غنمتم من شيء)) يعني: ما قل أو كثر من الغنيمة التي أخذتموها من الكفار. وقوله: ((فإن لله)) أي: لله الذي منه النصر المتفرع عليه الغنيمة. وقوله: ((خمسه)) أي: شكراً له على نصره وإعطائه الغنيمة. وقوله: ((وللرسول)) الذي هو الأصل في أسباب النصر. وقوله: ((ولذي القربى)) وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وقوله: ((واليتامى)) أي: من مات أبوهم ولم يبلغوا؛ لأنهم ضعفاء. وقوله: ((والمساكين)) لأنهم ضعفاء كاليتامى. وقوله: ((وابن السبيل)) وهو المسافر الذي انقطع في الطريق، ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ به. والغنيمة هي: المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب. أي: ما ظهر عليه المسلمون بقتال. وكلمة: ((من شيء)) قصد بها الاعتناء بالغنيمة، ومعناها: أنه ينبغي ألا يشذ عنها شيء، فما غنمتموه كائناً ما كان يقع الإثم على من يأخذه حتى الخيط والمخيط.

كيفية قسمة الغنائم

كيفية قسمة الغنائم وينبغي أن تقسم الغنائم بين المجاهدين بهذه الكيفية المذكورة في الآية. ((فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)) بضم الميم وسكونها قرئ بهاتين اللغتين، وأفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكرهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة، ثم بعد ذلك يقسم ما بقي بين الغانمين بالعدل والسوية، للراجل سهم وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه؛ هكذا قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر. ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان. لكن القول الأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة؛ ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه الذي يسوسه، وغناء الفارس به أعظم من غناء راجلين في الحرب، فمنفعة الشخص الذي يجاهد على الفرس أكثر من منفعة رجلين. ومنهم من يقول: تقسم عليهم بالسواء.

وجوب العدل في قسمة الغنائم

وجوب العدل في قسمة الغنائم ويجب قسمتها بالعدل، فلا يحابي أحداً لقرابته ولا لنسبه ولا لفضله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يقسمونها، وفي صحيح البخاري أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى أن له فضلاً على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟). وفي مسند أحمد أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال (قلت: يا رسول الله! الرجل يكون حامية القوم يكون سهمه وأسهم غيره سواء؟ قال ثكلتك أمك ابن أم سعد! وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟).

مصارف خمس الغنيمة

مصارف خمس الغنيمة وقوله: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)): قال الجمهور: الخمس يصرف على خمسة وجوه، وقال البعض: ستة. والذي قال إنها ستة: قال: هي لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والذي قال إنها خمسة قال: هي للرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. قال: أما ذكر الله سبحانه في قوله: ((فأن لله خمسه)) فإنما هو للتعظيم، يعني: لتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، أو لبيان أنه لابد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى. وتمسك المخالف بظاهر الآية، فأوجب سهماً سادساً لله تعالى. قال: لأن كلام الحكيم لا يعرى عن الفائدة. فلابد أن يكون لذكر لفظ الجلالة هنا فائدة، وهذه الفائدة هي أنه مصرف مستقل من مصارف الخمس؛ ولأنه سبق اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60]، فكذا هنا أيضاً يكون هناك مصرف أو وجه ينفق فيه لله سبحانه وتعالى. ويصرف هذا السهم على هذا المذهب قيل: في وجوه الخير، وقيل: يؤخذ للكعبة المشرفة. وما رواه البيهقي يؤيد مذهب الجمهور؛ فإنه روى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو معترض فرساً، فقلت: يا رسول الله! ما تقول في الغنيمة؟ فقال: لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش، قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم). ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؟

كيفية التصرف في خمس النبي صلى الله عليه وسلم

كيفية التصرف في خمس النبي صلى الله عليه وسلم أما خمس النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله له فكان أمره في حياته مفوضاً إليه، يتصرف فيه بما شاء، ويرده في أمته كما شاء صلى الله عليه وآله وسلم. وروى الإمام أحمد أن أبا الدرداء قال لـ عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا عبادة! كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ - يعني ذكرني بما قال -فقال عبادة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة -من بعير- بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم، إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط. وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا؛ فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله بالحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله؛ فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم). قال ابن كثير: هذا حديث حسن عظيم. وفي هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يصرفه في مصالح المسلمين. أما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا: فمن قائل: إن سهم النبي عليه الصلاة السلام يكون لمن يلي الأمر من بعده. ومن قائل: بل يصرف في مصالح المسلمين، كالسلاح وغير ذلك. ومن قائل: إنه يصرف لقرابته صلى الله عليه وسلم. ومن قائل: إنه يرد على بقية الأصناف: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، واختاره ابن جرير. وللمسألة حظ من النظر.

من يصرف لهم سهم ذوي القربى

من يصرف لهم سهم ذوي القربى أما قوله تعالى: ((ولذي القربى)) فأجمعوا على أن المراد بذوي القربى قرابته صلى الله عليه وسلم. وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة؛ لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية، وكذلك في أول الإسلام، حتى إنهم دخلوا معهم الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما حاصرت قريش بني هاشم مسلمهم وكافرهم بسبب دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبنو المطلب دخلوا معهم الشعب حمية، وطبعاً المسلمون منهم دخلوا الشعب طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما كفار بني المطلب فإنهم دخلوا معهم الشعب حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لـ أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ابني عبد مناف وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم، بل حاربوهم ونابذوهم ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذمهم أبو طالب في قصيدته التي يقول فيها: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً عقوبة شر عاجلاً غير آجل بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضاً بنا والغياطل يعني: عوضاً بنا، والغياطل هم بنو سهم. ونحن الصميم من ذؤابة هاشم وآل قصي في الخطوب الأوائل يعني: أنه يذم هؤلاء الذين لم يناصروهم. وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة منك؟ فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد)، رواه مسلم.

كيفيةالتصرف في سهام اليتامى والمساكين وابن السبيل

كيفيةالتصرف في سهام اليتامى والمساكين وابن السبيل أما سهم اليتامى فقيل: يخص به فقراء اليتامى؛ لأنه يشترط أن يكون اليتيم فقيراً. وقيل: يعم الأغنياء والفقراء، فما داموا يتامى فلهم سهم منه. والأظهر الثاني، يعني: أنه يعم الأغنياء والفقراء. وأما المساكين فهم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ويكفيهم. وأما ابن السبيل فقد ذكرنا معناه أولاً.

وجوب الإيمان بالله عز وجل والانقياد لأوامره

وجوب الإيمان بالله عز وجل والانقياد لأوامره وقوله تعالى: ((إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)) يعني: اعملوا بما ذكر من توزيع الغنيمة بهذه الكيفية، وارضوا بهذه القسمة، فالإيمان يوجب العمل بالعلم والرضا بالحكم. وقد جاء في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (وآمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، ثم قال: هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان. وقوله: ((إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا)) يعني: إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل. ((عَلَى عَبْدِنَا)) أي: محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر. ((يَوْمَ الْفُرْقَانِ)) أي: يوم بدر؛ فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. ((يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)) جمع المؤمنين وجمع الكافرين، فالتعريف للعهد، وكان التقاؤهما يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، والمؤمنون يومئذٍ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة، فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك. ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) فيقدر على نصر القليل على الكثير، كما فعل بكم يوم بدر.

تفسير قوله تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى)

تفسير قوله تعالى: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى) ثم يقول تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]. قوله: ((إذ أنتم)) هذا بدل من ((يوم الفرقان)) في قوله: {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41]. والمعنى: ((إذ أنتم)) يا معشر المؤمنين ((بالعدوة الدنيا)) يعني: الوادي الذي حده وشفيره أقرب إلى المدينة. وقوله: ((وهم)) أي: المشركون أبو جهل وأصحابه ((بالعدوة القصوى)) يعني: بوادٍ آخر قاصٍ في الجهة الأخرى، فهو أقرب إلى مكة وأبعد من المدينة، فالعدوة القصوى هي البعدى عن المدينة مما يلي مكة. وقوله: ((والركب أسفل منكم)) أي: العير التي فيها أبو سفيان بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها، فإنها كانت أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر. ومن لطائف الزمخشري في استخراج إعجاز وأسرار القرآن الكريم أنه قال هنا: فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ أي: ما الفائدة التي نجنيها من هذا التوقيت بقوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) يذكرهم بيوم الفرقان، (يوم التقى الجمعان) ثم قال: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) ذكر المكان (وهم بالعدوة القصوى) ثم قال: ((وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ))؟ قال: قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه وتعالى. فذكرهم بهذه الأحوال كلها ليعلمهم أن الأسباب المادية كانت مع المشركين، فكانوا أولى بالنصر من حيث الأسباب الظاهرة. أما أنتم أيها المسلمون! فكنتم أولى بالهزيمة، فإذا كان الله قد نصركم فهذا ليس بكسب منكم، وإنما هو فضل من الله سبحانه وتعالى، فقد كان العدو شديد القوة شديد الشوكة من حيث العدد والعدد المتكاملة، ومهدت له أسباب الغلبة، وأيضاً المسلمون لم يخرجوا للقتال، فلذا كانوا قلة في العدد، وكانوا في ضعف، وكانت غلبتهم في مثل هذه الحال ليست أمراً عادياً، وإنما هو من أعاجيب صنع الله سبحانه وتعالى، ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحول الله وقوته وباهر قدرته. يقول: وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار- أي: أرض مسترخية لينة- تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة. فالعدوة القصوى التي كان فيها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً متماسكة لا بأس بها، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم؛ لأن العير كان فيها الأموال وفيها النساء، وكانت العرب تخرج إلى الحرب بالنساء وبالأموال؛ حتى يكون ذلك نوعاً من المدد المعنوي في الحرب، فتشتد حميتهم؛ لأنهم إذا هزموا سيتعرض النساء للأسر، ويصرن سبايا، فكانوا يصحبون معهم في حروبهم في مؤخرة الجيوش الأموال والنساء؛ ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على النساء على بذل جهيداهم في القتال، ولا يتركون وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم؛ لأنهم لو كان أولادهم ونساؤهم وأموالهم في المحلة التي خرجوا منها ربما زين لهم ذلك الفرار من القتال والرجوع إلى ما ينحازون إليه من الأموال والأهل، فإذا كان معهم أهلوهم وطنوا نفوسهم على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، وبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم. وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر واقعة بدر؛ ليقضي أمراً كان مفعولاً من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7]، ولم يبين هل هي العير أم هي الجيش؟ فإنهم خرجوا ليأخذوا العير، راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبَّب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى، ووراءهم العير يحامون عنها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان. قال الناصر في الانتصاف: وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز. ثم قال تعالى: ((وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ))، يعني: لو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم، أي: لأنكم قلة تخشون أن يستأصلوكم فثبطتكم هذه القلة وكثرة الأعداء بالنسبة إليكم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله سبحانه وتعالى وسبب له. وفي حديث كعب بن مالك قال: (إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد). وعن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء؛ حتى التقى السقاة، ونهد الناس بعضهم إلى بعض. وقوله تعالى: ((وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا)) يعني: ولكن جمع الله بينكم على غير ميعاد ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم. وقوله: ((كان مفعولاً)) يعني: كان حقيقاً بأن يفعل، وقيل: (كان) بمعنى صار. أي: ليقضي الله أمراً صار مفعولاً بعد أن لم يكن. وقوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) أي: إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم، ويرفع حجة الحق على الباطل؛ ليصير الأمر ظاهراً والحجة قاطعة والبراهين ساطعة، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئدٍ يهلك من هلك، يعني: يستمر في الكفر من استمر فيه ((عن بينة)) أي على بصيرة من أمره أنه مبطل؛ لقيام الحجة عليه. وفي هذا إشارة إلى أن نصر المؤمنين في بدر كان منه سبحانه، فمع أن الأسباب الظاهرة كلها كانت في كفة المشركين نصر المسلمين على قلتهم وضعف عددهم وعددهم، فهذه آية وحجة لتثبيت الحق في قلوب المؤمنين. ومن الحكم أيضاً: ((ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)) وهو نصرة الإسلام وإعزاز أهله وإذلال المشركين. وقوله: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ)) يعني: ليهلك بالبقاء على الكفر، فمن رأى هذه الآية -وهي نصر الله للمؤمنين مع قلتهم وضعفهم- فينبغي أن يسلم لله سبحانه وتعالى، فإذا اختار البقاء على الكفر والاستمرار عليه فقد قامت الحجة عليه، ولا عذر له في استمراره على الكفر الذي سيئول به إلى الهلكة في الدنيا والآخرة. وقوله: ((وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ))، عبر عن الإيمان بالحياة، يعني: ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن ما كان في وقعة بدر آيات بينة، فمن كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.

تفسير قوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم)

تفسير قوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم) ثم قال الله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43]. ((إذ يريكهم الله في منامك قليلاً)) (إذ) منصوب باذكر، أي: اذكر إذ، أو بدل آخر من يوم الفرقان في قوله: ((وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)) [الأنفال:41]. وقوله: ((إذ يريكهم الله في منامك قليلاً)) وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وقوله: ((ولو أراكهم كثيراً لفشلتم)) يعني: أن الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى أرى نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين في منامه قليلاً هي أن يجترئ عليهم المسلمون ويتشجعوا على قتالهم. قال تعالى مبيناً أن هذه هي الحكمة المقصودة من هذه الرؤيا: ((ولو)) كان الله سبحانه وتعالى ((أراكهم كثيراً لفشلتم)) يعني: لجبنتم ولهبتم الإقدام، ((ولتنازعتم في الأمر)) أي: أمر الإقدام والإحجام، وبالتالي سيقول فريق: نقدم، ويقول فريق: نحجم، وبالتالي تتنازعون. وقوله: ((ولكن الله سلم)) أي: عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته. وقوله: ((إنه عليم بذات الصدور)) أي: يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع؛ ولذلك دبر ما دبر.

تفسير قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا)

تفسير قوله تعالى: (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً) ثم قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:44]. ((وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً)) انظر كيف جعل الله سبحانه وتعالى كل هذه الأسباب تمهد لإعجاز الإسلام في بدر؛ لكي يحصل القتال! فإنه أغرى كل فريق بالآخر؛ كي يحصل القتال، ثم يعز الله المؤمنين ويعز الإسلام. ثم إن الله سبحانه وتعالى جعل المؤمنين يرون الكفار قليلاً، وجعل الكفار يرون المؤمنين قليلاً. وقوله: ((إذ التقيتم)) يعني: تصديقاً لرؤيا رسول الله عليه السلام المنامية عاينتموهم أنتم، وجعل الله سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين في أعينكم قليلين؛ إغراء لكم على الإقدام. والمعنى: ((وإذ يريكموهم إذ التقيتم)) عند القتال، ((في أعينكم قليلاً)) وذلك تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به، فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفاً. وقوله: ((ويقللكم في أعينهم)) يعني: في اليقظة، وهذا أيضاً إغراء للكافرين بمقاتلة المؤمنين؛ حتى يحصل القتال، ويقضي الله أمراً كان مفعولاً، فكما قلل الكفار في أعين المؤمنين كذلك قلل المؤمنين في أعين الكفار، حتى قال أبو جهل: إن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وهذا مثل يضرب في القلة، يعني: قليلي العدد جداً كأكلة رأس. وقوله: ((ليقضي الله أمراً)) أي: من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام، وكذب دين الكفر، فإن الإسلام هو دين الحق، والكفر دين باطل. وقوله: ((كان مفعولاً)) أي: كالواجب فعله على الحكيم لما فيه من الخير الكثير. قال الزمخشري: فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده؛ ليجترئوا عليهم قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم؛ وذلك قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران:13]. يعني: أنهم في البداية رأوا المؤمنين قلة، ثم بعد ذلك رأوهم مثليهم رأي العين، وهذا بلا شك يوقع الصدمة في قلوب الكفار والفزع والجبن عن مقاتلتهم؛ وإنما رأوهم أولاً قلة لئلا يستعدوا لهم؛ لأنهم لو رأوا المؤمنين كثرة أو على عددهم الحقيقي لاستعدوا وتهيئوا لهم، لكن إذا رأوهم قلة فإنهم لا يبالون بالاستعداد الشديد لقتالهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولاً وكثرتهم آخراً. قال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً؟ قلت: بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. وطبعاً لا يقال لشيء صنعه الله سبحانه وتعالى: كيف فعل؟ لأن الله على كل شيء قدير، وهذا أمر ليس مستحيلاً على الله سبحانه وتعالى، بل هو في عالم الممكن، فلا ينبغي أن يقال لله سبحانه وتعالى: كيف؟ لكن هنا الزمخشري يحاول أن يقرب الأمر إلى عقولنا بأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق من الأسباب ما يجعلهم يرون هذه الأشياء. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يدي هذا الرجل الذي ذهبوا إليه ديك واحد، فقال: هذا الكلام غير صحيح، كيف تقولون: إن الأحول يرى الواحد اثنين؟ ما لي لا أرى هذين الديكين أربعة؟! فمعناه: أنه كان أحول. وقوله: ((وإلى الله ترجع الأمور)) هذا فيه تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذاتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا) ثم أرشد تبارك وتعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ومبارزة الأعداء، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]. يعني: إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم، واصبروا على مبارزتهم، فلا تفروا ولا تجبنوا. ((إذا لقيتم فئة فاثبتوا)) عبر عن الحرب باللقاء، تغليباً على النزال، ولم يصف الفئة بأنها كافرة؛ لأن هذا معلوم غير محتاج إليه، والمؤمنون لا يقاتلون إلا في سبيل الله، فمتى حاربوا فئة فهم يحاربونها في سبيل الدين، ولذا لابد أن تكون كافرة. وقوله: ((فاثبتوا واذكروا الله كثيراً)) يعني: فاثبتوا في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم، فذكر الله سبحانه وتعالى يعطي قوة للأرواح، ويعطي قوة للأبدان أيضاً، وأدلة ذلك كثيرة. وقوله: ((لعلكم تفلحون)) يعني: إن ثبتم واستعنتم بذكر الله سبحانه وتعالى كثيراً في مثل هذا الموقف فإنكم تنصرون، ومتى ما تخلى المسلمون عن ذلك فأنى لهم النصر؟! ففي نكسة عام (1967م) كان أمراً طبيعياً جداً أن يحصل ما حصل من الهزيمة؛ لأنه لم يكن هناك شيء اسمه ذكر الله سبحانه وتعالى، بل كانوا يوزعون على الجنود في ثكنات القتال صور الممثلات وصور الفنانات! ويقولون للجندي: اضرب فـ أم كلثوم معك في المعركة! اضرب ففلانة معك في المعركة! وكانت أولاء وكان هؤلاء الفاسقات يذهبن إلى صفوف الجبهة لرفع الروح المعنوية! فقوله: ((يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)) يعني: تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة، وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم). وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل إليه بكليته فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال. وكما قلنا مراراً: العبادة الوحيدة التي لم تقيد بوقت هي ذكر الله سبحانه وتعالى، والتي حرضنا على الإكثار منها في كل وقت وفي كل حال، فقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله وفي كل أحيانه. وقال عز وجل: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، فالإنسان لا يخرج عن حالة من هذه الحالات: إما قائم، وإما قاعد، وإما نائم، فالمقصود بذلك ذكر الله على أي حال كنت، لا كما يفهمها الصوفية أن كونها قياماً أو قعوداً هو القفز والنط، بأن يكون واقفاً ثم يرمي نفسه في الأرض ثم يميل وهكذا، فهذا التلوي وهذه الأفعال إلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى وانحراف في فهمها، إنما المقصود: اذكروا الله على كل حال تكونون عليه من الوقوف أو القعود أو الرقود. فلو كان الاشتغال والهم والمشاغل عذراً في الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى لكان القتال كذلك، لكن انظر كيف يحرضهم الله سبحانه وتعالى على كثرة الذكر في أشد الأحوال وفي أعظم الأهوال، وهي حالة الاقتتال والالتحام المسلح بأعداء الله سبحانه وتعالى، فعلى العبد ألا يفتر عن ذكر ربه، لقوله عز وجل: ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا))، وقال عز وجل: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35].

تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا)

تفسير قوله تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا) ثم قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]. قوله: ((وأطيعوا الله ورسوله)) يعني: في كل ما يأمران به وينهيان عنه، وهذا عام، والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد. وقوله: ((ولا تنازعوا)) يعني: باختلاف الآراء، أو فيما أمرتم به. وقوله: (فتفشلوا) أي: تجبنوا إذ لا يتقوى بعضكم ببعض؛ لأن التنازع سيذهب بالقوة، فإن المسلمين حين يتنازعون ويكونون قوى متضادة ستكون المحصلة ضعيفة أو لا محصلة. وقوله: ((فتفشلوا وتذهب ريحكم)) يعني: قوتكم وغلبتكم ونصرتكم ودولتكم. وشبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته بالريح وهبوبها، يقال: هبت ريح فلان، يعني: إذا دامت له الدولة، ونفذ أمره، قال الشاعر: إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون وقوله: ((واصبروا)) يعني: على شدائد الحرب، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع؛ فالصبر مستلزم للنصر. وقوله: ((إن الله مع الصابرين)) يعني: بالنصر. قال ابن كثير: وقد كان للصحابة رضي الله تعالى عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد من بعدهم رضي الله تعالى عنهم، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((ولا تنازعوا)) أي: لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد، بل ليتفق أمركم. قال: ولقائل أن يقول: يستفاد من هذا وجوب نصب أمير على الجيش؛ ليدبر أمرهم، ويقطع اختلافهم؛ لأن هذه الوسيلة هي التي تؤدي إلى عدم التنازع؛ لأنهم إذا اتفقوا على طاعته فيما يؤمرهم به لم يبق مجال للتنازع، وقد فعله صلى الله عليه وسلم في السرايا وقال: (اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي).

تفسير قوله عز وجل: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا)

تفسير قوله عز وجل: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً) ولما أمر الله تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء أمرهم بالإخلاص فيه بنهيهم عن التشبه بالمشركين في انبعاثهم للرياء، فبعد ما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46] قال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47]. ((ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً)) أي: لا تكونوا كالمشركين الذين خرجوا من ديارهم فخراً بالشجاعة. ((ورئاء الناس)) أي: طلباً للثناء بالسماحة والشجاعة، فهم إنما خرجوا كي يقال إنهم: شجعان ومقاتلون ونحو ذلك. وقوله: ((ويصدون عن سبيل الله)) أي: ولا تكونوا كـ أبي جهل وأصحابه وقد أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبوا وقالوا: لا نرجع حتى نأتي بدراً، فننحر بها الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا فيها القيان -القينة هي الجارية المغنية- وتسمع بنا العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. أي: فلا يكن أمركم رياءً ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس، وأخلصوا لله النية والحسبة في نصر دينكم ومؤازرة نبيكم صلى الله عليه وسلم، لا تعملوا إلا لذلك، ولا تطلبوا غيره. والرئاء: مصدر راءى، إذا أظهر العمل للناس ليروه، والمرائي يطلب نظر الناس إلى عمله؛ غفلة عن الخالق سبحانه وتعالى. وقد يقال: راياه مراياة ورياءً على القلب. ونصب: ((بطراً ورئاء)) لأنها مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال. وجملة ((ويصدون)) منصوبة لأنها حال بتأويل اسم الفاعل، أو بجعله مصدر فعل هو حال، أو مرفوعة على الاستئناف. ونكتة التعبير بالاسم (بطراً ورئاء) أولاً ثم بالفعل (ويصدون) الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم، بخلاف الصد؛ فإنه تجدد لهم في زمن النبوة، أي أنه إنما ذكر البطر والرياء بالاسم باعتبار أن ذلك غير مرتبط بزمان، وأنه دأبهم في كل الأوقات قبل الإسلام وبعد الإسلام، ذحالة العرب في قتالهم، أما الصد عن سبيل الله فإن هذا ما تجدد إلا بعد زمن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.

التوبة [1 - 6]

تفسير سورة التوبة [1 - 6]

أسماء سورة التوبة

أسماء سورة التوبة هذه سورة التوبة لها عشرة أسماء، قيل: إنه لا توجد سورة أكثر أسماء من الفاتحة وهذه السورة -سورة التوبة-، فهما أكثر السور من حيث الأسماء الكثيرة لهما، فالمشهور من أسماء هذه السورة: الاسم الأول: سورة (براءة) سميت بها لافتتاحها بالبراءة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1]، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها؛ لأن أكثر ما ذكر في الآية راجع إلى صدرها، وهو قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1]. الاسم الثاني: وهو أشهر أسمائها سورة: (التوبة)، لتكرر ذكر التوبة في هذه السورة الكريمة، كقوله تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [التوبة:3]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [التوبة:5]، وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:27]، وقوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74]، وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، وقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة:117]، وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104]، وقوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة:112] إلى آخره، فهذان الاسمان أشهر أسماء هذه السورة: سورة براءة، وسورة التوبة. الاسم الثالث: (الفاضحة) فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة، قال: التوبة هي الفاضحة، السورة التي فضحت المنافقين، ما زالت تنزل ومنهم: ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها، ما زالت تنزل في السورة: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة:75] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] ومنهم من كذا، تفضح أخبار المنافقين، وتهتك سترهم؛ ولذلك سميت: الفاضحة، حتى ظنوا أنها لم تبق أحداً منهم إلا ذكر فيها، فكانوا يشتكون من نزول مزيد من الآيات لأنها تفضح وتكشف وتهتك أستار المنافقين. الاسم الرابع: (سورة العذاب)؛ وذلك لتكرر ذكره فيها. الاسم الخامس: (المقشقشة) والقشقشة معناها: التبرئة، وهي مبرئة من النفاق، عندما تصف المنافقين بأفعال فمن تنزه عنها فإنه يبرأ من النفاق ويكون من المؤمنين. الاسم السادس: (المنقرة)؛ لأنها نقرت عما في قلوب المشركين أي: كشفت وأخرجت ما في قلوبهم، والمنقرة يعني: التي بحثت، كما قال تعالى: {غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة:31] أي: ينبش ويحفر؛ فلذلك سميت المنقرة؛ لأنها بحثت وفتشت في قلوب المنافقين. الاسم السابع: (البحوث) صيغة مبالغة من البحث أي: في قلوب المنافقين. الاسم الثامن: (الحافرة)؛ لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، يعني: بحثت عنها. الاسم التاسع: (المثيرة)؛ لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم، أي: أخرجتها من الخفاء إلى الظهور. الاسم العاشر: (المبعثرة)؛ لأنها بعثرت أسرارهم، يعني: كشفت وأظهرت أسرار المنافقين. الاسم الحادي عشر: (المدمدمة) يعني: المهلكة. الاسم الثاني عشر: (المخزية). الاسم الثالث عشر: (المنكلة) يعني: المعاقبة للمنافقين. الاسم الرابع عشر: (المشردة) يعني: الطاردة لهم والمفرقة لجمعهم. فليس في السور أكثر أسماء منها ومن الفاتحة.

سبب ترك كتابة البسملة في سورة التوبة

سبب ترك كتابة البسملة في سورة التوبة للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال: يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) في سورة براءة، وهذا في المصاحف العثمانية، خلافاً لقراءة ابن مسعود ففيها البسملة؛ لكن في المصاحف العثمانية، لم يكتب الصحابة رضي الله تعالى عنهم سطر (بسم الله الرحمن الرحيم). واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال: الأول: أن البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف، فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن علي رضي الله تعالى عنه وسفيان بن عيينة، وقد روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لِم لم تكتب في براءة البسملة؟ قال: لأنها أمان؛ أي: لأن البسملة أمان فيها اسم الله تعالى، وفيها الرحمة العامة والخاصة. ويقولون: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فنزولها لرفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر بقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعاً بوصف الرحمة، فلم يناسب ذكر اسم الرحمن الرحيم والبسملة لما في ذلك من نقض الأمان وتوعد المشركين؛ ولذا قال ابن عيينة: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. فهذه الآية تعلن نبذ العهود، وإعلان الحرب على المشركين بعد المهلة التي سنبينها -إن شاء الله- فهذا يتنافى مع ذكر البسملة التي فيها الرحمة، وفيها لفظ الجلالة واسم الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94] فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة، فلما كتب إلى أهل الحرب كـ كسرى وقيصر كتب: (بسم الله الرحمن الرحيم). قال: إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، كانت مرحلة دعوة، فابتدأ هو بالدعوة، ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول: (سلام على من اتبع الهدى)، فمن دُعي إلى الله عز وجل فأجاب، فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق، أما هنا: فالسياق بخلاف ذلك، وكذا قال المبرد: إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود؛ فلذلك لم تفتتح بالتسمية. الثاني: أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتاباً فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم، علياً رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم -يعني: الحج- قرأها ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد، نقل هذا القول بعض أهل العلم ولا يخفى ضعفه. الثالث: أن الصحابة لما اختلفوا هل البراءة والأنفال سورة واحدة أم سورتان، تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الحاكم يقول: استفاض النقل أنهما سورتان، ويقول أبو السعود في تفسيره: اشتهارها بهذه الأسماء -يعني: إذا كانت السورة اشتهرت بأربعة عشر اسماً- يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضاً من سورة الأنفال، ومعنى ذلك أن سورة هي أكثر سورة من حيث عدد أسمائها، فكيف بعد ذلك يشك هل هي سورة أم سورتان مع الأنفال؟! فطبعاً اشتهارها بأربعة عشر اسم يؤكد أنها سورة مستقلة، وليست امتداداً لسورة الأنفال؛ لكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا، كما سنبين إن شاء الله تعالى فيما يأتي، هل هي امتداد لسورة الأنفال؛ بسبب وجود بعض التشابه بينهما أم أنها سورة مستقلة؟ فلما اختلفوا إلى فريقين: فريق يرى أنها امتداد لسورة الأنفال، وفريق يرى أنها سورة مستقلة، كان هناك نوع من الحل الوسط، يرضي الفريقين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فتركوا بينهما فرجة، ففي المصحف العثماني ختمت سورة الأنفال ثم تركت مسافة تكفي لكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذه الفرجة لا توجد بين أجزاء السورة الواحدة، إنما من شأنها أنها توجد بين السورتين، وفي نفس الوقت لم يكتبوا في الفرجة (بسم الله الرحمن الرحيم) إشارة إلى اختلافهم على مذهبين: ترك البسملة بناءً على قول من ذهب إلى أنهما سورة واحدة، وإيجاد الفرجة للدلالة على قول من قال: إنهما سورتان، وشأن السورتان أن يفصل بينهما بهذه الفرجة. يقول الشنقيطي: ومنها أن الصحابة لما اختلفوا: هل البراءة والأنفال سورة واحدة أو سورتان؟ تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وثبتت حجتاهما بالمصحف. الرابع: أن سورة براءة نسخ أولها، فسقطت معه البسملة، وهذا القول: رواه ابن وهب وابن القاسم، وابن عبد الحكم عن مالك، كما نقل القرطبي عن ابن عجلان وسعيد بن جبير: أنها كانت تعدل سورة البقرة. الخامس: قال القرطبي: والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة؛ لأن جبريل لم ينزل بها فيها، قاله القشيري. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن استعرض هذه الأقوال: وأظهر الأقوال عندي في هذه المسألة: أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة: هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لـ ابن عباس، فقد أخرج النسائي والترمذي وأبو داود والإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه، ولم يخرجاه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـ عثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموهما في السبع الطول، فما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهةً بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها)، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطول. هذا الحديث يؤخذ منه: أن ترتيب آيات القرآن الكريم في السورة الواحدة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآية في الموضع الفلاني يليها كذا، هذا تم بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، وبلا شك أن ترتيب الآيات توقيفي، ليس عن اجتهاد من الصحابة، وإنما هو بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يفهم منه أيضاً: أن ترتيب سوره بتوقيف أيضاً، ما عدا سورة واحدة، هي سورة التوبة، وهذا هو أظهر الأقوال، ودلالة الحديث عليه ظاهرة. التنبيه الثاني: قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، وقال: إن سورة الأنفال تشبه سورة التوبة، فعند افتقاد النص من النبي عليه الصلاة والسلام على موضع سورة براءة، لجأ الصحابة إلى القياس من حيث الشبه من حيث المعنى، فوجدوا التوبة أشبه من حيث المعنى بسورة الأنفال. يقول: ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهةٌ بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن الكريم فما ظنك بسائر الأحكام، يعني: الأولى أن يعتد بالقياس الصحيح فيها.

شرح أثر عثمان في بيان سبب حذف البسملة من سورة التوبة

شرح أثر عثمان في بيان سبب حذف البسملة من سورة التوبة وهنا نحتاج لشرح بعض الألفاظ في هذا الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـ عثمان ما حملكم -يعني: ما هو الباعث لكم- على أن عمدتم -أي: قصدتم- إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، فوضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟ يقول بعض العلماء: القرآن يقسم على تقسيم معين، فأول القرآن السبع الطوال، ثم ذوات المئين، ثم المثاني، ثم المفصل، فالسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وستأتي السابعة، يلي هؤلاء ذوات المئين وهي السور ذوات المئات التي فيها مائة آية، ثم المثاني، ثم المفصل. قوله: (الأنفال وهي من المثاني) يعني: من السبع المثاني، وهي السبع الطوال، وقال بعضهم: المثاني من القرآن ما كان أقل من المئين، وهي السور التي تقل عن مائة آية. وإذا نظرنا إلى عدد آيات سورة الأنفال نجد أنها خمس وسبعون آية، وهي أقل من مائة؛ فلذلك اعتبرها من المثاني؛ لأن المثاني هي ما كانت أقل من مائة آية؛ ولذلك قال: وهي من المثاني، وأنتم تعرفون أيضاً: أن القرآن جميعه أحياناً يسمى مثاني: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23]. وقال في النهاية: المثاني السور التي تقصر عن المئين، يعني: تقل عن مائة آية، وتزيد عن المفصل: كأن المئين جُعلت مبادئ، والتي تليها مثاني؛ كأن المئين: أول شيء يبدأ بها، والمثاني: ما يثنى به؛ ولذلك قيل: مثاني، فالقرآن كأنه يقسم إلى ما كان فوق المائة وهي المئين والسبع الطوال وما كان دون المائة، وهي المثاني؛ ولذلك سميت الأنفال من المثاني، لأنها أقل من المائة. وقوله: (عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين) لأن سورة التوبة (129) آية، (فقرنتم بينهما) يعني: مع أن الأنفال ليست من السبع الطوال لقصرها عن المئين؛ لأنها خمسون وسبعون آية، وليست غيرها؛ لعدم الفصل بينها وبين براءة فيقول هنا: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تفصلوا بينهما بسطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟ قال الطيبي: دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، يعني: السبع الطوال متفق على ست منها، وبعض الناس يعد السبع الطوال ابتداء من الفاتحة، فيقول: الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، وعلى هذا القول تنتهي السبع الطوال بالأعراف، وبعضهم يقول: تبدأ بالبقرة، وبعضهم يقول: سابعة السبع الطوال هي الأنفال، وبعضهم يقول: بل السابعة هي مجموع الأنفال والتوبة، وبعضهم يقول: بما أن هناك اختلافاً ما بين الأنفال والتوبة، فالسابعة هي: يونس، وهو قول غريب! فهذا بالنسبة لخلاف العلماء، يقول الإمام الطيبي: دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا -أي: الأنفال والتوبة- منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، وعلى هذا فالسورة السابعة من السبع الطوال، هي: التوبة والأنفال، مجموعهما، عوملتا كسورة واحدة. ومن ثم قيل: السبع الطوال هي البقرة، وبراءة، وما بينهما، وهذا هو المشهور؛ لكن روى النسائي والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: إنها البقرة والأعراف وما بينهما، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، وهو يحتمل أن تكون الفاتحة، فإنها من السبع المثاني، ونزّلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بانفرادها، أو بانضمام ما بعدها إليها. وصح عن ابن جبير: أنها يونس، فهذا وجه الخلاف في تحديد السبع الطوال. المهم: أن ابن عباس لما قال لـ عثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أُنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده من كتبة الوحي -كـ زيد بن ثابت ومعاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما- فيقول: (ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا)، وهذه إشارة إلى ترتيب الآيات داخل السورة الواحدة، وأن هذا الترتيب للآيات كان توقيفياً، قال: (وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن) والتعبير هنا بقوله: (من آخر) دقيق، يعني: كأنه لم يقطع بكونها آخر، باعتبار أن سورة النصر هي آخر ما نزل من القرآن الكريم، قال: (وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها) أي: لم يبين لنا أن التوبة امتداد للأنفال، بخلاف سائر سور القرآن؛ لأنهم كانوا يعرفون ترتيب سورة القرآن بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام، ما عدا هذا الموضع بالذات. يقول: (ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها -بناءً على قياس الشبه لما لاحظوا الشبه بين الأنفال وبين التوبة- فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال).

تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)

تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) قال تبارك وتعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1]. (براءة) خبر لمحذوف، يعني: هذه براءة، فالمحذوف هو خبر مقدم تقديره: هذه براءة، وتنوين (براءةٌ) للتفخيم. والبراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي: انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علاقة ولا رابطة، وانقطعت العصمة والعهد الذي بيننا. يقول ابن إسحاق: (نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام، وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك) والعهود كانت كثيرة مع قبائل العرب، فمنهم من عوهد إلى أجل معلوم، فصلح الحديبية كانت مدته عشر سنوات، ومن سنة ست من الهجرة بدأ تنفيذ صلح الحديبية، وكانت هناك عقود أخرى مع بعض القبائل، لكنها عهود غير مؤقتة، وبعضها كانت عقود مؤقتة، إما أقل من أربعة أشهر، وإما أكثر من أربعة أشهر، فهذه السورة نزلت لبيان انتهاء نوع من هذا العقود كما سوف نبينه إن شاء الله تعالى. قوله: (فكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك) أي أن أي شخص يريد البيت الحرام فلا يصده أحد؛ كذلك لا يخوف ولا يعتدى على أحد في الشهر الحرام، وكانت هناك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب إلى آجال مسماة، فنزلت فيهم وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله تعالى سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون. وقال ابن كثير: وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهَمّ بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، ولهم عادة سيئة وقبيحة من بدع الجاهلية أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة بلا ثياب، فكره النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج معهم، وهم يطوفون حول البيت بهذه الهيئة القبيحة، فكره صلى الله عليه وسلم مخالطتهم، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة؛ ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادى بالناس: ((بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، فلما قفل أتبعه بـ علي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عنه صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له كما يأتي؛ لأن علي بن أبي طالب من عصبة النبي عليه الصلاة والسلام وابن عمه، فبعدما بعث أبا بكر لذلك أكد بإرسال علي ليبلغ باسمه المشركين بانقضاء هذا العهد: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

تفسير قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين)

تفسير قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين) قال تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:2]. ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) فقولوا لهم: سيحوا في الأرض، أي: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، فلكم مدة أربعة أشهر، وهذا الخطاب موجه لطائفة معينة من المعاهدين سوف نبينهم إن شاء الله، أي: لكم أن تسيروا في الأرض بحرية لمدة أربعة أشهر، وقد بيَّن الله تعالى في سورة الأنفال أن المسلمين بينهم وبين المشركين عهد: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فهذا نبذ للعهد، وإعلان لانقضاء العهد، وهناك مهلة زمنية لكم تتحركون فيها بحرية لمدة أربعة أشهر لا يتعرض لكم أحد، لكن بعد انتهائها، لا يوجد عهد بيننا وبينكم. وتبدأ هذه الأربعة أشهر من يوم النحر؛ لأنه بعد ذلك قال: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] أي: يوم النحر، فهي من أول أيام عيد الأضحى إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر. والمقصود من هذا الأمر: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) أي: أنتم آمنون، فسيروا في الأرض حيث شئتم، فالمقصود تأمينهم من القتل وتفكرهم واحتياطهم ليعلموا أنه ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم، وهذه الأربعة الأشهر كانت عهداً لمن له عهد دون الأربعة الأشهر فأتمت له، فإن من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت لقوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة:4]، ويوضح هذا العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:1 - 2]، فيقول الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ) فقوله: (الذين) تفيد عموم أي فئة من المعاهدين من الكفار: ((إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))، فظاهر الآية يفيد العموم، عموم كل من عاهده المسلمون، فَيُفهم منها أنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)) أنه لا عهد لكافر، فمعناها: بعدما تمر أربعة أشهر، لا يبقى لأي كافر على الإطلاق مهما كانت مدة عهده عهد، وتكون نبذت ونقضت جميع العهود، وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء، والذي يبينه القرآن الكريم ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده المؤقت أقل من أربعة أشهر، يعني: هذه البراءة وهذا الكلام بلفظ العهود، يتناول طائفتين من الناس، الأولى: هي طائفة أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، فهؤلاء أول من يقصدون بهذه البراءة، الذين هم أصحاب العهود المطلقة التي لم يحدد لها أجل أو نهاية، هذا هو القسم الأول. القسم الثاني: من كانت مدة عهده مؤقتة ومؤجلة لأقل من أربعة أشهر. وقد روى الأئمة هاهنا آثاراً كثيرة فيما يتعلق بنزول هذه السورة المباركة، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ فأراد الحج -أراد أن يحج في هذه السنة- ثم قال: (إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج)، أبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج، والحال أن المشركين على عادتهم القبيحة، فلم يحب أن يحج ولا أن يذهب إلى البيت إلا بعد أن يقضي على هذه العادة القبيحة، فأرسل أبا بكر وعلياً فطافا بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد أن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يؤمنوا، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فهو له إلى مدته، فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج الذي كانوا عليه في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، يعني: يعلنون للناس في منى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بـ علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، يعلن عليهم هذه البراءة، وقال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منىً يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وإنما قيل: (يوم الحج الأكبر)؛ لأن الناس عادتهم أنهم يسمون العمرة: الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام إلى آخره. وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه في رواية أخرى: فكنت أنادي حتى صحل صوتي، -بالصاد- يعني: بح صوتي من كثرة ما كان يعلن في الموسم هذا البيان.

تفسير قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم)

تفسير قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]، من أقبح أنواع اللحن هنا أن يقال: أن الله بريء من المشركين ورسولِهِ -والعياذ بالله- ولو قصدها رجل ربما كفر، لأن عطف الرسول على المشركين (بريء من المشركين ورسوله) معناه: أن الله بريء أيضاً من الرسول عليه الصلاة والسلام! وهذا من أقبح ما يقع من اللحن، فيجب أن ينتبه إلى ذلك. {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [التوبة:3] أي: إن تبتم -أيها المشركون- من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد فهو خير لكم من الإقامة على الشرك والضلال والفساد. {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [التوبة:3] يعني: عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة:3] أي: غير فائتين أخذه وعقابه، لن تفوتوا الله سبحانه، بل الله قادر عليكم وإن أمهلكم. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:3] وكلمة (بشّر) هذه فيها نوع من التوبيخ والتهكم الشديد (وبشر الذين كفروا) يعني: الذين جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] فالشخص إذا سمع كلمة (بشّر) يفرح ويتوقع كلاماً يكون بشرى، وأن هذه بشارة فإذا سمع: (بعذاب أليم) يصدم بصدمة عكسية؛ لأنها عكس ما تؤديه كلمة البشارة، فهذا فيه تهكم بهم. (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) أي: موجع يحل بهم، وفيه من التهكم والتهديد ما فيه، كي لا يظن أن عذاب الدنيا لو فات وزال خلصوا من العذاب، فإن العذاب الشديد معد لهم يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا إن الله يحب المتقين)

تفسير قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً إن الله يحب المتقين) ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر: من له عهد مؤقت، فكل ما مضى يتعلق بطائفتين: الأولى: من كان له عهد مدته أقل من أربعة أشهر فهذه المدة تكمل إلى أربعة أشهر. الثانية: من كان له عهد مطلق غير مؤقت بوقت، فإنه يرد إلى أربعة أشهر. ويبقى هنا استثناء فيمن كان له عهد مؤقت مؤجل إلى مدة مضروبة عوهد عليها تزيد على مدة الأربعة الأشهر، فقال سبحانه وتعالى: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] يوجد شرط {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]. قوله: (ثم لم ينقصوكم شيئاً) يعني: لم ينقصوكم شيئاً من شروط هذا الميثاق والعهد الذي بينكم وبينهم، فلم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط، وفي قراءة: (ثم لم ينقضوكم شيئاً) يعني: ثم لم ينقضوا عهدكم شيئاً، من النقض، وكلمة (ثم) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمام المدة، يعني: مع أن المدة تتطاول وتمر، لكن ثبت أنهم مواظبون وملتزمون بالعهد، فكلمة (ثم) تفيد أنهم ثابتون على العهد محترمون الميثاق مع تمادي المدة؛ لأن هذا التمادي تدل عليه كلمة (ثم لم ينقصوكم شيئاً). (ولم يظاهروا) يعني: لم يعاونوا عليكم أحداً أي: عدواًَ من أعدائكم (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ما هي هذه المدة؟ التفسير الأرجح -والله أعلم- أن المدة هي المدة الثابتة في الاتفاق، وقد تزيد على أربعة أشهر، لكن هناك قول لـ مجاهد أن (أل) هنا للعهد، فالمدة هي إشارة إلى أربعة أشهر. ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك منبهاً على أنه من باب التقوى فقال عز وجل: (إن الله يحب المتقين) يعني: فاتقوه في المحافظة على العهود وعدم نقضها.

تفسير قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم إن الله غفور رحيم)

تفسير قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم إن الله غفور رحيم) قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:5]. (فإذا انسلخ) يعني: انقضى، (الأشهر الحرم) والأشهر الحرم هي مدة الإمهال، هذا هو الراجح، فلا تفسر بقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36]؛ لأن هذه الأربعة الحرم هي عبارة عن شهر رجب، ثم ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وهذه الأشهر الحرم ليست متصلة؛ لأن شهر رجب منفرد لوحده، ثم هذه الشهور الثلاثة الأخرى التي هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم متصلة؛ لكن سياق الكلام هنا واضح في أن المقصود بقوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) أنها أشهر متصلة بعضها ببعض، {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] فلذلك فإن الراجح هنا: تفسير الأشهر الحرم بأنها أشهر الإمهال الأربعة، وليست الأشهر الحرم التي ذكرت في موضع آخر في هذه السورة الكريمة. (فإذا انسلخ) يعني: إذا انقضى، (الأشهر الحرم) أي: أشهر الإمهال التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أي: في أي مكان في حلّ أو في حرام. قال ابن كثير: هذا عام والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، يعني أن: بعض المفسرين قالوا: (حيث وجدتموهم) هذه عامة في أي مكان تجدوهم فيه حتى لو كانوا داخل الحرم الشريف، لكن الإمام ابن كثير يقول: هذا وإن كان ظاهره أنه عام، لكن المشهور أنه يخصص، فلا ينبغي أن يقتل الكافر داخل الحرم لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191]. ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ)) يعني: ائسروهم أسراً (واحصروهم) أي: احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتخبطوا في سائر البلاد، (واقعدوا لهم) اقعدوا لقتالهم (كل مرصد) يعني: في كل طريق وممر، (فإن تابوا) أي: عن الكفر، (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) يعني: اتركوا التعرض لهم. (إن الله غفور رحيم) أي: يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر. يوضح الشنقيطي رحمه الله تعالى هنا المقصود من قوله تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ))، وقد بينا أن الأشهر الحرم تبدأ من يوم النحر؛ لأنه هو يوم الحج الأكبر على الراجح، وقيل: يبدأ من يوم عرفة باعتبار قول من يذهب إلى أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة، قال رحمه الله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم)، اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية، فقال ابن جرير: إنها المذكورة في قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، قاله أبو جعفر الباقر. لكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ))، قال ابن كثير: والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه، وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها: الأشهر الأربعة المشار إليها بقوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)). ثم قال: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ)) أي: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ومعنى هذا الكلام أن قوله تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ)) فالأشهر هنا (أل) فيها للعهد، وهذا العهد يعود على مذكور وهو قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ))، فالعهد يعود هنا إلى مذكور، وهو أولى من أن يعود إلى مقدر وهو الأشهر التي في قوله: (منها أربعة حرم) مع أن هذه الأشهر الأربع الحرم سيأتي حكمها فيما بعد في آية أخرى. ولذلك يكرر الشنقيطي هنا قول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى فيقول: ما ذكرناه من أن المراد بالأشهر الحرم، أشهر العهد، هو الذي اختاره الأكثرون، سماها حرماً لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم، فسميت حرماً هنا؛ لتحريم الدماء في هذه الفترة التي هي: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)، فسميت حرماً لتحريم التعرض للمشركين فيها وتحريم قتالهم خلال هذه الأربعة الأشهر، فالألف واللام للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة. ومعنى قوله: وضع المظهر موضع المضمر، يعني أنه تعالى قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ومقتضى السياق أن يقول الله سبحانه وتعالى (فإذا انسلخت) يعني: الأربعة أشهر التي سبق ذكرها من قبل في قوله: ((فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ))؛ لكنه عدل عن التعبير عنها بسياق الغيبة إلى قوله: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ))، لأنه إذا عبر عنها بالغائب، فلن يمكن وصفها بكونها حرماً، لكن لما قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) أمكن هنا: أن توصف بكونها حرماً، بخلاف ما لو استعمل المضمر، فإنه لن توجد كلمة (الحرم) والمقصود بوصفها حرم أنه يحرم فيها قتل المشركين والتعرض لهم خلالها؛ فلذلك يقول هنا: فالألف واللام: للعهد، يعني: الأشهر التي سبق الكلام عليها آنفاً قريباً، ووضع المظهر، وهي كلمة الأشهر، موضع المضمر فلم يقل: فإذا انسلخت، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) تأكيداً لما ينبه عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم؛ لأن قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) أي: قولوا لهم: سيحوا وسيروا في الأرض آمنين أربعة أشهر، فهنا وصفها تأكيداً لهذا المعنى، الذي هو الأمان لهم في خلال أربعة أشهر، بأن قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) فهذا تأكيد؛ لأن دماءهم يحرم التعرض لها في خلال هذه الأشهر، مع ما فيه من مزيد من الاعتناء بشأن هذه الأشهر، وقيل: المراد بالأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روي ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير وضعِّف، أي: ضعف هذا القول؛ لأنه لا يساعده النظم الكريم، لأنه يأباه ترتبه عليه بالفاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ))، فهذا مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشياء: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) يعني: مجرد أن ينقضي تواليها حينئذ تنتهي، فالترتيب بالفاء يدل على التوالي، والأشهر الحرم المذكورة في الآية الأخرى: (منها أربعة حرم) غير متوالية، فرجب مفرد، ثم بعد ذلك: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، على طرد ونسق واحد. قال ابن القيم: (الحرم هنا، هي أشهر التسيير: فسيروا في الأرض أربعة أشهر، أولها: يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة بقوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36]، فإن تلك واحد فيها فرد هو رجب، وثلاثة فرد هي ذو القعدة وتالياه، ولم يسير المشركون في هذه الأربعة فإن هذا لا يمكن؛ لأنها غير متوالية، وهو إنما أجزأ لهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم) وبالعقل: لو أن المقصود: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) الأشهر الحرم التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فإن عندنا الأشهر التي بين رجب وذو القعدة وهي شعبان، رمضان، شوال، وعلى هذا تكون سبعة أشهر، فالأشهر الحرم في قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) يكون معناها: عدوا سبعة شهور وليس أربعة شهور، فالأقرب هنا والراجح: أنها أربعة أشهر كما ذكرنا. ثم قال تبارك وتعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))، الأمر بتخلية السبيل معلّق على شروط ثلاثة: الأول: (فإن تابوا) أي: عن الشرك، ووحدوا الله سبحانه وتعالى ودخلوا في الإسلام. الثاني: إقام الصلاة. الثالث: إيتاء الزكاة، فحيث لم تحصل هذه الشروط جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر؛ ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه! يعني: قتال أبي بكر رضي الله تعالى عنه لمانعي الزكاة، وليس كل قتال أبي بكر كان قتالاً للمرتدين، وقد أطلقت كلمة: حرب الردة تغليباً؛ لأن من امتنع من أداء الزكاة قاتلهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه باعتبارهم ممتنعين عن شريعة من شرائع الإسلام، ولا يلزم من هذا تكفيرهم، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل، ولكن سأشير إليه هنا إشارة عابرة، وذلك لأن بعض الإخوة يتعاملون مع المراجع الفقهية بطريقة تحتاج لنوع من التحذير، فحينما ينقلون إجماع العلماء على أنه يجب على الإمام مقاتلة الطائفة التي تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام، كما هو مشهور ومعروف من كلام ابن تيمية وغيره من الأئمة، حتى لو ا

تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)

تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) قال عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6] يعني: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، وهذا يكون بعد انقضاء مدة العهد التي هي الأربعة أشهر. (وإن أحد من المشركين استجارك)؛ لأنك تقدر على قتله، فلو كان لفترة العهد يكون غير وارد أصلاً أن يقتل؛ لوجود عهد، ووجود مدة المهلة التي هي أربعة أشهر؛ لكن الكلام هذا بعد انقضاء الأربعة أشهر، ويمكن أن يكون هذا في المشركين الذين لم يكن لهم عهد، وهم الذين نقضوا العهود وأمر بقتالهم. فالمعنى: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي: استأمنك، فاستجارك: يعني طلب الجوار والأمان، واستأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجره إلى طلبته (حتى يسمع كلام الله) أي: القرآن الذي تقرأه عليه ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يرد إلى مأمنه، فلا تتعرض له، بل لا بد أنك توصله إلى المكان الذي يأمن فيه مثل قبيلته أو بيته أو بلدته، فإذا دخل بيته وداره وأوصلته بأمان فبعد ذلك يمكن أن تقاتله؛ لكن لا بد أن تبلغه إلى المكان الذي يأمن فيه، فانظر إلى عظمة الإسلام، وكيف أنه يحترم العهود حتى مع الكافرين! (ثم أبلغه مأمنه) تقيم عليه الحجة أولاً، وتعلمه القرآن، وتفهمه التوحيد، ثم بعد ذلك إن أجابك فهو مسلم، له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، أما إن أبى فإنه يجب عليك أن توصله إلى مكان الأمان الخاص به إما بيته أو قبيلته التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت بعدما يأمن ويصل إلى مأمنه. (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (ذلك) يعني: أن هذا الأمر بالإجارة وبإبلاغه المأمن بسبب (أنهم قوم لا يعلمون) أي: أنهم جهلة، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة. وقد دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، فالمشرك إذا طلب منك الأمان وأعطيته الأمان يجب أن تحترم هذا العهد وهذا الأمان ولا تتعرض له بسوء، فمن الغدر أن الإنسان بعدما يؤمن شخصاً يقتله. ومن قلة الفقه ما سمعناه أن بعض الجنود الأفغان الذين يؤمرون بالخروج في جيوش الشيوعيين، وكان هناك بعض المجاهدين الجهلة الذين لم يكن عندهم فقه، يقول لهم الرجل من هؤلاء: لا إله إلا الله، ويبين لهم أنه مسلم، وأنه أكره على الخروج في حرب المجاهدين ومع ذلك فإنهم -هداهم الله- يقتلونه بمنتهى البساطة! فهذا من الجهل، ونظائر ذلك تحصل كثيراً في أماكن أخرى ولا داعي لأن نفجر الجراح من جديد؛ ولكن من أقسى ما سمعناه ما أذيع بالأمس، ونرجو أن يكون هذا الخبر كاذباً؛ لأنه لا يتصور أن يصدر من مسلم على الإطلاق، وأنا لا أكاد أصدق أن إنساناً عنده دين أو ينتسب إلى الإسلام -حتى لو كان فاسقاً أو شارب خمر- يفعل هذه الأشياء؛ فقد أذيع بالأمس أنه في الجزائر، ومعلوم أن الذي يذيع هذه الأخبار وكالات إعلام وأنباء أجنبية، يحتمل أن تكذب وتقصد بذلك التشهير، أن بعض الشباب المسلم في الجزائر أوقفوا سيارة وانتقوا منها من هم في سن التجنيد شباب، وذبحوهم ذبحاً بالسكاكين! وأرجو أن يكون هذا الكلام كاذباً؛ لأنه ليس من الممكن أن مسلماً يفعل هذا الفعل أبداً بأي صورة، وأن تراق الدماء بهذه الطريقة. إذا كان الله سبحانه يضع للمشرك نفسه هذه الحرمة أنه إذا استأمنك فإنك تؤمنه، فما بالك بما يحصل الآن؟! وأنا أستبعد أن يوجد من الإسلاميين في الجزائر من يصل جهله إلى هذا الحد، أشياء مؤلمة جداً نسمعها؛ ولكن الذي يخفف عنا أن بعض من يتبع المخابرات الحكومية في الجزائر هرب إلى فرنسا، وأعلن هناك في الجرائد أنه أكره على أن يقوم بقتل بعض المدنيين، ثم يدَّعون بعد ذلك أن المسلمين هم الذين قتلوا هؤلاء، فلعل هذا هو الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسان يستريح، وأن تكون يد المسلمين نظيفة من مثل هذه الحماقات وهذا التجرؤ على حرمات المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فكيف بلا إله إلا الله؟!) كما في قصة أسامة بن زيد. الوصية الأبدية التي نوصي بها أنفسنا وكل أخ: إياك وإراقة دم مسلم بغير حق، إياك وإراقة الدماء، فإن المرء لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، أما إذا أراق دماً حراماً فهذه من الورطات التي لا يكاد يوجد مخرج لمن أوقع نفسه فيها، فالإنسان يجبن عند دماء المسلم، مهما يكن الأمر لا يتأول ولا يجترئ على هذه الحرمات المقطوع بحرمتها، والمحرمة يقيناً، فلا ينبغي أن تزول هذه الحرمة إلا بيقين مثله. أما ما يحصل من المهاترات والجهل، جهل هؤلاء الناس بالفقه وبحدود الله سبحانه وتعالى، فإنهم يسيئون من حيث يزعمون الإحسان، فحرمات المسلمين ليست بهذه الخفة وبهذه الحقارة حتى تنتهك بهذه الصورة التي نشهدها. يقول القاسمي: دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكن من العود من غير غدر به ولا خيانة؛ ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر، فروى البخاري في تاريخه والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً)، لأن هذا غدر، والمسلم لا يغدر. وروى أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)، وقال ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء الرسالة أو التجارة أو طلب صلح، أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه. يعني: أن أي كافر حتى لو كان المسلمون في حالة حرب مع دولة كافرة -وهذا كلام أهل الفقه وأهل السير والجهاد- فدخل الكافر بعهد وبأمان إلى بلاد المسلمين، فيجب على جميع المسلمين أن يحترموا العهد، أعرف أن هذا الكلام قد يصدم عواطف كثير من الناس؛ لكن المسألة ليست بأمانيكم، وليست بعواطفنا؛ لكنها حدود الله سبحانه وتعالى، فهذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: أنه ينبغي ما دام دخل بعهد وبأمان أن يحترم هذا المعاهد ولا يتعرض له بسوء إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه؛ لأن التعرض لشخص أعزل ليست بطولة، ليست بطولة أن الإنسان يتعرض لرجل أعزل ما معه سلاح وما دخل ليقاتل، دخل لسبب من الأسباب بغض النظر عن هذا السبب، فلا يقتل ما دام أنه قد أمّن، وفي هذا العصر الأمان يعتبر: (الفيزة) والتأشيرة، فهذا يعتبر عهد أمان، وكما ينبغي أن يفعل ذلك في ديارنا، فنحن أيضاً لا نخلو من مئات وآلاف المسلمين يذهبون إلى بلاد هؤلاء الكفار للأمان، فهل نقبل أن المسلم يدخل بلادهم بأمان ثم ينقض عهده وأمانه ويتعرض له بسوء في داخل بلادهم؟! فنفس الشيء إذا دخل الكافر بلاد المسلمين بعهد وبأمان فلا ينبغي أن ينقض عهده، وسبق أن نبهنا على هذا المعنى في مناسبة سابقة. يقول ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه. وقال القاسمي: وإنما يجار ويؤمن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، يعني: لا يعطى العهد إلا لشخص نأمن أنه يريد الخداع والمكر؛ لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله: (حتى يسمع كلام الله) لكن لو شككنا في أن أحداً يتجسس، فهذا أصلاً لا يعطى الأمان، والذي يعطي الأمان الآن هي السفارات والقنصليات كما تعلمون. وقال: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله لإقامة الحجة عليه، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن كلام الله بحرف وصوت قديمين وهم الحنابلة ومن وافقهم كـ العضد، قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق (حتى يسمع كلام الله) فالذي يسمع كلام الله المشرك، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام الله هو هذه الحروف والأصوات، وهنا خطأ مطبعي، يبدو أن كلام القاسمي هو: فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات، فأعتقد أن كلمة (ليس) هذه غير صحيحة. والقول: بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله: كلام الله، إلا لها، وقد اعترف الرازي -مع أنه أشعري- بقوة هذا لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] بسط لهذه المسألة. التنبيه الأخير: يقول الرازي دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال؛ وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً لوجب ألا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فلما لم يقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنة؛ علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل؛ فلهذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال: (فأجره حتى يسمع كلام الله) وتقوم عليه الحجة وتصله البراهين، كما أن النقاش مع الكافر أو دعوته إلى الإسلام لا يشمل دخول: أسلم وإلا أقتلك، لكن إن استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، فيعطى فرصة ليفهم، وليس هذا فحسب، بل وتبلغه مأمنه.

التوبة [7 - 28]

تفسير سورة التوبة [7 - 28]

تفسير قوله تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله)

تفسير قوله تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله) قال الله تبارك وتعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7]، في هذه الآية وما بعدها يبين الله سبحانه وتعالى الحكمة في البراءة من المشركين، وإنظاره إياهم أربعة أشهر، ثم بعدها السيف المرهف، فقال عز وجل: ((كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ)) أي: أمان. قوله: ((عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ)) يعني: وهم كافرون بهما، فهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد. قوله تعالى: ((إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) يعني بذلك: أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين. ثم قال: ((فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ)) يعني: إذا لم يزالوا مستقيمين على عهدهم مراعين لحقوقكم فاستقيموا لهم على عهدهم. ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) يعني: فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على العهد الذي ثبت بينكم وبينهم. قال ابن كثير: وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون، فاستمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد، ومالئوا حلفاءهم -وهم: بنو بكر- على خزاعة، فقتلوهم في الحرم، وخزاعة كانوا أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان، ففتح الله على يديه البلد الحرام، ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم، فسموا الطلقاء، وكانوا قريباً من ألفين. أما من استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بعث إليه بالأمان والتسليم في أربعة أشهر، {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] أي: يذهب حيث شاء، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما، ثم هداهم الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام.

تفسير قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلا ولا ذمة)

تفسير قوله تعالى: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة) قال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة:8] أي: كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم -بعدما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق- لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة؟! (إلاً) أي: قرابة، (ذمة) أي: عهد. وهذه الجملة مردودة على الآيات الأولى، فإنه قال أولاً: (كيف يكون للمشركين) ثم قال رداً عليهم ثانياً: (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاً ولا ذمة؟!) كيف يكون لهم عهد وحالهم ما ذكر؟! وفي هذا تحريض للمؤمنين على التبرؤ منهم؛ لأن من كان أسير الفرصة، مترقباً لها، لا يرجى منه دوام العهد، وهذه طبيعة المشرك الذي لا يخشى الله ولا يتقيه، وديدنه الغدر ونقض العهود والمواثيق. ثم استأنف تبارك وتعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد، فقال عز وجل: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8]، (يرضونكم بأفواههم) أي: بالكلام المعسول والكلام الطيب. (وتأبى قلوبهم) يعني: وتنفر قلوبهم. (وأكثرهم فاسقون) متمردون لا عقيدة تسعهم، ولا مروءة تردعهم. وقال: (وأكثرهم) ولم يقل: وكلهم فاسقون؛ لما في بعض الكفرة من التجافي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء، وقد كان كثير من المشركين يتصون ويتعفف عن كثير من الخصال المذمومة كالكذب والغدر والخيانة، كما قال أبو سفيان أيام كفره لما قابل هرقل: فوالله! لولا أن يؤثر علي كذب لكذبت عليه.

تفسير قوله تعالى: (اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا)

تفسير قوله تعالى: (اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً) قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [التوبة:9] (اشتروا) أي: استبدلوا بآيات الله. (ثمناً قليلاً) يعني: من متاع الدنيا، والمقصود: أهويتهم الفاسدة. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [التوبة:9] أي: فعدلوا عنه أو صدوا غيرهم، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:9].

تفسير قوله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة)

تفسير قوله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة) قال تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] يعني: المجاوزون الغاية في الظلم والمساوئ، وهذه هي طبيعة الكفر، وطبيعة الشخص الذي لا يؤمن بالله ولا يتقي الله سبحانه وتعالى إذا أمكنته الفرصة، وفي هذه السنوات الأخيرة تتجلى لنا هذه الطبيعة بصورة فاجرة لم يسبق لها مثيل تقريباً، فأنت ترى العالم كله يتنادى بما يسمونه حقوق الإنسان والمواثيق والعهود الدولية وقرارات مجلس الأمن إلى آخر هذه الخزعبلات، ثم هذه الأشياء تطبق على كل الناس إلا مع المسلمين، يستثنى المسلمون فيها، فحينما تنتهك حرماتهم وتسفك دماؤهم فلا حقوق إنسان ولا قوانين ولا معاهدات دولية ولا أي شيء من هذا، مادام هؤلاء مسلمين! كان ياسر عرفات يتحدث مع بعض الصحفيين ومنهم يهود، فكانوا يقولون له: ما هذا الذي تفعله السلطة الفلسطينية من القتل والتعذيب، وإهانة الشعب الفلسطيني، واعتقال الناس وتعذيبهم، حتى أن كثيراً منهم يموت في السجون من التعذيب؟! فرد عليهم ياسر عرفات قائلاً: لا تنسوا أننا نتعامل مع الإرهابيين، يعني: يريد أن يذكرهم بهذه القاعدة المتفق عليها بينهم، وكان يقصد حماس! فهؤلاء المنافقون واليهود لا يتذكرون حقوق الإنسان إلا مع غير المسلمين، أو مع أهوائهم، أما مع المسلمين فيستعملون الغدر والخيانة ونقض العهود، وما رأيناه في البوسنة والهرسك، وما نراه الآن في الشيشان، وما يحصل في فلسطين من غدر اليهود ونقضهم العهود، كل ذلك مما يجعل لمثل هذه الآيات الكريمات وقع خاص في نفوسنا الآن بعد التجارب المريرة التي ذقناها، فكأنها تتحدث فيما نعيشه اليوم!

تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة) قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة:11] يعني: إن تابوا عما هم عليه من الكفر. قوله: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] يعني: لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فعاملوهم معاملة الإخوان، وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم مالا مزيد عليه. قوله: {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11]، هذه جملة معترضة؛ للحث على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.

تفسير قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم)

تفسير قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) قال تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة:12] أي: إن نقضوا أيمانهم. قوله: {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] يعني: فقاتلوهم، وإنما أوثرت هذه الصيغة وهي قوله تعالى: ((فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ))، للإيذان بأن الذين قاموا بذلك ذوو رياسة وتقدم في الكفر، فهم أحقاء بالقتل والقتال. وقيل: المراد بالأئمة: رؤساؤهم وصناديدهم، وتخصيصهم بالذكر: إما لأهمية قتلهم لكونهم مظنة لها، أو للدلالة على استئصالهم، فإن قتلهم غالباً يكون بعد قتل من دونهم، لأنه لا يوصل إلى الرءوس إلا بعد هلاك من دونهم من الحراس ومن حولهم كما هو معروف في الحروب، فإنه يصعب أن يوصل للقائد حتى يهلك من حوله. {إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12] (إنهم لا أيمان لهم) جمع يمين، يعني: لا عهود لهم على الحقيقة، حيث لا يراعونها ولا يعدون نقضها محذوراً، فهم وإن نطقوا بها لا عبرة بها، وفي قراءة: (إنهم لا إيمان لهم) يعني: لا إسلام ولا تصديق لهم حتى يرتدعوا عن النقض والطعن، فإن كان عندهم إيمان وإسلام فدين الإسلام يردع ويزجر الإنسان من الغدر والخيانة. (لعلهم ينتهون) يعني: عن الكفر والطعن ويرجعون إلى الإيمان.

تفسير قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم)

تفسير قوله تعالى: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم) ثم حض الله على قتالهم بتهييج قلوب المؤمنين وإغرائهم بقوله سبحانه وتعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13] (نكثوا أيمانهم) يعني: الأيمان التي حلفوها في المعاهدة. (وهموا بإخراج الرسول) يعني: من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، فهذا نعي عليهم بجنايتهم القديمة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى أيضاً: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1]، وقال أيضاً: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]، وقال عز وجل أيضاً: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40]، وقال عز وجل: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء:76]. قوله تعالى: ((وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) يعني: بالقتل يوم بدر، حين خرجوا لنصر عيرهم، فلما نجت العير وعلموا بذلك استمروا في السير طلباً للقتال بغياً وتكبراً وقالوا: كلا، لابد أن نمكث، ونشرب الخمر، وتعزف القيان، وينتشر بين العرب أننا لا نخاف أحداً. وقيل: وهم بدءوكم أول مرة بنقض العهد، وقتالهم مع حلفائهم بني بكر خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى صار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وكان ما كان. وقال الزمخشري: قوله تعالى: ((وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) يعني: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة -البداية لحن من حيث اللغة والفصيح البداءة- لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال، فهم البادئون بالقتال، والبادي أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟! ((أَتَخْشَوْنَهُمْ))، أهذا هو المانع من قتالهم؟! يعني: أتخافون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم؟! ((فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، فالله أحق أن تخشوه لمخالفة أمره وترك قتالهم. ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))؛ لأن الإيمان الصحيح هو الإيمان الذي يجعل صاحبه لا يخشى إلا ربه، ولا يبالي بمن سواه، كقوله تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39].

تفسير قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم)

تفسير قوله تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ثم أمر تعالى المؤمنين بالقتال مبيناً حكمته فقال سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، (قاتلوهم يعذبهم الله) يعني: بآلام الجراحات والموت. (بأيديكم) يعني: ينصركم الله عليهم، ويغلبكم عليهم. (ويخزهم) بالأسر والاسترقاق، فيجتمع في حقهم العذاب الحسي: بالجراحات والموت، والمعنوي: بالرق. (وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين) يعني: يشفي صدور قوم مؤمنين ممن لم يشهد القتال، فإنه إذا علم ذلك شفي صدره. {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:15]، (ويذهب غيظ قلوبهم) يعني: بما كابدوا من المكاره والمكايد. (ويتوب الله على من يشاء) أي: فيحصل لكم أجرهم. (والله عليم حكيم) أي: في أفعاله وأوامره. وقد أنجز الله سبحانه وتعالى لهم هذه المواعيد كلها، فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة، دالة على صدقه وصحة نبوته. وفي هذه الآيات بيان لبعض الحكم من تشريع الجهاد في الإسلام، (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) ولم يكن قبل موسى عليه السلام قد شرع الجهاد، وإنما كان العذاب يأتي على الكفار من السماء: إما بالصاعقة، وإما بالصيحة، وإما بالزلازل والخسف وغير ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} [القصص:43]، (من بعد موسى) يعني: كانت القرون قبل موسى تهلك بعذاب من عند الله، لكن في شريعة موسى شرع الجهاد، لماذا؟ لما فيه من هذه الحكمة؛ لأن المؤمنين إذا أمروا بمقاتلة الكفار بأيديهم، فهذا يكون أشفى لصدورهم؛ حين ينتقمون من هؤلاء الذين أذاقوهم العذاب، وحاربوا دين الله سبحانه وتعالى، فهذه من حكم الجهاد.

تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم)

تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) قال تعالى مبيناً حكمة تشريع الجهاد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} [التوبة:16] يعني: تتركوا على ما أنتم عليه دون أن تؤمروا بالجهاد، {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة:16]، قوله: (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) يعني: بطانة، يفشون إليهم أسرارهم، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، ولما يتبين الخلص من المجاهدين من غيرهم، بل لابد أن تختبروا حتى يظهر المخلصون منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ولوجه الله، (ولم يتخذوا وليجة) لم يتخذوا بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وفي الآية اكتفاء بأحد القسمين، وهذه من الأساليب الفصيحة عند العرب وهو: الاكتفاء بذكر أحد القسمين والإعراض عن الآخر؛ لوضوح الدلالة على وجوده، كما قال تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81]، ولم يذكر البرد؛ لأن هذا مفهوم. كذلك هنا قال عز وجل: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً)، ولم يقل: من غيرهم وهم المقصرون، واكتفى بذكر أحد القسمين ولم يتعرض للمقصرين؛ لأنهم بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين، وهذا كما قال الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضاً أريد الخير أيهما يليني أي: أريد الخير أو الشر، وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، وكلها تفيد أن الجهاد شرع لاختبار المطيع من غيره.

تفسير قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله)

تفسير قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]، (ما كان للمشركين) يعني: ما صح لهم ولا استقام. (أن يعمروا مساجد الله) أي: المساجد التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له، ما كان لهم أن يعمروا شيئاً منها، ولا شك أن هذا يدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أولياً، إذ نفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد، فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية. وقرئ: (ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله) بالتوحيد، تصريحاً بالمقصود، وهو: المسجد الحرام، أشرف المساجد في الأرض، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأسسه خليل الرحمن. قوله: (أن يعمروا مساجد الله) إما أن العمارة هنا بمعنى: حفظ البناء، أو من العمرة؛ لأن العمرة معناها: الزيارة، يعني: يزوروا مسجد الله، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا، يعني: أقمت به. (شاهدين على أنفسهم بالكفر) يعني: بلسان الحال وبلسان المقال. (أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون)، وهذا كقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34].

تفسير قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر)

تفسير قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، قوله: (ولم يخش إلا الله) يعني: ولم يعبد إلا الله. (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) يعني: من المهتدين إلى الجنة، وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات الحسنة في معرض التوقع والذي عبر عنه بكلمة عسى؛ لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محصلون الكمالات، مع أن المؤمنين متصفون بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهم متعلقون بالرجاء، ولا يقطع بنجاتهم أو اهتدائهم، فماذا يصنع الكافرون الذين لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة ولم يخشوا الله سبحانه وتعالى؟! وفي هذا تنبيه للمؤمنين على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، ورفض الاغترار بالله تبارك وتعالى. والمقصود: أن حال هؤلاء المؤمنين حال مرجوة، والعاقبة عند الله معلومة: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، والأعمال بالخواتيم، ولا يدري المؤمن -حتى لو تحلى بكل صفات الإيمان- بما يختم له! والأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان هي إمارة تشير إلى أنه يرجى له أن يكون من أهل الجنة، لكن لا يقطع بذلك، فليست علة موجبة، لماذا؟ لأن الأعمال بالخواتيم، والخواتيم مغيبة. قال الزمخشري: العمارة تتناول رم ما استرم منها، والرم: الإصلاح. وقمها -أي: جمع القمامة- أيضاً من عمارة المساجد، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر، ومن الذكر درس العلم بل هو أجله وأعظمه، وصيانتها مما لم تبن له المساجد كالبيع والشراء فيها، فينبغي على المؤمنين أن يراعوا حرمات بيت الله عز وجل، وكل ما يرغب الناس في الإتيان إلى المسجد للصلاة والذكر وحضور مجالس العلم فهو من عمارة المساجد، وكل ما ينفر من حضور المسجد وتعميره فهو من تخريب بيوت الله سبحانه وتعالى، وصد الناس عنها. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح). وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنة).

تفسير قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر)

تفسير قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) قال تبارك وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19]، روى العوفي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله والقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد، أي: نحن نعمل أعمالاً صالحة خير من الإيمان الذي تدعوننا إليه، فنحن نعمر مساجد الله ونسقي الحجيج، فكانوا يفخرون بالحرم ويتعالون على الناس بخدمة الحجاج، ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره، وكانوا يزعمون أنهم أولياء بيت الله، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34]، فخير الله سبحانه وتعالى الإيمان والجهاد مع رسوله على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وفضل الله سبحانه وتعالى هذا على ذاك، فقال: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ))، أجعلتم أيها المشركون. ((سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))، فبين عز وجل أن ذلك لا ينفعهم مع الشرك، وأنهم ظالمون بشركهم، ولا تغني عنهم عمارتهم شيئاً، فالكافر قد يعمل أعمالاً حسنة لكن مع عدم الإيمان لا يمكن أن تنفعه في الآخرة أبداً. فشرط العمل الصالح الذي ينتفع به في الآخرة: أن يكون صاحبه وفاعله مؤمناً، هذا أولاً. ثانياً: أن يكون مخلصاً لله، لا مرائياً. ثالثاً: أن يكون موافقاً لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والسقي هو الموضع الذي يعد فيه الشراب في المواسم وغيرها، وسقاية الحاج ما كانت قريش تسقيه للحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يليها العباس رضي الله تعالى عنه في الجاهلية والإسلام. روى الإمام مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، أي: بإسلامي وإعماري للمسجد الحرام أكون حزت الخير كله، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلته، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى آخر الآية}، وعلى هذا يكون الخطاب هنا للمؤمنين حينما اختلفوا في ذلك، كما في صحيح مسلم. ورواه عبد الرزاق في مصنفه، ولفظه: أن رجلاً قال: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام إلى آخره. فظاهر هذه الرواية أن المفاضلة كانت بين بعض المسلمين الذين كانوا يؤثرون السقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، ونزلت الآية في ذلك، مع أن الرواية الثابتة عن ابن عباس تنافيه، لأنها تفيد أن هذا كان في حق المشركين، ومما يؤيد أنها نزلت للمفاصلة بين مؤمنين بالله وغير مؤمنين -كما هي رواية ابن عباس - قوله: (كمن آمن بالله)، فلو كان الفريقان مسلمين لما قال ذلك؛ لأن كليهما قد آمن. هذا أولاً. ثانياً: وصفهم بالظالم لأجل هذه التسوية المذكورة، ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))، مما يؤيد رواية ابن عباس. يقول القاسمي -مبيناً أنه لا منافاة بين ما رواه ابن عباس، ولا بين ما ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير -: حديث النعمان يظهر أنها نزلت في اختصام المسلمين في المفاضلة بين الأمور المذكورة، ورواية ابن عباس تدل على أنها في المخاصمة بين المشركين والمسلمين. وظاهر النظم الكريم فيما قاله ابن عباس لا يرتاب فيه، وأن الآية أول ما نزلت نزلت في المخاصمة بين المشركين والمسلمين، حينما فضل المشركون سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام على الإيمان بالرسول عليه السلام، والجهاد في سبيل الله عز وجل. وقوله تعالى: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ))، هل المقصود المفاضلة هنا بين السقاية والعمارة -وهما مصدران- وبين من آمن، أم هناك تقدير؟ هناك محذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، (كمن آمن بالله واليوم الآخر)، ومثله ما جاء في سورة القتال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد:15]، فإما أن نقدر: مثل أهل الجنة كمثل أهل النار، أو نقدر: حال أهل الجنة كحال من هو خالد في النار. كذلك هنا في هذه الآية الكريمة: ((أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ)) المقصود: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر؟ أو أجعلتم من سقى الحاج كمن آمن بالله؟ فيقول هنا: لا يخفى أن السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان، فلابد من تقدير مضاف في أحد الجانبين، أي: أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله، ويؤيده قراءة من قرأ: (أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام) أو أجعلتموهما كإيمان من آمن.

تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ثم بين تعالى مراتب فضل المؤمنين إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم، فقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20]، (أعظم درجة عند الله) أعظم من أهل السقاية والعمارة، وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله -إذا قلنا أن الآية السابقة في الكافرين- فالتفصيل جائز هنا، وإن كان الأصل في أفعل التفضيل اشتراك الطرفين في الصفة، أحدهما يفوق الآخر فيها، كأن تقول: محمد أقوى من علي، فكلاهما مشترك في صفة القوة، لكن محمد أكثر من علي قوة، هذا هو الأصل. لكن أحياناً تأتي صيغة أفعل التفضيل مع عدم اشتراك الطرفين في الصفة، كما قال تبارك وتعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، يعني: من أصحاب النار، فهل معنى ذلك أنهما يشتركان في الحسن، ولكن أهل الجنة أحسن؟! A لا. إذاً: توجد هناك حالات لا تقتضي صيغة أفعل التفضيل وجود قاسم أو قدر مشترك في الصفة بين طرفي المفاضلة، كما في هذه الآية، على قول من يرى أن الخطاب إنما هو في حق المفاضلة بين المشركين والمسلمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. (أعظم درجة عند الله) يعني: أعظم من أهل السقاية والعمارة، وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله، لكن السياق هنا جاء على زعمهم ومدعاهم، على زعمهم أن لهم درجة عند الله، ودعواهم أن لهم درجة عند الله، فلذلك قال عز وجل: ((أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ)) في المؤمنين. (وأولئك هم الفائزون) هذا أسلوب حصر عن طريق المبتدأ والخبر، بمعنى: أنه لا أحد غيرهم يفوز، هم فقط الذين يفوزون، فهم مختصون بالفوز دونكم، فهم الفائزون لا أنتم، {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:21 - 22].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين عن موالاة المشركين، وإن كانوا أقرب الأقربين، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23]، (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم) يعني: أقرب الأقربين إليكم من الآباء والإخوان، لا تتخذوهم أولياء وأصدقاء، تفشون إليهم أسراركم وتمدحونهم وتذبون عنهم. (إن استحبوا الكفر) يعني: إن اختاروا وفضلوا الكفر عن الإيمان. (ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) أي: لوضعهم الموالاة في غير موضعها؛ لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فمن والى أباه أو أخاه الكافر، واتخذه صديقاً وأحبه ودافع عنه، فهذا يكون وضع الموالاة في غير موضعها، والموالاة إنما تكون في الدين، فوصفهم فقال: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، لتعديهم وتجاوزهم عما أمر الله سبحانه وتعالى به.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم)

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم) ثم أشار تعالى إلى أن مقتضى الإيمان ترك الميل الطبيعي إذا كان مانعاً من محبة الله، ومحبة واسطة الوصول إليه، ومحبة ما يعلي دينه، والمحبة محبتان: محبة طبعية ومحبة شرعية، أما المحبة الطبعية الفطرية فكمحبة الأب لابنه أو الابن لأبيه، أو الرجل لزوجته، وكمحبة أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ابن أخيه، فهذا نوع من المحبة الطبعية أو الجبلية، لكن الإيمان يقتضي أن يترك المؤمن الميل الطبيعي إذا كان هذا الميل مانعاً وحائلاً دون محبة الله، ودون محبة واسطة الوصول إلى الله، وهو: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودون محبة ما يعلي دينه وهو الجهاد في سبيل الله، فإذا كان محبة هذه الأشياء المذكورة -خاصة محبة الآباء والإخوان- تحول دون محبة الله ومحبة رسول الله ومحبة الجهاد في سبيل الله، فالإيمان يقتضي ترك هذا الميل الطبيعي وتقديم الميل والحب الشرعي عليه. فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة:24] يعني: أقاربكم الأدنون أو قبيلتكم، قال أهل اللغة: عشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنون، أقرب الناس إليه من حيث أبيه، أو قبيلته، والعشير مأخوذ من العشرة أو المعاشرة؛ من العشرة -الذي هو العدد- لأنها عدد كامل، ومن المعاشرة؛ لاختلاطهم وتقاربهم من بعض. قوله: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} [التوبة:24] يعني: اكتسبتموها. قوله: {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} [التوبة:24] أي: فوات وقت نفادها بفراقكم لها. قوله: {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} [التوبة:24] منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين. قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:24] الذي هو المنعم لكم بكل هذه النعم، من الولد والمال والمسكن وغير ذلك، فإن كانت هذه الأشياء المنعم بها تتعارض مع محبة المنعم بها، فلا ينبغي أن تسترسلوا مع الميل إليها، وتؤثروها على مرضات الله عز وجل. قوله: {وَرَسُولِهِ} [التوبة:24] وهو واسطة نعمه. قوله: {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] أي: مما يعلي دينه. قوله: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] أي: انتظروا. قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] يعني: بقضائه، وهو العذاب العاجل، أو العقاب الآجل، أو هو فتح مكة، وهذا أمر فيه تهديد وتخويف، يعني: فارتقبوا قهر الله؛ لأنكم تدعون محبة الله، ولكن في نفس الوقت واقعكم يكذب هذه الدعوى؛ لأنكم ترجحون محبة غيره على محبته سبحانه وتعالى. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] أي: الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين، والمؤثرين لما ذكر على رضاه تبارك وتعالى. وفي الآيتين الكريمتين تحريم موالاة الكفار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24]، فيحرم موالاة الكفار ولو كانوا أقرباء، وهذه الموالاة كبيرة؛ لوصف متوليهم بالظلم، في الآية أيضاً وجوب الجهاد وإيثاره على كل المشتهيات المعدودة، طاعةً لله ورسوله. قال الرازي: الآية الثانية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا. ونحن نحتاج هذه الآية كثيراً في هذا الزمان؛ لكثرة ما يتعرض له الإنسان من مواقف فيها موازنة بين الدين والدنيا، كما تأتي أسئلة كثيرة من هذا القبيل مثل: ما حكم بناء الشاليهات لهؤلاء الذين يأتون ليفسقوا فيها؟ أو ما حكم من يعمل في وظيفة فيها إعانة للعاصي على عصيانه؟ أو ما حكم بيع ملابس للمتبرجات؟ وغير ذلك، فالله سبحانه وتعالى جعل كل أعراض الدنيا هذه في كفة، وجعل محبة الله ورسوله في كفة، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). فنحن نحتاج في الحقيقة إلى تدبر هذا، والإنسان ينبغي عليه أن يستحضر أنه في حالة امتحان وابتلاء في هذه الدنيا من الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان خلق ليبتلى {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، فأنت إذا تركت شيئاً لله لا يمكن أن يضيعك الله، والله سبحانه وتعالى يعوضك، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. فينبغي للإنسان أن يقدم الدين ولا يبالي بالدنيا؛ لأن الدنيا إذا فاتت تعوض، لكن الدين إذا جرح فلا عوض له أبداً، كما قال الشاعر: من كل شيء إذا ضيعته عوض وليس في الله إن ضيعت من عوض إذا فقد الإنسان الولد رزق غيره، وإن مرض زال المرض وأتته العافية، وإن ذهب المال فالمال غاد ورائح، لكن إذا خسرت الله فقد خسرت كل شيء، وإذا كان الله معك فإن معك كل شيء، فنحن نحتاج في هذا الزمان أن نعي هذا الكلام جيداً؛ لنحسن الموازنة والمفاضلة بين الدين والدنيا. لأننا نجد -وهذا كمثال- بعض الناس إذا أخذ منه شيء من أمور الدنيا فإنه مستعد أن يقاتل جميع من على وجه الأرض كي يستخلص حقه، فينكر هذا المنكر بالقلب وباللسان وباليد، وربما بغى على من يخاصمه، لكن في المقابل إذا رأى حدود الله سبحانه وتعالى تنتهك، أو رأى حرمات الله عز وجل يعتدى عليها؛ فلا يحرك ساكناً، ولا يتمعر وجهه غضباً لله سبحانه وتعالى! فهذه الآية تمتحن التزامنا وتمتحن تعظيمنا للدين؛ لأن أغلب الناس يميلون إلى ترجيح الدنيا على حساب الدين، ويغترون بحال أكثر الناس، ويقول لك: الناس كلهم يفعل هكذا، ويغتر بحال هؤلاء الذين لا يبالون بدينهم، وينبهرون بدنياهم، ولو أن إنساناً وجد الناس جميعاً يقفون في الحر الشديد، وأمامهم مكان آخر فيه ظل، فهل تراه سيقف معهم في ذاك الحر الشديد، ولا يأوي إلى ذلك الظل؟! فإذا لم يتابعهم في حر الشمس فكيف يتابعهم في حر جهنم والعياذ بالله؟! والدنيا ما هي إلا أيام تعد، وأنفاس تذهب {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، والعد التنازلي في عدد الأنفاس المكتوبة لك يبدأ منذ ولدت، فأنت كل يوم أقرب إلى القبر من الذي قبله، في كل لحظة أنت أقرب إلى القبر من اللحظة السابقة عليها، فعلى الإنسان أن يتأهب للقاء الله سبحانه وتعالى، وألا يؤثر شيئاً على دينه؛ لأن من هان عليه دينه لم يعز عليه شيء، فعلى الإنسان أن يقدم دينه على كل شيء وإذا كان لابد أن يضحي فليضح بأي شيء ما عدا الدين، فإنه أعز ما ينبغي أن يعز عليه. يقول الرازي: في هذه الآية دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جمع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا. وفي هذه الآية وعيد وتشديد؛ لأن كل أحد قلما يخلص منها، وقيل: إنها أشد آية نعت على الناس ما هم عليه من رخاوة في الدين، نبه على ذلك الزمخشري في الكشاف بقوله: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأخوات والإخوان والعشائر والمال والمساكن، وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول، ويغويه الشيطان عن أجل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي، كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟! يعني: أننا في مصائب الدين نتهاون بها جداً كأن ذباباً وقع على أنف أحدنا فقال به هكذا يطيره، وهذا كحال من يأتي بالدش -الستالايت- أو التلفاز أو الفيديو إلى منزله؛ ليفسد أولاده وزوجه ومن في البيت جميعاً، ثم لا يبالي بذلك الفساد العظيم، بل قد يكون مسروراً به، وهو يرى أهله وذويه يتلقون ما يفسد العقائد والأخلاق، والانحلال والفجور، ولا يحرك ساكناً، ولا يبالي بهذه المصيبة الكبيرة! لكن انظر إلى هذا إذا جرح في دنياه، كأن يتنازع مع شخص ما على قطعة أرض، أو إذا صدم رجل سيارته فأتلف له شيئاً منها، فتراه يثور ويهيج ولا يتركه حتى يصلح له ما أفسده، في الدنيا حاضر بقلبه وسمعه وبصره، ينافح عنها بكل ما يملك، أما جرح الدين فلا يبالي به، أولاده لا يصلون لا يبالي، بناته متبرجات لا يبالي!

تفسير قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة)

تفسير قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) قال الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) يعني: في مواقف وحروب كثيرة ووقعات شهيرة، كغزوة بدر وقريضة والنظير والحديبية وخيبر وفتح مكة، وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم -على ما ذكر في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم - تسع عشرة غزوة، زاد بريدة في حديثه: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة في ثمان من هذه التسع عشرة غزوة، ويقال: إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون، وقيل: ثمانون. يقول تعالى: ((لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)) يعني: لما أعجبتكم كثرتكم اعتمدتم على هذه الكثرة حيث قلتم: لن نغلب اليوم من قلة، ((فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا))، هذه الكثرة لم تغن عنكم شيئاً من أمر العدو مع قلتهم، ((وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)) يعني: مع أنها واسعة لكنها ضاقت عليكم، والباء للملابسة والمصاحبة، إما لأنهم لم يجدوا مكاناً يقرون فيه آمنين مطمئنين من شدة الرعب، أو لأنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق. قوله: ((ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)) يعني: منهزمين مع هذه الكثرة.

تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) قال سبحانه: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26] (ثم أنزل الله سكينته) يعني: ما تسكنون به وتثبتون برحمته ونصره، (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) يعني: على المؤمنين الذين انهزموا، وإعادة حرف الجر -على- للتنبيه على اختلاف حاليهما، (ثم أنزل الله سكينته على رسوله) هذا جانب الوحي، (وعلى المؤمنين) لأن المؤمنين انهزموا، فمن أجل ألا يجمع الرسول عليه السلام مع المؤمنين الذين انهزموا، فصل بينهما بتكرار حرف الجر، فقال: ((ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ))، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حاشاه من أن يكون مقراً لهذا أو حاله كحالهم. والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعلية الإنزال، يعني: رفق الله بكم وتلطف بكم؛ لأنكم مؤمنون، (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) ولم يقل: وعليهم، وإنما تعرض لوصف الإيمان، فالإيمان هو علية إنزال هذه السكينة وإنزال الملائكة. (وأنزل جنوداً لم تروها) وهي الملائكة. (وعذب الذين كفروا) بالقتل والأسر والسبي. (وذلك جزاء الكافرين) يعني: لكفرهم في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء)

تفسير قوله تعالى: (ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء) قال تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:27] يعني: على من يشاء منهم لحكمة تقتضيه، والمقصود أن الله يوفقه للإسلام. ((وَاللَّهُ غَفُورٌ))، يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي. ((رَحِيمٌ)) أي: يتفضل عليهم ويثيبهم. وقصة غزوة حنين تبدأ بخروج الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة والتي تسمى بغزوة هوازن أو أوطاس أو حنين، وكان في الجيش جمع كبير من الطلقاء الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، وفي الطريق وقعت حادثة ذات أنواط، وهي واقعة معروفة. ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت لهم هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد، فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وقد كانوا قالوا من قبل لما رأوا كثرة عددهم وقلة المشركين: لن نغلب اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، وناداهم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا، يعني: بعدما فروا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحارث والفضل وقثم بن العباس وجماعة سواهم، والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء (دلدل)، والعباس آخذ بشكائمها وكان جهير الصوت، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي الأنصار وأصحاب الشجرة -قيل: والمهاجرين-: فلما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم، ويعودوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فتناولوا سيوفهم، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم حواليه نحو المائة، فاستقبلوا هوازن والناس متلاحقون، واشتدت الحرب وحمي الوطيس، ولما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، وقال: (شاهت الوجوه) فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب، فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم؛ لأنهم كانوا خرجوا بالعيال وبالأموال، واستمر القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذٍ سبعون رجلاً، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة، وانهزم المشركون، وانفضت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذٍ أربعة، ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفاً، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين، ونفل كثيراً من الطلقاء يتألفهم على الإسلام. وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد فصلاً حول غزوة حنين أجاد فيه، فقال: كان الله عز وجل قد وعد رسوله -وهو صادق الوعد- أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجاً، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا هوازن ويتألبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ ليظهر الله أمره وتمام إعجازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح، وليظهر الله سبحانه لرسوله وعباده قهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين وتبدوا للمتوسمين. فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعدتهم وقوة شوكتهم، ليخفض رءوساً رفعت بالفتح -كي يتعلموا التواضع، وينزع من قلوبهم العجب والخيلاء-، ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه منحنياً على فرسه، حتى إن ذقنه تكاد أن تمس فرسه تواضعاً لربه وخضوعاً لعظمته، واستكاناً لعزته أن أحل له حرمه وبلده، ولم يحل لأحد قبله ولا لأحد بعده. وليبين الله لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره الله فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئاً فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليهم خلع الجبر مع بريد النصر، ((ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا)). وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر وجوائزه إنما تفيض على أهل الانكسار، وعلى أهل التواضع، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6]. ومن فوائد هذه الغزوة: أن الله سبحانه وتعالى لما منع الجيش غنائم أهل مكة، فلم يغنموا منها ذهباً ولا فضة ولا متاعاً ولا سبياً ولا أرضاً؛ فحرك سبحانه وتعالى قلوب المشركين لغزوهم، وقذف في قلوبهم إخراج أموالهم ونعمهم وشياههم وسبيهم معهم نزلاً وضيافة، وكرامة لحزبه وجنده، وتمم تقديره بأن أطمع المشركين في الظفر، فلذلك خرجوا بالأموال والأولاد والنساء وكل ما يملكون، وألاح لهم مبادئ النصر، حينما انهزم المسلمون في البداية {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42]. فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه، وبرزت الغنائم لأهلها؛ وجرت فيها سهام الله ورسوله، قيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى الله سبحانه إلى قلوبهم التوبة والإنابة فجاءوا مسلمين، فقيل: إن من شكران إسلامكم وإتيانكم أن رد عليكم نساءكم وأبناءكم وسبيكم، {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:70]. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى افتتح غزوات العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا يقرن بين هاتين الغزاتين بالذكر، فيقال دائماً: بدر وحنين، وإن كان بينهما سبع سنين، والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين في هاتين الغزوتين، والنبي صلى الله عليه وسلم رمى في وجوه المشركين بالحصباء فيهما، وبهاتين الغزاتين طفئت شعلة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، الأولى: غزوة بدر خوفتهم وكسرت من حدتهم، والثانية: استفرغت قواهم تماماً، واستنفذت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتى لم يجدوا بداً من الدخول في دين الله. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جبر بها أهل مكة بما نالوه من النصر والمغنم، وكانت كالدواء لما نالوا من كسرهم وإن كان عين جبرهم، وعرفهم تمام نعمه عليهم لما صرف عنهم من شر هوازن، فإنه لم يكن لهم بهم طاقة، وإنما نصروا عليهم بالمسلمين؛ ولو أفردوا عنهم لأكلهم عدوهم، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يحيط بها إلا الله تبارك وتعالى. قال بعضهم: دلت الآية على أنه يجب الانقطاع إلى الله تعالى والاتكال عليه. ودل ما حكي في القصة على جواز ما ورد حسنه من جواز التأليف وملاطفة المؤمنين والرمي بالحصى حالة الحرب، والأصوات التي يرهب بها. ثم أشار تعالى إلى أن موالاة المشركين -مع عدم إفادتها التقوية المحصلة للنصر- تضر بسريان نجاسة بواطنهم إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فالآيات السابقة حذرت من موالاة المشركين، فبعدما بين الله سبحانه وتعالى أن موالاة المشركين لا يأتي منها فائدة، بين هنا أنه يأتي منها ضرر، ولا يحصل بها التقوي والنصر على المشركين، بل تضر ضرراً أخطر، وهو سريان النجاسة التي في بواطن المشركين إلى بواطن المؤمنين الطاهرة، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28].

التوبة [30 - 40]

تفسير سورة التوبة [30 - 40]

تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله)

تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) قال تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]. قوله تبارك وتعالى: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) هذا الجزء من هذه الآية يصح أن يكون عنواناً لبحث مستفيض جداً، وهو بيان هذه المضاهاة وتفاصيل المشابهة بين قول اليهود والنصارى في زعم الولد لله سبحانه وتعالى، وبين الذين كفروا من قبل (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل)، فإن الشخص الباحث سواء في تاريخ الأديان أو في تاريخ البشر والملل سيرى من ذلك ما لا ينقضي منه العجب. فإذا ردت هذه العقيدة الفاسدة إلى أصلها سنجدها تعود إلى أصول وثنية ومشركة، وأن شياطين الإنس الذين حرفوا النصرانية في الدرجة الأولى ثم اليهودية، لم يكونوا مؤسسين، وإنما هم مقتدون بمن سبقهم من أهل الشرك والوثنية من قدماء المصريين، ومن ملاحدة وزنادقة الهند من البراهمة والبوذيين إلى آخره، وقد صدر كتاب اسمه: (العقائد الوثنية في الملة النصرانية)، هذا الكتاب يرجع كل ركن من أركان العقيدة النصرانية إلى أصله المقتبس منه من عقائد قدماء المصريين والبراهمة وغيرهم من الهنادكة والكفرة والمشركين في بلاد شرق آسيا خاصة الهند. فهذه العقيدة بالفعل هي مقتبسة من نفس هذه الاعتقادات، وفيها تتحقق هذه المضاهاة التي يخبر الله سبحانه وتعالى عنها هنا في هذه الآية (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) نفس فكرة الصلب والفداء في تكفير خطايا البشر، ونفس الآلهة التي تعرف بالصليب، ومن المعروف أن من رموز قدماء المصريين المحفورة في معابدهم علامة تشبه الصليب تماماً كانوا يمسكونها! وهذا الكتاب كنت استعرت منذ سنوات طويلة نسخة قديمة جداً منه، وهو كتاب: (العقائد الوثنية في الملة النصرانية)، لكني تعجبت من الفرق الشاسع بين الطبعتين القديمة والحديثة، فالطبعة القديمة كانت مطعمة بصور ملتقطة من الحسيات ومن الحجارة والآثار التي تثبت هذه العقائد. أما الطبعة الحديثة فلا يوجد فيها هذه الصور، وما أدري ما هو السبب! لكن الطبعة القديمة موجودة عند أخ هنا في الإسكندرية وفيها صور الحفريات والآثار الحسية التي تثبت هذا الشبه وهذه المضاهاة الصارخة. فعقيدة النصارى ليست عقيدة عيسى عليه السلام، وإنما هي مقتبسة من عقائد الوثنيين من قبل، وأقحمت إقحاماً في الملة النصرانية، وحرفتها من عبادة توحيد الله سبحانه وتعالى إلى صورة من صور الشرك والوثنية.

تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، هذه زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تبارك وتعالى، ووصفهم بنوع آخر من الشرك. ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم)) الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، الأحبار علماء اليهود جمع حَبر أو حِبر بكسر الحاء وفتحها، وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه، والتحبير بمعنى: التحسين كقول أبي موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيراً) أي: حسنته وزينته، فكذلك الحبر هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه. وقال بعضهم: الحبر أعظم الأشراف بين الإسرائيليين، ويكون عندهم وسيلة للتقرب إلى الله، وهي مرتبة وراثية في آل هارون، يكون الحبر أشيخ من في هذه الطائفة. والرهبان جمع راهب بمعنى: المتعبد الخاشع المتزهد أو الزاهد، وأصل الترهب عند النصارى هو التخلي عن شهوات الدنيا وترك ملاذها، والزهد فيها والعزلة عن أهلها، وفي الحديث: (لا رهبانية في الإسلام). قال الرازي عند قوله عز وجل: (أرباباً من دون الله): الأكثرون من المفسرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، وأنهم يخلقون ويرزقون أو غير ذلك، لكن المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم؛ وذلك لما روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي! اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) فقلت: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم! فقال صلى الله عليه وسلم: بلى عبدوهم إنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه). وهذا مما يخرج من الملة، ومن أسباب الردة طاعة من يحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى. وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه: (أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها عدي بن حاتم فرغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عدي المدينة -وكان رئيساً في قومه طيء وأبوه حاتم الطائي هو المشهور بالكرم- فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم! -أي: أن اليهود والنصارى لم يكونوا يسجدون ويركعون ويصومون للأحبار والرهبان- فقال عليه الصلاة والسلام: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عدي! ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم إلهاً غير الله؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق). وأي إنسان عاقل إذا سأل نفسه هذه الأسئلة، وتأمل في دين الإسلام؛ لما وجد أي سبب منطقي يعيقه عن الدخول في دين الإسلام، فشعار الإسلام هو (لا إله إلا الله) أي: لا إله حق إلا الله، ولا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، فهل أي إنسان عاقل أو عنده بقية من رصيد الفطرة يرفض أن يقال: لا إله إلا الله؟! حتى إن كبار طواغيت النصارى إذا أراد أحدهم أن يتكلم في هذا الجانب فإنه يلبس على العوام ويقول: نحن أيضاً نقول: لا إله إلا الله، فكثير من المسلمين يجهلون ويقولون: النصارى يقولون: لا إله إلا الله، مع أنهم في الحقيقة يؤمنون بثلاثة من الآلهة، ويقولون: الثلاثة واحد + واحد =واحد، ولا يقولون: تساوي ثلاثة! فهم يحاولون أن يهربوا من الشرك الصراح الذي يقعون فيه؛ لأنهم يختمون الإيمان بقولهم: إله واحد أمين، الابن والأب وروح القدس، وهم يعترفون بهذا الكفر الصراح الذي ينافي العقل وينافي الفطرة، ويهدم دعوة الرسل عليهم السلام، فهكذا يقال لكل كافر: ما الذي يزعجك من دين الإسلام ومن الذي يقول لك: لا إله إلا الله، أو لا تعبد إلا الله، أو لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى؟! هل يضرك أن تقول: يا رب! أنا نزهتك عن الصاحبة، ونزهتك عن الولد، ونزهتك عن الشريك، وقلت: لا إله إلا الله؟! هل ترى الله سبحانه وتعالى معذبك؛ لأنك تقول له يوم القيامة: أنا نزهتك عن أن يكون لك ولد، وأنك تحتاج، ونزهتك عن أن يكون لك شريك؟! هل يوجد إنسان عاقل يرتاب في أن هذا هو الطريق الوحيد للنجاة، وهو أن يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟! ما أعظم الأدلة والبراهين الساطعة على صدق كلمة التوحيد المكونة من هاتين الشهادتين!!! فانظر كيف سلك النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عدي هذا المسلك! إنه مسلك في منتهى اليسر وفي غاية السهولة: (يا عدي! أيضرك أن يقال: الله أكبر؟! فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! يا عدي! أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟! فهل تعلم إلهاً غير الله؟! ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال: فلقد رأيت وجهه استبشر صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). ونحن في كل صلاة ندعو الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا من سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين حيث نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] وهم اليهود {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وهم النصارى. قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً): إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وذكر بعض المفسرين وجهاً آخر في تفسير اتخاذهم أرباباً فقال: إنهم أطاعوهم بالسجود لهم سجوداً حقيقياً. قال الشهاب: والأول هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي الاقتصار عليه. فإذا فسر النبي عليه الصلاة والسلام آية من كتاب الله، فلا ينبغي المصير إلى غيره؛ لأنه لما أتاه عدي بن حاتم وهو يقرؤها قال له: (إنا لم نعبدهم فقال: ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم؟؟) والناس يقولون: فلان يعبد فلاناً إذا أفرط في طاعته. قال الرازي: قال الربيع: قلت لـ أبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تبارك وتعالى. وحكى الرازي عن بعض شيوخه قال: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء وقرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إلي متعجبين! يعني: كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟! ولو تأملت حق التأمل لوجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل المدينة. انتهى. على أي الأحوال الكلام ينبغي أن يمحص وألا يأخذ بظاهره حتى ينظر في تفاصيل الاستدلال الذي يذكره العلماء؛ لأننا لا نقبل أن يشيع الاستدلال كما يحصل من بعض الغلاة السلفيين، حيث يكثرون من الاستدلال بهذه الآية الكريمة في الرد على المذهبيين، فيشبهون عموم الناس من مقلدة الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المقلدين المشهورة مذاهبهم بالأحبار والرهبان! وهذا لا يقبل في ملة الإسلام أبداً؛ لأن أئمتنا ما أحلوا الحرام ولا حرموا الحلال، ولا يظن بإمام من أئمة المسلمين أبداً أنه تعمد ذلك، غاية ما في الأمر أن يكونوا ما بين مجتهد مصيب حصل على أجرين ومجتهد مخطئ حصل على أجر واحد. لكن بلا شك هناك علماء سوء فعلاً في كل زمان وفي كل مكان، يفعلون مثل فعل هؤلاء الأحبار والرهبان، ويفعل معهم نفس الذي حدث مع اليهود والنصارى، ففي حق هؤلاء الذين يحلون الحرام، أو يحرمون الحلال، وينتهكون حرمات الله سبحانه وتعالى، يمكن أن يحذروا بهذه الآية تخويفاً وموعظة وزجراً لهم، أما في المسائل الخلافية الفقهية التي هي محل خلاف سائغ معتاد بين الفقهاء، فلا يأت أحد المتناظرين يستدل على الآخر بقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)، فهذا مما لا يليق أن نستعمله في حق أئمة المسلمين. (وما أمروا) هذه الواو حالية، أي: والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم (إلا ليعبدوا إلهاً واحداً) إلا ليطيعوا أمره ولا يطيعوا أمراً غيره بخلافه. (لا إله إلا هو) صفة ثانية (إلهاً) أو استئناف مقرر للتوحيد. (سبحانه عما يشركون) أي: به في العبادة والطاعة. وهذه اللفظة دليل على أن ما عليه اليهود والنصارى شرك؛ لأن أحياناً الآيات القرآنية تأتي تفرق بين المشركين وبين أهل الكتاب، بمعنى أن المشركين هم الوثنيون، أما أهل الكتاب فهم كفار أيضاً من نوع آخر غير الوثنيين، لكن باعتبار آخر يجوز أن يوصف أهل الكتاب أيضاً بأنهم مشركون بدلالة هذه الآية الكريمة (لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون)، فهذه الواو تعود على اليهود والنصارى كما هو معلو

تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم)

تفسير قوله تعالى: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:32] أي: يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد، أو (يريدون أن يطفئوا نور الله) القرآن الكريم، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الأقوال لا تتعارض في الحقيقة. {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] أي: بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام. {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] أي: الكافرون بدلائل التوحيد. وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافاً إلى الله عز وجل زيادة اعتناء بشأنه، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ}، ولم يقل: ويأبى الله إلا أن يتمه، لكن أظهر كلمة نوره مما يدل على زيادة الاعتناء بشأنه.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:33]. إذا تأملنا قوله تعالى في الآية الأولى: (ولو كره الكافرون) وقوله أيضاً في هذه الآية: (ولو كره المشركون) فنتذكر أن كراهية المشركين لدين لإسلام، وحرصهم على إبطاله هذا أمر متوقع أخبرنا الله به، فلا يمكن أبداً أن نطمع في رضاهم عن ديننا، وبعض الناس يزعمون أنهم يعملون عملية تحسين وتجميل في الإسلام كي يقبله هؤلاء المشركون أو هؤلاء الكافرون، وهذا لا يكون كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، قبل الوصول إلى هذه الغاية فلن يرضوا عنا، فلا نطمع على الإطلاق؛ لأن هذا الأمر ليس بجديد عليهم؛ لأنهم يكرهون إعزاز دين الله سبحانه وتعالى، ودأبهم العدوان والشنآن كما هو معلوم من سيرتهم ومن أحوالهم. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى) أي: بالقرآن الذي هو هدى للمتقين. (ودين الحق) الحق هو التوحيد الثابت الدائم الذي لا يزول. (ليظهره) أي: يظهر الدين الحق. (على الدين كله) أي: على سائر الأديان. (ولو كره المشركون) أي: ولو كرهوا أن يكون ذلك، لكن الله قضى ولابد أن يقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله زوى لي الأرض -أي: ضم لي الأرض- فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). وعن قبيصة بن مسعود أو مسعود بن قبيصة قال: (صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة). وأخرج الإمام أحمد في المسند عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز وبذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وكان تميم الداري نصرانياً، وسبب إسلامه قصة الجساسة كما في صحيح مسلم، وكان يقول: (قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية). وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها). وأخرج الإمام أحمد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عدي! أسلم تسلم، فقلت: إني من أهل دين، قال عليه الصلاة والسلام: يا عدي! أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟! قلت: بلى). (الركوسية) قوم لهم دين متوسط بين النصارى والصابئين. وقوله: (وأنت تأكل مرباع قومك) المرباع الربع مثل المعشار بمعنى العشر، وذلك أنهم كانوا يغزون في الجاهلية فيغنمون، فيأخذ الرئيس ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً له، فلذلك سمي ذلك الربع المرباع. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب -يعني: أهذا الذي يمنعك من دخول في الإسلام- تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده! لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها). انظر إلى اليقين والتصديق؛ (لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها) هكذا كان شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان أيضاً شأن الصديق الأكبر، لما أخبره المشركون عما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج، فقالوا له: (انظر ما يقول صاحبك يزعم أنه كذا وكذا، فقال: إن كان قد قالها فقد صدق صلى الله عليه وآله وسلم). وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] أن ذلك تام، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحاً طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم). قال بعض المفسرين: معنى الآية: ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها، وهو ألا يعبد الله إلا بدين الإسلام. روي عن أبي هريرة أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بأن يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى عليه السلام، وكذلك قال الضحاك والسدي: لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام. وقال الشافعي: قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ودين الأميين، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعاً وكرهاً، وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه. قال: فهذا هو ظهوره على الدين كله؛ لأن النصارى وأهل الكتاب إذا أعطوا الجزية فهم في الحقيقة في حالة خضوع لدين الإسلام. يقول القاسمي: ما ذكره الشافعي هو نوع من أنواع الظهور، والأدق ما تقدم من أنه سوف يعتنقه كل فرقة، فإنما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلاً. وهذا فيه نظر في الحقيقة، ولا يصح أن نسمي هؤلاء الناس بطوائف الإصلاح، فأي شخص من طوائف الإصلاح أو من أي فرقة من هذه الفرق مادامت نصرانية فما يسمى مصلحاً، بل هو من المفسدين في الأرض، لكن هذا التعبير شاع في زمن القاسمي ربما تأثراً بالشيخ رشيد رضا ومحمد عبده باستعمالهم تعبيرات الإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي إلى غير ذلك من العبارات.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) لقد بين تبارك وتعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يطيعونهم في الأوامر والنواهي، فالآية السابقة كانت في حال الأتباع، (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم) ثم بين حال المتبوعين أنفسهم فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34]. قوله تعالى: (ليأكلون أموال الناس بالباطل) أي: بالطريق المنكر من أخذ الرشوة في الأحكام فإذا حكم هؤلاء الناس فإنهم يأخذون الرشوة، وكذلك مقابل التخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك. ولا شك أن من صور ذلك أيضاً شراء الأماكن في الجنة، وهذا موجود حتى الآن، فتجد هؤلاء الأحبار والرهبان يضحكون على عوام النصارى، ويحجزون لهم الأماكن في الجنة، ويعطونهم صكوك الغفران، وقصوراً في الجنة، ويصدقون هذا الكلام، ويأخذون منهم الأموال المقابل لغفران الذنوب وغير ذلك كما هو معلوم من أحوالهم! (ليأكلون) أي: ليأخذون، لكن بما أن الغرض الأعظم من أخذ الأموال هو الأكل، أطلق على ما يغلب استعمال المال فيه وهو الأكل. (ليأكلون أموال الناس بالباطل) فيه تقبيح لحالهم وتنفير السامعين عنهم. (ويصدون عن سبيل الله) أي: عن دين الإسلام وحكمه، أو عن المسلك المقابل في التوراة والإنجيل بما اشتروه وحرفوه. ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله عز وجل، وتناسيهم وعيده في الكنز؛ لقوله سبحانه وتعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) أي: يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض، وهذا إشارة إلى سبب كنز وحفظ الذهب والفضة؛ لأنهما العملة التي كانت تستعمل. (ولا ينفقونها في سبيل الله) أي: في الزكاة. (فبشرهم بعذاب أليم) أي: مؤلم.

تفسير قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم)

تفسير قوله تعالى: (يوم يحمى عليها في نار جهنم) قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} [التوبة:35] أي: يوقد عليها. {فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ} [التوبة:35] أي: يقال لهم ضماً إلى ما هم فيه من الكي: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} [التوبة:35] أي: أنتم كنزتموه في الدنيا؛ لتتلذذوا به، فكان سبب تعذيبكم. {فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:35] أي: ذوقوا وبال هذا الكنز وهو ألمه وشدته بالكي. وفي هذه الآية فوائد: الأولى: قال بعضهم في قوله تعالى: (ليأكلون أموال الناس بالباطل): فيها دلالة على تحريم الرشوة على الباطل، وقد ورد: (لعن الله الراشي والمرتشي)، وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف، هل يجوز أن يدفع الإنسان مالاً؛ ليتوصل إلى حقه، إن كان لا يؤدى إليه ذلك؟ الراجح الجواز ليتوصل إلى الحق كالاستفداء. قال الحاكم: الاستفداء هو أن يدفع مالاً لمن أخذ الأسير مقابل أن يطلق سراحه. وقال الحاكم أيضاً: يدخل في تحريم الرشوة الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه، وكل من حرف شيئاً لغرض الدنيا. الثانية: في الآية كما قال ابن كثير: تحذير من علماء السوء وعباد الضلال، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: (لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة قالوا: اليهود النصارى؟ قال: فمن؟!). وفي رواية (قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا هؤلاء؟). وقال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

حكم كنز المال وحفظه مع تأدية زكاته وعدمها

حكم كنز المال وحفظه مع تأدية زكاته وعدمها قوله: (والذين يكنزون) (الذين) مبتدأ و (يكنزون) خبر، أو يكون التقدير: وبشر الذين يكنزون. والتعريف في كلمة (الذين) للعهد، والمعهود هو إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون الكانزون ويحتمل أنها في الأحبار والرهبان، وفي الكانزين من المسلمين فهي تعم الجميع، وإنما قرنوا باليهود والنصارى تغليظاً بمعنى: أنهم يفعلون فعل الكفار الذي لا يليق بالموحدين وبالمسلمين، ولما نزلت هذه الآية كبر على المسلمين هذا الوعيد فذكر عمر رضي الله عنه ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم)، رواه أبو داود والحاكم وصححه. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أدي زكاته فليس بكنز)، والأصل في المال أن ينمى ويستثمر؛ كي يستفيد منه صاحب رأس المال، والمسلمون الذين يحتاجون إلى العمل، وتنشط التجارة، لكن لو أن رجلاً ترك المال دون أن يستثمره فإن لم يؤد زكاته فإنه يستحق هذا الوعيد؛ لأنه كنز، (وما أدي زكاته فليس بكنز). أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها)، فالمراد منه ما لم يؤد حقها؛ لما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره).

خلاف أبي ذر ومعاوية رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية

خلاف أبي ذر ومعاوية رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية اشتهرت محاورة معاوية لـ أبي ذر رضي الله عنهما في هذه الآية، فقد روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بـ أبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية رضي الله عنهما في هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة) فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لـ عثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل. وسيأتي تفصيل هذه الحادثة. يقول أبو ذر: ولو أمر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت. ولـ ابن جرير في رواية بعد قول عثمان له: تنح قريباً، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول، فأثبت عليه. وروى أبو يعلى أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه كان يحدث ويقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم إلا ما ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريب، وهذا كان مذهب أبي ذر رضي الله تعالى عنه، فكان لا يجوز لأحد أبداً أن يبيت وعنده دينار أو درهم، إلا إذا كان عنده مبلغ يرصده لأجل سداد دين، أما غير ذلك فيوجب عليه أن ينفقه أولاً بأول في سبيل الله تبارك وتعالى أو في مصالح المسلمين. فكان يقول: لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم؛ لذلك فيما مضى كان بعض الشيوعيين يفرحون جداً بسيرة أبي ذر رضي الله تعالى عنه. فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة فابعث إلى أبي ذر، فكتب إليه عثمان: أن أقدم علي، فقدم. قال ابن كثير: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات رضي الله تعالى عنه في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك، فأخطأت فهات الذهب فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به. وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل، قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً، قال: وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً إنما يجمعون الدنيا. رواه مسلم وللبخاري نحوه. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي ذر: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين). قال ابن كثير: فهذا -والله تعالى أعلم- هو الذي حدا بـ أبى ذر على القول بهذا. فـ أبو ذر أخذ مذهبه من قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر علي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين). وأخرج الشيخان عنه قال: (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة! قال: فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم). وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه: (أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري بها فلوساً قال: قلت: لو ادخرته لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل، أو حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل إفراغاً). قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد في الآية على مانعي الزكاة. وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي حيث قال: (هل عليّ غيرها قال: لا، إلا أن تطوع). وبالجملة فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته، وقد ترجم لذلك البخاري وقال في صحيحه: باب ما أدي زكاته فليس بكنز، ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً: (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك) حسنه الترمذي وصححه الحاكم. هذا؛ وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز، فقد روى البخاري في صحيحه أن أعرابياً قال لـ ابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) إلى آخر الآية، قال ابن عمر: من كنزها ولم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال. زاد ابن ماجة: ثم قال ابن عمر: ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى. فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز -وهو حبس ما فضل على الحاجة عن المواساة به- إنما كان في أول الإسلام، ومذهب أبي ذر هو على ما كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة لما فتح الله الفتوح وقدرت أنصبة الزكاة. ويشعر هذا أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وجزم به ابن الأثير في تاريخه. وهذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة بعد غزوة تبوك، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً. قال ابن حجر: والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما فضل وزاد عن الحاجة، فكان ذلك واجباً في أول الأمر ثم نسخ. وزعم بعضهم أن الذي حدا بـ أبى ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء، وقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم يعتبرون الفيء لكافة المسلمين يأخذه المقاتلون وغيرهم، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين، فكلهم داخل تحت ذلك الحكم. قال: والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام والوالي عليها من قبل الخليفة عثمان معاوية رضي الله عنهما، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال؛ أنكر عليه ذلك. ولا يظن أن معاوية كولاة هذا الزمان يأخذ المال له ولأولاده، لا يظن هذا به أبداً، لكن كان أبو ذر يخالف معاوية؛ لأن معاوية كان يخزن المال في بيت المال للدولة وللمسلمين، بحيث يصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع، شديد الحرص على حقوق المسلمين، يقول الحق ولو على نفسه، فأخذ أبو ذر يتكلم بهذا الأمر بين الناس، وظل يعلنه وهو في الشام، واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على الإنكار على معاوية؛ لكي يرد المال للمسلمين، ولا يخزنه في بيت المال ويأخذه للمصالح، وإنما ينفقه فوراً. فكون له هذا الحزب أو التكتل، وظل يتكلم ويبين عدم الرضا بكنزه في بيت المال لأي حال من الأحوال، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين؛ لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين، وتابعهم على قولهم أناس كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سراً وجهراً، حتى كادت تكون فتنة، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه، فنفاه إلى الربذة؛ خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه. وهذا التصرف من معاوية ومن عثمان رضي الله عنه يعتبر حسماً للافتتان بين المسلمين، وإلا فإن كثيراً من الكتاب الذين لهم ميول للاشتراكية والشيوعية كانوا يتكلمون عن مذهب أبي ذر على أنه المذهب المعتمد، وأن هذه هي الشيوعية، وأن أبا ذر كان شيوعياً مع أن أبا ذر لم يسمع كلمة الشيوعية! فهذا من تمحلهم وكذبهم، وقد أخذهم الله، فالشيوعيون كانوا يلبسون على المسلمين ويخدعونهم بموقف أبي ذر، وأبو ذر كان مؤمناً بالله وباليوم الآخر، وهم ملاحدة يقولون: لا إله والحياة مادة، فأين هذا من ذاك؟! فالشيوعيون يظهرون موقف أبي ذر على أنها حركة ثورية ضد الحاكم أو الأمير أو الوالي، وهذا ليس بصحيح، فإ

الحكمة من تخصيص الجباه والجنوب والظهور لكانزي المال بالكي

الحكمة من تخصيص الجباه والجنوب والظهور لكانزي المال بالكي قوله: (يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم) ما الحكمة في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي دون غيرها؟ قيل: إن هؤلاء الذين جمعوا وكنزوا الذهب والفضة جمعوها كي ينالوا الوجاهة عند الناس بأنهم أغنياء، وكي يتنعموا بالمطاعم الشهية، وبالملابس البهية، فلوجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم كان الكي بجباههم. أما كي جنوبهم؛ فلأن الجنوب كانت تمتلئ من الطعام الذي يحصلونه بهذا المال، وبهذا كويت الجنوب. أما كي ظهورهم؛ فلأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع، فتكلح وجوههم وتقطب وتعبس في وجه السائل، ثم إذا كرر الفقير الطلب أعرضوا عنه وتركوه جانباً، ثم إذا ألح ولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، وهي النهاية في الردع والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل، وهذا دأب مانع البر والإحسان وعادة البخلاء، فكان ذلك سبباً لكي هذه الأعضاء. وقيل: لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقادم البدن ومآخره وجنباه، فيكون كناية عن جميع البدن.

تفسير قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله)

تفسير قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله) لما بين تبارك وتعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى؛ إيثاراً لحظوظهم، أتبعه بما تجرأ عليه المشركون من تغيير أحكام الله؛ إيثاراً لحظوظهم ولأهوائهم، فهم يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، وذلك من تغيير الأشهر الحرم التي حرمها الله تعالى لغيرها وهو النسيء الآتي، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36]. (إن عدة الشهور) أي: عدد الشهور. (عند الله) أي: في حكم الله. (اثنا عشر شهراً) أي: الشهور القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية. (في كتاب الله) أي: في اللوح المحفوظ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه، والكتاب يأتي بمعنى: حكم أي: حكم الله عليكم. (يوم خلق السماوات والأرض) أي: أن هذا استقر في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، والمعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة. (منها أربعة حرم) أي: من تلك الشهور الاثني عشر أربعة حرم، ثلاثة متتابعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. (ذلك الدين القيم) إشارة إلى تحريم الأشهر الأربعة. (الدين القيم) أي: المستقيم. (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وذلك بهتك حرمتها بالقتال فيها. وقال ابن إسحاق: أي: لا تجعلوا حرمها حلالاً، ولا حلالها حرماً، كما فعل أهل الشرك. (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) أي: جميعاً. (واعلموا أن الله مع المتقين) أي: بالنصر والإمداد.

تفسير قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر)

تفسير قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ثم بين تعالى بعد ذلك ثمرة هذه المقدمة وهو تحريم تغيير ما عين تحريمه من الأشهر الحرم، وإبقاؤها على ما سبق في كتابه، ناعياً على المشركين كفرهم بإهمالهم ذلك، فقال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37]. (إنما النسيء) النسيء تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر، مصدر نسأه إذا أخره. (زيادة في الكفر) لأنه تحليل ما حرم الله، وتحريم ما حلله، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم، وهذا يدل على أن الكفر يزيد بقدر ما يزداد الإنسان في محاربة الله سبحانه وتعالى، فكما أن الإيمان يزيد وينقص فكذلك الكفر يزيد أيضاً. (يضل به الذين كفروا) أي: يضل به الذين كفروا بالله عن أحكامه إذ يجمعون بين الحل والحرمة في شهر واحد، سنة يحلونه وسنة أخرى يحرمون نفس الشهر. (يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً) أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهراً آخر، ويتركونه على حرمته القديمة، ويحافظون عليها سنة أخرى، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم. والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم له في العام الماضي، والجملتان تفسير للضلال أو حال. قال الزمخشري: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) أي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت، ولذلك قال عز وجل: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) يعني: من غير زيادة زادوها. فهذا هي الحكمة من قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً) أي: أنها غير قابلة للزيادة كما كانوا يفعلون. (فيحلوا ما حرم الله) بتركهم التخصيص بالأشهر لعينها. (زين لهم سوء أعمالهم) فاعتقدوا قبيحها حسناً. (والله لا يهدي القوم الكافرين) في هاتين الآيتين مسائل منها أن جميع الأحكام الشرعية تتعلق بالأشهر العربية، ولا يمكن أبداً اعتبار غير الشهر الهلالي العربي، مثل: قضاء الكفارات ودوران الحول في الزكاة وغيرها من الأحكام المتعلقة بالشهور. قال ابن كثير: إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرم شهر ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون بأداء المناسك، وحرم بعده شهراً آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين؛ وحرم رجب في وسط الحول؛ لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً. واستنبط بعضهم من قوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) أي: في هذه الأشهر المحرمة، فالمعاصي فيها أبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قتل في الحرم، أو قتل ذا محرم. وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة: إنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء. وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. ويستدل جماعة من العلماء بقوله تعالى: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ؛ وذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]، وقوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5]. وذهب آخرون: إلى أن تحريم القتال فيها منسوخ بآية السيف لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36]. يقول القاسمي: المحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه، بحيث لو دخل المسلمون في قتال قبل دخول الأشهر الحرم فلا يحرم إتمامه في الأشهر الحرم، وبهذا يحصل الجمع. وقال ابن جرير: لقد حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها، أي: في حالة الدفاع. وقوله: (وقاتلوا المشركين كافة) استدل بها من قال: إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) حرض الله تعالى على قتال الكفرة إثر بيان قبائحهم الموجبة لذلك، وأشار إلى توجه العتاب والملامة على المتخلفين عنه، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38] أي: تثاقلتم وتباطأتم، والاستفهام في قوله: (مالكم) للتوبيخ والإنكار. (اثاقلتم إل الأرض) كلمة (اثاقلتم) تضمنت معنى الميل إلى الأرض والإخلاد إليها. أي: اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية، وكرهتم مشاق الغزو، وملتم إلى الراحة الخالدة؛ كقوله تعالى: {أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176] أو اثاقلتم مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم. وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة تسع بعد رجوعهم من الطائف، حيث استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ، حين طابت الثمار والظلال، ومع بعد الشقة وكثرة العدو؛ فشق عليهم، قال الله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:38] أي: الحقيرة الفانية، والدنيا مأخوذة من الدناءة. (من الآخرة) (من) هنا بمعنى: بدل الآخرة. ويوجد في القرآن الكريم استعمال كلمة (من) بمعنى بدل، وهو استعمال شائع موجود، كما في سورة الزخرف: {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] أي: لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون، فكذلك هنا (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) أي: بدل الآخرة ونعيمها الدائم. (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة) كلمة (في) هي التي تسمى (في) القياسية؛ لأن المقيس يوضع بجنب ما يحاط به. (إلا قليل) أي: مستحقر لا يؤبه له. وروى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع! وأشار بالسبابة).

تفسير قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم)

تفسير قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم) لقد توعد تعالى بعد ذلك من لم ينفر إلى الغزو بقوله عز وجل: {إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:39]. قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم) أي: لنصرة نبيه وإقامة دينه. (ولا تضروه شيئاً) لأنه الغني عن العالمين، وإنما تضرون أنفسكم. وقيل: الضمير في قوله: (ولا تضروه) يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ولا تضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لأن الله وعده النصر بكم أو بغيركم، ووعده كائن لا محالة. (والله على كل شيء قدير) أي: من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم، وفي هذا التوعد على من يتخلف عن الغزو من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره.

حالات تأكيد الجهاد وتحوله إلى فرض عين

حالات تأكيد الجهاد وتحوله إلى فرض عين قال بعضهم: في الآية لزوم إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد، وكذا دعاء الأئمة إليه، ومثل الجهاد الدعاء إلى سائر الواجبات، وفي ذلك تأكيد للوجوب. وكما هو معلوم أن هناك حالات يصير الجهاد فيها فرض عين على كل مسلم منها: حالة النفير العام، فإذا استنفر الإمام المسلمين وجب على جميع المسلمين أن ينفروا، فالنفير العام من الإمام يوجب تحول الجهاد إلى الوجوب العيني، ويتأكد ذلك من وجوه: الأول: ما ذكره من التوبيخ في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا))، فهذا يؤكد الوجوب. الثاني: في قوله تعالى: ((اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)) أي: ملتم إلى المنافع والدعة واللذات. الثالث: في قوله {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهذا زجر. الرابع: في قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} [التوبة:38] فهذا تحقير لرأيهم. الخامس: ما عقب من الوعيد بقوله: ((إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)). السادس: ما بالغ فيه بقوله: ((عَذَابًا أَلِيمًا)). السابع: في قوله: ((وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ)). الثامن: في قوله: ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ففيه تهديد.

تفسير قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا) قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. قوله تعالى: (إلا تنصروه) أي: إلا تنصروه بالخروج معه في تبوك (فقد نصره الله) (إذ أخرجه الذين كفروا) أي: كفار مكة حين مكروا به فصاروا سبب خروجه، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. (ثاني اثنين) حال من ضميره صلى الله عليه وسلم، أي: أحد اثنين. (إذ هما في الغار) بدل من أخرجه، والغار نقب في أعلى جبل ثور، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسير ساعة، مكث فيه ثلاثاً؛ ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما، ثم يسيرا إلى المدينة. (إذ يقول) هذا بدل ثان أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم. (لصاحبه) أي: أبي بكر رضي الله عنه. (لا تحزن) وذلك أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما، فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذى.

عقيدة الرافضة في أبي بكر والصحابة

عقيدة الرافضة في أبي بكر والصحابة كان حزن أبي بكر وخوفه من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن أبداً ما يقول أعداء الله الشيعة الخبثاء الضالين: إن أبا بكر كان يشفق على نفسه هو، ولم يكن يشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام! فهؤلاء المجرمون الشيعة يأتون إلى مناقب الصحابة بشيطنتهم ويحولونها إلى عداوات لله وللإسلام، فيأتون إلى هذا الموضع الذي هو من أعظم مناقب أبي بكر، فيقول هؤلاء الظالمون المعتدون -قبحهم الله-: إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم بأن أبا بكر منافق، وأنه غير صادق في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم خشي إن تركه في مكة أن يدل المشركين عليه، فقال له جبريل: اصطحبه توقياً من أن يدل عليك والعياذ بالله! فانظر هذه القلوب المنكوسة لأعداء الله الرافضة، وما زال هناك من المخدوعين من يقول: هم إخواننا وهم مثل المذهب الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي! فالرافضة يضللون ويلبسون على الناس ويظهرون أنهم على ديننا، وهم يعادون أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ويكفرونهم ويقولون بردتهم، ويزعمون في خرافاتهم وهذيانهم أن أبا بكر تعرف على كاهن في الجاهلية، وأن هذا الكاهن قال له: سوف يظهر رجل ويكون نبياً، وأنت ستصحبه وتكون خليفة من بعده، فصوروا حياة أبي بكر على أنها عبارة عن تخطيط لنيل الإمارة والخلافة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام!! فالشيعة الرافضة في عدوانهم على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما بلغوا الغاية في الخبث، حتى إنهم يسمون أبا لؤلؤة المجوسي قاتل عمر رضي الله عنه: بابا شجاع الدين، وعندهم عيد يدعى عيد بابا شجاع الدين؛ يحتفلون فيه بقتل عمر، ويمثلون عملية القتل وكأنهم يمتصون دمه، وهم يشربون العسل! وخرافاتهم وعدوانهم لا تنتهي في الحقيقة، وهم أعداء الدين في الحقيقة، ليسوا منا ولسنا منهم. إننا الآن نسمع عن حركة شيعية هنا في مصر في بعض المحافظات في الزقازيق والمنصورة وطنطا، وأخيراً ظهرت دار نشر تسمى دار الهدف للقبيح المدعو صالح الهرداني، ولا نتحرج بالتصريح باسم هذا المنتكس الذي كان ينسب فيما مضى على أنه من شباب أهل السنة، وظل يتجول بين الجماعات التكفيرية إلى أن استقر به المقام أن انتكس إلى المذهب الشيعي، والآن يؤلف كتباً مشحونة بالطعن والسب للصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويدعو إلى إحياء مذهب الإمامية بصورة أو بأخرى، وله مطبوعات دار الهدف تقوم بنشرها هنا، ولهم جمعية أهل البيت، ومن ذهب إلى معرض القاهرة للكتاب يجد الجناح حافلاً بالكتب العدوانية الظالمة التي تهاجم الإسلام وتهاجم الصحابة رضي الله تعالى عنهم! لا يتبعن أي مسلم عنده بصيرة وعلم هؤلاء القوم، هؤلاء دجالون يستعملون بعض الشعارات التي تخدع الجهلة والطغام الرعاع مثل: الموت لأمريكا، مثل المظاهرات التي عملوها في مكة في مواطن الحج، ويشوشون على المسلمين عبادتهم، وكل هذا استغلال سياسي لنيل مآرب سياسية، وإلا فهم أكبر من يتآمر مع أمريكا على المسلمين في كل عصر وفي كل مصر، وقد تكلمنا عن هذا الموضوع بالتفصيل، ولكن يبدو أنه يحتاج إلى تذكير. إن هؤلاء المجرمين أعداؤنا وأعداء الإسلام وأعداء الدين وأعداء الصحابة، والحديث يطول، وبعض الناس ربما لم يكن قد طرق أمامه هذا الموضوع من قبل فيستغرب، ونرجو أن تكون هناك فرصة لنفصل في هذا الموضوع الخطير. هذه الآية هي منقبة وفضيلة لـ أبي بكر فقد كان أبو بكر يفدي الرسول عليه الصلاة والسلام بدمه وروحه وماله، صدقه إذ كذبه الناس، وضحى بكل ماله في نصرة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فكيف بهؤلاء الظالمين يحولون مناقب أبي بكر إلى أسوأ ما يمكن أن يظن بإنسان؟!

فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه ابن القيم له في كتاب (الفوائد) عبارات طيبة في غاية الجمال والروعة في بيان جمال هذه العبارة (إن الله معنا). قال عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! إن الله معنا)، فكان الله معهما في الغار بالنصر والتأييد، كان الله معهما؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هو الوحيد الذي حظي بلقب خليفة رسول الله، فاجتمع في هذه الإضافة (إن الله معنا) الله ورسوله وخليفة رسول الله، وشاء الله أنه عندما تولى عمر الخلافة أرادوا أن يقولوا خليفة خليفة رسول الله، فقالوا: إن هذا يطول، فمن ثم رأى عمر الاقتصار على أن يسمى بأمير المؤمنين، فشاء الله أن يحتفظ أبو بكر بهذا اللقب؛ كي يبقى مستأثراً بهذه الفضيلة (إن الله معنا) فيقال: خليفة رسول الله، فالخليفة بجانب رسول وبجانب الله سبحانه وتعالى. وفضائل أبي بكر رضي الله تعالى عنه كثيرة، فسورة الفاتحة فيها فضيلة أبي بكر وذلك في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] فنحن ندعو الله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم، وفي مقدمتهم بعد الأنبياء أبو بكر. وبين الله في آية أخرى صفة الذين أنعم عليهم فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69]، والأمة مجمعة على تسمية أبي بكر بـ الصديق رضي الله تعالى عنه. وفي هذه الآية دليل على إمامة أبي بكر وأنه ممن يؤتسى ويقتدى به. ومن فضائله قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، فهنا رغبهم الله سبحانه وتعالى في طاعة من يأمرهم بقتال الأعراب المرتدين، فمن الذي قاتل هؤلاء؟ إنه أبو بكر، والله عز وجل هنا يأمر بطاعته، وهذا حصل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!). نفس اليقين ونفس الجزم بنصرة الله سبحانه وتعالى، كما وقع من موسى عليه السلام لما أدركهم آل فرعون عند ساحل البحر الأحمر فقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، البحر أمامنا والعدو خلفنا (إنا لمدركون) ماذا قال لهم موسى؟ {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، ثقة ما بعدها ثقة، وتوكل على الله سبحانه وتعالى، وحسن ظن بالله، ويقين صادق، وهو لا يعرف كيف سيكون المخرج، لكن مع ذلك هو واثق من أن الله سبحانه وتعالى الذي وعده بالنصر والنجاة سينجز وعده، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحزن إن الله معنا) (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما). {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] أي: أمانته التي تسكن عندها القلوب. (عليه) أي: على النبي صلى الله عليه وسلم. {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40] أي: أنزل الملائكة؛ ليحرسوه في الغار، أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين، فتكون الجملة معطوفة على قوله: (نصره الله). وقوى أبو السعود الوجه الثاني بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:40] أي: المغلوبة المقهورة. والكلمة هي الشرك أو دعوة الكفر، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك، أو هي بمعنى الكلام مطلقاً على أنها دعوة الكفر. {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة:40] أي: التوحيد أو دعوة الإسلام التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة. (وكلمة الله) بالرفع على الابتداء. (هي العليا) مبتدأ وخبر، أو تكون (هي) ضمير فصل. وقرئ بالنصب أي: (وجعل كلمةَ الله) والأول أوجه وأبلغ؛ لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت، وأما الجعل لم يتصرف لها؛ لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها، كلمة الله عالية في كل حال. ولذلك في هذه القراءة: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} [التوبة:40]، اقتصر على جعل (كلمة الذين كفروا السفلى) لكن ابتدأ بداية جديدة فقال: (وكلمة الله هي العليا) ولم يقل: وكلمةَ الله هي العليا، وهذا أوجه كما رجحه القاسمي، فـ (كلمة الله هي العليا) تكون جملة من مبتدأ وخبر؛ لأنها تدل على الثبات والدوام، وعدم تعرضها للتغيير والتبديل. وفي إضافة الكلمة إلى الله إعلاء لمكانها، وتنويه لشأنها. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} [التوبة:40] أي: غالب على ما أراد. {حَكِيمٌ} [التوبة:40] في حكمه وتدبيره. قال بعض المفسرين: استدل على عظيم محل أبي بكر رضي الله عنه من هذه الآية من وجوه: منها: قوله تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن). وقوله: (إن الله معنا). وقوله: (فأنزل الله سكينته عليه) قيل: على أبي بكر؛ لأنه كان خائفاً، وهو المحتاج إلى الأمن، وقيل: على الرسول صلى الله عليه وسلم. قال جار الله الزمخشري: وقد قالوا: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر؛ لإنكار كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هنا قال: (إذ يقول لصاحبه)، فالآية هنا تثبت صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: أنا والله صاحبك، فمن هنا قالت المالكية: من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل بخلاف غيره من الصحابة لنص القرآن على صحبته. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: (أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار). أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجهاً من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه فأطال وأطاب.

التوبة [41 - 59]

تفسير سورة التوبة [41 - 59]

تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافا وثقالا)

تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً) قال الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]. لما توعد الله تبارك وتعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر؛ أتبعه بهذا الأمر الجازم، فقال سبحانه وتعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله). (خفافاً وثقالاً) إعرابها: حالان من ضمير المخاطبين من الواو، أي: انفروا على أي حال كنتم، خفافاً لنشاطكم لهذا النفور، وثقالاً عنه لمشقته عليكم. أو: انفروا خفافاً: لقلة عيالكم وأذيالكم، أو ثقالاً: لكثرتها. أو: خفافاً: من السلاح، وثقالاً منه. أو: خفافاً وثقالاً: ركباناً ومشاة. أو: خفافاً وثقالاً: شباباً وشيوخاً. أو: خفافاً وثقالاً: مهازيل وسماناً. واللفظ الكريم يعم ذلك كله، والمراد: انفروا حال سهولة النفر وحال صعوبته. وقد روي عن ثلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط، ويستشهدون بهذه الآية، وفريق من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرون أن هذه الآية محكمة، وأنها تفرض الجهاد والغزو فرضاً عينياً على كل مسلم، ولم تعذر أحداً في التخلف عن الجهاد، ولذلك كانوا لا يتخلفون أبداً عن غزوة من الغزوات. ولما كانت البعوث إلى الشام قرأ أبو طلحة رضي الله تعالى عنه سورة براءة، حتى أتى على هذه الآية فقال بمجرد أن سمع هذه الآية: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباباً، جهزوني يا بني! مع أنه كان شيخاً كبيراً، فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فقال: ما سمع الله عذر أحد يعني: ما استجاب الله عذر أحد؛ لأن الله قال: (خفافاً وثقالاً)، فشملت جميع المسلمين، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه. وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ويقول: فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاماً واحداً. وقال أبو راشد الحراني: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فطن عنها يريد الغزو، فقلت له: قد أعذر الله إليك، فقال: أتت علينا سورة البعوث: (انفروا خفافاً وثقالاً). وعن حيان بن زيد قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان والياً على حمص، فرأيت شيخاً كبيراً هرماً من أهل دمشق على راحلته فيمن أراح، قد سقط حاجباه على عينيه، يعني: رآه على راحلته مع أنه كان شيخاً كبيراً، وسقوط الحاجب على العينين يكون في حالة الشيخوخة المتأخرة جداً. يقول: فأقبلت عليه، فقلت له: يا عم! لقد أعذر الله إليك، قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن أخي! استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل. روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله. فرحم الله تلك الأنفس الزكية! وحياها من بواسل باعت أرواحها في مرضاة ربها وإعلاء كلمته، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية! أيها الإخوة! الحديث ذو شجون في هذا الموضع بالذات، ولولا أننا نلتزم بالاجتهاد بالاختصار حتى ننجز القدر المطلوب إنجازه، لأفضنا في تفصيل الكلام، ومقارنة أوضاع المسلمين التي ما كان أي مسلم من قبل يتصور أو يحلم مجرد حلم في المنام أننا سنصل إلى هذا المستوى الذي نحن فيه الآن، ليس فقط من ناحية التقاعس عن الجهاد والاستسلام والتخاذل أمام أعداء الله سبحانه وتعالى وأعداء الدين، وإنما أيضاً تغيير المفاهيم لدى الناس حتى صارت قضية الجهاد قرينة لرمي الناس بالتطرف والعنف والإرهاب. إلى آخر هذه المسميات. روى الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: أن بعض الملوك عاهد كفاراً على ألا يحبسوا أسيراً من أسرى المسلمين، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: إني أسيرة، صرخت هذه المرأة من وراء هذا البيت وقالت له: إني أسيرة فأبلغ صاحبك خبري، فلما عاد إلى الأمير، واستطعمه عنده، وتجاذبا أطراف الحديث، ففي أثناء الكلام انتهى الخبر إلى هذه المرأة المعذبة، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه، وخرج غازياً من فوره، ومشى إلى الثغر، حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع -رحمه الله تعالى- وحرر هذه الأسيرة!! ومواقف المسلمين في ذلك معروفة، لا أقول في الصدر الأول ولكن حتى إلى عهد قريب، فالدولة العثمانية رغم أنها كانت في حالة ضعف شديد، إلا أنه كان لها من الهيبة والصولة والجولة ما هو معلوم، حتى كان المندوب العثماني إذا نزل في إحدى العواصم الأوروبية يمتنعون عن دق أجراس الكنائس احتراماً له، وفي نفس الوقت خوفاً من أن يغضبوه إذا سمع صوت الأجراس فيؤدبهم. وقرأت في كتاب تاريخ الدولة العالية لـ محمد فريد في أحد الخطابات: أن مندوب إحدى الدول الأوروبية -لعلها المجر أو نحوها- ذهب للخليفة العثماني، وطلب منه طلباً معيناً: أن يحمي بلاده، أو أن يحسن إليهم، أو شيء من هذا، فمقدمة الرد السلطاني أو الباب العالي -كما كانوا يسمونه- بدأ بذكر مقدمة طويلة من الجواب يقول فيها: إن الغازي ابن الغازي ابن سليل المجد كلها مجد وتفخيم واستعلاء من هذا الكاتب، وفي النهاية جملة قصيرة، بعد أن مدح الخليفة بهذه المدائح الطويلة جداً، انتهت بقوله: فقد رأى -يعني: جلالة السلطان المعظم- أن ينظر إلى طلبكم بعين الشفقة، واستجاب لهذا الطلب، وأنعم عليكم بتلبيته. هذا موجود في تاريخ الدولة العالية. فالشاهد: أننا بعد هذا العز انظر كيف حولوا تركيا التي كانت مركز خلافة الإسلام إلى بؤرة فساد، وشر على مجاوريها من البلاد الإسلامية، المهم أن واقعنا في الحقيقة مؤلم إلى حد يجب فيه أننا نتحسر على هذا الواقع، تماماً كما تحسر القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى حين قال: ولقد نزل بنا العدو قصمه الله سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر خيراتنا، وتوسط بلادنا في عدد هال الناس عدده، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه -نصح الحاكم والرعية-: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، يعني: أراد أن يشجع الوالي والرعية، فقال لهم: أي فرصة أحسن من هذه الفرصة، صار الأعداء موجودين داخل دياركم في الشبكة، والإمام القاضي أبو بكر بن العربي رجل أديب، على أرقى مستوى من الأدب، فانظر كيف كان تناوله مثل هذه القضايا بأسلوبه العذب البليغ. يقول: فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس، حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له؛ فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، -الوجار هو: جحر الضبع- وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. ثم رغب تبارك وتعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم، فبعدما قال: (انفروا خفافاً وثقالاً) قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]. وفي اسم الإشارة: (ذلكم) إشارة إلى النفير والجهاد، وفي معنى البعد الإيذان بأن منزلته رفيعة لبعد منزلته بالشرف، والمراد بكونه خيراً: أنه خير في نفسه أو: خير من الدعة والتمتع بالأموال.

تفسير قوله تعالى: (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك)

تفسير قوله تعالى: (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك) صرف الله تعالى الخطاب عن المتخلفين، ووجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معدداً لما صدر عنهم من الإهانات قولاً وفعلاً، ومبيناً لدناءة هممهم في هذا الخطب، فقال عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42]. (لو كان عرضاً قريباً) يعني: لو كان هذا الذي تدعوهم إليه عرضاً قريباً ونفعاً سهل المأخذ، (وسفراً قاصداً) أي: سفراً وسطاً ليس كهذا السفر البعيد إلى تبوك؛ (لاتبعوك)، لا لأجلك ولكن لموافقة أهوائهم، (ولكن بعدت عليهم الشُقة) أو (الشِقة) قرئ بالضم وبالكسر، يعني: بعدت عليهم الناحية التي ندبوا إليها، وسميت الناحية التي يقصدها المسافر الشقة؛ للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها، والناحية التي يقصدها المسافر غالباً تكون بعيدة، ولذلك هذه الناحية التي تقصدها تسمى الشقة، مأخوذة من المشقة التي تلحقه في الوصول إليها. (وسيحلفون بالله): هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك (سيحلفون بالله) (بالله) متعلق بكلمة (سيحلفون) يعني: سيحلفون بالله أو سيحلفون قائلين: بالله، يعني: كأنه من جملة كلامهم يعني: سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين بالعجز ويقولون: بالله لو استطعنا لخرجنا معكم إلى تلك الغزوة. ثم بين تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم؛ لأن المنافق دائماً من شأنه الاستجنان بالأيمان الكاذبة ويتخذها جنة ووقاية يحتمي وراءها. (يهلكون أنفسهم) أي: بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز. (والله يعلم إنهم لكاذبون)؛ لأنهم بالفعل كانوا يستطيعون الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)

تفسير قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، لم أذنت لهؤلاء المنافقين في التخلف حين اعتلوا بعللهم؟! (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)، هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم بالقعود؛ لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزوة، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة:44]، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله)؛ لأنهم يؤمنون بالله، فالإيمان يمنعهم من مخالفة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالخروج مع وجود القدرة، فالمؤمن إذا وجد في قلبه الإيمان والقدرة لا يتخلف عن الطاعة. (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله)؛ لأن الإيمان بالله يمنع عن التخلف مع القدرة. (واليوم الآخر): لأن الشخص الذي يؤمن بالله واليوم الآخر يمنعه ذلك من ترك استبدال الثواب والحياة الأبدية إذا أغروه بعرض من الدنيا قليل. (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم)؛ لأنهم يعتبرون الجهاد بها قربة، ويضحون بها في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فيبذلونها في سبيله. (والله عليم بالمتقين) أي: فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم، ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء، ووعده لهم بأجزل الثواب. ((إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) أي: إنما يستأذنك في ترك الجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله: الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، إذ لا يرجون ثوابه، وهم المنافقون، ولذا قال تعالى: (وارتابت قلوبهم)، فيما تدعوهم إليه، ورسخ فيها الريب والشك، (فهم في ريبهم يترددون) أي: ليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هلكى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

علو مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل

علو مقام النبي عليه الصلاة والسلام عند ربه عز وجل اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم، وتعهده بحسن المفاوضة، ولطف المراجعة؛ ما لا يخفى على أولي الألباب، وهذا في غاية التلطف والعناية من الله سبحانه وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله سبحانه وتعالى علم أنه لو جابه خليله صلى الله عليه وسلم بالعتاب ربما ذهبت نفسه شفقة من هذا العتاب، لو قال له: لماذا أذنت لهم؟ لانشق قلبه صلى الله عليه وسلم فزعاً وجزعاً، فمن لطف الله سبحانه وتعالى به، ومحبته لنبيه صلى الله عليه وسلم، طمأنه أولاً فقال: (عفا الله عنك)، يعني: ما سيأتي من العتاب معفو عنك فيه فلا تجزع؛ تلطفاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، ورعاية لجانبه عليه الصلاة والسلام. (عفا الله عنك لم أذنت لهم)، كي يطمئنه أولاً، كي لا يجزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (عفا الله عنك)؛ فبشره أولاً بالعفو دون أن يأتي بما يوهم العتاب. قال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف! بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو، وهذه الآية من المواضع التي يتكلم فيها المصنفون في الخصائص النبوية، والتي يتحدثون فيها عما اختص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصائص في القرآن والسنة، فهذه من خصائص القرآن الكريم، وفيها بيان علو مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه عز وجل. وقال بعض المفسرين: (عفا الله عنك) في افتتاح الكلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك. وقال الداودي: إنها تكرمة، ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم وهو يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة تعود بعفوك أن أبعدا ألم تر عبداً عدا طوره ومولى عفا ورشيداً هدى أقلني أقالك من لم يزل يقيك ويصرف عنك الردى وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب؛ غير صحيح، فهذه من المواضع التي زل فيها الزمخشري، بل ضل، وبنى كلامه على أن العفو لا يكون إلا عن ذنب، فالواجب تفسير كلمة العفو في كل مقام بما يناسبه. قال الشهاب: وعبارة: (عفا الله عنك) تستعمل حيث لا ذنب، ولا تعني وقوع ذنب، كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ هذا شخص تعظمه ومع ذلك تقول له: عفا الله عنك، فلا يستلزم ذلك أنه يكون قصر في حقك أو أذنب، وإنما هذه تكون في المخاطبات، وفي الحديث: (عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له)، يقول المحقق: لم أقف على هذا الحديث. وقال السخاوندي: هو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم، يعني: المقصود من هذا السياق: تعليم الأمة كيفية تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان ربه عز وجل يخاطبه هذه المخاطبة، ويتلطف به هذا التلطف؛ فعلينا أيضاً أن نلزم هذا الأدب في مقامه وجنابه صلى الله عليه وآله وسلم، ولولا تصدير العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب. وقال القاضي عياض في الشفا في التعريف بحقوق المصطفى، وهذا كتاب من الكتب الأساسية، ولا يليق أبداً بطالب علم أن يفرط فيه، كما أن طالب العلم لا يليق به أنه لا يقرأ في رياض الصالحين، والأذكار النووية، وزاد المعاد، وهذه الكتب من الطبيعي جداً لطالب العلم أن يمر عليها، ولا يليق به أبداً أن يمر عمره دون أن يطلع على هذه المجموعة من الكتب. يقول القاضي عياض: وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي فلا يعد معصية، ولم لا يعد معصية؟ لأنها لا تكون معصية إلا إذا تقدم فيما مضى نهي خالفه النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وكون هذا الفعل لم يتقدمه نهي فيبعد أن يكون معصية، والله سبحانه وتعالى لم يعدها عليه معصية، بل لم يعده أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك، وحتى القول بأنها معاتبة اعترض عليه بعض العلماء وقالوا: هذه ليست معاتبة. قال نفطويه: وقد حاشاه الله من ذلك، بل ما كان مخيراً في أمرين، وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي، فما دام لم ينزل وحي ينهاه عن الإذن لهؤلاء المنافقين فهو بالخيار في ذلك صلى الله عليه وآله وسلم، كيف وقد قال تعالى: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62]؟! فأيدوا بهذه الآية القول بأنه لا عتاب، حتى العتاب غير مقصود في هذه الآية، كيف ولم يتقدم وحي ينهاه؟ ثم أيضاً الله سبحانه وتعالى خيره فقال: (فأذن لمن شئت منهم)، فلما أذن لهم أعلمه الله سبحانه وتعالى بما لم يطلع عليه من سرهم، ولو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، فالآن هم يتسترون وراء إذن النبي عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى بين لنبيه أنهم أضمروا شراً، وعزموا بالفعل على التخلف، فلو لم تأذن لهم لافتضحوا وظهر هذا الذي معهم، وهم في الحالتين سواء أذنت لهم أو لم تأذن لهم ما كانوا ليخرجوا، وقد عقدوا قلوبهم على التخلف. يقول: فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم، وأنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق)، ولم تجب عليهم قط، يعني: لم يلزمهم ذلك، وهذا الحديث رواه ابن ماجة. ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب. من لم يعرف كلام العرب، وهذا تعريض بـ الزمخشري؛ لأنه هو الذي قال هذه العبارة، قال: ومعنى عفا الله عنك أي: لم يلزمك ذنباً، وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته، ومن عورات الكشاف للزمخشري في هذه الآية أنه عبر هذا التعبير الذي رفضه العلماء حينما قال: إن العفو لا يكون إلا عن ذنب. وللعلامة أبي السعود مناقشة معه في ذلك، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة، قال رحمه الله: ولقد أخطأ وأساء الأدب، وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية، وأن معناه أخطأ وبئسما فعل، هب أنه كناية، أليس إيثاره على التصريح بالكناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العتاب؟! يعني: حتى لو كانت جناية ألا تلاحظ التلطف هنا في هذا، فكيف يعبر هذا التعبير القبيح؟ لأن هذا لا يليق في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبيح، واستتباع اللائمة، بحيث هذه المرتبة من المشافهة بالسوء، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما -وهو في التفسير قال: بئسما- أيجوز استعمال هذه العبارة المنبئة عن بلوغ القبح إلى ردة يتعجب منها؟ لأن بئس هذه يتعجب فيها بالذم، فأين هو في قوله: بئسما ما فعلت، من تعظيم الله سبحانه وتعالى نفسه لنبيه وتلطفه معه في الخطاب؟! ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين، أو منفعة للمسلمين، بل كان فيه فساد وخبال، حسبما نطق به قوله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47]، وقد كرهه الله سبحانه وتعالى، أي: أن خروجهم كان مبغوضاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، فقد كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير يعني: أول كل شيء، كان يبدو من الأول، ويفتضحون من أول كل شيء، نعم كان الأولى تأخير الإذن، حتى يفتضحوا على رءوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش بالأمن والدعة، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم؛ لأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب، على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان. قال الخفاجي: وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك. بعضهم يحاولون أن يخففوا من الخطأ الذي ارتكبه الزمخشري فقالوا: إنه يقصد أن الأصل في استعمال هذا التعبير: (عفا الله عنك) أنه يكون فيما يكون فيه جناية، فأبدله بالعفو تعظيماً لشأنه، وإذا قدم العفو على ما يوجب الجناية فلا خطأ فيه، قال رحمه الله: ولو اتقى هو والموجه موضع التهم كان أولى وأحرى.

غائلة الاستئذان والتثاقل في الخروج للجهاد

غائلة الاستئذان والتثاقل في الخروج للجهاد استدل بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحياناً بالاجتهاد، كما قال الرازي. وقال السيوطي في الإكليل: استدل بها من قال: إن اجتهاده قد يخطئ، ولكن ينبه عليه بسرعة. قال الرازي: دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب والإبعاد. وقيل: نفي الفعل للمستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى: (لا يستأذنك) معناه: أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا، (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر). قال الناصر: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقاً، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:44] إلى آخره، فهذا بيان أن هذا شأن المؤمنين، وأنه لا يقع منهم هذا الفعل، فهو ينفي هذا الأمر ووقوعه في المستقبل، وواضح أن هذه الصيغة تفيد الاستمرار. فهذا الأدب ينبغي أن يتحراه ويقتفيه المؤمن مطلقاً، فلا يليق المرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، إذ ليس من الأدب ولا المروءة أن تقول للضيف: هل أكلت أم لا؟ لكن تحضر الطعام، هذا هو الكرم، وهذه هي المروءة الإسلامية، يحضر له الطعام ما دام يملكه؛ لأنه قد يحرج ويقول لك: لا، لكن الأصل أن الإنسان يقدم الطعام دون استئذان. وعندما نراجع أخلاق الخليل إبراهيم عليه السلام، فإنه ما قال لهذا الوفد الذي أتاه: هل أحضر لكم طعاماً؟ أو: هل أنتم محتاجون إلى طعام؟ لا، المقصود من أدب الأخوة: ألا يحوج أخاه أن يطلب منه شيئاً، يعني: إذا انتظرت حتى يطلب منك أخوك الإعانة على معروف أو على أمر يحتاجه، فهذه درجة متدنية من الأخوة، ومن التقصير أن يحوج أخاه إلى أن يطلب منه، والمقصود: أنه يتوخى ويتحرى حاجة أخيه، وكيف يسدها له قبل أن يلجئه إلى الطلب منه. يقول هنا: فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يجزي له معروفاً، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاماً، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، وصلوات الله على خليله وسلامه، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئاً من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم، أي: أنه لم يكن يظهر أمامهم استعداداً بأنه يهيئ نفسه للضيافة، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة، فقال تبارك وتعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] (فراغ) أي: اختفى وما أظهر لهم أنه يستعد وليس بمرأى من ضيوفه، فلا يتصل بالتليفون بالمحل أمام الضيوف أحضر كذا وكذا، ولا يظهر أنه يعد طعاماً، لا، بل اختبأ يعد في السر، ثم يعرضه عليهم، والمهتم بأمر ضيفه ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة، إن كان معك ضيف وفي الطريق تشتري له كذا وكذا من المشروب والأكل، هذا أيضاً فيه إظهار التهيؤ للضيافة، وكأنك تستأذنه: هل أضيفك أم لا؟! والكريم يعرض الطعام على الضيف ثم إذا شاء أكل، وإن شاء امتنع عن الطعام، لكن لا يستأذن الضيف، فهذا من الآداب التي ينبغي أن يتمسك بها ذوو المروءة وأولو القوة. وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين: التثاقل عن المبادرة إليه، وإذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم من شأنهم لعلو كعبهم في الإيمان وشرفهم وعلو هممهم، لا يمكن أن يقع منهم أبداً استئذان في الخروج عن الجهاد، ولا يمكن أن يستأذنوا أبداً، فهذا ليس من شأن المؤمنين: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:44]. وأشد من ذلك ليس فقط الاستئذان كما فعل المنافقون، بل أشد من ذلك أيضاً: التثاقل عن المبادرة إليه بعد الحض عليه والمناداة، فقد حضهم الرسول عليه السلام وناداهم وكلفهم، ثم بعد ذلك اعتذروا واستأذنوا في الخروج! وأسوأ أحوال المتثاقل وقد دعي الناس إلى الغزاة: أن يكون متمسكاً بشعبة من النفاق، نعوذ بالله من التعرض لسخطه!

تفسير قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة)

تفسير قوله تعالى: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) بين الله تعالى جلياً شأن أولئك المنافقين المستأذنين بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة، ولذلك خذلهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة) يعني: قوة من مال وسلاح وزاد، ونحو هذا. (ولكن كره الله انبعاثهم) أي: نهوضهم للخروج، (فثبطهم) كسلهم وضعف رغبتهم، (وقيل اقعدوا مع القاعدين) يعني: مع النساء والصبيان. ودل قوله تعالى: (لأعدوا له عدة) على أن عدة الحرب من الكراع والسلاح، وجميع ما يستعان به على العدو هو من جملة الجهاد، فما صرف في المجاهدين صرف في ذلك، يعني: الزكاة مثلاً إذا أخرجت في سبيل الله تصرف أيضاً في العدة من السلاح وغيره، وهذا جلي فيما يتقوى به من العدة كالسلاح، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك مما يضعف به قلب العدو فهو داخل في الجهاد، يعني: دخول السلاح دخول جلي، أما هذه الأشياء فالظاهر أنها أيضاً تدخل فيه، وقد قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، ويكون ذلك كلباس الحديد حالة الحرب، وهذا جلي حيث لا يؤدي إلى الترف. ((وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ))، للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين أن يخرج للجهاد، فإذا علم من شخص أنه مثبط مخذل، أو يخرج لأجل الإضرار، أو يتجسس على المسلمين؛ فللإمام أن يمنعه من الخروج، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذل. (وقيل اقعدوا مع القاعدين) قيل: إنه تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم، يعني: نزل خلق داعية القعود فيهم منزلة الأمر والقول؛ كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243]، قال: موتوا يعني: أماتهم ثم أحياهم. أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود. وقوله: (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا)، كان يمكن أن يقول: وقيل: كونوا مع القاعدين، لكن قال: (اقعدوا مع القاعدين). قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى قوله: (مع القاعدين)؟ قلت: هو ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى، الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87]، وهذا وصف لهم بدناءة وخفة الهمة أن يرضوا بأن يكونوا مع النساء والصبيان وهؤلاء الخوالف. قال الناصر: وهذا من تنبيهاته الحسنة -أي: الزمخشري -، ونزيده بسطاً فنقول: لو قيل: اقعدوا مقتصراً عليه لم يفد سوى أمرهم بالقعود، وكذلك لو قال: كونوا مع القاعدين، فإن كلاهما يفيد الأمر بالقعود وحسب، ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد، لكن لما قال: (اقعدوا مع القاعدين) أي: رضيتم لأنفسكم أن تندرجوا في وسط النساء والصيبان، واستويتم بالنساء والصبيان والمرضى الذين أمراضهم مزمنة؟! ولعن الله فرعون لما بالغ في توعد موسى عليه السلام بقوله: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، ولم يقل: لأجعلنك مسجوناً، لمثل هذه النكتة من البلاغة: (لأجعلنك من المسجونين) يعني: من المسجونين الذين تعرف حالهم، وما يعانونه من كذا وكذا، وهذه الفائدة لا تظهر لو قال: (لأسجننك)، أو لأجعلنك مسجوناً، لكن قال: (لأجعلنك من المسجونين).

تفسير قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا)

تفسير قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) ثم بين تعالى سر كراهته لخروجهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]. (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) أي: إلا فساداً وشراً. (ولأوضعوا خلالكم) لأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد. قال الشهاب: الإيضاع: إسراع سير الإبل، يقال: وضعت الناقة تضع إذا أسرعت، وأوضعتها أنا، والمراد هنا: ولأوضعوا خلالكم: أسرعوا وتحركوا في وسط صفوفكم بالنمائم -جمع: نميمة- ينشرون النميمة والإفساد بين صفوف المسلمين، ولذلك قال تعالى هنا: (ولأوضعوا خلالكم) يعني: أوضعوا، كأنهم يركبون الإبل ويتحركون بها وسط المسلمين ليشيعوا النميمة والإفساد. فقيل: المفعول مقدر وهو النمائم، ولأوضعوا خلالكم، يعني: النمائم، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها، وأثبت لها الإيضاع، ففيه استعارة تخييلية أو مكنية، وقيل: شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنميمة بسرعة سير الركائب، ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل. (ولأوضعوا خلالكم) جمع خلل. (يبغونكم الفتنة) يطلبون لكم ما تفتنون به لإيقاع الخلاف فيما بينكم، وإلقاء الرعب في قلوبكم، وإفساد نياتكم. (وفيكم سماعون لهم) منقادون لقولهم، مستحسنون لحديثهم، وإن كانوا لا يعلمون حالهم لضعف عقولهم؛ فيتوهمون منهم النصح والإعانة، وهم يريدون التخذيل والفتنة، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: أي: فيكم عيون وفيكم سماعون لهم؛ وقيل: فيكم عيون يسمعون لهم أخباركم وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة للسياق، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين. (والله عليم بالظالمين) يعني: لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وفيه شمول للفريقين: القاعدين والسماعين.

تفسير قوله تعالى: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل)

تفسير قوله تعالى: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة، أي: أن هذا مجرب، وهو ديدنهم ودأبهم فيما مضى، قال الله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:48] أي: طلبوا الشر بتشتيت شملك وتفريق صحبك عنك من قبل غزوة تبوك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول حين انصرف بثلث الجيش يوم أحد عن المسلمين. (وقلبوا لك الأمور) يعني: دبروا لك الحيل والمكائد، ودوروا الآراء في إبطال أمرك. قال الشهاب: المراد من الأمور المكايد، فتقليبها مجاز عن تدبيرها، أو تقليبها: تفتيشها وإزالتها، (وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق) وهو تأييدك ونصرك وظفرك. (وظهر أمر الله) أي: علا دينه. (وهم كارهون) أي: على رغم منهم. قال ابن كثير: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال ابن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه، يعني: هذا أمر قد أقبل، فدخلوا في الإسلام ظاهراً ثم لما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. (ومنهم من يقول ائذن لي) في القعود، (ولا تفتني) أي: لا توقعني في الفتنة. روي عن مجاهد وابن عباس: أنها نزلت في الجد بن قيس أخي أبي سلمة، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في الاستعداد للجهاد: (هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟! -يعني: في جهاد بني الأصفر وهم الروم- فقال: يا رسول الله! أوتأذن لي ولا تفتني؟ عافني من ذلك، ائذن لي ألا أذهب ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: قد أذنت لك). قال الشهاب: كان يخشى العشق لهن، أو مواقعتهن من غير حل. وبنو الأصفر هم: الروم، وقيل في وجه التسمية وجوه، منها: أنه ملكهم بعض الحبشة فتولد بينهم أولاد ألوانهم ذهبية. والجد بن قيس هذا من بني سلمة، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (من سيدكم يا بني سلمة؟! قالوا: الجد بن قيس على أنا نبخله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوأ من البخل؟! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض؛ بشر بن البراء بن معرور). ((أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)) قال أبو السعود: أي: في عينها ونفسها، فرغم أنهم يخافون الذهاب لجهاد الروم فيقعوا في الفتنة، والذي فعلوه هو نفسه الفتنة وعينها. قال: وأكمل أفرادها الغني عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به. (سقطوا) لا في شيء مغاير لها، فضلاً عن أن يكون مهرباً ومخلصاً منها. يعني هذا القعود وهذا التخلف ليس مهرباً أو مخلصاً من الفتنة، وإنما هو عين الفتنة التي يزعمون أنهم يريدون أن يهربوا منها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف، والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة، ومن القعود بالإذن المبني عليه، وعلى الاعتذارات الكاذبة. وقرئ بإفراد الفعل، محافظة على لفظ (من) - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]- وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه مع تقديم الظرف - (ألا في الفتنة) - إيذان بأنهم وقعوا فيها، وهم يحسبون أنها منجىً من الفتنة، زعماً منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن. وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في درجات الردى أسفل سافلين. ((وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)) أي: يوم القيامة، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا.

تفسير قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم)

تفسير قوله تعالى: (إن تصبك حسنة تسؤهم) بين تعالى عداوة المنافقين زيادة في تشهير مساوئهم فقال سبحانه وتعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50]. (إن تصبك حسنة) يعني: فتح وظفر وغنيمة (تسوءهم) أي: يسيئهم ذلك؛ لشدة عداوتهم لك. (وإن تصبك مصيبة) يعني: نوع من الشدة. (يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) نحن قد احتطنا، وأخذنا بالقعود. (من قبل) أي: من قبل إصابة المصيبة، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين لآرائهم، أي: كنا أذكياء، وكنا نحسن التفكير حينما حزمنا أمرنا، ولم نخرج إلى الجهاد، وهم قد أظهروا الفرح برأيهم (وهم فرحون) برأيهم، وبما أصابكم.

تفسير قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)

تفسير قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) ثم أرشد تعالى إلى جواب المنافقين ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم، فالسبب الذي سروا به وفرحوا من أجله سبب باطل لا يستوجب ذلك، فقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]. (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، هذا احتجاج بالقدر في موضعه؛ لأن القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به على المعائب والذنوب. (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) أي: ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية والأخروية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهذا الفرح لرضانا بقضائه في تلك المصيبة، نحن في هذه المصيبة نقوم بنوع آخر من أنواع العبودية، وهو: الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى، ونحمده في الضراء كما نحمده في السراء، فهذا الأمر لم يسؤنا في الحقيقة، ولكننا نرضى بقضاء الله عز وجل، كيف والله سبحانه وتعالى لم يكتبها علينا ليضرنا بها؛ إذ هو مولانا؟! فإذا كان الله سبحانه وتعالى هو مولانا الذي يتولى أمورنا ويوقع الأمور على وفق مصلحتنا الدينية والأخروية، فكيف نُساء بما يبتلينا به من المصائب والأقدار؟! (هو مولانا) يتولى أمورنا، فإنما كتبها علينا ليوطننا على الصبر عليها والرضا بها، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها. (وعلى الله فليتوكل المؤمنون)؛ لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره، (وعلى الله)، وحده، (فليتوكل المؤمنون)؛ لأن التوكل لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى. ((قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا))، هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنين؟ وكم أكلت هاتان الآيتان من قلوب أعداء الدين؟ لأنهم يمعنون في إغاظة المسلمين وكيدهم ثم إذا بالمسلمين يظهرون عدم المبالاة لهذا الكيد ويستدلون بهذه الآية الكريمة! (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)، علام تشمتون؟ وعلام تفرحون والله لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا، ويكتب لنا ليوفقنا للصبر ثم للجزاء بالجنة؟ (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)؛ لأن الله يريد بنا الخير حتى فيما هو شر، لكن العاقبة للتقوى، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]؛ لأنه هو مولانا، فـ: (هو مولانا)، تعليل لهذا التفسير، فهو مولانا الذي يتولى أمورنا، ومولانا الذي ينصرنا، والله سبحانه قال في أوليائه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، إلى آخر الحديث المعروف، فهو مولاهم الذي يتولاهم، فلا يمكن أن يكتب لهم شيئاً يريد بهم فيه الشر، وإنما يريد بهم فيه الخير حتى لو كان في ظاهره خلاف ذلك. (قل هل تربصون) أي: هل تنتظرون بنا، (إلا إحدى الحسنيين) أي: إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب، ليست حسنة لكنها الحسنى -الأفضل والأخير- وهما النصر أو الشهادة، فلو كان الإنسان يؤمن بالله وباليوم الآخر، ويصدق الرسول عليه السلام، ويصدق وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، فهي فعلاً إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة، وهذا أقصى ما يغيظ أعداء الدين، وهذه الآية كم دوخت من أمم! وكم أزالت من ممالك! هذا هو خلاصة الكلام، أقصى ما يضرك من الأعداء هو أن يقتلوك، فالقتل في حقك إن كان في سبيل الدين فهو شهادة، وليس سقوطاً ولكنه ارتفاع إلى الفردوس الأعلى، والوعد الذي رتبه الله سبحانه وتعالى على الشهادة -كما سيأتي في آخر السورة- وعد عظيم، وكل مؤمن عنده يقين فلا يضن على نفسه بأعظم أمنية بأن يموت في سبيل الله عز وجل. فهذه جعلت لأمة المسلمين خصيصة لا تدانيها فيها أمة من الأمم، لا سيما أحفاد القردة والخنازير؛ لأن اليهود -لعنهم الله- أخوف ما يخافون من أمثال هذه الآية الكريمة، ولذلك عبروا كثيراً عن أنهم لا يخافون إلا من المسلمين؛ لأن المسلم يعتقد أنه لو قتل يهودياً أو قتله اليهودي فسيدخل الجنة في الحالتين، وهو المعنى الذي تجسده هذه الآية: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]. أما نحن: (ونحن نتربص بكم) إحدى السوءتين من العواقب: إما أن يصيبكم الله بعذاب من عنده، كما أصاب من قبلكم من الأمم، أو بعذاب بأيدينا وهو القتل، وتموتون على الكفر. (فتربصوا) بنا ما ذكر من عواقبنا. (إنا معكم متربصون) منتظرون ما هي عاقبتكم، فلابد أن يلقى كل منا ما يتربصه، ولا يتجاوزه، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم.

تفسير قوله تعالى: (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم)

تفسير قوله تعالى: (قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم) قال تعالى: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة:53]. (قل أنفقوا) يعني: أنفقوا أموالكم في سبيل الله ووجوه البر. (طوعاً أو كرهاً)، هذان مصدران وقعا موقع الفاعل، يعني: طائعين من قبل أنفسكم أو كارهين مخافة القتل. (لن يتقبل منكم) لن يتقبل منكم ذلك الإنفاق. ثم بين سبب ذلك بقوله: (إنكم كنتم قوماً فاسقين) أي: عاتين متمردين. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق، ثم قال: (لن يتقبل منكم)؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، فهو مثل قوله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75]، أمر بمعنى الخبر، ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً، فكلمة: (أنفقوا) المقصود بها أنفقتم، لكن الكلام ترتيبه في التفسير كما يلي: لن يتقبل منكم نفقاتكم سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً لا فائدة، ونحوه قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة:80] يعني: لن يغفر الله لهم سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. ومنه قول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت يعني: لا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت. يقول: الزمخشري: فإن قلت: متى يجوز مثل هذا التعبير أو السياق؟ قلت: إذا دل الكلام عليه، كما جاز عكسه في قوله: رحم الله زيداً وغفر له، فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، وهي أن كثيراً كأنه يقول لـ عزة: امتحني لطف محلك عندي وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة أو الإحسان وانظري، هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة؟ ولذلك يقول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة. وفي معناه قول القائل: أخوك الذي إن قمت بالسيف عامداً لتضربه لم يستغشك في الود وهذه درجة من الأخوة نادرة، يقول: أخوك الحقيقي الذي إن أسأت إليه أحسن إليك، حتى لو قمت تضربه بالسيف لا يغشك في المودة، أو لا يستغشك -من الغش والخيانة- ولو جئته تطلب أن تقطع يده لبادر إليك فرقاً من الرد عليك، لبادر هو بذلك خوفاً من أن يؤذيك بأن يعذر لك أو يمنعك من ذلك ويردك عنه، يقول: أخوك الذي إن قمت بالسيف عامداً لتضربه لم يستغشك في الود ولو جئت تبغي كفه لتبينها لبادر إشفاقاً عليك من الردِ يرى أنه في الود وانٍ مقصر على أنه قد زاد فيه عن الجهد مع كل هذا يرى أن هذا الود هو مقصر فيه! كذلك المعنى هنا: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ مثل قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، انظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ لا، بل في كلا الحالتين لن يغفر الله لهم، وكذلك هنا: ((أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)).

تفسير قوله تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله)

تفسير قوله تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله) {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54]، جمع كسلان، يعني: متثاقلين؛ إذ لا يرجون على فعلها ثواباً؛ لأن الرغبة والرهبة هي القوة الدافعة للعمل، فهم ليس عندهم خوف ولا رجاء ثواب، فلذلك يقومون متكاسلين فقط تحت ضغط السيف والسلطان، فلا يرجون على فعلها ثواباً، ولا يرهبون من تركها عقاباً؛ لأنهم مكذبون. {وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54]؛ لأنهم يرون الإنفاق في سبيل الله مغرماً وتركه مغنماً. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه) رواه النسائي عن أبي أمامة، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].

تفسير قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)

تفسير قوله تعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) لما بين تعالى قبائح أفعال المنافقين، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين، وعدم قبول نفقاتهم؛ ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم، فهم يبخلون بالمال لحرصهم على الدنيا، ويتمتعون بهذه الدنيا، ويظنون أن من الكياسة والذكاء أنهم يتنعمون بهذه الدنيا بهذه الطريقة؛ فبين تعالى وجلَّى تمام الانجلاء أن النفاق سبب الخسارة، لجلبه آفات الدنيا والآخرة، فقال سبحانه وتعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]. (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)، وهذا هو الواقع، فعامة المفتونين بالكفار إنما يفتنون بهم بسبب الدنيا لا بسبب أي شيء آخر، وعامة الذين يفتنون بالكفار أغلب أسباب فتنتهم بالدنيا، وبما معهم من مال، وقوة، وانطلاق في الأرض، أو غير ذلك من أعراض الدنيا، لكن هل هناك من يفتن بهم لأنهم يعبدون الله، أو لأنهم موحدون لله، أو لأنهم ملتزمون بالإسلام؟ كلا، فينبغي أن تصحح المقاييس والمفاهيم في النظر لهؤلاء الأراذل من أعداء الدين وأعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم)؛ لأن ما هم فيه من النعمة أو المال والأولاد إنما هو استدراج لهم، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) أي: بسبب ما يكابدون لجمعها، فهم يتعبون في تحصيل المال، ثم يتعبون ويكدون في حفظها، فيتعذبون بتحصيل المال، ويتعذبون بحمايته، ويعانون فيها من الشدائد والمصائب ما الله به عليم. (إنما يريد الله ليعذبهم)، قيل: اللام هنا زائدة، وقيل: المفعول محذوف، يعني: أن اللام تعليلية: إنما يريد الله إعطاءهم ليعذبهم، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا يرد: أن من أحب شيئاً سواه عذب به ولابد. فالله سبحانه وتعالى يعذبهم بها، وفعلاً لو أخذنا نتحدث في جزئية من هذه الآية، وهي: تعذيب الكافر بأولاده، ولو تأملتم أحوال الكفار في بلادهم، ستجدون أن أغلب هؤلاء الكفار يعذبون بأولادهم أشد العذاب، وقد يصل إلى القتل، والعقوق الذي لا عقوق بعده، وصار هذا الأمر متوارثاً، وهؤلاء يستدينون ديناً سابقاً، فهؤلاء الآباء من قبل عقوا آباءهم، فيعذبون -فعلاً- بأولادهم أشد أنواع العذاب. ((وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) يعني: يموتون كافرين لاهين بالتمتع بالدنيا عن النظر في العاقبة، فيكون ذلك استدراجاً لهم، كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وأصل كلمة الزهوق: الخروج بصعوبة، (وتزهق أنفسهم) أي: تخرج أرواحهم من عروقهم ويعذبون أثناء خروجها، كما هو معروف في الحديث. (وهم كافرون)، وهذه مصيبة أكبر؛ أن يموت إنسان على الكفر والعياذ بالله، ولو مات على الكفر انتهى كل شيء، فيخلد في جهنم أبد الآباد، {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74].

تفسير قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم)

تفسير قوله تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56]. (ويحلفون بالله) أي: المنافقين، (إنهم لمنكم) أي: في الدين؛ ليدفعوا بدلالة اليمين دلائل النفاق، ليدفعوا دلائل النفاق الظاهرة منهم كالتخلف والاستئذان، (وما هم منكم) لأنهم كاذبون، (ولكنهم قوم يفرقون) إنما يحلفون لكم لأنهم يخافون القتل، ويخافون ما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة. ثم أشار إلى سبب الخوف وهو: أزمة المساكن، فقد كانوا يخافون أن تضيع عليهم المساكن التي يعيشون فيها بينكم، يقول: ثم أشار إلى سبب الخوف، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم واضطرارهم وحاجتهم إلى المساكن التي يعيشون فيها بينكم، لكن لو وجدوا بديلاً حتى لو في الجحور والمغارات لهربوا وفروا إلى هذه الأماكن، فيقول تعالى مبيناً سبب خوفهم: (ولكنهم قوم يفرقون) {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:57]: من شدة البغض للإسلام وأهله، لكنهم مضطرون من باب: ودارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم (لو يجدون ملجأً) يعني: لو يجدون حصناً يلتجئون إليه، (أو مغارات) في الجبال، يسكن كل واحد منهم مغارة. (أو مدخلاً) يعني: موضع دخول يدخلون فيه، وهو السرب في الأرض. (لولوا إليه) لأقبلوا نحوه. (وهم يجمحون) أي: يسرعون إليه إسراعاً لا يردهم عنه شيء؛ كالفرس الجموح النفور الذي لا يرده لجام، أي: لو وجدوا شيئاً من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها مستنكرة لأتوه لشدة خوفهم وكراهتهم للمسلمين، وغمهم بعز الإسلام ونصر أهله؛ لأنهم إذا عاشوا في وسط المسلمين يرون عزة الإسلام فينالهم غم وهم، ويرون نصرة أهل الإسلام فتركبهم الهموم والاكتئاب ويعلوهم البأس، فهم في حالة من النفور والكراهية والخوف لا يجعلهم يصبرون على الإقامة سوى اضطرارهم لهذه الأماكن التي يعيشون فيها، لكن لو وجدوا ملجأً حتى في أماكن سيئة للغاية كهذه الأماكن التي هي مستنكرة ومنفرة لفضلوها على الإقامة بينكم؛ لكنهم لا يجدون. فانظر إلى التعبير بكلمة: (لولوا إليه وهم يجمحون)، فهي تكشف ما في قلوبهم من الحقد على الإسلام وأهل الإسلام، وعلى العكس تماماً الآن نرى الملاحدة والمنافقين والعلمانيين أعداء الدين، كيف أنهم لما أمنوا، ولا سلطان لهم يردعهم، ولا شريعة لديهم تؤدبهم، انطلقوا كالجرذان المسعورة بهذا العدوان على دين الله سبحانه وتعالى في الإعلام صباح مساء، حتى إن جرثومة مثل نصر أبو زيد المرتد الملحد الذي يسب الله والرسول عليه السلام، ويطعن في القرآن الكريم، ومع ذلك يوجد من هؤلاء المجرمين من يقول: أين حرية الفكر؟ وأين حرية الاعتقاد؟ ووالله ما هي حرية الفكر، إنما يريدون حرية الكفر، فإلى الله المشتكى مما وصلنا إليه! انظر كيف كان ضعف المنافقين في عهد النبوة، {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56 - 57].

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]. (يلمزك) يعني: يعيبك. (في الصدقات) يعني: في قسمة الصدقات، يلمزون الرسول ويعيبونه بأنه -والعياذ بالله وحاشاه- غير عادل. ثم بين فساد لمزهم وأنه لا منشأ له، وليس لأنهم حريصون فعلاً على العدل؛ لكن لأنهم حريصون على حطام الدنيا، فيقول تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)، من يعيبك في قسمة الصدقات، {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]. (إن أعطوا منها) القدر الذي يريدون (رضوا)، وقالوا: هذا عدل، (وإن لم يعطوا منها) القدر الذي يطلبون، (إذا هم يسخطون)، فيجعلونه غير عدل.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله) قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]. (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله) يعني: كفانا فضله وما قسمه لنا. (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) يعني: بعد هذا إن كنا نؤمل المزيد فسوف يؤتينا الله من فضله حسب ما نرجو ونؤمل. (إنا إلى الله راغبون) يعني: راجون أن يغنمنا ويخولنا فضله. والجواب محذوف بناءً على ظهوره، يعني: لو أنهم فعلوا ذلك، ولو أنهم قالوا ذلك؛ لكان خيراً لهم. (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله) يعني: في المستقبل لكان خيراً لهم. روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئاً، أتاه ذو الخويصرة رجل من بني تميم، وقال: يا رسول الله! اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ائذن لي فأضرب عنقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، والمراد بذلك: الخوارج، وهذا الرجل فعلاً هو أصل الخوارج، وتحقق خروج هؤلاء الخوارج بهذه الأوصاف التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمع اجتهادهم في العبادة؛ حتى إن أحدكم ليحقر صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، ويقرءون القرآن، لكن لا يجاوز تراقيهم، يعني: لا يؤجرون عليه ولا يرفع إلى الله سبحانه وتعالى.

التوبة [60 - 72]

تفسير سورة التوبة [60 - 72]

تفسير قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)

تفسير قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:58 - 59]. فأجابهم الله سبحانه وتعالى مبيناً أنهم لا يستحقون أن يعطوا من الزكاة أو من الصدقات، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] يعني: إنما يستحق الصدقات: {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]. لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات، أعقب ذلك ببيان أحقية ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من القسمة، ففي الآيتين السابقتين: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) أي: يعيبك، (فِي الصَّدَقَاتِ) أي: في قسم الصدقات، فأعقب ذلك ببيان أحقية ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من القسمة؛ لأنه في هذا القسم لم يتجاوز مصارفها المشروعة له، وهذا هو عين العدل، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ولم يكله إلى أحد غيره، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً، فالذي تولى القسمة هو الله سبحانه وتعالى، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أي دور، وإنما بين مصارف الصدقات، وكان قاسماً موزعاً والله هو الذي أعطى، كما في الحديث المتفق عليه عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي)، فالعطاء من الله، وما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يوزعها ويصرفها حيث أمره الله تبارك وتعالى، فكذلك هنا الله الذي أعطى، والله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بتوزيع المال على هذه المصارف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي قسمها على هؤلاء، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئاً، بل حرمت الصدقة على أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، ففيم اللمز لقاسمها صلوات الله وسلامه عليه؟! وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له: (إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك). إذاً: هذه الآية الكريمة رد لمقالة أولئك اللمزة الذين كانوا يلمزونه ويعيبونه في قسمة الصدقات، ففيها رد لمقالة أولئك اللمزة وتوضيح لأطماعهم؛ ولبيان أنهم بمعزل عن الاستحقاق، وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ومنعهم ظلم، وهم هؤلاء الأصناف الثمانية في هذه الآية الكريمة، فإعطاء هؤلاء عدل ومنع هؤلاء ظلم؛ لأنه منعهم من حقهم الذي شرع الله سبحانه وتعالى لهم.

الفرق بين الفقير والمسكين

الفرق بين الفقير والمسكين (إنما الصدقات -محصورة- للفقراء)، الفقير هنا فعيل بمعنى: فاعل، فيقال: فقر يفقر من باب تعب يتعب إذا قل ماله، والمساكين جمع: مسكين، من: سكن سكوناً؛ لأن المسكين تسكن أو تذهب حركته لسكونه إلى الناس، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد، (مَسكين)، وبكسرها عند غيرهم. وقال ابن السكيت: المسكين: الذي لا شيء له، والفقير: الذي له بلغة من العيشَ، وكذلك قال يونس، وجعل الفقير أحسن حالاً من المسكين، قال: وسألت أعرابياً: أفقير أنت؟ قال: لا، والله بل مسكين. وقال الأصمعي: المسكين أحسن حالاً من الفقير، وهذا هو القول الأقوى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، فالآية تؤيد القول بأن المسكين هو الذي له مال لكنه لا يكفيه، يعني: له دخل لكنه لا يقوم باحتياجاته الأصلية. ((أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ)) يعني: كانت هذه السفينة لجملة من المساكين، وفي نفس الوقت يعملون في البحر، يعني: لهم دخل وإن كان لا يكفيهم. في حين قال تبارك وتعالى في حق الفقراء: (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) يعني: لا يستطيعون ضرباً في الأرض، فهؤلاء ليس لهم دخل أصلاً ولا عمل. وقال ابن الأعرابي: المسكين هو: الفقير، وهو الذي لا شيء له، فجعلهما سواءً. وقال البدر القرافي: إذا اجتمعا افترقا: ثمرة ذلك تظهر فيما إذا مات رجل وأوصى للفقراء والمساكين، فهنا اجتمعا في الوصية فيفترقان في المعنى، بمعنى: أن يكون الفقير الذي لا شيء له أصلاً، والمسكين الذي له دخل ولكنه لا يكفيه، ففي هذه الحالة لا بد تنفيذاً لهذه الوصية من صرف الوصية للنوعين، لكن هذان اللفظان إذا افترقا اجتمعا، يعني: إذا اقتصر على أحدهما شملت المعنى العام لهما، كما إذا أوصى فقال: أوصي بهذا المال للفقراء فقط، ففي هذه الحالة يجوز الصرف للفقراء وللمساكين، أو قال: أوصي بهذا المال للمساكين، فإذا وردت مفردة، ففي هذه الحالة يجوز إعطاء الصنف الآخر الذي لم يذكر. وهذا الأمر ليس جديداً علينا، إذ هناك كثير من الألفاظ الذي تنطبق عليه هذه القاعدة: إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، مثل: الإسلام والإيمان. والدليل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، فهنا افترقا فيجتمعان من حيث المعنى، فتشمل الباطن والظاهر. لكن إذا افترقا مثل حديث جبريل: (ما الإسلام؟) (ما الإيمان؟) فانظر المغايرة هنا حينما اجتمعا في نص واحد. مثال ذلك أيضاً: البر والتقوى، وكذا: الله والرب، فيكون لفظ الجلالة الله قسيماً للرب، يعني: توجد مغايرة بينهما من حيث المعنى، كما في قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3]، فغاير بين الرب وبين الإله. وكذلك كما تقول في كلامك: رب العالمين! وإله المرسلين، ففي هذه الحالة أيضاً يكون هناك مغايرة. ومثال افتراقهما عندما يأتي الواحد منها منفرداً عن الآخر -لكنه في هذه الحالة يشمل الأمرين- قول الله عز وجل: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، وقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام:164]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، ومن هذه المواضع سؤال الإنسان في القبر: من ربك؟ فهنا تعني: من إلهك؟

معنى قوله تعالى: (والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم)

معنى قوله تعالى: (والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) يقول المهايمي: ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم والمحتاجين إلى الصدقات، يعني: الزكاة تعطى للمحتاجين من المسلمين ولمن يحتاج إليهم المسلمون، فمن هؤلاء الذين يحتاج إليهم المسلمون: العاملون عليها، فلابد من وجود كادر من الموظفين يتولون جمع الزكاة ويتولون تصريفها ويسعون في تحصيلها، ومنهم: القابض، والوازن، والكيال، والكاتب، فهؤلاء يعطون أجورهم من الزكاة ((وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)). ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام، فقال تبارك وتعالى: ((وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ))، وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء تقوية لإسلامهم؛ لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم. معنى قوله تعالى: ((وَفِي الرِّقَابِ)): ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرق؛ لقوله تبارك وتعالى: ((وَفِي الرِّقَابِ)) يعني: للإعانة في فك وإعتاق الرقاب، فيعطى المكاتبون منها ما يستعينون به على أداء نجوم الكتابة، يعني: أقساط الكتابة، وإن كانوا كاسبين، يعني: حتى وإن كان هؤلاء المكاتبون يعملون ويتكسبون، لكن يعطون أيضاً من الزكاة ما يعينهم على التحرر من الرق وإن كانوا كاسبين، وهذا قول الشافعي والليث. أو (وفي الرقاب) يعني: وللصرف في عتق الرقاب، وذلك بأن يصرف من مال الزكاة في شراء رقاب ثم تعتق، وهذه صورة أخرى. إذاً: إما أن تفك رقاب المكاتبين كي يعتقوا، وإما أن يشترى من مال الزكاة أرقاء ثم يعتقون بعد ذلك، قال ابن عباس والحسن: لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق، ولا يخفى أن الرقاب يعم الوجهين، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة. معنى قوله تعالى: ((وَالْغَارِمِينَ)): ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون، فكما تفك الرقاب، هناك أيضاً من تفك ذمته؛ لأنها مقيدة بالدين، فقال عز وجل: ((وَالْغَارِمِينَ))، وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ولم يجدوا وفاءً، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء، فالغارم إما أن يستدين لمصلحة نفسه أو يستدين لمصلحة غيره حتى لو كان غنياً، فالذي يستدين لمصلحة نفسه يشترط فيه أن يكون ركبه الدين في غير معصية وفي غير إسراف، لا من يستدين للترف وللتنعم، ويقول: أنا غارم، ويؤخذ له من الزكاة! فلا تكون نفقته في سفه وترفه، وإنما في أمور أساسية يحتاجها، ولا يكون الدين ركبه في معصية، ولم يجد من ماله ما يوفي به هذه الديون، فالغارم يعطى أيضاً من الزكاة. أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء، كرجل تحمل مالاً في ذمته لإصلاح ذات البين، مثلاً: قبيلتان سوف تقتتلان بسبب المال، فهو يعطي من ماله من أجل أن يعصم دماء هؤلاء المقتتلين، ففي هذه الحالة هذا يعطى من الزكاة ولو كان غنياً ما دام أنه غرم لإصلاح ذات البين. نرى تساهلاً عند كثير من الناس، ويعز عليهم إخراج الزكاة نتيجة الشح الذي هو مركوز في النفس، فيحاول أن يخرج المال دائماً إلى أحد أقاربه، ويكون هذا الشخص مستديناً في أمور كمالية، مثلاً في تأثيث بيته بصورة فيها نوع من الترف، أو قريبته ستتزوج ويريد أن يساعد أهلها في الأثاث، وغالباً الأثاث يكون في كماليات، في حين مال الزكاة يحتاج إليه آخرون للقوت أو للعلاج، فينبغي عدم التساهل في هذا الأمر.

(في سبيل الله وابن السبيل)

(في سبيل الله وابن السبيل) ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله تبارك وتعالى: ((وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فيصرف على المتطوعة في الجهاد؛ لأن المتطوعة لا مرتب لهم، فيعطى سهم (في سبيل الله) للمجاهدين المتطوعين، فيشترى لهم الكراع والسلاح. قال الرازي: لا يوجب قوله: (في سبيل الله) القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء جواز طرح الصدقات إلى جميع وجوه الخير: من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: (وفي سبيل الله) عام في الكل، وهذا من الموضوعات المهمة جداً التي تحتاج إلى بحث مستقل؛ ولكن لأن خطتنا في التفسير الاختصار بقدر المستطاع فلن نتعرض له، وكثير من الناس الآن توسعوا في هذا المصرف، حتى إنهم يقولون: يجوز صرفها في طباعة الكتب وتوزيعها في المعسكرات الإسلامية، وفي الأنشطة، ويوجد أصل لهذه الأقوال، لكن هذا المذهب مرجوح، والراجح هو مذهب الجمهور: أن سهم (في سبيل الله) للمتطوعين في الجهاد؛ لأن هذا هو الأصل عند إطلاق في سبيل الله، ولا يمنع هذا لفظ: (في سبيل الله) أن يطلق على الحج وغير ذلك من العبادات؛ لأن إعطاء الفقراء مثلاً هو في سبيل الله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}. إذاً: تخصيص هذا المصرف بقوله: (وفي سبيل الله)، يقتضي تمييزه بنوع خاص، ففي سبيل الله عند إطلاقها تنصرف إلى الجهاد. معنى قوله تعالى: (وَاِبْنِ السَّبِيلِ)): ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله: ((وَاِبْنِ السَّبِيلِ))، فيعطى المجتاز في بلد ما يستعين به على بلوغه إلى بلده، يعني: يمكن أن رجلاً مسافراً يكون مليونيراً في بلده، لكنه فقد أمواله وصار في حالة فقر، فهذا ابن سبيل، ويأخذ من الزكاة حتى لو كان غنياً في بلده، ولا يعطى على سبيل الاستدانة، لكن هذا حقه أن يعطى من الزكاة، وابن السبيل: هو الذي انقطعت به السبيل، ولا يملك المال الذي يعود به إلى بلده، فهذا يعطى من مال الزكاة. ((فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ)) (فريضة) ناصبه مقدر، أي: فرض الله ذلك فريضة. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)): (عليم) بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم، (حكيم) لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها.

علاقة الآية بما قبلها

علاقة الآية بما قبلها فإن قلت: كيف وقعت هذه الآية في تضعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ يعني: سياق الآيات السابقة كله في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:49]، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ} [التوبة:58]، إلى آخره، فكيف وقعت هذه الآية: (إنما الصدقات) في سياق تضعيف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ ف A أنه دل لكون مصارف الصدقات خاصة بغيرهم، وأنهم ليسوا منهم، فذكر هذا في سياق بيان مكائد المنافقين وأحوالهم، فما قبلها: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا} [التوبة:58 - 59]، ثم قال تعالى: (إنما الصدقات) أي: إن الذين يستحقون الصدقات ليسوا هؤلاء المنافقين الذين يلمزون، وإنما الذي يستحقها هم هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى. وإذا كان اللمز موجهاً إلى قسم النبي صلى الله عليه وسلم للصدقات، إلا أنه لا ينبغي أن يوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام فإنه بريء من ذلك؛ لأن الله هو الذي تولى بنفسه هذا القسم، والرسول إنما هو قاسم والله هو المعطي، كما جاء في الحديث، فعلام اللمز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ منها شيئاً لنفسه؟! فدلت هذه الآية على أنهم ليسوا من المستحقين حسماً لأطماعهم، وإشعاراً لحرمانهم منها، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟

تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61]. (ومنهم) أي: من الذين يحلفون بالله من يفعل أشد من اللمز في قسم الصدقات؛ لأنهم يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن أذية النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر المهلكة، ويكفي في ذلك أن الله سبحانه وتعالى قرن أذيته بأذية رسوله وفصلها عن أذية المؤمنين في سورة الأحزاب: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57]، ثم قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [الأحزاب:58]، ففصل بين أذيته وأذية المؤمنين، وقرن أذية الله بأذية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فقال هنا: (ومنهم الذين يؤذون النبي) كيف يؤذونه؟ يقولون: هو أذن، يعني: يسمع كل ما يقال له ويصدقه، يعنون أنه ليس بعيد الغور بل سريع الاغترار بكل ما يسمع! قال أبو السعود: وإنما قالوه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان لا يواجههم بسوء ما صنعوه، ويصفح عنهم حلماً وكرماً، فحملوه على سلامة القلب وقالوا ما قالوا. قال اللغويون: الأذن: الرجل المستمع الذي يصدق كل ما يقال له، وصفوا به الواحد والجمع، يعني يقال: رجل أذن، ورجال أذن، وامرأة أذن، فلا يثنى ولا يجمع، وإنما سموه باسم العضو تهويلاً وتشنيعاً، فهو مجاز مرسل، فأطلق الجزء وأراد الكل، فأطلق الجزء على الكل مبالغة بجعل جملته -لفرط استماعه- آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً لذلك، ونحو ذلك قول الشاعر: إذا ما بدت ليلى فكلي أعين وإن حدثوا عنها فكلي مسامع وجعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن، في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل، وليس بشيء يعتد به، وقيل: إنه على تقدير مضاف، أذن يعني: ذو أذن، قال الشهاب: وهو مذهب لرونقه. ثم قال تبارك وتعالى: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، أنتم تعيبونه صلى الله عليه وسلم بوصفه بأنه أذن، نعم هو أذن ولكنه أذن خير لكم، وهذه من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة كما تقول: رجل صدق، مبالغة في الجود والصلاح، أو إضافته على معنى فيه: (قل أذن خير لكم) أي: هو أذن في الخير والحق، وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك، ودل عليه قراءة حمزة. (ورحمة) يعني: أذن خير ورحمة، بالجر عطفاً عليه، أي: هو أذن خير لكم ورحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه (أذن خير) بقوله: ((قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ))، قال القاشاني: هو بيان لينه صلى الله عليه وسلم وقابليته؛ لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة القلب، ولطافة النفس ولينها. ((وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)) أي: يصدق قولهم في الخيرات، ويسمع كلامهم فيها ويقبله. ((وَرَحْمَةٌ)) أي: وهو رحمة للذين آمنوا منكم، يعطف عليهم ويرق لهم، فينجيهم من العذاب بالتزكية والتعليم، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم بالبر والصلة، وتعليم الأخلاق من الحلم والشفقة والأمر بالمعروف باتباعهم إياه فيها، ووضع الشرائع الموجبة لنظام أمرهم في الدارين، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل إلى غير ذلك. وقال غير القاشاني: هو رحمة للذين أظهروا الإيمان منكم معشر المنافقين، حيث يقبل منكم الظاهر لا تصديقاً لكم بل رفقاً بكم وترحماً عليكم، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى من الحكمة في الإبقاء عليكم. والمعنى: هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله فيصدقها، ويستمع للمؤمنين فيسلم لهم ما يقولون ويصدقهم، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله ولا يثقون بها، ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يسمع أقوالهم إلا شفقة عليهم، لا أنه يقبلها لعدم تمييزه كما زعموا. ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ)، بما نقل عنهم من قولهم: هو أذن، (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، بما يجترئون عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولا شك أن قوله تعالى: (والذين يؤذون رسول الله)، أورد ذكره بعنوان الرسالة مضافاً إلى الاسم الجليل: (والذين يؤذون رسول الله)، ولم يقل: الذين يؤذونه؛ لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته راجعة إلى جناب الله عز وجل، وتوجب كمال السخط والغضب؛ لأنها أذية لله سبحانه وتعالى.

تفسير قول الله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم)

تفسير قول الله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]. الخطاب هنا للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن، أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم؛ إذ من شأن المنافقين الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما قال الله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2]، فيلجئون إلى الحلف ليكون وقاية لهم لحمل المؤمنين على تصديقهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة. {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63]. (ألم يعلموا) أي: أولئك المنافقون، والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من المخالفة مع علمهم بسوء عاقبتها، وقرئ بالتاء على الالتفات: (ألم تعلموا)، فيكون الخطاب للمنافقين لزيادة التقريع والتوبيخ، أي: ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلول القوارع والإنذارات: (أنه من يحادد الله ورسوله) أي: من يخالف الله ورسوله، يقال: حاددته، أي: خالفته، والمحاددة: كالمجانبة والمعاداة والمخالفة، واشتقاقه من الحد بمعنى الجهة والجانب، كما أن المشاقة من الشق بمعنى جانب؛ فإن كل واحد من المتخالفين والمتعادين في جانب وشق غير ما عليه صاحبه، فمعنى: (يحادد الله) يعني: يصير في حد غير حد أولياء الله، فيخالف أولياء الله، ويخالف شرع الله؛ فيكون هو في حد ويأخذ جانباً مغايراً لجانب أولياء الله الذين هم المؤمنون، ويفترق عنهم ويأخذ حداً وجانباً غير جانبهم. وقيل: (المُحادة) أو (المَحادة) مأخوذة من الحديد، أي: السلاح. (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي: الذل والهوان الدائم.

تفسير قوله: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة)

تفسير قوله: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64] أي: في شأنهم؛ لأن ما نزل في حقهم نازل عليهم، والرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ينزل عليه الوحي، كما قال الله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، فالله سبحانه وتعالى هو الذي نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمعنى: (أن تنزل عليهم) أي: أن تنزل في شأنهم وحقهم ((سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ))، من الأسرار الخفية فضلاً عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق. ((يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ))؛ لأن ألفاظهم منها ما يخفونه ومنها ما يظهرونه، فكانوا يظهرون في مجالسهم فيما بينهم كلاماً، ويخشون أيضاً أن ينزل من القرآن في شأنهم ما يفضح سرائرهم وما استكنوه في قلوبهم من الأسرار الخفية. (تنبئهم بما في قلوبهم) مع أنه معلوم لهم، وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على إسرارهم، لكن هل المقصود أنه يحدث لديهم علم جديد بما في قلوبهم؟ لا؛ لأنهم يعلمون ما في قلوبهم، لكن المقصود: تكشف فضائحهم وخفايا أسرارهم، ويفتضحون أمام المؤمنين، فهذه الآيات سوف تذيع ما كانوا يخفونه من الأسرار، فتنتشر بين الناس، فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة، فكأنها تخبرهم بها؛ لأن الآية إذا نزلت تنتشر وتشيع في الناس، ويتحدث الناس بها ويتلونها، فكأن الآية في هذه الحالة تخبرهم بما في قلوبهم، وكأنهم يعلمونها من جديد، ومع أنهم يعرفون ما في قلوبهم لكن سوف يأتيهم عن طريق القرآن ما يشيع في الناس، ثم يسمعونها متناقلة على أفواه الرجال. والمراد بالتنبئة: المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم، كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها، وكأنهم لا يعلمون، والقرآن سوف ينبئهم بما في قلوبهم، والمقصود بذلك المبالغة في علم الله سبحانه وتعالى بما في قلوبهم، وأن تنعي عليهم قبائحهم. وقيل: معنى (يحذر) ليحذر؛ كأن اللام مقدر لام أمر، يعني: ليحذر المنافقون، (أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم). وقيل: الضميران الأولان للمؤمنين، والثالث للمنافقين أي: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين، فإن قلت: المنافق كافر؛ فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجيب: بأن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أنهم شاهدوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بما يكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم، وليس هذا منهم من باب التصديق بأن الوحي من السماء، وإنما بناءً على التجربة السابقة بأن الرسول عليه السلام يخبرهم بما يكتمونه، فخشوا تكرر هذا الذي خبروه وجربوه من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الأصم: إنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً. وتعقبه القاضي: بأنه يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما. لكن الرازي قال: هو غير بعيد أي: لا يبعد أن يكون الإنسان يعرف أن الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن الله حق، ومع ذلك يكفر حسداً وعناداً، كما وقع من اليهود وغيرهم؛ لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات، إذا القلب استقر به مرض الحسد فهذا الحسد يطغى على بصيرته حتى إنه ينازع ويعاند في الأشياء المحسوسة ويكابر! قال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء، يعني قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} المقصود: أن هؤلاء المنافقين يظهرون الحذر استهزاءً بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويقولون: انظروا إلى هذا الذي سوف تنزل عليه سورة تنبئنا بما في قلوبنا، وكأن هذا الحذر صدر منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء، ويدعي أنه عن طريق الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، فأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} يعني: أنتم تظهرون الحذر استهزاءً وتكذيباً، فاستهزئوا بالله وآياته ورسوله، أو: افعلوا الاستهزاء، وهذا الأمر ليس على ظاهره، وإنما هو أمر تهديد، كما في قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40]، وكما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، لا كما يزعم المنحرفون الضالون المفترون على الله، والقائلون على كتابه بغير علم: أن الإسلام يقدس حرية الرأي، حتى إن القرآن قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وساقوا الآية على أنها تبيح الكفر! وهذا إلحاد في آيات الله، فهل يتصور أن القرآن يبح الكفر؟! هل هذا أمر على سبيل الإباحة؟! هذا تهديد، فكذلك هنا: (قل استهزئوا) تهديد. (إن الله مخرج ما تحذرون) أي: مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة، ومن مكايدكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم، كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:29 - 30]، ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة، أي: فاضحة المنافقين.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) قال تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]. ولئن سألتهم عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للاستهزاء بما ذكر، (ليقولن): وهم في حالة الاعتذار: إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقاً وكفراً، بل هذا الكلام كنا نقوله بألسنتنا فقط، وكنا نخوض ونلعب، وليس له واقع حقيقي في قلوبنا، وأننا فعلاً فينا نفاق وكفر، بل (إنما كنا نخوض) ندخل هذا الكلام للترويح عن أنفسنا ونلعب. (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) يعني: في ترويحكم ومزاحكم لم تجدوا كلاماً آخر غير كلام الله عز وجل! {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:66]. (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) يعني: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فالنهي عن الاشتغال به وإدانته أصله واقع. (لا تعتذروا) يعني: لا تتمادوا في الاعتذار؛ لأن أصل الاعتذار وقع من قبل؛ لأنهم قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب)، وهذا اعتذار، فقوله تعالى: (لا تعتذروا) يعني: لا تتمادوا في الاعتذار، وتوقفوا ولا تشتغلوا بالاعتذار الكاذب، والنهي هو عن الاشتغال بالاعتذار وإدامته؛ لأن أصل الاعتذار وقع بالفعل. (قد كفرتم) أي: قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه، واستهزائكم بمقالكم، (بعد إيمانكم) أي: بعد إظهاركم الإيمان، انتبهوا فإن إيمانكم ليس على حقيقته، يعني: هم لم يقعوا في حالة ردة هنا فقط، فهم منافقون، لكن قوله: (إيمانكم) باعتبار أنهم كانوا يظهرون الإيمان، فمعنى (لا تعتذروا قد كفرتم) يعني: قد أظهرتم الكفر، (بعد إيمانكم) الذي كنتم تظهرونه. (لا تعتذروا): لا تتمادوا وتشتغلوا بالاعتذار، ومواصلة الاعتذار، لماذا نفسرها بالمواصلة؟ لأن أصل الاعتذار وقع بقولهم: (إنما كنا نخوض ونلعب). (قد كفرتم)، قد أظهرتم الكفر؛ لأنهم بالفعل كانوا كافرين في الباطن، (بعد إيمانكم)، بعد إيمانكم الذي كنتم تظهرونه.

كفر المستهزئ بآيات الله

كفر المستهزئ بآيات الله هذه الآية دليل واضح جداً على كفر المستهزئ بآيات الله سبحانه وتعالى، والحقيقة أن هذا الاستهزاء له صور شتى خاصة في هذا الزمان، وأقبح أنواع الاستهزاء: حينما يصدر من مسلم أو من طالب علم، مثل استعمال آيات الله سبحانه وتعالى بصورة ليس فيها توقيف بل فيها شبه بهؤلاء المنافقين، ومن أمثلة ذلك: ما يفعله الفاسق المجرم حلاق السيدات حينما يعلق على المحل في الخارج قول الله: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:16]، فهذا استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى، فقد حرم الله التبرج وأمر النساء بإخفاء الزينة، وأنت تعاند الله سبحانه وتعالى، وتفتح محلاً لفعل هذه الجرائم من تزيين النساء، ثم تستدل على ذلك بآيات أنزلت في الكواكب، أي استهزاء أكثر من هذا؟! أو خياط يعلق قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12]، فهذا من سوء الأدب مع القرآن الكريم وآياته، فيجب تغييرهم لمثل هذه المنكرات، فهذا كفر! وبعض الناس يجلسون فيأكلون في حفل أو شيء من هذا، فيقول أحدهم: من يحكي لنا قصة سيدنا يوسف؟ ويقصد بذلك أن يشغلهم عن الأكل، فكيف تستعمل قصص القرآن في هذا العبث وهذا اللعب؟ فالصور في الحقيقة موجودة وكثيرة، وليعلم الجميع أن الاستهزاء والتنطع ليس مما يعذر فيه بالجهل، لماذا؟ لأنه لا يجهل أحد وجوب تعظيم الله، ولا وجوب تعظيم الأنبياء والملائكة والقرآن الكريم وغير ذلك، لولا لطف الله سبحانه وتعالى وحلمه لخسف بنا؛ عندما يأتي شخص مثل هذا المخلوق الوقح الذي يدعى نصر أبو زيد ويكتب كتاباً فيه سب لله، وسب للرسول عليه الصلاة والسلام، وطعن في القرآن الكريم، وتكذيب بآيات الله، وهو غاية في الإلحاد، ثم بعد ذلك نجد إخوانه من الملاحدة والمنافقين الذين نعرفهم في لحن القول من العلمانيين، أعداء الدين وأعداء الله ورسوله، يقولون: أين حرية الرأي؟ أين حرية العقيدة؟ ويدندنون حول الطعن في شرع الله سبحانه وتعالى بهذه الطريقة للدفاع عن أمثال هؤلاء الخائنين، ويكونون خصماء لهذا الخائن وهذا الزنديق المجرم، رجل يطعن في القرآن، ثم يدافع عنه! إذاً: ما الفرق بينه وبين سلمان رشدي؟! ما الفرق بين كتاب هذا الكافر سلمان رشدي: (آيات شيطانية)، وبين هذا الذي يسمي كتابه بحثاً؟! ما الأمر إلا أن بعض المغمورين يريد الشهرة، حتى ولو على طريقة إبليس، يشتهر بجرائم إبليس، وبالطعن في شرائع الله وفي الوحي! فنقول لهم: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، فلولا لطف الله سبحانه وتعالى بنا لاندكت هذه الأرض من تحت أقدامنا، أيسب دين الله سبحانه وتعالى ويطعن في القرآن ثم يسمى هذا حرية فكر؟! هم لا يقولون: حرية فكر، هم يريدون حرية الكفر، وحرية الطعن في دين الله عز وجل، فما أحلم الله سبحانه وتعالى عن عباده! إذاً: هذا موضوع من الموضوعات التي تثور بين وقت وآخر، ويثيرها أعداء الله سبحانه وتعالى من اليهود والنصارى والغربيين للطعن في الإسلام، وهم لا يجرءون أحياناً على الطعن الصريح، لكن دائماً يحاولون أن يرسخوا في عقول الناس الخوف من تطبيق الشريعة الإسلامية، كما هو حاصل من حركة طالبان، الظاهر من أفعالهم أنها متوافقة مع الشرع في كثير من الأشياء، وظهرت الآن صيحة يريدون بها الطعن في الإسلام لكن بطريقة خفية، وذلك بإبراز أن الإسلام يظلم المرأة، وأمريكا منذ متى تعرف شيئاً اسمه حقوق الإنسان؟! أمريكا التي تستذل الأمم، وتسخر الشعوب، وتقهرها بقانون الغاب وبشريعة الغاب، ولا تتذكر ما تسميه بحقوق الإنسان إلا عندما تهدد مصالحها، أو لاستذلال الأمم. أين كانت حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك؟ أين هم من المذابح الرهيبة التي لم يشهد التاريخ لها مثيل؟ أين حقوق الإنسان في العراق وفي غير ذلك من بقاع المسلمين؟ وكأننا لسنا من بني الإنسان، بل نحن طائفة أخرى من البشر، ومع ذلك يتشدقون -بهذا الشعار فقط- لتحقيق مآربهم ومصالحهم، الآن هم أشد الناس غيرة على حقوق المرأة التي يظلمها الأفغان كما يزعمون بما يشيعونه من إشاعات كاذبة، ورغم ما صدر من تصريح رسمي بتكذيب هذه الإشاعات، لكنهم مصرون على تناقلها في وكالات الأنباء، مصرون أنهم سوف يمنعون تعلم الفتيات، وسوف يمنعون المرأة من العمل، ثم يخفون الحقائق، ورغم ما صدر من تصحيح لهذه المعلومات، وأنها إشاعات كاذبة، لكن الذي نتوقعه فعلاً -وإن لم توجد الآن وسيلة صحيحة لمعرفة المعلومات- أنهم يضعون ضوابط لهذه الأشياء، من قال: إن المرأة تحرم من التعليم؟! هناك ضوابط مثل عدم وجود اختلاط، فلابد من وضع ضوابط للمجتمع. وحتى النساء الموجودات في وظائف غير مناسبة لهن من اختلاط بالرجال، أو فيها عمل محرم، تعاهدت حكومة طالبان بأنها ستصرف مرتبات لجميع النساء اللاتي سوف يقعدن عن العمل، بسبب عدم توافق عملهن مع الشرع! ومع ذلك لا يلتفتون لذكر هذه التوضيحات، وإنما اليوم أمريكا تقول: نحن لن نعترف بحكومة طالبان، حتى ننظر موقفهم من حقوق النساء، وهكذا كل بلد يفصلون لها على قدرها. موضوع الختان الذي يثور الكلام فيه بمناسبة أو بدون مناسبة، كلها ثغرات يخرج منها الملاحدة، كما يقول تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، هم يريدون أن يهتكوا ستر الهيبة لعلماء الإسلام، وهيبة نقد أحكام الشريعة، فباسم حقوق الإنسان، وباسم ظلم النساء يتكلمون في موضوع الختان والجرائم التي يذكرونها، مع أن الإسلام يحاربها أشد مما يحاربونها هم، لأن الختان الفرعوني المشهور والمعروف في السودان هو بلا شك جريمة وحشية، ولو كان هناك حكم إسلامي شرعي قائم لعزر الذين يمارسون هذا النوع من الختان بلا شك، وهذه قواعد بدهية. لماذا بعض الشيوخ يركبون الموجة مع أعداء الدين، ويأتي أحدهم ويقول: أنا خبير في الحديث، وأنا من أعلم الناس بالحديث، أتحداكم أن تأتوني بحديث في هذه المسألة! وهل أنت أول رجل في الأمة يعرف الحديث؟ احترم الحديث وأطلق لحيتك، هذا الذي يزعم أنه غيور على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أما سمعت بأحاديث تأمر بإعفاء اللحية، الآن فقط تدندن وتغني في الزفة مع هؤلاء المنافقين والملاحدة! إن الأشياء التي يحاربها الإسلام يحاربها بأقوى مما يحاربونها هم، مثلاً التلوث في بعض العمليات الصغيرة، هذا خطأ تطبيقي يحصل في أي عملية جراحية من جاهل لا يعرف قواعد التعقيم والجراحة، حتى لو كان جرحاً بسيطاً جداً فسيلوثه ويؤذي المريض، فالإجراءات الوقائية في أي عملية جراحية موجودة في الشريعة، كذلك أخصائية أمراض النساء هي التي تحدد، هل هذه الفتاة تختن أم لا؟ لأنه أحياناً لا تختن، وأحياناً الطب نفسه -كما في المراجع الطبية- يحتم عملية الختان في بعض الأحوال، وإن كانت نادرة. الشاهد: حتى من الناحية الشرعية هم يتكلمون على قضية بعيدة تماماً عن الواقع، لكنها فرصة لكل من في قلبه غل وحقد على الإسلام أن ينفث ويفرز هذه السموم، كما قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، الأربعة عشر قرناً الماضية والمرأة تهزم، وهم الآن يريدون أن يحرروها؟ هم في الحقيقية لا يريدون تحرير المرأة، هم يخافون من مجتمع مثل مجتمع أفغانستان لو عاد إلى الشريعة الإسلامية، النساء حصل لهن صيانة داخل البيوت، ومع توفير التعليم بلا شك بوسائل متوافقة مع الشرع لا اختلاط فيها، ولا فحش ولا تبرج، فإذا كان المجتمع سيصير مجتمعاً نظيفاً، فبالتالي ستبور تجارة اليهود، ولن يستطيعوا استذلال مثل هذه الأمة بالشهوات؛ لأن معنى ذلك انتشار العفة، وضياع أقوى سلاح يستعملونه في تدمير المجتمعات الإسلامية وهو سلاح الشهوات، وستفوت عليهم أعلى وأهم مقاصدهم، فهذا هو السبب في الانزعاج، ليس خوفاً على المرأة، ولكن خوفاً من فوات المتاجرة بالمرأة، وستبور تجارتهم، ولن يسهل استذلال الشباب ولا استعبادهم كما يحصل الآن في مجتمعنا عن طريق هذه الأطباق، وعن طريق الفيديو والتلفزيون. هذا الفساد إذلال للشعوب، وما مؤتمر السكان عنا ببعيد، فقد كانت مقاصدهم مفضوحة تماماً، وأنهم يريدون إشاعة الفواحش بكل أنواعها بلا استثناء؛ من أجل أن يستعبد الشباب بالشهوات، ولا ينصرفوا إلى بناء الأسرة، حتى أنهم وضعوا تعريفاً جديداً للأسرة: أن الأسرة قد تتكون من رجل ورجل، أو امرأة وامرأة، والأصل ألا يتدخل في شئون خصائص المرأة، لماذا؟ تسهيلاً للفواحش والفتن بين الناس. فالشاهد: أن الطعن في الدين واللمز في أحكام الشريعة أحياناً يأتي بصورة ظاهرة، كما في حالة هذا الخبيث نصر أبو زيد خذله الله سبحانه وتعالى، وجعله آية وعبرة لمن يعتبر؛ لأنه في بلاد الكفار حيث أسياده يرحبون به، ونحن نشكر للقاضي الذي اتخذ منه هذا الموقف الرائع، وهذا يدل أنه ما زال يوجد في الأمة خير، فهذا القاضي حكم بردته -والآن ينبغي أن تطلق منه امرأته-، ولا شك أن هذا موقف حميد منه، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيه عن دينه خيراً. وقد يقتصر الطعن بتغليفه في صورة الدفاع عن المرأة، وأن الإسلام هو الذي ظلم المرأة! وهل حرر المرأة أحد إلا الإسلام؟ هؤلاء الجهلة في أوروبا إلى عهد قريب جداً مائة سنة أو أقل كان القانون الإنجليزي يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقدر لها سعر، وهذا كلام موجود وموثق عنهم في القرن السابع، وفي عهد الرسول عليه السلام عقدوا مجمعاً يناقشون فيه هل المرأة إنسان لها روح أم ليس لها روح؟ المرأة الآن في الغرب تعيش عصر استعباد وذل وهوان، المرأة الأوروبية والأمريكية غاية أحلامها أن تظفر بشاب مسلم يتزوجها، هذه أمنية عندهم، والإخوة الذين خرجوا في الخارج يعرفون هذا؛ لأنها تعرف التكريم الحقيقي، التكريم لها بنتاً، وزوجة، وأماً، وأختاً، بل ما هذا الذي يتكلمون عنه إلا من باب التشويش على الإسلام عن طريق الأبواق الناعقة التي نسأل الله تعالى أن يحفظ عقول أبناء المسلمين منها! قوله تبارك وتعالى هنا: ((لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِ

تفسير قول الله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)

تفسير قول الله: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض) قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]. قوله: ((المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)) أي: متشابهون في النفاق، والبعد عن الإيمان كتشابه أبعاض الشيء الواحد، والمراد: الاتحاد في الحقيقة والصفة، (فمن): اتصالية بعضهم من بعض. قال الزمخشري: أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين، (بعضهم من بعض)، يعني: ليسوا من الإيمان ولا من المؤمنين في شيء، والمراد أيضاً تكذيبهم في قولهم: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة:56]، فالله يقول هنا: ليسوا منكم، إنما (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)، وهذا تقرير أيضاً لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56]، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله: (يأمرون بالمنكر) والمؤمنون يأمرون بالمعروف، والمنكر: كالكفر والمعاصي، وينهون عن المعروف: كالإيمان والطاعات (ويقبضون أيديهم) بخلاً بالمال والصدقات والإنفاق في سبيل الله، فإن قبض اليد كناية عن الشح والبخل، كما أن بسطها كناية عن الجود؛ لأن من يعطي ويمد يده بخلاف من يمنع. (نسوا الله فنسيهم) أي: أغفلوا ذكره وطاعته فتركهم من رحمته وفضله، ولم يوفقهم إلى التوبة، لأن النسيان بمعنى الترك، ومعاذ الله أن يظن النسيان في حق الله سبحانه وتعالى، لكن نسيهم يعني: تركهم، فمعنى: (نسوا الله) يعني: فهم لا يذكرونه عز وجل ولا يطيعونه؛ لأن الذكر له مستلزم لإطاعته، فجعل النسيان مجازاً عن الترك، وهو كناية عن ترك الطاعة، ونسيان الله منع لطفه وفضله عنهم. (إن المنافقين هم الفاسقون). والنسيان هنا لا يفسر بعدم الذكر، (نسوا الله) بمعنى: لم يذكروا الله سبحانه وتعالى ولم يطيعوه؛ لأن النسيان البشري لا يؤاخذ عليه، كما قال الله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، لكن هنا يؤاخذ عليه؛ لأنه ورد في سياق ذمهم، وذكر أسباب هذا الذم، كما قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] يعني: غفلوا عن ذكره وأعرضوا عن طاعته سبحانه وتعالى. كما أن من أشد العقوبات التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها عبداً من عباده: أن ينسيه نفسه، أو أن ينساه الله، بمعنى: أنه يخذله ولا يوفقه إلى التوبة، فيتمادى في المعاصي، والكفر، ومحاربة الإسلام وهو في غاية السعادة، وهو فرح فخور بهذا! فهذه من أكبر العقوبات؛ لأن خطورتها تكمن في أنها عقوبة خفية؛ لأن العقوبات تتنوع، فمن العقوبات ما يكون ظاهراً، فالإنسان بعد أن يرتكب ذنباً معيناً يعاقب عليه فوراً، فمن رحمة الله به أنه يفيق ويعود إلى إصلاح حاله مع الله سبحانه وتعالى، لكن أقبح العقوبات ما خفي ودق بحيث لا يحس صاحب الذنب أنه يعاقب، ويكون في غاية السعادة والفرح، ويقول: أنا أعيش حياتي بالطول وبالعرض، وهذه في حد ذاتها عقوبة من الله، حيث إن الله خذله، كان الرسول يقول في الدعاء: (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً)؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا وكل الإنسان إلى نفسه طرفة عين فسدت عليه كل حياته، وإذا رفع الله عنه عنايته يخذله ويضيع، فهذا يكله الله سبحانه وتعالى لنفسه ولا يتولاه ولا يرعاه ولا يوفقه، بل يخذله ويثبطه ويلقي الغفلة على قلبه، وبالتالي إذا كان سعيداً وفرحاً ومشغولاً عن التوبة، فكيف سيتوب؟! {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8]، وهذا حال الكفار ومن نهج منهجهم وسار على طريقتهم. ((نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ))، فهو يظن أنه ملك الأرض ومن عليها، ويغتر {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14]، وسعيد جداً بأنه متسلط على رقاب الناس؛ وأنه مجتهد في محاربة دين الله سبحانه وتعالى، فهذا المسكين لا يدري أنه معاقب، كما قال الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فهذه عقوبة، فإذا كان الرسول عليه السلام قال: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فمفهومها: أن شركم من طال عمره وساء عمله، فإذاً طول العمر هنا يكون نقمة؛ لأنه بطول العمر يزداد في المعاصي، والخيرية هي لمن طال عمره لكن مع حسن عمله، فإذا كان طول العمر مما يجني على الإنسان المزيد من المعاصي، والإفراط، والمحاربة لدين الله، والصد عن سبيله، فهذا شؤم عليه، فإذاً هذا هو الاستدراج: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وقوله: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، الدنيا ليست النهاية، بل هي عبارة عن مرحلة، ثم يرجع كل إلى الله سبحانه وتعالى ويؤاخذ بما كسب وبما فعل، فينبغي استحضار هذا الأمر كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك في قوله: (إذا رأيت الله سبحانه وتعالى يعطي العبد على معاصيه وهو مقيم على المعاصي؛ فاعلم أنه استدراج، ثم تلا قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:44]). فإذاً: لا تنسى حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا رأيت شخصاً بهذه الحالة استحضر أن هذه هي عين العقوبة من الله، فمن رأيته يفرح ويفخر لأنه يحارب الإسلام بكل صدق وإخلاص، ويريد أن يطفئ نور الله، ويستأصل شأفة الإسلام، ويصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، ويخرب المساجد التي أمر الله بتعميرها، ويفرح بذلك؛ فنبشر هؤلاء بقوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:45]. فقوله عز وجل هنا: (نسوا الله فنسيهم) يعني: نسوا الله فلم يذكروه ولم يطيعوه، فنسيهم الله سبحانه وتعالى بأن منعهم لطفه وفضله وخذلهم، ولم يوفقهم إلى الإيمان. (إن المنافقين هم الفاسقون) أي: الكاملون في الفسق، الذي هو التمرد في الكفر، والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول: كسلت؛ لأن المنافقين وصفوا بالكسل بقوله: {كُسَالَى} [التوبة:54]؛ فالفسق أشد من وصف الكسل.

تفسير قوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم)

تفسير قوله تعالى: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم) قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} [التوبة:68] يعني: يكفيهم النار عقاباً وجزاءً، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]، لا ينقطع، وأوصي نفسي وإياكم بالتأمل كثيراً إذا ذكرت كلمة: الخلود في القرآن الكريم، ولو أعمل الفكر فيها فسوف تتغير كثير من أولوياتك في الحياة، وقيمك ونظرتك للأشياء وإلى الناس وإلى كل شيء، الخلود يعني: العذاب الدائم في جهنم، وليس موازياً حتى لعمر الدنيا كلها من حين خلقت إلى أن تقوم الساعة، وهذا عذاب من أشد العذاب كما تعرفون من النصوص، وفي نفس الوقت لا أمل على الإطلاق في الموت، كل أمل هؤلاء الكفار أن يموتوا: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، تأملوا كلمة خلود، وأعملوا عقولكم فيها كثيراً، فحينئذ تعطي الدنيا حجمها؛ لأن الإنسان لو عاش طول عمره يعاني من البلاء والمصائب، ويصبر على ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ففي النهاية كما قال النبي عليه السلام: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، سجن ينطلق فيه لحظة الإفراج ولحظة خروج روحه إلى السعادة الأبدية، لكنها جنة الكافر، فإذا خرج منها لاقته الأغلال والأصفاد في نار جهنم خالدين فيها، وكما قال تعالى هنا: (ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) أي: لا ينقطع.

تفسير قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة)

تفسير قوله تعالى: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة) قوله تعالى: ((كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) يعني: أنتم مثل الذين من قبلكم، أو أنتم فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم ممن أنعم الله عليهم النعم ثم بعد ذلك عذبوا، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتهديد: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة:69]، في أنفسهم، {وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا} [التوبة:69] أي: تفيدهم الأموال مزيد قوة ومنافع جمة. {وَأَوْلادًا} [التوبة:69] أي: تفيدهم مزيد قوة لا تحصل بالمال ومنافع أخر، {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة:69] أي: انتفعوا بنصيبهم، ثم أعطاكم -أيها المنافقون- أقل مما أعطاهم {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] أي: دخلتم في الباطل كالخوض الذي خاضوه. {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [التوبة:69] أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، أما في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فما لهم من الذل والهوان وغير ذلك. {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة:69]، الذين خسروا الدارين. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده! لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً بباع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! أهل الكتاب؟ قال: فمن؟!)، وفي رواية قال أبو هريرة: (اقرءوا إن شئتم: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة:69]) إلى آخر هذه الآية الكريمة، وقال أبو هريرة: الخلاق: الدين. قالوا: (يا رسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟!).

تفسير قوله تعالى: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم) ثم وعظ تعالى المنافقين فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [التوبة:70] (ألم يأتهم) بطريق التواتر، وبالخبر المتواتر، حديث (الذين من قبلهم)، وهو إهلاكهم بعد تنعيمهم، لكفرهم بنعم الله سبحانه وتعالى عليهم، فأهلكهم الله عز وجل بسبب الكفر. قوم نوح أنعم الله عليهم بنعم منها: تطويل أعمارهم، ثم أهلكوا بالطوفان. وعاد قوم هود عليه السلام أنعم الله عليهم بنعم منها مزيد قوتهم، ثم أهلكوا بالريح. وثمود قوم صالح أنعم الله عليهم بنعم منها القصور، ثم أهلكوا بالرجفة. وقوم إبراهيم أهلكوا بالهدم. قال المهايمي: أنعم عليهم بنعم منها عظم الملك، ثم أهلك -أي: قوم إبراهيم عليه السلام- ملكهم نمرود بالبعوض الداخل في أنفه. وأصحاب مدين قوم شعيب أنعم الله عليهم بنعم منها التجارة، ثم أهلكهم بإفاضة النار عليهم. والمؤتفكات وهي: قرى قوم لوط، انكفأت بهم، أي: انقلبت فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجين، كما قلبوا نظام الفطرة. ثم قال تعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ} [التوبة:70]، الإنسان حينما يتذكر مصائر هؤلاء الكفار الذين بدلوا نعم الله سبحانه وتعالى كفراً، فإن العبر لا تنقطع، نحن لو استعرضنا التاريخ كله لرأينا فعلاً أيام الله سبحانه وتعالى في الظالمين والجبابرة الذين كانوا أشد قوة من الحاليين، والإنسان لو حاول أن يحصد ذلك لوجد عبراً شتى، ومن هؤلاء الجبابرة الملك فاروق، وعبد الناصر، وشوشتكوا، ولنا الآن آية من آيات الله في هذا الملحد يلسن الذي يرقد الآن لا حس ولا حركة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعجل بإهلاكه، فبعدما فعل المذابح للمسلمين في الشيشان وفي غيرها من الجمهوريات الإسلامية، وحارب دين الله عز وجل في أفغانستان من قبل، انظر كيف أذله الله سبحانه وتعالى! ها هو الآن هذا الطاغوت الحقير يرقد الآن بلا فائدة منه، ولا يستطيع أن يمارس أي شيء سوى الكلام بين وقت وآخر! وريجن الذي كان في قمة غروره، ابتلاه الله سبحانه وتعالى بالمرض المعروف بالزهيمر، وفقد الذاكرة تماماً! هذه من آيات الله، وهذا الجبار الذي كان يمتلئ غروراً، لما عوتب في حملته على لبنان في وقت من الأوقات قال: لا تنسوا أننا ما زلنا صليبيين! فها هو الآن ما زال حياً، لكن نسأل الله العافية من مثل هذه الحياة. هذا فعل الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الطواغيت، يذلهم بعد أن عتوا في الأرض عتواً كبيراً، فعلى مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمم؛ يبدل الله سبحانه وتعالى من حال إلى حال، ودوام الحال من المحال. يقول تعالى: {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ}، هذا استئناف لبيان نبئهم، أي: جاءتهم بالآيات الدالة على رسالتهم ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) أي: بإهلاكه إياهم؛ لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل، فالفاء هنا للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، يعني: أتتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم، فأهلكهم الله تعالى، فما ظلمهم بذلك، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70] يعني: بالكفر والتكذيب، وترك شكره تعالى، وصرفهم نعمه إلى غير ما أعطاهم إياها لأجله؛ فاستحقوا ذلك العذاب.

تفسير قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض)

تفسير قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض) قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]. هذا في مقابلة قوله في المنافقين: ((الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ))، قال هنا في المؤمنين: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ))، فيقيمون الصلاة في مقابلة: ((نَسُوا اللَّهَ))؛ كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، فالصلاة من أشرف ذكر الله سبحانه وتعالى، فهم لا يزالون مستمرين في ذكر الله عز وجل، فهذا في مقابلة قوله: (نسوا الله) في ذكر صفات المنافقين. (ويؤتون الزكاة) في مقابلة قوله في المنافقين: (ويقبضون أيديهم). (ويطيعون الله ورسوله) أي: في كل أمر ونهي، وهو في مقابلة المنافقين؛ لكمال صدقهم وعدم خروجهم عن الطاعة. (أُوْلَئِكَ) أي: هؤلاء المؤمنون المتصفون بتلك الصفات (سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

تفسير قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)

تفسير قوله تعالى: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:72] أي: من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن. ((خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً)) أي: منازل حسنة تستطيبها النفوس، أو يطيب فيها العيش. ((فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)) (عدن): يعني إقامة وثبات، ويقال: عدن علم لموضع معين في الجنة لآثار فيه. ولما كان (ومساكن) معطوف على جنات اختلفوا: هل العطف هنا يقتضي تغاير الذات أم أن الذات واحدة والصفات متغايرة؟ القول الأول: أن المتعاطفين إما أن يتغايرا للذات، يعني: معناها أن المؤمنين وعدوا بشيئين: الشيء الأول: جنات بمعنى البساتين. الشيء الثاني: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)، فهذا غير هذا، والجنات هي البساتين، والمساكن الطيبة: مساكن في الجنة، فلكل أحد بساتين ومساكن. أو الجنات المقصود بها: غير عدن، وهي لعامة المؤمنين، يعني: جنات تجري من تحتها الأنهار هذه لعامة المؤمنين، ومساكن طيبة في جنات عدن هذه جنات خاصة بطبقة من المؤمنين، وعدن للنبيين. إذاً: الجنات للمؤمنين عموماً، وعدن خاصة بالنبيين والشهداء والصديقين، هذا على القول بأن الجنات متغايرة من حيث الذات. والاحتمال الآخر: أن يتحدا ذاتاً ويتغايرا صفة، فينزل التغير الثاني منزلة الأول ويعطف عليه، فكل منهما عام ولكن الأول باعتبار اشتماله على الأنهار والبساتين، يعني: جنات تجري من تحتها الأنهار، ونفس هذه الجنات فيها بجانب البساتين مساكن طيبة، باعتبار الدور والمنازل. يقول القاضي: فكأنه وصف الموعود أولاً بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها -التي هي الجنات الخضراء البساتين- لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى من شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف:71]، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين. (في جنات عدن): دار إقامة، يعني هذا النعيم كله مع الإقامة وعدم التحول، كالاستقرار فيها والخلود لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير. ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك، وهو قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} يعني: أكبر من كل هذا النعيم؛ ولأن النعيم الروحي الذي يفوز به أهل الجنة أعظم بكثير بلا شك من النعيم الحسي الذي يستمتعون به قال: (ورضوان من الله أكبر)، أي: من كل ما مضى. وأيضاً كذلك رؤية الله سبحانه وتعالى إذا كشفت لهم الحجب، فيرون الله سبحانه وتعالى، ويتلاهون وينشغلون عن كل ما عدا ذلك من النعيم في الجنة، فهذا فيه رد على ما يشغب به الملاحدة من المستشرقين أو اليهود والنصارى حينما يطعنون في الإسلام بأنه يغري المؤمنين بالمتاع الحسي، وهذا من ظلمة عقولهم وفساد قلوبهم؛ لأن الإنسان جسد وروح، وليس جسداً أو روحاً فقط، الإنسان عبارة عن جسد وروح، والحياة في هذه الدنيا متعلقة بالجسد والروح، ثم حياة القبر متعلقة بالروح أكثر من الجسد، ثم حينما ترد الأرواح إلى أجسادها في الآخرة، ينعم الروح وينعم أيضاً الجسد، فالنعيم الحسي للجسد والنعيم الروحي للروح، ونعيم الروح أفضل وأكمل. أما هم فغاية ما عندهم في اليوم الآخر أن يقول لك: فلان دخل الملكوت، ما هذا الملكوت؟ وما صفاته؟ وما تفاصيل هذا النعيم؟ هذا مما لا خبر لديهم به، بل يعيبون المسلمين ويعيبون القرآن الكريم لذكر النعيم الحسي، وهذا من ظلمة قلوبهم كما ذكرنا. (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)؛ لأن على هذا الرضوان يدور فوز كل خير وسعادة، وبه يناط نيل كل شرف وسيادة، ولعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه؛ لأنه متحقق في ضمن كل موعود؛ ولأنه مستمر في الدارين. قد يرد Q كيف أن رضوان الله سبحانه وتعالى أكبر من هذا النعيم في الجنة، ومع ذلك لم ينظم هنا في سلك وعده تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ))، ثم استأنف فقال: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، ولم يقل: ورضواناً، فلم يدخل في الوعد الرضوان، وإنما هذه فصلت عما قبلها، (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ)، يعني: ولهم رضوان من الله أكبر؟ ف A لأن هذا الرضوان متحقق في ظل كل موعود؛ لأن دخولهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ودخولهم مساكن طيبة في جنات عدن خالدين فيها، كل هذا يستلزم رضا الله عنهم؛ لأنه لو لم يرض عنهم لما أسكنهم هذه الجنات، فالرضوان متحقق في كلا الوعدين السابقين. ثم رضوان الله سبحانه وتعالى هل يوجد فقط في الآخرة أم أنه مستمر في الدارين؟ إن الله سبحانه وتعالى يرضى عن عباده المؤمنين في الدنيا ويرضى عنهم في الآخرة، فمن ثم لم ينظم الرضوان في سلك الوعد الذي صدرت به الآية الكريمة. وإيثار رضوان الله على ما ذكر بقوله: (ورضوان من الله أكبر) إشارة إلى إفادة أن قدراً يسيراً منه خير من ذلك، انظر إلى التنكير: (رضوان من الله) يعني: لو أن الإنسان حظي بقدر قليل من رضوان الله؛ لكان هذا القدر أعظم من الجنات، وأعظم من المساكن الطيبة في جنات عدن، وهذا فيه إشارة إلى عظم رضوان الله سبحانه وتعالى. وقد روى الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً). اللهم اجعلنا منهم! وروى المحاملي والبزار عن جابر رفعه: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل: هل تشتهون شيئاً فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا! ما هو خير مما أعطيتنا؟! قال: رضواني أكبر، ذلك هو الفوز العظيم) أي: لا ما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا، فالفوز العظيم هو الفوز بالآخرة، وليس ما يعده أهل الدنيا من الفوز بالمال أو بالجاه أو بأعراض الدنيا.

التوبة [73 - 80]

تفسير سورة التوبة [73 - 80]

تفسير قول الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)

تفسير قول الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73]. (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)، قيل: مجاهدة المنافقين بالحجة لا بالسيف، يعني: جاهد الكفار بالسيف، وجاهد المنافقين بالحجة، مع أن ظاهر الآية يقتضي مقاتلتهم جميعاً بالسيف، مع أن المنافقين غير مظهرين للكفر، ونحن مأمورون بالظاهر، فبما أنهم لا يظهرون الكفر وإن كانوا كفاراً في الحقيقة، بل شر من الكفار؛ لأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولكن مع أنهم يظهرون الإسلام فقد فسر الآية السلف بغير ظاهر الآية؛ لأن المنافقين يظهرون الإسلام، وأحكام الدنيا تجري على من يظهر الإسلام من الناس، فمن ثم فرق السلف في تفسير هذه الآية بين جهاد الكفار وجهاد المنافقين، وقالوا: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين بالحجة واللسان، كما قال تبارك وتعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] يعني: بالقرآن الكريم وبحججه؛ وذلك بناءً على أن معنى الجهاد هو: بذل الجهد في دفع ما لا يرضى، سواء كان هذا الدفع بالقتال أو بغيره، وهو إن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز، فجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بإلزامهم الحجج، وإزالة الشبه ونحوه، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجبها، كما روي عن الحسن في هذه الآية. إذاً: المنافقون يكون جهادهم بإقامة الحجج عليهم، ويتنوع هذا الجهاد إما بإقامة الحجة، وبإظهارها عليهم، أو بترك الرفق بهم، أو بالانتهار، أو بزجرهم ونهرهم، أو بإقامة الحدود عليهم إذا صدر منهم موجب هذه الحدود، وهذا روي عن الحسن في تفسير الآية. ورد على هذا التفسير، وهو: أن جاهد الكفار والمنافقين بإقامة الحدود: لا يلزم أن الإنسان إذا كان يفعل شيئاً يستوجب الحد أن يكون منافقاً، يعني لا تختص إقامة الحدود بالمنافقين لكن من عصاة المسلمين أيضاً من يأتي بموجبات إقامة الحد. فأجاب الفريق الذي قال بأن تفسير الآية هو إقامة الحدود عليهم بأن الحدود في زمنه صلى الله عليه وسلم أكثر ما صدرت على المنافقين. قال ابن العربي رحمه الله تعالى: هذه دعوى لا برهان عليها، وليس العاصي بمنافق، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق كاملاً لا بما تتلبس به الجوارح ظاهراً، فالنفاق الأكبر يتعلق بكتمان الكفر في القلب، ولا يتعلق بالأفعال أو المعاصي التي يظهرها الإنسان، وأخبار المحدودين -الذين أقيم عليهم الحد- في زمن البعثة يشهد سياقها أنهم لم يكونوا منافقين. فإن قيل: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين ظهر أصحابه فلم يقتلهم مع أنهم شر من الكفار؟ ف A أنه إنما أمر بقتال من أظهر بلسانه كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا اطلع على كفره أنكر وحلف، وقال: إني مسلم؛ فإنه أمر أن يأخذ بظاهر أمره، ولا يبحث عن سره. فالقتال هو قتال الكافر الذي يظهر كلمة الكفر، لكن إذا وجد شخص اطلع على أنه قد قال كلمة الكفر، ثم عند المواجهة ينكل عن ذلك، ويقول: ما فعلت، وما قلت، ويحلف الأيمان المغلظة كما هو شأن المنافقين، وأنكر أن يقع منه كفر، وقال: إني مسلم؛ فيعمل حينها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقبل ظاهر أمره ولا يبحث عن سره، كما في الحديث: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أن أشق عن بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وقال ابن كثير: روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين، ودليله قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] إلى آخره. وسيف للكفار أهل كتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]، إلى آخره. وسيف للمنافقين وهو في هذه الآية: ((جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)). وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]). وهذا الكلام إذا صح نسبته إلى علي رضي الله تعالى عنه فهو يقتضي أن يجاهد المنافقون بالسيوف إذا جاهروا بالنفاق، وهذا هو اختيار الإمام شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى. وفي الإكليل: استدل بالآيات من قال: بقتل المنافقين إذا أظهروا النفاق. قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) يعني: شدد على كلا الفريقين بالقول والفعل. (ومأواهم جهنم) في الآخرة (وبئس المصير). قال بعض المفسرين في قوله: (واغلظ عليهم): إن الضمير (هم) يعود إلى الفريقين: الكفار والمنافقين. وقال مقاتل: بل يعود فقط إلى المنافقين. وقال ابن عباس في قوله تبارك وتعالى: (واغلظ عليهم): يريد شدة الانتهار والزجر لهم، والنظر بالبغض والمقت. وقال ابن مسعود: لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر. قال عطاء: نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح. إذاً: هذه الآية فيها: الزجر، والشدة، والغلظة على هؤلاء المنافقين بعد جهادهم بالحجة وبالبيان، بخلاف ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في حق المؤمنين، فقال في حقهم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، وقال أيضاً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. وقال الزمخشري: (يا أيها النبي جاهد الكفار) بالسيف، (والمنافقين) باللسان، (واغلظ عليهم) في الجهادين جميعاً على الكفار إذا كنت تجاهدهم بالسيف، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، فهذا في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم. ثم قال الزمخشري: وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه؛ يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن. يعني: كل من وقف منه على فساد في العقيدة فله من الغلظة والشدة والزجر ما يليق بفساده، إن كان كافراً فبما يليق بكفره، أو مبتدعاً فبما يليق ببدعته، ولا شك أن الزمخشري نفسه ممن نال حظاً من هذا الزجر والشدة للفساد المعروف في عقيدته، فهو معتزلي، وكم تطاول على أهل السنة والجماعة، فانتصف منه الناصر في الكشاف في الرد عليه كما هو معلوم. وعن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهجهم بالشعر -المؤمن يجاهد بنفسه وماله- والذي نفس محمد بيده! كأنما تنضحهم بالنبل)، وهذا نوع من الجهاد؛ بالقول أو بالكلام أو باللسان، إما بإقامة الحجة، وإما بالغلظة على المنافقين بالشعر أو غير ذلك من أساليب البيان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حسان بن ثابت في حق المشركين: (اهجهم وروح القدس معك) يعني: يؤيدك ويثبتك، فهذا أيضاً بيان بأن من أنواع الجهاد الغلظة على المشركين، سواءً بالهجاء، أو بإقامة الحجة، أو بالإعراض عنهم، أو بالاكفهرار في وجوههم؛ فكل من ظهر منه نفاق ينبغي أن يعامل بهذه الطريقة. ونلاحظ أحياناً حينما يقوم بعض أهل العلم بالرد على ملاحدة هذا الزمان وزنادقته ومنافقيه من الصحفيين أو بعض الشيوخ الضالين، كهذا الضال المضل الذي يطعن في الصحابة ويكفرهم وهو أحد الشيوخ الضالين؛ فتحت له (روز اليوسف) أبوابها، ونشرت له حواراً في هذه الأفكار الضالة المضلة في التطاول على أبي بكر وعمر، وهي نفس أفكار الشيعة من إباحة نكاح المتعة وغير ذلك من الضلال المبين، ومع ذلك نجد بعض الناس كما فعلوا من قبل أيضاً مع نجيب محفوظ وغيره؛ نجده يقول: أستاذي الكبير نجيب محفوظ قال: كذا وكذا! وهذا لا ينبغي، ويتكلمون بطريقة فيها لين في غير موضع اللين، وتعظيم لإنسان كافر أو فاسق أو مبتدع أو منافق أو قل ما شئت، فمثل هذا يتنافى مع هذا الأدب الذي علمناه القرآن مع المنافقين: ((وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ))، فلا يقال في حق أمثال هؤلاء الصحفيين، أو الذين يسمونهم مفكرين: الأستاذ الكبير، ولا يذكر بنوع من الاحترام والتوقير، ونحو ذلك من الكلام المهذب الذي لا يليق بهؤلاء المعتدين المتطاولين على دين الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا نقع في هذا الفخ، وألا نظهر أي نوع من الاحترام أو التقدير لمن شاق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا)

تفسير قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا) قال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:74]. (يحلفون بالله ما قالوا) يعني: يحلفون بالله ما قالوا فيك شيئاً يسوءك، وينكرون الكلام الذي قالوه. (ولقد قالوا كلمة الكفر) اختلف العلماء في المقصود بكلمة الكفر: قيل: هي تكذيبهم بما وعد الله سبحانه وتعالى من الفتح. وقيل: هي قول الجلاس بن سويد -كما سيأتي-: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير. وقيل: هي قول عبد الله بن أبي: يا بني الأوس والخزرج! ألا تنصرون أخاكم، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. وقال أيضاً: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، فهذه هي كلمة الكفر. وقيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن في الإسلام. (وكفروا) يعني: أظهروا الكفر. (بعد إسلامهم) يعني: بعد أن أظهروا الإسلام، وهم لم يكونوا مسلمين، فهم كفار في الحقيقة، لكن أظهروا الكفر بعد أن كانوا يظهرون الإسلام. وقوله تعالى: (وكفروا بعد إسلامهم) متعلق بالظاهر في الحالين فقط، فهم قد أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون:3]، وفي هذا دليل قاطع على أن المنافق كافر.

سبب نزول قول: (يحلفون بالله ما قالوا)

سبب نزول قول: (يحلفون بالله ما قالوا) قال قتادة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي، وذلك لما اقتتل رجلان جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري -تشاجرا والجهني غلب الأنصاري وعلا عليه- فقال عبد الله بن أبي رأس المنافقين للأنصار: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، وقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) فسعى بها رجل من المسلمين -هو زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله فيه هذه الآية. إذاً: هذا دليل من قال: إن هذا هو المراد بكلمة الكفر في قوله: (ولقد قالوا كلمة الكفر). وروى الأموي في مغازيه عن ابن إسحاق أن الجلاس بن سويد بن الصامت وكان ممن تخلف من المنافقين، لما سمع ما ينزل فيهم قال: والله لئن كان هذا الرجل صادقاً فيما يقول لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد وكان في حجره -لأنه كان ابن امرأته- فقال: والله يا جلاس! إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاءً، وأعزهم علي أن يصله شيء تكرهه، ولقد قلت مقالة فإن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولأحداهما أهون علي من الأخرى -يعني: هذا مما لا يسكت عليه- فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس، فلما بلغ ذلك الجلاس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال هذا، فأنزل الله عز وجل فيه: ((يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ))، فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وتلا عليه هذه الآية وسمع الجلاس قوله تعالى: ((فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) إلى آخره، فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته، ونزع فأحسن النزوع. إذاً هناك قول: بأنها نزلت في حق عبد الله بن أبي، وقول: بأنها نزلت في حق الجلاس بن سويد بن الصامت، وهناك قول ثالث ولعله أرجح وأصح، وهو: أن هذا هو قول جميع المنافقين. إذاً: هذه الآية ليست في شخص بعينه وإنما تشمل هذين الرجلين، وتشمل غيرهما من المنافقين، وهذا هو قول الحسن البصري. وقال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: وهو الصحيح؛ لعموم القول، ووجود المعنى فيه وفيهم. لو تأملتم الآية: (يحلفون بالله ما قالوا) جمع، (ولقد قالوا) جمع (كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا)، وهكذا تلاحظون صيغ الجمع كثيرة في هذه الآية، قال ابن العربي: لعموم القول ووجود المعنى في هؤلاء وفي غيرهم ممن فعل مثل فعلهم، وجملة ذلك اعتقادهم فيه أنه ليس بنبي عليه الصلاة والسلام. (ولقد قالوا كلمة الكفر)، كل هذه الأفعال إنما يجمعها شيء واحد، وهو: أنهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال القاضي: يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع -يعني: أن يكون فقط المقصود بالآية وقائع معينة سواء واقعة عبد الله بن أبي أو غيره- وذلك لأن قوله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) إلى آخره، كلها صيغ الجموع، وحمل صيغ الجمع على الواحد خلاف الأصل، فإن قيل: قد يكون نزلت في واحد، لكن سمع هذا الكلام جملة من المنافقين فأقروه، فمن ثم نزلت، فيقال: إن هذا أيضاً خلاف الأصل، فهاتان الروايتان وغيرهما مما روي هنا كله مما يفيد تنوع مقالات وكلمات مفسرة لهم مما هو من هذا القبيل، وإن لم يمكن تعيين شيء منها في هذه الآية الكريمة.

سبب نزول قوله: (وهموا بما لم ينالوا)

سبب نزول قوله: (وهموا بما لم ينالوا) قوله تعالى: (وهموا بما لم ينالوا) هموا أن يفعلوا شيئاً لم يمكنهم الله منه، قال ابن كثير: قيل: أنزلت في الجلاس بن سويد؛ وذلك أنه هم بقتل عمير ابن امرأته لما رفع كلمته المتقدمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلاً، ففيهم نزلت هذه الآية. فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد قال: أخبرني الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: (لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد). والعقبة هي ارتفاع كبير في الجبل، ويكون على حافة الهاوية، فنادى المنادي أن الرسول عليه السلام مشى الآن في العقبة فلا يقرب أحد منها؛ لأنها ستكون ضيقة، وقد يؤدي الازدحام إلى خطر السقوط. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود دابته من الأمام حذيفة ويسوق به من الخلف عمار؛ إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار رضي الله تعالى عنه يضرب وجوه الرواحل، ليطردهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات: أن حذيفة قال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل لـ حذيفة: قد قد، حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل ورجع عمار فقال: يا عمار! هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم! قال: أرادوا أن ينفروا -يعني الناقة- برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه!) فساب عمار رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناشدتك بالله! كم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم، قال: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. هذا ما قيل في قوله تعالى: ((وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا)) أي: بما لم يمكنهم تحقيقه من الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم. (ما نقموا) يعني: ما أنكروا وما عابوا، (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) يعني: أعطاهم الله ورسوله من فضله، فعملوا بضد الواجب، فجعلوا موضع شكر النبي صلى الله عليه وسلم وتفضله عليهم النقمة، ولا ذنب له إلا تفضله صلى الله عليه وسلم عليهم! وقد سبق أن أشرنا إلى هذا في مثل قوله تبارك وتعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] أي: تجعلون شكر النعم والرزق الذي ساقه الله إليكم أنكم تكذبون رسل الله، وتكفرون بالله، فهل هذا الكفر والجحود يصلح في مقابلة إحسان الله إليكم؟! {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فهذا على حد قولهم: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك! فهذا ليس في الحقيقة ذنباً، ومنه قولهم في المثل المشهور: (اتق شر من أحسنت إليه)، وقد قيل للبجلي: أتجد في كتاب الله تعالى: اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم. ((وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)). ومن هذا الباب أيضاً قول ابن قيس الرقيات: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وأنهم سادة الملوك ولا تصلح إلا عليهم العرب فالشاهد هنا في قوله: ما نقم الناس من أمية إلا أنهم، أي: قبيلة أمية يحلمون ويصطبرون إن غضبوا، فهل هذا ينقم؟ هذا لا ينقم وهذا لا ينكر. ومنه أيضاً قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب يمدح قومه ويقول: لا شك أن فلول السيف كناية عن الشجاعة؛ لأن السيف يكون فيه خدش من شدة القتال والبأس، فهذا في الحقيقة ليس ذماً، وهذه مبالغة وتوكيد للمدح بما يشبه الذم، ظاهره الذم لكن يراد به المدح. ويقال: نقم من فلان الإحسان كعلم، إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة.

دعوة الله المنافقين إلى التوبة

دعوة الله المنافقين إلى التوبة دعا الله تعالى المنافقين إلى التوبة فقال عز وجل: ((فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)). (فإن يتوبوا) أي: من الكفر والنفاق، وبعض المفسرين ذهب إلى أن المعنى: إن يأتوا طوعاً تائبين، والمقصود بهم أن هذا في حق الزنادقة، فالزنديق هو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر. (فإن يتوبوا) إن أتوا بعدما فعلوه تائبين بأنفسهم فتقبل توبتهم، أما إن ادعوا -الزنادقة- التوبة بعد القدرة عليهم فلا تقبل، وللعلماء خلاف في هذه المسألة، فمن ثم فسروا قوله تعالى: (فإن يتوبوا) يعني: إن يأتوا تائبين طوعاً لأنفسهم، بخلاف ما إذا تابوا بعدما قدر عليهم. (فإن يتوبوا) من الكفر النفاق، (يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا) يعني: بالقتل والهم والغم، وقيل: بالعذاب الذي يلقونه عند معاينة الملائكة والاحتضار، وقيل: عذاب القبر، (والآخرة) أي: بالنار وغيرها. (وما لهم في الأرض من ولي) يشفع لهم في دفع العذاب، (ولا نصير) أي: معين فيدفعه عنهم بقوته، فلا يستطيع أن يشفع لهم، ولا هو نفسه يستطيع أن يدفع عنهم العذاب الذي يستحقونه. وقيل: المراد بقوله تعالى: (فإن يتوبوا يكن خيراً لهم) استعطاف قلوبهم بعدما صدرت عنهم الجناية العظيمة، وليس الأمر على ظاهره، ولا يؤخذ من ظاهر هذه الآية أنهم تابوا بالفعل، وليس في ظاهرها إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير، لكن لا يستدل بالآية على أنهم تابوا بالفعل.

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) ثم بين تبارك وتعالى بعض من نقم بإغناء الله تعالى إياه بما آتاه من فضله، وذكر أنموذجاً من هؤلاء المنافقين ممن أغناهم الله تبارك وتعالى بما آتاهم من فضله، ثم نكث في يمينه وتولى عن التوبة، فقال سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75]. (ومنهم من عاهد الله) أي: حلف به، (لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) يعني: لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في وجوه الخير. (ولنكونن من الصالحين) يعني: نعطي كل ذي حق حقه. {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:76]. (فلما آتاهم من فضله) ما طلبوا من المال (بخلوا به) ولم يفوا بما عاهدوا، (وتولوا) من العهد وهم معرضون عن عهدهم.

تفسير قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم)

تفسير قوله تعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم) قال الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77]. (فأعقبهم نفاقاً) إعرابها: مفعول ثاني، (فأعقبهم) أي: فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقاً، وهناك تفسير آخر وإن كان مرجوحاً، فبعض المفسرين قالوا: فأعقبهم البخل نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، (إلى يوم يلقونه) قالوا: يلقون بخلهم، على أن الهاء تعود إلى البخل، يعني: يلقون جزاء البخل. والراجح أن الهاء تعود إلى الله سبحانه وتعالى أي: فأعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم إلى يوم لقاء الله سبحانه وتعالى في الآخرة. (بما أخلفوا الله ما وعدوه) من التصدق والصلاح، (وبما كانوا يكذبون) في العاقبة. لماذا قلنا: إن هذا تفسير غريب مرجوح؟ لأن البخل قد يحصل من كثير من الفساق، ولا يستلزم البخل وقوع النفاق في القلب، إذ قد يبخل الإنسان ولا يستلزم ذلك أن يعاقب بالنفاق في قلبه، ولا يحصل معه نفاق. كذلك قوله تبارك وتعالى: (إلى يوم يلقونه) الظاهر أنها في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي أعقبهم نفاقاً. قوله تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) هذا توبيخ، ومعنى (وأن الله علام الغيوب) يعني: أنه سوف يجزيهم على ما فعلوا. (سرهم) أي: ما أسروه من النفاق والعزم على عدم إحداث ما وعدوه، (ونجواهم) أي: ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، (وأن الله علام الغيوب) أي: ما غاب عن العباد.

عدم صحة قصة ثعلبة بن حاطب

عدم صحة قصة ثعلبة بن حاطب هنا قصة مشهورة ينسبونها إلى ثعلبة بن حاطب، وهي من القصص التي يعجب بها القصاص ويكثرون تردادها، وهي ما ينسب إلى ثعلبة بن حاطب أنه قال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالاً، قال: (ويحك يا ثعلبة! قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه)، قال: والله لئن آتاني الله مالاً لأوتين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنماً؛ فنمت حتى ضاقت أزقة المدينة من كثرتها فتنحى بها، وكان يشهد الصلاة ثم يخرج إليها -يعني: في البداية كان يشهد صلاة الجماعة، ثم بعدما يصلي يخرج إلى الغنم- ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها فكان يشهد الجمعة فقط، ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها فترك الجمعة والجماعات، ثم أنزل الله على رسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فاستعمل على الصدقات رجلين وكتب لهما كتاباً، فأتيا ثعلبة فأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتم فمرا بي، ففعلا فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! فانطلقا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77]. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه، وفيه: أنه جاء فيما بعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته، فقال له: (إن الله منعني أن أقبل منك)، فجعل التراب على رأسه، فقال: (هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني)، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، ثم إلى عمر وعثمان، ثم هلك في أيام عثمان. وهذه القصة ليست صحيحة بأي حال من الأحوال، بل سندها ضعيف جداً كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. قال الشهاب: مجيء ثعلبة وحثوه التراب ليس للتوبة من نفاقه، بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين. وهذا التعليل مبني على صحة هذه القصة، لكن هناك نقاش تفصيلي في عدم صحة هذه القصة، وهناك رسالة مستقلة صنفها بعض طلبة العلم في إبطال هذا الحديث، فينصح بمراجعتها، ومما يبطل به هذه القصة: أنها -تزعم- أنها نزلت في رجل بدري، والرسول عليه السلام قال في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ومعنى هذا: أن الله سبحانه وتعالى علم من أهل بدر أنهم كلما أحدث الواحد منهم ذنباً أحدث توبة، حتى يختم له بالتوبة ويغفر الله سبحانه وتعالى له. وقيل: إن هذا الصحابي قد استشهد في غزوة أحد، فهذه القصة لا تصح بحال، وإن كان ذلك سيحزن كثير من القصاصين الذين يولعون بذكرها!

ضابط النفاق المراد في الآيات

ضابط النفاق المراد في الآيات يؤخذ من هذه الآية: أن إخلاف الوعد والكذب من خصال النفاق، فيكون الوفاء والصدق من شعب الإيمان. وفيها المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه، لقوله: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه). واستدل بها آخرون على أن مانع الزكاة يعاقب بترك أخذها منه، كما فعل بمن نزلت الآية فيه، وهذا يحتاج إلى دليل صحيح، والدليل ليس بصحيح كما ذكرنا. وقال الرازي: ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد، وخلف الوعد؛ يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به. ومذهب الحسن البصري في هذه الآية: أن هذا يوجب النفاق لا محالة، وتمسك فيه بهذه الآية الكريمة، فكان الحسن البصري يرى أن من نقض العهد وأخلف الوعد يصير بذلك منافقاً نفاقاً أكبر، وتمسك بهذه الآية، وتمسك أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان). لكن رد عليه بعض العلماء مثل الرازي في تفسيره. وقوله تعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه) هذا دليل على أن الناس الذين نزلت فيهم هذه الآية يموتون على النفاق، والهاء تعود للفظ الجلالة، والمراد باليوم: يوم القيامة، وله نظائر كثيرة في التنزيل.

رؤية الله يوم القيامة

رؤية الله يوم القيامة اللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان مناسباً لحالهم، ولا يفسر هنا أنهم يرون الله سبحانه وتعالى، بل اللقاء هنا بحسب من ينسب إليه، فإذا كان اللقاء في حق المؤمنين فله تفسير يليق بالمؤمنين، وإن كان في حق الكفار فهو بما يليق بحالهم. فاللقاء إذا أضيف إلى الكفار كان لقاءً مناسباً لحالهم من وقوفهم للحساب عنده تبارك وتعالى؛ لأنهم ليسوا أهلاً لرؤية الله تقدس اسمه، وإذا أضيف إلى المؤمنين كما في قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فهذه لقيا مناسبة لمقامهم، وفيها رؤيته تبارك وتعالى، وذلك لما أفصحت عنه آيات أخر من حال الفريقين، مما يتنزل مثل ذلك عليها. فمن وقف في بعض الآيات على لفظة واحدة، وأخذ يستنبط منها، ولم يراع ما استعملت فيه وأطلقت عليه، كان ذلك جموداً وتعصباً لا أخذاً بيد الحق، والمقصود بهذا الرد على الجبائي المعتزلي، وهو من رءوس المعتزلة، فـ الجبائي أفاض وأطال في تفسير قوله تبارك وتعالى: (فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه) وقال: إن اللقاء في هذه الآية لا يفيد رؤيته تبارك وتعالى، وللإجماع على أن الكفار لا يرونه تبارك وتعالى، فكلمة اللقاء في حد ذاتها لا تفيد الرؤية، وهذا صحيح في حق الكفار، لكنه أراد تعميمها ليستدل بها على نفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة! فقال: كما أن لفظ اللقاء لا يفيد رؤية الله في حق الكفار، فهو لا يفيد أيضاً في قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، فـ الرازي ناقشه بأن قال: صحيح هذه الآية لا تفيد رؤية الله في الآخرة، لكن رؤية الله في الآخرة بالنسبة للمؤمنين ثابتة من أدلة أخرى في القرآن والسنة. أما الجواب الذي ذكره القاسمي فهو أقوى وأمتن، فإنه قال: إن اللقاء يفسر في حق كل فريق بما يناسب حاله؛ ففي حق الكافر: يلقى الله لكنه يحجب عن الله؛ لأنه لا يستحق أن يرى الله، وليس أهلاً لذلك في الآخرة، أما في حق المؤمنين فلقاء الله يفسر في ضوء النصوص الأخرى التي أثبتت رؤية المؤمنين لربهم عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات)

تفسير قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ثم بين تبارك وتعالى نوعاً آخر من مطاعن المنافقين ومساوئهم، وهو لمزهم المتصدقين، فقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]. (الذي يلمزون) يعني: يعيبون، (المطوعين) أي: المتبرعين، (من المؤمنين في الصدقات) فيزعمون أنهم تصدقوا رياءً، (والذين لا يجدون) يعني: ويلمزون الذين لا يجدون (إلا جهدهم). ويفهم من هذا: أن المطوعين هم الذين أنفقوا نفقة كبيرة، وذلك للمغايرة بين المطوعين وبين الذين لا يجدون إلا جهدهم -كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى-، فهم يلمزون المتبرعين، وهؤلاء المتبرعون يأتون بمال كثير لأنهم أغنياء، فيقولون: هؤلاء ما تصدقوا إلا رياءً، فإذا أتى الذين لا يجدون إلا جهدهم وهم مؤمنون، وما يملكون شيئاً فتصدقوا بجهد المقل؛ يقولون: إن هذا أحوج لصدقته التي يتصدق بها. (والذين لا يجدون) يعني: ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدقون به إلا قليلاً، فيقولون عنهم: ماذا يفعل هذا الصاع من التمر أو نحو هذا؟! أو يقولون: إن الله غني عن مثل هذه الصدقة القليلة! (سخر الله منهم) أي: جازاهم على سخرهم بأن: (سخر الله منهم ولهم عذاب أليم).

سبب نزول قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين)

سبب نزول قوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل أي: نحمل الحمل على ظهورنا والأشياء الثقال مقابل أجرة، ثم نأخذ هذه الأجرة حتى نتصدق بها في سبيل الله، لماذا؟ لأنه ربط هذا الفعل بنزول آية الصدقة، فحرصاً منهم على الصدقة رضي الله تعالى عنهم كانوا يفعلون ذلك! يقول أبو مسعود البدري: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مراء! وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا! فنزلت: ((الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)). وروى الإمام أحمد عن أبي السليل عن رجل حدثه عن أبيه أو عمه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة؟)، فجاء رجل لم أر رجلاً أشد منه سواداً ولا أصغر منه، ولا أذم -يعني: من أشد الناس ذمامة- بناقة لم أر أحسن منها، فقال: يا رسول الله! دونك هذه الناقة، قال: فلمزه رجل فقال -والعياذ بالله-: هذا يتصدق بهذه! فوالله لهي خير منه! المنافق يقول: إن الناقة أفضل من هذا الرجل، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كذبت! بل هو خير منك ومنها -ثلاث مرات- ثم قال: ويل لأصحابك إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله)، يعني: إلا من وزع المال وأعطاه في سبيل الله تبارك وتعالى. وقال ابن إسحاق: كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات: عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي أخا بني عجلان؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء، وكان الذي تصدق بجهده أبا عقيل أخا بني أنيس أتى بصاع من تمر فأفرغها في الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل. هؤلاء المنافقين قالوا: إن هذا -بسبب فقره- أحوج إلى الصدقة، فكيف يتصدق بها؟! والجواب عن ذلك أن هذه من أخلاق المؤمنين، وهذه من موجبات الفضيلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى امتدح المؤمنين بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فهو أحوج إلى هذه الصدقة من هذا الذي ينفقها فيه، لكنهم مؤمنون صادقون يتصفون بقوله تبارك وتعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)، وقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177] أي: حاجته إليه. وروى الحافظ البزار في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! عندي أربعة آلاف: ألفين أقرضهما لربي وألفين لعيالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت، وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله! أصبت صاعين من تمر: صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي، قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟! فأنزل الله الآية). وقوله صلى الله عليه وسلم: (أريد أن أبعث بعثاً) أي: لغزو الروم، وذلك في غزوة تبوك؛ لأن هذه السورة في شأن غزوة تبوك.

تنبيهات في إخراج الصدقات

تنبيهات في إخراج الصدقات هاهنا بعض التنبيهات المهمة: أولاً: الصدقة أو إنفاق المال ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، إما أن يكون واجباً مفروضاً كالزكاة، وإما أن يكون نافلة، وهو المراد هنا، لقوله تعالى: (الذين يلمزون المطوعين)، وأصلها: المتطوعين، فهذا يدل على أن المقصود هنا صدقة النافلة أو التطوع. ثانياً: أن الآتي بالصدقة إما أن يكون غنياً وإما أن يكون فقيراً، فالغني لغناه يأتي بالصدقة الوفيرة الكثيرة كـ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، والفقير يأتي بالصدقة القليلة ويأتي بجهد المقل، ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب، فمن حيث الثواب لا ينظر إلى قدر الصدقة؛ لأن المقصود من الأعمال الظاهرة النية، واعتبار حال الدواعي والفوارق، فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله سبحانه وتعالى من الكثير الذي يأتي به الغني. ثالثاً: أن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور؛ لأن نظرهم قاصر فهم نظروا للكمية وللقدر، فالذي أتى بالكثير قالوا: هذا رياء، والذي أتى بالقليل قالوا: هذا أحوج إلى صدقته، فما كان يتجاوز نظرهم ظواهر الأمور، فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة على أساس أن هذه لا يرجى من ورائها ثواب لأنها قليلة، وهذا قد أبطله قول النبي عليه الصلاة والسلام: (سبق درهم مائة ألف درهم) يعني: رجل تصدق بدرهم سبق وحاز على أجر أفضل من أجر رجل تصدق بمائة ألف درهم! قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟! قال: (رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه مائة ألف). فإذاً كما يقال: نية المؤمن أبلغ من عمله، فالإنسان يجازى على قدر همته، فهذا الرجل كل الثروة التي يملكها درهمان اثنان فقط، فماذا فعل؟ لا نقول تصدق: بدرهم، لا بل نقول: تصدق بنصف ما يملك، أما الرجل الآخر فله مال كثير، فأخذ من عرض هذه الأموال، فهو عمد إلى جانب من جوانب هذا المال فأخذه، فكان مائة ألف درهم، فبالنسبة للمال الذي يملكه هو دون النصف بكثير، لكن هذا همته أنه تصدق بنصف ماله، أما هذا فجزء يسير من عرض ماله. وهذا رجل لفقهه تصدق بنصف ماله، درهم له وأمسك درهماً لنفقته أو نفقة عياله، فإذاً الأجر على قدر حال المعطي لا على قدر المال المعطى، وعلى قدر الهمة، وحال المتصدقين، فصاحب الدرهم أعطى نصف ماله وهو في حالة لا يعطي فيها إلا أصحاب اليقين الأقوياء في الإيمان، حيث يضحي بنصف ماله، فيكون أجره على قدر همته، بخلاف الغني فإنه ما أعطى نصف ماله، ولا كان في حال لا يعطى فيها عادة؛ لأنه هنا غير محتاج، وإذا أعطى فإن هذا لا يؤثر في حاله بشيء. وهناك تفسير آخر لكنه مرجوح، وهو: تفسير الحديث بأن الفقير بدأ بالصدقة أولاً؛ فالغني اقتدى به في الصدقة، فبالتالي ينطبق عليه حديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، فيصبح للفقير مثل أجر الغني وزيادة عليه بدرهم، له أجر صدقة مائة ألف درهم ويزيد عليه درهم واحد، ولكن هذا بعيد؛ لأن ظاهر الحديث أن هذا حصل في وقت واحد من رجلين، لأنه قال: (سبق درهم مائة ألف)، والحديث رواه النسائي وابن خزيمة وصححاه من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أي الصدقات أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وقال: (أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى)، أي: في حالة احتياج وخصاصة ومع ذلك تتصدق، لكن شرط صحة هذه الصدقة أن يبدأ بمن يعول، ولذلك قال: (جهد المقل، وابدأ بمن تعول)، وجاء في تفسير قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما زاد عن النفقة الواجبة.

نموذج من اللمز المعاصر لمنافقي اليوم

نموذج من اللمز المعاصر لمنافقي اليوم يقول السيوطي في الإكليل: في هذه الآيات تحريم اللمز والسخرية بالمؤمنين. هكذا جزاء من يلمز ويسخر من المؤمنين، وما أوفر حظ منافقي وزنادقة وملاحدة زماننا من هذا الوعيد في هذه الآيات الكريمة؛ لأنهم لا وظيفة لهم غير السخرية من المؤمنين، بل صار هذا من المقررات التي نحفظها وتتوارد على أسماعنا صباح مساء في جميع أجهزة الإعلام بلا استثناء من وصف الإسلام بالتطرف والإرهاب والرجعية والجمود والهوس، وغير ذلك من هذه الأوصاف التي تنضح بها آنيتهم. فلا شك أن هؤلاء لهم حظ من قول الله: ((الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ))، يأتون بامرأة منقبة ويقولون: إن المنقبات دميمات الخلقة، فهن يسترن قبح خلقتهن، أو يقولون: إن هذه تتحجب؛ لأن أسعار حلاق السيدات ارتفعت، أو أنهن لا يستطعن أن يواكبن زميلاتهن اللائي يلبسن الثياب الثمينة، هذا هو اللمز، ونفس صورته الحية، وكما هو شأن المنافقين دوماً، فنقول: هذا الشبل من هذا الأسد، فهي سنة لا تتغير ولا تتبدل كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29]، الآن يضحكون علينا بالكاريكاتير وبالتمثيليات والمسرحيات والأغاني والمقالات وكل شيء، {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا} [المطففين:30 - 31] أي: رجعوا إلى البيوت {انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:31 - 34]. فالمؤمنون يضحكون عليهم أخيراً ضحكاً يدوم ولا ينقطع، أما هم {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا} [التوبة:82]؛ لأن الضحك مهما طال في الدنيا فالدنيا قليلة، وسوف تفنى، {وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة:82] بكاءً لن ينقطع حينما يخلدون في نار جهنم. فيحرم أن يلمز الإنسان أو يسخر من المؤمن، خاصة إذا كانت السخرية بسبب الدين، فتراه لا يحقد عليه ولا ينقم عليه إلا بسبب تدينه؛ لأنه ملتح، أو لأنها محجبة، أو لأنه يقرأ القرآن، أو لأنه يحافظ على الصلوات، فكل هذا ينبع من النفاق. وقوله: (الذين يلمزون المطوعين) أصلها المتطوعين، أدغمت التاء في الطاء لقرب المخرج.

تفسير قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)

تفسير قوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) قال الله تبارك وتعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:80]. (استغفر لهم) أي: استغفر لهؤلاء المنافقين (أو لا تستغفر لهم) أي: فإنه في حقهم سواء، ثم بين استحالة المغفرة لهم وإن بولغ في الاستغفار، فقال عز وجل: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك) يعني: عدم الغفران لهم، بسبب: (أنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) يعني: الخارجين عن حدوده، فجملة قوله تعالى: (استغفر لهم) هي جملة إنشائية لفظاً لكنها خبرية معنىً مثل قوله: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة:53]، والمقصود: سواء أنفقتم طوعاً أو كرهاً فلن يتقبل منكم. والمراد بقوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) التسوية بين الاستغفار لهم وتركه في استحالة المغفرة، وتصويره بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما، كأنه صلى الله عليه وسلم أمر بامتحان الحال؛ لأن الله سبحانه وتعالى يأمره بأن يمتحن، ويرى هل ثم نتيجة من الاستغفار أم لا؟ فيقول: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) يعني: استغفر لهم أحياناً واترك الاستغفار تارة، سوف يظهر لك جلية الأمر من أن هذا لا تأثير له في مغفرة ذنوبهم، كما مر في قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة:53]، وقد وردت بصيغة الخبر في سورة المنافقين في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:5 - 6]. قال الزمخشري: السبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، يعني: ليس المقصود حقيقة العدد لكن المقصود التكثير، وهذا جار في مجرى كلام العرب للتكثير، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لأصبحن العاصي وابن العاصي سبعين ألفاً عاقدي النواصي فذكرها للمبالغة في حسم مادة الاستغفار لهم، وهذا من أساليب العرب في المبالغة لا للتحديد، وليس المقصود أن ما زاد على السبعين سوف يغير الحكم، لكن المقصود مهما أكثرت وبالغت في الإكثار، فلن يكون له تأثير في مغفرة ذنوبهم. وقال أبو السعود: شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير؛ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنها العدد بأسره، وقيل: هي أكمل الأعداد لجمعها معانيها؛ ولأن الستة أول عدد تام لتعادل أجزائها الصحيحة، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وثلثاها واحد، وجملتها ستة، وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة، إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال، ثم السبعون غاية الكمال؛ إذ الآحاد غايتها العشرات، والسبعمائة غاية الغاية. روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أراد أن يصده عن الصلاة على عبد الله بن أبي: (إنما خيرني الله فقال: (استغفر لهم)، وسأزيده على السبعين)، فظاهر هذا أن (أو) للتخيير، وأن السبعين له حد يخالفه حكم ما وراءه، وفي الحقيقة أن هذا من الإشكال بمكان؛ لأن الرسول عليه السلام أفصح العرب على الإطلاق، ولذا قال الزمخشري: كيف يكون هذا وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، ويفهم من هذا العدد كثرة الاستغفار؟ كيف وقد تلاه بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا} [التوبة:80] إلى آخره، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: (قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين)؟! ثم أجاب الزمخشري بقوله: لم يخف عليه ذلك صلى الله عليه وسلم، ولكنه قال ذلك إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليهم، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بذلك أن يبين أنه في غاية الرحمة لهذه الأمة التي بعث إليها، حتى لو كان الميت بمثل هذه الحال، كقول إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم أن يرحم بعضهم بعضاً، يعني: إذا فعل هذا في حق هذا المنافق، فالأولى أن يفعل المؤمنون ذلك في حق بعضهم بعضاً من أهل الإسلام والإيمان. وقال القرطبي: وأما استغفاره للمنافق الذي خير فيه؛ فهو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب الأحياء من قرابات المستغفر له، والله تعالى أعلم. قال شراح كلام الزمخشري: يعني أنه وقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص دون التكثير، فجوز الإجابة بالزيادة قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة؛ أي: أن الرسول عليه السلام كان يعلم أن السبعين ليست حداً، لكن المراد بها المبالغة في التكثير، لكنه جوز أن يكون هناك احتمال للإجابة إذا زاد على السبعين، فلذلك بين لهم التخيير قصداً إلى إظهار الرأفة والرحمة كما قال إبراهيم عليه السلام في ذكر جزاء من عصاه ولم يمتثل أمره بترك عبادة الأصنام: (فإنك غفور رحيم)، دون أن يقول: شديد العقاب، فخيل أنه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم، وحثاً على الاتباع. وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي فصاحته ومعرفته باللسان، فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم، ورأفته بهم، واستعطاف من عداهم، وذلك كقوله تبارك وتعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة:6]، ومع ذلك هو مأمور أن ينذرهم، هذا في الإثبات. أما في النفي فكما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون:6]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه رخص لي)، ويحتمل أنه رخص له في ابن أبي بالذات لحكمة، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول، وكما ذكرنا من قبل ربما أنه لتطييب خاطر ابنه وكان من الصالحين، وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي، أو لتأليف قلوب المنافقين من أتباعه إلى الإسلام كما سيأتي. وقال الحافظ ابن حجر: روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: لما نزلت: ((اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأزيدن على السبعين)، فأنزل الله تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم)، ثم قال: ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا في ذلك.

التوبة [81 - 89]

تفسير سورة التوبة [81 - 89]

تفسير قوله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله)

تفسير قوله تعالى: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) يقول الله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]. أشار الله تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين، وهو جعلهم الحزن والكراهة مكان الفرح والرضا فقال سبحانه: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]. (المخلفون) هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم في التخلف، أو: لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك، وسبب إيثار لفظ (المخلفون) على (المتخلفون)؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلفهم بأن ثبطهم، كما قال: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]. وقيل: لأنه منع بعضهم من الخروج، فغلب الوصف على غيرهم، فصاروا المخلفين لا المتخلفين. أو: المراد (فرح المخلفون) يعني: الذين خلفهم كسلهم أو نفاقهم، أو: الذين أغراهم الشيطان بذلك وحملهم عليه. (بمقعدهم) يعني: بقعودهم، فمقعد على هذا مصدر متعلق بفرح، يعني: فرحوا بقعودهم عن غزوة تبوك، أو تكون اسم مكان، وهو في هذه الحالة المكان الذي قعدوا فيه وهو المدينة. وقوله: (خلاف رسول الله) يمكن أن تكون مفعولاً لأجله أو ظرفاً، أي: خلفه وبعد خروجه، حيث خرج هو ولم يخرجوا، فـ (خلاف) ظرف بمعنى خلف وبعد، يقال: فلان أقام خلاف الحي، يعني: بعدهم، ظعنوا ولم يظعن، ويؤيده قراءة من قرأ: (خلف رسول الله)، فالخطاب على أنه ظرف لمقعدهم، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك. واستعمال خلاف بمعنى خلف؛ لأن جهة الخلف خلاف الأمام، ويجوز أن يكون الخلاف بمعنى المخالفة، فهو مصدر خالف؛ كالقتال ويعضده قراءة من قرأ: (خُلف رسول الله). (وكرهوا) يعني: بما في قلوبهم من مرض النفاق (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو، ولكن قال: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، إيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب وأشرف المطالب التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون، ومع ذلك هؤلاء قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني في الموضع الذي يستحق الندم والحزن والكراهية فرحوا، والموضع الذي ينبغي أن يفرح به المؤمن، وهو الخروج للجهاد بالمال والنفس في سبيل الله كرهوه! قال الزمخشري في قوله تعالى: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم): تعريض للمؤمنين، لكنه صرح فيما بعد بذلك حينما قال تبارك وتعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التوبة:88]، إلى آخر الآية فمدحهم، قال: تعريض للمؤمنين وتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض، أي: الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان. والتعريض هنا ظاهر؛ لأن المراد كرهوه لا كالمؤمنين أحبوه، أو: لا كالمؤمنين الذين أحبوا الخروج والجهاد. (وقالوا لا تنفروا في الحر) إما أنهم قالوا ذلك لإخوانهم المنافقين أو للمؤمنين، فقالوا لإخوانهم: لا تنفروا إلى الجهاد في الحر، فإنه لا تستطاع شدته، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، وعند طيب الظلال والثمار في المدينة، فحرصوا على أن يثبتوا إخوانهم المنافقين على التخلف، كيف نترك هذا الجو الجميل، والثمار التي قد آن قطافها، والظلال الوارفة، ونخرج في الحر إلى تبوك حيث المسافة البعيدة؟ ومن خرج في رحلة إلى هناك يعرف معنى الحر في تبوك! (وقالوا لا تنفروا في الحر)، تثبيتاً لهم على التخلف، وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد، أو أنهم قالوا: لا تنفروا في الحر للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، تماماً كما ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر بعض الضالين الذين يقولون للمحجبات: كيف تلبسن هذه الملابس في شدة الحر؟ فينبغي أن نمتثل نفس الجواب فنقول: (قل نار جهنم أشد حراً)؛ فهي تحتمل الحر الآن؛ لأن نار جهنم أشد حراً، كما احتمل الصحابة شدة الحر في تلك البلاد. وقالوا ذلك للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود حتى يظهروا العلة والعذر، وكأن الذي منعهم هو شدة الحر، فيتسترون وراء ذلك. فقد جمعوا ثلاث خصال من خصال الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، أفاده أبو السعود. (قل) رداً عليهم وتجهيلاً لهم (نار جهنم) التي سوف تدخلونها بما فعلتم (أشد حراً) مما تحذرون من الحر المعهود، أي أن هذا الحر الشديد في الدنيا أهون من حر جهنم التي سوف تدخلونها، وهي (أشد حراً) مما تحذرون من الحر المعهود وتحذرون الناس منه، فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود على النفير؟! (لو كانوا يفقهون) اعتراض تذييلي من جهته تبارك وتعالى غير داخل تحت القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب (لو) إما مقدر: لو كانوا يفقهون أنها كذلك، أو: لو كانوا يفقهون أن مآلهم بسبب تخلفهم إليها لما فعلوا ما فعلوا، أو: لو كانوا يفقهون لتأثروا بهذا الإلزام. وإما أن يكون جواب (لو) غير منوي، على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها، يعني: لو كانوا من أهل الفطانة والفقه، كما في قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]. قال الزمخشري: قوله تعالى: (قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون) استجهال لهم. نعم، فإذا الإنسان يتصون من مشقة ساعة، نجد الإنسان في الحر الشديد قد يصل به الأمر أنه لا يخرج ولا يتحرك من تحت الظل تأذياً بشدة الحر، ونحن هنا في المدينة قليلاً ما نذوق الحر، لكن من سافر إلى غير هذه البلاد يعرف ما معنى شدة الحر ويعرف معنى هذا الذي أقوله، وأنا أسمع أن في بعض بلدان الخليج إذا انقطع التيار الكهربائي فإن النساء والصبيان داخل البيوت يصرخون بسبب توقف المكيفات، ويبكون من شدة الحر، مع أنهم في الظل، ولكن مع ذلك يحصل هذا الألم الشديد نتيجة شدة الرطوبة مع الحر! قال: فإذا الإنسان تصون من مشقة ساعة، أي: احترز من مشقة مشية في الحر لمدة ساعة، كما فعل الذين امتنعوا عن الخروج في سبيل الله خشية الحر، مع أن ذلك يؤدي بهم إلى المكث في نار جهنم، حيث لا مقارنة ولا نسبة بين العذابين، فمن تصون من مشقة ساعة؛ فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل، يعني: لا يستطيع أن يستعمل عقله في الموازنة بين الأضرار، فلا شك أن القاعدة: أنه يدفع أقوى الضررين بارتكاب أخفهما. ثم ينشد الزمخشري هنا قول بعضهم: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب يعني: إذا مرت بك أحقاب وأزمان طويلة، وعشت فيها في سرور وسعادة، ثم كدرت هذه السعادة وهذا السرور بمساءة يوم مر عليك بعد ذلك، فهذه المسرة الطويلة أريها يعني: عسلها، شبه الصاب، يعني: مثل الصاب، وهو نبات مر، أو هو الحنظل. (فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب)، فكيف ترجح سرور ساعة، سوف يورثك الحسرة والمساءة لأحقاب؟ فكيف المقارنة بين عذاب قليل في الدنيا وسويعات قليلة في الحر وبين حر جهنم؟! فلا مقارنة على الإطلاق؛ لأن فيها الخلود الدائم الذي لا ينقطع. فهم كما قال القائل: كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولذلك هذا الشخص الذي يقدم على الانتحار، ما أقل عقله! وهو من أجهل الجهال؛ لأنه إذا كان يبتلى في الدنيا ببعض البلاء ولا يستطيع أن يصبر عليه، فكيف يعجل بنفسه إلى النار التي لا مقارنة بين بلائها وبين هذا البلاء الذي كان يعانيه في الدنيا، لأنه لو عاش فالله سبحانه وتعالى سيخلف عليه إصلاحاً لحاله، ويمد له في الأجل كي يعمر عمره بالأعمال الصالحة، فهو أضر نفسه من حيث إنه قطع على نفسه الفرصة التي وهبه الله سبحانه وتعالى إياها، فقطع عمره بدل أن يستثمره في العمل الصالح، وفي نفس الوقت عجل نفسه إلى عذاب الله عز وجل، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، يهرب من الرمضاء -الحر الشديد- أو الرمال الساخنة، فيلقي بنفسه في النار! فنحن نلاحظ في كثير من الحوادث مثل: الزلازل أو انهيار المنازل؛ أن الإنسان بسرعة جداً يقيس الأمر، فلو وجد حريق في بيت أو فندق، فنسمع أن من الناس من ألقى بنفسه من النافذة؛ لأنه لا يوجد وقت للترجيح، فيرجح بأن يلقي نفسه لكي يتكسر؛ لأنه أهون من أن يحترق بهذه النار التي تطارده، أما هذا فعلى العكس فيستجير من حر رمال ساخنة بأن يلقي نفسه في النار، وقال آخر: عمرك بالحمية أفنيته خوفاً من البارد والحار وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار يعني: نحن في البرد الشديد نستعمل المدفئات حتى تسخن الجو، وفي حالة الحر نأتي بالمراوح والمكيفات لكي تبرد الجو، فيقول: أفنيت عمرك في الاحتراز من الحر والبرد، (خوفاً من البارد والحار، وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار). وروى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءاً من نار جنهم). وروى الشيخان عن

تفسير قوله تعالى: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا)

تفسير قوله تعالى: (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً) ثم أخبر تبارك وتعالى عن عاجل آمرهم وآجله من الضحك القليل والبكاء الطويل المؤدية إليه أعمالهم السيئة التي من جملتها ما ذكر من الفرح، فقال عز وجل: ((فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا))، أليسوا فرحين فليضحكوا؟ لكن هذا الضحك قليل، (فليضحكوا قليلاً)، هنا أمر بمعنى: التهديد، وليس للوجوب، {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]، أو هو أمر بمعنى الخبر، (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً)، يعني: سوف تحصل لهم تلك الحالة: ضحك كثير مع بكاء طويل. والحكمة من أنه سبحانه وتعالى أخرج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر؛ ليدل على تحتم وقوع المخبر به، فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد أن يتخلف عنه المأمور به، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: اضحكوا قليلاً وابكوا كثيراً، إذا أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك، والله عز وجل لا يتخلف أمره عن الانقياد له قهراً وقسراً؛ فهذا يعني بيان تحتم وقوع ذلك، وعدم تخلفه عن المأمور به. فإن قيل: إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة في اقتضائه تحقق المأمور به، فالخبر آكد، فما باله عكس هذا؟ ف A أنه لا منافاة بينهما؛ لأن لكل مقام مقالاً، والنكت لا تتزاحم، فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك، وتحقق منه قبل الأمر به كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه، فكأنه مأمور به، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى. وهنا جمع بين صيغتين: صيغة الماضي والمستقبل، فقال عز وجل: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]، جزاءً بما كانوا: ماضي، يكسبون: هذه صفة تفيد الاستمرار إلى المستقبل، الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا، يعني: ما داموا فيها فهم يكسبون هذه الأفعال. قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]: من الناس من كان لا يضحك، يعني: كان بعض السلف لا يضحك، اهتماماً بنفسه وخوفاً على فساد حاله في اعتقاده، يظن أنه مقصر في حق الله، ولشدة خوفه كان لا يستطيع أن يضحك، وإن كان عبداً صالحاً لكنه يخشى التقصير، قال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصُّعُدات -أي الطرق- تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني كنت شجرة تعضد) أخرجه الترمذي. وكان الحسن البصري رحمه الله ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى، وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إياك وكثرة الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب). أما البكاء من خوف الله سبحانه وتعالى وعذابه وشدة عقابه فمحمود، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت). أخرجه ابن المبارك من حديث أنس وأخرجه ابن ماجة أيضاً. وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). وقال أيضاً: (عينان لا تمسهما النار، وذكر منهما: وعين بكت من خشية الله)، فمن كثر بكاؤه خوفاً من الله تعالى وخشية منه، ضحك كثيراً في الآخرة؛ لأن المؤمنين يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]. وقد قيل للحسن: ما نصنع يا أبا سعيد -بمجالسة أخوان يخوفوننا، حتى تكاد قلوبنا تتفطر؟! فقال: لئن تجالس قوماً يخوفونك حتى تدرك أمناً، خير لكن من أن تجالس قوماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف. ووصف الله سبحانه وتعالى أهل النار فقال: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31]، وقال أيضاً: {وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:110 - 111].

تفسير قوله تعالى: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم)

تفسير قوله تعالى: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) ولما جلى سبحانه وتعالى ما جلى من أمرهم، فرع عليه قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83]. قوله تعالى: (فإن رجعك الله) يعني: إن ردك الله من غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين المتخلفين في المدينة، والمقصود المتخلفين بغير عذر، وإنما قال سبحانه وتعالى: (إلى طائفة منهم) ولم يقل: إلى كل من في المدينة؛ لأن منهم من كان معذوراً؛ لأن جميع من أقام في المدينة ما كانوا منافقين، بل كان منهم معذورون، ومنهم من لا عذر له ثم عفا عنه وتاب عليه كالثلاثة الذين خلفوا. (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) أي: معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، دفعاً للعار السابق، هم لا يريدون وجه الله ولا أن يتوبوا، لكن يريدون دفع العار، وتحسين منظرهم أمام الناس. (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) يعني: عاقبهم بألا تصحبهم أبداً، كما في سورة الفتح: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح:15]. (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ): رضيتم بالقعود عني أول مرة، يعني: فخذلكم الله وسقطتم عن نظره، بل غضب عليكم وألزمكم العار (فاقعدوا مع الخالفين)، يعني: كونوا مع الخالفين من النساء والصبيان دائماً. ومع أن هؤلاء الخالفين يشملون الإناث النساء لكنه غلب هنا المذكر فقال: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تغليباً للمذكر، وهذه الآية: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تدل على أن اصطحاب المخذل في الغزو لا يجوز، فلا يجوز في الغزو اصطحاب المخذل الذي يخذل الناس ويثبط هممهم. (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) إذاً هناك تفسير للخالفين بأنهم النساء والصبيان والزمنى، أو المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين، على أن الخوالف هم خساس الناس وأدنياؤهم، أحقر الناس وسفلتهم، فيقال: فلان خالفة أهل بيته، إذا كان دونهم أو فلان خالفة يعني: غير نجيب، إذا كان فاسداً في قومه، ومنه أيضاً: خلوف فم الصائم؛ لأن خلف فمه يعني: تغير ريحه، ومن قولهم: خلف اللبن أو خلُف اللبن بفتح اللام وضمها يعني: إذا فسد وحمض بطول المكث في السقاء، فالمقصود على هذا القول: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) يعني: مع الفاسدين. قوله تعالى: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) إخبار في معنى النهي للمبالغة، وذكر القتال: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا) لأنه المقصود من الخروج، فلو اقتصر على أحدهما لكفى إسقاطاً لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد، أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين، وإظهاراً لكراهة صحبتهم وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند. يقول أبو السعود: فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين. وهذه عقوبة شديدة لهم وأي عقوبة! وقال: وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثر الدائر على الألسنة، يقصد قوله: (أول مرة)، فالصحيح في اللغة أن الأكثر الدائر على الألسنة: أن يذكر اسم التفضيل إذا أضيف إلى المؤنث، فإنك لا تكاد تسمع -بعد الاستقراء- قائلاً يقول: هي كبرى امرأة، أو يقول: هند كبرى النساء، لكن تقول: هي أكبرهن أو هي أكبر امرأة، ولا تكاد تسمع شخصاً يقول: هذه أولى مرة، لكن أكثر الاستعمال هو: أول مرة، فجاء قوله تعالى: (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) جرياً على الغالب في استعمال العرب. وهذه الآية الكريمة: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) سبق أن نبهنا مراراً أن بعض الناس -بالذات في جماعة التبليغ- يحاكمون ألفاظ القرآن إلى ألفاظ محدثة فيحملون مثلاً الآيات التي فيها لفظ الخروج على الخروج المعهود الطارئ عندهم في جماعتهم، وقد يذمون من يتخلف عنهم بنفس هذه النصوص، فهذا بلا شك من الانحراف في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى، كما فسروا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بأنه الخروج بالكيفية التي يلتزمونها ولا يكادون يخرجون عنها!! وقوله هنا: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) قال الرازي: واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد -بعض متعلقيه: جيرانه أصدقائه زملائه أو غير ذلك- إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد، ورآه مشدداً فيه، مبالغاً في تقرير موجباته، فإنه يجب عليه أن يقطع العلاقة بينه وبينه، وأن يحترز من مصاحبته، فالشخص القريب منك كزميل أو جار، إذا تأكدت -لا على سوء الظن ولا من مرة أو مرتين أو من مجرد إساءة تحتمل- أنه يظهر منه المكر والكيد والخداع، ويشدد في ذلك ويبالغ إلى أقصى ما يستطيع في توصيل ما أمكنه من الأذى إليك، فمثل هذا ينبغي أن تقطع العلاقة بينك وبينه، وأن تحترز عن مصاحبته توقياً لشره، ويستفاد هذا من قوله تعالى: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً).

تفسير قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا)

تفسير قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) قال تبارك وتعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]. (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) لأن صلاة الجنازة شفاعة، ولا شفاعة في حق هؤلاء. (ولا تقم على قبره) أي: لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء. وبعض المفسرين قال: (لا تقم على قبره) يعني: بالدعاء. وبعضهم قال: (لا تقم على قبره) يعني: لا تقم بإصلاح مهمات قبره، من قولهم: قام فلان بأمر فلان، يعني: إذا كفاه أمره وتولاه، (ولا تقم على قبره) لا تتولى أمره، ولا تتولى إصلاح مهمات قبره. وقال الشهاب: القبر مكان وضع الميت، ويكون بمعنى الدفن. (إنهم كفروا بالله ورسوله) يعني: في أثناء ما كانوا أحياء كفروا في الباطن بالله ورسوله. وقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) جملة (مات أبداً) صفة؛ لأن الجملة بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، فجملة (مات) هنا في موضع جر؛ لأنها صفة للنكرة، كأنه قيل: لا تصل على أحد منهم ميت. (إنهم كفروا) يعني: في حالة الحياة كفروا في الباطن، لأن الكلام عن المنافقين: (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن الإيمان الظاهر الذي كانوا به في حكم المؤمنين. روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: ((اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)) [التوبة:80]، وسأزيده على السبعين)، قال: إنه منافق! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا). أما قوله: فسأله أن يعطيه قميصه يكفن به أباه، قيل: إن سر إجابته عليه الصلاة والسلام في إعطائه قميصه الذي سأله إياه أن هذا من حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال له: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]، فلما سأله القميص أعطاه. وقيل: لأن منع القميص لا يليق بأهل الكرم. وقيل: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أكرمه لمكان ابنه، وكان من الصالحين. وقيل: لعل الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النبي أنه إن فعل ذلك أسلم نفر من المنافقين. وقيل: لأن الرأفة والرحمة كانت غالبة عليه صلى الله عليه وسلم. لكن الراجح من ذلك كله هو ما ذكره القرطبي حيث قال: اختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـ عبد الله فقيل: إنما أعطاه؛ لأن عبد الله كان قد كسا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصاً يوم بدر، وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر -على ما تقدم- وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصاً فما وجدوا له قميصاً عليه إلا قميص عبد الله لتقاربهما في طول القامة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، أي: يرد له هذا الجميل حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافؤه بها. وقيل: إنما أعطاه القميص إكراماً لابنه وإسعافاً له في طلبته وتطييباً لقلبه، والأول أصح؛ لأن البخاري أخرجه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بـ العباس ولم يكن عليه ثوب، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه -يعني على مقاسه- فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً، وإني لأرجو أن يسلم لفعلي هذا ألف رجل من قومي)، كذا في بعض الروايات: من قومي يعني: من منافقي العرب. والصحيح أنه قال: (رجال من قومه). ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفِعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج. وقال الرازي: كان المنافقون لا يفارقون عبد الله بن أبي فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، والله تعالى أعلم. وإنما قلنا: أسلم وتاب لهذه الفِعلة؛ لأن كلمة الفِعلة هي المرة الواحدة من العمل، لكن الفَعلة تطلق على الفَعلة المستنكرة، وشاهدها من القرآن {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19]. وقال الحافظ أبو نعيم: وقع في رواية في قول عمر: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟ ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم، ولفظه: وقد نهاك الله أن تستغفر لهم يعني: في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] وهذه الآية نزلت في مكة عند موت أبي طالب حينما قال له: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، ووفاة عبد الله بن أبي في ذي القعدة سنة تسع بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك. وفي رواية الإمام أحمد فيس مسنده قال عمر: لما توفي عبد الله بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه، يعني: لأنه بنى على الظاهر من تلفظه بالإسلام، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه تحولت حتى قمت في صدره، يعني: أراد عمر أن يحول بينه وبين القبلة، فتحول حتى أتى إلى جهة صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا: كذا وكذا، يعدد أيامه؟! قال: ورسول الله صلى الله وسلم يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: (أخر عني يا عمر! إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت)، قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم! قال: والله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل. ورواه البخاري والترمذي. وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنك إن لم تأته لم نزل نعير به، أي: الناس سوف يعيروننا إلى الأبد بهذا. وفي بعض الروايات: (إن لم تصل عليه يا رسول الله! لن يصلي عليه مسلم)، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال: أفلا قبل أن تدخلوه، فأخرج من حفرته إلى آخره. وهذه الآية الكريمة هي إحدى المواضع التي وافق فيها عمر الوحي الشريف، وهذا من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، أن الوحي نزل موافقاً لقوله في عدة مواضع: منها: أخذ الفداء عن أسارى بدر. ومنها: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]. ومنها: آية أمر النساء بالحجاب. ومنها: آية تحريم الخمر. ومنها: آية تحويل القبلة. ومنها: هذه الآية الكريمة. فهذه من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه. وقوله تبارك وتعالى: (ولا تقم على قبره) ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها: (شأنكم بها، ولم يصل عليها). وقيل أيضاً: إنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إذا مات؛ لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك. وقال السيوطي في قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم): في هذه الآية تحريم الصلاة على الكافر. ويدخل في ذلك أيضاً: أن يذكر الكافر ويترحم عليه، فبعض الجهلة يذكر الكفار ويترحم عليهم، فهذا لا يجوز أبداً. كذلك: لا يجوز الوقوف على قبره، وأما دفنه فجائز، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه، وقد اختلفوا هل وجوب الصلاة على المسلم، ووجوب دفنه يؤخذ من هذه الآية أم لا؟ فالذين قالوا: يؤخذ استدلوا بالمفهوم، قالوا: لأنه سبحانه وتعالى علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم، فقال: ((إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ))، فإذا زال الكفر وجبت الصلاة، ويكون نحو قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] يعني: الكفار، فدل على أن غير الكفار -وهم المؤمنون- يرون الله ع

تفسير قوله تعالى: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم) ثم بين تبارك وتعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إعطاءهم الأموال والأولاد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الدين فقط من يحب، ويعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب؛ لهوانها على الله عز وجل، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85]. (لا تعجبك أموالهم وأولادهم)؛ لأن الله لم يرد الإنعام عليهم بها ليدل على رضاه عنهم، بل يريد الانتقام منهم. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا) بالمشقة في تحصيلها، وبالمشقة في حفظها، وبالمشقة التي تلحقهم في الحزن عليها عند فراقها. (وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) أي: فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب، وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها. قال الزمخشري: أعيد قوله: (ولا تعجبك) بأن تجدد النزول له شأنه في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم، يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة فهم لا يفقهون)

تفسير قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة فهم لا يفقهون) قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86]. (وإذا أنزلت سورة): اختلفوا هل هذا عام في كل سورة أم المقصود به سورة خاصة؟ قال مقاتل: هي سورة براءة بالذات؛ لأنها التي ورد فيها الأمر بالإيمان والجهاد. (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) يفهم من هذا أن المؤمنين أسرعوا إلى الإجابة إلى ذلك، فالمؤمنون يسارعون إلى الإجابة، أما المنافقون فإنهم يتعللون ويفتشون عن المعاذير. (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) هذا الأمر: (آمنوا) يحتمل أن يكون موجهاً للمؤمنين والمنافقين، فهناك احتمالان: الاحتمال الأول: أن يكون هذا الأمر موجهاً للمؤمنين، وليس معنى الأمر بالإيمان مع كونهم مؤمنين أنه تحصيل حاصل، وإنما هو كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136]، فالمقصود استدامة الإيمان والثبات عليه، وكقوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. الاحتمال الثاني: أن يكون هذا الأمر موجهاً للمنافقين، وعليه فإن المقصود ابتداء الإيمان، آمنوا بالله واتركوا النفاق الذي أنتم فيه، فهنا ابتداء، وفي حق المؤمنين استدامة، أو أن الخطاب للمنافقين: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا) أيها المنافقون، وكأنه يقول لهم: افعلوا فعل من آمن، أو آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. وقيل: قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد؛ لأن الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً، فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً. قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك) يعني: في التخلف (أولوا الطول) أولوا الغنى منهم (وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) مع العاجزين عن الخروج.

تفسير قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف)

تفسير قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) قوله: ((رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ)): دلالة على دنائة همتهم وخفتها. {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]، وهذا إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع وجود الطول -الذي هو الفضل والسعة- وإخبار بسوء طمعهم، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف لحفظ البيوت، والخوالف: هن النساء، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله، وأنه بسبب ذلك (طبع على قلوبهم) أي: ختم عليها (فهم لا يفقهون) أي: ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والهلاك. قال الزمخشري: يجوز أن يراد السورة بتمامها (وإذا أنزلت سورة) أو أن يراد بعضها في قوله: (وإذا أنزلت سورة) كما يقع القرآن والكتاب على كله أو بعضه. وقيل: هي براءة؛ لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد. وقيل: المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد، وهذا أولى وأفيد كما قال الشهاب؛ لأن استئذانهم عند نزول آية براءة عُلِمَ مما مر، وخص ذوي الطول بأنهم المذمومون وهم من لهم قدرة مالية ويعلم منهم القدرة البدنية أيضاً بالقياس. (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) جمع خالفة وهي: المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء، كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وقال الآخر: إن لم أقاتل فألبسوني برقعاً وفَتَخاتٍ في اليدين أربعاً والخالفة: تكون بمعنى: من لا خير فيه، والتاء فيه للنقل للاسمية، والمقصود: من لا فائدة فيه للجهاد.

تفسير قوله تعالى: (لكن الرسول والذين آمنوا معه)

تفسير قوله تعالى: (لكن الرسول والذين آمنوا معه) ثم بين تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن والمثوبة الحسنى ضد أولئك، فقال عز وجل: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة:88] يعني: إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد وعن الغزو، فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً، (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم) إلى آخره، وهذا من باب قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، أو من باب قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] إلى آخره. ((لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ)) يعني: في سبيل الله؛ لغلبة حب الله عليهم على حب الأموال والأنفس. ((وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ))، اختلف في قوله تعالى: (وأولئك لهم الخيرات) فمن نظر إلى قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] قال: إن الخيرات هنا جمع خيرة، وهن الحور العين يعني: النساء الحسان، ويقال: هي خَيْرة النساء، أصلها خيَّرة، فخفف مثل: هيِّنة وهَيْنة، أو هن الفاضلات من كل شيء، أو يكون معنى: (لهم الخيرات) هي غنائم الدنيا ومنافع الجهاد، وبعض المفسرين رجحوا أن قوله تعالى: (وأولئك لهم الخيرات) يعني: منافع الدارين جمع خير؛ قالوا: لأن اللفظ مطلق، فلا ينبغي تقييده بشيء واحد فقط، مثل الحور العين أو كذا، بل المقصود: الخيرات سواء في الدنيا أو الآخرة، فلهم جميع منافع الدارين من النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في العقبى. (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي: الفائزون بالمطلوب، وقد حكي عن ابن عباس أنه قال: إن الخير لا يعلم معناه إلا الله، فلا ينبغي تقييد الخير هنا، بل يطلق ولا يعلم معناه في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل قال في حق أهل الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. ثم قال الله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:89] يعني: الذي لا فوز وراءه. ثم بين تعالى أحوال منافقي الأعراب إثر بيان منافقي أهل المدينة، فالآيات الماضية في حق منافقي المدينة، والآن يبدأ الكلام على منافقي الأعراب، فقال عز وجل: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:90].

التوبة [101 - 106]

تفسير سورة التوبة [101 - 106]

تفسير قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق)

تفسير قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101]. قوله تعالى: (وممن حولكم من الأعراب منافقون) يعني: حول المدينة. قال ابن عباس: مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كان فيهم -بعد إسلامهم- منافقون. وقال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة؛ ولذلك قال تعالى: (وممن حولكم) أي: حول بلدتكم وهي المدينة، (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) يعني: ومن أهل المدينة أيضاً يوجد فيها المنافقون، الذين مرنوا على النفاق، ومهروا فيه. وقوله تعالى: (ممن حولكم من الأعراب منافقون) هذه جملة اسمية، والمبتدأ قوله تعالى: (منافقون)، فقوله تعالى: (مردوا على النفاق) أي: مرنوا ومهروا فيه. ويقول القرطبي في معنى (مردوا): أي: أقاموا ولم يتوبوا، بل ثبتوا على النفاق. وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره، والمعنى متقارب، وأصل كلمة (مرد) من اللين والملامسة والتجرد، فكأنهم تجردوا للنفاق، ومنه رملة مرداء يعني: لا نبت فيها، وغصن أمرد يعني: لا ورق عليه، وفرس أمرد أي: لا شعر على ثنته وهي مؤخر الرسغ، وغلام أمرد بين المرد، يعني: لا لحية في وجهه، ولا يقال: جارية مرداء، وتمريد البناء تمليسه كي يكون مجرداً من أي نتوأت بل أملس، ومنه قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44] أي: أملس من قوارير، وتقول: مردت الغصن يعني: جردته من الورق، يقال: مرد يمرد مروداً ومرادة، فهذا أصل كلمة: (مردوا) مأخوذة من اللين والملامسة والتجرد، فكأن هؤلاء المنافقين تجردوا للنفاق. وقوله تعالى: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) يعني: لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم، وفي قوله تعالى: (لا تعلمهم) دليل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه. والمعنى أن هؤلاء المنافقين يخفون عليك، مع علو كعبك في الفطنة وصدق الفراسة؛ لفرض تألقهم وتطلعهم في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم، وكأن قوله تعالى: (مردوا على النفاق) توطئة وتمهيد لقوله تعالى: (لا تعلمهم)؛ لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به، وفي إظهار التقية، حتى إنك مع كياستك وفطنتك وصدق فراستك لا تستطيع أن تعلمهم حتى نوحي إليك بأخبارهم. وقوله: (نحن نعلمهم) تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أي: لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص. وهناك تفسير آخر لقوله: (لا تعلمهم) أي: لا تعلم عواقبهم، والأظهر ما قدمنا ذكره.

عذاب المنافقين مرتين

عذاب المنافقين مرتين قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101]: اختلفت أقوال المفسرين في تفسير هاتين المرتين: القول الأول: عذبهم عز وجل مرتين: مرة بالآيات التي فضحتهم في هذه السورة، وكشفت نفاقهم، وهذا هو العذاب الأول، والمرة الثانية: إحراق مسجد الضرار، وهذا هو العذاب الثاني. القول الثاني: المرة الأولى: فضح نفاقهم في الدنيا، والمرة الثانية: عذاب القبر؛ لقوله تعالى: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) فالعذاب العظيم في الآخرة، فدل على وقوع العذاب مرتين قبل الآخرة. القول الثالث: العذاب الأول: بأخذ الزكاة التي لا ينظرون إليها على أنها تطهرهم وتزكيهم، بل ينظرون إلى الزكاة على أنها مغرم، والعذاب الثاني: تعذيب أبدانهم بالطاعات وبالعبادات الفارغة عن الثواب، فهم يتعبون أجسادهم دون أن يثابوا كما يثاب المؤمنون. وقال محمد بن إسحاق -وهو القول الرابع: هو فيما بلغني عنهم- ما هم فيه من أمر الإسلام، -أي: من عزة الإسلام-، وما يدخل عليهم من غير ذلك على غير حسبة، هذا هو العذاب الأول، والعذاب الثاني: عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة ويخلدون فيه. قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق؛ لأنهم في بواطنهم كفار، وضموا إلى الكفر بالباطن إظهار الإسلام في الظاهر، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه؛ لأنهم المنافقون، ثم إنهم مردوا على النفاق وخبروه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، وليست على الحقيقة، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4]، فليس المقصود بالكرتين هنا العدد، ولكن المقصود تكرار البصر، يعني: كرة بعد أخرى، فكذلك (سنعذبهم مرتين) أي: نعذبهم مرة بعد أخرى، إشارة إلى التكرار، وكما في قوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:126]. ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: لا ينافي قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}، قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]؛ لأن الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بين أنه لو شاء لأرى ولأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء المنافقين، وكيف يعرفهم؟ قال: (فلعرفتهم بسيماهم) أي: تعرفهم بسيما وعلامات وأعراض تظهر عليهم، ومن ذلك أنك تعرفهم في لحن القول، القول الذي فيه لحن، وفيه تعريض، وتطاول على شرع الله سبحانه وتعالى. والمنفي في قوله تعالى: (لا تعلمهم) أي: لا تعلمهم على سبيل التعيين، حتى نعلمك نحن بهم، فأنت لا تعلمهم من تلقاء نفسك؛ لأنهم مرنوا ومردوا على النفاق، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقاً، ويراه صباحاً ومساءً، وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر ببكة، فقال: لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب، وأصغى إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه، فقال: إن في أصحابي منافقين) أي: يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له، وهذا لا ينطبق على أصحاب الرسول عليه السلام، ولكن يقصد به أولئك المندسين في الصحابة الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان. وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه: (أن رجلاً يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه، والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل له لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصير أمره إلى خير، فقال: يا رسول الله! إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأساً فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: من أتانا استغفرنا له، ومن أصر على دينه فالله أولى به، ولا تخرقن على أحد ستراً) ورواه الحاكم أيضاً. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس: فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري، لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبلك! ويقصد رحمه الله: أن على الإنسان ألا يشتغل بمحاكمة الناس بقوله: فلان في الجنة وفلان في النار، وهذا الشخص الذي يحاكم الناس ويحكم لهم بمصائرهم في الآخرة، إذا سألته عن نفسه، قال: لا أدري، مع أنه أعلم بحاله من أحوال الناس، ولقد تكلف هذا الشخص شيئاً ما تكلفه الأنبياء قبله، قال نبي الله نوح عليه السلام: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:112]، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:86]، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)). وقوله تبارك وتعالى: ((وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ)) عطف على قوله تعالى: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ)) فهو عطف مفرد على مفرد.

تفسير قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم)

تفسير قوله تعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ولما بين الله تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الجهاد، رغبة عنه وتكذيباً وشكاً، بين حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلاً وميلاً إلى الراحة، فقال عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102]. قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) أي: أقروا بها وهي تخلفهم عن الغزو، وإيثار الدعة عليه، والرضا بجوار المنافقين، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، فهذه ميزة هذا الفريق، أما المنافقون فقد استجنوا بالأيمان الكاذبة، وأتوا بالأعذار الواهية. ثم قال: ((خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)) خلطوا عملاً صالحاً: كالندم، وقيل: ما سبق قبل معصية التخلف من الأعمال الصالحة التي عملوها، (وآخر سيئاً) وهو التخلف عن الجهاد. ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)) أي: يقبل توبتهم (إن الله غفور رحيم) أي: يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه. وفي قوله تعالى: (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً) قال ابن جرير: وضع الواو مكان الباء، يعني: أصلها (خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً)، كما تقول: خلطت الماء واللبن أي: خلطت الماء باللبن. ففي هذه الآية الكريمة تنبيه على نفي القول بالمحابطة، فتعبير (خلطوا) معناه: أن العمل الصالح باقٍ كما هو، وأنه لم يحبَط بالعمل السيئ، وهذه بشارة للمؤمنين، وهي أن المؤمن إذا ارتكب معصية فإنها لا تحبط العمل الصالح الذي كان قبل، وهناك موضع آخر في القرآن له نفس هذه الدلالة وهو قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، ومعلوم أن مسطح بن أثاثة الذي خاض في حديث الإفك كان من المهاجرين، فدلت الآية على أن ما تلبس به من الإفك -نتيجة خوضه في حادثة الإفك- لم يمح عنه صفة الهجرة، ولم يحبط ثواب هجرته، وهذا يدل على أن الكبائر لا تحبط الأعمال الصالحة المتقدمة. أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا على أنهم تخلفوا وأيقنوا بالهلاك، فقالوا: نحن في الظلال والطمأنينة مع النساء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه في الجهاد، والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، فربطوا أنفسهم في سواري المسجد -وكان هذا منهم تعبيراً عن التوبة والاعتذار- وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فرآهم في المسجد موثقين بالسواري، فقال: (من هؤلاء الموثقون بالسواري؟!) فقال رجل: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم، فقال: (لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم)، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم من بعد: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106]، فجعل أناس يقولون: هلكوا لما نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وفريق آخر كانوا يقولون: عسى الله أن يتوب عليهم، انتظروا وتريثوا عسى الله أن يتوب عليهم، حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] إلى آخره. وأخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه وزاد: فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا، فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً)، فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين، وقد قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه، يعني: أن هذه الآية نزلت في أبي لبابة في موقف آخر، وهو حينما أشار إلى بني قريظة بالذبح لما شاوروه: هل ينزل على حكم سعد؟ فقال لهم: هكذا، وأشار إلى عنقه، يعني: لو نزلتم على حكم سعد فسيكون الذبح، فهذا أيضاً مما قيل في هذه الآية. وروى البخاري في تفسير هذه الآية في كتاب التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: أتاني الليلة آتيان، فابتعثاني، فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فتلقانا رجال، شطر من خلفهم كأحسن ما أن ترى، وشطر كأقبح ما أن ترى، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وذاك منزلك، ثم قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم). وفي هذه الآية الكريمة نوع من البديع يسمى الاحتباك، وهو مشهور؛ لأن المعنى: خلطوا عملاً صالحاً بسيئ، وآخر سيئاً بصالح. قال الرازي: هاهنا Q وهو أن كلمة (عسى) شك، وهو في حق الله تعالى محال، وجوابه من وجوه، قال المفسرون: كلمة (عسى) من الله واجبة؛ لأن (عسى) من أفعال الترجي، فالله سبحانه وتعالى لا يصح هذا المعنى في حقه عز وجل، وهو الذي يحتمل الشك في الوقوع؛ ولذلك (عسى) من الله واجبة، فأي كلمة (عسى) في القرآن الكريم فهي من الله واجبة، والدليل عليه قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة:52]، وقد فعل ذلك، وتحقيق القول فيه: أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام، وصاحب السلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً، فإن صاحب السلطان لا يجيبه إلا على سبيل الترجي، بكلمة (عسى) أو (لعل)، لماذا؟ تنبيهاً لعظمة سلطانه، فليس لأحد من خدمه أو حشمه أن يلزمه شيئاً، فإذا فعل ما طلب منه فإنما يفعله على سبيل التفضل والإحسان، وهذا هو فائدة ذكر (عسى)، وهذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: أن المقصود ما يجب أن يكون المكلف عليه من الطمع والإشفاق؛ بعيداً عن الاتكال والإهمال، وقال القاشاني: الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد، ولين الشكيمة، وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه؛ لأنه ملك الرجوع والتوبة، ودليل رؤية قبح الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة من كلمة: (اعترفوا بذنوبهم)، أي: أن كلمة (اعترفوا) تدل على أن أحدهم نظر إلى ذنبه باعتباره فعلاً قبيحاً، واستقباح ما يفعله الإنسان لا يكون إلا بنور البصيرة، وانفتاح عين القلب، إذ لو ارتكمت الظلمة على قلبه ورسخت الرذيلة ما استقبحه، فكون الإنسان يستقبح المعصية فهذا يدل على بقاء نور البصيرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)، بخلاف من يزين له سوء العمل فيراه حسناً، فهل هذا يتوب؟! وهذا شأن المبتدع، المبتدع يزين له سوء عمله ويرى القبيح حسناً، وفي الحديث: (إن الله احتجز التوبة على كل صاحب بدعة). فمتى ما اعترف الإنسان أن هذا الفعل الذي فعله ذنب، واستقبحه وندم عليه، فهذا يدل على أن في هذا الإنسان خيراً.

تفسير قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم)

تفسير قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) ثم أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أموالهم التي تقدموا بها إليه أن يتصدق بها عنهم؛ كفارة لذنوبهم، أخرج ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: جاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً، فأنزل الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103]. (خذ من أموالهم) من هنا تبعيضية، يعني: خذ بعض أموالهم، وليس كل الأموال، قال المهايمي: لتصدق توبته، أي: هذا دليل على صدق التوبة، حينما تصدقوا بهذا المال، فهذه الصدقة تطهرهم، أي: عما تلطخوا به من أوضار التخلف، ومن أوضار حب المال الذي كان التخلف بسببه، فالذين تخلفوا كان سبب تخلفهم حب الدنيا وحب المال، فيكون التكفير عن هذا الذنب بإخراج شيء من هذا المال كفارة. (وتزكيهم بها) أي: تصلحهم عن سائر الأخلاق الذميمة التي حصلت بسبب المال. قال الزمخشري: التزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه. فإما أن تكون التزكية بمعنى: أنها مبالغة في التطهير، وإما أن تكون بمعنى: أن الله يبارك لهم في أموالهم. (وصل عليهم) أي: اعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم، (إن صلاتك سكن لهم) أي: تسكن نفوسهم إليها، وتطمئن قلوبهم بها، ويثقون بأن الله سبحانه وتعالى قبل توبتهم. وقال قتادة: السكن: هو الوقار، (إن صلاتك سكن لهم) يعني: وقار لهم. القول الثاني: قال ابن عباس: رحمة لهم. القول الثالث: (إن صلاتك سكن لهم) أي: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، فيطمئنون أنك ما صليت عليهم ودعوت لهم الله سبحانه وتعالى إلا وقد قبل منهم توبتهم وما أنفقوه. وقيل: قربة لهم. وقيل: تزكية لهم. وقد روى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا للرجل -أي: دعوة صالحة- أصابته، وأصابت ولده، وولد ولده. وفي رواية: (إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل، وولده، وولد ولده) يعني: تمتد بركتها إلى الأجيال الثلاثة، والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم، يعني جملة: (إن صلاتك سكن لهم) هي علة للأمر بالصلاة، يعني: صل عليهم؛ لأن صلاتك سكن لهم، (والله سميع) أي: يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، (عليم) أي: بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم. وإعراب (تطهرهم) على قراءة الرفع في قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) يمكن أن تكون جملة (تطهرهم) صفة لصدقة، ويمكن أن تكون حالاً من الضمير الموجود في قوله: (خذ). وهناك قراءة أخرى بالجزم (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) على اعتبار أنها واقعة في جواب الأمر، الذي هو (خذ)، والمعنى فيه شرط، أي: إن تأخذْ من أموالهم صدقة تطهرْهم كما في قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل نبك: بدون الياء. وتاء الخطاب في قوله: (تطهرهم) إما أن تعود على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى: أنت تطهرهم، وإما أن تعود على الصدقة، فيكون المعنى: صدقة تطهرهم. قوله: (وتزكيهم بها) لم تقرأ إلا بإثبات الياء، وهي مرفوعة لأنها معطوفة على تطهرهم، أما على القراءة الأخرى (خذ من أموالهم صدقة تطهرْهم) قراءة الجزم، فتكون (وتزكيهم بها) خبر لمحذوف تقديره: وأنت تزكيهم بها، ولا يجوز أن تقرأ إلا بالرفع؛ اتباعاً للمصحف الشريف، وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف على تطهرهم: حالاً أو صفة. (إن صلاتك سكن لهم) قرئ بالتوحيد: صلاتك، وقرئ أيضاً بالجمع: (إن صلواتك سكن لهم) وهي قراءة أخرى، مراعاة لتعدد المدعو لهم؛ لأنه كان يدعو لأناس كثيرين عليه الصلاة والسلام. وقال الشهاب: صلواتك جمع صلاة؛ لأنها اسم جنس، والتوحيد لذلك، يعني: إذا قلناها بالتوحيد: (إن صلاتك) فلأنها اسم جنس، أما إذا قلنا: (إن صلواتك) فجمع صلاة. قيل: المأمور به في آية: (خذ من أموالهم صدقة) الزكاة، و (من) تبعيضية، وكانوا أرادوا التصدق بجميع مالهم، فأمره الله أن يأخذ بعض مالهم لتوبتهم؛ بخلاف المنافقين، فإن زكاتهم وصدقتهم لم تقبل منهم. وقيل: هذه الصدقة المذكورة ليست هي الزكاة المفروضة، بل هم لما تابوا بذلوا جميع مالهم تطوعاً؛ كفارة للذنب الصادر منهم، فأمره الله تعالى بأخذ بعض أموالهم وهو الثلث، ولذلك تمسك الإمام مالك رحمه الله تعالى بحديث أبي لبابة وقال: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث. ونقل الرازي: أن أكثر الفقهاء على أن هذه الآية كلام مبتدأ، قصد به إيجاب أخذ الزكوات من الأغنياء، يعني: هذه الآية لم تنزل -في رأي الرازي نقلاً عن أكثر الفقهاء- في قصة أبي لبابة وصاحبيه، وإنما نزلت لتستأنف الحكم بإيجاب الزكاة على الأغنياء، إذ هي حجة أكثر الفقهاء على فرضية الزكاة. والجواب عن ذلك: أن خصوص سبب الآية لا يمنع عموم لفظها، يعني لو قلنا: إنها نزلت في أبي لبابة وصاحبيه حينما أرادوا التكفير بالتصدق، فهذا لا يمنع عموم الحكم في غيرهم، وتشمل بالعموم إيجاب الزكاة.

الرد على مانعي الزكاة فيما استدلوا به من هذه الآية

الرد على مانعي الزكاة فيما استدلوا به من هذه الآية رد الصديق رضي الله عنه على من تأول من بعض العرب هذه الآية: أن دفع الزكاة لا يكون إلا للرسول صلوات الله عليه وسلامه؛ لأنه المأمور بالأخذ، وبالصلاة على المتصدقين، فغيره لا يقوم مقامه، وأمر بقتالهم، فاهماً من هذه الآية العموم، وهو أن الزكاة ينبغي أن تؤدى لرسول الله أو من يخلفه بعد موته، فوافقه الصحابة وقاتلوهم، حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يُؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء المتأولون المرتدون، غاب عنهم أن الزكاة إنما أوجبها الله تعالى سداً لحاجة المعدم، وتفريجاً لكربة الغارم، وتحريراً لرقاب المستعبدين، وتيسيراً لأبناء السبيل، فاستل بذلك ضغائن أهل الفاقة على من فضلوا عليهم في الرزق، حتى لا يحصل حقد طبقي في المجتمع، ويحتد الفقراء على الأغنياء، فأشعر قلوب أولئك محبة هؤلاء، وأفاض الرحمة في نفوس هؤلاء على أولئك البائسين، فالإمام وولي الأمر لا خصوصية لذاته فيها؛ لأن وظيفته أن يجمع هذا المال من الأغنياء ثم يرده إلى الفقراء، فسواء فعل ذلك الرسول عليه السلام في حياته أو نائبه بعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم، فالمقصود قد حصل. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وعلى القول الأول -يعني: أنها زكاة الفريضة- فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوالها بموته، وبهذا تعلق مانعوا الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقالوا: إنه كان يعطينا عوضاً منها: التطهير، والتزكية، والصلاة علينا، وقد عدمناه من غيره، وهل دعاء غير الرسول عليه السلام يكون كدعائه هو؟! فمن ثم نحن لا نعطي هذه الصدقات، ونظم في ذلك شاعرهم فقال: أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجباً ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم كالتمر أو أحلى لديهم من التمر فنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وقال ابن العربي: أما قولهم: إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن، غافل عن مآخذ الشريعة، متلاعب بالدين، فإن الخطاب في القرآن لم يرد باباً واحداً، ولكن اختلفت موارده على وجوه -يعني: خطاب القرآن على عدة أنواع، وليس على نوع واحد- فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:6]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]. ومنها خطاب خص به، أي: خص به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أبداً أن يباح -في حال- لأي إنسان من المسلمين، كأن تهب امرأة نفسها لرجل فتصير زوجة له، وهذا لا يجوز إلا للنبي عليه السلام بنص القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، يعني: هذا حكم خاص بك، لا يشركك فيه أحد من المؤمنين. ومنها خطاب خص به لفظاً وشركه جميع الأمة معنىً وفعلاً، يعني: إن اللفظ نفسه يخاطب الرسول عليه السلام، لكن من حيث المعنى يشاركه فيه جميع الأمة، كقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، فهنا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنه خطاب له وللأمة معه. كذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98]، هل هذا خاص بالرسول عليه السلام؟ هذا الخطاب من حيث اللفظ هو للرسول، لكن من حيث المعنى تشاركه الأمة في حكمه. ومنها قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء:102] إلى آخره، في صلاة الخوف، خطاب له عليه الصلاة والسلام، ولكنه يعم كل من أراد أن يقيم صلاة الخوف، فيقيمها على تلك الصفة المذكورة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فلفظ الأمر متوجه للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الحكم والمعنى يسري على أمته. وعلى هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]. إذاً: هذا هو الرد على استدلال مانعي الزكاة الذين قالوا: نحن لا نبذل الزكاة لغير رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأخذوا بظاهر هذه الآية الكريمة! قوله تبارك وتعالى: (خذ من أموالهم صدقة): مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا فيه تبيين مقدار المأخوذ منه، وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع، وهذه من مواضع الإجمال في القرآن الكريم، ثم فسرتها السنة، كما هو حال كثير من الأحكام الشرعية: كالطهارة والصلاة والحج وغير ذلك، فهنا أتى الأمر مجملاً ثم فصلته السنة وبينت أنواع الزكاة، ومن الذي تؤخذ منه الزكاة؟ وما مصارف الزكاة؟ وغير ذلك مما هو معلوم.

حكم الصلاة على غير الأنبياء استقلالا

حكم الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً قوله تعالى: ((وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)) استدل بها على ندب الدعاء للمتصدق، وأن الإمام يستحب له أن يدعو للشخص المتصدق، قال الشافعي رحمه الله تعالى: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت، وقال آخرون: يقول: (اللهم صلِّ على فلان)، ويدل عليه ما روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه -وكان من أصحاب الشجرة- أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال: اللهم صلِّ عليهم، فأتاه أبي بصدقته، فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) متفق عليه. قال ابن كثير: وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت: (يا رسول الله! صل علي وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليك وعلى زوجك)، وبهذين الحديثين رد على من زعم أن المراد بصل عليهم: أي: إذا ماتوا، بل هذا الحديث يدل على أن موضع هذه الصلاة عند بذل الصدقات، ولذلك قال الفقهاء: يسن للإمام إذا أُعطي الصدقات أن يدعو لمن بذلها. ودلت الآية -كالحديثين- على جواز الصلاة على غير الأنبياء استقلالاً، وهذه من المسائل المختلف فيها، فهل يجوز أن يقال في حق غير الأنبياء: فلان صلى الله عليه؟ يؤخذ من الآية: أنه يجوز ذلك، أما إذا جاءت على سبيل التبعية، فلا شيء فيها ولا خلاف، كما تقول: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فهنا صليت على الآل وعلى الصحب وعلى التابعين بإحسان، لكن ليس استقلالاً، بل على سبيل التبعية، تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. لكن Q هل يجوز استقلالاً أن تقول: اللهم صلِّ على فلان وهو من غير الأنبياء؟ قال الرازي: روى الكعبي في تفسيره أن علياً رضي الله تعالى عنه قال لـ عمر رضي الله عنه وهو مسجى: عليك الصلاة والسلام، ومن الناس من أنكر ذلك. ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد، إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال الرازي: إن أصحابنا يمنعون من ذكر: صلوات الله عليه، وعليه الصلاة والسلام، إلا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم. والشيعة يذكرونه في علي وأولاده، واحتجوا بأن نص القرآن دل على جوازه فيمن يؤدي الزكاة، فكيف يمنع في حق علي والحسن والحسين عليهم رضوان الله؟! قال: ورأيت بعضهم قال: أليس الرجل إذا قال: سلام عليكم يقال له: وعليكم السلام؟ فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين، فالأولى بذلك آل البيت. انتهى ما نقله الرازي. ثم يعلق القاسمي -رحمه الله تعالى- قائلاً: إن المنع من ذلك -يعني: من الصلاة استقلالاً على غير الأنبياء- أدبي لا شرعي، وباب الآداب أوسع من باب المسائل الشرعية التي تنسب إلى الشرع، فباب الأدب يرجع إلى الكمالات النفسية، وأحياناً يرجع إلى الأعراف، ولا يطالب الإنسان في كل أدب أن يقيم الدليل الشرعي عليه، فباب الآداب يرجع فيه كثيراً إلى الأعراف. ومثاله: إذا أتيت شخصاً وأنكرت عليه مضغ اللبان في الشارع وهو يمشي في الطريق، وكان ذلك مستهجناً في العرف، فلا يصح أن يطالبك بالدليل الشرعي؛ لأن هذه الآداب ترجع إلى أعراف الناس، ونحن ينبغي علينا أن نحترم العرف إلا إذا صادم دليلاً شرعياً. فيقول القاسمي رحمه الله تعالى: إن المنع من ذلك، أدبي لا شرعي؛ لأنه صار في العرف دعاءً خاصاً به صلى الله عليه وسلم، وشعاراً له كالعلم للغلبة، فغيره لا يطلق عليه إلا تبعية له، ويقصد بالعرف هنا عرف العلماء، حيث صار هذا اللفظ لا يطلق إلا على النبي صلى الله عليه وسلم استقلالاً، وعلى غيره بالتبعية، فهذا من الأعراف ومن الآداب اللفظية. قال الرازي في سر كون صلاته صلى الله عليه وسلم سكناً لهم: إن روح محمد عليه الصلاة والسلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم؛ فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم.

تفسير قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده)

تفسير قوله تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده) قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:104] ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة: أي: أن التوبة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، والله وحده هو الذي يقبل التوبة، فلا يصل إلى ذلك ملك ولا نبي. قوله: (عن عباده) يعني: من عبيده، تقول: أخذته منك وأخذته عنك، (ويأخذ الصدقات) يأخذ هنا بمعنى: يقبل، ومثله قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] أي: اقبله. ((وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))، يقول القاسمي: هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها، وإخبار بأن كل من تاب إليه تاب عليه، ومن تصدق تقبل منه. والمقصود من الاستفهام في قوله: (ألم يعلموا): التقرير. نقل ابن كثير عن الحافظ ابن عساكر عن حوشب قال: غزا الناس في زمن معاوية وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد رضي الله عنه، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية، قبل أن تقسم الغنيمة، فلما قفل الجيش -رجع- ندم وأتى الأمير، يريد أن يبرأ ذمته ويتوب ويعيد المائة دينار، فأبى الأمير أن يقبلها منه، وقال: قد تفرق الناس، فلن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة! فجعل الرجل يأتي الصحابة فيقولون له مثل ذلك، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبى، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع، فمر بـ عبد الله بن الشاعر فقال له: ما يبكيك؟ فذكر له أمره، فقال له: أومطيعي أنت؟ قال: نعم، قال: اذهب إلى معاوية فقل له: اقبل مني خمسك، فدفع إليه عشرين ديناراً، وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش، فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم؛ وذلك لأن الخمس للإمام، وأما الباقي فللجيش، إلا أن الجيش قد تفرق، ولذلك قال: وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش؛ ففعل الرجل، فقال معاوية: لئن أكون أفتيت بهذا أحب إلي من كل شيء أملكه، لقد أحسن الرجل.

تفسير قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قال تبارك وتعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105]، قوله: (وقل اعملوا) هذا الخطاب للذين تابوا، أو هو خطاب للجميع، لمن تاب ولمن لم يتب، لأن الجميع مأمور بالعمل. (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) يعني: باطلاعه إياهم على أعمالكم، فقل لأهل التوبة والتزكية والصلاح: لا تكتفوا بتلك التوبة وقبولها، بل اعملوا جميعاً ما تؤمرون به. (فسيرى الله عملكم) يعني: فيزيدكم قرباً على قرب، وقوله: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم) نص بليغ جامع للترغيب والترهيب؛ وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله؛ لأنه لن يجازيه، لعدم علمه بما عمله العبد، ولهذا استعمل إبراهيم هذا الدليل في دحض ما كان عليه أبوه، فقال له: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42] أي: تتقرب للصنم وتعبده وتبذل له القرابين وتدعوه وتسأله وتستغيث به، وهو في غفلة عنك، حجر أصم لا يسمع ولا يعقل، (ولا يغني عنك شيئاً) لا يملك لك ضراً ولا نفعاً! فإذا كان لا يعرف عملك الذي عملته، فكيف يجازيك؟! وكيف يطلب من هذا المعبود الثواب؟! وكيف يرهب منه عقاب؟! فمن ثم نقول: إن هذا الجزء من الآية جامع للترغيب والترهيب، وجاءت صيغ أخرى تدل على استعمال هذه الصيغة للترهيب والتهديد، كقوله تبارك وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]. ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، ومنه: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به). كذلك هنا: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ)) يعني: سيجازيكم الله عليه، وسيزيدكم قرباً على قرب، ويزيدكم رسوله صلوات، والمؤمنون يتبعونكم في الخير الذي فعلتموه، فيحصل لكم أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء. وقال أبو مسلم: إن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، كما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية، فالمؤمنون يشهدون بما رأوا من أعمال لهذا الإنسان أو لذاك. فبما أن المؤمنين شهداء الله سبحانه وتعالى يوم القيامة كما قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية؛ ذكر تعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصود: التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين؛ لأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد. ونقل عن مجاهد أن الآية وعيد للمخالفين أوامره؛ لأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول والمؤمنين، قال ابن كثير: وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]، وقال تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10]، وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا، كما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعاً: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائناً من كان). وروي أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ، كما في مسند أحمد والطيالسي. قوله: ((وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) يعني: بالموت ((فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) يعني: بالمجازاة عليه.

تفسير قوله تعالى: (وآخرون مرجون لأمر الله)

تفسير قوله تعالى: (وآخرون مرجون لأمر الله) قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة:106] الواو عطف على قوله تعالى: ((وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ))، فالمعنى: منهم منافقون ومنهم آخرون مرجون لأمر الله، {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كلمة (إما) تستعمل لوقوع أحد الشيئين، والله تبارك وتعالى عالم بما يصير إليه أمرهم لكنه خاطب العباد بما يعلمون، فالمعنى: ليكن أمرهم، عندكم على الخوف والرجاء. (وآخرون) يعني: من المتخلفين، (مرجون لأمر الله) يعني: أمرهم مؤخر انتظاراً لحكمه تعالى فيهم، لتردد حالهم بين أمرين: إما يعذبهم؛ لتخلفهم عن غزوة تبوك، وإما يتوب عليهم، أي: يتجاوز عنهم. (والله عليم) أي: بأحوالهم، أو عليم بما يئول إليه حالهم. (حكيم) أي: فيما يحكم عليهم. وقرئ في السبع: (وآخرون مرجئون لأمر الله)، وقرئ: (مرجون)، كما قرئ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، أو (ترجئ من تشاء)، يقال: أرجأته وأرجيته كأعطيته. وروي عن الحسن أنه عني بهذه الآية قوم من المنافقين، وكذا قال الأصم: إنهم منافقون أرجأهم الله، فلم يخبر عنهم ما علمه منهم، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا أن ينزل فيهم قرآناً، فقال: (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم). وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد: أنهم الثلاثة الذين خلفوا، يعني: خلفوا عن التوبة، وهم: مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية، قعدوا في غزوة تبوك في جملة من قعد؛ كسلاً وميلاً إلى الدعة وطيب الثمار والظلال، لا شكاً ونفاقاً، وسبق أن طائفة من المتخلفين عن الغزوة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه، وطائفة لم يفعلوا ذلك، وهم هؤلاء الثلاثة، ولم يبالغوا في الاعتذار، ولم يوثقوا أنفسهم، كما فعل أبو لبابة وأصحابه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم، حتى نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]. يقول القاسمي: فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء حتى نزلت الآية الآتية، وهي قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:117]، إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]. قال في العناية: وإنما اشتد الغضب عليهم مع إخلاصهم والجهاد فرض كفاية؛ لما قيل: إنه كان على الأنصار خاصة فرض عين؛ لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ألا ترى قول راجزهم في الخندق: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً فالأنصار كان الجهاد عليهم فرض عين إلى الأبد -على قولٍ-، وهؤلاء الثلاثة منهم، فكان تخلفهم كبيرة.

التوبة [107 - 110]

تفسير سورة التوبة [107 - 110]

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا)

تفسير قوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]. (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً) عطف جملة على جملة، يعني: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، (ضراراً) إعرابها: مفعول لأجله، وتفسير الآية يوضح إعرابها، فهم اتخذوا المسجد من أجل الضرار. وقد ذكر الضرار في قوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار، (من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه). قوله: (وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين) أي: يفرقون به جماعتهم؛ ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب، واجتماع الكلمة على الطاعة، وعقد الزمام، والحرمة بفعل الديانة، حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد. ولذلك يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا في تفسيره: تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. يعني: العلماء الذين ذهبوا إلى منع تعدد الجماعة في المسجد الواحد الذي له إمام راتب فطنوا إلى هذا، وهو أن الجماعة شرعت من أجل ارتباط القلوب، والتحاب، والتعاطف بين المسلمين، وتكرر الجماعة يفتح الذريعة إلى الطعن في الإمام، وإلى تفرق القلوب، كما حصل من أهل البدع كأمثال أهل التكفير حينما كانوا يتعمدون التخلف عن الجماعة الأولى، ويقيمون جماعة ثانية؛ لأنهم يكفرون الإمام أو يفسقونه أو يطعنون فيه، فالعلماء سدوا هذا الباب، ومنعوا إقامة جماعة ثانية في المسجد الواحد، وهذا مذهب كثير من العلماء، وسبق أن تكلمنا بالتفصيل في هذه المسألة. قال: وروي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتاً للكلمة وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر، فيقيم جماعته، ويقدم إمامه، فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك على بعض العلماء، قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدماً منهم في الحكمة، وأعلم بمقاصد الشريعة. ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)) (من قبل) يعني: من قبل بناء مسجد الضرار. ((وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى)) يعني: إلا الفعلة الحسنى، فالحسنى هنا صفة لمحذوف تقديره: إلا الفعلة أو الخصلة الحسنى، وهي الرفق بالمسلمين ذوي العلة والحاجة، هذه هي الحسنى التي زعموها؛ لأن مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام بعيد، وهناك ناس مرضى وذوو حاجة وعندهم علل، وحتى لا يشق عليهم نبني لهم هذا المسجد ليصلوا فيه ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)). قوله تعالى: (والذين) أي: ومن المنافقين الذين (اتخذوا) أي: بنوا مسجداً، (ضراراً) أي: مضارة لأهل مسجد قباء، لأن الضرار ليس بالمسجد: بالحجارة والطوب والأرض، إنما الإضرار بأهل المسجد، (وكفراً) يعني: بالله ورسوله، أو تقوية للكفر الذي يضمرونه. (وتفريقاً بين المؤمنين) أي: الذين كانوا يجتمعون بمسجد قباء اجتماعاً واحداً، يؤدون أجل الأعمال وهي الصلاة التي يقصد بها تقوية الإسلام بجمع قلوب أهله على الخيرات، ورفع الاختلاف من بينهم. (وإرصاداً): إعداداً وترقباً وانتظاراً، (وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي: من كفر بالله ورسوله من قبل، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً، وسمي بـ أبي عامر الراهب؛ لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم، فمات كافراً بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو عامر هذا الكافر خرج من ظهره مؤمن، وهو حنظلة الملقب بغسيل الملائكة، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يونس:31]، وكان حنظلة رضي الله تعالى عنه قد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه الخائن، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، كما فعل عبد الله بن عبد الله بن أبي حينما استأذن النبي أن يقتل أباه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ولكن بر أباك وأحسن صحبته)، وقد قتل عبد الله بن عبد الله بن أبي شهيداً في معركة اليمامة تحت قيادة خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. وحنظلة بنى بزوجته ليلة أحد، فكانت غزوة أحد صبيحة زفافه، ولما سمع داعي الجهاد لحق به على عجل، ولم يغتسل من الجنابة، وقتل في المعركة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة تغسله، فأمرهم أن يسألوا أهله ما شأنه؟ ما الخبر؟ لماذا هو بالذات تغسله الملائكة؟! وما كان أحد يعرف السر في ذلك، فسألوا زوجته وهي جميلة بنت أبي بن سلول وكانت عروساً عليه تلك الليلة، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتف، فقال صلى الله عليه وسلم: (كذلك غسلته الملائكة) رضي الله عنه. وقد مر أبو عامر الخائن على ابنه حنظلة، وهو مضرج بدمائه بين الشهداء قتيلاً، فضربه برجله في صدره، وقال له: ذنبان أصبتهما، ولقد نهيتك عن مصرعك هذا، ولقد والله كنت وصولاً للرحم. وأبو عامر هو الذي حلف ألا تقع معركة مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا وشارك فيها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: فاسقاً. قوله: (وليحلفن) يعني: بعد ظهور نواياهم ومقاصدهم السيئة، وقلنا من قبل: إن من خصائص المنافقين: الاستجنان بالأيمان الكاذبة؛ ليصدوا عن سبيل الله، ويستروا عداءهم للدين، وقد جاء ذكر حلفهم في عدة مواضع، منها: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62]. فهم بعدما تفتضح نواياهم وتظهر مقاصدهم السيئة يلوذون بالحلف. قولهم: (إن أردنا إلا الحسنى) أي: ما أردنا ببناء المسجد إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإرادة الحسنى، وهي: الصلاة وذكر الله، والتوسعة على المصلين، وقال بعضهم: (الحسنى) طاعة الله، وقيل: (الحسنى) الجنة، وقيل: (الحسنى) فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة. (والله يشهد إنهم لكاذبون) يعني: في حلفهم.

تفسير قوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى)

تفسير قوله تعالى: (لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى) قال الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] أي: لا تصل في مسجد الشقاق أبداً، في أي وقت من الأوقات، لكونه موضع غضب الله، ولذلك أمر بهدمه وإحراقه. وأطلق هنا القائم على المصلي؛ لأن الصلاة أحياناً يعبر عنها ببعض أجزائها، كما تقول: صليت ركعة، وهل تقصد ركعة فقط، أم تقصد القيام والركوع والسجود والتشهد وغيره؟! (لا تقم فيه أبداً) يعني: لا تصل فيه أبداً، وفي الحديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) يعني: من صلى. قوله تعالى: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) [التوبة:108] (لمسجد) اللام لام القسم، يعني: والله لمسجد، وقيل: هي لام الابتداء وهي تقتضي التأكيد، (لمسجد أسس على التقوى) أي: بنيت قواعده على طاعة الله وذكره، وقصد التحفظ من معاصي الله، بفعل الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والمسجد الذي بناه المتقون على هذا الأساس هو مسجد قباء. (من أول يوم) يعني: من أول يوم من أيام وجوده، (أحق أن تقوم فيه) يعني: أن تصلي فيه، (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) المقصود بالمطهرين: المبالغين في الطهارة الظاهرة والباطنة، الطهارة الظاهرة: بالماء، والباطنة: بالتوبة من الذنوب، والله يحب المطهرين المتصفين بالطهارتين. قوله تعالى: (من أول يوم) معناها: منذ أول يوم، قال الزجاج: (من) في الزمان والأصل منذ ومذ، يعني: أن (من) إذا استعملت في الزمان يكون أصلها منذ، (من أول يوم) أي: منذ أو مذ أول يوم، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول (من) لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير: لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن شهر الحجر: منازل ثمود، ناحية الشام، في وادي القرى. والقنة: أعلى الجبل، أو هي الجبل الذي ليس بمنتشر، أقوين يعني: خلون وأقفرن، من حجج، أي: من سنوات، وفي القرآن: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] يعني: ثمان سنوات، من شهر: أي: من شهور. يقول القرطبي: أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية، ووظيفة شرعية. وفي الترمذي عن عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم، وقال: حديث صحيح. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الماء معه في الاستنجاء، فكان يستعمل الحجارة تخفيفاً، والماء تطهيراً.

تفسير قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله)

تفسير قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله) ثم قال تبارك وتعالى إشارة إلى فضل مسجد التقوى -مسجد قباء- على مسجد الضرار: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109]. قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: بفتح الألف في الحرفين جميعاً ((أَفَمَنْ أَسَّسَ)) إلى قوله: ((خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ))، وبالتالي يفتح النون في: (أفمن أسس بنيانَه)، وفي الثانية: (أمن أسس بنيانَه) على أنهما في الحالتين مفعول به. وقرأ نافع وابن عامر: (أفمن أُسس بنيانُه على تقوى من الله ورضوان خير أممن أُسس بنيانُه) بضم الألف في أسس، ورفع النون في بنيانه على أنها نائب فاعل. قوله: (على شفا جرف هار فانهار به) أي: انهار به الجرف، أو أن الضمير في (به) يعود على من. قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه)، يعني: المبني، والتأسيس: إحكام أسس البناء وهو أصله، فأسس البناء يعني: أصله. (على تقوى من الله) أي: على مخافة من الله. (ورضوان) أي: طلب رضوان منه. (خير أمن أسس بنيانه على شفا): شفا الشيء يعني: حرفه وطرفه. (جرف هار) جرف: بضم الراء وسكونها، والضم هو الأصل والإسكان تخفيف، كما في قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:55]، فـ (شغل) بالضم وهو الأصل وبالسكون تخفيفاً، كذلك الرسّل والرسْل. (جرف) يعني: مهواة وهو ما يتجرف بالسيول من الأودية، (على شفا جرف هار) يعني: مشرف على السقوط، وقرأ ابن كثير وحمزة (هار) بالإمالة. (فانهار به) أي: بالباني فسقط معه في نار جهنم، كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9]، ((وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)

تفسير قوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) قال الله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:110] (لا يزال بنيانهم) يعني: مسجد الضرار، (الذي بنوا ريبة في قلوبهم) يعني: لا يزول وشمه عن قلوبهم ولا يضمحل أثره، هذا قول. وهناك قول آخر في معنى: (ريبة في قلوبهم) أي: حسرة وندامة، فهم نادمون على بنائه؛ لأنه تهدم وفضحوا. وقول ثالث: (ريبة في قلوبهم) يعني: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظاً في قلوبهم، فما يزال يشعل الغيظ والحقد والحزازة في قلوبهم. (إلا أن تقطع قلوبهم) يعني: تقطع قلوبهم قطعاً وتتفرق أجزاءً حتى يموتوا، كما في قوله: {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:46]، والقصد: أنه ستبقى فيهم الحزازة والندم والحسرة والريبة والشك إلى أن تقطع قلوبهم قطعاً، وأما ما دامت قلوبهم سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيهم متمكنة أو تقطع قلوبهم بعذاب النار، وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. قوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ) أي: بنياتهم. قوله: (حَكِيمٌ) أي: عندما أمر بهدم بنيانهم؛ حفظاً للمسلمين عن مقاصدهم الرديئة. وفي قراءة يعقوب: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلى أن تقطع قلوبهم) فجعله حرف جر على الغاية، والمعنى: لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا.

سبب نزول الآيات المتعلقة بمسجد الضرار

سبب نزول الآيات المتعلقة بمسجد الضرار كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له: أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب، وكان فيه عبادة في الجاهلية، وله شرف كبير في الخزرج، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصار للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر؛ شرق اللعين أبو عامر بريقه، وبرز بالعداوة، وخرج فاراً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد، فكان من أمر المسلمين ما كان مما امتحنهم الله عز وجل به، وكانت العاقبة للمتقين، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله، ونالوا منه وسبوه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره، وقرأ عليه من القرآن، فأبى أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعده ومناه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وكان أبو عامر أرسل لهم: أعدوا لي مكاناً إذا أتيتكم؛ لنجتمع فيه، ويكون مأوىً وملجأً لنا، بحيث منه تنطلق المحاربة للرسول عليه الصلاة والسلام، وليكون هذا المكان معقلاً ومرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك، فأتوه فقالوا: (يا رسول الله! إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني على جناح سفر وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه) فلما نزل بذي أوان، موضع على ساعة من المدينة، أتاه خبر المسجد عن طريق الوحي، وأنه إنما بني للأغراض التي ذكرها الله في قوله عز وجل: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)) فدعا صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، ومعن بن عدي، أو أخاه عاصماً، فقال: (انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لـ معن: أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفاً من النخل فأشعل فيه ناراً ثم خرجا يشتدان، حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه) ونزل فيهم ما نزل. وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فسألوه أن يأذن لـ مجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم، فقال: لا ونعمة عين، أليس هو إمام مسجد الضرار؟ فقال مجمع: يا أمير المؤمنين! لا تعجل عليّ، فوالله! لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، وكنت غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخاً لا يقرءون، فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله، ولم أعلم ما في نفوسهم، فعذره عمر، فأجازه بالصلاة في مسجد قباء.

حكم المساجد المبنية لغرض الضرار والصلاة فيها

حكم المساجد المبنية لغرض الضرار والصلاة فيها دلت الآية على أن كل مسجد بني على ما بني عليه مسجد الضرار أنه لا حكم له ولا حرمة، ولا يصح الوقف عليه، وقد حرق الراضي بالله كثيراً من مساجد الباطنية والمشبهة والمجبرة. وقال الزمخشري: قيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب؛ فهو لاحق بمسجد الضرار. وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة، فقيل له: مسجد بني عامر لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً. وعن عطاء قال: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وألا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه. فبناء المسجد للإضرار بالمسجد الآخر من الضرار؛ لأن الأمر يصير فوضى، والآن الفوضى ليس فقط في المساجد، بل فوضى في كل شيء، فوضى في طباعة المصاحف، فكثرة نزول المصاحف بهذه الطريقة غير صحيح، لابد أن تكون هناك ضوابط لتوزيع المصاحف، حتى إن بعض محلات النصارى يبيعون فيها المصاحف، فيمكّن النصراني من مس المصحف وبيعه والاتجار به، فوضى عارمة، فموضوع المساجد فيها فوضى، تجد الآن في الشارع الواحد مسجداً وأمامه مسجد، وبين كل مسجد ومسجد مسجد! فوضى تكاد تقضي تماماً على حكمة تشريع صلاة الجماعة، حيث يتناحر الناس وتحصل بينهم الفتن، فمنذ أسابيع قليلة قام الخطيب على المنبر ليخطب الجمعة، وهناك مسجد آخر على بعد خطوات قليلة، وأهل المسجد سلطوا الميكروفون على هذا المسجد، فالإمام على المنبر لا يستطيع أن ينطق بكلمة واحدة، فاختصر الخطبة في أقل من ثلاث دقائق؛ لأنه ما استطاع أن يخطب من شدة الأذية والإضرار الذي حصل من تسليط مكبر الصوت بطريقة سيئة جداً، حتى أن الخطيب اضطر إلى اختصار الخطبة إلى أقصى ما تتخيلوا، ونزل صلى وما عرف حتى يصلي، فهذا من أقبح صور الضرار! نقول: ما دام المنطقة الواحدة فيها مسجد جامع فالناس يجتمعون فيه، أما أن يكون بهذه الفوضى التي تحصل الآن، فهذا قضاء على الحكمة من تشريع الجماعة، وفيه معنى من معاني الضرار كما ذكرنا. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قال علماؤنا: لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه؛ لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد، فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان أو ثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه، فقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر. قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً يتعبدون فيه بزعمهم، كالمسجد لنا فافترقا. وقال علماؤنا رحمهم الله تعالى: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه بقوله: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) يهدم ويُزال إذا كان فيه ضرر لغيره، فما ظنك بسواه، بل هو أحرى أن يزال ويهدم حتى لا يدخل ضرر على الأقدم، وذلك كمن بنى فرناً أو رحىً أو حفر بئراً أو غير ذلك مما يدخل به الضرر على غيره. وضابط هذا الباب: أن من أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضر ذلك بجاره أو غير جاره نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضرر الداخل من الفعل قطع أكبر الضررين وأعظمهما حرمة في الأصول، مثال ذلك: رجل فتح كوة في منزله يطلع منها على دار أخيه، وفيها العيال والأهل، ومن شأن النساء في بيوتهن إلقاء بعض ثيابهن والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أن الاطلاع على العورات محرم، وقد ورد النهي عنه، فلحرمة الاطلاع على العورات رأى العلماء أن يغلقوا على فاتح الباب والكوة ما فتح، مما له فيه منفعة وراحة وفي غلقه عليه ضرر؛ لكنهم قصدوا إلى قطع أعظم الضررين، إذ لم يكن بد من قطع أحدهما، وهذا الحكم في هذا الباب خلافاً للشافعي ومن قال بقوله، قال أصحاب الشافعي: لو حفر رجل في ملكه بئراً وحفر آخر في ملكه بئراً يسرق منها ماء البئر الأول جاز؛ لأن كل واحد منهما حفر في ملكه فلا يمنع من ذلك. أورد القرطبي هذا الكلام منتقداً للشافعية. ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسده عليه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآن والسنة يردان هذا القول وبالله التوفيق. والقاعدة تقول: لا ضرر ولا ضرار، فلا يحفر الشخص بئراً في أرضه بحيث يغور بئر جاره فيضر به، أو يجعل في أرضه مكاناً لقضاء الحاجة فتتسرب النجاسة إلى بئر جاره وتفسد عليه ماء بئره، هذا كله مما يرده القرآن والسنة. ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه مثل: دخان الفرن، كأن يقوم شخص ببناء فرن تحت عمارة يخرج منه دخان يؤذي الساكنين، فهذا من الأذية، وكذلك غبار الأندر، وهو المكان الذي يداس فيه الحبوب. ثم يقول: والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه، وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنى للناس عنه، وليس مما يستحق به شيء، فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم، فأكبر الصبر على ذلك مقدار ساعة شيء يسير، وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر، كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه. على أي الأحوال مراعاة الجار بالذات في موضوع الإضرار أمر مهم جداً يجب مراعاته، حتى القوانين الوضعية تحاول أن تحميه، لكن يبلغ الناس أحياناً في العناد مبلغاً عجيباً جداً، لقد سمعت عن حادثة وهي أن رجلاً بنى بيتاً عالياً بجوار فلة منخفضة، والسور مشترك بين الفلة وبين هذه العمارة، فصاحب العمارة قام وفتح نافذة تطل على هذه الفلة، فحصلت قضايا ومشاكل انتهت بأن قام صاحب الفلة بعمارة الدور الأخير ورد الجدار للخلف قليلاً، بحيث يعمل فيه (بلكونة) في هذا الجدار، وفتح فيها نافذة باتجاه صاحب العمارة، فصاحب العمارة عاند وقام ببناء سور للعمارة عالياً من الأرض إلى آخر دور؛ ليسد على جاره (البلكونة) الجديدة التي بناها، حتى يمنعه من أن ينتفع بهذه الفتحة!

الفوائد المستخلصة من هدم مسجد الضرار

الفوائد المستخلصة من هدم مسجد الضرار يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائد غزوة تبوك: ومنها: تحريق أمكنة المعصية التي يعصى الله ورسوله فيها وهدمها، كما حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وأمر بهدمه، وهو مسجد يصلى فيه ويذكر اسم الله فيه؛ لكن لما كان بناؤه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين ومأوىً للمنافقين أمر بهدمه وتحريقه، وكل مكان هذا شأنه فواجب على الإمام تعطيله. معنى ذلك: أن الهدم والحرق والقتل وغيرها كل هذه من اختصاص الإمام وليست إلى آحاد الرعية. ثم يقول: فواجب على الإمام تعطيله إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عما وضع له، وإذا كان شأن مسجد الضرار فمشاهد الشرك التي تدعو سدنتها إلى اتخاذ من فيها أنداداً من دون الله أحق بذلك وأوجب، وكذلك محال المعاصي والفسوق كالحانات وبيوت الخمارين وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيها الخمر، وحرق حانوت رويشد الثقفي وسماه فويسقاً، وأحرق قصر سعد عليه لما احتجب عن الرعية. كذلك من قبل عمر همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي حضور الجمعة والجماعة، وإنما منعه من فيها من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم كما أخبر هو عن ذلك. ثم قال: ومنها أن الوقف لا يصح على غير بر ولا قربة، كما لم يصح وقف هذا المسجد، وعلى هذا فيهدم المسجد إذا بني على قبر، كما ينبش الميت إذا دفن في المسجد، نص على ذلك الإمام أحمد وغيره، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيهما طرأ على الآخر منع منه وكان الحكم للسابق، فلو وضعا معاً لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تصح الصلاة في هذا المسجد؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجداً أو أوقد عليه سراجاً. ثم قال ابن القيم: فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم وغربته بين الناس كما ترى.

فوائد مستنبطة من آيات مسجد الضرار

فوائد مستنبطة من آيات مسجد الضرار يقول القاسمي: قال بعض المفسرين اليمانيين: في الآيات دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة يعني: المؤسس على التقوى. وفيها: أن نية القربة في عمارة المسجد شرط؛ لأن النية هي التي تميز الأفعال. وفيها: أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار؛ لأنه قال تعالى: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)) وأراد بالقيام الصلاة. وقال ابن كثير: في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات. وقد روى الإمام أحمد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فأوهم -يعني: اختلطت عليه القراءة-، فلما انصرف قال: إنه يلبس علينا القرآن، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء) فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها. وذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية: الطهارة من الذنوب والتوبة منها والتطهر من الشرك. قال الرازي: وهذا القول متعين؛ لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى، واستحقاق ثوابه ومدحه؛ ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين، فوجب أن يكون هؤلاء بالضد من صفاتهم، وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي. يقول القاسمي: لا تسلم دعوى التعين، فإن اللفظ يتناول الطهارتين: الباطنة والظاهرة، بل الأقرب هنا هي الثانية؛ وذلك لما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون؟ قالوا: نستنجي بالماء) وهذا يدل على أن الآية تشمل الطهارتين معاً. ويقول القاسمي أيضاً: قال القاشاني: لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت مباركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله، بنيةٍ صادقة ونفس شريفة صافية عن كمال إخلاص لله تعالى، ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع والكدورة والتفرقة في بعضها، فما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)). والعوام يعبرون عن هذا مثل هذه العبارات التي ذكرها القاشاني، يقول لك: المكان هذا ريحه طيب، أو له نفسٌ طيب. وهذه تتفاوت من مكان إلى آخر، فإنك إذا دخلت مكاناً معيناً أو مسجداً معيناً تشعر فيه براحة وبخشوع وببركة، وقد تدخل مسجداً آخر قد لا تجد فيه نفس هذه الراحة، فما مرجع ذلك؟ مرجع ذلك إلى صفاء نية من أسس هذا المسجد، والقبول الذي يوضع لبعض هذه الأماكن هو ثمرة صفاء نيته، وأنه أراد به وجه الله سبحانه وتعالى، لذلك تجد هذه الراحة النفسية في المساجد التي أسست على السنة وعلى التوحيد، فتجد فيها من الخشوع ومن البركة ما لا تحس أبداً فيما عداها من مساجد أهل البدع. ثم يقول: ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة والتفرقة في بعضها، وما هو إلا لذلك، فلهذا قال تعالى: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)) لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنياً على التقوى وصفاء النفس، تأثرت النفس باجتماع الهمة وصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان، وإذا كان مبنياً على الرياء والضرار تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض، وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني وصدق نيته مؤثر في البناء، وأن تبرك المكان وكونه مبنياً على الخير يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح ممن يناسب حاله حال بانيه، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة؛ وذلك لقوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)).

التوبة [111 - 120]

تفسير سورة التوبة [111 - 120]

تفسير قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] لما هدى الله تعالى المؤمنين إلى الإيمان، والأنفس مفتونة بمحبة الأموال والأنفس، استنزلهم لفرط عنايته بهم عن مقام محبة الأموال والأنفس بالتجارة الرابحة المربحة والمعاملة المرغوبة، بأن جعل الجنة ثمن أموالهم وأنفسهم، فعوض لهم خيراً مما أخذ منهم، فالآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، وهذا التعبير دقيق من القاسمي رحمه الله تعالى، فقوله: إن الآية ترغيب في الجهاد لبيان فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه، ولم يقل: إن الآية ترغيب في الاستشهاد؛ لأن الآية تضمن هذا الوعد العظيم من التضحية في سبيل الله بالروح وبالمال وكذلك بالمشاركة في الجهاد حتى ولو سلم المجاهد؛ لأنه قال: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) ولم يقل: فيقتلون فحسب، فدل على الترغيب في الجهاد بصفة عامة. قال أبو السعود: ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه، حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تبارك وتعالى، وإثابته إياهم لمقابلتها بالجنة، عبر عن هذه المعاملة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية، ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يجعل الأمر على العكس. يعني: لم يقل: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم؛ ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة، وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها، إيذاناً بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم، ثم إنه لم يقل تبارك وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة، وإنما قال: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)؛ مبالغة في تقرر وصول الثمن إليهم؛ لأنه لو قال: بالجنة وحسب يكون أضعف، لكن البلاغة كلها في قوله: (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بأن -توكيد- لهم الجنة، يعني الجنة لهم، ففيها تقرير أو مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم، واختصاصه بهم أيضاً، كأنه قيل: الجنة الثابتة لهم المختصة بهم؛ وذلك لأن الإنسان مهما ضحى فكل تضحية سيوجد ما هو أعلى منها، فإذا ضحى الإنسان بمال وبأعراض الدنيا فإنه سيضحي في سبيل الله بما هو أعلى ألا وهي نفسه التي بين جنبيه، فليس هناك ما هو أعلى من التضحية بالنفس، ولذلك قال الشاعر: الجود بالمال جود فيه مكرمة والجود بالنفس أقصى غاية الجود يعني: ليس بعد الجود بالنفس مرتبة، ولذلك كافأهم الله سبحانه وتعالى عليها بهذه الصفقة. ويقول جعفر الصادق رحمه الله تعالى: أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تشترى الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن أي: إذا أنفق الإنسان نفسه وروحه في سبيل الدنيا ستضيع الدنيا ويضيع الثمن عليه، لكن إذا خرج في سبيل الله وأذهب روحه في سبيل الله؛ سيبقى له هذا الثواب الجزيل العظيم. ولا ترى ترغيباً في الجهاد بأحسن ولا أبلغ من هذه الآية؛ لأنه أبرزه في صورة عقد عقده وباشر العقد رب العزة سبحانه وتعالى، أما ثمنه فهو ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم فقط شهداء، وإنما إذا كانوا قاتلين لإعلاء كلمته ونصر دينه، وجعل هذا العقد مسجلاً في الكتب السماوية، كما قال عز وجل: ((وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ)) وناهيك به من صك. ووعد الله حق، ولا أحد أوفى من وعده، فنسيئته أقوى من نقد غيره في الحال؛ لأنه وعد الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلف الميعاد. وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية، صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء بقوله تبارك وتعالى: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هذه إشارة إلى مكان التسليم، كل عقد له أركان: البائع، والمشتري، والمبيع (الصفقة)، وأيضاً المكان، فبعض العقود يشترط فيها تحديد المكان، مثل عقد السلم، فهو من العقود التي لا بد فيها من تحديد مكان التسليم، فالله سبحانه وتعالى في هذا العقد أشار إلى مكان التسليم وهو ساحة الجهاد في سبيل الله حينما قال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وإنفاذ هذه الصفقة في المعركة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: (الجنة تحت ظلال السيوف). ثم أمضاه عز وجل بقوله: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفي هذا من البلاغة والنصائح المناسبة للمقام، فهم لم يلتفتوا إلى جعل اشترى وحده استعارة أو مجازاً عن الاستبدال، وإن ذكروه في غير هذا الموضع؛ لأن قوله تعالى: (إن الله اشترى) يقتضي أنه شراء وبيع، وقوله هنا: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ) فهذا أيضاً يقتضي أنه شراء وبيع، وهذا لا يكون إلا بالتمثيل. قوله: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلاً، لكن هو لا بد من حصوله؛ لأنه وعد من الله سبحانه وتعالى، وذكر كونه في التوراة وما عطف عليها بقوله: (فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) أيضاً تأكيد له، وإخبار بأنه منزل على الرسل في الكتب الكبار. وفيها: أن مشروعية الجهاد ومثوبته ثابتة في شرع من قبلنا، وقد بقي في التوراة والإنجيل الموجودين على تحريفهما ما يشير إلى الجهاد والحث عليه، نقله عنهما من رد على الكتابيين الزاعمين أن الجهاد من خصائص الإسلام، فانظره في الكتب المتداولة في ذلك، ففي بعض نصوص التوراة وبعض نصوص الإنجيل -رغم التحريف الذي طرأ عليهما- إثبات شريعة الجهاد في رسالة موسى وعيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويمكن أن يرجع إلى ذلك إلى الكتب المتداولة في دحض عقائد النصارى مثل كتاب (إظهار الحق) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، ففي هذا الكتاب فصل مستقل في أن الجهاد ليس من خصائص الإسلام.

تفسير قوله تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون)

تفسير قوله تعالى: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون) لقد وصف الله تعالى المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم فقال سبحانه وتعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112] قوله: (التائبون) يعني: عن المعاصي، ورفعه على المدح، يعني: هم التائبون، كما دل عليه قراءة التائبين بالياء إلى قوله: (والحافظين) نصباً على المدح، أو جراً صفة للمؤمنين المذكورين في قوله: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) فإذا جرت تكون صفة للمؤمنين، أو نصباً على المدح، لكن هنا مرفوعة، فيجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده (التائبون العابدون) إلى آخره. قوله: (التائبون) أي: من المعاصي حقيقة، الجامعون لهذه الصفات. قوله: (العابدون) أي: الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها. قوله: (الحامدون) أي: الحامدون لله على نعمائه أو على ما نابهم من السراء والضراء. قوله: (السائحون) يعني: الصائمون، أو الضاربون في الأرض تدبراً واعتباراً، وإن شاء الله سنذكر تفاصيل معنى كلمة السائحين. قوله: (الراكعون الساجدون) يعني: المصلون؛ لأن الركوع والسجود من حالات الصلاة، أما ما عدا الركوع والسجود فقد تشتبه بأحوال غير الصلاة، فقد نرى إنساناً قائماً ولا نميز هل هو قائم يصلي أم قائم في غير صلاة، وكذلك القاعد، بخلاف الراكع والساجد فإنه لا يشتبه على من رآه أنه يصلي؛ لأن الركوع والسجود فيها أعلى درجات الخضوع والخشوع لله سبحانه وتعالى. قوله: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) يعني: في تحليله وتحريمه. قوله: (وبشر المؤمنين) الموصوفين بالنعوت المذكورة، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم، يعني: لم يقل: وبشرهم، وإنما قال: (وبشر المؤمنين) للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، ثم حذف المبشر به، فلم يقل: بشر المؤمنين بأن لهم كذا، وإنما قال: (وبشر المؤمنين)؛ لتعظيم المبشر به، أو لكونه معلوماً كما سيأتي في قوله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب:47].

الأقوال في معنى قوله تعالى: (السائحون)

الأقوال في معنى قوله تعالى: (السائحون) قوله تبارك وتعالى: (السائحون) فيها أقوال كثيرة، منها ما يلي: (السائحون) يعني: الصائمون، وقد سمي الصائم سائحاً تشبيهاً بالسائح؛ لأن السائح لا زاد معه، والعرب تقول للفرس إذا كان قائماً لا علف بين يديه: صائم، ويقولون: خيل صائمة وخيل غير صائمة. فالفرس الصائم هو الواقف القائم الذي ليس أمامه علف؛ وذلك لأن الفرس يأكل مرتين: مرة في الغدو، ومرة في العشي، فشبه به الآدمي لتسحره وصيامه، فقيل في الآدمي: صائم أو سائح؛ لأنه يأكل مرتين في حالة الصيام: مرة في الفطور ومرة في السحور، ومنه قوله تبارك وتعالى: {عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:5] يعني: صائمات. وقال ابن عيينة: إنما قيل للصائم: سائح؛ لأنه يترك اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح. قال أبو طالب: وبالسائحين لا يذوقون قطرة لربهم والذاكرات العوامل وقال الشاعر أيضاً: براً يصلي ليله ونهاره يظل كثير الذكر لله سائحاً يعني: صائماً، وأصل السياحة: الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة فيما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح. فهذا هو القول الأول في تفسير قوله تعالى: (السائحون) أي: بمعنى الصائمون. وقيل: (السائحون) هم الغزاة والمجاهدون في سبيل الله، ويستدل له بالحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله). القول الثالث: هم: طلاب العلم الذين يسافرون ويسيحون لطلب الحديث والعلم. قول رابع: هم المهاجرون في سبيل الله. القول الخامس: هم الجائلون بأفكارهم في ملكوته سبحانه وتعالى، ويجولون بعقولهم وقلوبهم فيما خلق الله من العبر والعلامات الدالة على توحيده وتعظيمه، وفي الحديث: (إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغونني صلاة أمتي) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالشاهد هنا قوله: (إن لله ملائكة سياحين) يعني: يتحركون وينتشرون في الطرقات. يقول القاسمي: ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين، قال الزجاج: هو قول أهل التفسير واللغة جميعاً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة فهو الصيام. وعن الحسن: (السائحون) الصائمون شهر رمضان. وقال الشهاب: استعيرت السياحة للصوم؛ لأنه يعوق عن الشهوات، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر. ونقل الرازي عن أبي مسلم: أن السائحين هم السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح -أي: سيح الماء الجاري-، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً. إذاً: المعنى اللغوي للسياحة: هو السير في الأرض، مأخوذ من قوله تعالى في أول هذه السورة: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أربعة أشهر، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآيات الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات. وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال: هم المهاجرون. وعن عكرمة: أنهم المنتقلون لطلب العلم. قال ابن كثير: جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهذا حديث حسن. يقول القاسمي: لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية، لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها؛ لأن الجهاد في سبيل الله كما يطلق على قتال المشركين يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى، فمجاهدة النفس تتم أساساً في الجهاد، لكن يطلق أيضاً بصفة أعم على الصوم والهجرة والجهاد. جهاد للنفس في مفارقة الأوطان والأموال والأهلين، وكذلك الصيام فيه مجاهدة للنفس في ترك شهواتها، وكذلك السفر للتفقه في الدين فيه مجاهدة للنفس، وكذلك السفر للاعتبار والنظر في آثار الأمم المهلكة. فهذا كله يتطلب مجاهدة للنفس، هذا إذا أردنا أن نوفق بين هذه الأقوال كلها، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، فإن أصل الحقيقة اللغوية للسياحة هي: الضرب في الأرض خاصة، وهذا الذي عبر عنه عكرمة بقوله: المنتقلون لطلب العلم. وفي هذه الحالة يكون كافياً لو أخذنا بالأصل اللغوي. إذاً: هناك مسلكان في تفسير (السائحون): الأول: تفسيرها في ضوء قوله: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) بحيث يشمل الجهاد في سبيل الله (القتال) ويشمل كل ما فيه جهاد للنفس، سواء في الصيام أو في طلب العلم، أو في الانتقال لطلب العلم أو في الهجرة، أو بالسير في الأرض للتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، هذا إذا أردنا التوفيق بين ما أثر عن السلف في تفسير (السائحون). الثاني: تفسير كلمة السائحين بالأصل اللغوي لهذه الكلمة، كما تقول: ساح الماء أو السيل، يعني: انتشر ومشى على وجه الأرض، فيراد بها معنى خاصاً وهو السياحة، التي هي الضرب في الأرض، وهذا يشير إلى وصف عظيم وهو الحق في تأويل الآية الكريمة. والقاسمي أورد هنا بحثاً لبعض المحققين كما وصفهم في تأييد هذا القول يقول: الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيراً بأن يضحي بقسم وجزءٍ من حياته في السياحة والتسيار؛ لأجل اكتشاف الآثار؛ والوقوف على أخبار الأمم البائدة؛ ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد. وذلك في قوله تعالى: (السائحون) في هذه الآية، ولم يقع لفظ (السائحون) في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع الفذ، فمع ذلك فقد اختلف في معناه أهل التفسير، فمنهم من قال: هم الصائمون، ومنهم من قال: هم السائرون، مأخوذ من السيح والانتشار وهو الجري على وجه الأرض والذهاب فيها، ويطلق السائح على معنىً يضاد الجامد، فالشيء السائح هو سائل مائع منتشر، بخلاف الجامد الذي لا يتحرك. وألفاظ القرآن يجب حملها على ظواهرها وعلى معانيها الحقيقية ما لم يمنع مانع عقلي، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة، وعليه فيجب حمل لفظ (السائحون) على معناه الظاهر الحقيقي، وهو: السائرون الذاهبون في الديار؛ لأجل الوقوف على الآثار، توصلاً للعظة بها والاعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ. أما المعنى المجازي فإنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي، وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]، وهذا أمر بالسياحة في الأرض للاعتبار.

السياحة بين المفهوم الشرعي والمفهوم غير الشرعي

السياحة بين المفهوم الشرعي والمفهوم غير الشرعي في مثل هذا البحث ينبغي أن ننسى تماماً القاذورات المرتبطة بكلمة السياحة؛ لأن هذه القاذورات المرتبطة بالسياحة طرأت نتيجة الفساد الذي عم وطم وظهر في البر والبحر والجو، لكن نحن الآن نتعامل مع معاني الوحي الشريف، ومعاني اللغة العربية الأصلية، بغض النظر عما صارت ترمز إليه كلمة السياحة الآن من الفساد والعفن. نحن نتكلم عن السياحة التي هي عبادة، وهي الانطلاق في الأرض للتفكر في آيات الله، ومطالعة أيام الله سبحانه وتعالى، وآثار الأمم الغابرة، كما في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا} [الأنعام:11]، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الروم:9]، وقوله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} [يوسف:109]، وقوله: {فَسِيرُوا} [آل عمران:137]، وقوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20]، وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:100] فهذه الآيات قرائن نيرة تدل بأن السيح معناه: السير، فإنها وإن تكن من مادة أخرى إلا أن معناها يلاقي معنى السيح، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة، وذلك كقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] أي: انتشروا في الأرض أو سيروا في الأرض، فكلمة: (سيحوا) هنا تفسر (السائحون) في الآية هذه. أما من يقول: إن خير ما فسرت به الآية بالوارد فنقول: إن صرف هذا اللفظ عن ظاهره فيه تكسيل للأمة، وبه يحصل قصور همتها، وضعف نشاطها، ويحول بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة، ورؤية عمران المسكونة، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين. إذاً: كلمة السياحة ومعانيها الآن تحتاج إلى كثير من الاحتراز؛ لأنها لا تطبق بالصورة التي يريدها الشرع؛ لأن هناك من يعتقد أن أنظف سياحة هي ما يسمونه بالسياحة الدينية، والسياحة الدينية لا تقتصر على الحج ولا العمرة، وإن كان بهذا المعنى يصح أن توصف بأنها سياحة؛ لأنها انتشار في الأرض لإقامة فريضة أو عبادة، لكن السياحة الدينية عند هؤلاء المنحرفين هي إلى المقابر أو إلى أضرحة الأولياء ونحو هذه الأشياء! ومن السياحة التي يظن أنها مباحة شد الرحال إلى الأماكن التي نزلت فيها لعنة الله سبحانه وتعالى على القوم المعذبين، فأمثال هذه الأماكن لا ينبغي للإنسان أن يذهب إليها، وإذا مر بها كعابر سبيل فإما أن يبكي وإما أن يسرع ويجري، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمروا بهؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين) فمن السنة أن الإنسان إذا مر في رحلته بشيء من هذه الأماكن كديار ثمود أو آثار الفراعنة المشركين الوثنيين فليسرع؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام علل ذلك بقوله: (لا تمروا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم ما أصابهم) فهو أمر بالإسراع خشية أن يصيبنا ما أصابهم؛ لأن هذه الأماكن نزلت فيها لعنة الله، ونزل فيها غضب الله على من ناوأه وحاربه وعصاه وكفر به. ومن علامات موت القلب أن الإنسان يمر بهذه الأماكن دون أن يبكي ودون أن يعتبر، فإذا حصل ذلك ولم يستحضر هذه المعاني ولم يسرع بمغادرة هذه الأماكن ففي هذه الحالة يخشى أن يعاقب بأن تصيبه نفس اللعنة التي أصابت هؤلاء المعذبين، وقد يكون هذا هو السر فيما يسمونه الآن: لعنة الفراعنة، فهي ليست لعنة الفراعنة، وإنما هي لعنة الله سبحانه وتعالى تصيب من يأتي إلى هذه الأماكن المشئومة. فإذاً: الأماكن التي يعرف أنه نزل عذاب الله فيها، ينبغي إذا مر بها الإنسان مجتازاً أن يسرع ويبكي، والأصل ألا يأتي إلى هذه الأماكن أصلاً خشية أن يصيبه ما أصابهم. فهذا هو التفسير الصحيح لما يسمى الآن: لعنة الفراعنة؛ لأن الفراعنة الآن أموات، ولعنة الله تصيب من يجاورهم في مساكنهم وفي ديارهم بشؤمهم لقوله عليه الصلاة والسلام (أن يصيبكم ما أصابهم) والله تعالى أعلم، ولا يبعد أيضاً أن تكون بعض الأماكن التي فيها ظواهر غريبة هي أماكن نزول عذاب، فربما لأجل ذلك يهلك من اقترب منها، مثل مثلث برمودا وغيره، وهذا احتمال قائم والله تعالى أعلم.

الآثار المترتبة على السياحة

الآثار المترتبة على السياحة قال الرازي: للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس، لما يلقاه من أنواع من الضر والبؤس. يعني: الإنسان إذا سافر يتمرن وتزيد خبرته بالحياة، فيلقى ضرراً وبؤساً، فلا بد من الصبر عليها، وقد يتعرف على علماء في تخصصات مختلفة فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر، وقد يلقى الأكابر من الناس فيحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها، وقد يسهل اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم، فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين، لكن يشترط أن تكون هذه السياحة بمعنى السير في الأرض للاعتبار وللعظة وللهجرة وللجهاد ولطلب العلم، وغير ذلك من أنواع الطاعات.

وجه ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة

وجه ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة قال القاضي: إنما جعل الله ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة في قوله تعالى: (الراكعون الساجدون) ولم يقل: المصلين؛ لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبهما يتبين الفرق بين المصلي وغيره، ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى، والركوع وسطها، والسجود غايتها، فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية؛ تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.

وجه ذكر العطف مرتين في الآية

وجه ذكر العطف مرتين في الآية ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً؛ لأنه سبحانه وتعالى قال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف) وعطف بالواو حيث قال: (والناهون عن المنكر) ثم قال: (والحافظون لحدود الله) فما السر في وجود الواو في هذين الموضعين؟ أما قوله تعالى: (والناهون عن المنكر) فقالوا: سر العطف فيه: إما للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن بينهما تلازماً في الذهن والخارج، يعني: قوله عز وجل: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) فيه إشارة إلى أن هاتين الوظيفتين هما صفة واحدة أو فعل واحد، سواء كان في الذهن أو في الخارج؛ لأن الأمر بالمعروف يستلزم النهي عن المنكر، فإذا أمرت بالصلاة فأنت تنهى عن ترك الصلاة، وإذا نهيت عن ترك الصلاة فكأنك تأمر بالصلاة وهكذا، فلما كان بينهما من التلازم سواء كان في الذهن أو في الواقع الخارجي اعتبرا كأنهما خصلة واحدة وصفة واحدة؛ لأن فعل الأوامر يتضمن ترك النواهي، فكان بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما. أما الموضع الثاني وهو قوله تعالى: (والحافظون لحدود الله) فقيل: سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبعة؛ لأن العرب إذا وصلت إلى العدد السابع يكون هذا عدداً تاماً عندهم، وحينئذ يبدءون العدد الجديد بالواو، يقولون مثلاً: واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة، وثمانية تسعة عشرة وهكذا، فإذا فرغوا من السبعة يقولون: وثمانية، فهذه اسمها واو الثمانية، فهنا في نفس هذه الآية: ((التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ)) لأنها جاءت في الصفة الثامنة، ولذلك تسمى: واو الثمانية. ونُظِرَ فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة، لاستعماله في التكثير لا معدودة، وهذا نفس ما قالوه في قوله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] فقالوا: هذه واو الثمانية، وهذا المبحث فيه نقاش كثير، ومن العلماء من أبطل هذا الاستدلال، فيمكن مراجعته في كتاب ((مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)) لـ ابن هشام. وقيل: سر العطف التنبيه على أن ما قبله في تفصيل الفضائل: التائبون، العابدون، السائحون إلى آخره، وهذا مجملها، أجمل كل ما مضى في قوله: (والحافظون لحدود الله)؛ لأنه شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفاً نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه. وقيل: المراد بحفظ الحدود ظاهرها يعني: إقامة الحدود كالقصاص على من استحقه، والصفات الأولى إلى قوله: (الآمرون بالمعروف) هي صفات محمودة لازمة للشخص في نفسه، لكن قوله: (والحافظون لحدود الله) هذه باعتبار غيره؛ لأن حفظ حدود الله: هي إقامتها على مستحقيها بالقصاص مثلاً، فلذا تغاير تعبير الصنفين، فترك العاطف في القسم الأول، وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد، ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به.

تفسير قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا إن إبراهيم لأواه حليم)

تفسير قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا إن إبراهيم لأواه حليم) قال عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114] لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد أن تبين شركهم وكفرهم؛ لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة حتى مع الأقرباء؛ لأن قرابتهم وإن أفادتهم الشفقة بهم والرحمة بهم، فلا تفيدهم قبول الاستغفار؛ لأن نور الاستغفار لا ينفذ في هذه القلوب المعتمة، فلا يصلح أن يستغفر المؤمنون لهم؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به. فمن ثم لا ينبغي أبداً ولا يتصور أن يقع الاستغفار من (النبي والذين آمنوا للمشركين)؛ لأن الاستغفار هو طلب المغفرة، وكيف يطلب من الله سبحانه وتعالى مغفرة ذنب قد قطع وأخبر أنه لا يغفره أبداً وذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]؟! فإذا كان الشرك ذنباً عظمياً لا يغفر، فليس من الإيمان أن يستغفر المؤمن لقريبه المشرك؛ لأن طلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده، فالله سبحانه وتعالى توعد هؤلاء المشركين أنه لا يغفر لهم أبداً، فمن الأدب أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى لا يدعو بشيء قد فرغ منه القضاء. مثلاً: إذا قلنا بالقول الصحيح في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] ففي هذه الحالة ليس من الأدب في الدعاء أن تدعو بألا ترد على جهنم؛ لأن هذا سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، حيث قد فرغ القضاء وتمت كلمة الله في هذا القسم: (إن منكم إلا واردها) أي: ما منكم من أحد إلا وسيرد النار، كل البشر سيدخلون النار ثم يخرجون منها، يخرج منها المؤمنون كما قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72] ولم يقل: ونلقي؛ لأنهم يكونون موجودين، بل قال: ((وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) [مريم:72] فليس من الأدب أن تدعو الله بشيء قد حكم هو بخلافه، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حكم وقضى أنه لا يغفر أن يشرك به، فلا يجوز أن تسأل الله المغفرة لمشرك؛ فلذلك قال هنا: ((مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)) [التوبة:113] فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده.

وجه استغفار إبراهيم لأبيه وحكم الاقتداء به في ذلك

وجه استغفار إبراهيم لأبيه وحكم الاقتداء به في ذلك ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه كان لأجل وعد تقدم منه له، ويكون المعنى: لا تتأسوا بإبراهيم حينما استغفر لأبيه كما في سورة مريم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:4]، وقال عز وجل في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، ثم قال: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] فالشاهد أن قول إبراهيم لأبيه: (لأستغفرن لك) بناء على وعد كان وعده أبوه، وهو أنه سيوحد وسيؤمن؛ فلذلك صدر الاستغفار من إبراهيم عليه السلام، لكن لما تبين له أنه عدو لله مصر على الشرك تبرأ منه، فلا ينبغي لكم أن تتخذوا من استغفار إبراهيم لأبيه المشرك أسوة وقدوة؛ لأن هذا ليس موضع اقتداء؛ لأن أباه كان وعده بالإيمان فمن ثم استغفر له، لا أنه كان يواليه ويدعو الله سبحانه وتعالى بالمغفرة لمن علم أنه مشرك. إذاً: ذكر الله عز وجل أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه أنه لأجل وعد تقدم منه له، لقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وقوله: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]، وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك. قوله: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) يعني: أنه مستقر وراض بالشرك ومصر عليه. قوله: (تَبَرَّأَ مِنْهُ) أي: تبرأ من أبيه بالكلية فضلاً عن الاستغفار له، وبين تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار لأبيه لما وعده بالإيمان أنه كان فرط ترحمه وصبره، ولذلك ختم الآية بقوله: (إِِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، فالسبب أنه كان حريصاً على أن يستغفر لأبيه لما وعده بالإيمان. قوله: (إن إبراهيم لأواه) أي: كثير التأوه من فرط الرحمة ورقة القلب. قوله: (حليم) أي صبور على ما يعترضه من الإيذاء؛ ولذلك حلم عن أبيه مع أن أباه توعده بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، واستغفر له بقوله: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، وذلك قبل التبين، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك. وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب للاستغفار بعد التبين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ من أبيه بعد التبين، وذلك مع كمال رقة القلب والحلم عند إبراهيم، فلابد أن يكون غيره أكثر منه اجتناباً وتبرؤاً. وقد ساق المفسرون هاهنا روايات عديدة في سبب نزول الآية، ولما رآها بعضهم متنافية حاول الجمع بينها بتعدد نزول الآيات، ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنه -كما نبهنا مراراً- إذا قيل في الآية: نزلت في كذا فقد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع في هذه الحادثة وغيرها، أو يكون حكم الآية لا يشمل إلا هذه الحادثة وحدها لا أنها تعدت سبب نزولها.

حكم الدعاء والاستغفار للعصاة والفساق من المسلمين

حكم الدعاء والاستغفار للعصاة والفساق من المسلمين قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين، ثم قرأ الآية، وهذا فقه جيد. فقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى) يفهم منها: أنه يستغفر ويصلى على أي إنسان من أهل التوحيد، حتى لو كان فاسقاً عاصياً، لكن هناك تفصيل، فالشخص الذي يقتدى به ينبغي أن يمسك عن الصلاة على العاصي والفاسق في الظاهر، فمثلاً: لا يصلي على قاتل نفسه الذي انتحر أو تارك الصلاة؛ زجراً لغيره، وحتى يتسامع الناس أن الشيخ الفلاني رفض أن يصلي على تارك الصلاة وعلى قاتل نفسه، قال العلماء: ويدعو له بالسر، ففي نفس الوقت يجمع بين مصلحة الدعاء له وبين مصلحة تنفير الآخرين من هذه المعصية، لكن عموم الناس يصلون على الفاسق أو العاصي؛ لأن الله لم يحجب الدعاء والاستغفار إلا عن المشركين فقط.

حكم الاستدلال بالآية على أن التأوه في الصلاة لا يبطلها

حكم الاستدلال بالآية على أن التأوه في الصلاة لا يبطلها قال بعض المفسرين اليمانيين: استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل. أي: من قال: آه في الصلاة لا تبطل الصلاة، وهذا يحكى عن أبي جعفر أنه قال: من قال: آه أو آهِ لم تبطل صلاته؛ لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك. فهل هذا الاستدلال صحيح؟ أين الدليل في هذه الآية على أن ذلك كان يحصل منه أثناء ما كان يصلي؟ لا دليل، بل أئمة الإسلام يبطلون الصلاة بذلك؛ لأن كلمة (آه) مكونة من ثلاثة حروف، وهي كلمة أجنبية ليس فيها ذكر الله عز وجل، فلذلك تبطل الصلاة بأي شيء من كلام الناس، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة.

المعنى اللغوي لكلمة (أواه)

المعنى اللغوي لكلمة (أواه) وقيل: (أواه) فعال للمبالغة من التأوه، وقياس فعله أن يكون ثلاثياً؛ لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها من ثلاث، وهو: آه يأوه كقام يقوم، أوهاً، وأوَّهَ تأويهاً هذا اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر أو أتألم. ولها لغات كثيرة أخرى أوصلها في التاج إلى اثنتين وعشرين لغة، منه: آه أو أواه أو أوه إلى غير ذلك، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن، مبنيات على ما لزم آخرها إلا آهاً فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر، كأنه قيل: أتأفف تأففاً. وهي تكون عند شدة الحزن أو التوجع وعند الشكاية، فقوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) هذه إشارة إلى رقة قلب إبراهيم عليه السلام. ولا يصح للصوفية أن يستدلوا بالآية على صحة ما يزعمون من أن آهاً اسم من أسماء الله الحسنى، ويستدلون بهذه الآية: (إن إبراهيم لأواه). فهم يزعمون إن إبراهيم عليه السلام كان يتأوه ويقول: آه آه، ولذلك تجدهم في حلقات الغفلة التي يسمونها حلقات الذكر يقولون هذه الكلمة ويكررونها، إلى آخر بدعهم وضلالاتهم، وإن كنت أظن الآن أن الصوفية ليست منتشرة ذلك الانتشار الكبير الذي كان فيما مضى، خاصة في المدن؛ بسبب التوجه العلماني والبعد عن الدين لأهل المدن، لكن لعل في القرى ما يزال هناك آثار للصوفية وبدعها.

تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم)

تفسير قوله تعالى: (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم) قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115] هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين والبراءة منهم وترك الاستغفار لهم؛ وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ما يتقون، ودلالته إياهم على الصراط السوي، فضلوا عنه فأضلهم الله واستحقوا عقابه تبارك وتعالى. قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا) يعني: هؤلاء القوم الذين حرمنا عليكم الاستغفار لهم ما كان الله سبحانه وتعالى ليضلهم إلا بعد أن أقام الحجة عليهم، حيث أتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغهم الحق وأقام عليهم الحجة ودعاهم إلى الهدى الذي يعصمهم من الضلال. قوله: (بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) يعني: بعد أن بين لهم الحق. قوله: (حتى يبين لهم ما يتقون) أي: من الشرك ومن الكبائر والمعاصي. يقول عز وجل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] فقد بين الله لهم ما يتقون عن طريق الرسول ومع ذلك أبوا واستكبروا واستنكفوا وأصروا على الكفر، فمن ثم أضلهم الله بعد أن هداهم هداية البيان وليست هداية الانقياد للحق. وكذلك قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقوله في سورة الرعد: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، وفي قصة الهجرة لما سأل الرجل أبا بكر عمن معه؟ قال: (هو هاد يهديني) يعني: ذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهو رضي الله عنه أراد أن يفر حتى لا يذكر له اسم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (هاد يهديني) يقصد يهديه إلى طريق الحق وإلى طريق الله سبحانه وتعالى. قوله: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليل لما سبق أي: أنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته، فبين لهم ذلك كما فعل هنا؛ لأن العقل لا يستقل بمعرفة القبائح والأمور التي يبغضها الله، فلا يعذب الله قوماً حتى تقام عليهم حجة الرسل، يقول عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]؛ لأن العقل لا يستقل ببيان الشرائع، فمن ثم لم يقل تبارك وتعالى: وما كنا معذبين حتى نرزقهم عقولاً أو حتى نفطرهم على التوحيد، وإنما قال: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) فلابد أن تبلغهم الحجة االرسالية، فهؤلاء بلغتهم هذه الحجة الرسالية ومع ذلك أضلهم الله؛ لأنهم لم يستجيبوا لها.

تفسير قوله تعالى: (إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت)

تفسير قوله تعالى: (إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:116] هذا تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم ولا يرهبوا من أولئك، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم، وتنبيه على لزوم امتثال أمره والانقياد لحكمه والتوجه إليه وحده، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار)

تفسير قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار) قال عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117]. اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك مؤمنهم ومنافقهم، والمنفق فيها طوعاً أو كرهاً، والمرغب فيها أو عنها، والمتخلف نفاقاً أو كسلاً، وأنبأ عما لحق كلا الفريقين من الوعد والوعيد، وميز الصادقين من غيرهم، ختم بفرقة منهم كانوا قد تخلفوا للدعة والراحة، هذا الفريق بالذات مغاير لكل ما مضى؛ لأن هؤلاء تخلفوا بسبب حب الدعة والراحة ونفوراً من الحرب والمشقة، ثم ندموا فتابوا وأنابوا، وعلم الله صدق توبتهم فقبلها، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية الكريمة، وصدرها بتوبته على رسوله وكبار صحبه جبراً لقلوبهم، فقال عز وجل: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ). إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار جميعهم مقطوع بأن الله سبحانه رضي عن رسوله ورضي عن المهاجرين ورضي عن الأنصار، وأراد أن يطمئن هؤلاء المتخلفين من المؤمنين الصادقين بأنهم أدرجوا ضمن من يقطع برضا الله عنهم، تطميناً لهم وتهدئة لنفوسهم، وما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرين والأنصار، كل على حسبه، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأنها صفة التوابين الأوابين، وهي من صفة الأنبياء، كما أن الله سبحانه وتعالى وصف بعض الأنبياء بأنهم من الصالحين، وهذا مدح لصفة الصلاح؛ حيث اتصف بها الأنبياء، كذلك هنا مدح لصفة التوبة حيث صدرت بتوبة النبي صلى الله عليه وسلم: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ)). والوصف كما يكون لمدح الموصوف يكون لمدح الصفة، وهذا من لطائف البلاغة، كما قال حسان رضي الله تعالى عنه: ما إن مدحت محمداً بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد عليه الصلاة والسلام. يعني: أنا لم أمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتي، لكني مدحت مقالتي بمحمد عليه الصلاة والسلام. ويقول شوقي: مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحاب قال الحاكم: ودلت الآية على فضل عثمان؛ لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه. وقد جمع الله تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ووصفهم باتباعه، فوجب القطع بموالاتهم. قوله: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) يعني: في وقت العسرة، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق كما تستعمل الغداة والعشية واليوم، وليس قدراً معيناً كما نقدره نحن الآن بواحد من أربعة وعشرين. والعسرة هي حالهم في غزوة تبوك، ولذلك كانوا يسمونها: غزوة العسرة؛ لأنهم كانوا في عسرة، ولم يكن عندهم دواب تكفي للمجاهدين كي يركبوا عليها، بل كان يعتقب العشرة من الصحابة على بعير واحد؛ لقلة الظهر، وكانوا أيضاً في عسرة من الزاد، حتى إن التمرة الواحدة تشق نصفين لكل صحابي نصف تمرة، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصها الآخر ثم يشرب عليها، وكانوا أيضاً في عسرة من الجدب والقحط والحر الشديد، وفي عسرة من الماء حتى بلغ العطش بأحدهم أن نحر بعيره فعصر فرثه فشربه، وجعل ما بقي على كبده. ونقل الرازي عن أبي مسلم: أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين. يعني: ليست فقط غزوة العسرة التي هي غزوة تبوك، وإنما أيضاً جميع الساعات الشديدة التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين فيدخل فيها غزوة الخندق وغيرها، وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، وقال أيضاً: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران:152]، إلى آخر الآية. والمقصود هنا وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم. يقول القاسمي: وهذا الاحتمال وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية وسباقها القاصران على غزوة تبوك. بل السورة كلها في غزوة تبوك، فيكون مناسباً أن تقصر ساعة العسرة على غزوة العسرة التي هي غزوة تبوك، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج واتباعه عليه الصلاة والسلام، بل وقع أحياناً في مصاف القتال، وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها: غزوة العسرة، وعلى تسمية الجيش الذي خرج فيها بأنه جيش العسرة. قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) يعني: عن الحق أو عن الثبات على الاتباع؛ لما نالهم من المشقة والشدة في سفرهم. وفي تكرير التوبة عليهم بقوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنه بهم رءوف رحيم) تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها، هذا إذا كان الضمير راجعاً إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم، أما إذا كان الضمير إلى الفريق الثاني فلا تكرار. وقال بعضهم: ذكر التوبة أولاً قبل ذكر الذنب؛ تفضلاً منه وتطييباً لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى؛ تعظيماً لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم وعفا عنهم.

تفسير قوله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا إن الله هو التواب الرحيم)

تفسير قوله تعالى: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا إن الله هو التواب الرحيم) قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) يعني: وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا، أي: تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال، فهؤلاء الثلاثة بالذات أجل الفصل في شأنهم، وأجل الحكم بقبول توبتهم، (خلفوا) أي: تركوا وأجلوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم. والثلاثة هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم من الأنصار، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم. (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي: مع أن الأرض واسعة لكنها صارت ضيقة جداً؛ من شدة الكرب والضيق على هؤلاء المخلفين، وهذا يمثل الحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه، كل هذه الأرض بما رحبت ضاقت عليهم، فكأنهم لا يجدون مكاناً واحداً يستقرون فيه ويطمئنون فيه، قلقاً وجزعاً مما هم فيه، إذ لم يمكنهم الذهاب لأحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من مجالستهم ومحادثتهم، وقاطعهم جميع المسلمين. (وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ) يعني: ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم يعني: قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغم، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور؛ وذلك لأنهم لازموا بيوتهم وهُجِروا نحواً من خمسين ليلة، وفيه ترقٍّ من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم، وهو في غاية البلاغة، ترقى من الأدنى إلى الأعلى، فجعل ضيق الأرض مرحلة أعلى منها ضيق أنفسهم، فهذا بلا شك من أقوى مراتب البلاغة وأعلاها. (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) (ظنوا) هنا بمعنى علموا، (أن لا ملجأ من الله) أي: لا مفر من غضب الله (إلا إليه) أي: إلى استغفاره. (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) أي: ليستقيموا على توبتهم ويستمروا عليها، أو ليعدوا من جملة التائبين، أو المعنى: قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل فقوله: (ليتوبوا) يعني: إما ليتوبوا بمعنى: ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها، وإما (ليتوبوا) بمعنى: ليصيروا أو ليعدوا من جملة التائبين، وإما (ليتوبوا) بمعنى فيما يستقبل، إذا علموا أنهم إذا تابوا إلى الله تاب عليهم، فإنهم في المستقبل سيتوبون إذا صدرت منهم هفوة، ولا يقنطون من كرمه عز وجل: (إن الله هو التواب الرحيم).

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على الطاعة، فهي مأخوذة من قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] أو المقصود بالصادقين: الثلاثة المخلفين أي: كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم. وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين): فقال بعضهم: إنهم النبي وأصحابه الذين ذكروا آنفاً في قوله: ((لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)). وقال بعضهم: المقصود بها: أبو بكر وعمر، وقد قرئت: (وكونوا مع الصادِقَين) يعني: أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وقول آخر أن المقصود بها: الثلاثة الذين خلفوا؛ لأنهم إنما نجوا بالصدق. وقول آخر أن المقصود بها: المهاجرين بالذات؛ لأن الله سبحانه وتعالى مدحهم في سورة الحشر فقال عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، ولذلك قالوا: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه احتج بهذه الآية يوم السقيفة فقال: يا معشر الأنصار! إن الله يقول في كتابه: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) فقالت الأنصار: أنتم هم، يعني: المهاجرون، قال: فإن الله تعالى يقول: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء. وهناك قول آخر وهو: أن هذه الآية المقصود بها: أهل الكتاب: (يا أيها الذين آمنوا) بموسى وعيسى (اتقوا الله) في إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، (وكونوا من الصادقين). وهناك قول بأنها خطاب عام: (وكونوا مع الصادقين): عموماً، وتكون (مع): بمعنى (من)، (وكونوا مع الصادقين) يعني: كونوا من الصادقين.

حديث كعب بن مالك في توبة الله على الثلاثة المخلفين

حديث كعب بن مالك في توبة الله على الثلاثة المخلفين كنت أود أن نتجاوز ذكر الحديث الطويل حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، لكن الإنسان يضنُّ بأن يفوت هذا الحديث العظيم الذي فيه كثير من العبر والفوائد، فنجتهد إن شاء الله تعالى في تلاوته بقدر المستطاع بدون تعليقات كثيرة. روى الإمام أحمد والشيخان حديث قصة كعب وصاحبيه مبسوطاً بما يوضح هذه الآية، قال الزهري: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، وكان قائد كعب من بنيه -لأنه عمي فكان ابنه هذا هو قائده-، قال: سمعت كعباً يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك -وهذا الحديث قطعة أدبية في غاية من الروعة ومن البلاغة- يقول كعب رضي الله تعالى عنه: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزاة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يُعاتَب أحد تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز، واستقبل عدواً كثيراً، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ -يعني: لم يكن هناك ديوان- قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليها أصعر -يعني: أميل- فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، وقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه، فغدوت بعد لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فألحقهم، وليتني فعلت! ثم لم يقدر ذلك لي. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله عز وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: (ما فعل كعب بن مالك؟)، فقال رجل من بني سلمة: حبسه -يا رسول الله- برداه والنظر في عطفيه -يعني: اغتابه، وقال: احتبس عن الجهاد بالتأنق في برديه والنظر في عطفيه في المرآة، يعني: للتزين -فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله! يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً- وهكذا الإنسان إذا حضر مجلس اللحامين آكلي لحوم البشر الغيابين، يبادر بقوله: بئسما قلت، ويدفع عن أخيه بظهر الغيب - فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً -راجعاً من تبوك- حضرني بثي، وطفقت أتذكر الكذب -أي: حضر الحزن لما علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام راجع إلى المدينة من تبوك، وطفق يتذكر ماذا سيكون المخرج؟ فكان المخرج أمامه هو أن يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام- وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً، زاح عني الباطل، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبداً، فأجمعت صدقه -أي: عزمت على أن أكون صادقاً- فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم داخلاً المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: (تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟) فقلت: يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت، لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه -يعني: تحزن مني بسببه- إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل، والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك). فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة، واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت -يعني: ما قدرت- ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ -المصيبة إذا عمت طابت، فتخف المصيبة إذا كانت على جماعة- قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً لي فيهما أسوة، قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف -نهى الصحابة أن يتكلم أحد مع هؤلاء الثلاثة دون الآخرين من المنافقين- فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم -يسلم عليه- وأقول في نفسي: أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي -فانظر إلى المحبة المتبادلة بينه وبين الرسول عليه السلام، ومع ذلك الرسول أمسك عن كلامه- فإذا التفت نحوه أعرض عني صلى الله عليه وسلم، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام- امتثالاً لأمر الرسول عليه الصلاة والسلام- فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: فسكت، قال: فعدت فناشدته -استحلفته- فسكت، فعدت له فناشدته فسكت، فقال: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام -الأنباط: هم الفلاحون والزارعون من العجم والروم- ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إلي، حتى جاء فدفع إلي كتاباً من ملك غسان -يعني: أن جواسيس في المدينة نشروا الخبر حتى وصل لملك غسان، فملك غسان أراد أن يغريه بأن يعمل له لجوء سياسي- فدفع إلي كتاباً من ملك غسان وكنت كاتباً، فإذا فيه: أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، قال: فقلت حين قرأته: وهذه أيضاً من البلاء -هذه أيضاً فتنة وبلاء، فانظر كيف صدق مع هذه الفتنة- قال: فتيممت بها التنور فسجرته به -رماه في الفرن- حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ويقول: يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها، قال: وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، تكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر ما يشاء. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلالاً شيخ ضعيف ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: (لا، ولكن لا يقربك)، قالت: إنه والله ما به من حركة إلى شيء، فإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته، وأنا رجل شاب! قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى عنا، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر -أي: أعلن توبة الله عليهم- فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبش

فوائد مستنبطة من قصة الثلاثة الذين خلفوا

فوائد مستنبطة من قصة الثلاثة الذين خلفوا قال بعض المفسرين: في الآيات دليل على جواز الشدة على من فعل الخطيئة وعلى قطع ما يلهي عن الطاعة. يعني: هذه مسألة نسبية كما قال الحافظ ابن حجر. ويؤخذ من هذا الحديث: أن القوي في دينه يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف، فهؤلاء الثلاثة لقوة إيمانهم وشدة دينهم قوبلوا بهذه الشدة أيضاً: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). قال القاشاني في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)) أي: في جميع الرذائل بالاجتناب عنها، خاصة رذيلة الكذب، وذلك معنى قوله: ((وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) اتقوا الله بتجنب الكذب، (وكونوا مع الصادقين) فإن الكذب أسوأ الرذائل وأقبحها لكونه ينافي المروءة، وقد قيل: لا مروءة لكذوب، إذ المراد من الكلام الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان: إخبار الغير عما لا يعلم، يعني: هذه حكمة الله سبحانه وتعالى حيث جعل الإنسان حيواناً ناطقاً بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تنطق، كي يستطيع الإنسان أن يخبر غيره عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق للواقع لم تحصل فائدة النطق، وحصل منه اعتقاد غير مطابق، وذلك من خواص الشيطنة، فالكاذب شيطان، وكما أن الكذب أقبح الرذائل فالصدق أحسن الفضائل، وأصل كل حسنة، ومادة كل خصلة محمودة، وملاك كل خير وسعادة، به يحصل كل كمال، فالصدق باب إلى كل أنواع الخير، وهو أساس الاستقامة. وكل من أراد أن يصلح حاله مع الله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترقى همته ويقتدي بـ كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، حينما ذكر أن الله سبحانه وتعالى وفقه إلى الصدق، وأنه حمد الله عز وجل على أن وفقه للصدق، يقول: (يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت) فالمقصود أن المؤمن عالي الهمة إذا سمع مثل هذا يقول: وأنا منذ هذه اللحظة لن أحدث إلا صدقاً ما بقيت، هذا هو المقصود، فالإنسان كلما سمع بشيء من هذه الفضائل لا يستأسر لضعفه البشري الذي حصل فيما مضى، لكن ينشئ من اللحظة عزماً أن يفعل فعل أصحابها، فالإنسان ما دام فيه عرق ينبض ونفس يتردد ودم يسري وروح يجري في بدنه، فهناك أمل في أن يصبح من أعظم أولياء الله، فباب الولاية مفتوح، تستطيع أن تترقى إلى أعلى المقامات، ولن يمنعك مانع بإذن الله عز وجل. إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك فليس لدى المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك إذا طرقت باب الأخلاق الحسنة لن تجد حاجباً يحجبك عن الدخول، بل ستدخل، لكن المشكلة أن الشيطان يثبط الإنسان، فكلما أراد أن يقوم يختم على قلبه ويقول: أمامك ليل طويل فاقعد في وادي المعاصي ونم، لكن الإنسان ينبغي أن تتحرك همته إذا سمع مثل هذه المعاهدات، هذا عهد مع الله: (إن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت)، إلى أن أموت، ومشكلة الكذب أن الإنسان ينظر إلى المصلحة التي ستترتب على الكذب، ويقول: لو لم أكذب ولو لم أعمل الشهادة المزورة سأحرم من العلاوة مثلاً، أو لا أمنح الإجازة! وهذا من باب الكذب، فتتصرف على أنها شيء عادي جداً، وبدون أدنى تحرج وبمنتهى البساطة يعمل الإنسان شهادات مزورة، ويزور بطاقات، ويزور وثائق، ويكذب في البيانات، فهو إذا صدق قد يخسر فعلاً بعض الأشياء، لكن ينبغي أن يحسن المقارنة بين مكاسب الصدق وأضرار الكذب، فأخبث أضرار الكذب -على الأقل- حتى على الإنسان الذي ليس عنده دين، أن الكاذب سيخسر نفسه، فيكون فاقداً لثقة النفس، فاقداً ثقة الناس به أيضاً، ثم إنه يكتب عند الله: كذاباً، يدعى عند الله الكذاب فلان بن فلان!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً). فهل ترضى أن تكتب عند الله كذاباً في ديوان القائمة السوداء للكذابين، وإذا ذكرتك الملائكة تقول: الكذاب فلان؟! فينبغي للإنسان أن يتحرى الصدق حتى لو كلفه؛ لأنه قد يظن أنه يخسر، لكن بالصدق سوف يكسب، ومهما كانت الخسائر في الجانب الآخر، فيكفي أن من بركة الصدق أنه باب إلى كل أنواع الخير والطاعات، فالصدق يهدي إلى البر. ولذلك كان بعض الشيوخ إذا أتاه شاب تائب وأراد أن يستقيم، ويسأله: ماذا أفعل كي أطيع الله؟ لا يكثر عليه من التكاليف، ولا يقول له: عليك بالصلاة والصيام وكذا وكذا، بل يقول له: عليك بالصدق فقط، أخذاً من هذا الحديث، (فإن الصدق يهدي إلى البر)، فإذا التزم بالصدق فكل حياته ستستقيم، ديناً ودنيا. يقول: فأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه، كما قال تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] في عقد العزيمة ووعد الخليقة، كما قال في إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وإذا روعي في المواطن كلها، لو أن الإنسان في كل موقف حرص على الصدق حتى الخاطر والفكر والنية والقول والعمل؛ صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات، كأنه أصل شجرة الكمال، وبذر ثمرة الأحوال. ولما أوجب تعالى الكون مع الصادقين أشار تعالى إلى أن النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب كفاية، فلا يجوز تخلف الجميع، ولا يلزم النفر للناس كافة، فقال سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120].

يونس [1 - 25]

تفسير سورة يونس [1 - 25]

تفسير قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم) نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة يونس، وسميت باسم يونس عليه السلام؛ لأنها تضمنت قوله تبارك وتعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98]. هذه السورة مكية واستثني منها قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} [يونس:94] إلى آخر الآيتين، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس:40] قيل: نزلت في اليهود. وقيل: من أولها إلى رأس أربعين مكي، والباقي مدني، وآياتها مائة وتسع آيات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1]. الكلام على الحروف المقطعة كالكلام في سوابقها من فواتح السور، وقد تقدم اختلاف العلماء وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده من هذه الأحرف المقطعة. أما الأقوال الأخرى فأقواها أنها جاءت على سبيل التحدي للعرب الفصحاء البلغاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن المؤلف من نفس الحروف التي ينطقون بها، ولذلك غالباً ما ترد الإشارة إلى القرآن الكريم عقب هذه الآيات مباشرة {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1] {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] هذا في الغالب. وقوله: ((تلك)) في اسم الإشارة معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة. والمراد بالكتاب: إما جميع القرآن العظيم، حتى لو لم يكن قد نزل كل القرآن العظيم حينئذ، باعتبار تعينه وتحققه في علم الله تعالى؛ لأن القرآن العظيم بصورته الكاملة الشاملة متحقق في علم الله سبحانه وتعالى، فالله يشير إلى هذا القرآن الذي يعلمه كله، وإن لم يكن البشر قد علموا كله حينئذ. أو المقصود بالكتاب ما نزل منه حتى وقت مخاطبتهم بهذه الآية. و ((الحكيم)) ذو الحكمة، وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ونطقه بها، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه، أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب بالحكيم الناطق بالحكمة.

تفسير قوله تعالى: (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم)

تفسير قوله تعالى: (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم) {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2]. هذا تعجب من تعجبهم، ولذلك هذا الاستفهام تعجبي ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا)). ((أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)) هل هذا شيء يستحق أن يتعجبوا منه، بل هذا منهم أعجب! ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) الهمزة لإنكار تعجبهم، وللتعجيب من هذا الإنكار، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جاريةً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، كما قال عز وجل في الآية الأخرى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: لست أول رسول من البشر يرسل إليه من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما هذه سنة الله سبحانه وتعالى، وقوله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]. وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه. ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) (قدم صدق) أي: السبق باعتبار أن القدم هي آلة السبق. فليس المقصود بالقدم هنا القدم الجارحة، وإنما المقصود السبق؛ لأن السبق لا يكون إلا عن طريق الأقدام، كما يطلقون اليد على النعمة، يقال: فلان له عندي أيادٍ كثيرة، أو: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لرددت عليك، كما قال ­المشرك لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية، وذلك لأن الإحسان غالباً ما يكون باليد، وكما تطلق العين على الجاسوس؛ لأنه يستعمل عينه للتجسس، كذلك الرأس تطلق على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، هذا هو الاحتمال الأول. وقيل: القدم بمعنى المقام كقوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]. بإطلاق الحال، وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة فقال: (قدم صدق). وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ظاهراً وباطناً. ((قَالَ الْكَافِرُونَ)) أي: هؤلاء المتعجبون ((إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)) كما هي قراءة حفص عن عاصم، على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما إذا قرأناها (إن هذا لسحر مبين) أي: أن هذا القرآن سحر مبين. وهذا دليل عجزهم وأنهم كانوا كاذبين في تسميته سحراً؛ وذلك لأن التعجب أولاً، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً حتى عند المعارض، هو دأب العاجز؛ لأنه ليس عنده أي حجة يواجه بها هذا الحق، فهو يتعجب!

تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3] لقد بين تعالى بطلان تعجبهم السابق وما بنوا عليه، وحقق فيه أحقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه، بالتنبيه على بعض ما يدل عليه من شئون الخلق والتقدير، ولذلك فإن سورة يونس من السور المشتملة على آيات عظيمة من آيات التوحيد، سواء توحيد الربوبية، أو توحيد الألوهية، أو توحيد الأسماء والصفات، ونحن نعلم كما درسنا من قبل في كتاب "دعوة التوحيد" أن من أساليب القرآن الكريم في الدعوة إلى توحيد الألوهية الاستدلال بتوحيد الربوبية كمقدمة يبنى عليها توحيد الألوهية، فهذا يكثر في هذه السورة. بعدما تعجب الله سبحانه وتعالى من عجبهم من إرسال الرسل من البشر بين عز وجل ونبه على بعض ما يدل على توحيده عز وجل من شئون الخلق والتقدير، وأرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3]. قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية: قال أبو العالية: ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) أي: ارتفع وعلا على العرش. وقال مجاهد: ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) علا بلا تمثيل ولا تكييف، والعرش هو الجسم المحيط بجميع الكائنات وهو أعظم المخلوقات. والأيام قيل: ستة أيام من أيام الدنيا. وقيل: إن كل يوم من هذه الأيام كألف سنة؛ وذلك لقوله عز وجل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]. ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) أي: يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله. ((مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)) تقرير لعظمته وجلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله عز وجل. ((ذَلِكُمُ اللَّهُ)) إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي: ذلكم العظيم الموصوف بما وصف به. ((رَبُّكُمْ)) أي: الذي رباكم ونماكم ونشأكم وخلقكم لتعبدوه. ((فَاعْبُدُوهُ)) أي: وحدوه بالعبادة ولا تشركوا في عبادته أحداً. ((أَفَلا تَذَكَّرُون)) أي: تتفكرون أدنى تفكر، فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه.

تفسير قوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا)

تفسير قوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً) قال تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:4 - 5]. تأتي آيات توحيد الربوبية للاستدلال بها على توحيد الألوهية، وللإلزام بتوحيد الألوهية، فقوله: ((إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا)) أي: بالموت والنشور وأنكم لا ترجعون في العاقبة إلا إليه، فاستعدوا للقائه. ((وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا)) أي: صدقاً. ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ)) أي: من النطفة. ((ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: بعد الموت. ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ)) أي: بعدله، أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأن الإيمان هو العدل القويم كما أن الشرك هو الظلم العظيم، فالمؤمن عادل لأنه وضع الإيمان في محله، والمشرك ظالم لأنه وضع الأشياء في غير محلها، وهذا القول هو الأوجه لمقابلة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} [يونس:4]. ((شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ)) أي: من ماء حار قد تناهى حره. ((وَعَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي: وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم. ((بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)) أي: بسبب كفرهم.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5]. نبه تعالى للاستدلال على توحيده في ربوبيته بآثار صنعه في النيرين، وهما الشمس والقمر، والاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض، فقال عز وجل: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً)) [يونس:5] (ضياءً) أي: للعاملين بالنهار. ((وَالْقَمَرَ نُورًا)) أي: بالليل، والضياء أقوى من النور. ((وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)) إما أن الضمير هنا يعود على الشمس والقمر بتأويل كل واحد منهما، أي: قدر الشمس منازل وقدر القمر منازل، أو أن الضمير يعود فقط على أقرب مذكور وهو القمر. وخص القمر دون الشمس بأنه قدر منازل، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] لكون منازله معلومةً محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدةً في تواريخ العرب. ((لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)) أي: حساب الشهور والأيام مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات. ((مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة. ((يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) أي: يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية؛ لأن الآيات إما تكوينية مبثوثة في السماوات والأرض، وإما آيات تنزيلية مما يأتي في الوحي الشريف. فهو يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك. ((لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدانية مبدعها. قال السيوطي: هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب، ومنازل القمر والتاريخ.

تفسير قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون)

تفسير قوله تعالى: (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون) لقد نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضاً بقوله عز وجل: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس:6]. ((إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) أي: في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفةً للآخر. ((وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك. ((لَآيَاتٍ)) أي: لآيات عظيمةً دالةً على وحدانية مبدعها وكمال قدرته وحكمته. ومعنى ((لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)) أي: يتقون الله ويخافون العاقبة. وخص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعية إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة. وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان، يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته؛ ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا بما كانوا يكسبون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا بما كانوا يكسبون) قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]. ((إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)) أي: أنهم يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، فهم لا يرجون لقاء الله ولا يعتقدون البعث والنشور؛ لأنهم لا يتوقعون الجزاء على أعمالهم ((وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)) أي: لا يتفكرون في آيات الله ((أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون)).

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9]. ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)) الباء سببية، أي: بسبب إيمانهم. لم يذكر الشيء الذي يهديهم إليه، والمقصود أنه يهديهم إلى مأواهم في الآخرة وهو الجنة، وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها، وانسياق النفس إليها، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة، ولذلك قال عز وجل: ((يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)) أي: إلى الجنة. ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)) أي: من تحت منازلهم أو بين أيديهم.

تفسير قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام)

تفسير قوله تعالى: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]. ((دَعْوَاهُمْ فِيهَا)) أي: دعاؤهم ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)). ومعنى قوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) أي: اللهم إنا نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد، يقال: دعا يدعو دعاءً ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكايةً وشكوى، فإذاً دعواهم هنا تساوي الدعاء، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] أي: وما تعبدون من دون الله. ((وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ)) أي: تحيتهم التي يحيي بها بعضهم بعضاً هي أنهم يسلم بعضهم على بعض. أو أنها تحية الملائكة إياهم بالسلام، كما في قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23 - 24]. أو هي تحية الله عز وجل لهم، كما في قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] والتحية التكرمة بالحالة الجلية، أصلها أحياك الله حياةً طيبة، والسلام: بمعنى السلامة من كل مكروه. ((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ)) أي: وخاتمة دعائهم هو التحميد بقولهم: ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) يعني: أن أول دعائهم (سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) وآخر دعائهم ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فهم يختمون دعاءهم بحمد الله سبحانه وتعالى. والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك كما في الحديث الصحيح، مع أنهم في دار ليست دار تكليف وليست بدار عبادة، لكنهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس، فالذي ينام ليس هو الذي يتولى تنظيم تنفسه، وضربات قلبه، وخلجات عضلاته، فكذلك أهل الجنة ليسوا في دار تكليف، فلذلك هذا التسبيح يخرج منهم إلهاماً من الله سبحانه وتعالى. في كثير من النصوص يقرن التسبيح بالتحميد، فإن قلت: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فمعنى سبحانك: هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق أن ينسب إليه. أما الحمد فهو إثبات ما يليق من صفات الكمال والجمال والجلال. وفي القرآن الكريم يربط التسبيح بالتحميد كما في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] لكن الصيغة الغالبة هي سبحانك اللهم وبحمدك. أي: أقول ذلك متلبساً بحمدك. فهنا عدل عن هذه الصفة كما يقول القاسمي هنا. والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، وإيثار التعبير عن (وبحمدك) بقوله: ((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) رعايةً للفواصل، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة. والآية تدل على سمو هذا الذكر؛ لأنه دعاء أهل الجنة، ولأنه ذكر الملائكة كما قالوا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] ولذلك يفضل الإمام أحمد أن يقال بعد تكبيرة الإحرام في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)؛ لأن فيه ثناءً محضاً، وفيه الاشتغال بالثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو أفضل من الاشتغال بالسؤال، وفي كل خير. قال الرازي: لما استسعد أهل الجنات بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وتعالى وإفضاله وإنعامه، فلا جرم لم يشتغلوا إلا بالحمد والثناء، هذا هو دعاؤهم أوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) وآخره: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

الحكمة من تأخير العذاب إلى يوم القيامة

الحكمة من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لما بين تبارك وتعالى وعيده الشديد كما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8] أتبعه بما دل على أن هذا الوعيد من حقه أن يتأخر عن الدنيا؛ لأنه إذا حصل لهم في الدنيا وعاينوه في الدنيا، فإن هذه المعاينة تكون مانعاً من بقاء التكليف. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يكشف الحجب لجميع الخلق فيرون الجنة عياناً ويرون النار عياناً، ويرون الملائكة وغيرها من الغيبيات، ففي هذه الحالة ستنتقل الدنيا من كونها دار عمل إلى دار جزاء، ولم يبق للتكليف معنى؛ لأننا إذا عاينا هذه الآيات آمن الناس كلهم كما قص الله سبحانه وتعالى أن الكفار يوم القيامة يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] فهذا يقين اضطراري. وكذلك إذا حصل أن كشفت الحجب ورأوا هذه الغيبيات فإنه لن يحصل تفاضل في الإيمان بين الناس؛ لأن الإيمان بالغيب هو أول صفة من صفات المتقين في القرآن الكريم. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]. وهذا الإيمان الاضطراري لا ينجي، وإنما ينجي المرء الإيمان الاختياري، فهذا فرعون آمن إيماناً اضطرارياً حينما عاين الموت، وقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فلم ينفعه ذلك؛ لأن العبرة بأن يؤمن الإنسان بالغيب في حالة الاختيار؛ لأنه يعمل عقله ويتفكر ويتدبر ويبذل جهداً، لكن إذا كشفت له الحجب فإنه سيؤمن إيماناً اضطرارياً. ومن حكمته أنه حليم على هؤلاء الذين يحاربون دين الله سبحانه وتعالى ليل نهار في كل أطراف الأرض، فهم يعذبون المسلمين ويذبحونهم، ويبارزون الله بالمعاصي، ويعبدون الشيطان والأوثان والكواكب والبشر، فهؤلاء سوف يستوون جميعاً في الإيمان إذا كشفت لهم الحجب في الدنيا، وذلك يتنافى مع استمرار الابتلاء والامتحان بالتكليف في هذه الدار الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير)

تفسير قوله تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) لقد بين سبحانه وتعالى أنه لن يكون في الدنيا هذا العذاب الأليم وإنما يكون في الآخرة؛ لأنه إذا ظهر في الدنيا سوف يزول معنى التكليف، ولذلك قال {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس:11]. ((وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ)) أي: الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم، وهم المذكورون في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا)) فلو يعجل الله لهذا الفريق من الناس الشر الذي كانوا يستعجلونه كما حكى الله عنهم بقوله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] لهلكوا. ((اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ)) أي: تعجيلاً لهم مثل استعجالهم الدعاء بالخير. ((لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ)) أي: لو أن الله سبحانه وتعالى استجاب لهم لهلكوا وماتوا. ((فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)) أي: في ضلالهم وشركهم يترددون. فهؤلاء بدل أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لا. إنما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] فمن رحمته بهم أنه لا يستجيب لهذه الدعوة؛ لأنه لو استجاب لهذه الدعوة لقضي إليهم أجلهم ولأهلكوا ولحرموا من فرصة الإمهال والاستعتاب لعلهم إذا امتد أمرهم أن يتوبوا. ((وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ)) فالتقدير: لو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير، وإنما حذف إيجازاً للعلم به، ويوافقه قوله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]. ((وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ)) أي: يدعو بالشر ويستعجل حصول الشر تماماً كما يدعو بالخير ويستعجل حصول الخير، يذكر المفسرون في هذه الآية من سورة الإسراء أن الإنسان يدعو على ولده مثلاً ويستعجل حصول الكوارث والمصائب كأن يقول: ربنا يفعل بك كذا، ويقطع لسانك، ويقصم ظهرك إلى آخر هذه الدعوات المشئومة، حتى إن الأم تدعو على ولدها ألا يأتي عليه الصباح وهو حي، أو أنه إذا خرج لا يعود، فلو استجاب الله سبحانه وتعالى هذه الدعوة لفسدت أمور الناس، فمن رحمة الله أنه لا يستجيب، وقد يستجيب إذا وافقت ساعة إجابة كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن دعاء الإنسان على أولاده أو على ماله، فقد توافق ساعة إجابة فيندم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه لننظر كيف تعملون)

تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه لننظر كيف تعملون) قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:12 - 14]. ((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا)) أي: لكشفه وإزالته. وإعراب قوله: ((لِجَنْبِهِ)) حال، أي حال كونه مضطجعاً على جنبه. ((أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)). ((فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ)) مضى على طريقته وسيرته الأولى، ((مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى)) كشف ((ضُرٍّ مَسَّهُ))، وفيقدر هنا المضاف وهو: كشف. ((كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) أي: من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات. والآية سيقت احتجاجاً على المشركين بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد، علماً بأنه لا يكشفها إلا هو، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وفي هذا تذكير لهم، أي: كم مر بكم من أزمة ومن كارثة فضل ما تدعون من دونه، ونسيتم كل ما تعبدونه من دون الله، وأخلصتم العبادة لله عز وجل وحده، ثم إذا كشف الضر عنكم وتيقنتم أنه الإله الأحد الذي لا يعبد سواه، ولا يكشف الضر سواه، انقلبتم على أعقابكم. وفيها نعي على سوء منقلبهم إثر كشف كرباتهم، وتحريم من مثل صنيعهم. ولقد ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه وذلك بقوله سبحانه: ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)) أي: ظلموا بالتكذيب والكفر ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: فقرر عليهم الحجة من وجوه كثيرة. ((وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)) أي: بتلك البينات ولا بغيرها، فجازاهم بالإهلاك المعروف فيهم ((كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)). ((ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) [يونس:14]. الخطاب هنا للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، أي: استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم، ((لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) من خير أو شر، فنعاملكم حسب عملكم.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15]. يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش بحيث إذا قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) أي: جئنا بغيره من نمط آخر ((أَوْ بَدِّلْهُ)) إلى وضع آخر، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)) أي: ليس ذلك إلي، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى. ويلاحظ أن الجواب انصب على التبديل فقط، أي: أما هذا الذي تطلبونه فشيء مستحيل وغير ممكن على الإطلاق، وبالتالي لا ننشغل بالرد عليه؛ لأن طلبهم ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) لا يستأهل أن يلتفت إليه فأهمل هذا الطلب. وهم في الحقيقة لا يسألون استرشاداً وطلباً للهداية، وإنما يسألون تعنتاً، فما دامت الحجة قد قامت عليهم والبراهين موجودة، لا يجيبهم الله إلى كل ما طلبوه؛ لأن طلب المزيد من الآيات والمزيد من الاقتراحات على الله سبحانه وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزيدهم إلا عتواً ونفوراً، فاكتفى بالجواب عن التبديل، للإيذان باستحالة ما اقترحوه في قولهم: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) فبطلانه من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانه. إن التصدي لذلك من قبيل المجاراة مع السفهاء، والقرآن الكريم لا يجاريهم في كل ما يطلبونه، فهذا من باب الإعراض عن السفهاء، وعدم مجاراتهم في سفاهتهم؛ لأن مثل ذلك الاقتراح: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) لا يمكن أن يصدر من إنسان عاقل، إنما يصدر من سفيه مغرق في السفاهة والضلال، ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بطريق الأولى، فإذا كان التبديل غير ممكن للرسول عليه الصلاة والسلام من تلقاء نفسه، فالإتيان بغيره أولى ألا يمكن، فما بالكم تطلبون بأن يأتي بقرآن آخر غير هذا القرآن؟ فهذا نفي للاحتمال الأول بطريق القياس الجلي أو بقياس الأولى، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة. ((إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي)) أي: بالتبديل والنسخ من عند نفسي، ((عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)). قال الزمخشري: فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأمكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك. أي: هذا كلام خبيث يقصدون به: ما دام أنك فأنت الذي تأتي بقرآن ائت بقرآن، كما يقول المستشرقون والكفرة أعداء الإسلام: قال محمد في القرآن الكريم. فهؤلاء يعتبرونها قضية تأليف. ثم يقول الزمخشري: وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجوا منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.

تفسير قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم)

تفسير قوله تعالى: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم) لما بين بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته، أشار إلى تحقيق أحقية القرآن وكونه من عنده تعالى بقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس:16]. ((قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ)) قال الزمخشري: يعني: أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم، ولم يستمع، ولم يشاهد العلماء ساعةً من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يقهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفى عليكم شيء من أسراره عليه الصلاة والسلام، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به. ((وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ)) أي: ولا أعلمكم به على لساني. ((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) أي: من قبل نزول القرآن الكريم لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق بنحوه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه. ((أَفَلا تَعْقِلُونَ)) أي: أفلا تتدبرون؟! ألا تعملون عقولكم وتتفكرون، فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلي؟ ثم قال الزمخشري: وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم: ((ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)) من إضافة الافتراء إليه. وتعبير الزمخشري تعبير دقيق. ورأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام؛ لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] واقتصار حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع الوحي؛ لأنه أجابهم بقوله: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)) أي: أنا متبع ولست مبتدعاً. وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هاهنا؛ لكون القرآن في نفسه أمراً خارجاً عن طوق البشر؛ لأن من وجوه الرد على هذا الطلب أن القرآن فوق طاقة البشر، ولم يتعرض أيضاً لكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الإتيان بمثله. فالقرآن الكريم في هذه الآية يرد على هذا الافتراء منهم، وذلك بدعوتهم إلى إعمال عقولهم في التدبر بجانب هذه الاعتبارات التي ذكرناها، ليتدبروا في حاله، هل أنتم لا تعرفونه قبل النبوة؟ أنتم تعرفونه جيداً. فهو يستشهد هنا على المطلوب بما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة حضور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائناً من كان: ((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) أي: عشت فيكم أربعين سنة أو أكثر من أربعين سنة، وما جربتم علي كذباً قط، حتى إنهم كانوا يسمونه: الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى قال لهم أيضا: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69] أي: فهو لم يظهر فيهم بين عشية وضحاها، بل هم يعرفون جيداً أنه أمي، وأنه في الفترة التي عاش بين ظهرانيهم لم يؤخذ عليه أبداً أي شائبة كذب أو افتراء في حق أي مخلوق من الناس كائناً من كان. يقول تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17]. في هذه الآية تظليم الذي يفتري على الله الكذب، أو يقول: ((أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ))، أي: أن أقبح معصية في الوجود أن يكذب على الله، فإذا كان صلى الله عليه وسلم يتنزه عن الكذب على الناس وأنتم تشهدون بصدقه، فهل يتصور عاقل أن شخصاً يترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله ويدعي أنه رسول كذباً وافتراء؟! هذا لا يمكن أن يقع، ولذلك استدل هنا بسيرته السالفة فيهم: ((فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ)) تعرفون خلقي، وتعرفون نزاهتي عن الكذب، وقد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلاً عما فيه كذب أو افتراء، ((أَفَلا تَعْقِلُونَ)) أن من هذا شأنه مستحيل أن يفتري على الله، فلا يعقل أن يفتري الرسول على الله شريعة يترتب عليها سلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك من عند نفسه، إنما الذي أتى به وحي مبين، تنزيل من رب العالمين لا شك في ذلك. وهذا هو المعنى الذي اقتصر عليه ابن كثير، ثم استشهد بقول هرقل ملك الروم لـ أبي سفيان، حيث أوقف خلفه من كان مع أبي سفيان من تجار المشركين فقال هرقل لهم: إذا جربتم عليه أي كذب فنبهوني بأنه يكذب، فقال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه. فقال له هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. أي: من أنه رسول من عند الله؟ قال أبو سفيان فقلت: لا. وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء. فقال له هرقل بعد ذلك: أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم ليكذب على الله. فـ هرقل كبير النصارى وعظيمهم، ومع ذلك شهد بالحق، وكذلك أبو سفيان نفى عنه الكذب فكلاهما نزهاه عن الكذب والافتراء. وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة: بعث الله فينا رسولاً نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة. وعن ابن المسيب أنها كانت ثلاثاً وأربعين سنة، والصحيح المشهور الأول. فمن أجل ذلك قال تبارك وتعالى: ((قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا)

تفسير قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17]. ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)) أي: كيف أفعل ذلك وهو أقبح الظلم؟ وهذا استفهام إنكاري معناه الجحد، أي: لا أحد أظلم ممن تقول على الله تعالى وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه. ((أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ)) أي: كفر بآياته، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسلام. ((إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)) أي: لا ينجون من محذور ولا يظفرون بمطلوب. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} [الأنعام:93]. وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي وعد صادق بلا مرية، فإن مفتريه يبوء بالخزي والنكال، ولا يشتبه أمره على أحد بحال، فلا بد أن يفضحه الله وأن يهتك ستره ولا يروج كذبه على الناس، والأمثلة كثيرة جداً ابتداءً من مسيلمة الكذاب وسجاح وانتهاءً بمن ادعوا النبوة في العصر الحديث مثل أحمد القادياني. ذكر أن عمرو بن العاص رضي الله عنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم عمرو، وكان صديقاً له في الجاهلية، فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو وماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة -يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورةً عظيمةً قصيرة، فقال: وما هي؟ قال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. ففكر مسيلمة ساعة، ثم قال: وأنا قد أنزل علي مثله فقال: وما هو؟ قال: يا وبر يا وبر! إنما أنت أذنان وصدر! وسائرك حقر نقر! كيف ترى يا عمرو؟! فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب. فانظر كيف يفضحه الله سبحانه وتعالى، كل من أراد أن يجاري القرآن الكريم، أو يأتي بمثل القرآن في زعمه لا بد أن يهتك ستره، ويأتي بالكلام المضحك كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، ذو ذنب قصير وخرطوم طويل، إلى آخر هذا الكلام. وهكذا تجدهم لا يستطيعون أن يتخلصوا من أسر القرآن، فلا يستطيعون الابتكار، بل يحاولون أن يحاكوا القرآن، وفي نفس الوقت يأتون بكلام يضحك العقلاء منهم، فهذه آية في أنه لا يمكن أبداً أن يفلح هؤلاء المجرمون. ثم إن من أعظم أدلة صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى رفع من ذكره في الآفاق، ومكن لدينه في الأرض، واستخلف أمته على العالمين، وظهور الدين بهذه الصورة يعتبر عند العقلاء من أدلة صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، فهذا عبد الله بن سلام كان أكبر علماء اليهود في المدينة، يقول: عبد الله بن سلام: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً انجفل الناس -أي: أسرع الناس- إليه فكنت فيمن انجفل إليه، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فكان أول ما سمعته يقول: أيها الناس! أفشوا السلام وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، وفي ذلك يقول حسان رضي الله عنه: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر يعني: لو لم يؤيده الله سبحانه وتعالى بالآيات وبالمعجزات عليه الصلاة والسلام، كانت بديهته وشكله ومظهره يأتيك بالخبر أنه صادق.

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم)

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]. ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)) أي: الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر، والمقصود أن المعبود من شأنه أن يقدر على النفع والضر، وهؤلاء يعبدون ما لا ينفعهم وما لا يضرهم، إذاً لا يستحقون العبادة. ((وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) أي: أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده؟ وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، يعني: هل تخبرون الله بشيء هو لا يعلمه؟ إن هذا الشيء الذي تقولونه معدوم لا وجود له، فلذلك يقول تعالى هنا: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)). الله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، وهو عليم بكل شيء، وهو العالم المحيط بجميع المعلومات. فإن قلت: كيف أنبئوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم؛ لأنهم لم يقولوا: نحن نخبر الله بأن هؤلاء شفعاؤنا عند الله، أو نعلم الله بما لا يعلمه، لكن الأسلوب تهكم، أي: أنكم تفترون على الله، فمن أين لكم أن هؤلاء يشفعون لكم عند الله؟ أهو أخبركم بذلك أم عندكم علم ليس عند الله؟! فهو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبئوا به باطل. وقوله: ((قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)) تأكيد لنفي هذا الزعم الذي يزعمونه، وهو غير موجود لا في السماوات ولا في الأرض، فإذاً هو شيء منتفٍ معدوم لا وجود له. ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) أي: عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم.

تفسير قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا)

تفسير قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس:19]. ثم يشير سبحانه وتعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع فطرةً وتشريعاً، وذلك في قوله عز وجل: ((وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: حنفاء متفقين على ملة واحدة، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد. ((فَاخْتَلَفُوا)) أي: باتباع الهوى وعبادة الأصنام، فالشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة؛ صرفاً للناس عن وجهة التوحيد، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة. ((وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ)) أي: بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة، وهذا هو تفسير هذه الكلمة حيثما وردت في القرآن، ومن ذلك قوله: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] وقوله: {حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [يونس:96] أو {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر:6] {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [فصلت:45] أنها تكون يوم القيامة، وكذلك قوله تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] كما حقق ذلك العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان. ((لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)) أي: عاجلاً. ((فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) بتمييز الحق من الباطل وبإبقاء المحق وإهلاك المبطل.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه) قال تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:20]. ((وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ))، إن الله سبحانه وتعالى لم يرسل رسولاً ولا نبياً إلا وجعل له معجزة وأدلة على صدق النبوة، وأيده بالبراهين على صدقه، لكنهم يقصدون: لولا أنزل عليه آية من الآيات التي نقترحها نحن تعنتاً وعناداً، وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آيةً باقيةً على وجه الدهر بديعةً غريبةً. وقال: ((فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ)) أي: أنه المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، والله سبحانه وتعالى لا يستجيب لاقتراحاتهم في إنزال الآيات. ((فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)) [يونس:20] أي: فيما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم، فإن العاقبة للمتقين، فانتظروا أنتم نزول عذاب الله بكم، وأنا أنتظر أن العاقبة للمتقين، وقد قال تعالى في آية أخرى {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:59] هذا هو المانع من إنزال الآيات. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس:96 - 97] فلا تزيدهم الآية أي نفع. وقال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] وقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15]. فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم لفرط عنادهم، ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم لإعجازه، كان طلب آيات أخرى سواه مما لا حاجة له في إثبات صحة نبوته وتقرير رسالته، فمثلها يكون مفوضاً إلى مشيئة الله تعالى فترد إلى غيبه، وسواء أنزلت أم لا، فقد ثبتت نبوته ووضحت رسالته صلوات الله وسلامه عليه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء منهم)

تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء منهم) أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج، مشيراً إلى أنهم لا يذعنون ولو أجيبوا لمقترحهم، بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشف الضر عنهم إلى الإشراك فقال عز وجل: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس:21]. فهذه عادتهم المضطربة أنهم يلجئون إليه سبحانه وتعالى عند الشدائد، ثم إذا كشف عنهم الضر عادوا لسيرتهم الأولى، فهذا أمر معتاد منهم. وقوله: ((مَسَّتْهُمْ)) أي: خالطتهم حتى أحسوا بسوء آثارها فيهم. ((إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا)) أي: يتبين مكرهم ويظهر كامل شركهم، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن، ثم ينجلي أمره بعد، فيمكرون بآيات الله سبحانه وتعالى: ((قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)) أي: أن عذابه أسرع وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق، وتسمية العقوبة بالمكر؛ لوقوعها في مقابلة مكرهم وجوداً أو ذكراً. ((إِنَّ رُسُلَنَا)) أي: الذين يحفظون أعمالكم. ((يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)) أي: مكركم، وهو تحقيق للانتقام، مع أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلاً عن العليم الخبير الذي لا يغيب عنه شيء من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر) ثم يبين تعالى نوعاً من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر، فقال عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]. ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ)) أي: السفن. ((وَجَرَيْنَ بِهِمْ)) أي: جرت السفن بالذين فيها. ((بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)) أي: لينة الهبوب. ((وَفَرِحُوا بِهَا)) لأمن الآفات. ((جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ)) أي: ذات شدة. ((وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ)) أي: أحاط بهم أسباب الهلاك، وهي شدة الموج والريح. ((دَعَوُا اللَّهَ)) للتخلص منها. ((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) أي: الدعاء؛ لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره. ((لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) أي: العابدين لك شكراً على إنجائنا من هذه الهلكة.

تفسير قوله تعالى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق)

تفسير قوله تعالى: (فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق) قال تعالى: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23]. ((فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) أي: يفسدون في الأرض بغير الحق، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه. والحقيقة أن الإنسان يعجب ممن يواقعون الشرك في زماننا ممن ينتسبون للإسلام، كم نسمع قصصاً وأساطير وخرافات أنه لما غرق مركب شخص قال: يا سيدي عبد القادر لو أنجيتني سأعمل كذا وكذا، فلما دعا السيد عبد القادر هذا أنجاه! ثم ينشر مثل هذه الأكاذيب والأساطير وتروج في الناس. وتمر مثل هذه الشركيات ولا كأن هؤلاء ناس موحدون يشهدون أن لا إله إلا الله، بينما المشركون الوثنيون يخلصون الدعاء لله عند الشدة، أما هؤلاء فهم يشركون بالله سبحانه وتعالى في الشدة، فهذا مما حذا ببعض العلماء إلى أن يقول: إن مشركي الزمان الأول كانوا أفضل من مشركي زماننا، أي لأن هؤلاء حينما يقعون في الشدة يدعون الدسوقي والبدوي والحسين وغير هؤلاء. كل بلد لها قصة وأساطير يتداولونها ويزينها الشيطان لهم؛ حتى يضلهم عن التوحيد. يوجد في مسجد قبر لشخص اسمه سيدي العوام، وهو بحار يوناني غرق في المركب فقذفت به الأمواج على الشاطئ، وهو الآن يعبد من دون الله في مدينة مطروح، ومسجد العوام أكبر مسجد. بعض الناس كما حكى بعض العلماء في كتبهم: أنه في المحكمة يأتي الشخص ويحلف كذباً يميناً غموساً باسم الله سبحانه وتعالى وبمنتهى السهولة، وإذا قيل له: احلف بالولي الفلاني يتلعثم ويقول الحق وينفي ما قاله من قبل. الحقيقة هناك مظاهر من الشرك في غاية الخطورة. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) أي: الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص، نسيتم نعمة النجاة التي حصلت لكم بسبب أنكم دعوتم الله وحده مخلصين له الدين، ونعمة استجابة الدعاء الذي زعمتموه. ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) هذا الفساد الذي اقترفتموه وباله عليكم ((مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) فقط، ((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: في الدنيا، وهو وعيد بأن الله سوف يجازيهم على هذا البغي.

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم)

أقوال المفسرين في قوله تعالى: (إنما بغيكم على أنفسكم) قال القاشاني معلقاً على عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] البغي ضد العدل، فكأن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيئة وحدانية لها فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل، بحيث يستلزمها جميعاً، فصاحبها في غاية البعد عن الحق ونهاية الظلمة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الظلم ظلمات يوم القيامة) فلهذا قال: ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أي: أن الجزاء من جنس العمل. الإنسان إذا ظلم وبغى فهو في الحقيقة لا يظلم المظلوم، لكنه يظلم نفسه، ولذلك لما قال الحجاج لـ سعيد بن جبير: انظر يا سعيد! أي قتلةٍ تريد أن أقتلك بها! قال له: اختر لنفسك يا حجاج! فوالله ما تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها يوم القيامة. وهذا في صحيح مسلم. فهذا معنى ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) كما تدين تدان، كما تفعل بالناس يفعل بك. إذاً: المقصود من قوله: ((إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أن بغيكم يعود عليكم، لا على المظلوم وحده، والمظلوم يسعد ثم يشقى الظالم غاية الشقاء، ولذلك لما سئلت أسماء ذات النطاقين رضي الله تعالى عنها، حيث سألها الحجاج عن مصير ابنها الذي قتله وصلبه قالت: (أراك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك) أي: أفسدت عليه دنياه بالقتل، لكن هو أفسد عليك آخرتك بالوبال وبالعذاب الذي ستلقاه يوم القيامة. فالمظلوم يسعد ويثاب، والله سبحانه وتعالى يستجيب دعوته، أما الظالم فإنه يشقى ببغيه وظلمه غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا، إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية ولذات حيوانية تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة الزوال وقلة البقاء مثل تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات السريعة قبل الانتفاع بنباتها. ((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) أي: سنجازيكم به مما يتبعه من الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم، وفي الحديث (أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة) لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى. يقول القاسمي: وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، فالله يعاجلهم بالأخذ؛ وذلك لمبارزتهم الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهم إياه في حكمته وعدله.

تفسير قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)

تفسير قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) ثم يبين تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها، وقرب زمان الرجوع الموعود بقوله عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]. ((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ)) أي: امتزج به لسريانه فيه. فهذه الباء للمصاحبة، أو هي للسببية بمعنى: اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضاً، والأول أظهر، أي أن الذي اختلط به نبات الأرض وامتزج به هو الماء؛ لأنه يسري في داخل النبات. ((مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ)) من الزروع والثمار والكلأ والحشيش. ((حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا)) حسنها وبهجتها. ((وَازَّيَّنَتْ)) بأصناف النبات. ((وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا)) أي: متمكنون من تحصيل حبوبها وثمارها وحظها. ((أَتَاهَا أَمْرُنَا)) أي: عذابنا ((لَيْلًا أَوْ نَهَارًا)). ((فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا)) أي: كالمحصود من أصله الذي قطع من جذره ((كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ)) كأن لم تنبت قبيل ذلك الوقت القريب. ((كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ)) أي: بالأمثلة تقريباً. ((لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) أي: في معانيها.

تفسير قوله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]، لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام، أي: دار السلامة من الآفات والنقائص، بينما الدنيا معرضة للآفات كما مر. فإذاً وصف الله سبحانه الدنيا بدار الآفات لأن الجنة تقابلها، فالله وصفها بأنها سليمة من الآفات، وذلك بقوله: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: التي ليس فيها آفات ولا نقائص ولا تكدير ولا تنغيص ولا مرض، ولا نصب، ولا شيخوخة، ولا عناء، ولا أذى، إنما هي كمال في كمال، وسالمة من كل الآفات والنقائص، ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)).

يونس [26 - 39]

تفسير سورة يونس [26 - 39]

تفسير قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)

تفسير قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:25 - 26]. ذكر الله سبحانه وتعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام، أي: من الآفات والنقائص، فقال سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25]. ((اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته. ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: إلى دين قيم يرضاه وهو الإسلام. ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)). أي: للذين أحسنوا النظر فعرفوا الدنيا وشهواتها فأعرضوا عنها، وتوجهوا إلى الله تعالى فعبدوه كأنهم يرونه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى قوله: ((للذين أحسنوا)) أي: عبدوا الله كأنهم يرونه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فكما أنهم أحسنوا جازاهم الله سبحانه وتعالى بالحسنى من جنس عملهم. والمقصود بالحسنى المثوبة، وهي الجنة، ثم هناك فضل وزيادة على هذه المثوبة كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:173] وأعظم أنواع هذا الفضل النظر إلى وجهه الكريم، ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحدٍ من الصحابة والتابعين ورفعها ابن جرير إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي موسى وكعب بن عجرة وأبي رضي الله عنهم وكذا ابن أبي حاتم. وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) وقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه عز وجل، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) وهكذا رواه مسلم أيضاً. ((وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ)) أي: ولا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات. ((وَلا ذِلَّةٌ)) أي: ولا يوجد على وجوههم أثر الذل والهوان، وكسوف البال من أثر الالتفات إلى ما دون الله تبارك وتعالى، وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة ((وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ)) مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة؛ لأن فيها تنبيهاً على إكرام وجوههم بالنظر إلى الله تعالى. هذه الوجوه الذي كرمت وشرفت بالنظر إلى الله سبحانه وتعالى هي جديرة ألا ترهق بقتر البعد ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين، فإن وجوههم مرهقة بقتر الحجاب وذلة البعد. ((أُوْلَئِكَ)) أي: الذين أحسنوا ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها…)

تفسير قوله تعالى: (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها…) {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27] الشرك والمعاصي. ((جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)) أي: واق يقيهم العذاب. ((كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ)) أي: كأنما ألبست وجوههم. ((قِطَعًا)) أي: أجزاءً. ((مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا)) لشدة السواد والظلمة التي على وجوههم والعياذ بالله؛ بسبب الشرك والمعاصي، فكأنهم لبسوا ثوباً أسود غطوا وجوههم به، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم. ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا إن كنا عن عبادتكم لغافلين)

تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً إن كنا عن عبادتكم لغافلين) لقد بين تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي فقال عز وجل: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس:28]. ((وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)) أي: نحشر المشركين ومعبوداتهم، الضمير في قوله: (نحشرهم) عائد على المشركين ومعبوداتهم التي عبدوها من دون الله؛ للمقاولة بينهم. ((ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا)) أي: أشركوا معبوديهم بالله. فهؤلاء في هذه الحالة وقد حشروا مع هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها، يتوقعون أن تشفع لهم هذه الآلهة كما كانوا يؤملون من قبل، فيجمع الله سبحانه وتعالى العابدين والمعبودين من دونه في نفس الموقف فيقول الله سبحانه وتعالى لهم: ((مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ)) أي: الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. قال القاشاني: معناه: قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم، وتبرؤ المعبود من العابد لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب ذلك الوصل ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)) أي: مع أنهم مجموعون في موقف واحد وفي صعيدٍ واحد، لكن فرق الله سبحانه وتعالى بينهم وقطع الوصل الذي كان بينهم، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة ولا من المعبودين إفادتها، ولو أمكنتهم فرضاً. ((وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)) إذ لم تكن عبادتكم عن أمرنا، وإنما كنتم تعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمركم بهذه العبادة، فأنتم ما عبدتمونا نحن بل عبدتم الشيطان، كما يقول إبليس لهم في الخطبة التي يخطبها: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22]. فجميع الآلهة التي عبدت من دون الله كاللات والعزى وغيرهما يقولون: ((مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)) أي: يتبرءون منهم. قال بعض المفسرين: إن هذه الأوثان جمادات وهي لا تنطق، فمن ثم ذهب بعضهم إلى أن هذا مجاز، وقال بعضهم: بل ينطقها الله سبحانه وتعالى الذي أنطق كل شيء، فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها، وتحملهم مسئولية هذا الشرك. {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس:29]. أي: الله يعلم أن ما أمرناكم بذلك، وما أردنا عبادتكم إيانا.

تفسير قوله تعالى: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)

تفسير قوله تعالى: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) {هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30]. ((هُنَالِكَ)) في ذلك المقام المدهش حين قطع المواصلة، وإنكار الشركاء العبادة لهم ممن عبدهم. ((تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ)) تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل فتعاين أثره من قبيح وحسن، ورد وقبول، كما يختبر الرجل الشيء ليتعرف حاله، وهذا كقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13]، وقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9]. ((وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)) الضمير يعود على الذين أشركوا، أي: هؤلاء المشركون ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط. ((وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم وأصول دينهم ومذهبهم، وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة، فلم يبق له أثر فيهم. وفي هذه الآية توبيخ شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة منه. والمشركون أنواع وأقسام، وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه وبين أحوالهم، ورد عليهم أتم رد.

تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض)

تفسير قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض) لقد احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده وذلك بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]. ألزمهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على وجوب توحيد العبادة والألوهية. ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) بالإمطار والإنبات، ولا يكون ذلك إلا ممن له التصرف العام فيهما، فلا يمكن أن يصدر هذا الرزق إلا ممن يملك ما في السماوات وما في الأرض، وهو الله سبحانه وتعالى. ((أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ)) من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي هي عليه من الفطرة العجيبة؟! قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [الملك:23]. ((وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) يخرج النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب. ((وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)) كأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج الرجل المؤمن من ظهر أب كافر، ويخرج الرجل الكافر من الأب الصالح، فالحياة هنا والموت باعتبار الإيمان والكفر. ((وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) أي: من يلي تدبير أمر العالم كله؟! وهذا تعميم بعد تخصيص أي: ما تقدم آنفاً وكل الأمور. ((فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)) إذ لا مجال للمكابرة لشدة وضوحه. لم يقل تبارك وتعالى: (قالوا الله)، لكن قال: (فسيقولون الله) فألزمهم بهذا الجواب؛ لأنهم لا يملكون إلا هذا الجواب، لشدة الوضوح في هذه الحقيقة. ولو قالوا بخلاف هذا الجواب فلن يكون هذا إلا عن مكابرة. ((فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: بعد اعترافكم أنه لا يملك هذا كله إلا الله سبحانه وتعالى؛ أفلا تتقون وتخافون من غضبه لعبادة غيره اتباعاً للهوى؟!

تفسير قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فإنى تصرفون)

تفسير قوله تعالى: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فإنى تصرفون) {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس:32]. ((فَذَلِكُمُ)) إشارة إلى من هذه قدرته وإلى من هذه أفعاله سبحانه وتعالى. ((فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ)) أي: الثابت الدائم في وحدانيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر. ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)) أي: لا توجد مرتبة متوسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق وقع في الضلال. فما بعد أحقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه وعبادة غيره انفراداً أو شركة. ((فَأَنَّى تُصْرَفُون)) عن الحق الذي هو التوحيد إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق لكل شيء؟!

تفسير قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا)

تفسير قوله تعالى: (كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا) {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33]. ((كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)) أي: ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا وخرجوا إلى الحد الأقصى في هذا الكفر. إعراب كلمة: ((أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) بدل من قوله تعالى: ((كَلِمَةُ رَبِّكَ)) يعني: حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله سبحانه وتعالى منهم ذلك. أو أراد بقوله: ((كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) أنهم سوف يعذبون. وقد سبق من قبل أن ذكرنا: أن الأصل في تفسير مثل هذه المواضع: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] أو: ((حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) أنها إشارة إلى قوله تعالى: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]. وكذلك قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19]. قوله: ((عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)) لم يقل: عليهم، فقد مر ذكرهم فيما قبل، لكن أظهر موضع الإضمار للإشعار بالعلية لهذا الوعيد من كونهم فسقوا. والفسق هنا هو التمرد في الكفر، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم لتمردهم وكفرهم، ولأنهم لا يؤمنون، وهو تكرار.

تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده)

تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) لقد احتج أيضاً على أحقية التوحيد وبطلان الشرك، بما هو من خصائصه عز وجل من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس:34]. ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: هل يوجد أحد من هذه الآلهة التي تشركون بها مع الله سبحانه وتعالى من يبدأ الخلق من النطفة، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ثم يحييه يوم القيامة ليجزيه بما أسلف في الأيام الخالية؟! وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها إيذاناً بظهور برهانها من الأدلة القائمة على الإعادة والبعث والنشور سمعاً وعقلاً، وأن إنكارها مكابرة وعناد لا يلتفت إليه. يعني: كنتم تقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي بدأ الخلق، فليس لكم عذر في أن تجحدوا أنه يعيد الخلق؛ لأن الذي يقدر على الإبداء قادر بطريق الأولى على أن يعيده. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك بقوله: ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)) أي: كيف تصرفون إلى عبادة غيره ممن لا يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق)

تفسير قوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق) ثم احتج عليهم أيضاً إفحاماً إثر إفحام بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس:35]. ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) أي: يهدي إلى الحق بوجه من الوجوه كبعثة الرسل، وإيتاء العقل، وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر، فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الحق من وجوه عديدة، فهو الذي بعث الرسل ليهدوا ويوضحوا ويبينوا، وهو الذي أعطاهم العقل؛ كي يستعملوه في الاهتداء إلى التوحيد، وهو الذي بث لهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم؛ كي يعملوا عقولهم ويتفكروا في هذه الآيات، ويستدلوا بها على توحيد الله سبحانه وتعالى، وهو الذي وفقهم وخلق فيهم القدرة؛ كي يتدبروا في هذه الآيات ويصلوا إلى توحيده عز وجل. فهل من شركائكم من عنده القدرة على الهداية إلى الحق كما فعل الله سبحانه وتعالى بهذه الوجوه وغيرها؟! ((قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) وهو الله سبحانه وتعالى: ((أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ)) أي: يعبد ويطاع. ((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) أم من لا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى، نزل منزلة من يعقل لإفحامهم، بمعنى: هل الله سبحانه وتعالى أحق أن يعبد ويطاع، أم هذه الأوثان التي لا يمكن لها أن تهتدي إلا أن يهديها الله؟! فكيف يتصور أن مثل هذه الآلهة تعبد من دون الله، وهي عاجزة عن هداية نفسها فضلاً عن معبوديها؟! وهي أحجار لا تسمع ولا تملك نفعاً ولا ضراً. وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل؛ لأنه لا يستطيع أن يتحرك حتى يأتي من يحركه وينقله، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه. وإذا كان هذا شأن المخلوق الجماد الضعيف غير القادر، فالإنسان نفسه الذي أكمل من هذا الجماد. أما هذا الإله الصنم من الخشب أو الحجر فهو يحتاج إلى أن يترقى أولاً إلى مستوى من يعبده، أي: يترقى من كونه خشباً أو حجراً إلى أن يصبح كائناً حياً تنفخ فيه الروح، ثم يكون مكلفاً عاقلاً كبني آدم، ثم يخلق الله سبحانه وتعالى فيه إرادة الهداية، فإنه: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]. بهذه الكيفية يتضح لنا أن العابدين أفضل من الأنداد والأوثان المعبودة؛ لأنهم أحياء لهم أرواح ولهم عقول ولا يهتدون إلا أن يهديهم الله سبحانه وتعالى. وقد قرئ: ((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) وقرئ ((أمن لا يَهدِي إلا أن يهدى)) والعرب تقول: يهدِّي بمعنى: يهتدي، يقال: هديته فهدي أي: اهتدى. (فما لكم) مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب. أي: أي شيء لكم باتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم فضلاً عن هداية غيرهم شركاء؟! ((كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) مستأنف أي: كيف تحكمون بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد لله.

تفسير قوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا)

تفسير قوله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً) قال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:36]. ((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ)) أي: في اعتقادهم ألوهية الأصنام. ((إِلَّا ظَنًّا)) اعتقاداً غير مستند إلى برهان، بل لخيالات فارغة وأقيسةٍ فاسدة. والمراد بالأكثر هنا الجميع. ((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ)) أي: من العلم والاعتقاد الحق ((شيئاً)) أي: من الإقناع. ((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)) وعيد على ما يفعلون من اتباع الظن وإعراضهم عن البرهان. يلفت الرازي رحمه الله النظر إلى وجود ارتباط وثيق في القرآن الكريم بين آية الخلق وآية الهداية. يقول الرازي في هذه الآيات: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:34 - 36]: اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً عادة مطردة في القرآن، فحكى الله تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]. وحكى عن موسى عليه السلام في سورة طه: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3]. فذكر الخلق ثم الهداية، وهو في الحقيقة دليل شريف؛ لأن الإنسان له جسد وروح، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: (أمن يبدئ الخلق ثم يعيده) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]. ((أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)) أي: هذا الجسد، ثم بعد ذلك جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة تعلمون بها ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد وإنما أعطى الحواس؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم. ثم يقول: فالأحوال الجسدية خفيفة متعلقة بالحواس، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونةٌ عن الفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية. والمقصود أن الأشرف والأعلى هو حصول الهداية؛ ولكن لاضطراب العقول وتشعب الأفكار، كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده، والهداية إما أن تكون عبارةً عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها، وعلى كلٍ فقد بينا أنها أشرف المراتب وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تبارك وتعالى، وهذه أدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى أنه الذي خلق ثم هدى. أما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضا وسفهاً. فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.

تفسير قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله) قال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:37]. ثم بين تعالى بعد ذلك أحقية هذا الوحي المنزل رجوعاً إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزل عليه صلى الله عليه وسلم، ودلائلها في آيات الله الكونية، والمنبئة عن عظيم قدرته، وجليل عنايته بهداية بريته، فقال عز وجل: ((وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ)) إشارة إلى أن هذا شيء ممتنع لا يمكن أن يقع أبداً؛ لأنه كلام الله عز وجل، ولأنه معجزة تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكون من هو دون الله يقدر على هذه المعجزة ينفي كونها معجزة، ولذلك تحداهم الله سبحانه وتعالى كما سنرى عما قريب. في الحقيقة نحن تعودنا أن نتلو أمثال هذه الآيات الكريمات في موضوع التحدي بإعجاز القرآن الكريم، وقل من يعطي قضية إعجاز القرآن الاهتمام الذي ينبغي له. كلنا ولله الحمد نؤمن إيماناً عاماً بأن القرآن هو المعجزة الخالدة والعظمى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن قليل منا من يتفرغ ويعطي جهداً كما ينبغي لدراسة هذه القضية، فالمفروض أن كل واحد منا طلبة العلم يحفظ كل ما يدل على إعجاز القرآن كاسمه؛ حتى إذا كان أمام رجل كافر وطالبه بأن يقيم له الحجة على أن القرآن معجزة، استطاع ذلك، ورد على الشبهات بحيث لا يبقى أمام هذا الكافر إلا التسليم، أما إذا أصر على كفره فيكون مكابراً معانداً، لا عن شبهةٍ ولا عن قصور في إقامة الحجة عليه. فقضية إعجاز القرآن من القضايا المهمة التي ينبغي أن تدرك خاصة في قضايا العقيدة؛ لأن هذه أجلى وأعظم آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي ما على مثله آمن البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ لأن المعجزة القرآنية معجزة علمية دائمة، وليست معجزة حسية ظهرت ثم لم يعاينها إلا من رآها، كشق البحر لموسى بالعصا، أو إحياء الموتى لعيسى عليه السلام، أو غير ذلك من المعجزات التي ظهرت في زمن معين ولم تدم، بل الحجة بالقرآن قائمة على كل مخلوق على ظهر الأرض إلى يوم القيامة، فهل من ينتسبون إلى العلم قد أتقنوا أدلة هذه المعجزة العظيمة؟ فيما طالب العلم! أنت مسئول عن أن تتقن كيف تدلل على إعجاز القرآن الكريم. والنظر في إعجاز القرآن الكريم يفتح باباً عظيماً من أبواب التأمل في كلام الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا وقف أمامك عنيد، قسيس، حاخام، يهودي، مشرك، وثني، مادي، أو ملحد، وقلت له: القرآن معجزة، فهو لن يكتفي أن تقول له: القرآن معجزة، ولابد أن تأتي بالأدلة على هذا الإعجاز. ((وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)) أي: هذا القرآن أتى مصدقاً للتوراة والإنجيل والزبور في التوحيد، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنتها هذه الكتب. منصوب على أنه خبر كان، وقرئ بالرفع خبراً لمحذوف أي: هو تصديق الذي بين يديه. وبذلك يتعين كونه من الله تعالى؛ لأن القرآن الكريم إذا كان يصدق ما في الكتب السابقة فيتعين كونه نازلاً من عند الله سبحانه وتعالى، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يقرأ هذه الكتب السابقة لأنه أمي، ولم يجالس أهلها، ومع ذلك فالكلام الذي جاء به خرج من نفس المشكاة التي خرج منها التوراة والإنجيل، فلذلك صدق بعض هذه الكتب بعضاً وهذا مطرد كما هو معلوم، فهذا ورقة بن نوفل لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم من سورة العلق قال: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى) انظر كيف ربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام. كذلك النجاشي لما قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم قال: (إن هذا والذي جاء به موسى خرج من مشكاةٍ واحدة) أي: خرج من منبع واحد. ((وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ)) أي: وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع. وهذا مثل قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء:24] أي: حكم الله عليكم، وقد قال علي رضي الله عنه في القرآن الكريم: فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم. ((لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) أي: هذا الكتاب منتفٍ عنه الريب كائناً من رب العالمين. قال أبو السعود: ومساق الآية بعد المنع من اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه. وكما قلنا من قبل: من تأمل معاني التفسير لم يخطئ في حفظ الآيات، فانظر التسلسل الطبيعي للآيات السابقة مثل قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:36]، فهذه الآية تمنع من اتباع الظن، ثم الآية التي بعدها تبين ما يجب اتباعه، فإذا كان الإنسان يذم باتباع الظن فإننا على الجهة الأخرى مأمورون باتباع الحق الذي لا ريب فيه، وهو القرآن الكريم، ولذلك جاء بعد قوله عز وجل: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:36 - 37].

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله) قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38] هم لا يكتفون بالكفر بالقرآن الكريم بل يضيفون إلى ذلك ما هو أعظم وأفظع، حيث زعموا أن الرسول عليه الصلاة والسلام افتراه، ولذلك أضرب عنها بحرف الإضراب، فـ (أم) هنا كما يقول جمهور المفسرون: هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، ومعنى الإضراب: بل أيقولون افتراه؟! والهمزة للإنكار، أي: ما كان ينبغي أن يقولوا: إنه افتراه. وقيل: أيقرون به بعد ما بينا حقيقته أم يقولون افتراه، ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)) أي إن كان الأمر كما تزعمون، فائتوا بسورةٍ مثله في البلاغة وحسن الصياغة وقوة المعنى، ليس هذا فحسب، بل قال لهم: ((وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) أي: ادعوا من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله إن صدقتم في ادعائكم أني اختلقته، فإنه لا يقدر على ذلك أحد، كما قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. قال أبو السعود: وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء للتنصيص على براءتهم منه تعالى؛ لأنهم ليسوا من الله في شيء وليس الله منهم في شيء؛ لأنهم في شق والإسلام والقرآن في شق آخر مباين، فالله سبحانه وتعالى بريء منهم كما أنهم بريئون منه سبحانه وتعالى، فهم في جهة معادية ومضادة ومشاقة ومحادة لله سبحانه وتعالى، بحيث ليس لهم أن يقولوا نحن سندعو الله، لذلك قال لهم: ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)

تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس:39]. ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)) إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم، وذلك ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل، بحيث أبطل زعمهم أن القرآن العظيم مفترى من دون الله، وذلك بالتحدي: ((قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) في أنه مفترى، وفيه إشارة إلى أن الإنسان عدو ما يجهله، فهم عادوا القرآن الكريم؛ لأنهم يجهلون حقيقته، فلذلك ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)). وهذه الآية تحتاج إلى تأمل كثير جداً، فإنها في غاية الروعة، فقوله: ((بَلْ كَذَّبُوا)) أي: فهم فعلوا أفظع مما مضى من قولهم: إن القرآن مفترى، وذلك أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، أي: أنهم ربوا على العصبية وعلى العناد، فإنهم يتوارثون ذلك جيلاً عن جيل في شأن الإسلام وفي شأن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] كأن كل جيل لا يندثر حتى يهمس في أذن الجيل القادم أن إذا دعيتم للإسلام فكذبوا به ولا تتبعوه. فشأن الكافر التردد في مثل هذه الأضاليل والأباطيل، كما جاء في سؤال الملكين للكافر في القبر عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيقولان له: (ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ها ها لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، ما حقق ولا تحرى ولا بحث عن الأدلة ولا ناقش، وإنما ردد ما يقوله غيره، في حين أنه كان في غاية الاهتمام بأمور الدنيا وشئونها وأحوالها، أما في هذا الأمر الخطير الجلل فإنه اكتفى بأنه يردد ما قيل له. يقول الزمخشري: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)) أي: سارعوا إلى التكذيب به، وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وما فيه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم. والقصص في الحقيقة كثيرة جداً في مصداق هذه الآيات الكريمات، ولذلك ذكرنا في بداية الكلام أن أكثر الكفار يكذبون بالقرآن؛ لأنهم لا يعلمون ما في القرآن، وهناك أناس غلظت قلوبهم وتحجرت، وعميت أبصارهم وبصائرهم، حتى لو اطلعوا على ما في القرآن فإنهم يصرون على الكفر والعناد، لكن الغالب أن من تصفح القرآن الكريم وتأمله وأحاط به علماً، أو ببعضه، فإن القرآن يهديه إلى الإسلام، لأنه قد انتفى عنه الوصف المذكور في هذه الآية: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)) فيشع من هذا القرآن أنوار تنير قلبه وتهديه إلى الإسلام، وأقرب قصة في ذلك قصة القسيس الكبير المعروف هنا في مصر إبراهيم خليل أحمد رحمه الله، فقد كان من أكبر القساوسة المنصرين، وكان له نشاط كبير جداً، وذات مرة في الصعيد كان ذاهباً إلى قاعة المؤتمر، وكان مكلفاً بأن يعد بحثاً ليطعن في القرآن الكريم، ويطعن في الإسلام من خلال القرآن الكريم، لكنه كلما اجتهد أن يهزم القرآن قهره القرآن وغلبه، إلى أن انتهى به الأمر أن يعلن إسلامه في النهاية، وقال الكلمة المشهورة: أردت أن أقهر القرآن فقهرني القرآن. فهو تعامل مع القرآن مباشرة وتأمله لا من خلال الكتب المسمومة. ثم يقول الزمخشري في معنى قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)): وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها في أول وهلة، واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه، من غير فكر في صحة أو فساد؛ لأنه لم يشعر قلبه إلا بصحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. في هذا إشارة إلى أن من واجب الأمة الإسلامية أن تنشر إعجاز القرآن وأن تناظر وتدعو بحقائق القرآن وبدعوة القرآن خاصة إلى التوحيد؛ لأن كثيراً من الناس نتيجة الجهل بالمنهج النبوي في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يقول لك: كيف أناقش الكفار بالقرآن وهم لا يؤمنون بالقرآن؟ وهذا من المزالق الخطيرة في الدعوة، فالقرآن من أوله إلى آخره يخاطب المؤمنين ويخاطب أيضاً الكافرين: (يا أيها الناس) (يا أيها الكافرون)، فمن أنجع وسائل الاستدلال في الدعوة أن يستدل بالقرآن الكريم، فالقرآن ما نزل إلا ليناظر به المشركون وتقام عليهم به الحجة. والإعراض عن القرآن، والانشغال بالتوراة والإنجيل في المناظرة والاستدلال، مبدأ منحرف، فالذي ينبغي أن تكون إقامة الحجة على الكفار بالقرآن الكريم، فمن كان في قلبه شيء يسير من الفطرة فإنه يتأثر بسماع القرآن الكريم، وكم من كافر لا يفقه في اللغة العربية كلمة يهتز قلبه لسماع القرآن الكريم وهو يتلى ويرتل فيسلم؛ لأن القرآن له سلطان على القلوب غير مقصور على معانيه ولا بلاغته ولا أحكامه ولا جماله ولا أسلوبه الأخّاذ، ولذلك نجد إخواننا من الهند وبنجلاديش وباكستان تكثر منهم الرقة عند سماع القرآن، مع أنهم قد لا يفقهون كلمة واحدة من اللغة العربية، فيبكي الواحد منهم بكاءً شديداً إذا سمع القرآن الكريم؛ لأن القرآن له سلطان على القلوب، كيف وهو قد كان له أقوى سلطان على قلوب أعتى الكفرة وهم مشركو قريش، ومن ذلك ما ورد في سبب نزول أول سورة فصلت، أن النبي عليه السلام تلا من أول سورة فصلت حتى إذا بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] وكان عنده عتبة بن ربيعة فوضع يده على فم النبي عليه الصلاة والسلام حتى لا يكمل الآية من شدة تأثره وخوفه، والأدلة على هذا كثيرة جداً.

هود [13 - 35]

تفسير سورة هود [13 - 35]

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) قال تبارك وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:13 - 14]. قوله تعالى: ((أم يقولون افتراه)) هذه الهاء تعود إلى ما أوحي إليك، يعني: أم يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام قد افترى هذا القرآن واختلقه. وفي (أم) وجهان: الأول: أنها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والتقدير: بل أيقولون افتراه؟! وهذه الهمزة إنكارية. الثاني: أنها متصلة وليست منقطعة، والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون افتراه؟! قل يا محمد في جواب هذا الزعم أنك افتريته: ((فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ))، أي: افعلوا أنتم هذا. ((وادعوا من استطعتم)) أي: ادعوا للاستعانة من استطعتم من الإنس والجن، وهذا في غاية التحدي. ((من دون الله)) أي: ادعوا كل من تستطيعون متجاوزين الله تبارك وتعالى. ((إن كنتم صادقين)) أي: إن كنتم صادقين في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب. ((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ)) هذا تحد صارخ وواضح، كما كرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تبارك وتعالى متحدياً لهؤلاء في أول سورة البقرة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]. ((فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ)) أي: بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها، فأنتم تعلمون أنه ما أنزل إلا بعلم الله. ((وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، أي: واعلموا عند ذلك أن لا إله حق إلا الله، وأن توحيده واجب، وأن الإشراك به ظلم عظيم. ((فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) أي: هل أنتم مبايعون بالإسلام منقادون لتوحيد الله وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الحجة القاطعة، ولا شك ولا ريب أن هذه الحجة بالفعل قاطعة بصورة لا جدال ولا مراء فيها.

من لطائف تحدي الكفار في الآيتين

من لطائف تحدي الكفار في الآيتين يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هاتين الآيتين لطائف: الأولى: قيل: تحدوا أولاً بعشر سور فقال هنا: ((قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)) فلما عجزوا تحدوا بسورة فقال في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وذهب المبرد إلى أنه تحداهم أولاً بسورة ثم تحداهم بعشر سور. قوله في سورة البقرة: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي: من مثله في البلاغة والإعجاز والبيان وما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وغيرها. وهي تسعة أشياء يتضمنها القرآن الكريم نظمها بعضهم بقوله: ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك، فلما وقع تعنتهم واستهزاؤهم واقتراحهم آيات غير القرآن لزعمهم أنه مفترى، فيناسبه التكثير وهو التحدي بعشر سور، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله، ألستم تقولون: إنه مفترى؟ إذاً ائتوا بعشر سور مثله مفتريات، فمن ثم ناسب أن يكون التحدي بعشر سور. اللطيفة الثانية: قوله عز وجل بعد ذلك: ((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فإن ضمير (لكم) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع هنا للتعظيم كما في قول من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم. القول الثاني: يكون الضمير عائداً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين؛ لأن المؤمنين هم تبع للنبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدي. وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم، بل يكونوا معه لمعارضة المعارضين. إن التحاق المؤمنين والتصاقهم به صلى الله عليه وسلم لا يكون فقط بالنصرة بالسيف وبالجهاد، وإنما يكون في الانتصار لدينه ولمعجزته التي هي القرآن، وذلك بدوام تحدي المشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم. وفي هذا أيضاً إرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان بأن القرآن من عند الله، وأنه معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: ((فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا)) فدل على أن التحدي والصمود بهذا التحدي يفيد زيادة العلم وزيادة اليقين. وقوله: ((فاعلموا أنما أنزل بعلم الله)) هذا العلم ليس مستأنفاً، لكنه ترسيخ للعلم الموجود في قلوبهم. القول الثالث: أن الخطاب هنا للمشركين بمعنى: فإن لم يستجب لكم من استعنتم به من دون الله، وهم المذكورون في قوله: ((وادعوا من استطعتم من دون الله))، من الجن والإنس، في افتراء قرآن مثل هذا القرآن أو عشر سور مثله. ((فإلم يستجيبوا)) أي: هؤلاء الذين دعوتموهم من الجن والإنس ((فاعلموا)) أي: فحقكم أن تعلموا حينئذ عجزكم وعجز هؤلاء الذين لم يستجيبوا لكم ولم يستطيعوا قبول التحدي، وحقكم أن تعلموا الآن أن القرآن أنزل فعلاً من عند الله، وأن الحجة قامت عليكم.

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها)

تفسير قوله تعالى: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]. لقد بين تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة وهم الكفار، فقال عز وجل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ)). أي: أننا نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حتى الكافر إذا أحسن وعمل عملاً صالحاً كبر الوالدين، وإغاثة الملهوف، وصدق الوعد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره، بل يوفيه أجره في الحياة الدنيا، حتى يرد الآخرة وليس معه عمل ينفعه؛ لأنه لا ينتفع بعمل صالح في الآخرة عمله في الدنيا إلا إذا كان موحداً. وهذا هو الجواب عما يستغربه بعض الناس، حينما يرون الكافر في عافية وفي سعة من الرزق، وفي وفور من أمر الدنيا؛ يقول البعض: كيف يبتلى المؤمن ويكون فقيراً ومريضاً، في حين نرى الكافر يتمتع في الدنيا؟! نقول: جاء في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالكافر لا يثاب على الأعمال الحسنة التي يعملها في الدنيا إلا في الدنيا، أما في الآخرة فلا خلاق له عند الله سبحانه وتعالى. قوله: ((نوف إليهم أعمالهم فيها)) أي: في الدنيا فقط. ((وهم فيها)) أيضاً في الدنيا. ((لا يبخسون)) أي: جزاء أعمالهم في الدنيا، وهذا معلق بمشيئة الله كما قال عز وجل في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18].

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. قوله تعالى: ((وحبط ما صنعوا فيها)) أي: حبط في الآخرة ما صنعوه من الأعمال الصالحة، وعليه فالضمير (فيها) عائد على الآخرة. وجوز تعلق الظرف بصنعوا، يعني: وحبط ما صنعوا في الدنيا من قبل الآخرة. فإذاً تعود (الهاء) على التفسير الثاني على الدنيا كما عادت عليها في قوله: ((نوف إليهم أعمالهم فيها)) أي: في الدنيا. ((وباطل ما كانوا يعملون)) أي: كان عملهم في نفسه باطلاً؛ لأنه لم يعمل لغرض صحيح، ولم يستوف شروط العمل الصالح الذي ينفع صاحبه.

شروط العمل الصالح المقبول

شروط العمل الصالح المقبول شروط العمل الصالح الذي يقبل من العبد: الشرط الأول: الإيمان فلابد أن يكون فاعله مؤمناً كي ينفعه عمله في الآخرة، قال عز وجل: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، إذاً لابد من الإيمان. الشرط الثاني: الإخلاص، ألا يريد بالعمل الصالح إلا وجه الله سبحانه وتعالى. الشرط الثالث: الاقتداء ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). ونظير قوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)) هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، لذلك احذر أيها المؤمن! إذا دعوت الله سبحانه وتعالى أن تطلب الدنيا فقط؛ لأنها إذا كانت ساعة إجابة وكان وقت قبول هذا الدعاء، فمن قصور النظر أن تطلب العاجلة وتغفل عن الآخرة التي فيها الفوز الحقيقي الدائم الذي لا ينقطع. فالإنسان يدعو بصلاح الدنيا، لكن يردف ذلك دائماً بصلاح الدين كما علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكما في الدعاء الذي في سورة البقرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، أما الكافر فلا يطلب إلا الدنيا، فإياك أن تتشبه به؛ لأنك إذا اهتممت بصلاح الدنيا وغفلت عن صلاح الدين فقد تندم بعد ذلك. فالإنسان يحضر قلبه في الدعاء، وكما يدعو بصلاح الدنيا فعليه أن يهتم بصلاح الآخرة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، وحرصك على الدنيا لن يخرج عما يريده الله بك سبحانه وتعالى. {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:18 - 20]، وتأمل قوله تعالى: (فأولئك كان سعيهم مشكوراً) إن الذي يشكر لهم هو الله سبحانه وتعالى، فأي شرف أعظم من أن الله هو الذي يشكر لك عملك. ودائماً أتذكر معنى هذه الآية الكريمة وأمثالها كلما قرأت في صفحات الوفيات أو في إعلانات الجرائد، وذلك عندما يعزي رئيس الجمهورية فلاناً أو فلاناً؛ فكم يفخر أقارب الميت إذا كان رئيس الجمهورية هو المعزي لهم؟! فما ظنك بالذي يشكر له الله سبحانه وتعالى عمله، فأي شرف أعظم من ذلك؟! والله سبحانه وتعالى هو غني عنك وعن عملك، بل أنت خلقت بنعمة الله من العدم، ووفقت للعمل الصالح الذي يشكرك الله عليه بقوة الله وإنعامه عليك، فلله الحمد أولاً وآخراً. ومن ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] لأنه ما أراد حرث الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17]. لقد أشار تعالى في هذه الآية إلى صفة المؤمنين في مقابلة أولئك الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. ((أفمن كان على بينة من ربه)) أي: برهان نير، عظيم الشأن، أي: هو مسلم وثابت على الإسلام؛ لأنه يملك البينات والبراهين التي تثبته على هذا الدين. والبينة: هي العلم بالقرآن. وفسرت البينة أيضاً بالإسلام، أي: أفمن كان على الإسلام، سماه بينة لقوة ظهوره ووضوحه، إذ هو دين الفطرة قبل تدنيسها برجس الوثنية. قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) الضمير في قوله: (منه) يعود على الرب تبارك وتعالى، أي: ويتلوه شاهد من ربه، هذا التفسير الأول. التفسير الثاني في قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) أي: يتبعه شاهد من القرآن نفسه، وهو إعجاز القرآن الكريم.

علاقة ما مضى من الكتب السماوية بالقرآن

علاقة ما مضى من الكتب السماوية بالقرآن قوله: ((ومن قبله كتاب موسى)) أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى. وقد فسر العلماء ما مضى قبل القرآن الكريم من الكتب على قولين: الأول: (ومن قبله كتاب موسى) هو التوراة، أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك. الثاني: ومن قبله كتاب موسى يشهد للقرآن أيضاً؛ ذلك لأن كتاب موسى تضمن ذكر القرآن وذكر صدق نبوة النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا معناه: أن التوراة شاهدة للقرآن الكريم، بجانب ما يشهد له الإعجاز الذي فيه. ((ومن قبله كتاب موسى إماماً)) أي: مقتدى به في الدين ورحمة ونعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع ((أولئك يؤمنون به)) أي: من كانوا على بينة يؤمنون بالقرآن، فلهم الجنة. ((ومن يكفر به من الأحزاب)) يعني: أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((فالنار موعده فلا تك في مرية منه)) أي: لا تكن في شك من القرآن، أو: ولا تكن في شك من أن النار موعده. ((إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) أي: لا يؤمنون به؛ إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.

الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: (أفمن كان على بينة)

الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: (أفمن كان على بينة) نذكر بعض الفوائد هنا: الأولى: (مَنْ) في قوله تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ))، مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً، وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبيّن مصيرهم ومآلهم. وفي شرح الكشاف: أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، أي: لا يعقبونهم في المنزلة أو يقاربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أنه لا تقارب بينهم فضلاً عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]. الثانية: قرئ ((ومن قبله كتابُ موسى)) بالرفع، وقرئ: ((ومن قبله كتابَ موسى)) بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في يتلوه، أي: يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه ممن آمن من أهل الكتاب كـ عبد الله بن سلام، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى، لما يجدونه مكتوباً عندهم. و ((يتلوه)) من التلاوة فتكون الآية كقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10]. الثالثة: قوله: ((ومن الأحزاب)) الأحزاب جمع حزب، والحزب جماعة الناس، ويطلق الأحزاب على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، فهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية؛ لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناول كل من شاكلهم من سائر الطوائف. وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، قال سعيد: كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ)). فهذا يفيدنا أن المقصود بالأحزاب في الآية الملل كلها، وبالذات اليهود والنصارى؛ كما في نص الحديث المذكور. فإذاً كل من بلغته بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع بالإسلام وسمع بالقرآن فما عليه إلا أن يؤمن به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وقبل ذلك عليه أن يجتهد في البحث عن الدين الحق، ليس هذا فحسب، بل يجب عليه أن يصيب الحق، فلا يعذر الشخص أن يقول: أنا اجتهدت وبذلت وسعي وتوصلت إلى أن الحق مثلاً في اليهودية أو النصرانية، فهذا لا يقبل منه وليس عذراً؛ لأن للحق أدلة وعلامات، فلا يمكن أبداً أن يلتبس الحق في أحقية دين الإسلام، وفي أن القرآن كلام الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا الإسلام ديناً، هذه حقيقة أوضح من الشمس. فتوحيد الله سبحانه وتعالى، النبوات، الإيمان بالغيبيات، كل هذه الأشياء عليها من الأدلة ما لا يدع عذراً لكافر، لكنه الجهل أو العناد والجحود بعد المعرفة، فمن ثم يجب على كل كافر أن يجتهد في البحث عن الحق أولاً، وأن يصل إلى الحق ثانياً، فلا يعذر إذا قال: اجتهدت فوجدت الحق في غيره.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً) قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]. مثال افتراء الكذب على الله سبحانه وتعالى: قول المشركين للملائكة إنهم بنات الله، أو قولهم في الأصنام إنهم شفعاء عند الله. ومعنى قوله: ((ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً)) أي: لا أحد أظلم ممن يكذب على الله سبحانه وتعالى. ((أولئك يعرضون على ربهم)) أي: يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم في ذل وفي هوان. ((ويقول الأشهاد)): أي: الذين يشهدون بالحق يوم القيامة من الملائكة والنبيين والجوارح: ((هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)) هذا تهويل عظيم مما يحيط بهم حينئذ؛ لظلمهم بالكذب على الله. قيل: ولا يبعد أن تكون الآيات للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه؟! يعني: إذا كان الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام هو الذي يتلو عليهم هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]: فلا يعقل إذاً أن يفتري هو على الله الكذب، ويدعي أن القرآن من عند الله وهو ليس من عند الله. وقد أدرك هرقل هذه الدلالة، فلما سأل أبا سفيان كي يمتحن صدق النبي عليه الصلاة والسلام -والقصة في كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري - قال له: (هل يكذب؟ فقال: لا يكذب فقال هرقل: فما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله)، هل يعقل أنه لا يكذب على الناس ثم يكذب على الله سبحانه وتعالى؟! ومما يستدل به على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اشتهار دينه وانتشاره في آفاق الأرض، ورفع ذكره بهذه الصورة التي لم تقع لأحد من البشر سواه عليه الصلاة والسلام في كل أقطار الدنيا، وفي كل الأزمان من بعد بعثته، بل ومن قبل بعثته عليه الصلاة والسلام. فالله سبحانه وتعالى ما كان أبداً ليرفع شأن كاذب يكذب عليه بهذه الطريقة؛ لأن هذا فيه تلبيس للحق على الناس، فهذه من علامات صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا)

تفسير قوله تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً) قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود:19]. ((الذين يصدون عن سبيل الله)) أي: عن دينه القويم. لم يذكر هنا المفعول به، والتقدير: الذين يصدون عن دين الله كلَّ من يقدرون على صده وعلى إبعاده عن طريق الله سبحانه وتعالى. ((ويبغونها عوجاً)) الهاء تعود على السبيل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108]، فكلمة السبيل في هاتين الآيتين مؤنثة. ((ويبغونها عوجاً)) أي: يطلبونها معوجة بالكفر، يحرفون الناس عن الصراط المستقيم، ولا يرضون أن تكون مستقيمة. أو ((يبغونها عوجاً)) أي: يصفونها لهم بالاعوجاج، وينفرون الناس عن الإسلام بوصفه أنه دين معوج، دين التصوف، دين الإرهاب، دين التعصب والتشدد والتزمت إلى آخره، فينفرون عن دين الله بوصفه بصفة لا تليق به كالاعوجاج. ((وهم بالآخرة هم كافرون)) أي: هم يصدون أنفسهم عن الحق؛ لأنهم كافرون بالآخرة، ويصدون غيرهم أيضاً عن طريق محاربة الإسلام وتشويهه، ويدعون الناس إلى طرق معوجة تقودهم إلى النار والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20]. ((أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض)) أي: لم يكونوا يعجزونه تعالى أن يعاقبهم في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى إذا لم يعجل لهم العقوبة في الدنيا، فليس مرد ذلك إلى عجزه عنهم، وليس مرد ذلك إلى أنهم يفوتونه إن أراد معاقبتهم. ((وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ)) أي: ولم يحل دون عقابهم وجود أولياء يمنعونهم من عقاب الله، ويحمونهم من عذابه. ((يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ)) أي: هؤلاء يضاعف لهم العذاب. ((مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ)) أي: لتصاميهم عن الحق وبغضهم له. ((وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ)) لتعاميهم عن آيات الله وإعراضهم عنها غاية الإعراض، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] هذا يدل على أن المقصود بالسمعِ السمعُ الذي ينتفع به في الوصول إلى الحق، كذلك البصر، أما مجرد حاسة السمع دون عقل ودون فهم، فهذه صفة العجماوات والبهائم، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، كالبقرة أو الجاموسة أو الحيوان إذا وقفت أمامه تتلو عليه قصيدة أو كتابة، فهو يسمع الحروف؛ لكن لا يفقه معنى الكلمات، فهذا هو حال الكافر. ولذلك إذا استحضرنا هذا المعنى فلا نستغرب إذا وجدنا الكافر في غاية من العتو والعناد والجحود، مع وضوح آيات الله سبحانه وتعالى؛ لأن هناك حائلاً وضعه الله سبحانه وتعالى على قلبه، قال عز وجل: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فهذا القفل نحن لا ندري كيفيته، وليس شرطاً أن يكون مثل الذي نضعه على الأبواب، لكن هو نوع من القفل الله أعلم بكيفيته وبشكله، وهذا القفل يوضع على القلب فلا يدخله الإيمان ولا يخرج منه الكفر والعياذ بالله، فهذه الحقيقة هي التي تمنعهم من قبول الحق. ومن أدلة قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته أن نجد من يكفر بالحق مع وضوحه، فهؤلاء يرون آيات الله لكن لا تنفذ إلى قلوبهم، فلذلك قال هنا: {أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20]، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88].

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين خسروا أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين خسروا أنفسهم) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود:21 - 23]. ((أولئك الذين خسروا أنفسهم)) أي: خسروا سعادتها وراحتها. أو خسروا أنفسهم؛ لأنهم سلموها لعبادة الأوثان، ومنعوها من فعل ما خلقت له من عبادته تعالى، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة، كما قيل: إذا كان رأس المال عمرك فاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب. ((وضل عنهم ما كانوا يفترون)) أي: غاب عنهم الآلهة وشفاعتها ولم تجزهم شيئاً. ((لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ)) أي: حقاً. أو: لا محالة أنهم في الآخرة هم أخسر الناس صفقة. ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ)) أي: خشعوا له وحده، ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع)

تفسير قوله تعالى: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) قال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود:24]. ورد في الآيات السابقة ذكر الفريقين: المؤمنين والكفار، وصفة كل فريق، ومآل كل فريق، ثم قال تبارك وتعالى: ((مثل الفريقين)) أي: الكفار والمؤمنين. ((كالأعمى والأصم)) هذا مثل للكافر. ((والبصير والسميع)) وهذا مثل للمؤمن. ((هل يستويان مثلاً)) أي: هل يستوي الأعمى والأصم مع البصير السميع حالاً وصفة. ((أفلا تذكرون)) يعني: بضرب الأمثال وبتدبر هذه الأمثال. لقد قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل السابقين ما يثبت به فؤاده، فالآيات الكريمات التي ستأتي في سورة هود، هي تثبيت من الله سبحانه وتعالى لقلب نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بذكر قصص الأنبياء السابقين وأحوالهم مع أممهم، وأن معاناة الرسل من أممهم مثل ما يعانيه عليه الصلاة والسلام، والإخبار بسنته سبحانه وتعالى فيمن مضى من الأمم. إذاً هذا يدل على أن قصص الأنبياء وقصص الصالحين جند من جنود الله، ومن ثمرتها أنها تثبت قلوب المؤمنين، فمن أراد تثبيت الإيمان في قلبه، فليعمل عقله، وليتدبر في آيات الله سبحانه وتعالى، في هذه القصص الحقيقية الواقعية، وخاصة أن الله سبحانه وتعالى وصفها بأنها أحسن القصص: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، وذلك كي يتسلى عليه الصلاة والسلام بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم، كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].

في قصص الأنبياء والصالحين تثبيت للصالحين

في قصص الأنبياء والصالحين تثبيت للصالحين قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [هود:25]. ((ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)) كانت قد امتلأت الأرض من شرك قوم نوح وشرورهم. ((إني لكم نذير مبين)) قرئ بالكسر: ((إني لكم)) أي: فقال: إني لكم نذير مبين. يعني: أرسلت إليكم لأبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه، ((مبين)) اسم فاعل من أبان فهو مبين. إذاً ماذا أبان؟ أبان لهم ما يوجب حصول عذاب الله، وأبان لهم أيضاً كيف يتخلصون من هذا العذاب وينجون منه.

تفسير قوله تعالى: (أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم)

تفسير قوله تعالى: (أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم) قال تعالى: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود:26]. ((أن لا تعبدوا)) الباء مقدرة هنا للتعدية، أي: بأن لا تعبدوا إلا الله. ((لا تعبدوا)) لا ناهية، أي: أرسلناه متلبساً بالنهي عن عبادة غير الله. ((إني أخاف عليكم)) أي: إن عبدتم غيره. ((عذاب يوم أليم)) أي: مؤلم في الدنيا والآخرة.

تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه)

تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه) قال تعالى: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]. ((فقال الملأ الذين كفروا من قومه)) الملأ المقصود بهم هنا السادة والكبراء والوجهاء. ((ما نراك إلا بشراً مثلنا)) أي: لست بملك ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا ونحن بشر مثلك؟! يستبعدون أن ينزل الوحي على من ليس بملك.

نظرة الملأ للأنبياء وأتباعهم

نظرة الملأ للأنبياء وأتباعهم قال القاسمي: ((قال الملأ)) أي: الأشراف المليئون بأمور الدنيا القادرون عليها. وهذه هي المصيبة العظمى: أن بعض الناس يستمدون قوتهم لا من علمهم ولا من عقلهم ولا من بصيرتهم، بل يتوهم أحدهم أن قوته بالمنصب الذي هو فيه، أو بالمال الذي يملأ جيوبه، أو بمتاع الدنيا الذي يملكه، فهو يرى أن قيمته تتحدد على هذا الأساس، وعلى هذا الفهم المنحرف الضال القاصر، فإنه يعطي نفسه ما ليس من حقه، فهو مستعد أن يفتي في كل قضية، وإن يدلي بدلوه في أي مسألة، حتى لو كانت بعيدة عما يخصه ويعنيه. فعلى الإنسان أن يستمد قوته من إيمانه بالله، أما أن يستمد قوته ويتعامل مع الآخرين على أساس أن معه مالاً أو غير ذلك من أعراض الدنيا، فهذا لا وزن له ولا قيمة. يقول القاسمي: ((فقال الملأ)) الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: ((ما نراك إلا بشراً مثلنا)) لأنهم كانوا ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، لا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طوراً بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، لم يدركوا أن نوحاً ميزه الله سبحانه وتعالى بمرتبة أعلى من هذه المثلية التي يزعمون. صحيح هو مثلهم من أنه بشر من طين، أو خلق من ماء مهين كما خلق سائر البشر، لكن هناك شيء آخر فوق هذا الجسد البدني أو هذه الصورة الآدمية الظاهرة، فهناك مراتب كمالات في العقول والاستعدادات والمواهب التي يفيضها الله سبحانه على من يشاء من عباده، ويفضل بعضهم على بعض، هم لم يلتفتوا إلى ذلك، فمن ثم لم يشعروا بمقام النبوة ورفيع قدرها ومعناها. ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) انظر إلى الغطرسة! يظنون أن ما هم عليه من أحوال الدنيا هي مؤهلاتهم، فالواحد منهم يرى أن له أن يكفر بالأنبياء، وأن يحتقر من دونه في الدنيا وإن ارتفع عليه في الإيمان وفي الدين. وقولهم: ((أراذلنا)) أي: فقراؤنا الأدنون منا؛ إذ المرتبة الرفيعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، فبالتالي يحتقرون من لم يؤت هذه الأشياء، فلذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)) أي: أحط الناس فقراً أو مالاً أو جاهاً في مجتمعنا. ((بادي الرأي)) كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]. وبادي الرأي أي: بديهة الرأي، يريدون أن يصفوا أتباع نوح عليه السلام الذين آمنوا به أنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، أي: أما نحن أصحاب الفكر والنظر فلا نستسلم لك بسرعة، فهؤلاء انقادوا لك بادي الرأي، يعني: أول ما سمعوا دعوتك انقادوا إلى هذه الدعوة. فهم يعيبونهم بانقيادهم لنوح عليه السلام، يقولون: أما نحن أهل الفلسفة وأهل الروية وأهل العقول الراجحة فمثل هذه الدعوة لا نقبلها بسهولة، ولابد أن يكون الذي يدعونا للحق عنده المال والجاه، ولا يصاحب الفقراء ولا المساكين ولا الضعفاء، هذه هي القيم وهذه هي الموازين عند هؤلاء. وقولهم ((بادي الرأي)) هذا مما لا يذم، بل مما يمدح؛ لأنه انقياد الإنسان للحق إذا ظهر أنه حق واضح مثل الشمس، فما الذي يمنعهم أن ينقاد هؤلاء كما انقاد من بعدهم قوم موسى عليه السلام، فإن السحرة آمنوا بمجرد أن رأوا الآية. ويؤخذ من هذا أن المرء ينقاد للحق إذا ظهر، أي فلا تؤخر ولا تسوف ولا تؤجل الانقياد للحق، فهذا الذي يعيبونهم به هو من أعظم وأشرف مناقبهم حيث بادروا إلى الانقياد للحق. وعلى نفس طريقة الملأ القداماء سار الذين يحاربون الإسلام اليوم، ويحاربون الدعوة والدين فهم يجادلون بنفس المنطق ويفكرون بنفس الطريقة، تجدهم يقولون عن الملتزمين: هؤلاء جهلة! ويجتهدون في تصويرهم بنفس هذه الصورة، كما تعرفون وتلاحظون ذلك في التمثيليات والمسرحيات والأفلام التي خرجت في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يخترع هذا الكلام كذاب، فهو يؤلف القصة من خياله بصورة تخدم هدفاً هو يريده، فلذلك يفتري ما شاء، والله له بالمرصاد. فهؤلاء يتصورون أن الإنسان العاقل الكيس الفطن هو الذي يستطيع أن يتجر ويكسب أموالاً كثيرة، ولا يفكرون إلا في الكمالات الدنيوية الحقيرة، وأما أتباع نوح عليه السلام فإنهم أصحاب همم بعيدة، لا تقف عند كسب المعاش والأموال، بل عقول حائمة حول الارتفاع والارتقاء والتزكية والطهارة غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه. قرأ أبو عمرو بالهمزة: ((بادئ الرأي)) والباقون بالياء. معنى (بادي الرأي) على القراءتين: أما الأول: (بادئ الرأي) فمعناه: أنه صدر من غير روية، وذلك أول وهلة. وأما الثاني: (بادي الرأي) فيحتمل أن أصله ما تقدم؛ لكن قلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً، فيكون كالأول. ويحتمل أن الياء أصلية من بدا يبدو كعلا يعلو، والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى القولين هو منصوب على الظرفية: (بادي الرأي) والعامل فيه: (نراك)، أو: (اتبعك).

بطلان حجج الملأ من قوم نوح وسخافتها

بطلان حجج الملأ من قوم نوح وسخافتها قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحاً ومن اتبعه، من وجهين، أي أنهم يريدون أن يبطلوا دعوة نوح بالاستدلال بأحوال متبعيه من وجهين: أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة فقالوا: ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا)) أي: فقراؤنا وضعفاؤنا، فليسوا قدوة وليسوا أسوة كهؤلاء الملأ. الثاني: أنهم لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكر في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكر ولا روية. وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة؛ لأن منهم من صدقه وآمن به. وكلا الوجهين يبرهنان على أن هؤلاء الملأ من قوم نوح ضعفاء العقول جهلة. إذاً الشريف هو الذي يتبع الحق، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فأولى الناس بصفة الشرف والعلو والرفعة هم الذين ينقادون للحق، ولا يجادلون في الحق ولا يمارون فيه. أما عند هؤلاء فالشرف هو المنصب والمال والجاه، ولذلك قالوا: ((وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا)). أما الرد على الوجه الأول: فلا خفاء في أنه ليس بعار عن الحق رذالة من اتبعه، أي: كون الفقراء والضعفاء والمساكين ينقادون للحق، لا يحوله إلى باطل، بل أتباعه هم الأشراف ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه -أي: الحق- هم الأدنون وهم الأراذل ولو كانوا أغنياء، وفي الغالب أنه لا يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفتهم؛ لأن غالب الأغنياء والوجهاء يتكبرون؛ فيحجبهم ذلك عن الانقياد للحق والانتفاع به إلا من رحم الله سبحانه وتعالى. يقول تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] أي: على ملة. {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. ولذلك لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قال له فيما قال (أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل). هذا فيما يتعلق بالرد عن الوجه الأول. أما الجواب على الوجه الثاني: فإن المبادرة والإسراع لاعتناق الحق من أكمل الفضائل؛ لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولابد لكل ذي فطنة من اتباعه، ولا يتردد في قبول الحق إلا غبي، ومن قدرته العقلية ضعيفة لا يستطيع أن يفهم الحق مع وضوحه، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام؛ فهم يأتون بلغة قومهم، ويأتون ببينة واضحة لا تلتبس على أحد، مهما كان مستواه العقلي أو الفكري. ((وما نرى لكم)) هذا الخطاب لنوح وأتباعه. ((من فضل)) أي: تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة؛ لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والجاه. هذه هي طريقتهم في التفكير، فالله سبحانه وتعالى يبين لنا جهلهم وقصورهم من خلال كلامهم، ويبرز لنا الموانع التي حجبتهم عن الانقياد إلى الحق. قال الزمخشري: كان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد ضل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله، وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوة والتأهيل لها. ثم يقول الزمخشري -وما أحسنه من كلام-: على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، مصغرين لشأن الدنيا وشأن من أخلد إليها. أي: أما هؤلاء فبالعكس، فهم يعظمون الدنيا هذا التعظيم ويقولون: ((وما نرى لكم علينا من فضل)) أي: ليس عندكم أرصدة وأموال مثل التي عندنا، فلماذا نتبعكم؟ هذه هي المقاييس الوضعية الحقيرة لديهم. بل هذه الدنيا التي يتباهون بها لا تبعد عن الله وتحط من شأن أهلها فحسب، بل من ضمن أهداف بعثة الرسل تصغير شأن هذه الدنيا وتحقيرها والتزهيد فيها، والترغيب في طلب الآخرة. فإذاً هما طريقان لا يلتقيان: سارت مشرقةً وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب ثم قال: فما أبعد حال الأنبياء عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله والتشرف بما هو ضعة عند الله! ((بل نظنكم كاذبين)) أي: فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.

تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)

تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28]. ((قال يا قوم)) أي: قال نوح: يا قوم ((أرأيتم)) أرأيت: اسم فعل أمر بمعنى أخبرني، أي: أخبروني. ((إن كنت على بينة من ربي)) إن كنت على برهان. ((وآتاني رحمة)) أي: منَّ الله سبحانه وتعالى عليَّ بأمر اختصني به، وهو أن ((آتاني)) منه ((رحمة)) أي: هداية خاصة كشفية تكشف لي الحقائق. ((من عنده)) أي: أن هذه الرحمة من عند الله فوق طور العقل، بل هي من العلوم اللدنية ومقام النبوة، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلمًا} [الكهف:65] أي: علمناه من عندنا علماً وهو مقام النبوة؛ لأن النبوة لا تكتسب، بل هي هبة من الله لا يستطيع الإنسان أن يجتهد في العبادة والذكر حتى يصل إليها، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فيصطفي الأنبياء ويختصهم دون من عاداهم بخاصية مقام النبوة وعلم النبوة. ((فعميت عليكم)) أي: لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخلقة عن الحقيقة. ((أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)) أي: أنكرهكم على قبولها ونقصركم على الاقتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، مع أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]؟ فالاستفهام هنا للإنكار أي: لا نقدر على أن نكرهكم على الإيمان، والذي في وسعنا هو دعوتكم إلى الله سبحانه وتعالى، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم. وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها ورد عن الإعراض عنها بأسلوب فائق في غاية الجدارة؛ لأن هذا الأسلوب الذي يتكلم به نوح عليه السلام فيه نوع من الاستفزاز الباطني؛ لأنه يصف ما آتاه الله سبحانه وتعالى بكونه بينة من ربه، تزكية للمنهج الذي هو عليه، فهو واثق من منهجه وعنده البرهان على صحته. إذاً مع أنكم محجوبون عن تدبرها فلا نملك أن نقصركم على اتباع الحق، في هذا الذي يدعوهم إليه نوح عليه السلام إرشاد لهم إلى أن يزكوا أنفسهم، وأن يتخلوا عن المكابرة والإنكار والجحود والعناد، لينقادوا إلى هذا الحق. وقريب من هذا أن بعض الناس كتب بعض الأوراق لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، يريد أن يضع شعاراً ليستفز غير المسلم لكي يبدأ في تدبر آيات الله سبحانه وتعالى ويعمل العقل، فكتب بالإنجليزية ما ترجمته: نحن بهذا الجهد فقط نبذر بذرة الهداية، ولعل الله سبحانه وتعالى القدير يجعلها تترعرع في قلب من يستحقها. فهذا الأسلوب فيه نوع من الاستفزاز للمرء كي يعمل عقله في الوصول إلى هذا الحق.

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا)

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً) قال الله حكاية عن نوح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29]. ((ويا قوم لا أسألكم عليه)) أي: على تبليغ التوحيد ((مالاً إن أجري إلا على الله)). قال القاسمي: قوله: ((ويا قوم لا يسألكم عليه مالاً)) أي: أنتم عندكم الغرض والغاية في كل أمر محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، أنا لا أنازعكم في أموالكم ولا أطلب منكم مقابلاً، فتنبهوا لغرضي أي: لست ممن يتستر وراء الدين للحصول على مكاسب دنيوية أو أموال. ثم لما بين أن لا وجه لكراهة دعوته إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئاً؛ وذلك بعد أن قال في الآية السابقة: ((أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ))، أنكر عليهم في هذه الآية وكأنه يقول لهم: لماذا تكرهون الحق؟ ولماذا أنتم لهذه البينة كارهون؟ هل أنا أطلب في مقابل تبليغكم هذا الحق مالاً، فلذلك تكرهون دعوتي؟! أنتم تزعمون أنكم عقلاء فتدبروا، أنا لا أريد منكم منفعة أو مالاً، فما المسوغ لكراهة الحق أو الدعوة، وهي لا تنقصكم من دنياكم شيئاً؟ فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع -يعني: بزعمهم- إلا بطردهم، لكن رد عليهم نوح عليه السلام: ((وما أنا بطارد الذين آمنوا)) أي: لا أستطيع أن أطرد المؤمنين ولا أستجيب لهذا أبداً؛ لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] أي: من رزق. {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:52 - 53] بلى {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]. ((وما أنا بطارد الذين آمنوا))؛ لأن طردهم قد يفتنهم عن الإيمان، ويفتن غيرهم من الفقراء والضعفاء عن أن يدخلوا في الدين، ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه. ((إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ))، فلا آمن أن يشتكوني إلى ربي إن أنا طردتهم، أو المعنى: إنهم يلاقون ربهم ويفوزون بقربه فكيف أطردهم؟! ((وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) أي: فتخافون بسبب جهلكم لحوق خستهم بكم لمشاركتكم إياهم في الإيمان، وهذا من جهلكم؛ لأن خستهم ليست مانعة من الإيمان، وماذا يضركم -أيها الأغنياء- إن أسلمتم كما أسلموا؟! فلا يستلزم من إيمانكم أن تشاركوهم في صفة الخسة أو في صفة الضعف. وقوله: ((تجهلون)) أي: لا تعرفون ما هي الموازين التي تقرب العبد من الله أو تبعده عنه؟! إنها موازين التقوى والعمل الصالح، وليس أعراض الدنيا؛ لكن بسبب أنكم تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه؛ لذهاب عقولكم في الدنيا، فأنتم تسفهون وتؤذون المؤمنين وتسمونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير وأحسن منكم عند الله، وأنهم أكرم منكم على الله، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]؟ بلى. لقد أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه عز وجل فقال: ((ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم)) أي: فإن طردتهم فمن يمنعني من انتقامه سبحانه ومن يدفعه عني؟! وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعاً، وإنما لم يصرح به لأنه غني عن البيان، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم لإيمانهم بالله واليوم الآخر. ((أفلا تذكرون)) أي: أفلا تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟! قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن. أي أن المؤمن ليست قيمته لا بماله ولا بشكله، ولا في أعراض الدنيا التي لديه أو في منصبه، إنما قيمته أنه مؤمن شهد شهادتي الحق، وانضم لحزب الإيمان، فهذا يعظم حرمته ويرفع شأنه، ويحرم الاستخفاف به، وإن كان فقيراً عادماً للجاه والمال متعلقاً بالحرف الوضيعة؛ لأنه تعالى حكى كلام نوح ووصفه للرؤساء لما طلبوا طرد من عدُّوه من الأراذل بالجهل. وهذا نظير قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52].

تفسير قوله تعالى: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله)

تفسير قوله تعالى: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) قال الله عز وجل: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود:31]. أي: أنا بشر مثلكم فضلت عليكم بالوحي وبالرسالة، ولا أدعي ما ليس لي، ولذلك: ((لا أقول لكم عندي خزائن الله)) أي: رزق الله وأمواله عز وجل. ((ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك)) أي: أنا أدعي الفضل بالنبوة لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالاطلاع على الغيب، ولا بالملكية، إنما فضلت عليكم بالنبوة، فلا تستنكروا علي عدم تفوقي عليكم في المال ولا بالأملاك ولا في أعراض الدنيا. ((ولا أقول للذين تزدري أعينكم)) أي: تحتقرونهم وهم الفقراء والمؤمنون ((لن يؤتيهم الله خيراً))، أي: في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه كما تقولون أنتم، إذ الخير عندي هو ما عند الله لا المال. ((الله أعلم بما في أنفسهم)) أي: من الخير، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم وعظمه إلا الله سبحانه. قال القاسمي: وحمل هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله، إرشاداً إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقيناً ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة. يعني: على الإنسان أن يفوض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، خاصة في التعامل مع الناس في الدنيا، والأحكام تجري على ما يظهرون، أما السرائر فتوكل إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يتقدم الإنسان بين يدي الله بتزكية من لا سبيل له إلى معرفة ما في قلبه، يقول عليه الصلاة والسلام: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم، إنما نأخذ بما ظهر)، ولذلك قال: (وحسابهم على الله) أي: أقبل منهم انقيادهم بالإسلام، ولكن حسابهم في الآخرة على الله سبحانه وتعالى. ((إني إذاً)) يعني: إني إذا قلت ذلك ((لمن الظالمين)) أي: لبخس حقهم وحط قدرهم، فإن الإيمان ظاهر منهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير بعدما آمنوا كان ظالماً. وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم والمعنى: إن أنا قلت فيهم ذلك سأكون من الظالمين، لكني لست من الظالمين كهيئتكم؛ لأنكم تزدرونهم وتحتقرونهم، فلا أفعل فعل الظالمين.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود:32 - 34]. ((قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا)) أي: أطلت الجدال أو أتيته بأنواعه. ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)) هذا من غبائهم ومن جهلهم، بدل أن يطلبوا الهداية إذا بهم يستعجلون حصول العذاب، وكان الأولى أن يقولوا: اللهم اهدنا إلى هذا الحق إن كان نوح من الصادقين، لكنهم قالوا: ((فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)). ((قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)) أي: هذا ليس موكولاً إليَّ، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به. ((وما أنتم بمعجزين)) لا بالهرب ولا بدفع العذاب إذا نزل بكم. ((وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ)) أي: أي شيء يجزيه إبلاغي ونصحي بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب، إن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم. والإرادة هنا كونية قدرية. ((هُوَ رَبُّكُمْ)) أي: هو مالك أمركم. ((وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) أي: بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي) قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود:35]. (أم يقولون افتراه) أي: بل أيقولون افترى نوح النصح، وهو ما ذكره بقوله: {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي} [هود:34] فهذا الكلام من تتمة نبأ نوح عليه السلام وقومه، أو هو التفات من الكلام على نوح وقومه إلى الكلام على كفار مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم. فضمير الجمع في قوله: (يقولون) إما لقوم نوح وإما لكفار مكة، ويعنون افتراء محمد صلى الله عليه وسلم نبأ نوح، وجيء به معترضاً في تضاعيف قصة نوح تحقيقاً له وتأكيداً لوقوعه، وتشويقاً للسامعين إلى استماعه، إذ بقي منه الأهم وهو نتيجته، (قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا برئ مما تجرمون).

هود [36 - 49]

تفسير سورة هود [36 - 49]

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور)

تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) يقول الله تبارك وتعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:36 - 39]. ثم قال تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: حتى إذا جاء أمرنا بإهلاك قومه، وحتى هنا هي غاية لقوله تبارك وتعالى: ((وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ))، أي: أنه كان مستمراً في صناعة الفلك، وما بينهما حال من الضمير فيه، يعني: ويصنع الفلك وحاله أنه كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه إلى آخره، (ويصنع الفلك) حتى إذا جاء أمرنا. و ((سَخِرُوا مِنْهُ)) جواب ((َكُلَّمَا)). ((وَفَارَ التَّنُّورُ)) أي: وجه الأرض أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر، هذه أقوال حكاها اللغويون والمفسرون. بعض المفسرين زادوا على ما ذكره اللغويون والمفسرون: أن هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: حمي الوطيس، والوطيس: هو التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه. يقول القاسمي: وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده. فـ القاسمي يختار أن قوله: (وفار التنور) كناية عن اشتداد الأمر؛ فكأنه قيل: واشتد الأمر وقوي انهمار الماء ونبوعه من الأرض. وهذا الإيجاز في قوله: (وفار التنور) في مجازه الرهيب قد بينته آيات آخر، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فمن هذه الآيات قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، فكل هذه المعاني التي فصلت في هاتين الآيتين في سورة القمر قد ركزت وأجملت في قوله تعالى: ((وَفَارَ التَّنُّورُ)). ومما يؤيده شموله لشدة الأمر من السماء والأرض، فهذا الشمول يطابق هذه الآيات: ((فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ)) من السماء ومن الأرض ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)). أما قول من قال: إن معنى قوله تعالى: (وفار التنور) أي: وجه الأرض، أو المكان الذي ينفجر منه الماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، كل هذه الأقوال إنما تشير فقط إلى الأرض ولا تعم السماء بخلاف قولنا إنه كناية عن شدة الأمر من السماء والأرض. وجلي أن الأمر كان أعم، وأنه لم يقتصر على ما خرج من الأرض، وإنما التقى ماء السماء مع الماء الذي انفجر من الأرض. ((قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا)) أي: في السفينة. ((مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ)) أي: من كل صنف من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض ((زَوْجَيْنِ اثنين)) ذكراً وأنثى. وقال أبو البقاء: (كل) فيها قراءتان: القراءة الأولى: ((قلنا احمل فيها من كلِّ زوجين اثنين))، بالإضافة فيكون فيها وجهان: الأول: أن المفعول هو (اثنين) على أساس أن (من كل زوجين) حال. الوجه الثاني: أن (من) زائدة، فالمفعول هو (كل)، فتكون كلمة (اثنين) توكيداً. القراءة الثانية: ((قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين)) بالتنوين، فزوجين هنا مفعول للفعل (احمل) و (اثنين) توكيد له، و (من) متعلقة باحمل أو هي حال. ((وَأَهْلَكَ)) أي: من يتصل بك من أقاربك الذين هم موافقون لك في الدين والإيمان، وفي السيرة والهدي. ((إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ)) أي: إلا من وجب عليه القول، والمقصود بالقول هو الإغراق بسبب ظلمه، كما قال تعالى: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)) فبين له أن ابنه كان من الذين ظلموا، فهو في الحقيقة ليس من أهله أي: ليس من أهل دينه. ((وَمَنْ آمَنَ)) أي: واحمل في السفينة من آمن معك، وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ: (من) للإيذان بقلة المؤمنين، بدليل قوله بعدها مباشرة: ((وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)).

تفسير قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها)

تفسير قوله تعالى: (وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها) قال تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود:41]. ((وقال اركبوا فيها)) أي: قال نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين: اركبوا في السفينة. ((باسم الله مجراها ومرساها)) قال الزمخشري: ويجوز أن يكون كلاماً واحداً وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل باسم الله باركبوا حالاً من الواو بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين باسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها؛ إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء، حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: خفوق النجم ومقدم الحاج، ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء، وانتصابهما بما في باسم الله من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول. ثم يقول: والكلامان أن يكون: ((باسم الله مجراها ومرساها)) جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة أي: باسم الله إجراؤها وإرساؤها. يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: باسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: باسم الله فرست، ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: ثم اسم السلام عليكما، كما قال الشاعر: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها، أي: بقدرة الله وبأمره تبارك وتعالى. فإن قلت: ما معنى قولك: جملة مقتضبة؟ قلت: معناه: أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن تكون غير مقتضبة بأن تكون في موضع الحال من ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله. وأخذ بعض العلماء من الوجه الأول استحباب التسمية وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وعندنا ما يؤيد ذلك القول من القرآن الكريم في موضعين: في سورة المؤمنون، وفي سورة الزخرف. في سورة المؤمنون: {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون:29]. وفي سورة الزخرف: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:12 - 14]. وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه أيضاً، لكن هناك فرق بين اللفظ الذي ورد في القرآن واللفظ الذي ورد في السنة، ففي القرآن: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف:13] أما في السنة فقد جاء بصيغة: (الحمد لله الذي سخر لنا هذا). قوله عز وجل: ((إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)): جملة مستأنفة بياناً لموجب الإنجاء من الغرق، يعني: أن الذي يوجب الإنجاء هو محض رحمة الله عز وجل، فلولا مغفرة الله ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم. وقيل: إن قوله: ((إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)) تعليل لاركبوا؛ لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.

تفسير قوله تعالى: (وهي تجري بهم في موج كالجبال)

تفسير قوله تعالى: (وهي تجري بهم في موج كالجبال) قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]. ((وهي تجري بهم)) هذا متصل بكلام محذوف، يدل عليه قوله تعالى: ((اركبوا)) فيكون الكلام المقدر: فركبوا مسمين كما أمر نوح وهي تجري بهم. ((في موج كالجبال)): وذلك عندما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض، فتعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعاً، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من عظمة هذه الأمواج فإنك تراها في علوها مثل الجبال، يعني: انظر الأمواج حينما تغمر وجه الأرض وترتفع فوق أعالي رءوس الجبال الموجودة على ظاهر الأرض، ليس هذا فحسب بل الأمواج نفسها التي تكونت بعد ذلك كانت كالجبال في حد ذاتها! ((ونادى نوح ابنه وكان في معزل)) أي: في منحنىً عن أبيه: ((يا بني اركب معنا)) أي: ادخل في ديننا واصحبنا في السفينة الخاصة بالمؤمنين، وليس المقصود أن نوحاً عليه السلام ينادي ابنه أن يركب في السفينة وهو ليس من المؤمنين، وإنما المقصود أن ائت بالسبب الذي ينجيك من الهلاك، بأن تدخل أولاً في ديننا ثم تركب معنا في هذه السفينة. ((ولا تكن مع الكافرين)) أي: لا تكن مع الهالكين، فدين الكفر هالك، والانعزال والانزواء إلى معسكر الكافرين أيضاً نهايته الهلكة. أو: ((ولا تكن مع الكافرين)) أي: في دينهم وفي عزلتهم.

تفسير قوله تعالى: (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)

تفسير قوله تعالى: (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ((قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ)) يعني: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وبالتالي لن أغرق. ((قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)) أي: لا مانع اليوم من أمر الله وبلاء الله، أي: الطوفان. ((إلا من رحم)) أي: إلا الذي يرحم، وهو الله سبحانه وتعالى، لكن بدل أن يقول: إلا الله، ذكره بصفته وهي الرحمة. والمعنى: لا عاصم اليوم من أمر الله، إلا من رحمه الله فهو المعصوم. قال الناصر: الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم وهو الله. أو: لا معصوم إلا مرحوم. أو: لا عاصم إلا مرحوم. أو: لا معصوم إلا راحم. أو: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم وهو السفينة. والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل؛ لأنه زعم أن الجبل يعصمه: ((قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ)) يعني: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمكان المرحوم هو السفينة. ((وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ)) أي: صار حائلاً بين نوح وابنه. وقيل: بين ابنه والجبل لارتفاعه فوقه. على القول الأول يكون المعنى: أنه بينما نوح يخاطب ابنه ويرد عليه ابنه، إذا بالموج يحسم هذه المناقشة وهذا الحوار، فصار الموج حائلاً بين نوح وابنه. وعلى الثاني يكون المعنى: أنه حال الموج بين ابن نوح وبين الجبل الذي زعم أنه يعصمه من الماء؛ لأنه واقف على الجبل يرد على أبيه، فإذا بالموج الذي هو أعلى من الجبل يطيح به ويغرقه. ((فكان من المغرقين)) أي: مع كونه فوق الجبل فقد كان من الهالكين بالغرق. وفي الآية دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمراً مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان. يعني: إذا كان هذا مصير ابن نوح الذي صعد إلى أعلى جبل وظن أنه يعصمه من الماء، فكيف بمن كان في مكان دونه من سائر الكفرة؟! لذلك لم يتعرض القرآن لإهلاك سائر الكفرة؛ لأنه يفهم من كون ابن نوح هلك وأغرق مع أنه كان في أعلى جبل، وكان واثقاً من أنه سيعصمه من الماء، فمن الأولى أن من كان دونه قد أهلك، فلا يفتقر إلى البيان. ولا شك أن في إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم، فلم يقل الله تعالى: وحال بينهما الموج فصار من المغرقين، لكنه قال: ((فكان من المغرقين)).

تفسير قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي)

تفسير قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]. فيها إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض ولم يبق ممن كفر بالله ديار استجابة لدعاء نوح عليه السلام، {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] أمر الله تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك، ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئاً فشيئاً، وظهرت رءوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل. ((وقيل بعداً)): مصدر منصوب بمقدر، أي: وبعدوا بعداً، والعرب يقولون ذلك إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحوه، ولذلك اختص بدعاء السوء. وبعداً له مثل: سحقاً أو جدعاً. ((للقوم الظالمين)) فاللام متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بقيل، أي: قيل لأجلهم هذا القول: بعداً للقوم الظالمين! لم يقل تعالى: وقيل بعداً لهم، أو بعداً للمغرقين وإنما قال: ((وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) للإشعار بأن علة الإهلاك هي الظلم الذي تلبسوا به، ولتذكر ما سبق من قوله: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)).

جهات الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

جهات الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) كما أشرنا من قبل أن إعجاز القرآن الكريم علم مستقل من علوم القرآن الكريم، وهو من العلوم المهمة التي نحن في أشد الحاجة إلى تدارسها، ولاشك أن كل آية من القرآن الكريم فيها إعجاز، وهذه الآية من الآيات التي فيها من مظاهر الإعجاز ما حير ألباب فطاحل البلاغة والبيان والبديع وسائر علوم الإعجاز. وقد ذكر القاسمي هنا فصلاً طويلاً نسبياً في هذا الموضوع، وسنمر عليه بدون تعليقات كثيرة. يقول القاسمي: (هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها، وقد اهتم علماء البيان بإيضاح تحب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالاً في مضمار معارفها الإمام السكاكي فقد أطال وأطاب في كتابه المفتاح، وتلطف في البيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه، قال عليه الرحمة في بحث البلاغة والفصاحة، وتعريفها الأول: بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقديمه للفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد، وإلى اللفظ وهو كونه عربياً أصلياً، جارياً على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، وأكثر في الاستعمال. يقول: وإذ قد وقفت على البلاغة وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها. يعني: أن من تحدوا بها من جهابذة اللغة والبلاغة والبيان والأدب وهم فحول قريش، قد رأوا بما عندهم من مفاهم البلاغة ومعرفتها ما أعجزهم عن أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فهذه المعاني أدركها هؤلاء لعلو شأوهم في الفصاحة وفي البلاغة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها. يقول: وهي قوله علت كلمته: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]، والنظر في هذه الآية من أربعة جهات: من جهة علم البيان. ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية. ومن جهة الفصاحة اللفظية.

الجهة الأولى: علم البيان في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

الجهة الأولى: علم البيان في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بنى الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه -لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجازم النافذ في تكوين المقصود، تصويراً لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجاداً وعدماً، ولمشيئته تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته. لا شك أنه لا ينبغي القول بأن القرآن فيه مجاز، لأنه لا مانع على الإطلاق أن الله سبحانه وتعالى يخلق في الأرض إدراكاً بحيث تخاطب، كما في هذا الموضع: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) ما المانع أن يخاطب الله الأرض فتمتثل حقيقة هذا الأمر؟! وكذلك قوله: ((ويا سماء أقلعي))، وقد قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، ما الذي يمنع أن يكون القول حقيقياً، وأن تكون الإجابة منهما أيضاً حقيقية. يقول: كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علماً بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، وتصور مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته، كان المشار إليه مقدماً، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمماً، لا تلقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز المرسل عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو (يا أرض!) (ويا سماء!). ثم قال كما ترى: (يا أرض!) (ويا سماء!) مخاطباً لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لمرور الماء في الأرض البلع: (ابلعي ماءك) الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهاً له بالغذاء؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحاً لاستعارة النداء. ثم قال: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، يعني: كأن الأرض تملك هذا الماء. واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل فعله للشبه بينهما في عدم ما كان، ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر قائلاً: ((ويا سماء أقلعي)) بمثلما تقدم في ((ابلعي)) ثم قال: ((وغيض الماء)) فلم يصرح بمن غاض الماء. ((وقضي الأمر)): ولم يصرح أيضاً بمن قضي عليه الأمر، ومن سوى السفينة. ((وقيل بعداً)) كما لم يصرح بقائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) في صدر الآية. سلك في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، بمعنى: أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائلاً: (يا أرض!) (ويا سماء!). هذه حقيقة مقررة لا تحتاج لبيانها وتوضيحها؛ لأنه لا يتصور أن يقدر على هذه الأفعال إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]. فهو قهار لا يغالب، فلا مجال لذهاب الوهم أن يكون غيره -جلت عظمته- هو قائل: (يا أرض!) (ويا سماء!) ولا غائض مثلما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره، ثم ختم الكلام بالتعريض بالدعاء على قوم نوح بالهلاك: ((وقيل بعداً للقوم الظالمين)) تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم، وإظهار لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم.

الجهة الثانية: علم المعاني في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

الجهة الثانية: علم المعاني في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) قال: أما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة. المقام هنا مقام إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، فيناسب أن تنادى الأرض والسماء بنداء البعيد: (يا أرض!) (ويا سماء!) فمقام العظمة يستدعي وجود البعد بين مرتبة الخالق الآمر والمخلوق الذي يؤمر هنا. قال: وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرضي بالإضافة؛ لإبداء التهاون. يعني: لو أنه قال: يا أرضي ابلعي ماءك، فمثل هذه الإضافة يكون فيها تكريم للأرض وتشريف، لكنه قال: (يا أرض ابلعي ماءك) لإبداء التهاون، فترك هذه النسبة. ولم يقل: يا أيتها الأرض! لقصد الاختصار، مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام. واختير لفظ الأرض دون سائر أسمائها؛ لكونها أخف وأدوم، دون سائر أسمائها. أي: كالغبراء أو المقلة من أسماء الأرض؛ لكنه استعمل لفظة الأرض. واختير لفظ السماء بمثلما تقدم في الأرض. أي: لم يقل: الخضراء أو المظلة أو غير ذلك من أسماء السماء، مع قصد المطابقة؛ لأنها في مقابلة الأرض. واختير لفظ: (ابلعي) على ابتلعي؛ لكونه أقصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي). ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)) لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء، وإنما لم يقل: ابلعي بدون المفعول؛ لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظراً إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء؛ لأنه ممكن أن الأرض تبتلع الجبال وتبتلع التلال وتبتلع البحار، لكن قال: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك)). ثم بيَّن المراد واختصر الكلام مع أقلعي: ((ويا سماء أقلعي)) ولا يحتاج هنا إلى أن يذكر أقلعي عن الماء؛ احترازاً عن الحشو المستغنى عنه. وهو الوجه في أن ((قيل يا أرض ابلعي ماءك)) فبلعت ((ويا سماء أقلعي)) فأقلعت. واختير غيض على غيّض المشدد لكونه أقصر. وقيل: ((وغيض الماء)) ولم يقل: وغيض ماء طوفان السماء. وقيل: ((وقضى الأمر)) دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحاً من إهلاك قومه؛ لقصد الاقتصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. وقيل: ((واستوت على الجودي)) ولم يقل: سويت على الجودي؛ بمعنى: أقرت على الجودي. وقيل: وغيض وقضي بالبناء للمفعول اعتباراً ببناء الفعل للفاعل مع السفينة، في قوله: ((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ))، فلما جاء ذكر السفينة بني الفعل للمعلوم فناسب أن يقول هنا: ((واستوت)) ولم يقل: وسويت على الجودي جرياً على السياق الذي جرى من قبل وهو قوله: ((وهي تجري بهم في موج)) مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قال: ((وقيل بعداً للقوم)) ولم يقل: ليبعد القوم؛ طلباً للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول (بعداً) وحده منزلة ليبعدوا بعداً، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع بعداً الدال على معنى أن البعد لصيق بهم وحق له؛ لأنه لو قال: ليبعد القوم لما ظهرت اللام. ((الظالمين)) هنا أطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلمة والألفاظ، وأما من حيث النظر إلى تركيب الجمل فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر: ((وقيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي)) ولم يقل: ابلعي يا أرض! ولم يقل: أقلعي يا سماء! جرياً على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه؛ ليمكن الأمر الوارد عقبه في نفس المنادى. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء: ((وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي))؛ لأن الطوفان ابتدأ من الأرض، وبنزولها منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى. ثم أتبعهما قوله: ((وغيض الماء)) لاتصاله بقصة الماء، وغيض الماء النازل من السماء فغاض، ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: ((وقضي الأمر)) أي: بإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة وهو قوله: ((واستوت على الجودي))، ثم ختمت القصة بما ختمت وهو التعريض الذي سبق بيانه. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.

الجهة الثالثة: الفصاحة المعنوية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

الجهة الثالثة: الفصاحة المعنوية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) أما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية: فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، وفي أوجز وأقصر عبارة وأبلغها يقول عز وجل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44]، لا تعقيد يعكر الفكرة في طلب المراد، ولا التواء يشيك الطريق إلى المراد، بل إذا جربت نفسك عند اجتماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك. وهذا من أعظم مظاهر الإعجاز في هذه الآية الكريمة، فكأن المعنى في مسابقة مع اللفظ حتى كاد المعنى يسبق إلى قلبك قبل أن يصل اللفظ إلى أذنك من شدة الوضوح وسلاسة التعبير.

الجهة الرابعة: الفصاحة اللفظية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك)

الجهة الرابعة: الفصاحة اللفظية في قوله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) أما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر. ولا تظنن هذه الآية الكريمة مقصورة على ما ذكرت من البلاغة والفصاحة، وإنما هذه مجرد إشارات، لكن من تمعن وتحرى سيجد ما هو أضعاف أضعاف هذه الفوائد، ولعل ما تركت أكثر مما ذكرت، لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإشارة بكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ منهما عن المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع على وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه، ولكَم من آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها، واستلبت ماؤها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]. انتهى كلام السكاكي.

ذكر من ألف ذكر شيئا في إعجاز الآية الكريمة

ذكر من ألف ذكر شيئاً في إعجاز الآية الكريمة وقد تصدى أبو حيان أيضاً في تفسيره المسمى بالنهر للطائفها، وساق أحداً وعشرين نوعاً من البديع. وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة مستقلة في هذه الآية الكريمة سماها: النهر المورود في تفسير آية هود، وهي في استخراج أوجه الإعجاز والبلاغة في هذه الآية الكريمة، أورد تلك الأنواع البديعية أيضاً وهي: المناسبة، والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة، والتمثيل، والإرداف، والتعليل، وحسن التقسيم، والاحتراف، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم، والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف. إن هذا البحث يحتاج إلى تفصيل أكثر من هذا، لكن هذا أنموذج من الثمرات التي يقطفها العلماء من علم إعجاز القرآن الكريم، انظر كم من عناوين لبعض البحوث لا نعرف معناها مثل: التسهيم والاحتراف والإيضاح، وغير هذه من الاصطلاحات الفنية في علم البلاغة، ومن خبرها وسبر غورها فإنه يستطيع أن يتذوق حلاوة القرآن الكريم. فهذه إشارة وأنموذج لما يمكن أن يستنبط من الكنوز من كلام الله سبحانه وتعالى فإنه {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]. فإذاً علم الإعجاز علم ضخم جداً وعلم عالي القدر، وهو من أشرف علوم القرآن الكريم. المؤلفات في إعجاز القرآن كثيرة جداً، لكن هذا بحر لا يتمكن من الغوص فيه إلا من كان خبيراً بهذا الغوص؛ حتى يستطيع أن يستخرج هذه اللآلئ.

تفسير قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي)

تفسير قوله تعالى: (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي) قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]. ((ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي)) هذا إعلام بأن نوحاً حملته شفقة الأبوة وعاطفة الرحم والقرابة على طلب نجاته؛ لشدة تعلقه به واهتمامه بأمره، وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة الإلهية وحسن السؤال فقال: ((وإن وعدك الحق)) ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي. وإنما قال نوح ذلك لفهمه من الأهل أن ابنه يدخل في أهله الذين وعدهم الله بالإنجاء، ففهم من الأهل ذوي القرابة الصورية والرحم النسبية، ولفرط التأسف على ابنه غفل عن أن ابنه مستثنى، وذلك لقوله تبارك وتعالى: ((وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ))، ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام وعرض بقوله: ((وأنت أحكم الحاكمين)) أي: أنك العادل والحكيم الذي لا يخلف وعده.

تفسير قوله تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك)

تفسير قوله تعالى: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] أي: ليس من أهلك الموعود إنجاءهم بل هو من المستثنين لكفرهم. لا ينبغي أبداً أن يفهم من قوله: ((إنه ليس من أهلك)) أنه ليس من صلبك؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]، أي: فخانتاهما في العقيدة وفي الإيمان، وليست الخيانة المعروفة بارتكاب الفاحشة؛ لأنه يستحيل أن امرأة نبي ترتكب الفاحشة، فبعض الناس قد يربط بين قوله: ((فخانتاهما)) وبين قوله: ((إنه ليس من أهلك)) فنقول: لا هو من أهله من حيث إنه من صلبك، لكن المقصود أنه من أهلك الذين استثنيتهم بقولي: ((وأهلك إلا من سبق عليه القول)). أو ((يا نوح إنه ليس من أهلك)) أي: هو ليس من أهلك أصلاً؛ لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر، وذلك لقوله: ((إنه عملٌ غير صالح)) أو ((إنه عَمِلَ غير صالح)) في هذه إشارة إلى أن القرابة الحقيقية هي القرابة في الدين وأخوة الدين. وكما هو معلوم لو أن رجلاً مؤمناً مات وترك مالاً كثيراً، ولم يترك من ورثته إلا ابناً له كافر، فبإجماع العلماء لا يرثه ابنه الكافر، وإنما يئول ماله إلى إخوانه المسلمين، فقدمت رابطة العقيدة على رابطة النسب، فكذلك قوله تعالى هنا: ((إنه ليس من أهلك)) أي: ليس من أهلك الذين هم على دينك وعقيدتك وقرابتك الدينية، ولا علاقة ولا موالاة بين المؤمن والكافر. قال القاشاني: أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعنوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن عدو محمد صلى الله عليه وسلم من عصى الله وإن قربت لحمته. يعني كما قال الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وسبب النجاة ليس إلا الصلاح، وهذا لم يكن صالحاً، وليس سبب النجاة قرابته منك بحسب القرابة اللحمية النسبية، فمن لا صلاح له لا نجاة له، وهذا سر إيثار كلمة ((غير صالح)) على عمل فاشل، أو عمل فاسد؛ لأن مناط النجاة إنما هو الصلاح. وقد قرأ يعقوب والكسائي: (إنه عَمِلَ غير صالح)، أي أن ابنك عمل عملاً غير صالح، والباقون قرءوها بلفظ المصدر بجعله نفس العمل مبالغة كما بينا. و (غير) على قراءة يعقوب والكسائي تكون مفعولاً به. قوله: ((فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) أي: لا تلتمس مني ملتمساً لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه. قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه أصلاً، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله كما هنا ((فلا تسألن ما ليس لك به علم)). أما إن كان السؤال من أجل الاسترشاد واستفادة العلم فهذا لا حرج فيه. قوله: ((إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) أي: أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم. وقد تنبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عند ذلك التأديب الإلهي والعقاب الرباني وتعوذ بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].

تفسير قوله تعالى: (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم)

تفسير قوله تعالى: (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] يعني: ما فرط مني، ((وَتَرْحَمْنِي)) أي: بالوقوف على ما تحب وترضى، ((أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) أي: الذين خسروا أنفسهم بالاحتجاب عن رحمتك. قال القاسمي: تنبيه: ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته أي أنه ربيبه، وأيده بعضهم بقراءة علي: (ونادى نوح ابنها) والله تعالى أعلم. لكن ظاهر القرآن أنه ابنه من صلبه، ولا دليل على هذا الذي رواه أو ذكره.

تفسير قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا)

تفسير قوله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا) لقد أخبر تعالى عما قال لنوح عليه السلام بعد أن أرست السفينة على الجودي بقوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود:48]. ذكر في إحدى الجرائد في أمريكا -وعندي صورة المقالة- أنه اكتشف هيكل أو جسم سفينة نوح عليه السلام في منطقة فيها تسمى الجودي، وهناك بعض القنوات في التلفاز في أمريكا مختصة بالقضايا العلمية أو الظواهر الطبيعية، ومن ضمن هذه البرامج حلقة مخصوصة عن سفينة نوح عليه السلام، وقد أرسل لي أحد الإخوة شريطاً، لكني حتى الآن لم أتمكن من رؤيته؛ لأني أعرف أن الناس الذين عندهم (فيديو) غالبهم غير ملتزمين بالدين، فلا نحب أن نظهر لهم الاحتياج إليهم حتى نرى، لكن قرأت التعليق على هذا الشريط في الجريدة، وذكروا أنه اكتشفت سفينة نوح في هذا المكان. ((قيل يا نوح اهبط)) أي: أنزل من السفينة. ((بسلام منا)) أي: بسلامة منا. ((وبركات عليك وعلى أمم ممن معك)) أي: ممن معك في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان ((وأمم)) أي: ومنهم أمم ((سنمتعهم)) أي: في الحياة الدنيا لتعلقهم بها ((ثم يمسهم منا عذاب أليم)) أي: في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما. في الحقيقة أن من إعجاز القرآن الكريم تكرر حرف الميم فيها كثيراً، ومع ذلك لا يشعر القارئ بأي ثقل له على اللسان، مع أنه لو كان في غير القرآن لشعرت بثقل الحرف، لكن مع تكراره لا تكاد تشعر بهذا التكرار، هذا أيضاً مما أشار إليه بعض العلماء في إعجاز القرآن الكريم.

كلام العلماء في الطوفان الذي وقع لقوم نوح

كلام العلماء في الطوفان الذي وقع لقوم نوح ذهب العلماء في الطوفان مذاهب شتى، فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة حينئذٍ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم، ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه. خلاصة الكلام أن الحق ما عليه أهل الشرائع في أن نوحاً عليه السلام لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة نزل بهم فماتوا بعد ذلك ولم يعقبوا، وصار العاقب في أولاد نوح الثلاثة، ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]. يقول المقريزي في الخطط: هم ثمانون رجلاً سوى أولاده، فمات الثمانون وبقي أولاده الثلاثة ومنهم خرج الجنس البشري. وذلك باعتبار أن نوحاً هو أبو البشر الثاني. وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع؛ لما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ولم يعقبوا، فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وصار أباً ثانياً للخليقة، ولذلك قيل: إنه أبو البشرية الثاني بعد آدم عليه السلام. قال بعضهم في تقرير عموم الطوفان مبرهناً عليه: إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف. الذين يدرسون الجيولوجيا يعرفون هذا جيداً، ففي بعض الأماكن من الأرض التي هي بعيدة تماماً عن البحار يجدون آثاراً بحرية، وحفريات من الكائنات البحرية، فهذا مما يؤيد عموم الطوفان للأرض كلها. يقول: وقد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها وبعضها مدفون على مقربة منها، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذلك المكان وجمعها قسراً فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين، فتحجرت وظلت شاهدة على ما كان بأمر الخالق تبارك وتعالى. إن قائل هذا الكلام ليس باحثاً من علماء الجيولوجيا، وإنما هو ابن خلدون. واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاماً، إذ لم يكن العمران قائماً إلا لقوم نوح، فكان عاماً لهم وإن كان من جهة خاصاً بهم، إذ ليس ثم غيرهم. قال: هبط آدم إلى الأرض وهو ليس بأمة، لذا مرت عليه قرون ولَّدت أمماً، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل قرون، ونمو عشيرته لا يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً، من آدم إلى نوح ثمانية أبناء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافاً حتى يطئوا وجه الأرض بالأقدام وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين، أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان من المكان الخاص الذي سبق به البيان فلا برهان، وإن كان في غير ذلك المكان فإن لم يكن وضعها إنسان كما وجدها إنسان، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان. على أي الأحوال يقولون: الطوفان خاص وعام، خاص بمكان، عام لسائر المكان. يبدو أن القاسمي كان يريد التوسع في هذا البحث، يقولون: إنه ترك فراغاً قدره ثلاث صفحات وثلث صفحة في هذا الموضع، مما يشير أنه كان يريد التفصيل فيه، لكن يبدو أنه عاجلته المنية رحمه الله.

تفسير قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك)

تفسير قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك) يقول تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]. ((تلك)) إشارة إلى قصة نوح عليه السلام ((من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا)) أي: من قبل هذا الإيحاء إليك، والإخبار بها، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم، ((ولا قومك)) أي مع كثرتهم لم يسمعوا بها. ((فاصبر)) أي: على تبليغ الرسالة وأذى قومك كما صبر نوح عليه السلام، وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قضي لنوح ولقومه، كذا في الكشاف. ((فاصبر إن العاقبة)) أي: في الدنيا بالنصر والظفر وفي الآخرة بالنعيم الأبدي، ((للمتقين)) أي: المتقين الشرك والمعاصي.

هود [50 - 83]

تفسير سورة هود [50 - 83]

تفسير قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله)

تفسير قوله تعالى: (وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود:50]. ((وإلى عاد أخاهم هوداً)) عطف على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} [هود:25] أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. وأخاهم يعني: واحداً منهم، كما يقولون: يا أخا العرب! يريدون بذلك واحداً من العرب. وعاد هذه التي يذكرها الله سبحانه وتعالى هنا هي عاد الأولى، التي قال تعالى فيها: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50]، وقال فيها أيضاً: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8]؛ لأن عاداً عبارة عن شعبين، أو قبيلتين، أو أمتين: عاد الأولى، وعاد الآخرة أو عاد الثانية. أما الأولى: فهي التي أرسل إليها هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح، وقد سكنوا في جنوب الجزيرة العربية تقريباً في منطقة عمان وجنوب اليمن حتى صحراء الربع الخالي، وهي التي تسمى الأحقاف. أما عاد الثانية: فهم من نسل هود والمؤمنون الذين خرجوا معه من الأحقاف قبل هلاك قومهم، وسكنوا اليمن حتى غزاهم القحطانيون من العراق، وسيطروا على اليمن بعد أن أبادوا عاداً الثانية. فعاد الثانية أهلكت عن طريق القحطانيين لما غلبوهم وأبادوهم، ولذلك يقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم:50] ولم يقل: (فما أبقى) لأنه أبقى من نسلهم من كان منهم عاداً الثانية، لكن في ثمود قال: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51] أي: وأهلك ثمود فما أبقى منهم أحداً بل استأصلهم. وعاد عند العرب رمز للقدم والأبدية، كما يقال: هذا الشيء قديم قدم عاد، فهي من العرب البائدة، هي أقدم قبائل العرب على الإطلاق. ويقال: هذا الشيء عادي، وليس ذلك نسبة إلى العادة ولكن نسبة إلى قوم عاد، والمعنى: أنه موغل في القدم. ويقال: العاديات ويعبر بها عن الآثار والأطلال، ولذلك تسمى المحلات التي تباع فيها التحف القديمة والنادرة العاديات. ومما يلاحظ أن لهجة أهل الصعيد تتميز عن لهجة أهل الوجه البحري بكلمة عاد، فأهل الصعيد حتى الآن يستعملون كلمة عاد بمعنى: أبداً، فلعل هذه الكلمة تميز بها أهل الصعيد؛ وذلك لأنه قدمت مع عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قبائل عربية من اليمن، وهذه القبائل استقرت في الصعيد لتشابه المناخ بين الصعيد وبين اليمن، وموطن عاد كان في حضرموت وفي جنوب اليمن، وهؤلاء تواترت عندهم كلمة عاد حتى جاءت إلى صعيد مصر، فلعل هذا هو سبب بقاء كلمة عاد في لغة أهل الصعيد، والله أعلم. ((قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) أي وحده ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)). ((إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ)) أي: باعتقاد الأوثان شركاء وجعلهم شفعاء.

تفسير قوله تعالى: (يا قوم لا أسألكم عليه أجرا)

تفسير قوله تعالى: (يا قوم لا أسألكم عليه أجراً) قال تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} [هود:51]. لماذا خاطب كل رسول قومه بقوله: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً))؟ إزاحة للتهمة، وتمحيضاً للنصيحة، فإنها لا تنجع النصيحة ما دامت مشوبة بالمطامع والطموحات المادية، لذلك ينزه هود عليه السلام نفسه عن هذه التهمة، فيقول: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)) أي أفلا تفهمون وتعون إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجراً. أو (أفلا تعقلون): أي: أفلا تتدبرون الصواب من الخطأ.

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه)

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:52]. ((ويا قوم استغفروا ربكم)) أي: من الوقوف مع الهوى بالشرك ((ثم توبوا إليه)) أي: من عبادة غيره بالتوجه إلى التوحيد. ((يرسل السماء عليكم مدراراً)) أي: كثير الدر، وقلنا: كثير الدر ولم نقل: كثيرة الدر مع أن السماء كلمة مؤنثة؛ لأن المقصود بالسماء المطر، فنظر إلى المعنى. و ((مدراراً)) منصوب على الحال من السماء، أو أن المراد بالسماء السحاب فذكر على المعنى، أو أنه مفعال للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو أن الهاء حذفت من مفعال، أو مفعال على طريق النسق. ((وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)) أي: قوة مضمومة إلى قوتكم، أو قوة مع قوتكم، وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة؛ لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، كانوا شديدي الحرص على كثرة النسل وكثرة الأموال وكثرة الأولاد، حتى يتقووا بذلك على إثراء أموالهم وترهيب أعدائهم، فقد كانوا مثلاً في القوة، كما قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]، واغتروا بقوتهم. قوله: ((ولا تتولوا)) أي: لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ((مجرمين)) أي: مصرين على إجرامكم وآثامكم. قد حصل في بعض الاكتشافات الحديثة عن طريق التصوير من الفضاء أن اكتشفوا آثار مدينة إرم ذات العماد، كما نشر في بعض الجرائد الأجنبية، ونشر أيضاً هنا في جريدة الأهرام يوم عشرة شهر أربعة عام اثنين وتسعين تسعمائة وألف. قالوا: أعلن العلماء مؤخراً اكتشاف آثار عاصمة ملك عاد المعروفة باسم إرم، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، جاء ذلك عقب دراسات وأبحاث علمية قام بها علماء الفضاء والجيولوجيا والآثار والتاريخ، وأشارت إليها بعض الصحف العالمية ومن بينها مجلة التايم في فبراير الماضي ومجلة لوس أنجلوس تايم، وفي أحدث تقرير علمي عن هذا الاكتشاف تلقاه الدكتور زغلول راغب النجار أستاذ علوم الأرض يبين معالم هذا الاكتشاف يقولون فيه: إنه في عام أربعة وثمانين وتسعمائة وألف زود مكوك الفضاء (تشيلنجر) بأجهزة استشعار عن بعد، تستخدم موجات من الأشعة غير المرئية أمكنها تصوير العديد من مجاري الأنهار القديمة والطرق المدفونة بالرمال بدقة بالغة في مساحات شاسعة إلى آخره. والتفصيل حول هذا التقرير قد نشر فيه بعض الصور، لكنها ليست واضحة لدرجة كافية، لكن على أي الأحوال نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد العباد يقيناً؛ لأن هذه المدينة مدفونة تماماً تحت الرمال، حيث عاقبها الله سبحانه وتعالى بعاصفة رملية غطت بلادهم تماماً رغم أنهم كانوا يقولون: ((من أشد منا قوة)). أما بالنسبة لمكان سفينة نوح فالتوراة تقول: إنها استقرت على جبل أرراك، أما القرآن فقد كان أكثر دقة حيث نص على أنها استقرت على جبل الجودي، وهو المكان الذي اكتشفت فيه بقاياها، والذي يبعد عشرين ميلاً عن جبل أرراك، الذي ذكر في التوراة، فهم يعترفون أن القرآن أكثر دقة من كتبهم.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود:53]. قوله تعالى: ((قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)) أي: ما جئتنا بحجة تدل على صحة دعواك. وذلك لقصور فهمهم وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان، وللغشاوات والأقفال التي على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يفهموا هذه البينة، فأحياناً يكون العيب في عقل المستمع وليس في حجة المتكلم، وهذا حال منكري رسالات الأنبياء. ((وما نحن بتاركي آلهتنا)) أي: بتاركي عبادة آلهتنا. ((عن قولك)) هذا حال من ضمير تاركي أي: وما نحن بتاركي آلهتنا صادرين عن قولك. أو ((عن)) للتعليل كما في قوله: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} [التوبة:114] أي: لأجلها. والقول بأنها حال أبلغ؛ لدلالته على كونه علة الفاعلية، وهذا كقولهم في الأعراف: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70] انظر إلى الخبل الذي في عقولهم! ((وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)) أي: مصدقين، والمقصود إقناط الرسل من إجابتهم.

تفسير قوله تعالى: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء)

تفسير قوله تعالى: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) قال عز وجل: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]. ((إن نقول إلا اعتراك)) أي: مسّك، ((بعض آلهتنا بسوء)) أي: بجنون؛ لسبك إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين. انظر وقارن بين خطاب هود عليه السلام وبين كلامهم هم، من الذي يفتقر إلى البينة؟ {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود:53] أي: ايئس منا، ولا يكن عندك أي أمل في أن نستجيب لك. {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]. يقول الزمخشري: دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. زعموا واعتقدوا أن الحجارة تنتصر وتنتقم وتقوى على أن تصيب هوداً عليه السلام بالجنون كما زعموا. قال الزمخشري: من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوس واحدة. وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: ((ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71]. هو يتحداهم أن يجمعوا كل من يستطيعون وشركاءهم، سواء الذين يعبدونهم من دون الله أو الذين يعبدونهم معه. ((ثم اقضوا إلي ولا تنظرون)) أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثق هذه البراءة بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد أي: حيث قال: ((قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا)): أنتم أيضاً: ((أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) * ((مِنْ دُونِهِ)). قال الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله. ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، دون إمهال فقال: ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا)) أي: أنتم وآلهتكم. ((ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)) أي: إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم لها تأثير في الضر فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال. قال أبو السعود: فالفاء في قوله: ((فكيدوني جميعاً)) لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم: يعني إن كانوا قادرين فكيدوني جميعاً، وعلى البراءة من كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلاً فرداً بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد، وكانوا معروفين بأن أجسامهم كانت ضخمة جداً، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقَّرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].

تفسير قوله تعالى: (إني توكلت على الله ربي وربكم)

تفسير قوله تعالى: (إني توكلت على الله ربي وربكم) {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. ((إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ)) أي: فلا تستطيعون أن تصلوا إلي بسوء؛ لتوكلي على الله. ((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا)) أي: مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء. قال القاشاني: بيّن وجوب التوكل على الله وكونه حصناً حصيناً، أولاً: لأن ربوبيته شاملة لكل أحد: ((فإني توكلت على الله ربي وربكم))، أي: من يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، ويقوم بأفعال الربوبية من التربية والتنمية والرعاية هو الله. إذا قلنا: الأم تربي ولدها، فيلزم من ذلك أنها تحفظه وترعاه وتحميه من كل سوء، فكذلك شأن الرب بل هو أولى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فمن يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه، فهو يقول: إذا كان هو ربي فهو الذي يحفظني وحده، ولذلك أتوكل عليه وحده. ((مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا))، فكل ذي نفس تحت قهر الله عز وجل وسلطانه، أسير تحت تصرفه ومملكته وقدرته، عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره، لا حراك به بنفسه كالميت، فلا حاجة إلى الاحتراز منه. والناصية هي منبت الشعر من مقدم الرأس، وقد تطلق على الشعر نفسه. تسمية للحال باسم المحل، يقال: نصوت الرجل يعني: أخذت بناصيته، ويقال: ناصيته بيده أي: هو منقاد لها، والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط. ((إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)): تعليل لما يدل عليه التوكل، من عدم قدرتهم على إضراره، أي: هو على طريق الحق والعدل في ملكه، فلا يسلطكم علي إذ لا يضيع عنده معتصم به ولا يفوته ظالم؛ لأنه تعالى مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهذا كقوه تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]. والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه في قوله: ((إن ربي على صراط مستقيم)) ولم يقل في هذه المرة: إن ربي وربكم كما قال أولاً: ((إني توكلت على الله ربي وربكم)) هذا الاقتصار إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد؛ لأنه واضح من السياق أنه يقصد ربي وربكم، أو للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دون هؤلاء القوم.

تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم)

تفسير قوله تعالى: (فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم) قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود:57]. ((فإن تولوا)) أي: إن تتولوا، بحذف إحدى التاءين. ((فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم)) أي: قد قامت الحجة عليكم. ((وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ)): هذا استئناف بالوعيد لهم، بأن يهلكهم الله سبحانه وتعالى ويأتي بقوم آخرين يخلفونهم في ديارهم وأموالهم. ((وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا)) أي: لن تضروا الله سبحانه وتعالى بهذا التولي والإعراض عن دعوته شيئاً؛ لاستحالته عليه، بل تضرون أنفسكم، أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء. ((إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)) أي: رقيب مهيمن عليه، فلا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم بحسبها. أو ((إن ربي على كل شيء حفيظ)) أي: حافظ حاكم مستول على كل شيء، فلا يمكن أن يضره شيء.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا) قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود:58]. ((ولما جاء أمرنا)) أي: عذابنا أو أمرنا بالعذاب، وهو الريح العقيم ((نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ)). وقد بين الله صفة إهلاكهم في غير ما آية منها قوله تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8]. فإن قلت: ما معنى تكرار لفظ النجاة هنا في قوله تعالى: ((ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ))؟ ف A أن الأول هذا إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله، والثاني بيان لما نجوا منه وأنه أمر شديد عظيم غير سهل. إذاً فلا تكرار، فهو للامتنان عليهم وتحريض لهم على الإيمان. ((ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا)) أي: من عذاب الدنيا. ((ونجيناهم من عذاب غليظ)) أي: من عذاب الآخرة، تعريضاً بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ، ويرجح الأول لملائمته لمقتضى المقام.

تفسير قوله تعالى: (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله)

تفسير قوله تعالى: (وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله) قال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]: تأنيث اسم الإشارة باعتبار القبيلة ((تلك عاد)) أي: تلك قبيلة عاد، وصيغة البعد للتحقير، أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم. أما إذا كانت الإشارة لمصارعهم، أي: تلك مصارع عاد فهي للبعيد المحسوس، لبعد الأماكن التي أهلكوا فيها، وديارهم باقية إلى الآن. قوله: ((جحدوا بآيات ربهم)) فالجحود هنا تعدى بالباء حملاً له على الكفر؛ لأنه المراد، أو بتضمينه معناه، فضمن (جحد) معنى (كفر) فلذلك عديت بالباء. كما أن (كفر) تجري مجرى (دحض) فتتعدى بنفسها، كما في الآية الآتية: ((ألا إن عاداً كفروا ربهم)). قال تعالى: ((جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ)) أي: كفروا بالله وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته. وجمع الرسل في قوله: ((وعصوا رسله)) مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لشدة كفرهم وعنادهم، ولبيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين؛ لاتفاق كلمتهم على التوحيد، كما قال تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]؛ ولأن الكفر برسول واحد يعني الكفر بجميع المرسلين قال عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123] وفي آية أخرى، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، مع أن المرسل إليهم رسول واحد؛ والإيمان بجميع الرسل شرط في صحة الإيمان، وقد ذكرنا مراراً أن حقائق الإيمان مرتبطة ومتلازمة بحيث لا ينفك بعضها عن بعض، فإذا اختل واحد منها اختل الإيمان كله، فمثلاً لو أن واحداً آمن بجميع الأنبياء ثم استثنى نبياً واحداً وكفر به، فهذا يهدم إيمانه بجميع الأنبياء، فيصدق عليه أنه كفر بجميع الرسل وجميع الأنبياء، فكذلك هنا قوله تعالى: ((جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله)). ((واتبعوا)) أي: أطاعوا في الشرك ((أمر كل جبار عنيد)) لا يستدل بدليل ولا يقبله من غيره، يريد بذلك رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.

تفسير قوله تعالى: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة) قال تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود:60]. ((وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة)) أي: جعلت اللعنة تابعة لهم ولازمة لهم في الدارين. قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة، ولم يقل: وجعلت عليهم اللعنة وإنما قال: ((وأتبعوا)) يعني: أنها لازمة لهم لصيقة بهم، أينما ذهبوا، فهي لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب، بل تدور معهم حيثما داروا، وذلك بسبب اتباعهم رؤساءهم جزاءً وفاقاً. وهذه إشارة إلى قاعدة: الجزاء من جنس العمل، لأنهم كما في الآية السابقة: ((وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، فلما اتبعوا رؤساءهم في الكفر كان جزاؤهم: ((وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ))، أي: هذا جزاء متابعتهم رؤساءهم في الكفر والعناد والتجبر، فعوقبوا من نفس الجنس بأن أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة. ((أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ)) أي: إذ عبدوا غيره، وسبق أن أشرنا إلى أن كفروا هنا تعدت بنفسها بدون حرف الباء. ((أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)) دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت ما لا يخفى فظاعته. وتكرار حرف التنبيه (ألا) للمبالغة في تهويل حالهم والحث على الاعتبار بنبئهم. وقوله: ((ألا بعداً لعاد قوم هود)) هذا عطف بيان لعاد ((ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود)) الفائدة المزيدة هنا هي النسبة بذكر هود عليه السلام، وفيها إشارة إلى أنهم ما استحقوا هذه الهلكة إلا بإعراضهم عن دعوة نبيهم هود عليه السلام، ولذلك قال: ((ألا بعداً لعاد قوم هود)) كأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه عليه السلام. وهنا تناسب أيضاً بين أواخر الآيات؛ لأنه قال قبلها: ((وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ))، وقبل ذلك: ((حَفِيظٌ))، و ((غَلِيظٍ))، وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القواسم، وهنا ختمت الآية بقوله: ((أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)).

تفسير قوله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحا)

تفسير قوله تعالى: (وإلى ثمود أخاهم صالحاً) قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]. ((وإلى ثمود)) عطف على ما سبق بيانه من قوله: ((وإلى عاد)) أي: وأرسلنا إلى ثمود وهي قبيلة من العرب ((أخاهم صالحاً)) أي: واحداً منهم. ((قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ)) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقكم وكونكم من الأرض ولم يشركه غيره في خلقكم، فإنه خلق آدم من التراب. ((وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)) أي: عمركم فيها، أو جعلكم قادرين على عمارتها، كقوله تعالى في سورة الأعراف: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف:74]. ((فَاسْتَغْفِرُوهُ)) أي: من الشرك. ((ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)) بالتوحيد. ((إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)) أي: قريب الرحمة لمن استغفره، مجيب الدعاء بالقبول.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا) قال تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]. ((قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)) أي: قد كنت قبل أن تقول هذا الكلام الذي تقوله الآن رجلاً عاقلاً رشيداً، وكنا نؤمل أن ننتفع بعقلك وذكائك وحكمتك، وأن تكون مسترشداً في التدابير، نستبصر برأيك في الأمور، فلما نطقت بهذا الكلام انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. انظر إلى عفن عقولهم، هو يقول لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] وهم يسفهونه، فلا يعجب المرء إذاً حينما يسمع من ملاحدة هذا الزمان نفس الأسلوب، فهم يتكلمون عن أهل الدين وأهل التوحيد ويصفونهم بأنهم متخلفون عقلياً، ويظهرون المتدين بصورة الإنسان المخبول أو المهووس أو المجنون أو الذي يخرف، أو الجاهل الذي لا يعي ولا يعقل ولا يفلسف الأمور، كما سبق من قول قوم نوح له: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] ويقولون: نحن المفكرون، نحن المثقفون، نحن المتنورون، أما أنتم فجماعات ظلامية. ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالشاهد أننا لا نعجب؛ فهذه سنة الله سبحانه وتعالى تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، نفس الأسلوب يتكلمون كأنهم على الحق الذي لا حق بعده، وكأن أهل التوحيد وأهل الطاعة وأهل الإسلام الذين يدعونهم إلى توحيد الله عز وجل متطرفون مخبولون مهووسون، إلى آخر ما يهذون به ويفترون. فانظر هذه كانت ردود الكافرين على الأنبياء الذين هم أشرف الخلق عند الله سبحانه وتعالى، فقد قالوا لنوح عليه السلام: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، وقال قوم هود عليه السلام لهود: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، ويقول قوم صالح لنبيهم: ((يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا)) أي: ما الذي حصل في عقلك؟ قد كنا نؤمل أن ننتفع بهذا العقل، أما الآن فلا رجاء فيك! ((أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا)) أي: من الأوثان. ((وإننا لفي شك مما تدعونا إليه)) أي: من التوحيد. ((مريب)): موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.

تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي)

تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63]. ((قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ)) أي: أخبروني ((إن كنت على بينة من ربي)) أي: حجة ظاهرة وبصيرة ليست من عند نفسي بل هي من ربي. ((وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً)) أي: هداية ونبوة. ((فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ)) أي: من ينجيني من عذاب الله إن عصيته بأن أجاريكم في أهوائكم، وإن أنا وافقتكم؟! ((فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)) أي: ما تزيدونني باستتباعكم إياي وبطلبكم أن أتابعكم على ما أنتم عليه غير أن تجعلوني خاسراً بتعرضي لسخط الله.

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية)

تفسير قوله تعالى: (ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية) قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود:64]. ((وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ)) هذه الإضافة إضافة تشريف كما تقول: بيت الله، كلمة الله، روح الله، في عيسى عليه السلام، والإعلام بمباينتها لما يجانسها من حيث الخلقة والخلق. أي: أن هذه الناقة مغايرة لما تألفونه وتعرفونه من النوق. ((لَكُمْ آيَةً)) أي: معجزة دالة على صدق نبوتي، هم رأوا الناقة وقد خرجت من صخرة من الجبل، آية من آيات الله. ((فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)) من فرط غضب الله عليكم لاجترائكم على الآية المنسوبة إليه.

تفسير قوله تعالى: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام)

تفسير قوله تعالى: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]. لقد أخبر عز وجل بأنهم لم يسمعوا قوله ولم يطيعوه بعد رؤية هذه الآية، فقال سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]. ((فعقروها)) أي: قتلوها. ((فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب)) غير مردود. قال في الإكليل: استدل به في إمهال الخصم ونحوه ثلاثاً، وفيه دليل على أن للثلاثة نظراً في الشرع، ولهذا شرعت في الخيار ونحوه.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا) قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]. ((فلما جاء أمرنا)) أي: عذابنا وهو الصيحة. ((نجينا صالحاً والذين معه برحمة)) أي: بسبب رحمة عظيمة، فالباء سببية. ((ومن خزي يومئذ)) وهو هلاكهم بالصيحة. ((إن ربك هو القوي العزيز)) أي: القادر على كل شيء والغالب عليه. ((وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)) أي: من جهة السماء، فرجفوا رجفة الهلاك. ((فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)) أي: هامدين موتى لا يتحركون، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته.

تفسير قوله تعالى: (كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود)

تفسير قوله تعالى: (كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعداً لثمود) قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:68]. ((كأن لم يغنوا فيها)) أي كأن لم يقيموا في مساكنهم. ((ألا إن ثمود كفروا ربهم)) أي: فأهلكهم. ((ألا بعداً لثمود)) أي: هلاكاً ولعنة لبعدهم. وآثار ثمود قوم صالح ما زالت حتى الآن باقية، وهي عبارة عن مجموعة كتل من سلاسل جبلية من الصخر منحوتة كالمعابد، ولكني ما رأيت فيها تماثيل، وهي منحوتة كالقصور في منتهى الفخامة والضخامة، وكانوا يجوفون الجبل من الداخل وتنحت فيه البيوت والسلالم والأبواب والدواليب، ويسافر براً على طريق تبوك يجدها، لأن هذه الطريق تؤدي إلى ديار ثمود، والعلماء في السعودية -جزاهم الله خيراً- يحرصون على عدم التركيز وإلقاء الضوء والاهتمام على مثل هذه الآثار. أما إذا كان الشخص عابر سبيل ومر بها فله ذلك، لكن يكون باكياً، ويسرع في السير حتى لا يحل به من العذاب ما حل بهؤلاء القوم، وهذه هي السنة عند المرور على مصارع الظالمين. فالمكان الذي نزلت فيه اللعنة لا ينبغي الذهاب إليه على سبيل الاسترواح والترفيه، لكن إذا مر عليها الإنسان فيمر معتبراً باكياً، ويسرع كي لا يصيبه ما أصابهم، وهذا الحكم عام لكل مكان نزلت فيه اللعنة، كأماكن الفراعنة، والأماكن التي نزل فيها العذاب، كبحيرة قارون وغيرها من الأماكن. أما ما جاء في الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على مقابر المشركين فليس في محل بحثنا، بل كلامنا يختص بالمكان الذي نزل فيه العذاب كديار ثمود مثلاً.

الكلام على التنقيب عن الآثار القديمة وأهدافه

الكلام على التنقيب عن الآثار القديمة وأهدافه فالحمد لله أن السعوديين لا يهتمون بموضوع الآثار، بل بالعكس يحاولون عدم الاهتمام بها؛ لذلك لما جاءت بعض البعثات الأمريكية تلح على الحكومة السعودية أن تجري عملية حفر في منطقة الأحقاف بحثاً عن الأماكن الأثرية وهي مواطن عاد بعدما اكتشفوا مدينة إرم تباطئوا في ذلك؛ لأن كثيراً من محاولات الاستكشاف والبحث عن الآثار تهدف إلى إحياء التاريخ القديم وإلهاء الناس كما حصل مع علم المصريات القديمة، وذلك حتى يحاربوا به دعوة التوحيد، وقد وصل الأمر إلى حد أن تدرس في كتب التاريخ تفاصيل الشرك للأطفال: الإله كذا عمل كذا، والإله كذا تزوج الإلهة الفلانية، وإله القبط عمل كذا، وآمون وأخناتون إلخ، ويدرس هذا الشرك دون أن ينتقد فالضحايا هم الصغار. فلذلك يتفطن العلماء في بلاد الحرمين لذلك، فلا يحاولون أبداً تركيز الأضواء حتى على أتفه الأشياء، فمثلاً القلعة التي توجد خلف الحرم، (قلعة أجياد) لا يوجد أحد التفت إليها، ولو كانت في مكان آخر لسلطت عليها الأضواء واحتفلوا بها احتفالاً عظيماً. أمر آخر: أن البعثات الأمريكية واليهودية تأتي تحت أسماء مستترة بحجة التنقيب والكشف عن الآثار، وهم يبحثون عن المعادن المشعة لليورانيوم ونحوه كما فعلوا مع السودان، فهم بعد أن يحصلوا على هذه الأشياء يهربون بها. ولعل هذا هو السبب في عدم استجابة السعودية لطلب هذه البعثات للتحري عن آثار قوم هود أو إرم ذات العماد.

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى)

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69]. لقد أشار تعالى إلى نبأ لوط وهلاك قومه، وهو النبأ الرابع من أنباء هذه السورة، بقوله سبحانه: ((وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)). ((ولقد جاءت رسلنا)) أي: الملائكة الذين أرسلناهم لإهلاك قوم لوط. ((إبراهيم بالبشرى)) أي: بولد يولد له، وولد ولد بعده. ((فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ))، وهذا دليل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق؛ لأنه لو كان الذبيح هو إسحاق، فكيف تأتي البشرى تبشره بإسحاق وأنه سوف يكبر ويولد له، وفي نفس الوقت يؤمر بذبحه؟! فهذا مما يدل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق. ثم بين أنهم قدموا على التبشير ما يفيد سروراً؛ ليكون التبشير سروراً فوق سرور، حيث: ((قَالُوا سَلامًا))، أي: سلمنا عليك سلاماً. ((قَالَ سَلامٌ)) أي: عليكم سلام، أو سلام عليكم؛ إجابة لهم. وقوله: (سلامٌ) أحسن من قول: (سلاماً)؛ أي أنه حياهم بأحسن من تحيتهم التي ابتدءوه بها؛ وذلك لأن الرفع أدل على الثبوت والدوام من النصب. ثم أشار إلى إحسانه وضيافتهم بقوله: ((فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)) أي: مشوي سمين يقطر منه الودك، لأنه قال هنا: ((حنيذ)) أي: مشوي، وقال في موضع آخر: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26]. وأظهر الأقوال في (ما) أنها نافية، ((فما لبث أن جاء بعجل حنيذ)).

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم) قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]. ((فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ)) أي: لا يمدون إليه أيديهم، لا يتناولون هذا الطعام. {نَكِرَهُمْ} أي: أنكرهم. ((وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)) أحس منهم خيفة لظنه أنهم بشر أرادوا به مكروهاً، الضيف في عادة القوم إذا أتى ليفتك بالإنسان أو بصاحب الدار فإنه لا يأكل من الطعام. ولما علموا منه الخوف بإخباره لهم كما في آية أخرى: {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر:52] حينها {قَالُوا لا تَوْجَلْ} [الحجر:53]. وهنا: ((قَالُوا لا تَخَفْ)) أي: أن عدم أكلنا ليس لأننا نهم بأن نفتك بك أو نريدك بسوء؛ ولكن لأننا ملائكة لا نأكل، ولم ننزل بالعذاب عليكم: ((إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ)) يعني: لإهلاكهم.

تفسير قوله تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق)

تفسير قوله تعالى: (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق) قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. ((وامرأته قائمة فضحكت)) أي: ضحكت سروراً بزوال الخيفة، وذلك أنها سرت لما طمأنتهم الملائكة: و {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70]. أو ضحكت سروراً بهلاك أهل الخبائث قوم لوط. ((فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)) أي يولد لها. والاثنان يحتمل وقوعهما في البشارة، أو أنها حكاية عما بعد أن ولدا وسميا بذلك. وفي توجيه البشارة إليها هنا مع ورود البشارة إلى إبراهيم في آية أخرى كقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]، وقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، أن هذا إيذان بمشاركتها لإبراهيم في ذلك حين ورود البشرى، وإشارة إلى أن ذكر أحدهما فيه اكتفاء عن ذكر الآخر، وحيثما قال تعالى: ((فبشرناه بغلام حليم)) نقول في تفسيرها: فبشرناه وبشرناها بغلام حليم، لكن في الآيات التي ذكر فيها إبراهيم يكون المقام أمس بإبراهيم، أما في هذه الآية فالمقام أمس بامرأته. أو أنها خوطبت للتوصل إلى سوق نبئها في ذلك وخرق العادة فيه، وهنا كما ذكرنا أن السياق أمس بامرأته؛ لأنه افتتح الحوار بذكرها هنا: ((وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)) تمهيداً لقولها: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:72 - 73] إلى آخره.

تفسير قوله تعالى: (قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا)

تفسير قوله تعالى: (قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً) قال تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود:72]. ((قالت يا ويلتى!)) أي: يا عجبي! أصل يا ويلتى! الدعاء بالويل ونحوه عند الجزع والتفجع وشدة المكروه الذي يدهم النفس؛ لكن استعمل نفس التعبير بعد ذلك في التعجب، يا ويلتى بمعنى: يا عجبي. والألف في (يا ويلتى) بدل من ياء المتكلم (يا ويلتي) ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبها قرأ الحسن: ((يا ويلتي)) وقيل: هي ألف الندبة ويوقف عليها بهاء السكت: يا ويلتاه. قوله: ((أألد وأنا عجوز)) أي: وأنا امرأة مسنة؟ والأفصح ترك الهاء في كلمة عجوز، فلا يقال: عجوزة، وقد سمع من بعض العرب (عجوزة)، لكن الأصل أنها لا تؤنث. ((وهذا بعلي)) أي: وهذا زوجي إبراهيم عليه السلام ((شيخاً)). ((إن هذا لشيء عجيب)) أي: إن هذا التوالد من هرمين لشيء غريب لم تجر به العادة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا أتعجبين من أمر الله)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أتعجبين من أمر الله) {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] قوله: ((قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)) أي: أتستبعدين من شأنه وقدرته خلق الولد من الهرمين؟ يعني: أن أي امرأة في مثل سن امرأة إبراهيم ورجل في سن إبراهيم عليه السلام قد طعنا في السن وبشرا بولد، ألا يحصل تعجب من هذا؟! نعم يحصل تعجب، لكن الملائكة أنكرت على امرأة إبراهيم أن تتعجب. يقول الزمخشري: إنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها فقالوا: ((أتعجبين من أمر الله)) لأنها كانت في بيت الآيات، ومهبط المعجزات، والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قولهم: ((رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ)) أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة، ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة! فليست بمكان عجب. وقوله: ((رحمة الله وبركاته عليكم)) كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب! إياك والتعجب فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. أي: فالجملة خبرية، وجوز كونها دعاءً بأن يجعل الله عليهم الرحمة والبركة. ثم يقول: وأهل البيت نصب على النداء أو على الاختصاص؛ لأن أهل البيت مدح لهم، إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن. ((إِنَّهُ حَمِيدٌ)) أي: مستحق للمحامد، لما وهبه من جلائل النعم. ((مجيد)) أي: كريم واسع الإحسان، فلا يبعد أن يعطي الولد بعد الكبر. وهو تذييل بديع لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد وتمجده.

تفسير قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)

تفسير قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74]. ((فلما ذهب عن إبراهيم الروع)) أي: خيفة إرادة المكروه منهم، والمعنى أنه لما اطمأن قلبه ذهب عنه الروع. ((وجاءته البشرى)) أي: جاءته البشرى بدل الروع. ((يجادلنا في قوم لوط)) أي: في هلاكهم استعطافاً لدفعه. روي أنه قال: أيهلك البار مع الأثيم؟ أتهلكونها وفيهم خمسون باراً؟ فقالوا: لا نهلكها وفيها خمسون، فقال: أو أربعون؟ فقالوا: ولا أربعون وهكذا إلى أن قال: أو عشرة؟ فيقولون له: لا نهلكها من أجل العشرة، إلا أنه ليس فيها عشرة من الأبرار، بل جميعهم منهمك في الفاحشة، ثم قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ} [العنكبوت:32]. ما موقع (يجادلنا) من الإعراب في قوله: ((فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ))؟ A هو في الحقيقة جواب (لما)، لكن جيء به في صيغة المضارع على حكاية الحال، وأن (لما) كـ (لو) تقلب المضارع ماضياً، كما أن (إن) تقلب الماضي مستقبلاً، أو الجواب محذوف والمذكور دليله أو متعلق به.

تفسير قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب)

تفسير قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]. ((إن إبراهيم لحليم)) أي: غير عجول على الانتقام من المسيء، وهذا مناسب لما سبق في الآية: ((يجادلنا في قوم لوط)) أي: يجادل ويناقش كي يدفع العذاب عن قوم لوط، لأن فيهم لوطاً. ((أواه)) أي: كثير التأسف. ((منيب)) أي: راجع إلى الله في كل ما يحبه ويرضى، والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة بيان الحامل على المجادلة، وهو رقة القلب وفرط الترحم.

تفسير قوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن هذا)

تفسير قوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن هذا) قال تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76]. ((يا إبراهيم!)) أي: قيل له: يا إبراهيم! ((أعرض عن هذا)) الجدال. ((إنه قد جاء أمر ربك)) أي: حكم الله بهلاكهم. ((وإنهم آتيهم عذاب غير مردود)) أي: لا يرده الجدال ولا الدعاء ولا غيرهما.

ما يستفاد من قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى عذاب غير مردود)

ما يستفاد من قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى عذاب غير مردود) في الآيات ثمرات: منها أن حصول الولد المخصص بالفضل نعمة على الأب كما هي نعمة على هذا الولد. ومنها أن هلاك العاصي نعمة يبشر بها. وذلك لأن البشرى قد فسرت بولادة إسحاق كما في آخر الآية: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. وفسرت البشرى أيضاً بأنها تشمل هلاك قوم لوط، فبشر بإهلاك هؤلاء المجرمين. فإذاً هلاك العاصي نعمة، ولذلك جاء في الحديث أن الشخص إذا مات فإنه يقال: (مستريح أو مستراح منه)، فالمستراح منه هو: الظالم الفاسق الفاجر الذي يؤذي عباد الله سبحانه وتعالى، فإنه إذا مات وإذا أهلك يستريح منه الآدميون حتى العجماوات والشجر والحجر. ومنها: استحباب نزول المبشر على من يريد أن يبشره؛ لأن الملائكة أرسلهم الله بذلك. ومنها: أنه يستحب للمبشر تلقي ذلك بالطاعة شكراً لله تعالى على ما بشر به؛ لأنهم قالوا لها: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] أي: كان أولى أن تجعلي مكان قولك: يا ويلتى! سبحان الله، أو تشتغلي بتحميد الله عز وجل وتمجيده. وحكى الأصم: أنهم جاءوه في أرض يعمل فيها، فلما بشروه غرز مسحاته وصلى ركعتين. ومنها: أن السلام مشروع، وأنه ينبغي أن يكون الرد أفضل؛ لقول إبراهيم: (سلام) بالرفع كما تقدم تفسيره. ومنها: مشروعية الضيافة والمبادرة إليها، واستحباب مبادرة الضيف بالأكل منها. ومنها: استحباب خدمة الضيف ولو للمرأة؛ لقول مجاهد: ((وامرأته قائمة)) أي: في خدمة أضياف إبراهيم، قال في الوجيز: وكن لا يحتجبن كعادة العرب ونازلة البوادي، أو كانت عجوزاً، وخدمة الضيفان من مكارم الأخلاق. ومنها: جواز مراجعة المرأة الأجانب في القول وأن صوتها ليس بعورة. كذا في الإكليل. ومنها: أن امرأة الرجل من أهل بيته، فيكون أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته، وسيأتي ذلك أيضاً في آية: ((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ))، لا كما يزعم الشيعة تخصيص أهل البيت بـ فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم) قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]. ((ولما جاءت رسلنا لوطاً)) أي: بعد منصرفهم من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان مقيماً بحبرون، وحبرون هي مدينة الخليل، وفي الإنجليزية تسمى باسم قريب من ذلك. ((سيء بهم)) أي: ساءه مجيئهم؛ لأنهم أتوه على صورة مرد حسان الوجوه؛ فخاف أن يقصدهم قومه لظنه أنهم بشر. ((وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)) ضاق بالأمر ذرعه وذراعه أي: ضعفت طاقته ولم يجد من المكروه فيه مخلصاً. قال الجوهري: أصل الذرع بسط اليد، فكأنك تريد: مددت يدي إليه فلم تنله. وقيل: وجه التمثيل أن قصير الذراع لا ينال ما يناله طويل الذراع ولا يطيق طاقته، فضرب مثلاً للذي سقطت قوته دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه. وقال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق ذرعاً من ذلك وضعف، ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع والطاقة. و ((ذرعاً)) تمييز محول عن فاعل، والأصل: ضاق ذرعي به. وشاهد الذراع قوله: وإن بات وحشاً ليلة لم يضق بها ذراعاً ولم يصبح لها وهو خاشع ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)) أي: شديد.

تفسير قوله تعالى: (وجاءه قومه يهرعون إليه)

تفسير قوله تعالى: (وجاءه قومه يهرعون إليه) {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]. كيف لا يشتد عليه والشيء الذي كان يخافه قد حصل؟! وذلك كما في قوله تعالى: ((وجاءه قومه يُهرعون إليه)) أي: يسرعون كأنما يدفعون دفعاً، وقرئ مبنياً للفاعل: (يَهرعون إليه) ((ومن قبل)) أي: من قبل مجيئهم. ((كانوا يعملون السيئات)) أي: الفواحش، ويكثرون منها، فهم قد مرنوا عليها، وقل عندهم استقباحها، فلذلك جاءوا مسرعين مجاهرين لا يكفهم حياء، فالجملة (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) معترضة لتأكيد ما قبلها. وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره، أي: لما عرف لوط عادتهم في عمل الفواحش قبل ذلك. ثم قال لهم لوط: ((هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)): أراد أن يقي أضيافه ببناته، وذلك غاية الكرم. أي: فتزوجوا هؤلاء البنات. أو ((هؤلاء بناتي)) باعتبار أن النبي يكون أباً لأتباعه فيقصد النساء عموماً. أو كان ذلك مبالغة في تواضعه لهم وإظهاراً لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه، طمعاً في أن يستحيوا منه، ويرقوا له إذا سمعوا ذلك، فيتركوا ضيوفه. والظاهر أنه عليه السلام كان واثقاً بأن قومه لا يؤثرونهن بوجه ما، يعني: مهما أطرى وأطنب وشوق ورغب، فكان إظهاره وقاية ضيفانه وفداءهم بهن، مع وثوقه المذكور وجزمه مبالغة في الاعتناء بحمايتهم، فهو بذل كل ما يستطيع من أجل حماية ضيفانه، مع أنه كان آيساً من أن يستجيبوا لنصيحته، لكنه قال ذلك قياماً بالواجب في مثل هذا الخطب الفادح الفاضح الذي يدوم عاره وشناره، من الدفاع عنهم بأقصى ما يمكن، لكي لا ينسب إلى قصور، وليعلم أن لا غاية وراء هذا لمن لا ركن له من عشيرة أو قبيلة، فهو ما ترك سبيلاً يحمي به ضيفانه إلا سلكه، ومنها: أنه حرضهم على الزواج ببناته وقاية لضيفانه. وقوله: ((هن أطهر لكم)) هذا من التشويق على مرأىً من ضيفانه ومسمع، وفيه ما فيه من زيادة الكرم والإكرام ورعاية الذمام. وبالجملة فهو ترغيب بمحال الوقوع باطناً، وإعذار لنزلائه ظاهراً، والله تعالى أعلم. أي: إذا نطق بهذا الكلام أمام نزلائه وضيفانه يكون قد أعذر نفسه أمامهم، وأنه لم يقصر في حمايتهم. وفي هذا إرشاد إلى التطهر بالطرق المسنونة وهي النكاح، وإشارة إلى تناهي وقاحة أولئك بما استأهلوا به أخذهم الآتي. ((فاتقوا الله)) أي: أن تعصوه بما هو أشد من الزنا خبثاً؛ لأن هناك داعية فطرية وطبيعية تدفع إلى الزنا، أما فعل فاحشة قوم لوط فهو أمر تنفر منه الفطرة، فهو أشد خبثاً من الزنا. ((ولا تخزون في ضيفي)) أي: ولا تهينوني وتفضحوني في شأنهم؛ فإنه إذا أهين ضيف الرجل أو جاره، فإن الخزي يصيب الرجل نفسه لأنه لم يحم ضيفانه، وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة. (تخزون) مجزوم بحذف النون، وياء المتكلم محذوفة واكتفى عنها بالكسرة، وقرئ بإثباتها: ((ولا تخزوني في ضيفي)). ((أليس منكم رجل رشيد)) أي: فيرعوي عن القبيح ويهتدي إلى الصواب.

تفسير قوله تعالى: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق)

تفسير قوله تعالى: (قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) قال تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]. ((قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق)) أي: من حاجة، وقد صدروا كلامهم باللام المؤذنة بأن ما بعدها جواب القسم، كأنهم بالرد عليه قالوا: والله لقد علمت ما لنا في بناتك من حاجة! وفي هذا إشارة إلى ما ذكرناه من أنه كان واثقاً وعالماً بعدم رغبتهم فيهن، ويؤيد ذلك قولهم: ((وإنك لتعلم ما نريد)) استشهدوا بعلمه هو، وذلك لعلمه باطناً أنهم لن يستجيبوا لتمكن هذا الأمر القبيح في نفوسهم.

تفسير قوله تعالى: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)

تفسير قوله تعالى: (قال لو أن لي بكم قوةً أو آوي إلى ركن شديد) قال تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]. ((قال لو أن لي بكم قوة)) أي: لو كنت أستطيع أن أدفعكم وأقاتلكم جميعاً ببدني، أو عندي أولاد كثيرون أستطيع أن أدفعكم بهم، ما كنت قصرت في دفعكم. ((أو آوي إلى ركن شديد)) أي: عشيرة كثيرة؛ لأنه كان غريباً عن قومه عليه السلام، فشبه القبيلة والعشيرة بركن الجبل في الشدة والمنعة. وتقدير A لو أن لي بكم قوة بنفسي أو بولدي أو كان لي قبيلة عزيزة منيعة لفعلت بكم ما فعلت وصنعت ما صنعت، ولكففتكم عما تريدون. قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الملل: ظن بعض الفرق أن ما جاء في الحديث الصحيح الذي في البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، إنكار على لوط عليه السلام بقوله: ((أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ))، ولا تخالف بين القولين بل كلاهما حق؛ لأن لوطاً عليه السلام إنما أراد منعة عاجلة يمنع بها قومه مما هم عليه من الفواحش، من قرابة أو عشيرة أو أتباع مؤمنين، وما جهل قط لوط عليه السلام أنه يأوي من ربه تعالى إلى آكد قوة وأشد ركن، ولا جناح على لوط عليه السلام في طلب قوة من الناس؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]. فهذا هو الذي طلبه لوط عليه السلام، فكونه يستغيث أو يستنجد ببشر فيما يقوى عليه البشر، لا حرج فيه شرعاً؛ لأن هذا من دفع الله الناس بعضهم ببعض. وقد طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين منعه وحمايته حتى يبلغ كلام ربه تعالى: (من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي)، فكيف ينكر على لوط أمراً فعله هو صلى الله عليه وسلم؟ إذاً ليس المقصود من الحديث الإنكار على لوط عليه السلام، وإنما أخبر أن لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد من نصر الله له بالملائكة، ولم يكن لوط علم بذلك، أي: لم يكن قد شعر أن الملائكة في هذه اللحظة ما جاءت إلا لتنصره، وما جاءت إلا لتنتقم منهم بأمر الله. ثم يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: ومن اعتقد أن لوطاً كان يعتقد أنه ليس له من الله ركن شديد فقد كفر، إذ نسب إلى نبي من الأنبياء هذا الكفر، وهذا أيضاً ظن سخيف، إذ من الممتنع أن يظن بربه -الذي أراه المعجزات وهو دائماً يدعو إليه- هذا الظن.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) قال تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]. ((قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ)) يعني: لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا. ((فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)) أي: بطائفة من آخره، وببقية سواد منه عند السحر، وهو وقت استغراقهم في النوم، فلا يمكنهم التعرض لك ولا لأهلك. قرئ: (فأسر) بالقطع و (فاسر) بالوصل. ((وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ)) أي: لا ينظر إلى ورائه، لئلا يلحقه أثر ما نزل عليهم، ((إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ)) أي: من العذاب، فإنها لما سمعت وجبة العذاب التفتت إلى الوراء فهلكت حينئذ، أما هو وسائر أهله فلم يلتفتوا؛ لأنهم نهوا عن الالتفات. قال في الإكليل: فيه أن المرأة والأولاد من الأهل؛ لأنه استثنى الزوجة من الأهل. فهذا دليل أيضاً أن امرأة الرجل من أهل بيته. ((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)) أي: موعدهم بالهلاك الصبح، والجملة جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب. أي أن لوطاً استبطأ العذاب فقالوا: ((إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب))؟ بلى. أو ذكرت ليعجل في السير، فإن قرب الصباح داع إلى الإسراع في الإسراء؛ للتباعد عن موقع العذاب.

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها)

تفسير قوله تعالى: (فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها) قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82]. ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: عذابنا. ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) والجزاء من جنس العمل، فكما قلبوا الفطرة قلب الله عليهم دورهم ((جعلنا عاليها سافلها)) فقلبت تلك المدن بسكانها جميعاً. ((وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)) أي: من طين متحجر كقوله: {حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات:33]. ((مَنْضُودٍ)) أي: يرسل بعضه في إثر بعض متتابعاً مستمراً. قال المهايمي: اتصلت الحجارة بعضها ببعض؛ ليرجموا رجم الزناة، وذلك يناسب قسوتهم ورينهم الذي اتصل بقلوبهم.

تفسير قوله تعالى: (مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد)

تفسير قوله تعالى: (مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد) {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]. ((مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ)) أي: هذه الحجارة معلمة عند ربك. ((وَمَا هِيَ)) أي: تلك الحجارة. ((مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)) أي: ليست من الظالمين بالشرك وغيره ببعيد؛ فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها. وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة. وقيل: الضمير في قوله: ((وما هي من الظالمين ببعيد)) للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكة، يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وقد صار موضع تلك المدن بَحْرَ ماءٍ أجاج، لم يزل إلى يومنا هذا، ويعرف بالبحر الميت، والبحر الميت لا تعيش فيه أسماك ولا كائنات حية على الإطلاق من يومها، بل هو شديد الملوحة والنتن، فمياهه لا تغذي شيئاً من جنس الحيوان، وسمي أيضاً ببحيرة لوط، والأرض التي تليها قاحلة.

يوسف [1 - 18]

تفسير سورة يوسف [1 - 18]

تسمية السورة ومناسبتها لما قبلها

تسمية السورة ومناسبتها لما قبلها سميت سورة يوسف بهذا لأن معظم ما ذكر في هذه السورة هو قصة يوسف عليه السلام. وتناسب آي القرآن هو علم من علوم القرآن، أي: أن هناك حكمة ووجوه مناسبة بين ترتيب سور المصحف الشريف، وبين ترتيب الآيات فيما بينها في السورة الواحدة. وفيما يتعلق بمناسبة هذه السورة لما قبلها، فإن السورة التي قبلها وهي سورة هود ختمت بقوله تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] فجاء في هذه السورة نبأ من أنباء الرسل، بالإضافة إلى ما مضى. ففي سورة هود ذكر تبارك وتعالى ما لقي الأنبياء عليهم السلام من قومهم، أما في هذه السورة فقد ذكر عز وجل ما لقي يوسف من إخوته؛ ليعلم ما قاساه الأنبياء من أذى الأجانب والأقارب معاً. فسورة هود ذكر فيها أنباء الرسل وما لاقوه من أذى الأجانب، أما سورة يوسف ففيها ذكر ما لقي يوسف عليه السلام من أذى الأقارب وكيد إخوته له، فبين السورتين مناسبة تامة أكيدة، والمقصود بذلك تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ بما لاقاه من أذى القريب والبعيد. ويكفي أن عمه أبا لهب كان يكيد له أشد الكيد حتى نزلت سورة في شأنه. فجاءت هذه السورة لمواساته عليه الصلاة والسلام مما يلقاه من الأذى، وأنه ليس أول من لقي الأذى من الأقارب ومن الأباعد.

معنى اسم يوسف وحقيقته اللغوية وتعريبه

معنى اسم يوسف وحقيقته اللغوية وتعريبه يوسُف اسم عبراني ينطق يوسِف، كذلك يونُس ينطقونها يونِس، فلما عرب هذا الاسم عدل عن يوسِف إلى يوسُف؛ لأن في يوسِف معنى الإيساف والأسف، ولو همزت الواو تقول: يؤسف، كذلك في يونس لما عربت قيل: يونُس ولم يقولوا يونِس؛ لأن فيه معنى الإيناس. فاجتنب في التعريب كسر السين؛ لما فيه من معنى المؤاسفة فصارت يوسُف، ومعناه: يزيد أو زيادة؛ وذلك لما روي أن أمه راحيل قعدت عن الحمل مدة، وكان لها ضرات يلدن فلحقها الحزن، ولما وهبها الله تعالى ولداً بعد سنين سمته يوسف، وقالت: يزيدني به ربي ولداً آخر بعد ما أنعم علي بيوسف.

وقع سورة يوسف على اليهود وتأثيرها

وقع سورة يوسف على اليهود وتأثيرها هذه السورة مكية اتفاقاً وآيها مائة وإحدى عشرة بلا خلاف، وقد روى البيهقي في الدلائل (أن طائفة من اليهود حين تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم هذه السورة أسلموا) لموافقتها ما عندهم. والسورة لا توافق ما عندهم فحسب، بل هي أوضح في بيان الأحداث، ولو حصلت مقارنة منصفة بين ما ذكر في التوراة وما في القرآن لتبين الفرق الشاسع بينهما، فهناك مواقف محورية حذفت من التوراة فهي غير موجودة، هذا بجانب فقد الترابط، بخلاف ما في القرآن من روعة الأسلوب القرآني وبلاغته، واستكمال المواقف والأحداث.

تفسير قوله تعالى: (آلر تلك آيات الكتاب المبين)

تفسير قوله تعالى: (آلر تلك آيات الكتاب المبين) قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1]. تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. ((تلك آيات الكتاب المبين)) الإشارة بتلك راجعة إلى آيات هذه السورة الكريمة، فكأنه قد قرأ هذه الآيات التي في سورة يوسف، ثم أشار إليها فقال: ((تلك آيات الكتاب المبين)) مع أنه لم يأت بعد ذكرُ هذه الآيات، فيكون قد نزَّل ما يأتي بعد منزلة الذي قد تقدم، والإشارة بلفظ (تلك) للبعد، وذلك لعظمتها وعلو مرتبتها، وأنها آيات عالية المقام. ((تلك آيات الكتاب المبين)) أي: أن المراد بالكتاب هو السورة؛ لأنه بمعنى المكتوب فيطلق عليها، أو المقصود القرآن كله؛ لأنه كما يطلق على كله يطلق على بعضه، فهذا يطلق عليه قرآن، وهذا يطلق عليه قرآن. ((المبين)) أي: الظاهر أمرها وإعجازها، إن جعل من باب (فعل) اللازم، أما إن جعل من المتعدي فالمفعول مقدر.

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا)

تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً) قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2]. ((إنا أنزلناه)) أي: الكتاب المنعوت السابق الإشارة إليه. ((قرآنا عربياً لعلكم تعقلون)) أي: لكي تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم، كما قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت:44] فمن ثم لا يجوز أن يطلق على تراجم معاني القرآن الكريم لفظ القرآن، كما فعله بعض المستشرقين الملاحدة أعداء الدين، وأيضاً بعض جهلة المسلمين الذين يصنعون تراجم لمعاني القرآن ويسمونها قرآناً، فلا يمكن أن يكون القرآن غير عربي، لذلك لابد أن يقولوا: معاني القرآن الكريم، وألا يقولوا: القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((ولو جعلناه قرآناً أعجمياً)) أي: لو أن القرآن نزل بلغة أخرى غير العربية ((لقالوا لولا فصلت آياته)) لأن اللغات الأخرى غير العربية تعجز عن التعبير عن المعاني القرآنية، وهذا بين لمن قارن بين تراجم هذه المعاني، وبين القرآن الكريم. ((لعلكم تعقلون)) أي: لعلكم تتدبرون بعقولكم أن القصص الموجود في القرآن ومنه قصة يوسف عليه السلام خاصة مع وروده بهذه الكيفية من شخص لم يتعلم القصص. إذا أضفنا إلى ذلك خصيصة أخرى من خصائص القصص القرآني، وهي التي عبر تبارك وتعالى عنها في وصف القرآن الكريم بأنه مهيمن على ما سبق من الكتب، فالقرآن يفصل في جميع القضايا التي تنازع فيها أهل الكتاب، فيأتي فاصلاً وحاكماً بينهم ومهيمناً على ما عندهم، فهو السلطان الأعلى على ما عندهم، وهذا لا يكون إلا من عند الله تبارك وتعالى، ولا يكون إلا بواسطة الوحي. أو ((إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)) أي: لعلكم تعقلون بإنزاله عربياً ما تضمن من المعاني والأسرار التي لا تتضمنها ولا تحتملها غيرها من اللغات؛ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأثبتها وأوسعها، وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوذ. قال بعضهم: نزل أشرف الكتب (القرآن) بأشرف اللغات (اللغة العربية) على أشرف الرسل صلى الله عليه وسلم، بسفارة أشرف الملائكة (جبريل عليه السلام)، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض (مكة)، وفي أشرف شهور السنة (رمضان) وفي أشرف ليلة من هذا الشهر الكريم وهي ليلة القدر، فكمل له الشرف من كل الوجوه. ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنه نزل على أشرف أمة؛ لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)

تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن) قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]. ((نحن نقص عليك أحسن القصص)) أي: أبدعه طريقة، وأعجبه أسلوباً، وأصدقه أخباراً، وأجمعه حكماً وعبراً. ((بما أوحينا إليك)) أي: بإيحائنا إليك هذا القرآن. ((وإن كنت من قبله لمن الغافلين)) أي: من الغافلين عنه، حتى إنه لم يكن القرآن الكريم من قبل يخطر ببالك، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة؛ لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يستعمل الكلمة التي تقوم مقام الغفلة، حتى لا يصف النبي بعدم العلم.

تفسير قوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا)

تفسير قوله تعالى: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً) قال تعالى: ((إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ)) أي: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. والظرف (إذ) بدل اشتمال من المفعول قبله. {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] نادى يوسف أباه بهذه الرؤيا؛ لأن يوسف عليه السلام كان يحب أباه يعقوب عليه السلام، وكان يعتقد في أبيه أنه كامل في علمه، فقد كان نبياً من أنبياء الله، وأيضاً اجتمع إلى كمال علمه حلمه عليه وحبه له وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه، وهذا معلوم في عامة الناس. فلذلك تجد الابن دائماً ينظر إلى أبيه على أنه أكمل الناس وأنه أعلم الناس وأكرم الناس وأحسن الناس وهكذا، فلذلك ينظر إليه بصورة فيها اعتقاد علو الشأن بهذه الدرجة، فيوسف عليه السلام لا شك أنه محق في ذلك الاعتقاد. قال القاشاني: قوله: ((إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير؛ لأن بعض المنامات تكون أضغاثاً لا تعبير لها ولا يتكلف لها تعبير، لكن هذه كانت واضحة أنها رؤيا حق. ((يا أبت)) أصله: يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرت تاء التأنيث لأن الياء مكسورة، فناسبها أن تكسر التاء التي هي عوض عنها، وقرئ بفتحها، (يا أبت) على حركة أصلها، أو لأن أصلها (يا أبتا) فحذفت الألف وبقيت الفتحة، وقرئ بالضم: (يا أبتُ)، إجراءً لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض. ((إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)) هذا استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها. والتكرار في قوله أولاً: (رأيت)، ثم قوله: (رأيتهم) له فائدة، فهو استئناف من أجل بيان كيفية رؤيته هذه الأشياء التي رآها، وعلى هذا فلا تكرار، أو أنه كرر الفعل تأكيداً، وذلك لطول العهد كما في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون:35]. وإنما أجريت المرئيات المذكورة مجرى العقلاء في ضميرهم، وجمع صفتهم جمعاً مذكراً سالماً (ساجدين)؛ لأنه وصفها بفعل من أفعال العقلاء، وهو السجود. ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال. قال القاشاني: ولم أر من تعرض لهيئة السجود. أي: كيف كان سجود الشمس والقمر، هل حركت جانبها الأعلى إلى الأسفل، أو ظهرت مستديرة أو مستطيلة؟! وهذا كله من التكلف، وإنما ينبغي أن يوكل علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].

تفسير قوله تعالى: (قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك)

تفسير قوله تعالى: (قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك) قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]. ((قال يا بني)) صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر، فإن الصغير كما يكون أحياناً للتحقير يكون أحياناً للتمليح، فهنا المقصود به التعبير عن عذوبة اللفظ المصغر. ((فيكيدوا لك كيداً)) أي: فيفعلوا لهلاكك تحيلاً عظيماً متلفاً لك. ((إن الشيطان للإنسان عدو مبين)) أي: ظاهر العداوة، فلا يألو جهداً في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه. قال القاشاني: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب. يعني: أن الله سبحانه وتعالى ربما يكون أوقع في قلب يعقوب عليه السلام ما يريده إخوته له، فيقع في النفس من ذلك خوف واحتراز إن كان مكروهاً، فهذا النوع من الإلهام يسمى: إنذارات، وإذا كان الإلهام مما يسر فيسمى بشارات. فخاف يعقوب عليه السلام من وقوع ما سيقع قبل وقوعه، وهذا شيء مجرب، ويعبرون عن الإلهام أحياناً بالحاسة السادسة. وهذا يحصل كثيراً ونسمع كثيراً من هذا للأمهات بالذات، لأن قلوب الأمهات رقيقة، فنسمع قصصاً كثيرة عن أمهات قالت في نفس الوقت الذي حصل فيه حادث للابن في مكان بعيد: إني أشعر بقلبي أن حادثاً حدث لابني، وهذا من الإلهام الذي يلقيه الله سبحانه وتعالى في قلب الإنسان، فكذلك ربما يكون ما وقع ليعقوب عليه السلام حينما قص عليه يوسف الرؤيا مثل هذا الخوف، فنهاه عن إخبارهم برؤياه؛ احترازاً واحتياطاً. ويجوز أن يكون احترازه من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وأن قدره سيزيد على قدر إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. وتعلمون أن من آداب الرؤيا: ألا تقص الرؤيا إلا على حبيب أو لبيب، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحبيب لا يحسد، أما إذا قصصت الرؤيا على عدوك المناوئ لك فقد يحمله الحسد على أن يتعمد الإساءة في تعبيرها بشر؛ لأنها تقع على ما تعبر به. أو (لبيب) أي: رجل عاقل له علم ودراية بالأصول وقواعد تفسير وتعبير الرؤى. قال السيوطي في الإكليل: قال الكياالهراسي: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه. قال ابن العربي: في حكم العادة أن الإخوة والقرابة يحسدون، أي: أن هذه الآية الكريمة فيها بيان لهذا الأمر الذي يقع عادةً بين الناس، وهو أن الإخوة والقرابة يتحاسدون، والسبب هو أن الحسد يكون أقوى إذا كان هناك قاسم مشترك أو وصف مشترك بين طرفين. مثلاً: اثنان مشتركان في علم، أو مشتركان في مهنة، أو مشتركان في قرابة من نفس النسق، فغالباً ما يقع الحسد بينهما. فلذلك يكثر الحسد في الأقارب إلا من عصم الله سبحانه وتعالى. ثم يقول ابن العربي: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فهذا فيه إشارة إلى قاعدة مقررة ينطق بها كل الناس: وهي أن الشخص الوحيد الذي يحب لك أن تكون أفضل منه هو أبوك، لذلك يعقوب عليه السلام ما تأذى بذلك، بل فرح لعلو مقام ابنه يوسف عليه السلام كما تنبئ عنه هذه الرؤيا فلم يتأثر بذلك، بل خشي من حسد إخوته له. أما الأخ فإنه لا يود ذلك لأخيه، بخلاف المؤمن فإنه لا يكره خيراً لأخيه؛ لأن المؤمن لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ لكن ربما يكون الكلام هنا فيما زاد على القدر المتساوي، وإلا فهذه درجة من الإيمان موجودة كما وجدت في المهاجرين والأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] فهناك نماذج في التقوى من البشر لكنها قليلة، فتجد من يحب لأخيه من الخير مثل ما يحب لنفسه. أما الأب فهو الذي يحب أن يكون ابنه أفضل منه وخيراً منه غالباً. قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة؛ تحرزاً من الحسود إذا عرف منه ذلك.

حكم كتم الحق عند خوف الفتنة

حكم كتم الحق عند خوف الفتنة يقول الحاكم: وهذا داخل في قولنا: إن الحسد إذا كان سبباً للقبيح قبح، يعني: تفريعاً على قاعدة: أن الوسائل لها حكم الغايات والمقاصد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فسب آلهة الكفار حسنة؛ لكنه إذا أدى إلى قبيح وهو المقابلة بالمثل، فإنه يقبح. وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين من قوله: إني لأكتم من علمي جواهره كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا لأن بعض العلم إذا ألقيته إلى غير أهله يسيء فهمه، فهناك من العلوم ما يكتم بحسب مستوى الشخص الذي تكلمه. فإذا فتحت عليه باب شبهة ربما أفسدت عليه دينه، وفي ذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة). وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف ألا يقص رؤياه على إخوته، فلا معنى لزعم من يزعم أن العلم لا يحل كتمه، نقول: عليه أولاً أن ينظر إذا كان إظهار العلم مما يضر المخاطبين فإنه يكتم عنهم؛ لأن هناك من العلوم ما يحتاج إلى درجة معينة من الفهم، المقصود من هذا أن خوف شر الأشرار أمر معتبر شرعاً، وهو من الصوارف التي تجيز كتم الحق أحياناً. قال السيد المرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق): مما زاد الحق غموضاً وخفاءً خوف العارفين -مع قلتهم- من علماء السوء وسلاطين الجور. إن هذا الاستبداد والظلم الحاصل من سلاطين الجور قد يكون عذراً لبعض الناس ألا يجهروا بالحق، مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] أو قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28] وإجماع أهل الإسلام أيضاً على جواز ذلك، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق، وذكر من قبل في الاستدلال على التقية أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، ووصفه بالإيمان، مع أنه كان يكتم إيمانه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر:28] وقد كان يكتم إيمانه تقية، وسميت به سورة غافر فهي تسمى أيضاً سورة المؤمن، أي مؤمن آل فرعون. وصح أمر عمار بالتقية وتقريره عليها حينما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عادوا فعد) ونزل فيه قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في ذلك العصر الأول (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين، أما أحدهما: فبثثته لكم -أي: نشرته فيكم وأعلمتكم به- وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم) أي: من أمراء الجور والظلم إذا جهر بهذا العلم. ولذلك قال الغزالي في خطبة المقصد الأسنى: من جهل الحق جدير بأن يتعامى، لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. ومن ثم كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى أن العالم ليس له أن يأخذ بالتقية؛ لأن العلماء العاملين الذين يعلمون الحق قلة، فإذا سكت العالم عن إظهار الحق الذي عنده مع جهل الناس؛ فمتى تقوم الحجة على هؤلاء الناس؟ والإمام أحمد أنكر أشد الإنكار على من اتقى القول في فتنة خلق القرآن، وصمد هو وقلة معه رحمه الله تعالى. ومن الشعر الذي قيل في علي بن المديني وهو إمام جليل رحمه الله تعالى: يا ابن المديني الذي عرضت له دنيا فجاب بدينه لينالها ماذا دعاك إلى انتحال مقالةٍ قد كنت تزعم كافراً من قالها فهذا من العتاب الذي يكون بين العلماء في قضية الصدع بالحق وعدم التقية، لكن أغلب العلماء يرون جواز التقية عند الإكراه.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف:6]. ((وكذلك يجتبيك ربك)) أي: كما اصطفاك بهذه الرؤيا العظيمة الشأن يصطفيك للنبوة والسيادة. ((ويعلمك من تأويل الأحاديث)) أي: تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلاً لأنه جعل المرئي آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير، والتعبير يكشف عما ستئول إليه هذه الرؤيا. والأحاديث اسم جمع للحديث سميت به الرؤيا؛ لأن الرؤيا إما حديث ملك، وإما حديث نفس، وإما حديث شيطان، فلذلك سماها الأحاديث. ((ويتم نعمته عليك)) أي: بما سيئول إليه أمرك فيما بعد. ((وعلى آل يعقوب)) وهم أهله من بنيه وحاشيتهم، أي: يبرز نعمته عليهم بك. ((إن ربك عليم)) بمن هو مستحق للاجتباء والاصطفاء ((حكيم)) في صنعه.

أقوال المفسرين في كون الرؤيا سببا في اصطفاء يوسف عليه السلام

أقوال المفسرين في كون الرؤيا سبباً في اصطفاء يوسف عليه السلام قال أبو السعود: كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: ((ويعلمك من تأويل الأحاديث)) إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرئاسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة، وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي؛ لأنه كان نبياً يوحى إليه، فعرف أن الله سبحانه وتعالى كما اصطفاه بأن يرى هذه الرؤيا سوف يصطفيه بإتمام النعمة عليه. سيكون إتمام النعمة عليه عن طريق علم التعبير، حتى إنه عبر رؤيا صاحبي السجن، الذي كان أحدهما سبباً فيما بعد لمعرفة شأنه في التعبير وأن يستدعى لتعبير رؤيا الملك، ورؤيا الملك كانت سبباً في إتمام نعمة الله عليه في الزيادة كما ذكرنا، وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سبباً لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفة يعقوب بطريق الوحي، وإما بطريق التفرس في يوسف عليه السلام، وعن طريق الاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، فإن الغلام النجيب يسهل جداً على من هو صاحب فراسة أن يتنبأ، أو يستكشف ما ينتظر من نبوغه فيما بعد، هذا أمر له نظائر هنا، فكأنه استدل عليه السلام بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها مما هو أنفسي، كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، فمن كان عنده الشفافية حتى يرى مثل هذه الرؤيا فلا بد أن الله سيمن عليه بالوعي والبصيرة حتى يتمكن من تعبير هذه الرؤيا، إن هذا الشأن البديع لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمر من اتصف به، ومداراً لجريان الأحكام، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم السلام معجزة تظهر بها آثاره وتجري أحكامه. وقد استدل بهذه الآية الكريمة في قوله تعالى: ((كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق)) على أن الجد يطلق عليه اسم الأب، فمن نسب رجلاً إلى جده وقال: يا ابن فلان، فلا يكون قذفاً.

فوائد من تحذير يعقوب ليوسف من إظهار رؤياه لإخوته

فوائد من تحذير يعقوب ليوسف من إظهار رؤياه لإخوته قال المهايمي: من فوائد هذا المقام: استحباب كتمان السر، أي: يؤخذ من هذه من هذا الموقف بين يوسف عليه السلام وأبيه استحباب كتمان السر. وجواز التحذير من شخص بعينه، وقد صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود). وجواز أيضاً مدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار الأخذ بالأسباب كما قال يعقوب لولده يوسف: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5] فاعتبر الأخذ بالأسباب بأن نصح ابنه بكتمان هذه الرؤيا. ((فيكيدوا لك كيداً)) حتى إن السبب لم يدفع عن يوسف كيد إخوانه. فيعتبر السبب وإن لم يؤثر، وكذلك جواز تعبير رؤيا الصغير لأن الصغير قد يرى رؤيا حق. على أي الأحوال الإخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات. ثم ذكر القاسمي بحثاً مطولاً نقلاً عن الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه (الذريعة) عن الرؤيا، وكذلك عن ابن خلدون، فنتجاوز هذين البحثين إلى قوله: وذكر ابن خلدون رحمه الله عند بحث علم تعبير الرؤيا: أن التعبير للرؤيا كان موجوداً عند السلف كما هو في الخلف، وأن يوسف الصديق صلوات الله عليه كان يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن الكريم، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه كما في الحديث: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً). إذاً: المرئي منه ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير، كأن تكون رؤيا جلية واضحة، ومنه ما يحتاج إلى معبر. وهذا علم له أصوله وله قواعده، فلا ينبغي للإنسان أن يتجاسر على تعبير الرؤيا؛ لأنها جزء من الوحي كما في الحديث: (هي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فلذلك كان بعض المعبرين أو بعض العلماء يمتنع من التعبير ويقول: أتريد أن أكذب في الوحي. وقد كانت الرؤيا الصادقة من الإرهاصات التي تقدمت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).

تفسير قوله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين)

تفسير قوله تعالى: (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) قال عز وجل {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف:7]. ((لقد كان في يوسف وإخوته)) أي: في قصة وحديث يوسف وإخوته. ((آيات للسائلين)) أي: دلائل على قدرته تعالى وحكمته في كل شيء لمن سأل عن نبئهم، أو آيات على نبوته صلوات الله عليه لمن سأل عن نبئهم فأخبرهم بالصحة من غير تلق عن بشر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يتلق عن بشر ولم يأخذ عن كتاب، فلم يبق إلا أن مصدره هو الوحي المعصوم من الله سبحانه وتعالى. (آيات للسائلين) أي: آيات معظمات لمن يسأل عن قصتهم ويعرفها. أولاً: تدل هذه الآيات على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله تعالى، كما قال عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف:6] أي: يصطفيك، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران:33] إلى آخره. أي: أن الاصطفاء لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد، فهذا محض فضل من الله سبحانه وتعالى، ليس أمراً مكتسباً. ثانياً: الآية الأخرى المشار إليها في قوله: ((آيات للسائلين)) تدل على أنه إذا قضى الله سبحانه وتعالى أن يصيب عبده بخير فلا يمكن لأحد أن يمنع عنه هذا الخير أو يدفعه، وهناك جملة كبيرة من الآيات في القرآن الكريم تدل على ذلك، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فإذاً من أراد الله به خيراً لا يمكن لأحد أن يدفع عنه هذا الخير، لا راد لقضائه سبحانه وتعالى، ومن عصمه الله لم يمكن لأحد أن يرميه بسوء ولا أن يقصده بشر، فيقوى يقينهم وتوكلهم. فثمرة هذه القصة أن باستحضارها يقوى يقين المؤمنين وتوكلهم على الله سبحانه وتعالى، والعلم بأن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد حتى الأنبياء، فيكونون منه على حذر. نعم الأنبياء معصومون من المعاصي، لكن الشيطان حريص على أن يكيدهم، من ذلك كيد الشيطان عن طريق التحريض لإخوة يوسف على أن يكيدوا يوسف عليه السلام. أي هذه الآيات تطلعهم من طريق الفهم -الذي هو الانتقال الذهني- على أحوالهم في البداية والنهاية وما بينهما، وكيفية سلوكهم إلى الله، فتثير شوقهم وإرادتهم، وتكحل بصيرتهم وتقوي عزيمتهم. أول السورة وهو غلام بريء يحكي لأبيه هذه القصة، ثم انظر في النهاية تجد العز والقدرة والتمكين: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:101] إلى آخر الآية، مما يدل على أن العاقبة للمتقين.

تفسير قوله تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة)

تفسير قوله تعالى: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة) قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8]. ((إذ قالوا ليوسف وأخوه)) بنيامين، وهو شقيقه، وأمهما راحيل بنت ليان خال يعقوب عليه السلام. ((أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة)) بالنصب أي: والحال أننا جماعة أقوياء، فنحن أحق بالمحبة من صغيرين لا كفاية فيهما، لأننا رجال أشداء أقوياء نقضي حوائج أبينا وينتفع بنا. والعصبة والعصابة: الجماعة من الرجال، فإذاً: ذكر العصبة ليس لإفادة العدد فقط؛ بل للإشعار بالقوة، ليكون أنسب في الإنكار. ثم قالوا بعد ذلك: ((إن أبانا لفي ضلال مبين)) أي: في ذهاب عن طريق الصواب في هذه المسألة بالذات؛ لأنه فضل المفضول بزعمهم على الفاضل، وغاب عنهم أن يعقوب عليه السلام ما كان في ضلال مبين وإنما رأى في يوسف عليه السلام مخايل النجابة وعلامات السيادة التي سيئول إليها أمره فيما بعد، لاسيما بعد ما قص عليه تلك الرؤيا، فكانت دليلاً على أن الله يريد به خيراً، أما بنيامين فلكونه شقيقه ولكونه كان أصغرهم، ومن المعروف زيادة الميل لأصغر البنين.

تفسير قوله تعالى: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا)

تفسير قوله تعالى: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً) قال تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9]. ((اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)) هذا من قولهم المحكي قبل، وإنما قالوا هذا لأن خبر المنام بلغهم، ويروى أنه قصه عليهم فتشاوروا في كيده، ولا نستطيع أن نجزم بأن يوسف عليه السلام أخبرهم، فالله أعلم. وتنكير كلمة (أرضاً) وإخلاؤها من الوصف للإبهام، أي: اطرحوا يوسف في أرض مجهولة لا يعرفها الأب، ولا يمكن ليوسف أن يعرف طريق العودة إليه. ((يخل لكم وجه أبيكم)) هذا هو جواب الأمر كناية عن خلوص محبته لهم؛ لأنه يدل على إقباله عليهم بكليته، وعلى فراغه عن الشغل بيوسف فيشتغل بهم، لكن ما حصل هو العكس، فإن يعقوب عليه السلام حزن أشد الحزن لغياب يوسف. ((وتكونوا من بعده قوماً صالحين)) أي: من بعد الفراغ من قتله أو طرحه. هذه حيلة الشيطان الدائمة، فهو إذا أراد أن يسوغ للإنسان المرور إلى منطقة محذورة، أو ارتكاب أي نوع من الشر أو التقصير أو المعاصي، فإنه يقول له: اعمل هذا الشيء هذه المرة، ثم إنك بعد ذلك ستتوب وستكون من الصالحين، فانظر كيف قال لإخوة يوسف: ((وتكونوا من بعده قوماً صالحين)) أي: تائبين إلى الله مما جنيتم، فيكون صلاحكم فداء عن معصية قتله أو طرحه. أو ((وتكونوا من بعده قوماً صالحين)) أي: ستصلح دنياكم وتصلح أموركم بعده لخلو وجه أبيكم. قال ابن إسحاق: لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده ليفرقوا بينه وبين أبيه على كبر سنه ورقة عظمه، مع مكانه من الله، فيمن أحبه طفلاً صغيراً، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه، يغفر الله لهم. والعجيب أنهم أجمعوا واجتمعوا على كل هذه الكبائر. قال ابن كثير: اعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف. وذلك لأنه لا يمكن للأنبياء أن يرتكبوا هذه الكبائر الموبقة، لأن الأنبياء معصومون من مثل هذا. ثم يقول: وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنه أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل، ولم يذكروا سوى قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136] وهذا فيه احتمال؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط، كما يقال للعرب قبائل، وللعجم شعوب: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13]. فيذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالاً؛ لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب)

تفسير قوله تعالى: (قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجبِّ) قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف:10]. ((قال قائل منهم)) أي: قالها قولة صريحة ورضي الباقون بهذا الاقتراح: ((لا تقتلوا يوسف)) لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سد باب الصلاح، فهم قالوا: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] وهذا قال لهم: إذاً القتل كبيرة موبقة ربما تسبب شؤمها في أن يسد عليكم باب الصلاح فيما بعد، وإنما أظهره في مكان الإضمار؛ استجلاباً لشفقتهم عليه، أو استعظاماً لقتله. ((وألقوه في غيابة الجب)) أي: في غوره، والجب: البئر التي لم تطو. ((يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ)) أي: يأخذه بعض الأقوام الذين يسيرون في الأرض فيتملكه، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه، فيحصل مطلوبكم بكونكم تتخلصون من يوسف ويخلو لكم وجه أبيكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سد باب الصلاح عليكم. ((إن كنتم فاعلين)) أي: إن كنتم عازمين مصرين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه، وقد روي: أن القائل هو أخوهم الأكبر.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف لحافظون)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف لحافظون) لما تواطئوا على رأي أخيهم الأكبر واتفقوا على هذا المذهب جاءوا أباهم يعقوب فـ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف:11]. ((قالوا)) أي: لأبيهم: ((يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون)) أي: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ لقد لاحظوا أن أباهم كان محتاطاً ومحترزاً على حفظ يوسف عليه السلام من إخوته، فأرادوا منه أن يتنازل عن هذا الاحتياط وهذا الاحتراز. وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب ألا يأمنهم عليه، فبالتالي أخذ يحتاط أكثر؛ كيلا يمسوه بسوء. {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12]. الرتع: هو الأكل والشرب، واللعب: هو السعي والنشاط، حيث يكون الخضرة والمياه والزروع، كأنهم يقولون: إن إلزامك يوسف وحرصك على أن يكون ملازماً لك في نفس المكان دون أن يخرج معنا ليرتع ويلعب ويسعى ويجري ويمرح في الخضرة والزروع والمياه، هذا يوجد لديه نوعاً من الملل، والملل سوف يضعف نشاطه على العبادة، واكتساب الكمالات. ((وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) هنا توكيد بأن وباللام.

تفسير قوله تعالى: (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به لخاسرون)

تفسير قوله تعالى: (قال إني ليحزنني أن تذهبوا به لخاسرون) قال تعالى: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]. أي: حتى لو كنتم تضمنون لي أنكم تحفظونه فحفظكم له إنما يحصل إذا كنتم دائمي النظر إليه، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة، فأخاف غفلتكم عنه. قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. الثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو قلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. قال الناصر: وكان أشد الأمرين على قلبه خوف الذئب عليه، فهو يجزع لذلك، وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالماً إليه عما قريب فأمر سهل. إن الذي فهمه إخوة يوسف هو خوف أبيهم من الذئب؛ لذلك لم يشتغلوا إلا بتأمينه، فلم يناقشوه في جواب قول يعقوب: ((إني ليحزنني أن تذهبوا به) وإنما أجابوا عن أشق الأمرين على نفسه وهو خوفه من الذئب عليه فأجابوا {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف:14]. ((ونحن عصبة)) أي: جماعة أقوياء يمكننا أن ننزعه من يد الذئب. ((إنا إذاً لخاسرون)) أي: هالكون ضعفاً وجبناً، أو عاجزون أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسار والدمار.

تفسير قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب)

تفسير قوله تعالى: (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب) {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]. قال تعالى: ((فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ)) أي: بعد مراجعة أبيهم في شأنه ((وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ)) هذا فيه تعظيم لما لنيتهم التي نووها وأجمعوا عليه؛ لأنهم قالوا لأبيهم: سنأخذه كي يتمتع ويرتع ويلعب ويلهو ويسرح ويمرح، فأغروه بالإكرام وهم لا يريدون ذلك، بل بيتوا سوءاً وشراً. ((وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)) (لتنبئنهم) هذه لام القسم، أي: أعلمناه بالإلقاء في روعه، أو بواسطة ملك، وهذا تبشير له بأنه سيتخلص مما هو فيه الآن، وسوف يحدثهم بما فعلوا به، وحصل ذلك حينما قال لهم: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] * {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} [يوسف:90]. ((وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا)) أي: أوحينا إليه بخبرهم. ((وهم لا يشعرون)) إما متعلق بأوحينا إليه، إيناساً له وإجابة للوحي، أو أنها حال من الهاء في قوله: ((لتنبئنهم)) أي: لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف لعلو شأنك كما سيأتي في قوله تعالى: {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58]. ولأنهم تركوك ذليلاً في الجب كي تسير رقيقاً وعبداً ذليلاً، فلن يتخيلوا أنك أنت الوزير الصالح الذي يكلمهم من أعلى المقامات، وأعلى الشأن، فهذا هو المعنى لقوله: ((لتنبئنهم بهذا بأمرهم هذا وهم لا يشعرون)). وروي أنهم نزعوا قميص يوسف الذي عليه وأخذوا يوسف وطرحوه في البئر، وكانت فارغة لا ماء بها، وجلسوا بعد يأكلون ويلهون إلى المساء. قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} [يوسف:15] لم يذكر جواب (لما) فالجواب في الآية محذوف، أي فلما فعلوا ما فعلوا، وقيل: إن الجواب هو ((وأوحينا)) والواو زائدة.

تفسير قوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء يبكون)

تفسير قوله تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء يبكون) قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف:16]. هذا بيان لمكرهم بأبيهم، فهم جاءوا بطريق الاعتذار الموجب موته، كي يقطع الأمل وييأس من عودته، وتنقطع محبته عنه ولو بعد حين، فيرجع إليهم بالحب الكلي. ((وجاءوا أباهم عشاء)) أي: قدموا عشاء، واختاروا وقت الظلمة كي لا تكون وجوههم ظاهرة أمام أبيهم؛ لأنه ربما ظهرت علامات الكذب على وجوههم، فهم اختاروا وقت الظلمة حتى لا يحتشموا من أبيهم في اعتذارهم بالكذب؛ أيضاً لأن أباهم كان عنده فراسة فهم خشوا أنه إذا نظر إليهم أن يكتشف كذبهم لما يرى من الاضطراب في كلامهم ووجوههم، وأوهموا ببكائهم وتفجعهم عليه إفراط محبتهم له، فإذا كانت عندهم المحبة ليوسف فلاشك أن هذه المحبة تمنعهم من الجرأة على قتله، فأرادوا أن يبعدوا عنهم الشبهة بهذا.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا) {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]. لقد نادوا أباهم بعد مجيئهم إليه، وأضافوه إليهم ليرحمهم، ويترك غضبه عليهم الداعي إلى تكذيبهم: ((قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ)) أي: إنا ذهبنا في العدو والرمي بالنصل. ((وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا)) أي: ما يتمتع به من الشراب والأزواد وغيرهما ليحفظها ((فأكله الذئب))، أي: كما حذرت. ((وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) هذا تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه، أي: أنت تسيء الظن بنا، ولا تصدقنا في هذه الحالة ولو كنا صادقين، فكيف ونحن عندك غير مصدقين؟! أنت تتهمنا وغير واثق بقولنا.

البكاء لا يدل على الصدق

البكاء لا يدل على الصدق يستفاد من الآيات أحكام منها: أن بكاء المرء لا يدل على صدقه، لاحتمال أن يكون تصنعاً، فالممثلون إذا أراد الواحد منهم أن يبكي يبكي، ويبكي الذين يشاهدونه من شدة البراعة في التمثيل بالبكاء والشكوى. قال بعض السلف: إن الفاجر إذا كمل فجوره ملك عينيه، فإذا أراد أن يبكي بكى. ليس شرطاً أن يستعمل المواد الموجودة مثل البصل وغيره حتى تذرف العين بالدموع. إذاً: البكاء لا يدل على صدق الباكي، ويضربون المثل لذلك بدموع التماسيح. بالمناسبة: لما ذهب أمير الكويت إلى أمريكا حين دخل الجيش العراقي الكويت فالرئيس الأمريكي بكى شفقةً على ما حصل للكويتيين، فقدرة الإنسان على أن يذرف الدموع لا تكون دليلاً على صدقه، ويسمونها كما تعلمون دموع التماسيح، حتى يتمكن من الفريسة كي يلتهمها. قال بعض السلف: إن الشيطان إذا أراد أن يضل الناس ويخدعهم بالمبتدع ألقى عليه الخشوع والبكاء حتى يصطاده ويصطاد به، فالإنسان لا بد أن يكون حذراً، عالماً وعارفاً بالمقاييس والمعايير التي يحكم بها على الشخص، ليس البكاء من علامات الصدق، وليس شرطاً أن يكون الباكي صادقاً، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: ((وجاءوا أباهم عشاء يبكون)).

أهمية الرياضة البدنية

أهمية الرياضة البدنية ((قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب)) من أحكام هذه الآية: مشروعية المسابقة، وفيه من الطب رياضة النفس والدواب، فالإنسان إذا سابق على الخيل فإن الخيل يحصل لها نوع من الرياضة وتحتاج إليها لتشتد عضلاتها، وإذا أهملت فسيحصل لها ضعف. كذلك رياضة النفس وتمرين الأعضاء على التصرف، فالحقيقة أن جانب الرياضة من الجوانب المهمة التي قصر فيه المسلمون جداً إذا قورنوا بغيرهم من الأمم الكافرة، فهم اهتموا بجانب الرياضة وحافظوا على نعمة الصحة، بينما جهل المسلمون قيمة هذا الجانب انخداعاً بمثل قول الصوفية أحياناً: يا خادم الجسم كم تبقى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان هذا كلام قد يصح في جانب معين، لكن المسلم إذا أراد أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، أو يشترك في الجهاد فكيف يدافع؟! كان بعض الإخوة ممن كان عنده حماس عاطفي يذهب إلى أفغانستان، لكنه صار عبئاً على المجاهدين؛ لأنهم يصعدون الجبال الشاهقة وهو لا يستطيع، وكانوا يحملونه فوق ظهورهم! كنت أتكلم عن اهتمام الإسلام بالرياضة البدنية خاصة في مراحل نمو الجسم وبناء الجسم. على الإنسان أن يدرك أهمية مرحلة الشباب ويهتم بصحته البدنية. والرياضة إذا كانت بالشروط الشرعية فلا بأس بها، فالصحابة كانوا يهتمون بالرياضة البدنية، فقد كانوا يجيدون ركوب الخيل، ومعلوم الجهد العضلي الذي كان يبذل للتحكم في الخيل والفرس، فسلموا من أمراض كثيرة من آفات الجلوس الطويل على المقاعد أو على المكاتب، وهذا الرسول عليه الصلاة والسلام تصارع مع ركانة فصرعه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما قال: (خير الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ومع ذلك كان داود إذا قام للأعداء يصمد أمامهم ويغلبهم ولا يفر عند ملاقاتهم. كذلك قوله: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) فالشاهد: أنه لابد من الاهتمام بالرياضة البدنية والصحة البدنية؛ لأن هذا رصيد ينفع الإنسان في المستقبل إذا احتاج دفاعاً عن النفس، حتى في الصلاة قد يصل الإنسان به الضعف أن يتعب من السجود والركوع ولا يقوى على العبادة. فإذاً الاهتمام بالبدن داخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) لأن الغالب في الدنيا أن الأحكام حسية. ورأس مالك أيها الإنسان الصحة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) فحافظ على صحتك ولا تتركها؛ لأنها من أعظم النعم، ومما يحفظ الصحة الاهتمام بالرياضة بالشروط المعروفة بحيث لا يذهب ليمارس الرياضة في أماكن الاختلاط مثلاً ولا أماكن الفساد، ولكن يجتهد في إيجاد مكان مع إخوانه الصالحين لممارسة الرياضة التي بها يحفظ صحته. إذاً: من فوائد هذه القصة: مشروعية المسابقة، قال بعض اليمانيين: اللعب إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه، ولا تشبه بالفسقة، وأما بين الكبار فهو ثلاثة أقسام: الأول: أن يكون في معنى القمار فلا يجوز. الثاني: ألا يكون في معناه وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد كالمناضلة بالقسي والمسابقة على الخيل فذلك جائز مطلقاً، فكل رياضة أعانت على تقوية البدن أو على الرماية أو على الجهاد فهذا مما يدل عليه قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]. الثالث: ألا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها، ففي ذلك قولان للشافعية: أرجح الأقوال أنه يجوز إن كان بغير عوض، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صارع ركانة، وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت سبقني، وقال: هذه بتلك) صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث: (ليس من اللهو ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه) هذا ليس من اللهو وليس من الباطل؛ لأنه يستعان به على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب)

تفسير قوله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب) قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]. ((وجاءوا على قميصه بدم كذب)) بيان لما تآمروا عليه من المكيدة، وهو أنهم أخذوا قميصه وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه. ((كذب)) هذا مصدر بتقدير المضاف أي: (وجاءوا على قميصه بدم) ذي كذب، أو أنه وصف به مبالغة. (على) حرف جر، وهي ظرف لجاءوا، لأن كلمة (جاءوا) متضمنة معنى (افتروا). ((قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) أي: من تغييب يوسف وتفريقه عني. والذي قوى يعقوب وحمله على اتهامهم أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب عليه السلام هلاكه بسببه أولاً. لم يقولوا مثلاً غرق في الماء، أو حصل له كذا، وإنما قالوا: أكله الذئب. استدل بعض الناس بهذا القول على أن البلاء موكل بالمنطق. وكذلك استدلوا بقول يعقوب عليه السلام في موضع آخر: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] فأحيط بهم. إذاً: قواه على اتهامهم أنهم ادعو الوجه الخاص الذي خافه يعقوب عليه السلام وهو أكل الذئب، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم: ((وأخاف أن يأكله الذئب)) وكثيراً ما تتفق الأعذار الباطلة مع قلق المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار، واستنبط من هذا الحكم بالأمارات والنظر إلى التهمة، حيث قال: (بل سولت لكم أنفسكم أمراً). وفي الآية من الفوائد: أن الجاه يدعو إلى الحسد كالمال، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها، بل يجعلون عداوتهم أشد من عدواة الأجانب، مع أن الأصل من القرابات أن تكون هناك محبة أصلية وهي صلة القرابة، لكن قد يصل العداء بين الأقرباء إلى أشده كما قال الشاعر: وظلم ذوي القربي أشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهند وكذلك الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود وبمن يراعيه، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلاً من الممكور به؛ لأن إخوة يوسف ظنوا أنهم أفضل منه، وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة وأظهره فعلاً لم يعتمد عليه، ولم يوثق بقوله. ومن الفوائد أيضاً: أن الإذلال والإعزاز بيد الله عز وجل لا الخلق، وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء، وأن الإنسان وإن كان نبياً يخلق أولاً على طبع البشرية، وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل، وأن القدر كائن، وأن الحذر لا يغني من القدر، انظر إلى الاحتياطات التي اتخذها يعقوب عليه السلام لحماية يوسف، حتى لاحظ إخوته ذلك: ((فقالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف)) عرفوا أن هذه الاحتياطات تدل على صدق حرصه الشديد وحراسته ليوسف، لكن لما أتى القدر لم ينفع الحذر. قيل للهدهد: كيف ترى الماء تحت الأرض ولا ترى الشبكة فوقها قال: إذا جاء القضاء عمي البصر. ((قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) التسويل: هو تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن. ((فصبر جميل)) خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً، أي: فشأني صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت، والجميل من الصبر هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق، ولا جزع فيه رضاً بقضاء الله ووقوفاً مع مقتضى العبودية. ((والله المستعان على ما تصفون)) أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف. هنا تقديرات واحتمالات: ((فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)) الاحتمال الأول: كلمة (المستعان) تفيد الطلب، يعني: أطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعينني على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف. الاحتمال الثاني: أن المعنى (والله المستعان على ما تصفون) أي: على إظهار حال ما تصفون هل هو صدق أم كذب؟! قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180] أي: من الكذب فكلمة (عما يصفون) يستدل بها على أن هناك كذباً، وهذا القول الثاني هو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83]؛ لأنه لو قلنا بالقول الأول أن المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف فإن معناه: أنه صدقهم فيما أخبروا به، لكن السياق والصيغة تشير إلى أنه لم يصدقهم، ولذلك قال: ((بل سولت لكم أنفسكم أمراً)) فهذا السياق يؤيد أن الراجح هو إظهار حال ما تصفون وكذبه، وأنه من تسويل أنفسكم، وكذا استعملتها عائشة رضي الله عنه الله تعالى عنها في قصة الإفك قالت: (بل أقول كما قال العبد الصالح: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)، يعني: على إظهار حال ما تصفون من الكذب. وقوله: ((والله المستعان)) فيه اعتراف بأن التلبس بالصبر لا يكون إلا بمعونته تبارك وتعالى. قال الرازي: إن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي دواع قوية، والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا، فكأنهما في تحارب وتجاذب، فما لم تحصل إعانته تبارك وتعالى لم تحصل الغلبة، ولذلك قال: ((والله المستعان)) يعني: سأل الله أن يعينه على الصبر، فقوله: ((فصبر جميل)) يجري مجرى قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، وقوله: ((والله المستعان)) يجري مجرى قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

يوسف [19 - 35]

تفسير سورة يوسف [19 - 35]

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه)

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف:19]. ((وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم)) أي: الذي يرد الماء ويستقي لهم. ((فأدلى دلوه)) أي: أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف للخروج، فلما رآه هذا الوارد قال: ((يا بشرى هذا غلام)) وقرئ ((يا بشراي هذا غلام))، بالإضافة والمنادى محذوف، أو نُزِّلت البشرى منزلة من ينادى فقيل: ((يا بشرى)) ويقال: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء. ((هذا غلام)) الغلام الطار الشارب، أي: الذي بدأ ينبت شاربه، أو هو من ولادته إلى أن يشب، والتنوين لكلمة (غلام) لتعظيم شأن هذا الغلام. ((وأسروه بضاعة)) أي: أخفوه متاعاً للتجارة. فتكون (بضاعة) منصوبة على أنها حال. وإذا كان معنى (أسروه) جعلوه فهي مفعول به، أي: جعلوه بضاعة. ويصلح إعرابها مفعولاً لأجله، أي: لأجل أنهم أسروه بضاعةً. والبضاعة من البضع وهو القطع، فهو قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة، لأنه نظر إليه على أنه سوف يجعله عبداً ليحصل به مالاً كثيراً في التجارة ((والله عليم بما يعملون)).

تفسير قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة)

تفسير قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] الضمير في (أسروه) وفي (وشروه) للسيارة، والمقصود أن أهل هذه القافلة هم الذين أسروه وأخفوه، وقد روي أنهم كانوا تجاراً من بلدة مدين، فلما أصعد واردهم يوسف وضموه إلى بضاعتهم باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهماً، ثم أتوا بيوسف إلى مصر. وإعراب دراهم بدل من (ثمن) مجرور بالفتحة؛ لأنه من صيغ منتهى الجموع فهو ممنوع من الصرف. وقوله: (معدودة) كناية عن القلة؛ لأن الكثير يوزن عندهم، لكن القليل يعد، لذلك قال: ((دراهم معدودة)) أي: قليلة. (وكانوا فيه). أي: في يوسف ((من الزاهدين)) أي: الراغبين عنه ((وكانوا فيه)) دلالة على علو المقام كما في قوله تعالى: {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف:16].

فوائد من قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس)

فوائد من قوله تعالى: (وشروه بثمن بخس) من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان ولا يتوقع؛ لأنه قد يرد الفرج من باب الكرب، فها هو يوسف عليه السلام ما حصل له الفرج والتمكين والسيادة في الأرض والخير إلا بعد هذه المحنة التي مر بها، فكأن إخوته ألقوه في الجب ليهلكوه، والله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك، أراد أن يكون إلقاؤه في الجب مفتاحاً لتحقق الرؤيا التي من أجلها حقدوا عليه وحسدوه وتآمروا على قتله أو إبعاده. فهذه المحنة كانت في ظاهرها كربة وهي في الحقيقة سلام وفرج وتمكين في الأرض ليوسف عليه السلام. ومعنى ((شروه)) باعوه، فالشراء والبيع يطلقان على بعضهما، فإذا كانت بمعنى اشتروه، فستكون القافلة الثانية التي من أهل مصر هم الذين اشتروه من تجار مدين، مع أن الرواية التي حكت أن تجار مدين باعوه أتت بصيغة التمريض (وروي)، فالله أعلم بصحة ذلك. إذاً: الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب الإنسان، وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره، وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه، وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة وبالعكس.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]. يخبر تعالى عن لطفه بيوسف عليه السلام، إذ يسر له من اشتراه في مصر فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسم فيه الخير والصلاح. وهذه من المواضع التي ورد فيها ذكر مصر علماً على البلد في القرآن الكريم. ومعنى: ((أكرمي مثواه)) أي: اجعلي مقامه حسناً مرضياً، والمثوى: هو محل الثواء، وهو الإقامة. وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه؛ لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة واتخاذ الفراش ونحوه فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به. وروي: أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده والعناية الربانية تحفه والنجاح يحوطه، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به يمدحه الله تعالى على يديه، فنال حظوة لديه، لأن قدومه كان مباركاً بالنسبة لهذا الرجل الذي اشتراه من مصر والذي أقام عنده وهو العزيز، فكان يحصل له خير كثير منذ أن قدم يوسف عليه السلام عنده، وأقامه قيماً على كل ما يملكه، وضاعف الله تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته. ثم يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:21] أي: كما جعلنا له مثوىً كريماً في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له مكانةً رفيعةً في أرض مصر ووجاهةً في أهلها ومحبةً في قلوبهم؛ ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضي بيوسف إلى الرياسة العظمى، فلذلك أعقب الله تبارك وتعالى صدر هذه الآية مباشرة في نفس الآية بقوله عز وجل: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) هذه إشارة إلى أنه بجانب المكانة التي كانت له في قلب العزيز وفي منزله وفي إكرام مثواه بجانب ذلك أعطاه الله سلطاناً؛ لأن العزيز جعل ليوسف الأمر في ماله وأحواله، وجعل له مكانةً رفيعةً في أرض مصر ووجاهةً في أهلها. ((والله غالب على أمره)) إذا كانت الهاء تعود إلى لفظ الجلالة فيكون التفسير أن الله سبحانه وتعالى لا ينازعه أحد فيما يريد. أما إذا قلنا إن الهاء تعود ليوسف عليه السلام فيكون التفسير أن الله سبحانه وتعالى لا يمنع عما يريد من أمر يوسف، فقد أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة، فقد أنجاه الله من كيد إخوانه حينما ألقوه في الجب أرادوا له الهلكة فأراد الله سبحانه وتعالى أن تكون له السيادة والرياسة والتمكين، كذلك هذه كأنها إشارة إلى المحن التي قد يقبل عليها يوسف فيما بعد، وذلك فيما يتعلق بامرأة العزيز، فالله سبحانه وتعالى كان أيضاً غالباً على أمره فمنعه من السوء، وكانت له العاقبة الحميدة، أيضاً بعد ذلك حينما ألقي في السجن وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ومع ذلك ألقي في السجن فكان له بعد ذلك العاقبة المحمودة، فهذا على أساس أن الهاء تعود إلى يوسف. ((والله غالب على أمره)) أي: على أمر يوسف، حيث إن يوسف أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة. ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) أي: لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله سبحانه وتعالى، فيأتون ويذرون زعماً أن لهم شيئاً من الأمر، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا لطفه سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما)

تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً) {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22]. هذه الآية كالتي قبلها تخللت نظم القصة وأحداثها لمعنى بديع وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف، وثمرات مجاهداته، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته، إذ طوى له المنح في تلك المحن، فوصل إلى السيادة عن طريق العبودية التي حصلت له لما بيع. ((ولما بلغ أشده)) أي: زمان اشتداد جسمه وقوته، قال أبو عبيدة: العرب تقول: بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان. ((آتيناه حكماً وعلماً)) الحكم إما أنه الحكمة، وهي العلم المؤيد بالعمل التي قال الله فيها: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269]، أو أنه سلطان يحكم بين الناس به. ((وكذلك نجزي المحسنين)) قال الزمخشري: وفي قوله تعالى: ((وكذلك نجزي المحسنين)) تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاءً على إحسانه، وعن الحسن قال: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.

تفسير قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه)

تفسير قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] هذا رجوع إلى شرح ما جرى ليوسف في منزل العزيز، بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، بقوله: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21] ثم حصل تخلل لأحداث القصة بهذا الموضع: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:21 - 22] فعاد السياق ورجع إلى شرح ما جرى ليوسف عليه السلام في منزل العزيز من مراودتها له وإيذائها له عليه السلام. ((وراودته)) أي: طلبت منه أن يواقعها. وتعديته بعن (وراودته عن نفسه) لتضمينه معنى المخادعة، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز لتقرير المراودة، كان يمكن أن يقول: وراودته امرأة العزيز، لكن سيفوتنا في هذه الحالة بيان هذا المعنى الذي جاء في صيغة الموصول: ((وراودته التي هو في بيتها)) إشارة إلى أن عوامل الفتنة كانت كلها مجتمعة في حق يوسف عليه السلام ومع ذلك ثبت؛ لأنها صاحبة البيت وهي البادئة والمحتالة والمخادعة والحريصة على ذلك، فإيراد الموصول (التي) دون امرأة العزيز جاء لتقرير المراودة حتى نعلم أنه قد وقعت هذه المراودة، فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك. قيل لامرأةٍ: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. وفيها إظهار كمال نزاهته عليه السلام كما سيأتي؛ لأن هذه الآية تثبت أنها هي التي فعلت ذلك، وأنه لم يكن من ناحيته شيء، فصيغة الموصول هنا أفادت كل هذه الفوائد. ((وقالت هيت لك)) قرئت (هيت) كجير، وكحيث، وبكسر الهاء، وبهمزة ساكنة بعدها (هئت لك). إذاً فيها خمس قراءات (هَيت لك) (هِيت لك)، (هَيتُ) (هئْت)، (هيئت)، وهي في هذه اللغات كلها اسم فعل بمعنى: تعال، واللام لتبيين المفعول. ونقل عن الفراء: أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها. قال ابن الأبياري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ونحوه. ((قال معاذ الله)) منصوب على المصدر أي: أعوذ بالله مما تدعينني إليه، لكونه زناً وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضراً لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن. ((قال معاذ الله)) قال أبو السعود: وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وهذه هي الشفافية والإيمان والإخلاص لله سبحانه وتعالى، كما وصفه الله تعالى بأنه كان من المخلصين، فأداه هذا إلى أن رأى الفحش في صورته الحقيقية القبيحة، التي تبلغ أقصى غايات السوء والقبح والشناعة، فلذلك قال: ((معاذ الله)). فكلمة ((معاذ الله)) تكشف عن أنه رأى القبيح قبيحا، ً وأنه لم يزين في عينه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. والإنسان قد يرى الأشياء على غير ما هي عليه، ولذلك كان من الدعاء المأثور -أعتقد أنه ينسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه-: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأتبع الهوى) أو كما قال رضي الله عنه، إذاً: قد يرى الإنسان الحق باطلاً أو الباطل حقاً، أما من وفقه الله سبحانه وتعالى فإنه يرى الأشياء على ما هي عليه، وهذا هو الذي حصل من يوسف عليه السلام، فإنه رأى القبيح قبيحاً في صورته التي يستحقها من القبح، فلذلك نفر منه وبعد منه غاية البعد ونفر غاية النفور كما هو واضح في السياق، فهو لم يتردد في ذلك على الإطلاق. وهذا خلاف من يخذله الله سبحانه وتعالى فيستحقر القبائح، كم ترى من شخص قد يهنئ الآخر؛ لأنه أحضر جهاز الدش في البيت، ولو فقه وعرف ضرره لعزاه في هذه المصيبة التي ليس بعدها مصيبة. فالله سبحانه وتعالى ينكس قلوب هؤلاء الناس ويرون القبيح حسناً والحسن قبيحاً، كما ترون في كافة وسائل الإعلام من التشنيع على أهل الطاعة، ومن التنفير عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالألفاظ المنفرة، والأوصاف المخالفة للحقيقة، وفي نفس الوقت يرون القبيح حسناً. ((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)) تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية. قوله: ((معاذ الله)) فيه إشارةً إلى التقوى التي في قلبه، فهو يرى هذا الفعل معصية لله سبحانه وتعالى قبيحاً، ولا يعينه على النجاة منها إلا الله، ولذلك تعوذ بالله. ثم إن يوسف عليه السلام ذكر لها بعض الأسباب التي تكون مقنعة لها فتكف عنه شرها فقال: ((إنه ربي أحسن مثواي)) فهنا علل امتناعه بأسباب خارجية مما عسى أن يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره، بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها. والضمير في قوله: (إنه) للشأن، وفائدة تصدير الجملة به إشارة إلى ضخامة مضمون هذه الجملة، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن؛ فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقباً لما يعقبه. هذه فائدة استعمال ضمير الشأن، فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هو أن ربي -أي: سيدي العزيز صاحب هذا البيت- قد أحسن مثواي، وأحسن تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف أقابل إحسانه إلي بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها بطريقة في غاية اللطف إلى رعاية حق العزيز، إذا كان من هو في مقام عبده أو خادمه راعياً حرمته بهذه الطريقة، فأولى بها وهي زوجته أن ترعى حرمته، فكأنه يقول لها: وقد أحسن مثواك أنت أيضا، ً فعليك أن تؤدي حق هذا الزوج ولا تخونيه. وقيل: الضمير لله عز وجل، (إنه ربي) أي: الله عز وجل، فكيف أعصي الله عز وجل بارتكاب تلك الفاحشة؟! على أساس أن ربي خبر إن و (أحسن مثواي) خبر ثان، أو: (أحسن مثواي) هو الخبر و (ربي) بدل من الضمير. وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل، أي: أن الله سبحانه وتعالى أحسن مثواي فكيف أعصيه؟! فأشار لها أيضاً أن تتقي الله ولا تفعل ما يغضبه سبحانه، وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً، فهو لم يواجهها بقوله: ما هذا الذي تطلبينه، أو إن هذا لا يمكن أن يقع، أو إنني أمتنع من هذا. ثم أضاف تعليلاً آخر للامتناع فقال: ((إنه لا يفلح الظالمون)) عقب التعليل الأول. والفلاح هو الظفر، أو البقاء في الخير، ومعنى (أفلح): دخل فيه كأصبح وأخواتها. والمراد بالظالمين كل من ظلم كائناً من كان، فيدخل في ذلك المقابلون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى كالزناة؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم، وظالمون للمزني بأهله.

ثمرات قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها)

ثمرات قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها) وقال بعض اليمانيين: ثمرات هذه الآية ثلاث: الأولى: أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك ليعصمه منها، كأن يقول إذا دعي إلى أي معصية: معاذ الله، أو أعوذ بالله، أي: ألتجئ وأتحصن بالله سبحانه وتعالى أن يحميني من هذا. ويدخل فيه دعاء الشيطان إلى المعصية الشيطان، وكذلك دعاء شياطين الإنس، أو دعاء هوى النفس الأمارة بالسوء. الثانية: أن السيد والمالك يسمى رباً، لكن لا يطلق عليه الرب مطلقاً؛ لأن إطلاق هذه التسمية لا تكون إلا في حق الله سبحانه وتعالى، أما في حق غيره فتكون مضافة، لذلك أتى بها يوسف عليه السلام مضافةً: (إنه ربي). الثالثة: أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعايةً لحق غيره، وأيضاً خشية العار أو الفقر أو الخوف أو نحو ذلك، ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركاً للقبيح وأنه لا يثاب، بمعنى: أن الإنسان إذا انتهى من القبيح يمكن أن يشرك في النية بجانب الخوف من الله سبحانه وتعالى، نية الامتناع خشية العار، أو الخوف من مقابلة الإساءة بالإحسان ورعاية حق الغير، أو غير ذلك من ذكر العواقب التي تكون نتيجة هذه الفعلة. وتدل الآية القرآنية أيضاً على لزوم حسن المكافأة بالجميل: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] فكما أحسن هذا الرجل إلى يوسف عليه السلام فعليه أن يقابل إحسانه إليه بإحسان مثله، وأن من قابل الإحسان بالإساءة فإنه يكون ظالماً؛ لقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].

تفسير قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها)

تفسير قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها) ثم يقول تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. الهم يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإجماع عليه، وبالعزم القصد إلى إمضائه، فهو -أي: الهم- أول العزيمة، أما أعلاه فهو الهمة. إذاً: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقل ورضاً، مثل: الهم الذي يدفع صاحبه إلى المشي إلى الحانة ليشرب الخمر ووجدها مغلقة، فهذا عنده الهم وعنده العزيمة، وكذلك الذي يهم أن يقاتل أخاه المسلم، كما جاء في الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما ذنب المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالمقتول فشل في المبارزة فقتل قبل أن يقدر على قتل أخيه، وإلا فهو قد هم وحرص على هذه المعصية، فيؤاخذ بهذا الهم. أما الهم الثاني فهو الهم الذي هو خاطر أو حديث نفس يخطر للإنسان ولا يوجد عقبه شيء حسي أو في الأعيان، فروى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل). فمعنى قوله تعالى: ((ولقد همت به)) أي: همت بمخالطته وعزمت عليها عزماً جازماً، ليس كالخاطر العابر، بل هو همٌّ مؤثر وهو العزم والتصميم، لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مبادئه من المراودة وتغليق الأبواب، ودعته إلى الإسراع إليها بقولها: ((هيت لك)) مما اضطره إلى الهرب إلى الباب، هذا الهم منها. ولذلك يحسن الحقيقة الوقف هنا عند قوله: ((ولقد همت به)) ثم البدء بقوله: ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) لمعنى سوف نبينه إن شاء الله. أي: لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها كما همت به لتوافر الدواعي، فكل دواعي الفتنة موجودة فقد كان في عنفوان شبابه عزباً مملوكاً، وهي التي ابتدأت وألحت على هذا الشيء، ثم إنها تملك الرغبة والرهبة، فقد هددت بسجنه وغير ذلك. فهذه الآية تنزه يوسف أن يكون قد هم؛ لأن "لولا" حرف امتناع لوجود، فامتنع الهم لوجود برهان ربه، مثل قولك: لولا الماء لعطشنا، فامتنع العطش بسبب وجود الماء، وقولك: لولا الهواء لاختنقت، فامتنع الاختناق نتيجة وجود الهواء، وكذلك يقول الشخص: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، فهل معنى ذلك أنه قارف الإثم؟ لا؛ فبسبب وجود عصمة الله لم يقارف الإثم. قال أبو حيان: ونظيره: قاربت الإثم لولا أن الله عصمك، ولا نقول: إن جواب "لولا" يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حيث ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه؛ لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله، فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلاً. وقيل: جواب "لولا": لغشيها ونحوه، فلو قلنا: إن التقدير: ((ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) أي: لغشيها، أو لأجابها، فحينئذ يكون معنى الهم أنه مجرد خطور الشيء بالبال، أو أنه الميل الفطري الطبيعي كالصائم في الصيف يرى الماء البارد فتحمله نفسه على الميل إليه وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه، وكالمرأة الفائقة حسناً وجمالاً تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة وبين النفس والعقل مجاذبة ومنازعة، فداعي الدين هو الذي يمنع من ذلك، فالهم هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة، وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد كانت القوة على لوازم العبودية أكمل. وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها بمقتضى الطبيعة البشرية ميلاً جبلّياً، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا ترى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين. فلا شك أن العبارة في الموقف السابق ليوسف عليه السلام وهو الوارد في قوله: ((قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون)) يدل على كمال نفوره واستقباحه لهذا الفعل، هل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه عليه السلام تسجيلاً محكماً؟! وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة، فحصل نوع من المزاوجة مثل قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54] لا لشبه بينها كما قيل، لكنه نوع من المشاكلة للاستصحاب بين اقتران اللفظين معاً في لفظ واحد أو في وقت واحد، لكن أشير إلى تباينهما حيث لم يردا في قالب واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هم بالمخالطة أي: لم يقل سبحانه وتعالى: ولقد (هما) معاً، أو لم يقل: ولقد هم كل منهما بالآخر، ولكن حصلت هذه المباينة إشارة إلى افتراقهما، ولقد همت به هماً كما ذكرنا بالمخالطة، أما هو فهم بها هماً جبلّياً غير اختياري. فجاءت الصيغة بهذه الطريقة إشارةً إلى تباين نوعي الهم، وأنهما ليسا من باب واحد. يقول: وصدر الأول -يعني: ابتدأ بهمها أولاً- بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي ((ولقد همت به)) ليثبت وجود هذا الهم منها، وعقب الثاني بما يعفو أثره وبما يمحو أثره، ((وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)) إشارة إلى تباين الهم كما ذكرنا. ((برهان ربه)) أي: حجة ربه الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، إنه نور من ربه سبحانه وتعالى جعله يرى القبيح قبيحاً وينفر منه غاية النفور، والمراد برؤيته له كمال إيقانه به ومشاهدته له مشاهدةً وصلت به إلى مرتبة عين اليقين، وهي أعلى مراتب العلم على الإطلاق، وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنا بموجب ذلك البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته، أقبح ما يكون وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه. وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام، أي لولا مشاهدة برهان ربه بشأن الزنا لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهداً له من قبل، استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة بل لمحض العفة والنزاهة. فاتضح أن لا تشويش في هذه الآية على عصمة يوسف عليه السلام، كنبي من أنبياء الله عليهم السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها والانقياد إليها، ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا ملائكة أو عالماً آخر، ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي لكونهم مقهورين على تركها، كالعنين لا يؤجر ولا يثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعيةٍ ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كف النفس عما تتشوق إليه، فهو عمل نفسي، فهو يترك هذا الشيء نتيجة مجاهدة يثاب عليها، بخلاف من تركه وليس عنده داع إليه، فالدعاة بعثوا بتزكية الناس منها؛ لئلا يكونوا قدوةً سيئة مفسدين للأخلاق والآداب، وحجةً للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع، وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري. هذا وقد ألصق هنا بعض المفسرين الولعين بسرد الروايات ما تلقفوه من أهل الكتاب من تلك الأقاصيص المختلقة على يوسف عليه السلام في همه، يقول القاسمي: فإني أنزه تأليفي عن نقلها بردها. وقال العلامة أبو السعود: وكلها خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها. وسبقه الزمخشري فأجاد الكلام في ردها، فلينظر فإنه مما يسر الواقف عليه. ((كذلك لنصرف عنه السوء)) أي: المنكر والفجور والمكروه. ((والفحشاء)) هي ما نتاهى قبحه ووصل في القبح إلى أقصى درجاته. يقول أبو السعود في قوله تعالى: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)): آية بينة، وحجةٌ قاطعة على أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يقع منه همٌ بالمعصية ولا توجه إليها قط، وإلا لو كان توجه إليها لقيل: كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء، وإنما توجه إليه ذلك من خارج، فصرفه الله تعالى بما فيه من موجبات العفة والعصمة فتأمل. ((إنه من عبادنا المخلصين)) قرئ بكسر اللام، بمعنى الذين أخلصوا دينهم لله، وقرئ بالفتح كما في قراءة عاصم، أي: الذين أخلصهم الله لطاعته، فمعنى القراءة الثانية أن الله عصمه وحفظه وأخلصه لطاعته. قال الشهاب: قيل: إن كل من له دخل في هذه القصة شهد ببراءة يوسف عليه السلام القاطعة، أولاً: شهد الله سبحانه وتعالى له بالبراءة كما في هذه الآية: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)) أي: أنه لم يقترب منه السوء والفحشاء، وهذا في غاية التنزيه له عليه السلام والسبب: ((إنه من عبادنا المخلصين)) أي: الذين أخلصناهم لطاعتنا بأن عصمناهم، أما شهادة يوسف لنفسه فقد شهد بعفته فقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:26]، أما هو فلم يقع منه أدنى مراودة عليه السلام. وكذلك امرأة العزيز نفسها شهدت بما ينزه يوسف قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] وسيدها أيضاً نزه يوسف وبرأه بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29]، وإبليس نفسه شهد ببراءة يوسف عليه السلام حينما قال: {َلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40]. فإذاً: لا سبيل لإبليس على عباد الله المخلصين ومنهم يوسف؛ لأن الله قال: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)). ثم يقول الشهاب: فتضمن إخبار إبليس بأنه لم يغوه، ومع هذا لم يبرئه أهل القصص حينما جمعوا ركام المرويات الإسرائيلية والمخترعة والمختلقة، ولقد سماهم القا

تفسير قوله تعالى: (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وهو من الصادقين)

تفسير قوله تعالى: (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وهو من الصادقين) {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:25 - 27]. ((واستبقا الباب)) هذا متصل بقوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] فقوله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) اعتراف جيء به بين المعطوفين تقريراً لنزاهته، فقوله: (واستبقا الباب) أي: قصد كل منهما سبق الآخر إلى الباب، فيوسف عليه السلام بادر وسابقها إلى الباب ليخرج ويهرب من هذا الموقف، وهي سبقت أيضاً إلى الباب لتمنعه من الخروج ووحد الباب هنا مع جمعه أولاً، بقوله: (وغلقت الأبواب) لأن المراد به الباب الذي يؤدي إلى الخارج، أما الأبواب الأخرى فهي داخلية تؤدي إلى هذا الباب الخارجي. فيوسف عليه السلام لم يكن همه فقط أن يخرج من الباب الداخلي، لكن أن يخرج من الباب الذي يكون منه الخلاص من هذه الفتنة. ((وقدت قميصه من دبر)) أي: اجتذبته من خلفه، فانقد قميصه أي: انشق. ((وألفيا سيدها لدى الباب)) أي صادفا بعلها ثمةً قادماً. ((قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم)) تبرئة لساحتها وإغراءً عليه وتحريضاً. {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف:26]. لأن قده من قبل أمارة الدفع عن نفسها به، أو تعثره في مقادم قميصه بسبب إقباله عليها. {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:27] لأن قده من دبره أمارة إدباره عنها بسبب أنها تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدته، ومن اللطائف ما قيل: إن هذا الشاهد أراد أن يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن انقطاع قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها. وبدأ بذكر القد من القبل؛ لأنه على علم بأنه لم ينقد من قبل، حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة، مع أنه كان يعلم أنه قد من دبر، لكنه أراد أن يأتي بعلامة يحكم بها في هذه المسألة، ومن ثم قدم أمارة صدقها على أمارة صدقه في الذكر، إزاحةً للتهمة ووثوقاً بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها، وهذه اللطيفة بعينها هي التي راعاها مؤمن آل فرعون في قوله: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28]. فحتى يزيح التهمة عن نفسه، ويظهر أنه مخلص لقومه ويريد بهم الخير؛ تأليفاً لقلوبهم على الإسلام أو على الدين، يقول لهم: (إن يك كاذباً فعليه كذبه) هو أتى بصفة الكذب ولم يأت بصفة الصدق؛ لكون ذلك يعني أقرب إلى هواهم، مع أنه لن يضر موسى عليه السلام أن يوصف بأنه كاذب؛ لأنه مجرد احتمال، وهو صادق قطعاً. هذا نوع من التنزل في الحوار الذي لا يضر في الحق شيئاً، وكما في سورة سبأ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]. ومن هذا النحو تأخير يوسف عليه السلام لكشف وعاء أخيه الآتي ذكره في قوله: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف:76] فإزاحةً للتهمة بدأ بأوعيتهم أولاً قبل وعاء أخيه؛ كي لا يظهر أنه متعمد إخراجه؛ لأنه لو بدأ به، لفطنوا أنه هو الذي أمر بوضع السقاية فيه. والقاسمي هنا قد أحسن إحساناً عظيماً في تفسيره حينما تجاهل تماماً الكلام الطويل الذي لا دليل عليه. فمن هو الشاهد في قوله تعالى: (وشهد شاهد من أهلها)؟! إنه ليس غريباً، ولذا تكون شهادته أوقع وأبلغ، حتى إنها جرت مجرى الأمثال، فحينما تأتي مثلاً بعدو من أعداء الإسلام يشهد بشهادة حق فتقول: ((شهد شاهد من أهلها)).

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى قميصه قد من دبر)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأى قميصه قد من دبر) {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] الكيد هو الحيلة والمكر، وإنما استعظم كيدهن لأنه ألصق وأعلق في القلب، وأشد تأثيراً في النفس، ولهن فيه نيقةٌ ورفق، وبذلك يغلبن الرجال: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا أي: مع الضعف الذي في المرأة لكنها تقوى بهذا الكيد وهذا المكر على أن تغلب أقوى الرجال. يحتج بالآية من يرى الحكم بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات، كاللقطة والسرقة والوديعة ومعاقد الحيطان والسقوف وشبهها.

تفسير قوله تعالى: (يوسف أعرض عن هذا)

تفسير قوله تعالى: (يوسف أعرض عن هذا) قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] ((يوسف أعرض عن هذا)) نودي بحذف حرف النداء؛ لقربه وكمال تفطنه للحديث، والمعنى أعرض عن هذا الأمر واكتمه ولا تحدث به. ((واستغفري لذنبك)) أي: الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، وقذفه بما هو بريء منه. ((إنك كنت من الخاطئين)) أي: من جملة القوم المتعمدين للذنب يقال: خَطِئ إذا أذنب متعمداً، وأخطأ إذا فعله من غير تعمد، ولذلك ينبغي للشخص الذي يتكلم في خلافات العلماء ألا يقول: وهذا القول خاطئ، لكن يقول: إن هذا القائل مخطئ نسبة إلى الخطأ وليس إلى الخطيئة، فليلتفت لهذا؛ لأن هذا التعبير يستعمل كثيراً على ألسنة الكثير من طلبة العلم، يقول: هذا المذهب خاطئ. وهذا القول خطأ؛ لأن الخاطئ هو الشخص الذي يتعمد الوزر والإثم، أما الخطأ نتيجة الاجتهاد مثلاً فيقال فيه: خطأ ويقال لصاحبه: مخطئ، وليس خاطئاً، إلا إذا تعمد، ولهذا يقال: أصاب الخطأ، وأخطأ الصواب، وأصاب الصواب. (إنك كنت من الخاطئين) وإيثار جمع السالم تغليباً للذكور على الإناث؛ لأن الخاطئين فيهم رجال وإناث فغلب التذكير كما هو معلوم، ودل هذا على أن العزيز كان رجلاً حليماً إذ اكتفى من مؤاخذتها بهذا المقدار، قال ابن كثير: أو أنه عذرها؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه. ويقال: إنه كان قليل الغيرة. قال الشهاب: وهذا لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام. وقال أبو حيان كلاماً مؤذياً جداً سامحه الله يقول: إنه مقتضى تربة مصر. والكثير من الناس للأسف الشديد ينزعون منزعاً غير مرضي، فبعض الناس يفيضون في هذا الكلام حتى قال بعضهم: ولذلك ترى الأسود لا تعيش في أرض مصر؛ لأن عندها غيرة، فلا شك أن هذا الكلام من العدوان، خاصة بعد أن شرف الله سبحانه وتعالى مصر بالإسلام، ما ينبغي أبداً أن يقال هذا الكلام، فنقرأ أحياناً في بعض الكتب أشياء مزرية، فهذا كتاب أظن اسمه (مرآة النساء فيما حسن منهن وساء)، كان يقول على سبيل الجزم والقطع: إن الرجال في مصر طبعهم غريب جداً في انقيادهم للنساء، حتى إنه لا يوجد في مصر رجل إلا ويخاطب امرأته بقوله: يا سيدتي. فهذا بلا شك من العدوان، هل أحد يعرف هذا؟! فيحلو لبعض الناس سوء الظن بأهل مصر، وأن أهل مصر ليس عندهم غيرة، وأنا سمعت بنفسي شيئاً من هذا في بعض البلاد، فقد كنت في أبها وكان هناك حفل لتحفيظ القرآن، وكان الأمير خالد الفيصل حاضراً ذلك الحفل في المسجد الكبير هناك، وقام أحد المحاضرين من المشايخ الفضلاء -لا داعي لذكر اسمه- فتكلم عما يفعله العصاة والفساق من أهل بلادهم، فيقول: ويفعلون كذا وكذا ويذهبون إلى مصر! وكأن الذهاب إلى مصر سبة، والسبب في هذا الفسقة والفجرة من أهل الفن الممثلين والملاحدة والفساق والفجار، فالناس تنظر أن هذه هي مصر، وأن أهل مصر لا يعرفون الشرف ولا العرض ولا الغيرة ولا الكرامة، لكن منذ أن أعزنا الله بالإسلام ولله الحمد نحن نفخر بإسلامنا لا بشيءٍ آخر، ولكن ليس من الحكمة أبداً أن الإنسان إذا كان يخاطب قوماً ويتكلم باسم الإسلام، خاصة إذا كان عالماً أو مصنفاً أن يدق هذا الوتر في قلوب الناس؛ لأنه يجرح كثيراً. نستحضر قصة الإفك كيف أن سعد بن معاذ لما قام وهو رئيس الأوس وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: (إن كان من قومي الأوس فأنا امتثل فيه رأيك، وإن كان من إخواننا الخزرج فمرنا فيه لنقتلنه، فغضب رئيس الخزرج وقال: لا تقتله ولا تستطيع أن تقتله وكان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً على المنبر، وكادت أن تحصل فتنة عظيمة بينهم) انظر إلى العصبية القبلية أو الوطنية. إذاً: من يتكلم باسم الإسلام ينبغي ألا يقترب من موضوع العصبية والقبلية والطائفية، للأسف الشديد هناك أمور كثيراً ما تحصل تجد الواحد يقول: هذا من الصعيد وفلان هذا بحراوي، وللأسف ترانا نجري مع الناس الجهلة في هذه النعرة الجاهلية، وحتى على مستوى المحافظات تجد لكل محافظة صفة معينة قبيحة ظلماً وعدواناً. فلا ينبغي أن نسترسل مع هذه المسالك؛ لأنه لا يليق أبداً بمن أعزه الله سبحانه وتعالى بالإسلام أن يحصل منه مثل هذا الكلام، فكل من كان مثلنا في الإسلام فهو أخونا سواء من أهل بلدنا، أو من أهل محافظتنا، أو من أهل مصرنا، أو من أي بلد إسلامي، أما التعميم فبلا شك أنه ظلم فادح، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)، فهذا فيه مراعاة لشعور الناس، انظروا كيف وصلت إلى هذا الحد، حتى الميت لو كان يستحق السب لا تسبه رعايةً لحرمة قريبه الحي! حتى ولو كان هذا كافراً أو فاسقاً، فلا تؤذوا الأحياء، فكيف بالمسلمين؟! وقال أبو حيان: إنه مقتضى تربة مصر بتحلي أهلها بهذه الصفة التي يزعمون. ثم يقول القاسمي: وقد تقرر للمحققين أن الاختلاف في أحوال العمران في الخصب والجدب وأقاليمه في الحرارة والبرودة وتوابعها له أثر في أخلاق البشر وأبدانهم. انظر المقدمة الرابعة والخامسة من مقدمة ابن خلدون، وعفا الله عن الجميع!

تفسير قوله تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه)

تفسير قوله تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) ذكر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة وهي مصر فقال عز وجل: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30]. ((وقال نسوة في المدينة)) أي: بعد أن انتشرت الشائعات، فمثل هذه الحوادث تشيع وتنتشر من قبل النساء، أما يوسف فلا يمكن أن يكون قد أذاع هذا، بل يوسف يتنزه عن أن يكون هو مصدر هذه الشائعات عليه السلام. ((امرأة العزيز)) العزيز هو الأمير، مأخوذ من العز وهو الشدة والقهر، وقد غلب على أمير مصر والإسكندرية، الحقيقة هنا مناسبة لأن نعلق تعليقاً عابراً بالنسبة لاستعمال كلمة (العزيز) في القرآن، نقدم لها بالتعريف بعمالقة مصر الذين يسمون بالهكسوس، وهم العمالقة الذين كانوا يسكنون في جنوب فلسطين ومنطقة العقبة وجزء من سيناء المصرية، وكان يطلق عليهم الشاة أو ملوك الرعاة، وهم أبناء عم عمالقة العراق الذين كونوا دولة بابل الأولى، وأبناء عم عادٍ وثمود. اندفعت الهكسوس الهمجية ودهمت في فترة من فترات الضعف السياسي في مصر حدود مصر الشرقية، مكتسحةً أمامها كل شيءٍ في مصر، ومما ساعدهم على ذلك كثرتهم العددية وقوتهم العسكرية، واستخدام الخيول والعجلات الحربية، والخناجر والسيوف البرونزية -لأن سيوف المصريين كانت من النحاس- والأقواس المركبة البعيدة المدى، وهذه الأسلحة لم يعرفها المصريون، فأخضعوا الدلتا وجعلوا شرق مصر وشمال الدلتا في محافظة كفر الشيخ الحالية من أهم عواصمهم ومراكزهم الهامة في مصر، ثم واصل الهكسوس زحفهم جنوباً فاحتلوا عاصمة مصر التي بالقرب من البدرشين في محافظة الجيزة الآن، ثم سيطروا على شمال الصعيد حتى منطقة القوصية بالقرب من أسيوط، وتحصن المصريون في طيبة التي هي الأقصر حالياً في جنوب الصعيد. فالهكسوس كانوا يقتحمون البلاد من جهة الشمال، ومملكة الكوز في بلاد النوبة، مملكة قوية كانت تضم جنوب وشمال السودان وأجزاء من الحبشة، وأساءوا معاملة المصريين واستذلوهم وأجبروهم على دفع الجزية، وظلوا يحكمون مصر أو معظم مصر مدة مائة وخمسين سنة من (1720 ق م) إلى (1570 ق م). خلاصة الكلام أن الهكسوس أصلهم عمالقة فلسطين، وأصل الهكسوس من العرب. فملوك الهكسوس الذي حكموا مصر غير ملوك الفراعنة. الشيخ عبد الرحمن يوسف العبسي يذكر في كتاب له اسمه: (إرم ذات العماد) يقول: إن يوسف عليه السلام نزل مصر وعاش فيها في زمن حكم ملوك الهكسوس، لذلك نجد أن القرآن الكريم حينما يتحدث عن حكام مصر في عهد سيدنا يوسف عليه السلام ينعتهم بألقاب عربية؛ لأنهم عرب مثل: لقب السيد، ولقب: العزيز وهي ألقاب عربية، ونحن نعرف أن الهكسوس عماليق من العرب البائدة، ومن أمثلة ذلك قال الله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] وقوله عز وجل: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف:30]. أما حينما نجح المصريون في طرد الهكسوس من مصر وسيطر المصريون مرةً أخرى على مقاليد البلاد، وبدأ عصر جديد هو عصر المجد الحربي الذي ضم كبار الملوك المصريين مثل: خوفو ورمسيس وهو نفس العصر الذي أرسل فيه سيدنا موسى إلى مصر، فنجد القرآن الكريم يذكر حكام مصر بلقب المصريين القديم فرعون، وهو اللقب المصري لكل ملوك مصر ومعناه: البيت العالي، يقول الله تعالى لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24]. لاشك أن الإشارة إلى ملوك الهكسوس بالألقاب العربية، وملوك الفراعنة بلقب الفرعون أن هذا من معجزات القرآن الكريم ودقة تعبيراته، فهذا إشارة إلى أن هذا العزيز لم يكن من الفراعنة؛ لأن هذا حصل في زمن الهكسوس. ((قد شغفها حباً)) أي: خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف كالسحاب حجاب القلب. ((إنا لنراها في ضلال مبين)) أي: في خطأ عن طريق الرشد والصواب، وإقحام الرؤية للإشعار بأن حكمهن بضلالها صادر عن رؤية وعلم، مع التلويح إلى تنزههن عن مثل ما فعلته هي، كعادة المغتاب، فالمغتاب يكون قصده من الغيبة رفع نفسه بتنقيص الآخرين، فعندما يقول: فلان ليس عنده ورع معناه: أنه يقصد أنني أنا الذي عندي ورع، وكأن يقول: فلان مثلاً بخيل، وهو لا يقصد فقط ذمه وإنما يريد أن يصف نفسه بالكرم وهكذا، وقوله عنهن: ((إنا لنراها في ضلالٍ مبين)) فيه توكيد بإن واللام.

تفسير قوله تعالى: (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن)

تفسير قوله تعالى: (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن) {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31]. ((فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ)) أي: باغتيابهن وسوء قالتهن، استعير المكر للغيبة لشبهها له في الإخفاء، أو المكر على حقيقته. فهو أطلق على الغيبة المكر؛ لأن الخفاء مشترك بين اللفظين، أو المقصود المكر على حسب التآمر والكيد والتخطيط، كأنها فهمت أن مكرهن ليس لأجل الغيرة، وإنما هو التآمر وكأنهن تعمدن ذلك كي تريهن يوسف عليه السلام ((فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن)) تدعوهن للضيافة مكراً بهن. ((وَأَعْتَدَتْ)) أي: أحضرت وهيأت ((لهن متكئاً)) أي: ما يتكئن عليه من الوسائد. ((وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا)) أي: ليعالجن بها ما يأكلن من الفواكه ونحوها. ((قالت)) ليوسف عليه السلام: ((أخرج عليهن)) أي: ابرز إليهن. قال الزمخشري: قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهن فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها؛ لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهن، فتضع الخناجر في أيديهن ليقطعن أيديهن فتبكتهن بالحجة، وقد كان ذلك كما قال تعالى: ((فلما رأينه أكبرنه)) أي: أعظمنه وهبن حسنه الفائق. ((وقطعن أيديهن)) أي: جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد جرحتها. ((وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)) (حاش) أصلها (حاشا) بشين وألف، وحذفت ألفها تخفيفاً، وبها قرأ أبو عمرو. ((وقلن حاش لله)) أي: تنزيهاً له سبحانه وتعالى عن صفات النقص والعجز، وتعجباً من قدرة الله عز وجل على مثل ذلك الصنع البديع، وإنما نفين عنه البشرية لغرابة جماله، وأثبتن له الملكية على نهج القصر وأسلوبه بناءً على ما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك في الصورة، كما ركز فيها ألا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناهٍ في الحسن بالملك، وكل متناهٍ في القبح بالشيطان.

تفسير قوله تعالى: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه)

تفسير قوله تعالى: (قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32]. ((قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)) أي: في الافتتان به. ((وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ)) أي: امتنع طالباً للعصمة مستزيداً منها، فهو طلب من الله سبحانه وتعالى العصمة وتمادى في ذلك، وثبت على موقفه. قال الزمخشري: الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، ونحوه: استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب، وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهم والبرهان. ((وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ)) أي: ليعاقبن بالسجن والحبس. ((وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ)). أي: الأذلاء المهانين. قوله: (ليسجنن) (وليكوناً) النون في الأولى ثقيلة، والثانية مخففة وهي نون التوكيد.

تفسير قوله تعالى: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)

تفسير قوله تعالى: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) لما سمع يوسف عليه السلام تهديدها: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. ((قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)) من الفاحشة، لأن مشقة دخول هذا السجن قليلة يعقبها راحات أبدية. ثم فزع إلى الله تعالى في طلب العصمة بقوله: ((وإلا تصرف عني كيدهن)) أي: ما أردن مني. ((أصب إليهن)) أي: أمل إلى إجابتهن بمقتضى البشرية. ((وأكن من الجاهلين)) أي: بسبب ارتكاب ما يدعونني إليه من القبيح. قال أبو السعود: هذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى، جرياً على أدب الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب الله عز وجل، وسلب القوى عن أنفسهم، ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة، كقول المستغيث: أدركني وإلا هلكت، لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة، وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن. قال القاشاني: وذلك الدعاء هو صورة افتقار القلب الواجب عليه أدباً. يجب أن يكون القلب دائماً متصلاً بهذا الافتقار إلى عصمة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، فهذا من كمال توحيد يوسف لربه عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].

تفسير قوله تعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن)

تفسير قوله تعالى: (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34]. ((فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ)) أي: أجاب دعاءه. ((فصرف عنه كيدهن)) أي: أيده بالتأييد القدسي فصرفه إلى جناب القدس ودفع عنه بذلك كيدهن. ((إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) أي: إنه هو السميع لدعاء المتضرعين إليه، العليم بما يصلحهم.

تفسير قوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين)

تفسير قوله تعالى: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35]. ((ثم بدا لهم)) أي: ظهر للعزيز وأهله. ((من بعد ما رأوا الآيات)) أي: الشواهد على براءته عليه السلام. ((ليسجننه حتى حين)) أي: إلى مدةٍ يرون رأيهم فيها.

يوسف [51 - 82]

تفسير سورة يوسف [51 - 82]

تفسير قوله تعالى: (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه)

تفسير قوله تعالى: (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه) يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:50 - 51]. ((قال ما خطبكن إذا راودتن يوسف عن نفسه)) استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد قول يوسف عليه السلام للملك أو لرسول الملك ((ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم))؟ فجاء الجواب قال الملك: ((ما خطبكن)) أي: ما شأنكن ((إذا راودتن يوسف)) يوم الضيافة، يعني: هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ ((قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء)) أي: من قبيح، لقد بالغن في نفي السوء عنه، وهو أبلغ ما يكون في تنزيه يوسف عليه السلام عن أي قبيح؛ لأن كلمة (سوء) نكرة في سياق النفي فهي تعم، ويكون العموم قطعياً إذا أضيفت إليه كلمة ((ما علمنا عليه من سوء)) أيضاً من المبالغة في تنزيهه عن ذلك. قالت امرأة العزيز: ((الآن حصحص الحق)) أي: ثبت واستقر وظهر بعد خفائه ((أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)) أي: إنه لمن الصادقين في قوله: هي راودتني عن نفسي. قال الزمخشري: ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به؛ لأنهن خصومه وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال. وكما يقال: والفضل ما شهدت به الأعداء.

تفسير قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)

تفسير قوله تعالى: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52]. تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي؛ ليعلم أني لم أخنه بالغيب؛ لأن يوسف في هذه اللحظة لم يكن حاضراً، وإنما تم استدعاء النسوة ثم قال لهن الملك: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51]؟ هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]. فإذا كان هذا الحوار في غياب يوسف عليه السلام لم يكن الملك قد أحضره بعد، فتقول امرأة العزيز: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51] ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) أي: ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي العزيز أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر الذي هو الفاحشة، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة. ((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) أي: لا يرضاه ولا يسدده.

تفسير قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء)

تفسير قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53]. أي: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته، أو ما أبرئ نفسي من الخيانة فإني قد خنت يوسف لما رميته بالذنب، وذلك لما قالت لزوجها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] وأودعته السجن ظلماً وعدواناً، فهي تريد أن تعتذر مما كان منها، أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وهناك قول آخر: أن القائل: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) هو يوسف؛ لكن القول الأرجح والأليق بالسياق هو نسبة ذلك إلى امرأة العزيز. ثم يقول: وقد حكاه -أي هذا القول- الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فأفرده بتصنيف على حدة. ويشير القاسمي هنا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أفرد هذه الآية بالتصنيف؛ للانتصار للقول بأن قائل ذلك هو امرأة العزيز. ثم يقول: وقد قيل إن ذلك من كلام يوسف يقول: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه، وهو القول بأن هذا من كلام يوسف عليه السلام، والمعنى: أنه حينما جاءه رسول الملك ليخرجه من السجن، أبى يوسف أن يخرج حتى تظهر براءته، فكان ما حصل منه من التثبت والتريث والتأني سببه لتعلم براءته، حيث يقول: ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه؛ لأن المعصية خيانة، ثم أكد أمانته بقوله: ((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وسدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] فتآمر العزيز وامرأته على أن يسجنا يوسف عليه السلام رغم ظهور الآيات الدالة على براءته. ثم أراد يوسف عليه السلام أن يتواضع لله ويهضم نفسه؛ لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس قائماً من نفسه، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: ((وما أبرئ نفسي)) أي: لا أنزهها من الزلل ولا أشهد لها بالبراءة بالكلية ولا أزكيها؛ فإن النفس البشرية تأمر بالسوء وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ. هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف، وأشهر من قال بذلك كما ذكرنا من المفسرين ابن أبي حاتم، وابن جرير الطبري. قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك، والله تعالى أعلم. قوله عز وجل: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) ما إعراب بالغيب؟ هي جار ومجرور حال من الفاعل أو من المفعول، أي: حال كوني غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني. أو (بالغيب) ظرف أي: بمكان الغيب وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب. ((وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة، لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بطريق الأولى، وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم كقوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:30] أي: في قولهم، وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده. قال في الإكليل: إذا كان يوسف عليه السلام هو القائل: ((وما أبرئ نفسي)) فلا شك أن هذه الآية دليل أصلي على التواضع، وكسر النفس وهضمها، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت مكان يوسف لأجبت الداعي) فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن رسول الله عليه السلام أولى بكل فضيلة من كل من عداه من الأنبياء والمرسلين. قال الزمخشري: لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها ثم قال-: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله. وفعلاً مما يؤذي جداً أننا إذا راجعنا كتب التفسير في مثل هذا الموضع، نجد الملفقة والمتكلفين والمتنطعين والقصاصين قد زادوا وأعادوا في تلفيق القصص التي لا مستند لها في هذه المواقف كما ذكروا هنا: أن يوسف عليه السلام لما قال: ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين)) فقال له جبريل: أين ذهب همك بها؟ فرد وقال: ((وما أبرئ نفسي)). وكل هذا من التلفيق ومن العدوان على مقام أنبياء الله ورسله المعصومين، حتى الآن كل من له تعلق بهذه القصة يقطع بنزاهة يوسف عليه السلام، حتى إبليس نفسه نزه يوسف عليه السلام حينما قال {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] فاستثنى المخلصين، والله عز وجل وصف يوسف بأنه من المخلصين بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] أي: من الذين لن يجد الشيطان إليهم سبيلاً، وامرأة العزيز نزهته والنسوة نزهنه، والشاهد الذي شهد نزهه، ومع ذلك لم ينزهه هؤلاء القصاصون الملفقون؛ فينبغي أن يحذر من مثل هذه الروايات الملفقة المصنوعة. قال الناصر ولقد صدق في التوقيع على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك دأب المبطلة من كل طائفة، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.

قوة عفة يوسف عليه السلام وحفظ الله له

قوة عفة يوسف عليه السلام وحفظ الله له يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت لـ ابن القيم في الجواب الكافي في صبر يوسف وعفته مع الدواعي من وجوه. وهذا بلا شك من أعظم نماذج العفة وحبس النفس عما حرم الله سبحانه وتعالى، فقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك من وجوه: أحدها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً بل يحمد كما في كتاب (الزهد) للإمام أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن). الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشباب وحدته أقوى. الثالث: أنه كان عزباً ليس له زوجة ولا سرية تكسر ثورة الشهوة. الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه. الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها. السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحباً، كما قال الشاعر: وزادني كلفاً في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا فطباع الناس مختلفة في ذلك. السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد؛ فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه. الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة. التاسع: أنه لا يخشى أن تنم هي عليه ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء. العاشر: أنه كان مملوكاً لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه، وكان الأُنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد، تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا. الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]. الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار. الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: ((أعرض عن هذا)) وللمرأة: ((استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)) وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع. وهذا لم يظهر منه غيرة. ومع هذه الدواعي آثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه. وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

تفسير قوله تعالى:.

تفسير قوله تعالى:. (وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي) أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته فقال عز وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54]. هذه الحادثة مع الملك لا مع العزيز، وكان العزيز وزير الملك، والملك كان أعلى من العزيز. ((وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي)) أي: أخصها به دون العزيز، جرياً على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز، قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، فعلم كرم نفسه وسعة علمه فقال: ((ائتوني به أستخلصه لنفسي)) أي: أجعله من خاصتي دون العزيز. ((فلما كلمه)) أي: فلما أتوا به وخاطبه الملك وعرفه وشاهد فضله وحكمته وبراءته. وجوز أن يكون الفاعل في قوله: ((فلما كلمه)) يوسف عليه السلام. ((قال إنك اليوم لدينا مكين)) أي: ذو مكانة عالية ومنزلة، ((أمين)) أي: مؤتمن على كل شيء. روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال الملك لهم: هل نجد مثله رجلاً مهبطاً للإمداد الرباني؟ فقال ليوسف: بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر، ونزع خاتمه من يده ووضعه في أصبعه، وألبسه ثياب بز، وجعل طوقاً في عنقه، وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له: لا يمضي أمر ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه: مخلص العالم، وزوجه بنت أحد العظماء لديه، وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة، والله تعالى أعلم. قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام علم يقيناً أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى خلفان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه، ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار، فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيداً، ولا للتجارب تهديداً، ولم يخف للسجن ظلماً وشراً، ولا للتنكيل به ألماً وضراً، بل ألقى توكله على الرب، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب، نال بطهارته وتقواه تاج الفخر، ولسان الصدق طول أيام الدهر. يعني: يكفي أن قصة يوسف عليه السلام تتلى إلى أن تقوم الساعة، فهي عبرة لكل معتبر، ومثل أعلى للبشرية في هذا الموقف بالذات، فلا شك من هذا كله أنه {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] وأن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام، بل ادخرت لنا مثالاً نقتفي أثره عند طروء التجارب، وملاذاً نعوذ به في المحن والمصائب، ومقتدىً نتدرب به على التثبت في مواقف العثار، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار، فننال في الدنيا سمة المجد، ونفوز في الآخرة بدار الخلد.

تفسير قوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)

تفسير قوله تعالى: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) قال عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. أي: قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن الأرض، أي: خزائن أرضك، أي: جميع الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: ((إني حفيظ عليم)) أي: أمين أحفظ ما تستحفظني، عالم بوجوه التصرف فيه. ومن أروع ما يستدل به هنا على معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فنلاحظ يوسف عليه السلام ما أثنى على نفسه بحسن الصورة مع أن الله أعطاه شطر الحسن كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، والنسوة قلن: ((إن هذا إلا ملك كريم)) ومع ذلك ما قال: إني أوتيت شطر الحسن، ولم يتفاخر بانتسابه إلى الآباء والأجداد مع أنه هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظر إلى ما وصف به نفسه فقال: ((إني حفيظ عليم)). قال الزمخشري: وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه. وكذلك موسى عليه السلام وصفته ابنة الرجل الصالح بقولها: ((إن خير من استأجرت القوي الأمين)) ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: (أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة) أي: أشكو إلى الله من ثقة وأمين وعنده خوف من الله وورع وتقوى، لكنه قاصر ليس عنده الكفاءة في العمل، بينما نجد شخصاً فاجراً عنده القوة على هذا العمل، لكنه ليس أميناً، وأفضل الأحوال أن تجتمع الصفتان معاً كما قال تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] جمع بين الأمانة وبين القوة. ثم يقول الزمخشري: وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء حكم الله تعالى، وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. لا شك أن الأنبياء منزهون عن السعي وراء الدنيا، فلا يمكن أن يكون يوسف عليه السلام طلب الملك من باب حب الدنيا حاشاه عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد يوسف عليه السلام أن ينفع هؤلاء الناس، وأن يصل ويتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، وقد رأى أنه لا يقوم غيره مقامه. ثم يقول: فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر، ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم. وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه. كان الوضع شبيهاً بوضع ملكة انكلترا تملك ولا تحكم -كما قال له هنا: لا أتميز عليك إلا بالعرش الملك- لكن الحكم الفعلي لرئيس الوزراء، فيبدو أن هذه الصورة التي كانت بين يوسف عليه السلام وبين هذا الملك. وهذه الآية كما هي أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم، فهي أصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحة، وفي أن المتولي أمراً شرطه أن يكون عالماً به خبيراً ذا فطنة. قال أبو السعود: وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرض بعدما قال له الملك: ((إنك اليوم لدينا مكين أمين)) ((قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)) ثم جاءت الآية مباشرة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:21] إلى آخره ولم تحك الآيات الكريمة ما رد عليه الملك ولم يقل: وثقت أو قبلت ذلك إلا إيذاناً بأن ذلك أمر لا مرد له، وهو غني عن التصريح، لا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها من قوله: ((إنك اليوم لدينا مكين أمين))، وللتنبيه على أن كل ذلك من فعل الله عز وجل، وإنما الملك آلة وسبب في ذلك. قال ابن كثير: خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات يقول القاسمي: ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره، والأهرام بفتح الهمزة جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة عن القاهرة أميال معدودة، من غرائب الدنيا. ثم يقول: دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم، ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية، آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور. يعني: كما تعلمون كان المصريون القدماء يعبدون الملوك، والملوك كانوا يسخرون الشعب تسخيراً قبيحاً جداً كما هو محفوظ. وهذا الكلام الذي يذكره القاسمي أو ينقله عن كتاب (الأثر الجليل) هو لم يذكر بالضبط تاريخ طباعة الكتاب، لكن إذا كان من أيام ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين فقد طبع من مدة بعيدة، ولا نجزم هل كان هذا الكلام قبل اكتشاف حجر رشيد، أم بعد اكتشاف حجر رشيد؟ لأن حجر رشيد هو الذي فتح باب الشر علينا، حينما أعان على ترجمة اللغة الهيروغليفية، وبالتالي لم ينفتح علينا مجرد اكتشاف آثار قدماء المصريين ومعرفة لغتهم، وإنما انفتح باب التكلم عليهم بإعجاب وبفخر وباعتزاز، مع كونهم من الوثنيين، فهذه خطة استعمارية خبيثة، كما تعرفون لو راجعتم التاريخ بداية الاكتشاف أعتقد كان هناك شخص يهودي اسمه روتشل تقريباً أراد أن يمول عملية اكتشاف الآثار المصرية مقابل الترويج للتاريخ الفرعوني القديم، بحيث يزاحم العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في أيامها، القصة معروفة تجدونها في كتاب (الإنتاجات الوطنية في الأدب المعاصر) للدكتور محمد حسين رحمه الله. والآن كل بلد يكتشف فيها آثار قديمة يتوقع شراً بسبب الاكتشافات لتلك الأيام الماضية. في البحرين أيضاً حصلت اكتشافات كلها تدور حول الشركيات والوثنيات وكل هذه الأشياء من أجل أن ينفخوا في هذه الروح؛ لإيجاد البديل عن العقيدة الإسلامية، فيفخر الناس بالانتماء إليه ويعتزون بهذا الذي يسمى بتراث الآباء والأجداد، فالله المستعان. أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك خوفو، والثاني للملك خفرع والثالث للملك منقرع وجميعهم من العائلة المنفيسية، ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب أو مدرسة للمعارف الكهنوتية أو غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض وكانوا يتقون)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض وكانوا يتقون) قوله تعالى {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56]. الأرض هي أرض مصر. ((يَتَبَوَّأُ مِنْهَا)) أي: ينزل من بلادها ((حَيْثُ يَشَاءُ)) وذلك أنه عليه السلام لما ولاه الملك النظر على خزائن مصر تجول في قطرها، وطاف في قراها والأمر أمره والإشارة إشارته، عناية منه تعالى ورحمة، كما قال: ((نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) أي: الذين أحسنوا عملاً. كل هذا برحمة الله جزاء على الإحسان الذي رعاه يوسف عليه السلام؛ لأن يوسف عليه السلام عبد الله كأنه يراه، وكما ذكرنا من قبل أن الإحسان هو الغاية من خلق البشر، كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] قال: أحسن ولم يقل أكثر، فإذا أردنا معنى الإحسان نرجع إلى حديث جبريل: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو الذي فعله يوسف عليه السلام: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]. فهذه قاعدة: لا يمكن أن يحسن الإنسان العمل ويملك نفسه ابتغاء وجه الله عز وجل، ثم بعد ذلك يضيعه الله عز وجل أو يهدر عمله ويضيع ثوابه.

تفسير قوله تعالى: (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا) {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57]. أي: ثواب الآخرة خير للمؤمنين المتقين من ثواب الدنيا، وفي هذا إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والملك. إذاً: انظر كيف حظي يوسف عليه السلام بشرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الدنيا وعز الآخرة؛ وذلك مقابل أن ضبط نفسه وخاف ربه في هذه اللحظات العصيبة التي مرت به.

تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه)

تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه) {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58]. هذه إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف عليه السلام، وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل الرمل كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع المخصبة، دخلت السنون المجدبة، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس من سائر البلاد في المسير إلى مصر ليمتاروا منها لأنفسهم وعيالهم، لما علموا وجود القوت فيها، وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف عليه السلام عن أمر أبيهم يعقوب عليه السلام لتناول القحط بلادهم فلسطين، فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف؛ خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف، فلما هبطوا مصر دخلوا على يوسف عليه السلام ولم يعرفوه؛ لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، ثم إنه يبعد جداً أن يتخيلوا أن أخاهم الذي ألقوه في الجب يمكن أن يكون هو الملك الفعلي والحاكم في أرض مصر، فلذلك قال تعالى: ((وهم له منكرون)) وقد تخلصوا منه بأن باعوه رقيقاً يلتقطه بعض السيارة، فكيف يقفز إلى أذهانهم أن يكون قد وصل إلى هذا العز الذي وصل إليه والجاه؟! وفي نفس الوقت كان شكله قد تغير عما كان عليه زمن الصبا والحداثة. أما هو فعرفهم، روي: (أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض تحية له، فشرع يخاطبهم متنكراً لهم وقال: من أين قدمتم؟ قالوا: من أرض كنعان -يعني: فلسطين- لنبتاع طعاماً، فقال لهم: لعلكم جواسيس، قالوا: معاذ الله! ما جئنا إلا للميرة؛ لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة بنو أب واحد، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر هلك منا واحد، قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة، قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن ابنه الصغير الذي هلك، قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم عندي رهينة، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم، وائتوا بأخيكم الصغير إلي ليتحقق صدقكم، ثم أخذ شمعون واحتبسه عنده، وأذن للبقية، وأمر أن يعطوا زاداً للطريق)، وهذا ما أشير إليه بقوله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59]. ((وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ)) بفتح الجيم وقرئ وبكسرها، أي: أوقر ركائبهم بالطعام والميرة، فيها كناية عن وفرة ما أعطاهم إياه من الطعام والميرة أي التمويل. ((أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ)) أي: أتمه، ((وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: خير المضيفين، وقوله ذلك تحريض لهم على الإتيان به لا امتنان.

تفسير قوله تعالى: (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)

تفسير قوله تعالى: (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون) {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف:60 - 61]. ((فلا كيل لكم عندي)) أي: لو جئتم مرة ثانية لا كيل لكم عندي. ((ولا تقربون)) أي: ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية، وحذفت الياء تخفيفاً. والنون في قوله: (ولا تقربون) هي نون الوقاية. ((قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ)) أي: سنحتال في انتزاعه من يد أبيه ونجتهد في ذلك، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله. ((وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)) أي: ذلك من المراودة أو الإتيان به، فيكون ترقياً إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة.

تفسير قوله تعالى: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم)

تفسير قوله تعالى: (وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62]. ((وقال لفتيانه)) أي: لخدامه الكيالين ((اجعلوا بضاعتهم في رحالهم)) يعني ببضاعتهم ما شروا به الطعام إما الذهب أو الفضة وروي أنها كانت فضة، أي: اجعلوها في أمتعتهم من حيث لا يشعرون. ((لعلهم يعرفونها)) أي: لكي يعرفوها. ((إذا انقلبوا إلى أهلهم)) أي: وفتحوا أوعيتهم. ((لعلهم يرجعون)) أي: حسبما أمرتهم به، فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين من أقوى الدواعي إلى الرجوع، كل هذا تحريض لهم على أن يرجعوا، وهذا من الإحسان والإكرام، حيث أعطاهم هذه الميرة وأعطاهم أيضاً الثمن الذي بذلوه وهو الفضة. وفي تفسير آخر لقوله: ((لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون)) أي: أن يتحرجوا إذا وجدوا المال فيحرصون على أن يعيدوه إلى صاحبه، ولكن قد يدفع هذا التأويل قولهم فيما بعد: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65] فهموا من ذلك أنها ردت إليهم تفضلاً، {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف:65].

تفسير قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل)

تفسير قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل) {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63]. ((فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)) أي: أنذرنا بمنعه بعد هذا إن لم نأت بأخينا فيما يستقبل. ((فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ)) أي: نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وقرئ: ((فأرسل معنا أخانا يكتل)) أي: يكتل أخونا لنفسه مع اكتيالنا. ((وإنا له لحافظون)) أي: من أن يناله مكروه. ((وإنا له لحافظون)) هذه نفس العبارة التي قالوها في حق يوسف عليه السلام، فلذلك أثاروا شجون يعقوب عليه السلام وذكروه بما مضى من قولهم في حق يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:12] فقال: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. ((قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل)) أي: هل أقدر أن آخذ عليكم العهد والميثاق أكثر مما أخذت عليكم في يوسف، فقد قلتم: ((وإنا له لحافظون)) ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك؟ فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض الأمر إلى الله ((فالله خير حافظاً)) أي: خير منكم ومن كل أحد هناك قراءة أخرى: ((فالله خير حِفظاً)) وهذا فيه إيماء إلى أنه مستعد أن يرسله؛ لأنه قال: ((فالله خير حافظاً)) أو ((فالله خير حفظاً)). ((وهو أرحم الراحمين)) أي: أرحم من والديه وإخوته.

تفسير قوله تعالى: (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم)

تفسير قوله تعالى: (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم) {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65]. أي: وجدوا ثمن طعامهم في متاعهم، روي أن أحدهم فتح متاعه ليأخذ علفاً لدابته فرأى فضته في فم متاعه فقال لإخوته: قد ردت دراهمي وهاهي في متاعي، ثم لما وصلوا أرض كنعان وأخذوا يفرغون أوعيتهم وجد كل واحد منهم صرة دراهمه في وعائه، فاستطارت قلوبهم ودهشوا، وحمدوا عناية الله بهم. ((قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي)) أي: ماذا نبتغي وراء ذلك؟ فلا مزيد على ما فعل، فقد أكرمنا وأحسن مثوانا بإنزالنا عنده ورد الثمن علينا، والمقصود من هذه العبارة استنزال أبيهم عن رأيه كي يأذن لهم في استصحاب أخيهم. أو من البغي بمعنى: لا نبغي في القول ولا نكذب في هذه القصة التي حكيناها لك من إحسانه الداعي إلى امتثال أمره في إحضار أخينا، أو: ما نبغي ولا ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا. وقرئ على الخطاب: ((يا أبانا ما تبغي)) أي: أي شيء تطلب غير هذا الدليل على صدقنا. ((هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا)) جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته، كأنهم قالوا: كيف لا وهذه بضاعتنا ردت إلينا تفضلاً من حيث لا ندري؟! ((وَنَمِيرُ أَهْلَنَا)) هذا معطوف على مقدر مفهوم أي: هذه بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها ونمير أهلنا إذا رجعنا إلى الملك، أي: نأتيهم بطعام، ومنه: ما عنده خير ولا مير. ((وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ)) أي: باستصحابه ((ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)) أي: سهل على هذا الملك المحسن لسخائه، فلا يضايقنا فيه، أو المعنى: ((ذلك كيل يسير)) أي: قصير المدة، فليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير، أو المعنى: ذلك الذي يكال لنا دون أخينا شيء يسير قليل، فابعث أخانا معنا حتى نتسع ونتكثر بمكيله، وقال ابن كثير: هذا من تمام الكلام وتحسينه أي: أن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا.

تفسير قوله تعالى: (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله)

تفسير قوله تعالى: (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله) {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66]. قال لهم أبوهم: ((لن أرسله معكم)) أي: لن أكتفي بقولكم هذا الذي تقولونه، ولا بد أن أستوثق بأن تؤتون عهداً ويميناً من الله ((لَتَأْتُنَّنِي بِهِ)) أي: لتردنه عليّ ((إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ)) أي: أن تغلبوا كلكم فلا تقدروا على تخليصه، وأصله من أحاط به العدو وسد عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه. ((فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)) أي: شهيد رقيب، والقصد حثهم على ميثاقهم لتخويفهم من نقضه بمجازاته تبارك وتعالى. قال ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها. هنا لطيفة: قال الناصر: ولقد صدقت هذه القصة المثل السائر: البلاء موكل بالمنطق، فإن يعقوب عليه السلام قال أولاً في حق يوسف: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:13] فابتلي من ناحية هذا القول. وقال هاهنا ثانياً: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66] أي: تغلبوا عليه، فابتلي أيضاً بذلك وأحيط بهم وغلبوا عليه.

تفسير قوله تعالى: (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد)

تفسير قوله تعالى: (وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد) {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67]. ((وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة)) أي: لئلا يستلفت دخولهم من باب واحد أنظار من يقف عليه من الجند فيريب بهم؛ لأن دخول قوم على شكل واحد وزي متحد على بلد هم غرباء عنه مما يلفت نظر كل راصد، هذا من التلطف المشار إليه في قوله تعالى: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19] التلطف والحذر ينبغي أن يكون سمة للمؤمن، وكانت المدن وقتئذ مبوبة لا ينفذ إليها إلا من أبوابها، وكانت جميع المدن تقريباً تحصن بالأسوار، مثلاً: الإسكندرية كانت مسورة بالسور الذي لا تزال آثاره موجودة في الشلالات، هذا السور الذي بناه عمرو بن العاص رضي الله عنه. فكل مدينة كانت مسورة بسور يحميها ولا ينفذ إليها إلا من باب المدينة، وعلى كل باب حرس، وليس دخول الفرد كدخول الجمع في التنبه وإتباع البصر. وقيل: نهاهم لئلا تصيبهم العين إذا دخلوا كوكبة واحدة. قوله: ((وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) أي: لا أدفع عنكم شيئاً مما قضي عليكم؛ فإن الحذر لا يمنع القدر. ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة، كيف وقد قال عز وجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وقال: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة، بل هو تدبير في الجملة، وإنما التأثير وترتيب المنفعة عليه من العزيز القدير، وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر، بل هو استعانة بالله تعالى وهروب منه إليه. ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)) أي: لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء. ((عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم)

تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68]. ((وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ)) أي: من الأبواب المتفرقة: ((مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ)) أي: ما كان ذلك الدخول يغني عنهم ((مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا)) أي: أبداها. ((وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ)) أي: علم جليل لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر وأن التدبير له حظ من التأثير، يعني: الإنسان له أن يأخذ بالأسباب، لكن لا يتعلق بالأسباب وإنما يتعلق بمسبب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، ولقد مدحه الله سبحانه وتعالى بهذا المسلك رغم أنه قال لهم: ((يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة)) -أي: خذوا بالأسباب-؛ إلا أنه استدرك فقال: ((وما أغني عنكم من الله من شيء)). ((وإنه لذو علم لما علمناه)) هنا توكيد بإن وباللام، ونكر أيضاً العلم، وعلل بالتعليم بقوله: ((لما علمناه)) والتعليم مسند إلى ذات الله عز وجل، ففي ذلك من الدلالة على علو شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى، أفاده أبو السعود. ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) أي: فيظنون الأسباب مؤثرات.

المسلمون أولى بالأنبياء

المسلمون أولى بالأنبياء نحن نتكلم عن يعقوب عليه السلام وعن يوسف وعن جميع أنبياء الله بمنتهى الفخر والاعتزاز؛ لأنهم على ملتنا وعلى ديننا الإسلام، ففي الحقيقة نحن أولى بيعقوب وبيوسف من اليهود، فاليهود قد يحلو لهم الاستدلال أحياناً بآيات من القرآن على إثبات أن فلسطين كانت لهم، ويذكرون قصة سليمان وداود وموسى ويعقوب ويوسف عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، بل حتى الأهرامات هذه فهي بلا شك آية؛ لما ظهر فيها من القوة العلمية والعملية بالنسبة للناحية المدنية؛ لأن في هندسة الأهرام من الأسرار العلمية العميقة ما يجدون لها تعليلاً، ويكفي التحنيط فهم حتى الآن لم يعرفوا كيف تم تحنيط قدماء المصريين، فقدماء المصريين بلا شك كانوا على درجة عالية جداً فيما يسمى بالحضارة والتقدم العلمي في زمنهم، حتى وصل الأمر إلى أن بعض الناس قالوا: إنه لا يمكن أن يكونوا قد قدروا على ذلك إلا بالاستعانة بالجن، فاليهود الآن يشيعون أن الذي نفذ هذه الأهرامات وصممها هو مهندس يهودي؛ كي يثبتوا لهم حقاً في كل مكان، كما تعرفون أسلوب اليهود لعنهم الله. وكذلك بالنسبة للنصارى فهم يدعون محبة عيسى ويؤلهونه، وعيسى سيلعنهم يوم القيامة، وحينما ينزل عيسى في آخر الزمان سوف يقتلهم ولن يقبل منهم إلا الإسلام، ولا تقبل حينئذ الجزية لا منهم ولا من غيرهم، فهم بين خيارين: إما أن يسلموا، وإما أن يقتلوا، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] وعيسى ما مات، إنما سيموت بعدما ينزل في آخر الزمان، فنحن أولى بعيسى منهم.

الحرب بين المسلمين واليهود

الحرب بين المسلمين واليهود نحن الآن في حرب مع اليهود لعنهم الله، فلو بعث موسى أو عيسى أو سليمان أو يوسف أو أي نبي من أنبياء الله عز وجل فإنه سيكون مع المسلمين إذا رفعوا راية لا إله إلا الله، فالرسول لا يمكن أن يقاتل تحت راية جاهلية أو وطنية أو قومية أو غير ذلك، لكن هذه الحرب قطعاً ستكون حرباً إسلامية، كما يدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5] حتى إن الحجر نفسه والشجر يقول: يا مسلم! يا عبد الله! ولم يصفه بأي صفة أخرى، فلم يقل له: يا مصري، يا سوري، يا شامي، يا سعودي! بل يقول: يا مسلم! يا عبد الله! فهؤلاء فقط هم الذين يستطيعون أن يذلوا اليهود ويردوهم إلى حجمهم الحقيقي، أما النماذج التي يراها اليهود الآن فلا شك أن من حق اليهود أن يفتخروا ويتكبروا ويتجبروا؛ لأنهم يجدون كائنات مثل الصراصير تتعامل معهم، لا عزة ولا كرامة ولا أنفة ولا إخلاص لبلادهم ولا شيء من هذا، فهل يلام اليهود على ما يفعلون بالمسلمين؟ ما الذي يمنعهم من التمرد والتنمر؟! لا يردعهم إلا الإسلام، ولذلك يخافون جداً من أن تصطبغ الحرب مع اليهود بصبغة دينية. فهذا كاسترو لما نصح السفير اليهودي في كوبا قال له: أحذركم أن تصطبغ الحركات الفدائية بصبغة إسلامية أو صبغة دينية. لماذا؟ لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يضر اليهود، وهم يعرفون هذه الدروس جيداً ويحفظونها، ولذلك كل همهم إطفاء نور الإسلام خوفاً وهلعاً من عودة الروح الإسلامية في القتال مع اليهود لعنهم الله، فالحديث بلا شك ذو شجون، لكن أهم ما في الأمر أنهم الآن يريدون أن يهدموا المسجد الأقصى لإعادة بناء الهيكل الذي بناه سليمان كما يزعمون. من الإله الذي كان يعبده سليمان؟ هو الله سبحانه وتعالى، ما الدين الذي كان عليه سليمان؟ هو الإسلام {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42] فسليمان كان على الإسلام، وموسى كان داعياً إلى الإسلام، ويوسف كان داعياً إلى الإسلام وهكذا، فإذاً لو بعث أنبياء الله عز وجل وقامت حرب إسلامية بين المسلمين وبين أعداء الله اليهود فسينضم هؤلاء الأنبياء إلى المسلمين، وهذه حقيقة لا ينبغي أن تغيب، ولذلك إذا انتزع العنصر العقائدي من قضية فلسطين سوف يسهل جداً على اليهود أن يقنعوا من يسمونهم بالعرب بعدالة قضيتهم. إذاً العنصر العقائدي هو روح القضية، إنه وطن إسلامي دخل فيه حكم الإسلام فلا يجوز أن يمنح هبة لأحفاد القردة والخنازير، إذا انتزعت هذه القضية ما أسهل أن يقنعنا اليهود ويسكتوننا، كما كانوا يفعلون قديماً فيما يسمى بمجلس الأمن، كان السفير اليهودي في مجلس الأمن يأتي بالقرآن الكريم ويخرج لهم الآيات التي تثبت أن لهم حقاً في فلسطين، صحيح من الناحية التاريخية المحضة إذا انتزعنا العنصر العقائدي سنقول: نعم ها هم إخوة يوسف جاءوا من أرض كنعان: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] لكن كتبها لهم على أنهم مسلمون، وكذلك جاء الدين الإسلامي الذي نسخ كل ما سبقه من الشرائع، فلذلك لو بعث موسى كما قال الرسول عليه الصلاة السلام: (والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني، ثم تلا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا)) [آل عمران:81]) أي: أن كل نبي من الأنبياء حينما يبعثه الله لابد أن يأخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وأنت حي لتؤمنن به ولتنصرنه، فيقر بذلك.

حياة الخضر

حياة الخضر وقوله عليه الصلاة السلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني) من الأدلة على أن الخضر ليس بحي وأنه قد مات عليه السلام، إذ لو كان حياً لما وسعه إلا أن يأتي وينصر الرسول عليه السلام ويبايعه على الإسلام. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض)، فدل على أن الخضر لم يكن موجوداً، إذ لو كان موجوداً لكان متعيناً عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

اليهود يشتمون الأنبياء

اليهود يشتمون الأنبياء اليهود يشتمون الأنبياء، كسليمان وداود وغيرهما عليهما السلام، فهم يصفونهم بالكلام القبيح الماجن، وينسبون إليهم شرب الخمر وفعل الفواحش، وأن سليمان أشرك بالله قبل أن يموت إلى آخر هذا الكلام الكفري. فهم الذين يؤذون الأنبياء، إذاً من أولى بالأنبياء؟ نحن أولى بالأنبياء، سليمان معنا، ويوسف معنا، وداود معنا، وموسى نفسه عليه الصلاة والسلام معنا تماماً، كما نقول للنصارى في حق عيسى، وكما نقول للشيعة في حق أهل البيت وفي حق علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

الحرب بين المسلمين ويهود إسرائيل

الحرب بين المسلمين ويهود إسرائيل إذاً القضية الفلسطينية قضية عقائدية، حين نجد هؤلاء الممسوخين من أمثال عرفات وغيره ممن يذلون أنفسهم يوماً بعد يوم ولا يرجعون بطائل، واليهود يمعنون في إذلالهم فزادوهم رهقاً؛ لأن عنصر العقيدة ألغي من القضية. لن تعود فلسطين إلا بالإسلام، هذا لا شك فيه على الإطلاق، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] وكما قلنا من قبل مراراً: الأمة المسلمة قد آتاها الله أشرف كتاب، وبعث منها أشرف رسول، بأشرف لغة، في أشرف بقاع الأرض وهي مكة، في أشرف شهور السنة وهو رمضان، وفي أشرف ليلة منه وهي ليلة القدر؛ لقد اجتمع لها الشرف من كل وجه، فالعزة في التمسك بالقرآن، فإذا فقدنا مصدر العزة فسنعود إلى الوضع الأصلي الذي كنا عليه، وهو وضع تأثير البيئة: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) كما قال عمر رضي الله عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الإسلام، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا الله). (مهما) جملة شرطية، المعنى: أن الذي يؤتيه الله النعمة ويكفر بها لا يكون كمن لم يؤتها حتى وإن كفر، ولذلك قال الله للحواريون لما طالبوا بالمائدة: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115] فلذلك هذه الأمة إذا قطعت صلتها بالإسلام ستعود إلى التخلف والذل والهوان؛ لأن هذا هو وضعها الأصلي، وما رفع عنها الذل والهوان إلا بالإسلام، فإذا تخلت عن الإسلام تعود في ذيل الأمم. فـ هتلر كان يعتبر اليهود أخس أجناس البشرية، بسبب الغدر والخسة والنذالة وقتلهم الأنبياء، ومع ذلك فأقدام اليهود الآن على رءوس من ينتسبون زوراً وكذباً للإسلام، فسيكون التفاضل بيننا وبينهم في العقيدة، فإذا نحن تخلينا عن العقيدة فلا شك أنهم سيتفوقون علينا في الدنيا. الحوادث التي حصلت في الأيام الأخيرة، مثل فضيحة نتنياهو تنظر الناس لها على أن الموضوع كان تلقائياً، لا. فاليهود يحاولون أن يلقنوا العالم كله درساً، بحيث يظهرون أنفسهم بأنهم الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فبالتالي تستحق عطف الغرب بدل هؤلاء العرب الهمج، فاليهود يلفتون أنظار العالم كله وذلك بإبراز العدل عندهم، في حين يظهرون الغش والتزوير الموجود عند العرب بواسطة خبراء في هذا الجانب، فهي عملية تلميع لصورة اليهود لعنهم الله، ثم يأتي بعض ممن ينتسبون إلينا من الصحفيين العرب ويشيدون بالديمقراطية في إسرائيل، وكان من ضمن هذه العبارات: ليس عيباً أن نأخذ الدرس من إسرائيل ولكن العيب ألا نفهمه. فالشاهد أن كل هذا محاولة تلميع صورتهم، وبالتالي تقبيح صورة من ينتسبون إلى الإسلام، وفي الحقيقة الإسلام مظلوم من الفريقين، لأننا لم نمثل الإسلام التمثيل الصحيح بل تخلينا عنه، وبسبب تخلينا عنه وصلنا إلى هذا الذل وهذا الهوان، وإلا لو كان عند الملك حسين ذرة من كرامة لما قبل المدعو بيجن، وهو يقول: نحن دائماً نتعاون مع بعض، فإذا تعاونت العبقرية اليهودية مع المال العربي أنتجت جنة في الأرض. معنى ذلك: أن العرب ليس لهم قيمة إلا بالمال وبالبترول، وليس عندهم عقلية ولا عبقرية ولا إبداع. واليهود من قبل شبهوا العرب بأنهم عبارة عن حيوان من ذوات الأربع يقف على أرض من ذهب، هذه صورة العرب عندهم، أي: أن كل قيمتهم في الأرض التي يقفون عليها، ولذلك الأمريكان أيام حرب الخليج قالوا -والعياذ بالله ونستغفر الله من حكاية هذا الكلام! -: نحن توجهنا لنصحح خطأ الرب -أستغفر الله- إنه أعطى هذه الأمة ما لا تستحقه من الثروات، ومن البترول بالذات. فالشاهد من هذا أننا في كفة غير متعادلة، فاليهود دولة عقيدية اسمها إسرائيل، نسبة إلى نبي الله إسرائيل عليه السلام وهو يعقوب، ليس في إسرائيل دستور، وإنما دستور إسرائيل هو التوراة المحرفة، المناهج التعليمية كلها مصطبغة بصبغة دينية، أنا لا أدري ما سر أن الجماعات الدينية اليهودية في فلسطين المغتصبة لا يسمون المتطرفين؟! لماذا نحن نختص بلفظ التطرف؟ فكل يهودي متطرف سواء كان شيوعياً أو يسارياً أو يمينياً؛ لأن التطرف هو الانحراف عن الإسلام بفهم أهل السنة والجماعة، سواء داخل دائرة الإسلام أم خارجها. فنعود إلى موضوعنا، قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في الملل: كان أمر يعقوب عليه السلام بدخولهم من أبواب متفرقة إشفاقاً عليهم، إما من إصابة العين، وإما من تعرض عدو أو مستريب بإجماعهم أو ببعض ما يخوفه عليهم، وهو عليه السلام معترف أن فعله ذلك وأمره إياهم بما أمرهم به من ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً يريده عز وجل بهم، ولكن لما كان طبيعة البشر جارية في يعقوب عليه السلام وفي سائر الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى حاكياً عن الرسل أنهم قالوا: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إبراهيم:11] حمله ذلك على بعض النظر المخفف لحاجة النفس ونزعها وتوقها إلى سلامة من تحب، وإن كان ذلك لا يغني شيئاً، كما كان عليه السلام يحب الفأل الحسن. قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية أن العين حق كما ثبت ذلك في الحديث، وأن الحذر لا يرد القدر، ومع ذلك لا بد من ملاحظة الأسباب. وقال بعض اليمانيين: لهذه الجملة ثمرات: وهي استحباب البعد عن مضار العباد والحذر منها، فأما فعل الله تعالى فلا يغني الحذر عنه، ثم ناقش القاسمي رحمه الله تعالى بالتفصيل قضية الحسد وتأثير العين وأنه حق في بحث واف شاف كاف ورد على المنكرين لذلك. فنحن نتجاوزه مع أهميته وروعته اختصاراً، فمن يحتاجه يراجعه في تفسير هذه الآية.

تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه لسارقون)

تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه لسارقون) قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69]. يخبر سبحانه بأن إخوة يوسف لما قدموا عليه ضم إليه أخاه بنيامين إما على الطعام أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه وقال له: ((لا تبتئس)) قيل في بعض الروايات: إنهم لما دخلوا كان عددهم عشرة، وجلسوا اثنين اثنين على الطعام أو عند المنام، وبقي هو وحده وجلس يبكي استيحاشاً، فانضم إليه يوسف، والله تعالى أعلم. فالله أعلم على أي الأحوال ضم إليه أخاه بنيامين إما على الطعام أو في المنزل، وأعلمه بأنه أخوه وقال له: ((لا تبتئس)) أي: لا تحزن ((بما كانوا يعملون)) بنا فيما مضى، فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير. وقد روي أنهم لما قدموا عليه ووقفوا بين يديه رأى أخاه بنيامين معهم، فأمر بإنزالهم في بيته وحلولهم في كرامته وضيافته، وحضورهم معه في غدائه، ثم دخل عليهم فقاموا وسجدوا له، وسألهم عن سلامة أبيهم، ورفع طرفه إلى أخيه فأدناه وآواه إليه وآنسه بحديثه كما ذكر في الآية، ثم أراد يوسف أن يحتال على بقاء أخيه عنده، فتواطأ مع فتيانه إذا جهزوا إخوته أن يضعوا سقايته في رحل أخيه، كما بينه تعالى بقوله: ((فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ)) أي: من الطعام، ((جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ)) وهي جام فضة يشرب به يوسف وضعه في ميرة أخيه. وقد روي: أن يوسف لما جهزهم وارتحلوا أمهلهم حتى انطلقوا وبعدوا قليلاً عن المدينة، ثم أمر أن يسعى في أثرهم ويؤذنوا بما فقد، كما أشار إليه تعالى بقوله: ((ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)) أي: بعدما انفصلوا عن المدينة، ((أذن مؤذن)) أي: نادى مؤذن، ويقال: آذن أي: أعلم. وأذّن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه فهو يكثر الإعلام بدخول وقت الصلاة، والمؤذن عموماً هو المنادي. ((ثم أذن مؤذن أيتها العير)) العير: هي الإبل التي عليها الأحمال؛ لأنها تذهب وتجيء، وهو اسم جمع للإبل لا واحد له، والمقصود يا أصحاب العير، وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة: عير.

تفسير قوله تعالى: (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون وأنابه زعيم)

تفسير قوله تعالى: (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون وأنابه زعيم) {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف:71 - 72] الصواع هو السقاية، وهو إناء من فضة. لو كان الإناء من فضة فيكون مباحاً في شرعه عليه السلام، فيكون شرع من قبلنا مخالفاً لشرعنا، فليس لأحد أن يحتج به على جواز الشرب في آنية الفضة، بل على المسلم أن يخاف الله ويتقيه وأن يتخلص من أواني الفضة كالشوك والملاعق وغيرها من الأواني التي تستخدم في أثاث البيت، لأنها حرام، ولا فرق بين الرجال والنساء في استعمال الفضة والذهب كأوانٍ، فهو محرم على الرجال والنساء جميعاً ما عدا الحلية منهما للنساء فجائز. أما سجودهم لأخيهم فهو سجود انحناء وتحية، وهذا كان في شرعهم جائزاً. قال في الإكليل: في الآية دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى المباح، وما فيه الغبطة والصلاح واستخراج الحقوق. قال ابن العربي: وفي إطلاقه السرقة عليهم وليسوا بسارقين جواز دفع الضرر بضرر أقل منه. ((ولمن جاء به حمل بعير)) هذا أصل في الجعالة. ((وأنا به زعيم)) هذا أصل في الضمان والكفالة.

تفسير قوله تعالى: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) لما اتهمهم المؤذن ومن معه من الفتيان: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73] أي: ما جئنا للسرقة، أو لمطلق الفساد، وإنما جئنا للميرة. ((وما كنا سارقين)) أي: ليس من شأننا أن نوصف بالسرقة. وإنما استشهدوا بعلمهم على براءتهم لما تيقنوه من حالهم في كرتي مجيئهم، بمعنى: أنكم ما جربتم علينا سرقة، وأنتم تعرفوننا جيداً.

تفسير قوله تعالى: (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين)

تفسير قوله تعالى: (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74]. ((قالوا فما جزاؤه)) أي: ما جزاء السارق؟ كيف تعاقبونه في شريعتكم؟ ولأنهم متأكدون وواثقون من أنهم برآء وأن ليس فيهم سارق ((قالوا جزاؤه)) أي: في شريعتنا ((من وجد في رحله فهو جزاؤه)) أي: أن جزاء سرقته أخذ من وجد المتاع في رحله رقيقاً لمن سرق منهم. ((كذلك نجزي الظالمين)) أي: في شريعة يعقوب عليه السلام. ((فهو جزاؤه)) تقرير لذلك الحكم وإلزامه به لا غير، بحيث لا يوجد جزاء آخر نعاقبه غير الرق، ويجوز أن تكون ((جزاؤه)) مبتدءاً والجملة الشرطية خبره، على إقامة الظاهر مقام المضمر، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] أي: بالسرقة، تأكيد إثر تأكيد وبيان لقبح السرقة.

تفسير قوله تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه)

تفسير قوله تعالى: (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه) {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. ((فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ)) أي: أن فتى يوسف عليه السلام بدأ بأوعية إخوة يوسف لأبيه ومن معهم ((قبل وعاء أخيه)) بنيامين؛ نفياً للتهمة، وسبق التنبيه على نظائر ذلك. ((ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ)) أي: السقاية. ((كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ)) أي: دبرنا بتحصيل غرضه. ((مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)) أي: في شرع الملك وقانونه، والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيل وصنعه، أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه رحمة منه وفضلاً، وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا لاستبد بما شاء، وهذا من وفور فطنته وكمال حكمته، ويستدل به على جواز تسمية القوانين الكفر ديناً، والآيات في ذلك كثيرة، مثل قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] هنا أطلق على الكفر ديناً. ((إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) أي: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره، وكان إلهاماً من الله ليوسف وإخوته حتى جرى الأمر وفق المراد. ((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)) أي: بالعلم كما رفعنا يوسف، وفي إيراد صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة غير مختصة بهذه المادة. ((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ)) أي: من أولئك المرفوعين. ((عليم)) أي: فوقه أرفع درجة منه.

تفسير قوله تعالى: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل)

تفسير قوله تعالى: (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77]. عادوا من جديد لظلم يوسف وأخيه، قالوا: إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون بذلك يوسف نفسه عليه السلام، سبحان الله! انظر إلى المشاعر السوداء، فإلى هذه اللحظة ما زال الحقد على يوسف والظلم والجور بالنسبة لأخيه بنيامين موجوداً، قالوا: إن يفعل فهذا شأنه هو وأخوه، وهذه أخلاقهما. ((فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا)) أي: شر منزلة حيث سرقتم أخاكم يوسف من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء، فيوسف هو المسروق وليس هو السارق، وأنتم بأنفسكم الذين سرقتموه. والعبارة التي أسرها يوسف في نفسه أنه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] أي: من أمر يوسف، هذا على أحد التفسيرين. أو قول آخر: أنه أسر ما قالوه في نفسه ثم استأنف فقال: ((أنتم شر مكاناً والله أعلم بما تصفون)).

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً) {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78]. لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، طفقوا يظهرون عطفهم عليه، وذلك بأن له أباً شيخاً كبيراً يحبه حباً شديداً يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقاً عندك. قال بعضهم: الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقاً أن يتوسل به، كما توسلوا بكبر يعقوب؛ مراعاة لشأن الكبير وسن الكبير واحترام الكبير، فتوسلوا هم بهذا الحق كما في قوله عز وجل: ((إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه)) وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ؛ لأنهم قد شابوا في الإسلام وفي التوحيد وفي الطاعة. وما عزم عليه إخوة يوسف من إنقاذ أخيهم من العبودية المقضي عليه بها كان بلا شك عملاً صالحاً منهم، وهو مما يدل على أنهم هذه المرة أحسن طوية ووفاء مع أخيهم بنيامين، حتى إن أحدهم كان مستعداً أن يكون رقيقاً من أجل إنقاذ أخيه، ومما يدل على أنهم كانوا صادقين حينما أعطوا العهود لأبيهم على أن يحفظوه، فما عزموا عليه يعرب أيضاً عن أمانة وصدق وبر، وشدة تمسك بموثق أبيهم، وذلك محافظة على رضاه وإكرامه، وهكذا فليتمسك البار بمرضاة أبويه. ((إنا نراك من المحسنين)) أي: إنا نراك من المحسنين إلينا، فأتمم إحسانك بأن تأخذ أحدنا مكانه، أو ((من المحسنين)) أي: من المتعاونين بالإحسان فليكن هذا منه، وكما تلاحظون أن سلوك يوسف وخلقه ينبئ عن تمكن صفة الإحسان منه، فهؤلاء رفقاؤه في السجن قالوا عنه: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] وهذا شأن المسلم تظهر عليه سيما الصلاح والإحسان وتقوى الله عز وجل حيث كان، فهنا نفس العبارة قالها إخوة يوسف ليوسف: ((إنا نراك من المحسنين)).

تفسير قوله تعالى: (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)

تفسير قوله تعالى: (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده) {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79]. أي: لا يؤاخذ أحد بجرم غيره. قال بعضهم: إلا ما ورد في العقل -أي: الدية- فهذه قضية أخرى، وهي ترجع إلى قاعدة: أن الغرم بالغنم. مثال قضية العقل: لو أن إنساناً قَتَلَ بحيث استوجب ولي القتيل الدية، ففي هذه الحالة لا يدفع الدية القاتل وحده، وإنما تدفعها العاقلة، وهم أقاربه العصبة من الذكور، كما أنه إذا مات فهذه العاقلة ترثه وهذا غنم في مقابل العزم.

تفسير قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا)

تفسير قوله تعالى: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً) {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80]. الذي عنده تذوق بلاغي وإحساس باللغة العربية وروعتها عند تلاوة القرآن الكريم يقف كثيراً عند هذا التركيب الفذ في هذه الآية وغيرها، حتى إن أعرابياًَ عندما سمع هذه الآية قال: أشهد أن هذا لا يقوله بشر، أي: يستحيل أن تصدر هذه العبارة من بشر، لقوة البلاغة فيها. لو شرحت هذه الكلمات المعدودة لشرحت في صفحات كثيرة؛ لما فيها من التعبير النفيس البليغ. ((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) أي: يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد اليأس كما دل عليه السين والتاء فإنهما يدلان على شدة المبالغة في اليأس، وبيان أنهم لم يبق عندهم أي أمل في أن يستجيب لهم يوسف عليه السلام. قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس لما شاهدوه من عوذه بالله حيث قال لهم: ((معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون)) فقابلهم بهذا الرد الحاسم الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله عز وجل، وحيث سماه ظلماً بقوله: ((إنا إذاً لظالمون)). ((خلصوا)) أي: اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم. ((نجياً)) حال من فاعل خلصوا أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين، وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع؛ لأن النجي فعيل بمعنى مفاعل، كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52] أي: مناجياً، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً، يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على فعيل بمنزلة صديق فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والزميل. وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة. أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى. ولذا قال الزمخشري: (نجياً) ذي نجوى، أو فوجاً نجياً، أي: مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً، وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكأن تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟! كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب فاحتاجوا إلى التشاور. والقاضي عياض له كتاب الشفا، وهو من الكتب المهمة جداً جداً، فعلى الإنسان في بداية التزامه أن يمر بكتاب الشفا؛ لأن الشفا شفاء حقيقة كما وصفه مؤلفه القاضي عياض، وهو أيضاً من الكتب المباركة جداً والتي لها أعظم التأثير في قلب المؤمن، وبالذات فيما يتعلق بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وحيوية هذه الحياة في قلبه، فكتاب القاضي عياض اسمه (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم) فهو من الكتب التي ينبغي أن تعطى اهتماماً خاصاً لأي أخ ملتزم، مثل: رياض الصالحين، ومثل: الأذكار للنووي، وقد ذكر القاضي عياض في كتاب الشفا في بحث إعجاز القرآن: أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: ((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) فقال: أشهد أن مخلوقاً لا يقدر على مثل هذا الكلام! وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، فليتدبر القرآن وليتأمل علوه على سائر الكلام، ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره في إخوة يوسف: ((فلما استيئسوا منه خلصوا نجياً)) وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس، وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة. ((قَالَ كَبِيرُهُمْ)) في السن وهو روبيل: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف:80] أي: عهداً وثيقاً في رد أخيكم، وإنما جعله منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم. ((وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ)) أي: قبل هذا تعلمون أنكم قصرتم في شأن يوسف عليه السلام، و (ما) مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، أو: (ما) مصدرية في موضع رفع بالابتداء و ((من قبل ما فرطتم في يوسف))، أو في موضع نصب عطفاً على مفعول ((ألم تعلموا))، وإما موصولة ومحله الرفع أو النصب على الوجهين، بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي: قدمتموه في حق يوسف من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعدما قلتم: ((وإنا له لناصحون)) ((وإنا له لحافظون)). ((فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ)) أي: لن أفارق أرض مصر. ((حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي)) أي: بالرجوع والانصراف إليه. ((أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي)) أي: بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب. ((وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ))، لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.

تفسير قوله تعالى: (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق)

تفسير قوله تعالى: (ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق) {ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:81 - 82]. لقد أمر كبيرهم أن يرجعوا ويخبروا أباهم بما جرى بقوله: ((ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ)) أي: نسب إلى سرقة صواع الملك ((وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا)) أي: ما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله ولا شيء أبين من هذا. ((وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ)) استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر، وكذا من سمع كلام شخص من وراء حجاب فهو كعدم العلم به، فهذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف. ((وما كنا للغيب حافظين)) أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق. ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا)) هي مصر أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة. ((وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)) أي جئنا معها، وكانوا قوماً من كنعان. ((وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)) أي: فيما أخبرناك.

الكهف [1 - 6]

تفسير سورة الكهف [1 - 6]

بين يدي السورة

بين يدي السورة في هذه السورة أّمن الله تعالى أولياءه من أعدائهم، وزادهم الإغناء الكلي عن الأشياء، وذلك لما آمنوا به سبحانه وتعالى، وفيها أيضاً بعض الكرامات العجيبة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان، وهذا كله من أعظم مقاصد القرآن، فهو يبين لهم ثمرة الإيمان، وعواقب أهل الإيمان، وكيف أن الله يكرم أهل الإيمان. وهي سورة مكية، وقيل: أولها إلى قوله: (جرزاً)، وقوله: (واصبر نفسك)، وقوله: (إن الذين آمنوا): إنها مكية كلها، وآيها مائة وعشرة، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة ساقها الحافظ ابن كثير وغيره. ومن أشهر وظائف سورة الكهف: استحباب تلاوتها يوم الجمعة، وقد صح في ذلك بعض الأحاديث، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)، وفي حديث آخر: (من قرأ سور ة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور إلى الجمعة التي تليها). ومعلوم أيضاً فضائل أول عشر آيات من سورة الكهف، فهي عصمة من فتنة المسيح الدجال. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف:1].

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب).

تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب). قال تعالى ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قدمنا أن كثيراً ما تفتتح السور وتختم بالحمد؛ إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى هو المحمود على كل حال، والمحمود أولاً وآخراً، كما قال عز وجل: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [القصص:70]، وتعليماً للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه بحمد الله، والثناء عليه تبارك وتعالى بنعمه العظمى، ومننه الكبرى. وفي إنشار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العالية تنبيه على أنه أعظم نعمائه سبحانه وتعالى، فالحمد لله: إشارة إلى حمد الله، والثناء عليه، والشكر له بمقابل نعمه عز وجل، فالحمد يكون لله عز وجل على نعمه العظمى، ومننه الكبرى، فاختص هنا في أول هذه السورة الحمد على نعمة هي أعظم نعمة على الإطلاق، وهي إنزال الوحي. يقول: وفي إنشار إنزال التنزيل بقوله: (الذي أنزل على عبده الكتاب) من بين سائر نعوته سبحانه وتعالى العالية: تنبيه على أنه -أي: القرآن- أعظم نعمائه، فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد، ولا شيء في معناه يماثله.

مقامات وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية في القرآن

مقامات وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبودية في القرآن وفي ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية تنبيه على عظمة المنَّزل والمنزَّل عليه، فذكره صلى الله عليه وسلم بصفة العبودية من أعظم ما يمدح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لإمعانه في التذلل والخضوع والتواضع والعبودية لربه تبارك لله تعالى، فمن تواضع لله رفعه، فالنبي عليه السلام أشد الخلق وأعظمهم تحقيقاً للعبودية لله عز وجل؛ فلذلك رفعه الله على سائر الأنبياء والمرسلين، قال: في ذكره بعنوان العبودية تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه، كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية، كما تقدم في سورة الإسراء، وقد تقدم في عدة مواضع من القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى وصفه بالعبودية في أعلى المقامات، وهنا أيضاً وصفه بالعبودية في أشرف الأشياء وهي: أنه أنزل عليه الكتاب، وهذا أمر معروف في القرآن الكريم، كما في قوله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، وهذا في مقام الإسراء، وهو آية عظمى من آيات الله سبحانه وتعالى، وقد صفه الله فيه بالعبودية، وفي مقام الدعوة أيضاً: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، أي: تزاحمت عليه الجن طبقة فوق طبقة، وفي مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وفي هذا كله أن شأن الرسول أن يكون عبداً للمرسِل، فما دام أنه قد أرسل من قبل الله سبحانه وتعالى فهو عبد له، لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام.

كمال القرآن وسلامته من العوج

كمال القرآن وسلامته من العوج لقد حُلَّى الكتاب في قوله: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ)) بأل العهدية، والمقصود بالكتاب هنا القرآن الكريم، فالمقصود به: الكتاب الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، وهو عبارة عن جميع القرآن المنزل حينئذٍ. ثم أخر الكتاب على الجار والمجرور فقال: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) ولم يقل: (الذي أنزل الكتاب على عبده)، مع أن حقه التقديم عليه؛ ليتصل به قوله سبحانه وتعالى: (ولم يجعل له عوجا)، ولو قال: (الحمد لله الذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجا) لم يكن الكلام متصلاً في شأن الكتاب؛ لأن هذا الكتاب هو الذي لم يجعل الله له عوجاً. ومعنى: (لم يجعل له عوجا) أي: ليس فيه اختلال في نظمه، ولا تنافٍ في معانيه، أو زيغ أو انحراف عن الدعوة إلى الحق، بل إن القرآن هو الدستور الذي يعالج ويزيل العوج؛ لذا فقد جعله فقد جعله الله سبحانه وتعالى: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:2 - 3]. ومعنى: (قيماً)، أي: قيماً بمصالح العباد، وما لابد لهم منه من الشرائع، فهذا وصف له بأنه مكمل لهم بعد وصفه بأنه كامل في نفسه: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً). قوله: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)، ولم يقل: (الكتاب الكامل)، من أل العهد؛ لأن أل في الكتاب هنا للعهد، وكأنه لا يوجد كتاب غيره باعتباره أكمل الكتب على الإطلاق، واختصاص هذا القرآن الكريم بالكتاب كأنه لا كتاب غيره، ثم قال: (ولم يجعل له عوجا)؛ فنفى عنه العوج، وأثبت له ضد ذلك، وهو أنه يقوم بالناس، ويصلح حالهم، ويعالج عوجهم، فقال: (قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه)، يقول: (فهو وصف له بأنه مكمَّل لهم بعد وصفه بأنه كامل في نفسه)، أو قيماً على الكتب السالفة مهيمناً عليها، أو قيماً متناهياً في الاستقامة والاعتدال، فيكون ذلك تأكيداً لما دل عليه من نفي العوج، مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له حسبما تنبئ عنه الصيغة. وانتصبت كلمة (قيماً) بمضمر تقديره: جعله، وهناك قول آخر -وإن كان الأظهر ما ذكرناه- وهو: أن (قيماً) متعلقة بالقرآن الكريم. وقلنا: إن الحكمة في تقديم الجار والمجرور على الكتاب ليتصل الكلام؛ لأن (قيماً) ستكون استمراراً لوصف القرآن الكريم، فهذا الوجه الأول، وهو الأظهر. وأما الوجه الثاني: فقد ذهب القاسمي إلى أن الضمير في قوله: (ولم يجعل له عوجا)، وما بعده إنما يعود إلى كلمة (عبده)، وهو النبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: لم يجعل لعبده زيغاً ولا ميلاً، وجعله صلى الله عليه وسلم قيماً مستقيماً كما أمر في قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، أو قيماً عليه الصلاة والسلام بأمر العباد وهدايتهم؛ إذ التكميل يترتب على الكمال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها أقيمت نفوس أمته مقام نفسه، فأمر بتقويمها وتزكيتها، ولهذا المعنى سمي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أمة، وهذه القيمية -أي: القيام بهداية الله- داخلة في الاستقامة المأمور هو بها، والأظهر هو الوجه الأول، وأن الكلام إنما هو في شأن القرآن الكريم.

نذارة القرآن وبشارته

نذارة القرآن وبشارته قال الله: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2]، أي: لينذر من خالفه ولم يؤمن به عذاباً شديداً عاجلاً وآجلاً، والبأس هو القهر والعذاب، وخصصه بقوله تعالى: (من لدنه)، إشارة إلى زيادة هوله، وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك عظمه بالتنكير، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} [الكهف:2]، أي: بهذا القرآن الكريم. وقال القاسمي: (ويبشر المؤمنين)، أي: الموحدين؛ لكونهم في مقابلة المشركين الذين قالوا: اتخذ الله ولداً، (الذين يعملون الصالحات)، أي: الخيرات والفضائل، (أن لهم)، أي: بأن لهم بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة، (أجراً حسناً)، وهو: الجنة، {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3]. قوله: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) [الكهف:4] وهؤلاء أصناف، أي: أن الذين قالوا: (اتخذ الله ولداً)، ليسوا النصارى فقط، ولكن ذلك يشمل أيضاً مشركي العرب؛ لأنهم قالوا: (الملائكة بنات الله) وخصهم بالذكر وكرر الإنذار متعلقاً بهم استعظاماً لكفرهم. (وينذر)؛ لأنه قال قبل ذلك: (لينذر بأساً شديداً من لدنه) وهذا عام، ثم خص نوعاً من هذا الكفر لفظاعته وشناعته، وهو زعم الولد لله سبحانه وتعالى. (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)، أي: من المشركين الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله، أو من النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، فخصهم بالذكر وكرر الإنذار متعلقاً بهم استعظاماً لكفرهم، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى: (ويبشر المؤمنين)، للإيذان بكفاية ذات حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه. أي: أنه هنا قال: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)، في حين أنه قال في وصف المؤمنين: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات)، ولم يقل: (ويبشر الذين يعملون الصالحات)، فاستغنى في الكلام عن الكفار بذكرهم بلفظ الموصول (الذين)، ولم يقل: (الذين كفروا)؛ لأن هذا من أعظم وأشنع وأقبح أنواع الكفر. قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:5] الهاء في قوله: (به) تعود إلى الولد، أي: ما لهم بهذا الولد المزعوم علم، أو ما لهم علم باتخاذ الله الولد، ولم يقم على هذا دليل، بل إن هذا القول لا يصدر إلّا عن جهل مفرط، وتوهُّم كاذب، وتقليد للآباء، لا عن علم ويقين، ويؤيده قوله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم).

استعظام نسبة الولد لله جل وعلا

استعظام نسبة الولد لله جل وعلا قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] هذا أسلوب تعجب، أي: ما أكبرها كلمة (تخرج من أفواههم)، وذلك لأن الولد لله مستحيل، ولا معنى لنسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا علم يقيني يشهد أن الوجود الواجدي أحدي الذات -الوجود الواجدي: من مصطلحات المتكلمين، ومعناه واجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى- فهو أحدي الذات لا يماثله الوجود الممكن، والولد مماثل لوالده في النوع، والله سبحانه وتعالى لا مثل له، ولا مكافئ له في القوة، قال الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. وإعراب قوله: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم)، إعرابها: صفة لكذب، في محل نصب صفة للكذب؛ لأن الجمل بعد النكرات صفة، فقوله تعالى: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم)، تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم، وهذا شيء عظيم جداً؛ لأن الكلمة تخرج من أفواههم، كيف ساغ للشعوب أن تنطق بهذه الكلمة؟ والمعنى: كبر خروجها من أفواههم- أي: عظمت بشاعته وقباحته بمجرد التفوه- فما بالك باعتقاده، لمجرد أن الفم ينطق بهذه الكلمة وهي الزعم بأن لله ولداً هذه من أقبح وأشنع ما يرتكب، فكيف باعتقاد ذلك في قلوبهم؟ قوله: (إن يقولون إلا كذباً)، أي: إن يقولون إلا خوضاً لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلاً، وذلك لتطابق الدليل القطعي والوجدان الروحي على استحالة أن يكون لله عز وجل ولد.

تفسير مطلع سورة الكهف من أضواء البيان

تفسير مطلع سورة الكهف من أضواء البيان أما العلامة الشنقيطي فقد فصل في مقدمة الجزء الرابع من تفسير أضواء البيان في الكلام على هذه الآية، فيقول بعد ما ذكر الآيات التي فسرناها: علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم، وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، الذي لا اعوجاج فيه، بل هو في تمام الاستقامة؛ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، وبين لهم فيه العقائد والحلال والحرام، وأسباب دخول الجنة والنار، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم، فهو النعمة العظمى على الخلق، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى، بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} الآية. وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم منذراً من لم يعمل به، ومبشراً من عمل به، ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:174 - 175]. وقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]. وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:76 - 77]، وقوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]. وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:106 - 107]. وقوله: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86] الآية. وقوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]. وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير.

كتاب الله مستقيم لا عوج فيه

كتاب الله مستقيم لا عوج فيه قال الشنقيطي: وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا))، أي: لم يجعل في القرآن عوجاً -و (له) هنا بمعنى (فيه) - أي: لا اعوجاج فيه البتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني، أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل؛ سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه وأخباره وأحكامه، لأن قوله: (عوجاً) نكرة في سياق النفي، فهي تعم نفي جميع أنواع العوج. فلا يمكن أن يحصل في القرآن أي نوع من العوج أو الاضطراب، بخلاف ما يفعله البشر، فالإنسان مهما كانت ملكاته الأدبية أو العلمية فلابد أن تجد خللاً في الكتاب، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فالذي يبدأ بتأليف كتاب يكون نفسه طويلاً وفي الآخر يبدأ يضعف، بل الأسلوب في بعض المواضع يكون أضعف منه في مواضع أخرى، ولابد أن يأخذ على كل كتاب أي نقص، ما عدا كتاب الله سبحانه وتعالى، ولهذا عجز الكافر مع شدة عداوتهم له وحرصهم على إباطاله عن أن يمسكوا أي عيب أو عوج في القرآن، بل انطلقت ألسنتهم بعبارات الانبهار بإعجاز القرآن الكريم. بخلاف ما تجرأ به أحد الملاحدة في هذا الزمان وهو طه حسين حينما كان أستاذاً في كلية الآداب، وأراد عدو الله أن يحطم قدسية القرآن الكريم، فكان يطالب طلبة الكلية بأن يتعاملوا مع القرآن كأي كتاب آخر عند النقد، فهذا من زندقته وكفره بكتاب الله عز وجل، وهذا معروف من تاريخه الأسود في عداوة الإسلام وعداوة اللغة العربية. فهذه الآية كانت تكفي في إحباط ضلالته وزندقته: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]. فكيف يوضع كلام الله على مائدة النقد والفحص والعياذ بالله؟! قال: وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه بينه في مواضع أخرى كثيرة، كقوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر:27 - 28]. وقال عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، فقوله: (صدقاً) أي: في الأخبار، قوله: (عدلاً) أي: في الأحكام، وكقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، والآيات في ذلك كثيرة جداً. وقوله عز وجل: (قيماً)، أي: مستقيماً لا ميل فيه ولا زيغ، وهذا بينه أيضاً قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:1 - 3]، يعني: لا اعوجاج فيها. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:37]. وقال عز وجل: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، وقال عز وجل: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وقال عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]. وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى: (قيماً) هو قول الجمهور، وهو الظاهر، وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله: (ولم يجعل له عوجاً)، لكن هذا فيه نفي العوج وإثبات القيمية؛ لأن الشيء قد يكون مستقيماً في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر، ولذا جمع تعالى بين نفي العوج وإثبات الاستقامة. وفي قوله: (قيماً) وجهان آخران من التفسير: الأول: أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ومهيمناً عليها، وعلى هذا التفسير فالآية تكون كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48]، ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، وقال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ) [المائدة:15]، فهذه بعض مظاهر الهيمنة والتصحيح والقيمية. الوجه الثاني: أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية، قال القاسمي: وصف القرآن بأنه مكمل للخلق بعد وصفه بأنه كامل في نفسه بأل العهدية في قوله: (الذي أنزل على عبده الكتاب)، أي: الكامل في نفسه، (قيماً) يعني: الذي يعالج عوج الناس ويزيل العوج الذي في الخلق، ويحقق لهم مصالحهم الدينية والدنيوية.

إنذار الكفرة وتخويفهم وبشارة المؤمنين

إنذار الكفرة وتخويفهم وبشارة المؤمنين قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقوله في هذه الآية الكريمة: (لينذر بأساً شديداً) هذه اللام متعلقة بقوله تعالى: (أنزل)، يعني: (أنزل على عبده الكتاب لينذر). وقيل: هي متعلقة بقوله: (قيماً)، والأول هو الظاهر، أما الإنذار فهو الإعلام المقترن بتخويف وتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار، والإنذار يتعدى إلى مفعولين، كما في قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14]؛ لأن المفعول الأول هو ضمير: (كم). وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول، وحذف في الثاني المفعول الثاني، فكان المذكور دليلاً على المحذوف في الموضعين، وتقدير المفعول الأول: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً، وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً بأساً شديداً. وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين، وبشارة للمؤمنين المتقين؛ إذ قال في تخويف الكفرة به: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} وقال: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}. وفي بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً بينه قوله جل وعلا: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وفي قوله: {آلمص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:1 - 2]. أما البأس الشديد الذي أنذرهم الله إياه فهو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، والبشارة الخبر بما يسر، لكن العرب قد تطلق البشارة على الخبر بما يسوء أحياناً، ومنه قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:8] ومنه قول الشاعر: وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر يعني: أخبرتني بما يسوءني وأن أحبتي جفوني. وقول الآخر: يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير إذاً: إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهذا عند الشنقيطي مجاز مرسل، وهو من أساليب اللغة العربية، ويسميه البلاغيون استعارة عنادية، ويقسمونها إلى تهكمية وتلميحية كما هو معروف في محله، والشنقيطي كان من فطاحل البلاغة، وقد تتلمذ عليه الشيخ ابن باز في البلاغة.

شروط العمل الصالح

شروط العمل الصالح هناك بعض الشروط التي لابد منها في العمل لكي يكون صالحاً: الشرط الأول: أن يكون مطابقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيعبد الله بما شرع ولا يعبده بالبدعة، ولابد أن تتقرب إلى الله بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح بل هو باطل، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، إلى آخر الآية، فلابد من شرط المتابعة. الشرط الثاني: أن يكون العامل مخلصاً في عمله بالله فيما بينه وبين الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:11 - 15]. الشرط الثالث: أن يكون العمل مبنياً على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة؛ لأن العمل كالسقف والعقيدة كالأساس، وإذا لم توجد العقيدة انهار السقف، كالروح في البدن إذا خرجت منه أصبحت لا قيمة لك ولا للجوارح الموجودة، فالعمل بدون إيمان، كما قال تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] فقيده بالإيمان. فالعمل الصالح لا يكون مقبولاً ونافعاً في الآخرة إلا بأن يكون مؤسساً على العقيدة الصحيحة، أما الكافر فمهما عمل من الأعمال الخيرية أو الحسنة فإنه لا يثاب عليها في الآخرة على الإطلاق، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، تحبط كل أعمالهم في الآخرة، وقد يثابون في الدنيا إذا شاء الله ذلك؛ لأنها جنة الكافر، فيثاب الكافر بالعافية وبكثرة الولد والرزق وغير ذلك من أنواع التخفيف عن هذا الكافر في الدنيا فقط؛ لأنه المكان الوحيد الذي يمكن أن يثاب فيه، أما في الآخرة فلا يمكن أن ينفعه أي عمل بدون إيمان. فقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]، مفهومه: أن من لم يكن مؤمناً لا ينفعه عمله، وصرح به في قوله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وفي قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] وقوله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) [إبراهيم:18]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات.

بشرى المؤمنين بالحسنى

بشرى المؤمنين بالحسنى قال عز وجل: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف:2]، يعني: وليبشرهم بأن لهم أجراً حسناً، والأجر هو جزاء العمل، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر هو الجنة. ولهذا قال: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3] فلذلك صح تفسير الأجر الحسن بأنه الجنة؛ لأنهم ماكثون فيه أبداً. أما وجه الصدق لهذا الأجر فالقرآن الكريم مليئ بالآيات التي توضح وصف كونه أجراً حسناً؛ كقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:13 - 16]، كل هذا وصف الجنة، وشرح لكلمة (حسناً)، وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا}، أي: خالدين فيه بلا انقطاع، كما في قوله {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، أي: غير مقطوع، وقال عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108]، الدنيا مهما كان فيها من قصور أو جنات لابد أن يصيب صاحبها الملل، لذا تجده يرغب دائماً في التغيير، حتى أن صاحب البساتين يفزع إلى الصحراء، ويسعد جداً بتغيير الجو كما يقولون، أو العكس. أما الجنة فلا يمكن أبداً أن يتطرق أي ملل إلى أهلها كما قال الله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108]، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]، يعني: ما له من انقطاع ولا انتهاء، وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وقال أيضاً: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].

تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا)

تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً) قال الله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]. أي: ينذرهم {بَأْسًا شَدِيدًا} من عنده، وهذا من عطف الخاص على العام: لأن قوله: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:3] شامل لكل الكفار سواء الذين قالوا اتخذ الله ولداً، أو غيرهم من الكفار. وقد تقرر في فن المعاني أن عطف الخاص على العام يكون إذا امتاز الخاص عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة، تنزيلاً للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات، ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:97 - 98]، فهنا صفة حسنة ثم خص جبريل وميكائيل بالذكر مع أنهم من الملائكة، فهذا ما يسمى بالإطناب المقبول، فهو إطناب لكنه إطناب مقبول؛ لأنه جعل هذا النوع الخاص المذكور بصفات معينة كذاه أخرى اقتضت العطف، وكأنهما خارجان عن الملائكة. ومن هذا أيضاً قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب:7]، خص هؤلاء بالذكر مع أنهم من النبيين، لأنهم أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن الممتاز بصفات قبيحة ما جاء في الآية التي نحن بصددها: (لينذر بأساً شديداً من لدنه)، قلنا في التفسير: لينذر الذين كفروا بأساً شديداً من لدنه، ومن هؤلاء الذين كفروا (الذين قالوا اتخذ الله ولداً)؛ لكن خصهم بالذكر هنا لامتيازهم في كفرهم بأنه من أشنع وأقبح أنواع الكفر؛ لأنه شتم لله سبحانه وتعالى بأن نسبوا إليه الولد؛ فإن الذين قالوا: اتخذ الله ولداً. امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء، ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم. والآيات الدالة على عظم فريتهم كثيرة جداً، كقوله هنا: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:88 - 92]، لكن الله سبحانه وتعالى بمشيئته هو الذي يمسكها عن ذلك، وهذا القول يبلغ من شناعته أن السماوات تكاد من شدة الغيظ والانفعال والغضب والقشعريرة تكاد تشقق وتفطر، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:90 - 92]. وقال تبارك وتعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40]. والآيات مثل هذا كثيرة معلومة، وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله سبحانه تعالى ثلاثة أصناف من الناس: اليهود والنصارى، إذ قال عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) [التوبة:30] إلى آخره، والصنف الثالث مشركو العرب، كما قال تعالى عنهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]، يعني الملائكة في زعمهم.

تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم)

تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم) قال الله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:5]. لماذا تعرض عز وجل هنا لنفي العلم عن آبائهم؟ لأن آباءهم هم قدوتهم، كما قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، يعني: أن ما نسبوه له جل وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به؛ لأنه مستحيل، والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه. ومن الآيات الدالة على ذلك، قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]؛ لأن ظلمهم لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلاً، ولا يدل على إمكانه، ومن هذا القبيل: قول المنطقيين: (السالبة لا تقتضي وجود الموضوع)، وهذا كلام منطقي لا يخصنا الآن. ما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً بينه في مواضع أخر، كقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100]، وقوله في آبائهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، إلى غير ذلك من الآيات. قوله هنا عز وجل: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، يعني: أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولداً. أمر كبير عظيم كما دلت الآيات على عظمه، كقوله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40]، وقوله: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91]. وكما قلنا: كلمة (تخرج من أفواههم) تفيد استعظام افترائهم على إخراجها من أفواههم؛ لأن المعنى: كبر خروجها، أي عظمت بشاعته وقباحته بمجرد التفوه به، فما بالك باعتقادهم له، وفي الحديث قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يكون حممة أحب إليه من أن ينطق به)، يعني: أن يحترق حتى يكون فحمة سوداء أهون عليه من أن ينطق به بلسانه لكنه يجد في نفسه هذه الوساوس، فقال: (أوقد وجدتموه؟ ذلك صريح الإيمان، أو قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة). فالإنسان قد لا يقوى على النطق بهذه الوساوس، وقد ترد له بعض هذه الخواطر لكن من شدة استعظامها لا يمكنه النطق بها، فاجتراء المشركين على النطق بهذه الأشياء يدل على شناعة الفعل الذي أتوا به، فلذلك أتى بكلمة: (تخرج من أفواههم)، أي: كيف طاوعتهم أنفسهم أن يتفوهوا بهذه الكلمة فضلاً أن يعتقدوها؟ وقال بعض علماء العربية: إن قوله: (كبرت كلمة): معناه التعجب، فهو بمعنى: ما أكبرها كلمة! أو: أكبر بها كلمة! فهو أسلوب تعجب؛ لأن فَعُل بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح، فتكون من باب نعم وبئس، ومنه قوله تعالى: (كبرت كلمة) كما هنا. وإليه إشار ابن مالك في الخلاصة بقوله: واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مرسلا إذا تقرر ذلك ففاعل كبر، ضمير محذوف، و (كلمة): نكرة مميزة للضمير المحذوف على حد قوله في الخلاصة: ويرفعان مضمراً يفسره مميز كنعم قوم معشره والمخصوص بالذم محذوف، والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها، فالمخصوص بالذم تلك المقالة التي فاهوا بها، وهي قولهم: (اتخذ الله ولداً). وأعرب بعضهم (كلمة): بأنها حال، أي: كبرت نيتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم، وهذا مذهب ضعيف! والصحيح أنها تمييز. وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (تخرج من أفواههم): أي: ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولذا قال: (إن يقولون إلا كذباً). وهذا المعنى له شواهد من القرآن كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران:167] ونحو ذلك من الآيات. (إن يقولون إلا كذباً) الكذب هو مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال. (قالوا اتخذ الله ولدا): فعل وفاعل ومفعول، وكل هذه العبارة تذكرنا بقول ابن مالك: (وكلمة بها كلام قد يؤم)، يعني: قد تطلق الكلمة ويقصد بها مجموعة من الكلمات، كما تقول: قرأت كلمة لبيد، يعني: قصيدة لبيد، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99 - 100]، {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] أي: كل هذه أطلق عليها كلمة، فإذاً: قد يطلق على مجموعة من الكلمات لفظ كلمة، وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، كل هذا أطلق عليه أيضاً كلمة. قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (ولم يجعل له عوجا) -بكسر العين- في المعاني، أي يكون نفي العوج في المعاني، أما العوج في الشيء الحسي فهو ما كان منتصباً، تقول: هذا الحائط ليس فيه عوج بفتح العين. وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل (عوجا)، بالسكت على الألف المنزلة من التنوين، وهي سكتة يسيرة من غير تنفس إشعاراً بأن (قيماً) ليس متصلاً (بعوجا) في المعنى، بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر، أي: جعله قيماً، على أن الجار الأول منفي أما (قيماً) فهو مثبت فجاءت السكتة من أجل أن تفصل بين المنفي والمثبت، ونحن نريد في المعنى أن نثبت الاستقامة والقيمية، فلذلك جاءت هذه السكتة لتشير إلى أن (قيماً) منصوب بفعل مقدر، يعني: جعله قيماً. (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات): قرأ الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة، وكسر الشين المشددة، وقرأ حمزة والكسائي (يَبْشر) بفتح الياء وسكون الباء الموحدة.

وجوب إنذار الكفرة بالقرآن

وجوب إنذار الكفرة بالقرآن في قوله تبارك وتعالى: {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2]، وقوله تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4] تنبيه إلى حقيقة مهمة جداً، وهي أنه ينبغي إنذار الكفار بالقرآن الكريم، وللأسف الشديد هناك فلسفة لا أدري ما مصدرها بالضبط، إذ بعض الناس المقصرين أو القاصرين يقول لك: لماذا تنذره بالقرآن وهو لم يؤمن بالقرآن؟ فيعطل بهذا أقوى أسلحة الإسلام في مجابهة الكافرين وإقامة الحجة عليهم. فالقرآن هو أقوى مصادر إقامة الحجج، عقلية ونقلية وغيرها، فعجباً لمن يقول: الكافر نكلمه بأي لغة أخرى ما عدا الاستدلال بالقرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، بل نقول: ليس المطلوب أن يهتدي، بل المطلوب أن تبلغه هذه الحجة، كما قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، يعني: لأنذركم به يا معشر قريش الذين تعيشون معي وتسمعون مني مباشرة. {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، أي بالقرآن. (لأنذركم به) أي: بهذا القرآن، (ومن بلغ)، يعني: ولأنذر أيضاً من بلغه القرآن ممن هم على وجه الأرض إلى قيام الساعة، فإذاً: نحن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ونوابه في هذه الأمة المحمدية، ومسئوليتها أن تقوم برسالة البلاغ؛ لأنها شاهدة على الأمم، قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. فهذا الكلام مفاده تعطيل الاحتجاج بالقرآن الكريم؛ بحجة أنهم لا يؤمنون به، بينما القرآن الكريم له سلطان على القلوب لا يوصف، كان يحدثنا أخ إنجليزي قبل أسبوع أو أكثر وكان ممن يصلي معنا صلاة القيام، وكان يقول لي: أنا أصلي مع الإخوة في المسجد فتنتابني القشعريرة والعظمة، وأشعر بسلطان قوي على قلبي؛ يقول: لكن كانوا حينما يدعون في القنوت لا أشعر بنفس التأثر مع أني لا أفهم معاني القرآن! يسمع القرآن فيشعر بسلطان القرآن على قلبه، أما عند الدعاء فلا يشعر بذلك لأنه ليس بقرآن حتى وإن كان الناس من حوله يبكون في الصلاة. القرآن له سلطان على القلوب بلا شك، حتى على من سمع القرآن وهو لا يفهم معناه؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وإذا كانت الجبال تخشع: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [الحشر:21]، فكيف بالقلب الحي؟! فإذاً قوة معاني القرآن وقوة ألفاظه هما من إعجاز القرآن الكريم. وبلا شك أن هذه كلها عوامل مهمة جداً في إقامة الحجة على الناس وإنذارهم، فينبغي أن نتفطن لهذا الكلام ونلغي هذا المفهوم الذي يقول: كافر لم يسلم، ولم يؤمن بالقرآن، كيف تجادله بالقرآن؟

تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)

تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]. قوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}، أي: مهلك نفسك، {عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ}، أي: بهذا القرآن، (أسفاً) أي: للتأسف على توليهم وإعراضهم عنه، والأسف: فرط الحزن والغضب. و (لعل) للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، يقول القاسمي: (لعل) هنا استعارة. أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك، فمن شدة شفقته على الكافرين المعرضين عن القرآن الكريم، والذين سوف يهلكون بالنار إن استمروا على هذا الكفر، وصل إلى حالة يتوقع المشركون أنه سيموت غماً وأسفاً وحزناً وأسى. إذاً (لعل) تكون للترجي؛ لكن ليست هنا للترجي، بل للطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، أي: وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس أنك مهلك نفسك بسبب هذا الحزن لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم، وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتسجيل حاله معهم وقد تولوا وهو آسف من عدم هدايتهم بحال من فارقته أحبته فهم بقتل نفسه، أو كاد يهلك وجداً عليهم وتحسراً على آثارهم. فكل ذلك كما قال القاسمي: إن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه، ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله تعالى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وكلما كانت محبته للحق أقوى كان شفقته ورحمته على خلقه أكثر؛ لكون الشفقة عليهم ضمن محبته لله، وأشد تعطفه عليهم، فإنهم كأولاده وأقاربه بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي، فلذلك بالغ في التأسف عليهم حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، فهو لا يسألهم أجراً ولا يريد منهم جزاء ولا شكوراً، إنما يريد لهم السعادة والنجاة، ويشفق عليهم من عذاب الله، كما صرح صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، فقال في الحديث المتفق عليه: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، فأخذ يذبهن بيده وهن يتقحمن فيها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي). هذا تصوير لحاله صلى الله عليه وسلم مع الخلق، فهو من شدة الشفقة والرحمة لهؤلاء الخلق يشفق عليهم من العذاب فمن هلك يهلك رغماً عنه، وهو يحاول أن ينقذه بقدر الاستطاعة صلى الله عليه وسلم، فشبه حاله بحال رجل أوقد ناراً في الظلام، والفراشة ليس لها عقل فإذا رأت ضوءاً في الظلمة، ظنته كوة تنفذ إلى الضياء في الخارج، مثل أي نافذة في غرفة مظلمة تنفذ إلى نور الشمس في الخارج، فتريد أن تخرج إلى الضياء فتنجذب إليه، فإذا نفذت ظنت أنها قد بعدت عن هذه الفتحة، فتعود من جديد لهذا الضوء، فإذا بها تطالها النيران وتحرقها، فهذا الرجل من شدة شفقته على هذا الفراش الذي ليس عنده عقل، جعل يذبهن بيده؛ فيشبه النبي عليه الصلاة والسلام نفسه مع هذه الأمة -أمة الدعوة- أنه واقف على شفير جهنم، وهم يندفعون إليها بأقصى قوتهم، ويلقوا أنفسهم في النار وهو مشفق عليهم من هذا المصير، فجعل يذبهم ويدفعهم بيده، ليمسك بهم بأي طريق، ولو عشوائية. (وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، الحجزة: موضع الخصر وفيها مركز ثقل الإنسان، فهو يحاول أن يمسكهم لأجل أن ينقذهم من النار، لكنهم يقاومونه ويلقون بأنفسهم في النار، فهذه صورته عليه الصلاة والسلام التي وصلت إلى حد أنه يكاد يهلك من شدة الحزن والشفقة عليهم أن يهلكوا في النار؛ فهل توجد رحمة بالبشرية أعظم من هذه الرحمة؟ لا توجد على الإطلاق، ولذلك فإن عدو البشرية كلها هو الذي يشوه الإسلام أو يصد الناس عنه، لأنه يحرمهم من أعظم حق من حقوق الإنسان. هؤلاء الضالون الكفرة: أمريكا ومن معها يتعلقون بشماعة حقوق الإنسان لاستذلال الأمم وقهرها، لكنهم أفلسوا تماماً، فأعظم حق من حقوق الإنسان أن لا يحال بينه وبين السعادة الأبدية وأن ينقذ من الموت، ومن الخلود فيها، والحياة في النار عذاب أليم بشع شنيع بلا نهاية، قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه النار: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، يعني: نار الآخرة أقوى من النار التي في الدنيا سبعين مرة، هل الإنسان يطيق حمل كوب من الشاي؟ لن يستطيع الإنسان، هل سيقرب بدنه إلى النار بواحد على سبعين، فما بالك بهذا العذاب الرهيب الذي وصفه الله سبحانه وتعالى، وهذا كلام حقيقي وسيقع قطعاً، فالنار موجودة الآن وتنتظر سكانها والعياذ بالله. فالشاهد أن الموضوع خطير، والدعوة الإسلامية ما هي إلا إنقاذ للبشرية، وكما أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن، وأرسل الرسول وجاهد الصحابة لحمل هذا النور إلى العالمين، فيحاول هؤلاء الكفار أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى بكل الأساليب القذرة، تارة بتسليط خبيث مصر سلمان رشدي، وتارة بالتشنيع على الإسلام ليل نهار، والإعلام الآن في العالم كله معه، ليس له شغل غير التشنيع على الإسلام والغمز واللمز، وتسليط وكلائهم ونوابهم من العلمانيين والصحفيين الفجرة بالطعن في الدين ليل نهار، كل هؤلاء يتآمرون على البشرية، وهم يضيعون أعظم حق من حقوق الإنسان وهو -على الأقل- أن يطلع على الإسلام في صورته الصحيحة، لكنهم يشوهون لأنهم (يبغونها عوجا) يصورون (سبيل الله) على أنها طريقة معوجة. هذا كله جريمة في حق البشرية كلها؛ لأنه وضع حواجز دون إنقاذ الناس من النار، ودون الفوز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، فهل هناك حق للإنسان أعظم من هذا؟ هؤلاء هم الذين يضيعون حق الإنسان. فانظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهؤلاء القوم مع كفرهم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74 - 75]، لا يخفف عنهم أبداً، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، أعظم أمنية أن يموتوا حتى يتوقف العذاب، ولكن انظر إلى A { قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78]. فإذاً المصير خطير جداً، الدنيا أيام وتنقضي مهما طال العمر، ثم يكون الإنسان إما إلى الجنة في سعادة أبدية، وإما في شقاء أبدي لا يتوقف، فلو قلنا حضارة فرعون لها سبعة آلاف سنة إلى الآن، وقال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر:45 - 46]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فمعناه أنه منذ سبعة آلاف سنة وهو يعرض غدواً وعشياً على النار، وكم عاش، وكم كان عمره؟ مائة سنة، مائتين سنة، فالعذاب أطول بكثير، ثم انظر إلى الخلود؛ لأنه كان ينوي الكفر إلى الأبد، ولذلك عاقبه الله بعذاب مؤبد بلا نهاية، فالأمر جد خطير، ولذلك أوصي نفسي وإخواني بأن يتأملوا قليلاً في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23] سواء كانت في حق أهل الجنة أو في حق أهل النار؟ فالأمر في غاية الخطورة، ولو أن الإنسان تفكر فيه لما أكل ولا شرب ولا نام ولا هناه عيش. قوله عز وجل: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم). يقول الشنقيطي: اعلم أولاً أن لفظة (لعل) تكون للترجي في المحبوب، وللإشفاق في المحذور، واستظهر أبو حيان في البحر المحيط: أن لعل في قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك)، للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به. يعني كأن ربنا سبحانه وتعالى يقول له: أنت تهلك نفسك شفقة عليهم، فليست (لعل) للشك، وإنما هي مقدرة بالاستفهام الذي يعنى به التقرير، فالمعنى: هل أنت قاتل نفسك؟ لا ينبغي أن يطول أسفك على إعراضهم فإن من حكمنا عليه بالشقوة لا تجدي عليه الحسرة. وقال بعضهم: إن (لعل) في الآية للنهي، وممن قال به العسكري، وعلى هذا فالمعنى: لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم، وقيل: هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار. يقول الشنقيطي: وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى (لعل): أن المراد بها في الآية النهي على الحزن عليه. يقول: إن إطلاق (لعل) مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام، ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك: كثرة ورود النهي صريحاً عن ذلك، كقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8])، ويقوي هذا المنحى وجود النهي عن أن يقتل نفسه حسرة عليهم في آية أخرى، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النمل:70]، وقال تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68] إلى غير ذلك من الآيات. والباخع: المهلك، أي: مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم، ومنه قول ذي الرمة: ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر أي: الذي سيهلك الحزن نفسه. وقوله: (على آثارهم) قال القرطبي: الآثار جمع أثر. ويقال: إثر، فالمعنى: على أثر توليهم وإعراضهم عنك. وقال أبو حيان في البحر: ومعنى (على آثارهم) من بعدهم، أي: بعد يأسك من إيمانهم، أو بعد موتهم على الكفر، يقال: مات فلان أثر فلان. أي: بعده، أو: (لعلك باخع نفسك على آثارهم)، يعني: أنت تحزن عليهم بعد ما ماتوا على الكفر، {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68] فهم لا يستحقون ذلك. قال الزمخشري: شبهه وإياهم حينما تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما دا

الكهف [32 - 59]

تفسير سورة الكهف [32 - 59]

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلا رجلين)

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين) يقول تبارك وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32].

مجمل تفسير الآيات المتعلقة بقصة الرجلين

مجمل تفسير الآيات المتعلقة بقصة الرجلين ((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا))، أي: مثلاً للمؤمن والكافر، ((رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ))، وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار، وأعز شيء عند هؤلاء الناس أن تكون الجنات من الأعناب ثم تحاط بالنخل. ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا))، أي: بين الجنتين أو بين النخيل والأعناب. ((زَرْعًا))، يعني: فحصد منهما الفواكه والأقوات؛ لأن النخيل والأعناب فواكه، أما الزرع فهو القوت، فحصد لهما الفواكه والأقوات فكانتا منشأ الثروة والجاه. ((كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا))، أي: آتت ثمرتها كلها كاملة، ((وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)) ولم تنقص منه شيئاً، ((وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا))، يعني: فجرنا فيما بين هاتين الجنتين نهراً -بفتح الهاء- يسقي الأشجار والزروع، ويزيد في بهجة مرآهما تتميماً لحسنهما. ((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)) كان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين، مأخوذ من ثمر ماله إذا كثر، وقوله هنا: (وكان له ثمر)، لا يراد به الثمر الذي هو ثمر الفواكه متى وجبت، فإن هذا مما سبق ذكره، لكن المقصود أنواع من المال غير هاتين الجنتين مشتق من (ثمر ماله) إذا كثر. ((فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ)) أي: وهو يراجعه الكلام تعييراً له بالفقر فخراً عليه بالمال وبما أوتي من الجاه، ((أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)) أي: أنصاراً وحشماً. ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، يعني: اصطحب صاحبه هذا الذي كان يعايره بالفقر وأنه أكثر منه مالاً وأنصاراً وحشماً، وأخذ يطوف به في هاتين الجنتين، ويفاخره بما فيهما، كما يدل عليه السياق. وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما نص لأمور: الأمر الأول: إما لعدم تعلق الغرض بتعددها، فقوله تعالى: ((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ)) هذا سياق في تعداد نعم الله عليه أنهما جنتان وليس جنة واحدة. الأمر الثاني: لاتصال الجنتين ببعضهما بحيث صارتا كأنهما جنة واحدة. الأمر الثالث: لأن الدخول يكون في واحدة ثم في التي تليها. الأمر الرابع: قيل الإضافة تأتي بمعنى اللام، فالمراد بها العموم والاستغراق، أي: دخل كل ما هو جنة له يتمتع بها، فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة، وهي الإشارة إلى أنه لا جنة غير هذه.

أثر الكبر والعجب في سلب نعم الله

أثر الكبر والعجب في سلب نعم الله قوله: ((وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ))، أي: بما يوجب سلب النعمة وهو الكفر والعجب؛ لأنه تلبس بهاتين القبيحتين، كفره بالله ثم الغرور والكبر والعجب، أو ((وهو ظالم لنفسه)) ظلمه لها إما بمعنى تنقيصها وطلبها بتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك. فهو يسيء إلى نفسه وينقصها ويضرها؛ لأنه يأخذ بالأسباب التي تستلزم زوال هذه النعمة وهلاك نفسه، أو (الظلم) بمعنى: وضع الشيء في غير موضعه؛ لأن مقتضى ما شاهده التواضع لله سبحانه وتعالى الذي رزقه هذه النعم لا العجب بها وظنها لا تبيد أبداً، والكفر بإنكار البعث كما يفيد قوله: ((قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ))، أي: تهلك وتفنى، ((هذه)) أي: الجنة، ((أبداً)) لاعتقاده أبدية الدهر، وألا كون سوى ما تقع عليه مشاعره، فلا يؤمن بالغيب، وإنما يعتقد أن الحياة الدنيا باقية إلى ما لا نهاية، ولذلك أردف قوله: ((مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)) بقوله: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، فهذا دليل كفره وتكذيبه بالغيب. ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))، أي: كائنة آتية، ((وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) إقساماً منه على أنه حتى وإن رد إلى ربه يوم القيامة -على التسليم بوقوعه- فكما أكرمني الله سبحانه وتعالى في الدنيا فلابد أن يكرمني في الآخرة، فهو يقول لصاحبه: حتى لو كان كلامك صحيحاً وأننا سنبعث وننشر ونرد إلى الله، لأجدن في الآخرة خيراً من جنتي هذه في الدنيا؛ تمنياً على الله، وادعاء لكرامته عليه، ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا باستحقاقه واستئهاله، وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه، وكما استحق ذلك في الدنيا فلابد أن يملك هذه الأهلية وهذا الاستحقاق للإكرام في الآخرة. وهذا بلاك شك من ضعف عقله، كما قال تبارك وتعالى {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15] كما قال هذا، {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ} [الفجر:16]: امتحنه {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16]، وليس الأمر كما تظنون، فليس كل من أعطيه وأكرمه أكون قد أكرمته بالفعل، وليس كل من امتحنته وابتليته أكون قد أهنته؛ لكن أبتلي هذا بالنعم لأنظر أيشكر أم يكفر؟ وأبتلي هذا بالنقم لأنظر أيصبر أم يجزع؟ فهذه ألوان متعددة من العبودية لله سبحانه وتعالى، فهذا ظن أنه نال هذه الأشياء عن جدارة، وأن له أهلية واستحقاقاً لنعمة الله دنيا وأخرى. قال تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، ومثل هذا من يسيطر عليه تصور كيف أن أمريكا والأمريكان وأهل الغرب الآن في تقلبهم في البلاد واغترارهم بالدنيا وزخرفها، وتعاليهم في البنيان، واهتمامهم بزخرفة الدنيا، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، فأصبحوا في حالة اغترار يفوق الوصف بما هم عليه من التقلب في البلاد، ومن إملاء الله عز وجل لهم، ومن ابتلائهم بالنعم وهم يزدادون في العتو والكفران. وقول الله عن الكافر أيضاً: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:77 - 78]. وقوله: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]، أي: مرجعاً وعاقبة، فكفر بالقول بقدم العالم، ((ما أظن أن تبيد هذه أبداً))، كذلك كان ينفي حشر الأجساد، ((وما أظن الساعة قائمة)) وهذا أيضاً كفر، واعتقد عكس الجزاء لما قال: ((لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا)) والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته، وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة، وكأنه ينسب إلى الله سبحانه أنه غير قادر على البعث والنشور، والقول بعكس الجزاء ينفي الحكمة الإلهية، ومع ذلك فهو ينتظر أن يثاب على الكفر بما هو الأحسن والحسنى وبما هو أفضل وأعظم، فهذا بلا شك أيضاً ينافي حكمة الله سبحانه وتعالى لأن الجزاء من جنس العمل، فكيف يكفر بالله بهذه الصورة وينتظر أن يثاب على كفره في الآخرة؟! فهذا عكس الجزاء، وهو ينافي الحكمة الإلهية.

تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه فلن تستطيع له طلبا)

تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه فلن تستطيع له طلباً) يقول تبارك وتعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:37 - 41]. ((قال له صاحبه)) الذي عيره بالفقر، وقال له وهو يعيره بما يستحق أن يعير به، فهو يعيره بالفقر وهذا لا يد له فيه، والفقر ليس مما يعير به لأن المال غاد ورائح، فرد عليه وعيره بالكفر، فقال: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)). وقوله: ((وهو يحاوره)) أي: يراجعه كلام التعيير على الفقر وفي سياق الإنكار عليه في هذا المسلك: ((أكفرت بالذي خلقك من تراب)) فجعل التراب نباتاً، ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة، (ثم سواك رجلاً)، أي: كملك وعدلك فكنت إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال. قال أبو السعود: والتعبير عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة لإنكار الكفر. يعني: لم يقل تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالله)، بل آثر النص الكريم استعمال لفظ (الذي)؛ لأن (الذي) ستأتي بعده صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وفعل مهم له تعلق أساسي بهذا الموضوع، يشعر بعلية ما في حيز الصفة لإنكار الكفر، يعني: إنما أنكر عليك الكفر لأنك كفرت بالله وقد خلقك من تراب، ثم من نطفة، ثم سواك رجلاً، والتلويح بدليل البعث الذي وافق به قوله عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5] إلى آخره، فهو يريد في هذا السياق استعمال الاسم الموصول بدل لفظ الجلالة الصريح لإنكار الكفر عليه. ثانياً: للتلويح بدليل البعث والنشور؛ لأن الله إذا كان هو الذي خلقنا من تراب فإنه سبحانه وتعالى أقدر على أن يبعثنا بعد أن نموت ونصير تراباً، كما قد صرح به تعالى في قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، وكما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ) [البقرة:28]. قال ابن كثير: أي: كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه؛ فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوماً ثم وجد، وليس وجوده من نفسه، ولا مستنداً إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته. أي: كيف يستند وجوده إلى موجود مثله؟! وهو مثله عاجز عن أن يفعل ذلك. قال: فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، ولهذا قال المؤمن: ((لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا))، أي: لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية، ((ولا أشرك بربي أحداً)) أي: بل هو الله المعبود وحده لا شريك له من العلويات والسفليات، لا أحد من والسماوات ولا من الأرضين. وقرأ ابن عامر (لكنا) بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، وقرأ حفص بحذفها وصلاً وبإثباتها وقفاً، فالوقف أصله لكن أنا، فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار (لكن) ثم ألحق ألف إجراء للوصل مجرى الوقف، لأن الوقف على (أنا) بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل (لكن أنا) وبغيرها يلزم اللبس بينها وبين (لكنَّ) المشددة. قال الزمخشري: ونحوه قول القائل: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي أي: أنا لا أقليك، والقلى هو الهجر، ومنه قول الآخر: ولو كنت ضبياً عرفت قرابتي ولكنّ زنجي عظيم المشافر يعني: ولكن أنا زندي عظيم المكاسر.

تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله)

تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله) يقول تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]. ((ولولا)) يعني: هلا قلت عند دخولها هذا الذكر: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. قال الزمخشري: يجوز أن تكون (ما) موصولة، يعني: الأمر ما شاء الله، أو: شرطية منصوبة بالموضع، والجزاء محذوف، بمعنى: أي شيء شاء الله كان، والمعنى: هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها: الأمر ما شاء الله؛ اعترافاً بأنها وكل خير فيها إنما حصل بمشيئة الله وفضله، وأن أمرها بيده إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها، وقلت أيضاً بجانب ما شاء الله: لا قوة إلا بالله؛ إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتسديد أمرها إنما هو بمعونته وتأييده، فالله هو من يعمر هاتين الجنتين ويدبر أمرهما لا بحولي وفضلي، ولا حول ولا قوة إلا بالله عز وجل، وإنما تم ذلك بمعونته سبحانه وتعالى وتأييده. إذاً: لا يقوى أحد في بدنه ولا ملك يده إلا بالله تعالى، والقصد من الجملتين: التبرؤ من الحول والقوة، وإسناد ما أوتيت إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر لا يبعد أن ينعكس عليه، يعني: أنت تعيرني بالفقر وأنت لا تأمن أن يعاقبك الله بفقر أشد منه؛ فإن الأمر كله لله عز وجل، فقال له: ((إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا))، يعني: إن اغتررت بأن رأيتني أقل منك مالاً وولداً فعيرتني بالفقر، ((فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ))، في الدنيا ((وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا))، يعني: مقداراً قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية، ((فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا))، أي: تراباً أملس لا تثبت فيها قدم لملاستها. ((أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا))، أو يهلكها لا بآفات عليا كالحسبان، وإنما يهلكها بآفة من جهة الأرض بأن يصبح ماؤها غائراً في الأرض، ((فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)) أي: حيلة تدركه بها بالحفر أو بغيره. وقوله تعالى: (إن ترن)، وقوله: (أن يؤتين) رسم بدون ياء؛ لأنها من ياءات الزوائد، وأما في النطق فبعضهم يثبتها وبعضهم يحذفها، وهذا يبين لنا أن القرآن يؤخذ بالمشافهة؛ لأنه في الحالتين تكتب في المصحف بدون ياء، لكن من حيث القراءة فهناك قراءة بإثبات الياء وأخرى بحذف الياء.

تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره وما كان منتصرا)

تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره وما كان منتصراً) {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:42 - 43]. ((وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ))، أي: بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة، وأصله من أحاط به العدو؛ لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه، ثم استعمل في كل إهلاك، ومنها قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66]، ومثله قوله: أتى عليه: إذا أهلكه، وأصلها: أتى عليه العدو إذا جاءه مستعلياً عليه. وشبه إهلاك جنتين بما فيهما بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج منهم أحد. ((فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا))، أي: فعير هو نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه، فعاد بالحسرة والتلوم والتندم، ومن شدة حسرته ظل يقلب كفيه على ما أنفق فيها. قال الزمخشري: تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر، لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن، كما كني عن ذلك بعضّ الكف، وكذلك سقوط اليد {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:149]، ولأنه في معنى الندم عدي بتعديته بعلى، أي: ((فأصبح يقلب كفيه)) ندماً ((على ما أنفق فيها))، كأنه قيل: أصبح يندم على ما أنفق فيها وفي عمارتها، فيكون ظرفاً لغواً ويجوز كونه ظرفاً مستقراً. والمقصود أنه كان متحسراً، والتحسر هو الحزن، وهو أخص من الندم؛ لأنه الغم على ما فات. ((وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)) أي: ساقطة عليها، والعروش: جمع عرش وهو ما يبنى ليوضع عليه شيء، فإذا سقط سقط ما عليه، يعني: أن كرومها المعروشة سقطت عن الأرض، وسقطت ومن فوقها كروم العنب بحيث قاربت أن تصير -صعيداً زلقاً- تراباً أملس. ((وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا))، يعني: من الأوثان، وذلك أنه تذكر موعظة أخيه؛ فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه، فتمنى لو لم يكن مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه. ((وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ))، لم تكن له منعة وقوم، ((يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أي: يقدرون على نصرته من دون الله كما افتخر بهم واستعز على صاحبه، كان يقول: أنا ذو الحسب والنسب، وأنا صاحب الحشم والخدم، {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] فما نفعه أحد من هؤلاء النفر، ولم تعد له فئة بعد ما كان يبطر ينصرونه من دون الله ((وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا)) يعني: ما كان ممتنعاً بنفسه وقوته عن انتقام الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (هنالك الولاية لله الحق)

تفسير قوله تعالى: (هنالك الولاية لله الحق) {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44] ((هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا))، أي: في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك هنالك ((الولاية)) أي: النصرة ((لله)) وحده لا يقدر عليها أحد غيره، فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: ((ولم تكن لهم فئة ينصرونه)) بمعنى: أن الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على المشركين، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدق قوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف:40]، ويعضده قوله تعالى: ((هو خير ثواباً وخير عقباً))، أي: لأوليائه، فلا ينقص لمؤمن درجة لدناءته في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئت ((الولاية)) بكسر الواو، بمعنى السلطان والملك، أما (الولاية) بفتح الواو النصرة، فعلى الأولى يكون المعنى: هنالك السلطان له والملك فلا يغلب ولا يمتنع منه، وعلى الثانية: أنه في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر؛ لأن هذا الرجل قال: ((يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا))، ففي هذه الحالة تاب وعاد إلى الله سبحانه وتعالى، فهذه كلمة ألجئ إليها فقالها لما اضطر إليها بعد مجهود، فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره، ولولا ذلك لم يقلها، وهذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر:84]، وكقوله إخباراً عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:90 - 91]. أو أن قوله تعالى (هنالك الولاية) إشارة إلى الآخرة، أي: في تلك الدار تكون الولاية لله تعالى، كقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، ويناسبه قوله: ((هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا))، و (هنالك) على الأوجه المتقدمة يكون خبراً متقدماً، والولاية: مبتدأ مؤخراً، والوقف على (منتصراً). ((هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ)) قرئت (الحق) بالرفع صفة للولاية، وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المذكور والعامل مقدر، وبالجر كما هي قراءة حفص عن عاصم صفة للفظ الجلالة. ((هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)) قرأ بسكون القاف وضمها وهما: العاقبة.

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا) قال سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]. ((واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)) أي: اذكر لهم ما يشبه هذه الدنيا في زخرفها وسرعة زوالها. ((كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض)) أي: فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً، فشب وحسن وعلاه الزهر والنور ((فأصبح هشيماً)) بعدما كان في حالة الزهو أصبح جافاً يابساً مكسوراً، ((تذروه الرياح)) تفرقه وتنفثه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها؛ فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل في النبات من شرف النمو ثم يزولون زوال النبات، ((وكان الله على كل شيء مقتدراً)) أي: على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهى المثل وأبدعها ضرب كثيراً في التنزيل، كقوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ) [يونس:24]، وقال تعالى أيضاً في سورة الزمر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) [الزمر:21]، وفي الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] إلى آخر الآية.

تفسير قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الدنيا، فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]. ((المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) وذلك لإعانتها فيها ووجود الشرف بهما، ثم أشار أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخروي؛ إذ لا يحتاج فيها إليهما في الآخرة، أما في الدنيا فهما ترف وزينة، لأن المال والبنين يعاونان صاحبهما، لكن هذا ليس من أسباب الشرف الأخروي، فقال عز وجل: ((والباقيات الصالحات)) أي: المال والبنون لا يبقيان وهما زينة الحياة الدنيا ومصيرهما مصير الحياة الدنيا الذي بينه في الآية السابقة، لكن الباقيات الصالحات خير منهما، ((عند ربك ثواباً وخير أملاً)) أي: الأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات خير عند ربك من المال والبنين في الجزاء والفائدة، وخير مما يتعلق بهما من الأمل؛ فإن ما ينال بالمال والولد أو البنين من الآمال والإنجازات في الدنيا غايتها أنها تكون إلى زوال، أما ما ينال من الآمال في الأعمال الصالحات فإنه باق، يقول: وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الرباني والنعيم الأبدي لا يزول ولا يحول. وقدم المال على البنين لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد، يعني: المال عنصر عريق وعنصر أساسي بما يربط به من الزينة والإمداد، ولكون الحاجة إليه ماسة؛ ولأن المال زينة ولو بدون بنين، وقد يوجد رجل عنده بنون بدون مال فلا يكون زينة، ولكن إذا كان المال قد يكون زينة لصاحبه ولو لم يكن هناك بنون، ولذلك قدم ذكر المال على البنين. وأفردت الزينة، مع أنها مسندة إلى الاثنين لأنها مصدر في الأصل أطلق على المفعول مبالغة، وإضافتها إلى الحياة اختصاصية؛ لأن زينتها مختصة بها. وقال: ((الباقيات الصالحات)) ولم يقل: (الأعمال التي تبقى)، وكأن الأمر مفروغ منه، وللإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه، بل لفظ: ((الباقيات)) اسم لها لا وصف، ولذلك لم يذكر الموصوف، وإنما يحتاج إلى التعرض لخيريتها. وقال: ((والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً))، فكرر (خير) للإشعار باختلاف حيثيتين. أي: الخيرية والمبالغة مع زيادة. ووقع في كلام السلف تفسير الباقيات الصالحات: بالصلوات والأعمال الحسنة والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، أي: الكلام الطيب، وبغيرهما مما روي مرفوعاً وموقوفاً، والمرفوع من ذلك كله لم يخرج في الصحيحين، وكله على طريق التمثيل، واللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده. يعني: لا تعارض بين العموم التي ذكرناه في تفسير الباقيات الصالحات وبين الخصوص الوارد في بعض الأحاديث على أنه من أفرادها، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات من الجانبين، وهن الباقيات الصالحات)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال ولا يظلم ربك أحدا)

تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال ولا يظلم ربك أحداً) {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49]. أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة التي هي الوعد الحق، والفيصل الصدق بقوله سبحانه: ((وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)). ((ويوم نسير الجبال)) أي: اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو أو نيسر أجزاءها بعد أن نجعلها هباءً منثوراً، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل:88]. ((وترى الأرض بارزة)) لبروز ما تحت الجبال، أي: ظهورها بنفسها وبروز ما عداها بزوال الجبال والكهوف حتى تبدو للعيان سطحاً مستوياً لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك. ((وحشرناهم)) أي: جمعناهم إلى موقف الحساب. ((فلم نغادر منهم أحداً)) يعني: لم نترك منهم أحداً، لا صغيراً ولا كبيراً، كما قال: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، وقال عز وجل: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]. ((وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا))، أي: مصطفين مترتبين في المواقف لا يزحم بعضهم بعضاً كل في رتبته، وقال أبو السعود (صفاً)، أي: لا متفرقين ولا مختلطين، فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده، وإنما المقصود غير متفرقين ولا مختلطين. قال الزمخشري: شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان مصطفين ظاهرين، يرى جماعتهم كما يرى كل واحد، لا يحجب أحد أحداً. ((لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ))، يعني: بلا مال ولا بنين وخلفتكم وراءكم هذه الزينة، وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} [الأنعام:94]، أي تركتم ما أعطيناكم وراء ظهوركم. أو: لقد بعثناكم وجئنا بكم كما خلقناكم وأنشأناكم في أول مرة، والكلام فيه تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد، بل زعمتم بإنكاركم البعث: ((أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا)) أي: وقتاً لإنجاز ما وعدناكم من البعث والنشور والحساب والجزاء. (وبل) للخروج من قصة إلى أخرى، فالإضراب انتقالي لا إبطالي، والإضراب الإبطالي لإضراب ما بعدها عما قبلها، فيكون فيه إبطال ما قبلها، تقول: جاء محمد بل علي، أما الانتقالي فيستعمل للخروج من قصة إلى أخرى وهو المذكور هنا، {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:48]. ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ))، أي: صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق. ((فترى المجرمين مشفقين)) خائفين أن يفتضحوا ((مما فيه)) أي: من أعمالهم السيئة المسطرة. ((وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا))، يعني: يا هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمالنا. قال القاشاني: يدعون الهلكة التي هلكوا بها من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة. ((مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)) أي: أي شأن حصل لهذا الكتاب؛ فلا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً إلا ضبطه وحفظه؟ والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي وعده مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها. يقول البقاعي رحمه الله تعالى: (إن لام الجر رسمت مفصولة) هذا من علم تدوين المصحف الشريف، والطريقة التي حفظ بها القرآن سواء من حيث حفظه بالسطور أو بالصدور آية من آيات الله سبحانه، ولا يعقلها إلا العالمون. يقول البقاعي رحمه الله تعالى: وهذه إشارة إلى أنه لشدة الكرب يقفون على بعض الكلم، ويقطعون الكلمة من شدة الخوف والفزع، وهذا من لطائفه رحمه الله تعالى. وهذه اللطيفة لها نظائر كثيرة في القرآن، وضبط رسم المصحف له كثير من الحكم كما وقفنا عليه في هذا الموطن. ((مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا))، كل شيء فعله الإنسان سوف يجده مدوناً حتى فتاته في الطين، وسوف يسأل عن هذا: لم فعلت ذلك؟ قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30]، وقال عز وجل: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13]. ((وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))، فالله سبحانه وتعالى منزه عن الظلم، ولا يقع منه ظلم أبداً، فلن يكتب على الإنسان شيئاً لم يعمله، ولن يزيد في عقابه الذي يستحقه.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. ثم أشار تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان وإيثاره على الرحمن، والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق، فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. ((كان من الجن)) العتاة المردة الشياطين. ((ففسق عن أمر ربه)) خرج عن طاعته. ((أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو)) أي: فتستبدلونهم بي؛ فتطيعونهم بدل طاعتي وهم لكم عدو يبغون بكم الغوائل، ويوردونكم المهالك. وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتباعه وطاعته، ولهذا قال تعالى: ((بئس للظالمين بدلاً)) أي: بئس للظالمين الواضعين شيئاً في غير موضعه؛ لأن العدو ينبغي أن يتخذ عدواً، أما أن تتخذ العدو ولياً، وتجافي وتعادي الولي الحقيقي الذي هو الله سبحانه وتعالى، فـ (بئس للظالمين بدلاً)، يعني: بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته. قال ابن كثير: وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس:59 - 60]. كذلك هنا في الآية السابقة بعدما بين الله سبحانه وتعالى حال الناس حينما يرون أعمالهم: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الكهف:49 - 50]، إلى قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. في سورة يس قال عز وجل: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:55 - 59]، ثم قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62].

تفسير قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض) قال سبحانه وتعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]. استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة عنصره وأصله والفسق والعداوة. يعني: أن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يستأنف كلاماً يبين فيه أن إبليس وذريته لا يستحقون أن نتخذهم أولياء، ففي الآية السابقة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ} [الكهف:50]، ثم يبين حيثيات ذلك، فيقول تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51]، فقد بين أولاً الصوارف عن اتخاذ الشيطان ولياً، وهي: خباثة عنصره وأصله، والفسق والعداوة، {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فهذه الصوارف بين فيها أنهم لا يستحقون الولاية، وينبغي أن ننصرف عن طاعتهم لأجل هذه الصوارف التي ذكر. وقوله: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)) يعني: أين كان إبليس وذريته الذين تطيعونهم في معصيتي وتوالونهم من دوني يوم خلقت السماوات والأرض؟! بل أين هم يوم خلقتهم؟! هل أعانني أحد منهم حتى يستحق أن يكون شريكاً لي في الطاعة والانقياد؟! يعني: هؤلاء مخلوقون مربوبون مقهورون لا يستحقون أن تطيعوهم في معصيتي، ولا أن تتخذوهم أولياء من دوني، ولا أن تعبدوهم من دوني؛ لأن هؤلاء كانوا عدماً ثم خلقتهم، فلم أحتج إلى معاونتهم، وليسوا شركاء لي في خلقي. يقول رحمه الله تعالى: أي: ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض حين خلقتها، ((ولا خلق أنفسهم)) أي: وما أشهدت بعضهم أيضاً خلق بعض منهم، ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر، وهذا أبلغ. ((ما أشهدتهم)) المقصود بها: أنني لم أحتج إلى مساعدتهم ولم يعضدوني، لأني غني عن خلقي، وتأمل أيضاً قوله: ((ولا خلق أنفسهم)) إشارة إلى أنهم مخلوقات، فكيف تعبدون المخلوق وتذرون الخالق؟! فمن لم يشهد فأنى يستعان به، وأنى يصح جعله شريكاً؟! فهل يتصور أن الغائب عند خلق السماوات والأرض يمكن أن يستعان به؟! ثم إذا كان غائباً ولم يستعن به فأنى يصح جعله شريكاً لله؟! لا يصح أن يكون شريكاً لله عز وجل. ولذلك قال عز وجل: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، أي: وما كنت متخذهم أعواناً لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير، أي: وإذا لم يكونوا عضداً في الخلق فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟! واستحقاق العبادة من توابع الخالقية، يعني: الذي يستحق العبادة هو الذي يكون قد خلق، والاشتراك فيها يستلزم الاشتراك فيها، والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير وهم المضلون، فلا يكونون أرباباً، وإنما وضع المضلين موضع الضمير ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال، وتأكيداً لما سبق من الإنكار في اتخاذهم أولياء، أي أنه قال: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا))، ولم يقل: وما كنت متخذهم عضداً؛ لأن استعمال الصفة الظاهرة مكان الضمير فيه إبراز صفة الضلال، وإذا كانوا مضلين ففي هذه الحالة أيضاً لا يستحقون ذلك الاتخاذ كما أشار. ونحو هذه الآية قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23].

تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم) يقول تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52]. ((ويوم يقول)) الحق تبارك وتعالى، ((نادوا شركائي الذين زعمتم)) في دار الدنيا أنهم شركاء؛ لينقذوكم مما أنتم فيه، ويقال لهم ذلك على رءوس الأشهاد تقريعاً وتوبيخاً لهم. ((فدعوهم)) نادوا هذه الآلهة، فمنهم من ينادي اللات، ومنهم من ينادي العزى؛ كل ينادي الإله الذي عبده من دون الله، أي: نادوهم طالبين منهم الإعانة لبقاء اعتقاد شركهم، يعني: أنهم ما زالوا على الشرك. ((فلم يستجيبوا لهم)) أي: فلم يعينوهم؛ لعجزهم عن الجواب فضلاً عن الإعانة. وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم، يعني أن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((فدعوهم فلم يستجيبوا لهم)) وهذا أمر ظاهر أنهم إذا دعوهم في ذلك اليوم فلن يستجيبوا لهم ولن ينفعوهم وإنما أبرزه وأظهره في الآية تهكماً بهم، وإيذاناً بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به. ((وجعلنا بينهم)) أي: بين الكفار وآلهتهم، ((موبقاً)) أي: مهلكاً يشتركون فيه جميعاً وهو النار، أو: عداوة هي في الشدة نفس الهلاك، فعبر عن العداوة بالهلاك، كقول عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً، أي: إذا أحببت فلا تبالغ في المحبة، وتتعلق بمن تحب، ثم إذا انقلبت على الجانب الآخر تكون مبالغاً أيضاً في العداوة، حتى إنها تتفق في التلف والفساد بينكما. وعلاقة قول عمر بتفسير: ((موبقا)) أن التفسير الثاني لها يعني: مهلكاً يشتركون فيه وهو النار. كما كان هؤلاء يحبون آلهتهم في الدنيا ويكلفون ويتعلقون بهم، لكن في الآخرة حينما يبغضونهم يبغضونهم بغضاً مهلكا، ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]، أي: أعداء لهم، كما قال تبارك وتعالى في سورة العنكبوت: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25]، بالروح والدم نفديك يا فلان، ويكتبون له لوحة تأييد بالدم -ولعله دم المرضى والمساكين- ثم يوم القيامة: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]، يقول تعالى: ((وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا)) * ((كَلَّا)) فالذين تبحثون في جنابهم عن العز سوف ينقلبون عليكم، وسيتبرءون منكم يوم القيامة، ((وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)). قال ابن كثير: وأما إن جعل الضمير في قوله تعالى ((بينهم)) عائداً إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به. يعني يحتمل أن قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا)) يعني: بين الكافرين وبين آلهتهم. هذا قول. وقول آخر: فصلنا المؤمنين عن الكافرين وميزناهم، كما قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: انفصلوا لا تختلطوا بالمؤمنين، فهذا تفسير آخر، فهو كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، وقال عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، وقال: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَينَهُم} [يونس:28] أي: فصلناهم، وقال تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:30].

تفسير قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار أكثر شيء جدلا)

تفسير قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار أكثر شيء جدلاً) يقول سبحانه وتعالى {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:53 - 54]. ((ورأى المجرمون النار)) أي: جهنم المحيطة بأنواع الهلاك، ووضع المبهم مقام المضمر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك. أي: فتكلم على هؤلاء الكافرين فلم يقل: (ورأوا النار) وإنما قال: ((ورأى المجرمون النار)) فإظهار وإبراز كلمة (المجرمون) فيه تصريح بالصفة التي يعرف أنهم يستحقون بسببها هذا المصير. ((فظنوا أنهم مواقعوها)) أي أيقنوا بأنهم واقعون فيها. ((ولم يجدوا عنها مصرفاً)) أي: معدلاً ينصرفون إليه، إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن؛ فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب مقدر وحاضر غير مؤجل، ومجرد توقع العذاب لا شك أنه في حد ذاته عذاب، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال للرجل الذي أراد أن يذبح شاة فقعد يسن السكين أمام أختها: (أتريد أن تميتها موتتين)، فكيف بالبشر؟ فهذا الانتظار وهذا العناء في حد ذاته عذاب معجل. ثم يقول سبحانه وتعالى: ((وَلَقَدْ صَرَّفْنَا))، أي: "نوعنا في هذا القرآن: الجامع للمهمات وأنواع السعادات لمصلحة الناس ومنفعتهم ((من كل مثل)) يركز على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به. ((وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا))، أي: مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.

تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا وجعلنا لمهلكهم موعدا)

تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا وجعلنا لمهلكهم موعداً) ثم يقول تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:55 - 59]. ((وما منع الناس)) أي: أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم. ((أن يؤمنوا)) أي: من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك. ((إذ جاءهم الهدى)) القرآن والحق الواضح النير، ((ويستغفروا ربهم)) عن المعاصي السالفة. ((إلا أن تأتيهم سنة الأولين)) يعني: إلا أنهم كانوا يطلبون إتيان سنة الأولين، أو انتظار إتيان سنة الأولين وهي عذاب الاستئصال. ((أو يأتيهم العذاب قبلاً)) أي: يرونه عياناً ومواجهة، وهو عذاب الآخرة أو أعم، والقبل بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قِبَلاً) أو (قُبُلاً)، جمع قبيل بمعنى: أنواعاً مختلفة، وقرأ بفتحتين ((أو يأتيهم العذاب قَبَلًا)) أي: مستقبلاً. ((وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)) أي: وما نرسلهم قبل إنزال العذاب إلا لتبشير من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى. ((ويجادل الذين كفروا بالباطل)) يجادلون ويقترحون آيات، ((ليدحضوا به الحق)) أي: ليزيلوا بالجدال الحق الثابت عن مقره، وليس ذلك بحاصل لهم. وأصل الإدحاض: إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها، فاستعير من زلل القدم المحسوس لإزالة الحق المعقول. قال الشهاب: ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره، وأنشد لنفسه: أتانا بوحل لإنكاره ليزلق أقدام هذي الحجج فكأن كلامهم وجدالهم مثل الوحل يضعوه أمام الحق حتى يزيلوه عن مكانه، لكن الحق ثابت مستقر لا يؤثر فيه ذلك. ((وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا)). (ما) إما مصدرية، يعني: واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزواً، أو (ما) موصولة، يعني: واتخذوا الذي أنذروا به من العقاب هزوا، أي: استهزاءاً وسخرية، وهو أشد التكذيب، حيث وصف بالمصدر مبالغة. ثم يقول تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا))، كناية عن عدم تدبرها والاستعاض بها بأبلغ أسلوب. ((ونسي ما قدمت يداه)) أي: ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به عليه إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك. ((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ))، أي: جعلنا عليها حجباً وأغطية كثيرة كراهة أن يفقهوه، أي: يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله. ((وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)) أي: وجعلنا فيها ثقلاً يمنعهم من استماعه، والجملة تعريض بإعراضهم ونسيانهم. يعني: فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه لأنا ((إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا))، فالجملة تعريض بأن إعراضهم ونسيانهم مطبوعان على قلوبهم، وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. ((وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا))، أي: فما يكون منهم اهتداء البتة. وقوله: ((وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا))، والآيات في هذا المعنى كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:6]. ((وربك الغفور ذو الرحمة)) ربك: مبتدأ، والغفور: خبره، وقدم الوصف بالمغفرة على الرحمة لأنه أهم بحسب الحال، والمقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استحقاقهم له كما يعرب عنه قوله: ((لو يؤاخذهم بما كسبوا)) والموعد المذكور هو بدر، أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات، أو يوم القيامة، والكل لاحق بهم، يعني أن الله لم يعجل لهم العذاب، ((بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً)) محيصاً أو مفراً أو ملجأ أو منجى. قوله: ((وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)). ((وتلك القرى)) قرى عاد وثمود وأضرابهم، ((أهلكناهم لما ظلموا)) بالكفر والطغيان. ((وجعلنا لمهلكهم موعداً)) وقتاً معيناً لا محيد لهم عنه، وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب، أي: إن تأخر عنكم العذاب فلا تستعجلوا فهناك موعد لابد أنه آتيكم.

الكهف [60 - 64]

تفسير سورة الكهف [60 - 64]

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه من سفرنا هذا نصبا)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه من سفرنا هذا نصباً) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:60 - 62]. بعدما قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57]، أشار عز وجل إلى نبأ موسى مع الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة ما لا يخفى على متبصر كما ستقف على شذرات من ذلك، وسنلاحظ كيف أن الإنسان إذا فقه معنى الآيات، والتفت إلى النصائح والنكت البلاغية الموجودة في عبارات القرآن الكريم، فهذا مما يعينه على الحفظ، كما سنضرب أمثلة لذلك. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]. أي: اذكر وقت قول موسى لفتاه: ((لا أبرح))، أي: لا أزال أسير، ((حتى أبلغ مجمع البحرين))، أي: المكان الذي فيه ملتقى البحرين فألقى فيه الخضر، أو: أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة فأتيقن فوات المطلوب، (حتى أبلغ مجمع البحرين)، لماذا؟ لأن هذا هو المكان الذي وعده الله سبحانه وتعالى أن يلتقي فيه بالخضر، ويناسب هنا أن نذكر سبب هذه القصة؛ لأنه يعيننا على فهمها.

ذكر حديث قصة الخضر وموسى

ذكر حديث قصة الخضر وموسى روى البخاري في باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام بسنده عن سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس: (إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله)، وهذا من التغليظ في الفتوى، وليس المقصود أنه عدو لله فعلاً، ولكن هذا اجتهاد منه وهو مخطئ فيه بلا شك، لكن هذا من التغليظ والتشديد على من يتجاسر عن القول بغير علم. ثم قال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فكيف لي به؟) انظر إلى همة موسى لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ولو في مجمع البحرين؛ حرص على أن يلتقي به كي يتعلم منه، فقال: (وربما قال سفيان: أي رب وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، وربما قال: فهو ثمة، فأخذ الحوت فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون)، وهذا تلميذ موسى عليه السلام، ولكن أطلق عليه (فتاه) إشارة إلى أن المتعلم كالعبد بين يدي العالم، والعالم كأنه سيد له، فعبر عنه بالفتى التي يعبر بها عن العبد إشارة إلى موقع التلميذ من شيخه وأستاذه. (حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق)، (مثل الطاق) يعني: الماء كأنه تجمد وأمسك عن الجري، وصار على الحوت مثل نفق مائي داخل البحر نفسه يجري فيه الحوت، وما عدا ذلك أمسك الله جري الماء عنه فأصبح الجزء الذي فيه الماء هو عبارة عن نفق مائي يجري فيه هذا الحوت. يقول: (فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما حتى إذا كان من الغد قال لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوزا المكان الذي أمره الله به)، يعني: موسى عليه السلام في هذا السفر السعيد الطويل لم يشعر بالنصب ولم يجد تعباً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقوي ويمد بعون ومدد من عنده من خرج في طلب العلم أو ابتغاء مرضاته، كما أن الشهيد لا يجد من الجرح الذي يجرحه إلا مثل ما يجد من القرصة، فلم يشعر موسى بالتعب إلا من بعد أن جاوز المكان الذي أمر به، وهو هذه الصخرة التي فقد عندها الحوت دون أن يشعر. (فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً، فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً، فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً -مغطى بثوب- فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم) هذا هو الشاهد على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل وليس ثمة موسى آخر كما زعم نوف البكالي. قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل! قال: نعم. أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه إلى قوله: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم السفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول -بغير أجرة- وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، إذ أخذ الفأس فنزع لوحاً فجأة، قال: فلم يرجع موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً، فكانت الأولى من موسى نسياناً، فلما خرجا من البحر مرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فخلعه بيده هكذا -فأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً- فقال له موسى: قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه -قال: مائلاً، وأومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً إلا مرة- قال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما، قال سفيان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ليرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما)، وقرأ ابن عباس: (أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً)، (وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين)، ثم قال لي سفيان: سمعت منه مرتين وحفظته منه، فهذه القراءة قراءة تفسيرية، قيل لـ سفيان: حفظته قبل أن تسمعه من عمرو أو تحفظته من إنسان، قال: ممن أتحفظه؟! ورواه أحد عن عمرو غيري، سمعت منه مرتين أو ثلاثاً وحفظته منه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي الخضر -بكسر الضاد- لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء)، هذا فيما يتعلق بالحديث الوارد في هذه القصة.

تفسير مفردات قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه)

تفسير مفردات قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه) ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} لا أزال أسير وأمشي إلى أن أبلغ المكان الذي وعدني الله، ((أو أمضي حقباً)) يعني: إما أن أذهب إلى ملتقى البحرين فأجد فيه الخضر، أو أظل أسير زماناً طويلاً إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلوب. قال المهايمي: ((وإذا قال موسى)) أي: اذكر للذين ((إن تدعهم للهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً)) لتكبرهم عليك: أنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه، ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم؛ لأنها هداية في الظاهر والباطن، وهداية الخضر إنما هي في الباطن، ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق كما احتاج إليه موسى. (وإذ قال موسى لفتاه) والفتى: الشاب، كما في قوله: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء:60] شاباً، وقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] يعني: شباباً. قال الشهاب: العرب تسمي الخادم فتى؛ لأن الغالب هو استخدام من هو في سن الفتوة، وكان يوشع خادم موسى عليه السلام، ومحباً له، وذا غيرة على كرامته، ولذلك اختصه موسى رفيقاً له وخادماً, وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل، وفتح الله تعالى بيت المقدس عليه ونصره على الجبارين. ((فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا))، أي: مجمع البحرين، ((نَسِيَا حُوتَهُمَا))، أي: خبر حوتهما وتفقد أمره، وكانا تزوداه وأخذا الحوت في المكتل، ولما بلغا مجمع البحرين لم يطمئنا على أن الحوت معهما ونسيا هذا الحوت، ((فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ)) أي: طريقه في البحر، ((سرباً)) أي: مثل السرب في الأرض، وهو المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب. ((فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)). ((فلما جاوزا)) يعني: مجمع بينهما، أي: جاوزا مجمع البحرين، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت، ((قال لفتاه آتنا غدائنا)) أي: ما نتغدى به، ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) تعباً ومشقة، وبينت السنة أن هذا النصب لم يلقه موسى وفتاه حتى جاوزا مجمع البحرين، ((قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ))، أي: فإني نسيت خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما: إما بمعنى نسيان طلبه والذهول عن تفقده لعدم الحاجة إليه، وإما للتغليب بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده، (نسيا حوتهما)، يعني: نسيا خبر حوتهما وتفقد أمره، وعلى قول آخر: أن النسيان هنا هو من يوشع بن نون؛ لأنه قال: (فإني نسيت الحوت)، نسب النسيان إلى نفسه، فإذاً: (نسيا) بالمثنى تغليباً -كما سنبين إن شاء الله تعالى- بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده؛ فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر المالح، ومع ذلك يمكن إطلاق أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من مجموع البحرين المالح والعذب تغليباً، وإن كان يخرج من أحدهما فيصدق عليه أنه يخرج منهما، كقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، فالرسل من مجموع الإنس والجن وإن كانت الرسل لا تكون إلا من الإنس. ((وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)) يعني: أن أذكره لك، وتعرب (أن أذكره) على أنها بدل من الهاء، يعني: وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وقرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلاً، والباقون بكسرها، ((واتخذ سبيله في البحر عجباً)) أي: أمراً عجيباً إذ صار الماء عليه سرباً. ((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ))، قال موسى: ((ذلك)) أي المكان الذي اتخذ فيه سبيله سرباً ((ما كنا نبغ)) أي: نطلب فيه الخبر؛ لأنه أمارة المطلوب، وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين وصلاً لا وقفاً؛ وبإثباتها في الحالين، وبحذفها كذلك. ((فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا))، أي: رجعا ماشيين على آثار أقدامها يتبعانها، ((قصصاً)) أي: اتباعاً لئلا يفوتهما الموضع ثانياً.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: ((فلما بلغا مجمعا بينهما نسيا حوتهما)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن موسى وفتاه نسيا حوتهما لما بلغا مجمع البحرين، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى؛ لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت، وهو الذي نسيه، وإنما أسند النسيان إليهما؛ لأن إطلاق المجموع مراداً بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب، وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي (فإن قَتَلُوكم فاقتلوهم). فلو قتلونا كلنا لم يبق منا أحد فيقتلهم؛ لكن المقصود: فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر. قال: والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:62 - 63]؛ لأن قول موسى: ((آتنا غداءنا)) يعني به الحوت، فهو يظن أن فتاه لم ينسه. كما قاله غير واحد، وقد صرح فتاه بأنه نسيه بقوله: ((فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره)). وفي قوله عز وجل: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42]، وبقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19]. وفتى موسى هو يوشع بن نون، والضمير في قوله تعالى: ((مجمع بينهما)) عائد إلى البحرين المذكورين في قوله تعالى: {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} [الكهف:60]، والمجمع: اسم مكان على القياس، أي: مكان اجتماعهما. والعلماء مختلفون في تعيين البحرين المذكورين، فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب القرظي: ((مجمع البحرين)) عند طنجة في أقصى بلاد المغرب. يعني: في المكان الذي يلتقي فيه البحر الأبيض بالمحيط الأطلنطي عند مضيق جبل طارق. وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر، وقال ابن عطية: مجمع البحرين ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه، وطرفيه مما يلي بر الشام. وقيل: هما بحر الأردن والقلزم. وعن ابن المبارك قال: قال بعضهم: بحر أرمينية، وعن أبي بن كعب قال: بإفريقيا، إلى غير ذلك من الأقوال، ومعلوم أن تعيين البحرين من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وليس في معرفته فائدة، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه. وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين: أن موسى لم يسافر إلى مجمع البحرين، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تأريخه، لأن الجغرافيا في هذا الوقت لم تكن معروفة، وهذا زعم في غاية الكذب والبطلان، ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى: ((فلما بلغا مجمع بينهما)) مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر، ولذا قال تعالى عن موسى: ((لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)) ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل؛ لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء، لاستحالة صدق النقيضين معاً. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وما أنسانيه إلا الشيطان)) قرأه عامة القراء ما عدا حفص ((أنسانيه إلا الشيطان)) وقرأه حفص عن عاصم ((أنسانيه)) بضم الهاء.

تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبدا من عبادنا)

تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا) قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]. أي: فأتيا الموضع المنسي فيه الحوت، ((فوجدا عبداً من عبادنا)) التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر، وسنتكلم على جملة من نبئه بعد تمام قصته -إن شاء الله- ((آتيناه رحمة من عندنا)) أي: آتيناه رحمة لدنية اختصصناه بها، ((وعلمناه من لدنا علماً)) أي: علماً جليلاً آثرناه، وهو علم لدني يكون بتأييد رباني. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبن هنا، هل هما رحمة النبوة وعلمه أو رحمة الولاية وعلمها؟ والعلماء مختلفون في الخضر هل هو نبي، أو رسول، أو ولي؟ كما قال الراجز: واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول وقيل: مَلَك أو مَلِك -فالكلمة غير مضبوطة- ولكن يفهم من بعض الآيات أنه هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة. الشنقيطي رحمه الله تعالى يرجح أن الخضر كان نبياً، وعليه فالعلم اللدني هنا المقصود به الوحي الذي يوحيه الله إلى الأنبياء، مع العلم أن الاستدلال بها على ذلك فيه مناقشات معروفة عند العلماء. يقول: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن الكريم. والمنهج الصحيح في التفسير هو تفسير القرآن بالقرآن أولاً، فنتحرى ونبحث عن مادة رحم أو رحمة في القرآن، فنجد أنها استعملت كثيراً في القرآن بمعنى النبوة. يقول رحمه الله: اعلم أولاً أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن، وكذلك العلم المؤتى من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي؛ فمن إطلاق الرحمة على النبوة: قوله تعالى في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32]-يريد بذلك النبوة، يعني: هل هم يقسمون رحمة ربك النبوة- أي: نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقوله تعالى في سورة الدخان: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:4 - 6]، وقوله تعالى في آخر القصص: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]. ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله وتعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68]. يعني: لما أوحينا إليه، وكذلك في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] أي: وحياً. فإذاً الرحمة هنا النبوة، والعلم هو علم النبوة والوحي. قال: ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، أي: وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولاسيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار بالوحي، فقال: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]. فإن قيل: قد يكون ذلك عن طريق الإلهام؟ ف A أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء لعدم العصمة، وعدم الدليل على الاستدلال به، بل ولوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به. الإلهام الذي يحصل للأولياء عند علماء الأصول مقرر أنه لا يجوز الاستدلال به، لا يوجد شيء اسمه ألهمت كذا وكذا، فيحكم ويدعي أن الله سبحانه وتعالى أحل أو شرع أو حرم على أساس الإلهام؛ لأن الإلهام ليس دليلاً شرعياً؛ لأن الولي ليس بمعصوم، وأيضاً لا يوجد دليل على صحة الاستدلال بالإلهام، بل يوجد الدليل على عدم جواز الاستدلال به. ثم يقول رحمه الله: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره. يعني أن بعض الصوفية يقول: الملهم يجوز له الاستدلال بالإلهام في حق نفسه لا في حق غيره من الناس. حتى هذه الدعوى لا تسلم له، وفي الحديث: (إنه قد كان في من قبلكم محدثون، وإن يكن منهم أحد فهو عمر رضي الله عنه)، فهل عمر في يوم من الأيام جاء في أي قضية خلافية بينه وبين الصحابة استدل بأنه محدث أو بأنه ملهم؟ ما استدل بذلك أبداً.

الرد على المتصوفة الذين يجعلون الإلهام حجة

الرد على المتصوفة الذين يجعلون الإلهام حجة يقول: وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره، وما يزعمه بعض الجبرية أيضاً من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره؛ جاعلين الإلهام كالوحي المسموع، مستدلين بظاهر قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، وبخبر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله)، كله باطل لا يعول عليه لعدم اعتضاده بدليل، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات. قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]. وقال تعالى في آخر سورة طه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:124]، وقال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، ولم يذكر الإلهام. إذاً: غير المعصوم لا ثقة بخواطره؛ لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان؛ لأنه غير معصوم، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرائع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، حتى أن بعض الضلال يزعم أنه يحكم على صحة الأحاديث بأن يعرضها على قلبه -بأحدث طريقة في تصحيح الأحاديث- كما كان يزعم الفرماوي الضال المضل، كان يعرض الحديث عليه، فيعرضه على قلبه حتى سموه وقتها، ألباني -بهمز العامية- يعني: قلباني، يصحح الحديث بالقلب المريض، فيعرض عليه الحديث ويقول: هذا قاله الرسول أم لم يقله؟ ثم يأتي بعض الضلال خاصة من الدجاجلة الذي دخلوا في موضوع الشعوذة والغلو في موضوع الجن، فكان بعضهم يزعم أن معه قرين النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أيضاً يعرض عليه الأحاديث، يأتي بحديث ويقول له: هل الرسول قاله فعلاً وهل كنت حاضراً وقتها؟ فيأتيه الخبر من هذا القرين المزعوم، فهذا كله عبث، وهذا كله ضلال مبين، فلماذا كان السفر وجهاد علماء الحديث؟ ولو هذا باباً صحيحاً لتلقي العلم منه، ولما سافر العلماء واغتربوا ورحلوا في طلب العلم، وسهروا الليالي وألفوا الكتب. يقول: وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات، والإلهام في الاصطلاح: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي، ولا نظر في حجة عقلية، يختص الله به من يشاء من خلقه، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم؛ لأنهم معصومون بخلاف غيرهم، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال: وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وينبذ الإلهام بالعراء، يعني: ارم موضوع إلهام الصوفية بالعراء، ولا تلتفت إليه. أعني به إلهام الأوليا: ليس بحجة شرعية. وقد رآه بعض من تصوفا: زعموا أنه حجة شرعية. وعصمة النبي توجب اقتفا، يريد أن يفرق بين إلهام الأنبياء وإلهام الأولياء، فإلهام الأولياء ليس فيه أي حجة، وإلهام الأنبياء هو الحجة؛ لأن عصمته توجب اقتفاء آثاره، وقبول الإلهام الذي يلهمه الله سبحانه وتعالى، فإلهام الأنبياء من الله سبحانه وتعالى صورة من صور الوحي، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها) إلى آخر الحديث. قال: وبالجملة: فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، وعلماء المالكية يقولون: يقتل فوراً ولا يستتاب. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ولم يقل: حتى نلقي في القلوب إلهاماً، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165]، فلو كان الوحي الذي يوحيه الله إلى الرسل غير كاف لبقي في الناس حجة في غير الرسل عن طريق إلهام الأولياء، لكن جعل الحجة فقط للرسل. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، والآيات والأحاديث في مثل هذا كثيرة جداً، وقد بينا طرفاً من ذلك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة. هذا الكلام يقوله بعض الصوفية الجهلة ويزعمون أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطنة، فيقولون: أنتم طريقكم الكتاب والسنة والأمور الظاهرة، ونحن لنا طريق باطني، يقولون: مثل حال الخضر مع موسى، كما أن الخضر كانت له شريعة وموسى كانت له شريعة ولا أحد يعترض على الآخر، وهم يزعمون أن الخضر كان ولياً ولم يكن نبياً. وبالذات موضوع الخضر كان مرتعاً خصباً للاختراع والابتداع، وافتراء الأكاذيب. نكرر هذه العبارة لأهميتها، يقول: وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين للتصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقاً باطناً توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى؛ زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام؛ بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره، وهذا ما يلهج به كثير من جهلة الصوفية. قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. قالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار؛ فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات فيشتغلون بها عن أحكام الشرائع الكليات. يقول: قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب كما هو مذهب مالك ومن وافقه، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يوضحه الدليل في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب في سورة آل عمران. ثم يقول: وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام؛ لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به: إن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب. بل معنى الحديث: استفت قلبك في موضع الشبهات. فمعنى الحديث التحذير من الشبه، وإلا لو جعل كل واحد قلبه المفتي الخاص به لوقعت فوضى لا حدود لها، فهذا يشرب الخمر ويستفتي قلبه وقلبه مريض، فلا يكون هناك ضابط وتضيع معالم الشريعة تماماً، المقصود: بـ (استفت قلبك): أن هذا حين تشتبه عليك الأمور كما سيبين الشيخ رحمه الله تعالى. قال: فمعنى الحديث: التحذير من الشبه؛ لأن الحرام بين، والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كل الناس؛ فقد يفتيك المفتي بحلية شيء، وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً، وذلك بالاستناد إلى الشرع، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة. يعني: كرجل ليس عنده علم كثير، لكنه يرى عامة علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي القديم والحديث وفي السلف والخلف يحرمون الربا، ويجرمون آكل الربا، ثم يأتي واحد شاذ لا خبرة له في الفقه أصلاً يقول: إن الربا حلال؛ ليس تخصصه الفقه، فيفتي باستباحة الربا، فهذا مما ينبغي أن يستفتي الإنسان فيه قلبه ولا يستند فيه إلى مثل هذا المفتي؛ لأنه ضل في هذه الفتوى بلا شك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)، حتى لوجدت من يفتيك بحلية شيء أنت تعلم من جهة أخرى أنه محرم فاستفت قلبك واتبع ما يدلك عليه قلبك من السير في القافلة العظمى من علماء الإسلام دون من شذ وتعدى حدود الله. يقول: فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراماً وذلك باستناد من الشرع؛ فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)، رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وحديث واسطة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم. قال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الطرف، وإن أفتاك الناس وأفتوك)، قال النووي في رياض الصالحين: حديث حسن، ورواه أحمد والدارمي في مسنديهما. ولا شك أن المراد ب

الكهف [65 - 82]

تفسير سورة الكهف [65 - 82]

تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك حتى أحدث لك منه ذكرا)

تفسير قوله تعالى: (قال له موسى هل أتبعك حتى أحدث لك منه ذكراً) {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:66 - 70]. ((هَلْ أَتَّبِعُكَ)) أي: أصحبك، ((عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) أي: مما علمت من عند ربك، ((رشداً))، أي: علماً ذا هدى وإصابة خير. قال القاضي: وقد رأى في ذلك غاية التواضع والأدب، لم يقل له: (علمني)، وإنما قال: (هل أتبعك) فاستجهل نفسه، ووصف نفسه بعدم العلم، فأظهر الفقر والحاجة إلى ما عنده من العلم، واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليك. وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وفي قوله: ((مما علمت)) تذكير له بنعمة الله عليه أي: كما علمك الله عليك أن تعلم طالب العالم. ((قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، نكر (صبراً) لبيان أنه لن تستطيع معي صبراً بوجه من الوجوه، ثم علل معتذراً بأنه لن يستطيع أن يصبر، قال: ((وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا))، أي: إن صحبتني سترى مني أموراً ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك. قال: ((سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا))، أي: لا أخالفك في شيء. قال الزمخشري: رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده أن يستطيع معه صبراً بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقاً بمشيئة الله علماً منه بشدة الأمر وصعوبته، وأن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبي المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لابد لما يستمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم؟ قال بعض المفسرين في تفسير فاتحة القرآن عند قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7]: إن الإنسان إذا كان في الجماعة أي: إذا أدخل نفسه في زمرة الجماعة كان بركة عليه، ولذلك صبر إسماعيل لأبيه وقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، أما موسى فقال: ((ستجدني إن شاء الله صابراً)) وهذه لفتة عارضة. وإنما قال: (إن شاء) لما يعلم من صعوبة الأمر، وصعوبة أن يرى منكراً ثم يصبر عن إنكاره. ((قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)). شرط المرافقة الموافقة، أي: لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولن تعلم وجه صحته حتى أبدأ أنا ببيانه، وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والمستمع مع المسمع، فلا يبادر الإنكار حتى يتبين سبب هذا القول أو الفعل.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)

تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) ((فَانطَلَقَا))، على ساحل البحر يطلبان سفينة، ((حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا))، أي: شيئاً عظيماً من إتلاف السفينة: قتل الجماعة من غير نفع، وكفران نعمة الحمل بغير نول، فكيف تتسبب في إهلاكهم وإغراق أهلها، بغير ذنب، وهل هذا جزاء أنهم حملونا بغير أجرة؟! ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، ذكره الخضر بما تقدم من الشرط، {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70] يعني: هذا الصنيع وأنا أتعمده، وسبق أن اشترطت عليك أن لا تعترض على شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، وهو من الأمور الذي اتفقت معك على أن لا تنكر علي فيها؛ لأنك لم تحط بها خبراً؛ إذ لها سر لا تعلمه أنت، ((قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ))، أي: قال موسى: لا تؤاخذني بما نسيت من الشرط، فإن المؤاخذة به تفضي إلى العسر، وسيكون هذا أمراً عسيراً علي، والمراد: التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان: ((وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا))، أي: لا تحمل علي من أمري في تحصيل الأمر منك عسراً؛ لأنه يلجئني إلى تركه، فلا تعسر علي متابعتك بل يسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة. ((فانطلقا)) بعد أن نزلا من السفينة إلى الساحل، ((حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))، يعني: نفساً ستقتل، بل هل نفس زكية طاهرة من موجبات القتل؛ لأنه لم يقتل غيره، فكيف تقتله؟ ((لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)) أي: شيئاً منكراً، أو أنكر من الأول، فالأول كان خرقاً يمكن تداركه بالسد، أما القتل فلا سبيل إلى تداركه. ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) تأكيد في التذكار، ونكتة زيادة (لك) كما قال الزمخشري: زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. أي: كما لو أتى إنساناً ما نهيته عنه فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في عتابك، قال: وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر). يعني من قرأ قراءة سريعة دون تأمل لا يلتفت لمثل هذا المعنى، لكن من تأمل القرآن وبلاغته أدرك هذا في المرة الأولى. قال موسى: ((قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))، أي: وجدت من جهتي عذراً؛ إذ أعذرت إلي مرة بعد مرة فخالفتك ثلاث مرات بمقتضى الاستعجال. ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ)) اختلف في تسميتها، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين، ولا يوثق بشيء منه، يعني: لا يهمنا اسم القرية، والمقصود أخذ العبرة. ((اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)) أي: امتنعوا من أن يطعموا الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم، وقرئ: (فأبوا أن يُضِيْفُوهما) من الإضافة، يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيَّفه: أنزله ليطعمه في منزله على وجه الإكرام. ((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ))، أي: ينهدم. تقول: انقض الطائر إذا أسرع سقوطه، يقول هنا: والإرادة مستعارة للمداناة والمشاركة لما فيهما من الميل، استعارة تصريحية أو مكنية أو تخيلية، أو هي مجاز مرسل بعلاقة السبب، إذ الإرادة سبب لقرب الوقوع. وقد أكثر الزمخشري من الشواهد على مثل هذا المجاز. ((فأقامه))، أي: عمره وأصلحه، ((قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا))، أي: لو طلبت على عملك جعلاً حتى تنتفع به، ففيه لوم على ترك الأجرة مع مسيس الحاجة إليها، أي: هؤلاء الناس ضيعوا حقنا في الضيافة، فكيف تصلح لهم هذا الجدار وتقيمه وتضيع الأجر ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)) هذا إشارة إلى الفراق الموعود، بقوله: ((إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني))، أو إشارة إلى الاعتراض الثالث، أو هذا الوقت الحاضر فراق بيني وبينك. ((سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) يعني: عاقبة أو مآل مالم تصبر على ظاهره؛ لأن التأويل يطلق أحياناً على العاقبة والمآل. وتأويل هذا الذي لم يستطع عليه صبراً هو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبديل الأحسن، واستخراج الكنز لليتيمين. قال أبو السعود: وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعة موسى عليه السلام الصبر، دون أن يقول: بتأويل ما فعلت، أو: بتأويل ما رأيت ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتابه. ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى، وما كان أنكره ظاهراً، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على باطنه.

إثبات إرادة حقيقية للجدار

إثبات إرادة حقيقية للجدار قوله: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)). يقول الشنقيطي رحمه الله: هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون بالمجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات إيرادات وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق، كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها الله سبحانه وتعالى ونحن لا نعلمها، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن والسنة. يقول: فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك؛ لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، فقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ) [الأحزاب:72]، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه. ومن الأحاديث على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعاً لفراقه)، وكان هذا بمحضر من جميع الصحابة الذين حضروا في صلاة الجمعة، فكلهم رأى هذا الموقف في اليوم الذي اتخذ له فيه المنبر فمر على الجذع ولم يستند إليه كما كان يستند أثناء الخطبة عليه، فصعد المنبر فإذا الجذع يبكي كبكاء الصبي ويحن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نزل عليه الصلاة والسلام من على المنبر وضم الجذع إليه وأخذ يمسح عليه ويهدئه حتى سكت وله خنين كخنين الطفل إذا كان يبكي وينضم إلى صدر أمه، وكأنما نفسه ستطير، فالجذع وهو جماد حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجزع من فراقه. إذاً: فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق إرادة في مثل هذه الجمادات. قال: فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال، وهذا زعم باطل؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأمثال هذا كثيرة جداً، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها؛ لأن العقل لا يحيل مثل هذا. ((يريد أن ينقض فأقامه)) جدار خلق الله فيه إرادة بحيث يريد أن ينقض، ولا إشكال في ذلك، ولا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها، لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، وهذا واضح جداً كما ترى، مع أن من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء، كما في قول الشاعر: يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وكقول راعي نمير: في مهمه قلقت به هامتها قلق النفوس إذا أردن نضولا يعني: إذا قاربنه، وقول آخر: إن دهراً يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان يعني: لزمان يقع الإحسان فيه. وقد بينا في رسالتنا المسماة: (منع جواز المجاز في المنزل للتعجب والإعجاز) أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز، أن ذلك لا يتعين بشيء منها، وبينا أدلة ذلك، والعلم عند الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ما لم تسطع عليه صبرا)

تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ما لم تسطع عليه صبراً) يقول تبارك وتعالى على لسان الخضر عليه السلام: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:79 - 82]. ((أما السفينة)) التي خرقتها، ((فكانت لمساكين يعملون في البحر)) أي: لفقراء يحترفون العمل في البحر لنقل الناس من ساحل إلى آخر، ((فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً))، أي: إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة يأخذ كل سفينة جيدة غصباً، فأردت أن أعيبها لأرده عنها بعيبها؛ لأنه إذا كان فيها هذا العيب لن يأخذها، لكن إذا كانت السفينة صالحة -كما قال ابن عباس - فإنهم يأخذونها غصباً وظلماً وعدواناً. يقول الشنقيطي: ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة صحيحة كانت أو معيبة، ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة وهي قوله: ((فأردت أن أعيبها))، أي: لئلا يأخذها هذا الملك، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله: ((حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)) ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب؛ لأن عيبها يزهده فيها. ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالاً عند علماء العربية لحذف النعت، أي: وكان وارءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة، بدليل ما ذكرنا، كما سبق في قوله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا} [الإسراء:58]، واسم ذلك الملك: هدد بن بدر، وقوله: (وراءهم)، أي: أمامهم، كما تقدم في سورة إبراهيم عليه السلام، في قول الله: ((مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ)) [إبراهيم:16] يعني: من أمامه. ((وأما الغلام)) الذي قتلته، ((فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا))، لو تركناه حياً، ((أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا))، أي: أن ينزل بهما طغيانه وكفره، ويلحقه بهما لكونه طبع على ذلك، فيخشى أن يعديهما بدائه؛ إذ الكفر ينتقل منه إليهما فيفتنهما عن دينهما، ((فَأَرَدْنَا)) بقتله، ((أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً))، أي: طهارة عن الكفر والطغيان، وهذا يشير إلى أن الإيمان تطهير وتزكية، ((خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)) أي: رحمة بأبويه وبراً. {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]. قوله: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما))، أي: قوتهما في العقل وكمال الرأي، ((ويستخرجا كنزها))، ليتصرفا فيه، ((رحمة من ربك)) أي: تفضلاً به عليهما، ورحمة: مفعول له، أو مصدر مؤكد (لأراد)، فإن إرادة الخير رحمة. ((وَمَا فَعَلْتُهُ))، ما فعلت ما رأيت مني، ((عَنْ أَمْرِي))، أي: عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى، ((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) من الأمور التي رأيتها، أي مآله وعاقبته. قال أبو السعود: ((ذلك)) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان، وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد درجتها في الفخامة، و ((تسطع)) مخفف بحذف التاء.

فوائد من قصة موسى مع الخضر

فوائد من قصة موسى مع الخضر يذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض الفوائد من هذه القصة، يقول: تنبيهات فيما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام والنقائض والفوائد السامية.

فوائد مرتبة حسب سير القصة

فوائد مرتبة حسب سير القصة الأول: قال السيوطي في الإكليل: في هذه الآية أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر، واستخدام الرحلة في طلب العلم، واستزادة العالم من العلم، واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل وشدة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازاً وتأدباً عن نسبتهما إلى الله تعالى، وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة، واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه، وتقديم المشيئة في الأمر، واشتراط المسموع على السامع، وأنه يلزم الوفاء بالشروط، وأن النسيان غير مؤاخذ به، وأن للثناء اعتباراً في التكرار ونحوه، وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة، وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام، وجواز أخذ الأجر على الأعمال، وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة لكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها شيئاً لا يكفيه، وأن الغصب حرام، وأنه يجوز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية ما فيه كمال المودع واليتيم، وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف، وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه، وأن أعظم ثقة التأمين على الأولاد هي تقوى الله سبحانه وتعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]، ليست الأموال ولا الضياع ولا الثروات وإنما تقوى الله سبحانه وتعالى، وأنه تجب عمارة ما يخاف منه الخراب، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب، وأنه يجوز دفن المال في الأرض. وقال البيضاوي: الفائدة من هذه القصة أن لا يعجب المرأ بعلمه، ولا يبادر إلى إنكار مالم يستحمله، فلعل به سراً لا يعرفه، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمتعلم، ويراعي الأدب في المقال، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يحقق إصراره ثم يهاجر عنه. انتهى. ومن فوائد الآية كما في فتح الباري: استخدام الحرص على لقاء العلماء، وتجشم المشاق في ذلك، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحر، وطواعية الخادم لمخدومه، وعذر الناسي، وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض ونحوه، ومحل ذلك إذا كان ذلك على غير سخط من المقدور. ومنها: أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب، وفيها جواز طلب القوت وطلب الضيافة، وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالمرة الثانية، وفيها: حسن الأدب مع الله، وألا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وإن كان الكل بتقديره وخلقه.

عدم نسبة الشر إلى الله

عدم نسبة الشر إلى الله لو تأملت في قوله أولاً: ((فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا))، وجدت أنه لم ينسب العيب إلى الله، لكن نسبه إلى نفسه وإن كان عن أمر الله تأدباً مع الله. وعندما يذكر قتل الغلام قال {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]. وفي الحالة الثالثة قال: ((فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا))، فنسب الإرادة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنها في خير محض، والنكتة أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، كما في حديث القنوت في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك)، فليس في أفعال الله شر على الإطلاق، بل كل أفعاله خير محض، وإنما الشر أمر نسبي إضافي، قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2]، فأضاف الشر إلى المخلوقين، لكن لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك نظائر، كما في قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41]، وقول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] * {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، فنسب الخلق والهداية إلى الله، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:79 - 81]، فلم ينسب المرض إلى الله مع أن الله خالق كل شيء. لكن تأدباً نسب المرض إلى نفسه لأنه شر. وقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} [الفاتحة:7]، فنسب النعمة إلى الله، ثم في الغضب والضلال قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ولذلك قلنا: إن الغالب أن في تفسير (الذين أوتوا الكتاب) أو (الذين أورثوا الكتاب): أنها إذا وردت للمجهول فالسياق سياق ذم. أما إذا نسبت إلى الله فالسياق سياق مدح: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] وقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]. وفي سورة الجن قال: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ) [الجن:10]، ثم قال: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، ففي الشر استعمل صيغة المجهول، أما في الخير والرشاد فقد نسبه إلى الله سبحانه وتعالى. وفيها حسن الأدب مع الله، وألا يضاف إليه ما يستهجن لفظه وإن كان الكل من تقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة: ((فأردت أن أعيبها))، وعن الجدار: ((فأراد ربك))، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (والخير بيديك والشر ليس إليك)، يعني: ليس في أفعالك شر أبداً.

فوائد بلاغية ولغوية

فوائد بلاغية ولغوية من فوائد هذه القصة: إطلاق لفظ القرية على المدينة: لقوله: ((أَهْلَ قَرْيَةٍ))، ثم قال بعد ذلك: ((لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ)) فدل على أن المدينة يطلق عليها قرية، وورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم يقل: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، إلا بعد أن جاوز الموضع الذي حدده الله تعالى له، فلعل الحكمة أن يتيقظ موسى عليه السلام لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة الله في التيسير عليه وحمل الأعباء عنه، وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات أن ييسرها ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة. وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزة هذا الموعد بوناً بيناً والله تعالى أعلم. يعني: أن موسى لم يشعر بالتعب إلا بعد أن جاوز المكان الذي حدده الله له، وهو الصخرة أو مجمع البحرين، وكأن الله ينبهه: أنك ما دمت مسافراً في طلب العلم فأنا أُذهب عنك النصب والمشقة وأيسر عليك الأمر، فلما جاوز ذلك الموضع حصل له النصب {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62]. وإن كان موسى عليه السلام متيقظاً لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا قص عليهم القصة، وما أورد الله تعالى قصص أنبيائه إلا ليشمر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها عاجلاً وآجلاً، والله أعلم. ثم قال الناصر رحمه الله في الانتصاف: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار الحمية للحق. أي أن موسى ما أنكر إلا غيرة على الحق على ظاهر شريعته، ثم إنه حين خرق السفينة قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71]، فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل أحد: نفسي نفسي، لا يلوي على مال ولا ولد، فتلك حالة غرق. فالشاهد: أن موسى عليه السلام ما قال: نفسي نفسي! وإنما كان همه الناس من حوله {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71] ولم يقل: (لتغرقنا)، فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة عليهم، صلوات الله عليهم أجمعين وسلامه. ثم قال عليه الرحمة على قول الزمخشري: (فإن قلت: (فأردت أن أعيبها)، كان من المفروض من حيث سياق المعنى أن يقول: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً فأردت أن أعيبها) فلماذا قدم فعل الغصب رغم أن النتيجة حقها أن تؤخر عن السبب؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية، ولأن خوف الغصب ليس السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم). قال الناصر: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها للمساكين، ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب بذكر عادة الملك في غصب السفن، وهذا هو حدّ الترتيب في التعليل، أن يركب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد، فلا يحتاج إلى جعله مقدماً والنية تأخيره، والله أعلم. ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآية والمخالفة بينها في الأسلوب عجباً؛ ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: ((فأردت أن أعيبها)) وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه فقال: ((فأردنا أن يبدلهما ربهما))، وقال: ((فخشينا أن يرهقهما)) ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى؛ لأن المراد: ثم عبت، فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور (فأردنا) (فخشينا) فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك: أمرنا بكذا، وإنما يعنون أمر الملك. ويدل على ذلك قوله في الثالثة: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما)) فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب ولم تأت على نمط واحد مكرر يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة، فسبحان اللطيف الخبير! فإذا الثالثة قال الخفاجي في إعادة (أهل)، يعني قوله: ((استطعما أهلها))، بعدما قال: ((أتيا أهل قرية)) مع أن السياق كان يقتضي أن يقال: (حتى إذا أتيا أهل قرية فاستطعماهم فأبوا أن يضيفوهما)، ونظم الصلاح الصفدي سائلاً الإمام السبكي عن هذا المعنى، فقال: رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاصه بإيجاز ألفاظ ونصح معان ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر في طول الزمان عناني وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد نرى (استطعماهم) مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل (استطعماها) أو (استطعماهم) فلابد له من وجه. وقد أجابوا بأجوبة مطولة نظماً ونثراً، والذي تحرر فيه: أنه ذكر الأهل أولاً ولم يحذف إيجازاً سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]؛ لأن الإتيان ينسب للمكان كما تقول: أتيت عرفة، ولمن في المكان تقول: أتيت بغداد، فلولم يذكر كان فيه التباس مخل، فليس ما هنا نظير تلك الآية، لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها. يعني لم يقل كما قال في سورة يوسف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]؛ لأنه ظاهر جداً أن المقصود أهل القرية. وأما الأهل الثاني (استطعما أهلها) فأعيد لأنه غير الأول، وليست كل معرفة أعيدت عيناً كما بينوا؛ لأن المراد به بعضهم إذ سؤالهم فرداً فرداً مستبعد، فلولم يذكر فهم غير المراد، وأما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر، وأما لو قال (استطعماها)؛ فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب.

خصوصية الخضر في أفعاله

خصوصية الخضر في أفعاله ومن فوائد هذه القصة ما قاله القاسمي رحمه الله تعالى: قال الإمام السبكي رحمه الله تعالى: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافراً مخصوص به -هذا من خصائص الخضر- لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن خلاف الظاهر الموافق للحكمة، فلا إشكال فيه). يعني: الأمر من حيث ما يظهر لنا لا شك أنه يستنكر كما فعل موسى عليه السلام لما أنكرها، أما الخضر فقد خصه الله سبحانه وتعالى أن يعمل بالباطن لا بالظاهر في هذه الأمور، فلا إشكال في هذه القصص. قال: وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لاسيما بين أبوين مؤمنين، ولو فرضنا أن الله سبحانه وتعالى أطلع بعض أوليائه كما أطلع الخضر عليه السلام لم يجز له فعل ذلك، وما فعله الخضر كان بعلم الله وبأمر الله، قال تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. وما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما كتب إليه نجدة الحروري الخارجي: كيف قتل الخضر الغلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان، فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل؛ فإنما قصد به ابن عباس المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعاً لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام، وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز؛ لأنه لا تقتضيه الشريعة، وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ كيف والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي، وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعاً مستقلاً به وهو نبي، وليس في شريعة موسى أيضاً؛ ولذلك أنكره. وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الشرين بأخفهما فصحيح، لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع، فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفساً كثيرة قبل أن يتعاطى شيئاً من ذلك، وإنما فعل الخضر ذلك بإطلاع الله تعالى عليه. إذاً: هذا الحكم مخصوص بالخضر عليه السلام. وقال ابن بطال: قول الخضر: وأما الغلام فكان كافراً؛ فهو باعتبار ما يئول إليه أمره لو عاش حتى يبلغ، واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله، ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده. يقول القاسمي: مفاد الآية: أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب، ولذا قال بغير نهي: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74]؛ لأنه لم يفعل ما يستوجب ذلك، لا لكونه صغيراً لم يبلغ الحلم؛ لأن الآية لا تفيده، وقد يكون كبيراً. يعني: أن كلمة الغلام يجوز أن تطلق على من كان كبيراً، وليس كما يتبادر إلى أذهاننا أنها تطلق على صغير السن، فمن حيث اللغة قد يطلق الغلام على الكبير، قال: فقد قال اللغويون: الغلام: الطار الشارب أو من حين يولد إلى أن يتم، والكهل أيضاً قد يطلق عليه غلاماً، ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل من قومه الجنة) إلى آخر الحديث، (فوصف النبي عليه السلام بوصف الغلام، وعند البخاري: (وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً فذبحه)، قال موسى: (أقتلت نفساً لم تعمل بالحنث) ولكن لا نص فيه على أنه كان صغيراً، فتأمل.

ترجيح أن المذكور هو موسى بني إسرائيل

ترجيح أن المذكور هو موسى بني إسرائيل يقول القاسمي: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة، وذهب نوف البكالي -تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس موسى بن عمران كما في البخاري. ووقع في رواية أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير عند النسائي قال: (كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب فقال بعضهم: يـ ابن عباس! إن نوفاً يزعم عن كعب الأحبار: أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منفى -أي: ابن إسرافيل بن يوسف عليه السلام- فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قال: نعم. قال: كذب نوف)، كذب هنا: بمعنى أخطأ. وفي رواية البخاري: (كذب عدو الله)، وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من مقالته، وقد ذكرنا القصة حينما سئل موسى عليه السلام: هل هناك أحد أعلم منك؟ فقال: لا، أو: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا. أو حدثته نفسه بهذه فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه؛ لئلا يحكم على ما لا علم له به، وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة فيكون المراد بفتاه يوشع، وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقاً في خدمته.

ترجيح أن صاحب موسى هو الخضر

ترجيح أن صاحب موسى هو الخضر قال الأكثرون: إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى: {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65] هو الخضر، قالوا: سمي بذلك؛ لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت، وقد صح ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حجر الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو الخضر، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت -أي: تجادلت- أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقياه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فعله؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى، عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إلى لقياه فجعل الله له الحوت آية)، إلى آخر الحديث.

نسب الخضر ودحض شبهة خلوده في الأرض

نسب الخضر ودحض شبهة خلوده في الأرض تنبيه يتعلق بنسب الخضر، وفي كونه نبياً، وفي طول عمره وبقاء حياته على أطوار كثيرة: فمن قائل: بأنه ابن آدم لصلبه، أو ابن قابيل، أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وليس هناك دليل نقلي على صحة ذلك. وقد احتج من قال: إنه نبي بقوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}؛ لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله، والأصل عدم الواسطة، وقيل: كان ولياً، وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصديقية، فهو مقام برزخي له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية، وقيل: إنه ملك من الملائكة. وأما تعميره: فيروى عن ابن عباس: أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال. أي: مُدَّ له في أجله لأجل أن يكذب المسيح الدجال حين يخرج. قال النووي في التهذيب: قال الأكثرون: هو حي موجود بين أظهرنا، وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به، والأخذ عنه وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة؛ أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تذكر. وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات، وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: أما رواية اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت فلا يصح من طرقها شيء، ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهل النقل، وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخاً لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟! انتهى ملخصاً. ويقول الشنقيطي: قال أبو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر وهو باق أم لا؟ فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم، وخبر مسلمة بن مثقلة كالهراء، وخبر رياح كالريح، وما عدا ذلك من الأخبار كلها واهية الصدر والأعجاز، لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالاً، أو أن يكون بعضهم تعمد ذلك، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]. وقال صاحب فتح البيان: والحق ما ذكرناه عن البخاري وأقرانه في ذلك، ولا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم حتى يعتمد عليه ويصار إليه. وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34]، ونفي طول التعمير لأحد من البشر، وهما قاضيان على غيرهما، ولا يقضي غيرهما عليهما، ومن قال: إنه نبي، أو مرسل، أو حي باق. لم يأت بحجة نيرة، ولا سلطان بين، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وقال تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه: في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد ما مثاله يقول: وفيه كثير من الجن، وهم رجال الغيب الذين يرون أحياناً في هذه البقاع، قال تعالى {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وكذلك الذين يرون الخضر أحياناً). بعض الناس يظهر شخص يقول له: إنه الخضر، أو يقابله فيقول لك: قابلت الخضر في الحج؟ إلى غير ذلك، وهذا الكلام بضاعة رائجة في سوق الصوفية، وأغلب الذين يذكرون عنهم هذه الخرافات هم الصوفية، والذي يجالس الصوفية يسمع منهم هذا، فتجد أحدهم يقول: تبدى لي رجل في الصحراء، وقال لي: أنا الخضر إلى غير ذلك، ويرجع يقول: رأيت الخضر، يقول شيخ الإسلام: كذلك الذين يرون الخضر أحياناً هو جني رأوه، أي: كما تلعب الجن بعقول هؤلاء الناس، وقد رآه واحد ممن أعرفهم، وكان ذلك جنياً لبس على المسلمين الذين رأوه، وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات، ولو كان حياً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه، فإن الله فرض على كل نبي أدرك محمداً أن يؤمن به ويجاهد معه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لم يبعث الله نبياً إلا أخذ الله الميثاق عليه وعلى أمته لئن أتى محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه)، ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدراً من أن يلبس الشيطان عليهم، ولكن لبس على كثير ممن بعدهم فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبي، ويقول: أنا الخضر، وإنما هو شيطان، كما أن كثيراً من الناس يرى ميته خرج وجاء إليه وكلمه في أمور وقضاء حوائج فيظنه الميت نفسه، وإنما هو شيطان تصور بصورته. وهذا واقع؛ لأن الشياطين لها القدرة على أن تتشكل في صورة الإنس، أو كما يقولون في موضوع تحضير الأرواح: إن الذي أمكن من تحضير الأرواح روح أحمد شوقي وأنشأه قد يرينا هذا الشيء ونجده بالضبط هو شعر أحمد شوقي إلى آخر هذا الكلام، طيب ما المشكلة؟ الذي حضر هذا ليس روح أحمد؛ لأن الله عز وجل قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، فالأرواح ممسكة عند الله، فما يمسكه الله لا مرسل له، ولا قدرة لها على أن تستحضر؛ لأن الله أمسكها، فكيف ترسل؟ أين الدليل على كونه يقول الشعر؟ وهل الجن عندهم هذه الملكة؟ قد يكون هو قرين أحمد شوقي الذي كان يلازمه، وكل إنسان له قرين، فلذلك يقول شعراً مثله أو نحو هذا، على أي الأحوال كل هذه الأشياء لا ينبغي أن ننخدع بها، ولا أن يلبس بها علينا.

الأدلة على موت الخضر

الأدلة على موت الخضر يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر هل هو حي إلى الآن أو هو غير حي، بل ممن مات فيما مضى من الزمان؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي، وأنه شرب من عين تسمى عين الحياة، وممن نصر القول بحياته: القرطبي في تفسيره، والنووي في شرح مسلم وغيره، وابن الصلاح والنقاش وغيرهم، وقال ابن عطية: وأطنب النقاش في هذا المعنى -يعني: حياة الخضر وبقائه إلى يوم القيامة- وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. انتهى بواسطة نقل القرطبي له في تفسيره. وحكايات الصالحين عن الخضر أكثر من أن تحصر، ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة، ويروون عنهما بعض الأدعية كل ذلك معروف، ومستند القائلين بذلك ضعيف جداً؛ لأن غالبه حكايات عن بعض من يظن به الصلاح، ومنامات وأحاديث مرفوعة عن أنس وغيره، وكلها ضعيفة لا تقوم به حجة. وبعض الناس يدعون أنه موجود وحي ولكنه محجوب عن أعيينا كالجن وكالملائكة، ويقولون: فكيف تنكرون وجود الخضر حياً ونحن لا نراه؟ A أنه لابد لكل دعوى من بينة؟ فإذا قلنا: إن الجن محجوبون، فالله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، وكذلك الملائكة. أما دعوى أن الخضر موجود، وأنه حي، وأنه يرانا ونحن لا نراه، فالأصل خلاف هذه الدعوى؛ لأن الأصل في بني آدم أن يرى بعضهم بعضاً، فلا يجوز الخروج عن الأصل إلا بدليل وببينة، وبعض العوام يغرقون بتأثير الضلالات الصوفية بهذه المسألة، حتى إن المغرقين في الجهل منهم متى ما ذكر أمامه اسم الخضر قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ لأنهم يتصورون ويزعمون بجهالاتهم أنه متى ما ذكر لفظ الخضر فإنه يمر ويلقي عليك السلام، فعليك أن ترد عليه السلام. من أقوى أدلة من يقولون بحياة الخضر، وليس معنى ذلك أنها صحيحة، لكن هذا أمثل ما عندهم نسبياً، ومع ذلك فهو في غاية الضعف، كما يقولون: وأحسن ما في خالد وجهه ووجهه الغاية في القبح فهي مسألة نسبية يقول: ومن أقواه عند القائلين به: آثار التعزية حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن عبد البر في تمهيده عن علي رضي الله عنه قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم أهل البيت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] الآية، إن في الله خلفاً من كل هالك، وعوضاً من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام. يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). هذا نقله القرطبي في تفسيره حتى لو صح هذا الأثر فليس فيه نص على أنه الخضر. قال الشنقيطي رحمه الله: والاستدلال على حياة الخضر بآثار التعزية كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفا مردود من وجهين: الأول: لم يثبت ذلك بسند صحيح، قال ابن كثير في تفسيره: وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم، وجاء ذكره في بعض الأحاديث، ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف. الثاني: على فرض أن حديث التعزية صحيح لا يلزم من ذلك عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً أن يكون ذلك المعزي هو الخضر، بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن؛ لأن الجن هم الذين قال الله فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بلا دليل، وقولهم: كانوا يرون أنه الخضر، ليس حجة يجب الرجوع إليها؛ لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم، ولا يدل ذلك على إجماع شرعي معقول، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى. ثم قال الشنقيطي رحمه الله: الذي يظهر لي رجحانه بالدليل أن الخضر ليس بحي بل توفي، وذلك لعدة أدلة: الأول: ظاهر عموم قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، فقوله: (لبشر)، نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر من قبله، والخضر بشر من قبله، فلو كان شرب من عين الحياة وصار حياً خالداً إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد. الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] فأمده الله بالملائكة) الحديث. ومحل الشاهد منه: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، فعل في سياق النفي، فهو بمعنى: لا تقع عبادة لك في الأرض. ثم قال: (فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حياً في الأرض؛ لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإن الله يعبد في الأرض، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام؛ لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض. الدليل الثالث: إخباره صلى الله عليه وسلم: بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لن يبقى أحد على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة، فلو كان الخضر حياً في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة. الإشارة هنا إلى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهرها أحد))، يعني: لو ولد غلام في نفس تلك الليلة التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام لمات في خلال المائة عام. فالخضر لا يمكن أن يتجاوز عمره مائة سنة ولابد أن يكون قد مات في خلال المائة سنة. عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر قال: (تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة) إلى آخر الحديث. وقوله: (ما على الأرض) يدفع إشكال من يقول: إن عيسى مرت عليه مائة ولم يمت؛ فالكلام في من هو على الأرض، أما عيسى فهو في السماء، ولاشك أن الخضر عليه السلام نفس منفوسة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ)، فهذا الحديث فيه تصريح بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة. قال: فقوله: (نفس منفوسة) ونحوها من الألفاظ في رواية الحديث نكرة في سياق النفي، فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض، ولاشك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخضر؛ لأنه نفس منفوسة على الأرض. الدليل الرابع: أنه لو كان الخضر حياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه، ولنصره وقاتل معه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس جميعهما. والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جداً كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة آل عمران أنه أخذ على النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه، وذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد فيها نبينا صلى الله عليه وسلم -كما قال ابن عباس وغيره- فالأمر فيها واضح، وعلى أنها عامة فإنه عليه الصلاة والسلام يدخل في عمومها دخولاً أولياً، فلو كان الخضر حياً في زمانه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته. ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا اتبعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه: (أن عمر

الخضر في اعتقاد أهل السنة

الخضر في اعتقاد أهل السنة تنبيه أخير يتعلق بقصة الخضر: أورد فضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في كتابه (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة): قصة الخضر كما ثبت في الأحاديث التي تلوناها، ثم ذكر بعض الفوائد، فقال حفظه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب نبيه موسى الذي قال جواباً عن Q لا أعلم على الأرض أعلم مني، أنه كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فأراه الله جل وعلا أن هناك عبداً لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى، وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضر. ثانيا: أن الخضر بعد أن تم اللقاء بينه وبين موسى أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله تعالى لا شيء، وأنهما لن ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء النهر. ثالثا: أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعل، ولذلك فإن الخضر عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار لم يستنكر موسى شيئاً من ذلك؛ لأن هذا كله سائغ في الشريعة، فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز، فلو وكلت رجلاً على عمل لك ثم جاءت الوحوش أو قطاع طريق ليستولوا على المال كله، ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويترك بعضه لما كان ملوماً شرعاً، ولا يلام ممن وكله بل يستحسن فعله؛ لأنه حافظ له على قدر من المال، وما فعله الخضر بالنسبة للسفينة لا يعدو ذلك، فإنما أفسد السفينة فساداً جزئياً لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها، وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة؛ لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل من أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما، كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحياناً إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة، فما فعله الخضر بالنسبة للسفينة موافق للشرع الإلهي تماماً في كل دين وملة، وليس مخالفاً للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ عن أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده. وأما قتل الغلام فهو كذلك سائغ في الشريعة، إذا كان هذا الغلام سيكون ظالماً لوالديه مجبراً لهما على الكفر، وكان هذا مما علمه الله مستقبلاً، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضاً سائغاً، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي -والشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا هو أصغر من الغلام، وكما قلنا: كلمة غلام تحتمل أيضاً أن تطلق على الكبير- يقول: والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعبدين من عباده صالحين، أراد الله جل وعلا أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين: الألم الأول: أنه ولدهما، وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء. والثاني: أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان، وهذا عذاب آخر. فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذاباً واحداً فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما، ولاشك أن صبرهما على فقده فيه خير لهما، فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقاً للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد وعليها سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ولذلك لما قيل لـ ابن عباس على الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ قال: إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل. وهذا تعليق على شيء لا يقع، لأن الخضر كان يوحى إليه. وأما مسألة بناء الجدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القرى والضيافة الواجبة؛ فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية والنصرانية واليهودية، ففي القرآن الكريم: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وجاء في الإنجيل: (أحسنوا إلى من أساء إليكم، وباركوا لاعنيكم)، وقال تعالى فيما أوحاه لموسى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة، ثم إن إحسانه هذا لغلامين لم يتأت منهما إساءة، وكان أبوهما رجلاً صالحاً، وهم في قرية ظالمة بخيلة، ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم، ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم. فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر؟ وأي حقيقة أطلع عليها الخضر تخالف أوامر شريعة كان عليها موسى، بل ما فعله الخضر موافق تماماً لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئاً يخالف ما كان عليه الأنبياء صلوات الله عليهم، فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها، وباختصار لم يفعل الخضر شيئاً مخالفاً لشريعة موسى، فافهم هذا جيداً وتمسك به. رابعاً: وجود الخضر عليه السلام على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمراً سائغاً وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولاً إلى بني إسرائيل فقط ولم يكن رسولاً للعالمين، حتى المسيح عليه السلام إنما كان كما ينقل عنه في التوراة: (لم أبعث لخراف بيت إسرائيل الضالة). إذاً: التبشير بالنصرانية الذي سمي تبشيراً بعد المسيح عليه السلام والذي اخترعه بولس من محدثات النصرانية، لكن المسيح أرسل إلى بني إسرائيل فقط، وكتبهم تدل على ذلك، فنشر النصرانية بهذه الطريقة مما أحدث في النصرانية بعد رفع المسيح عليه السلام. ولما سلم موسى عليه السلام على الخضر قال الخضر: (وأنى بأرضك السلام، قال له موسى: أنا موسى، قال الخضر: موسى بني إسرائيل، يعني: موسى الذي أرسل خاصة إلى بني إسرائيل؟ قال: نعم)، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز شرعاً أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته، وهذا مهم جداً في إبطال ضلالات الصوفية، فهم يريدون أن يقولوا: نحن عندنا العلم اللدني، ولنا طريقة غير طريقتكم، فهم يجوزون أن يكون هناك طريق إلى الجنة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم غير طريقه، ويقولون: أنتم لكم طريقة العلم الظاهر، ونحن عندنا العلم اللدني، ويستدلون بقوله: ((وعلمناه من لدنه علماً))، فمن سوغ هذا يعتبر كافراً خارجاً من ملة الإسلام، أي أن من يعتقد أن هناك طريقة للنجاة بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم يخالف بها ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كافر خارج من ملة الإسلام. وقد يقول قائل: كيف وجدت معاً شريعة موسى وشريعة الخضر؟ نقول: هذا كان في زمانهم سائغاً، وكان قبل بعثة محمد عليه السلام، ويمكن أن يرسل نبي للهنود الحمر في أمريكا، ونبي أرسل لمنطقة في آسيا، وفي جنوب أفريقيا؛ لأن الله قال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، فهذا كان سائغاً، أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فلم يعد هذا محتملاً، لأنه عليه الصلاة والسلام رسول للعالمين، فلا يسع الخضر أو غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه، ولذلك فلا وجود بتاتاً للخضر أو أمثاله بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. خامساً: لاشك أن ما فعله الخضر عن وحي حقيقي من الله، وليس عن مجرد خيال أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}، يعني: أنه لم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي، ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا وحي بعده. أي: قد يأتي دجال من ضلال الصوفية ويقول: (ما فعلته عن أمري)، وإذا رأيت شيخك يفعل كذا وكذا فلا تعترض عليه، بحجة الالتزام بقصة موسى والخضر؟ نقول: هل هناك وحي بعد محمد عليه السلام؟ لا. فقد انقطع الوحي بوفاته صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى شيئاً من ذلك فقد كفر؛ لأنه خالف قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وختم بي النبيون فلا نبي بعدي). ثم يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله: من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر عليه السلام، والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة، ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئاً مختلفاً تماماً، فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه ولي وليس بنبي، وأنه موجود يتصل بهم، ويأخذون منه من العلم اللدني، وأشياء تخالف ما عليه شريعة محمد؛ وهذا فيه فتح باب عظيم لإفساد دين الإسلام. وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما كان الخضر -وهو ولي فقط في زعمهم- أعلم من موسى، فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام عالم بالشريعة الظاهرة فقط والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة، وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق، ويأخذ لهم الع

من خرافات الصوفية في الخضر

من خرافات الصوفية في الخضر من خرافات الصوفية في الخضر: ما يقوله الحكيم الترمذي، وهو محمد بن علي بن الحسن الترمذي المسمى بـ الحكيم؛ يقول في كتابه (ختم الولاية): وللخضر عليه السلام قصة عجيبة في شأنهم، وقد كان عاين شأنهم في البدء فأحب أن يدركهم فأعطي الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يحشر مع هذه الأمة وفي زمرتهم إلى قوله: وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل وذي القرنين، وكان على مقدمة جنده، حيث طلب ذو القرنين عين الحياة فأتته وأصابها الخضر في قصة طويلة. إذاً: خرافات طويلة لا أول لها ولا آخر ولا زمام ولا خطام، خرافات بدون إسناد وبدون دليل. أيضاً من العلم الذي ينطقون به، علم البث، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف. إلى آخر هذا الكلام، فالتقف الصوفية هذه القصة عن الحكيم الترمذي وأضافوا إليها من الخرافات والزيادات ما شاءوا. يقول رجل اسمه السرهندي: إنه رأى الخضر وإلياس عليهما السلام حضرا عنده في حلقة الدرس، وأما الخضر فقال له: إنهما من عالم الأرواح وإنهما يتشكلان بما شاءا من الصور، وإنه -أي السرهندي هذا- سأل الخضر هل تصلون على المذهب الشافعي؟ فقال الخضر: لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لأن قطب الزمان الشافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي. ويعلق السرهندي يقول: إن كمالات الولاية مختصة بالمذهب الشافعي، وإن كمالات النبوة فهي من اختصاص المذهب الحنفي، ولذلك عندما ينزل عيسى فإنه يصلي ويعمل بالمذهب الحنفي إلى آخر هذه الخرافات. ذكر أيضاً الخلاف كثيراً في أنه شافعي أو حنفي، إلى أن قال الشيخ: وهؤلاء لاشك أنهم كانوا كذلك حمقى مجانين ذهبت عقولهم ولم ترجع لهم أبداً. والعجيب أن مثل هذه الخرافات تظل تسري وتجري، فقد زعم الحصفكي الحنفي في مقدمة كتابه الدر المختار: أن الخضر أودع أوراق المذهب الحنفي في نهر جيحون إلى وقت نزول عيسى عليه السلام، أي: وضعه في زجاجة وقفل عليها وألقاها في نهر جيحون، وعندما ينزل عيسى تؤخذ إليه الصحائف ويتعلم منها المذهب الحنفي حتى يحكم به في آخر الزمان، أي: أن الدين سوف يتحول إلى هذه الخرافات وهذه الأساطير التي ليس عليها أثارة من علم. أيضاً كل ميدان من ميادين الصوفية يدخلون فيه الخضر، فهو صاحب الكشف، ونقيب الأولياء، وآخر العهود، ومرسل الأنام، ومعلم الأفكار. يقول أحمد بن إدريس: اجتمعت بالنبي عليه الصلاة والسلام اجتماعاً صورياً ومعه الخضر عليه السلام، فأمر النبي عليه السلام الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية، فلقنني إياها بحضرته صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم للخضر عليه السلام: يا خضر! لقنه ما كان جامعاً لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار. من ضمن أذكار الشاذلية: اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، وفيها: أن محمداً عليه والسلام هو أصل هذا الوجود، وهو أول مخلوق في هذا الوجود، ومنه انشقت كل الأنوار، وظهرت كل الموجودات. وهذا مصطلح معروف اسمه: الحقيقة المحمدية. وهو مصطلح خبيث للصوفية يقصدون به كلاماً في غاية الخطورة. إذاً خلاصة هذا الكلام: أن خضر الصوفية بما يزعمونه وينسبون إليه ليس هو الخضر الذي نؤمن به، والذي ذكره الله في القرآن، والذي قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصته، فذاك عبد موحد مؤمن على علم من علم الله بالوحي، عاش ومات لوقته وزمانه، وفعل ما فعل موافقاً للحق والشريعة، أما الخضر الصوفي فهو مصدر للخرافة والجهل والشرك، ولذلك أخبر شيخ الإسلام ابن تيمية: بأن الخضر المزعوم لا حقيقة له، شأنه في ذلك شأن الغوث والقطب الصوفي، ومنتظر الرافضة. يقول شيخ الإسلام: ثلاثة أشياء ما لها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة - المهدي المزعوم عند الشيعة- وغوث الجهال. فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم ما هو من هذا الجنس، أنه الذي يقيم العالم، فذاك شخصه موجود، ولكن دعوى النصيرية فيه باطل، وأما محمد بن الحسن المنتظر والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود. وكذلك يزعم بعضهم أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم، ونحو هذا فهو باطل، فـ أبو بكر وعمر وهما أفضل أولياء الله على الإطلاق لم يكونا يعرفان جميع الأولياء ولا يمدانهم، فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء وهو الغرة والتحجيل، ومن هؤلاء من أولياء الله لا يحصيه إلا الله عز وجل. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى، بل لما سلم عليه وقال له الخضر: (وأنى بأرضك السلام، فقال له: أنا موسى! قال له: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم)، وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه. ومن قال: إنه نقيب الأولياء، أو إنه يعلمهم كلهم، فقد قال الباطل، والصواب الذي عليه المحققون: أنه ميت، وأنه لم يدرك الإسلام، ولو كان موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، إلى آخره. قال عليه الصلاة والسلام: (كيف تهلك أمة أنا أولها، وعيسى في آخرها)، فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل، ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم، فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم؟ وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قط ولا خلفاؤه الراشدون. وقول القائل: إنه نقيب الأولياء، فيقال له: من ولاه النقابة، وأفضل الأولياء أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام وليس فيهم الخضر؟ وغاية ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب، وبعضها مبني على ظن الرجال مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر وقال: إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك. وروي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال وقد ذكر له الخضر: من أحالك على غائب فما أنصفك، وقال أحمد: وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان. وهذا الجواب هو خلاصة قضية الخضر وما شابهها: من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان.

الكهف [83 - 98]

تفسير سورة الكهف [83 - 98]

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين من أمرنا يسرا)

تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين من أمرنا يسراً) {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:83 - 88]. قال الله: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وهو الإسكندر الكبير المقدوني، وسنذكر وجهة تسميته أو تلقيبه بذلك. ((قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا))، أي: نبأً مذكوراً معجزاً أنزله الله علي. ((إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ))، أي: بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد، وعظم الصيت، وكبر الشهرة. ((وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا))، أي: طريقاً موصلاً إليه، والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة. ((فَأَتْبَعَ سَبَبًا))، وفي قراءة: (فاتبع سبباً)، ويتعديان لمفعول واحد، وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين، والتقدير فأتبع سبباً سبباً آخر، أو فأتبع أمره سبباً؛ كقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص:42]. وقال أبو عبيدة: (اتبع) في السير، و (أتبع) معناه: اللحاق، كقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10]، أي: لحق به، وقال يونس: (أتبع) بالجر: الحثث في الطلب. (واتبع) مجرد الانتقال. والفاء في قوله: (فأتبع) فاء الفصيحة، أي: فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله عليه. وقوله تعالى: ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس))، أي: أقصى ما يسلك من الأرض من ناحية المغرب، يعني: أنه مشى إلى أقصى ما تصل إليه اليابسة من جهة المغرب. ((وجدها تغرب في عين حمئة))، أي: ذات حمأة، وهو الطين الأسود، وقرئ: (حامية) أي: حارة، وقد تكون جامعة للوصفين. وقوله: ((وجدها)) بمعنى رأى، ((ووجد عندها قوماً)) أي: أمة. ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره عليهم، وحكمه فيهم، وجعل له الخيرة في شأنهم بقوله: ((قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب)) يعني: إما أن تعذبهم بالقتل وغيره، ((وإما أن تتخذ فيهم حسناً)) بالعفو. ثم بين اتصاف ذي القرنين بصفتي العدل والإنصاف ليحتذى حذوه ويقتدى به، بقوله عز وجل: ((قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)). وقوله تعالى: ((حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة)) يقول الشنقيطي: قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم (حمئة) بلا ألف بعد الحاء وبهمزة مفتوحة بعد الميم المكسورة، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم (حامية) بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم المكسورة على صيغة اسم الفاعل. فعلى القراءة الأولى فمعنى (حمئة): ذات حمأة وهي الطين الأسود، ويدل لهذا التفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، والحمأ هو الطين، كما تقدم، ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين: بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد والخلب: هو الطين، والثأط: الحمأة، والحرمد: الأسود. وعلى قراءة: (حامية): بصيغة اسم الفاعل فالمعنى أنها عين حارة، وذلك لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل، ولا منافاة بين القراءتين. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: ((وجدها تغرب في عين حمئة)) أي: رأى الشمس في ناظره تغرب في البحر المحيط. وبعض الناس وبالذات قاصري الفهم من المستشرقين، يقولون: إن القرآن يصور للمسلمين أن الشمس تغطس في العين الحمئة هذه أو في البحر، فيرد ذلك ابن كثير بقوله: (في ناظره). ثم قال: وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه. ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط، وهو ذو طين أسود. والعين: تطلق في اللغة على ينبوع الماء، والينبوع: الماء الكثير، فاسم العين يصدق على البحر لغة، والمقصود بالبحر المحيط المحيط الأطلسي؛ لأنه آخر شيء من جهة المغرب. قال: وكون من على شاطئ المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف، وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)). قال: أما من ظلم، بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال فسوف نعذبه، ((ثم يرد إلى ربه))، في الآخرة، ((فيعذبه عذاباً نكراً))، أي: منكراً لم يعهد مثله. ((وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا)). قيل: إن قوله تعالى: ((وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى)) هي الجنة في الآخرة، أما في الدنيا: ((وسنقول له من أمرنا يسراً)) وهذا في حق المؤمن؛ لأن المؤمن يعمل للآخرة، قدم ويوقن بثوابها الأخروي الذي يسعى إليه بحق. أما في الكافر فقال: ((أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد))، رغماً عنه إلى ما كان ينكره أو يكذب به من الآخرة، ((ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً)). وقيل: ((فله جزاء))، أي: فله في الدارين ((جزاء الحسنى))، أو قيل: الخصلة الحسنى، أو: ثناؤه الحسنى جزاء، أي: مجزياً بها.

تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سببا وكان وعد ربي حقا)

تفسير قوله تعالى: (ثم أتبع سبباً وكان وعد ربي حقاً) ((ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا))، أي: طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90]، يعني: شيئاً يسترهم من المباني أو الجبال. قال تعالى: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91]، (كذلك) أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان، وسعة الملك. أو: أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم. أو: المقصود بكلمة (كذلك): أنه كما حكم في أهل المغرب مكناه أيضاً في أهل المشرق يحكم فيهم بنفس الحكم المتقدم، أو: (كذلك) إشارة إلى مطلع الشمس، وأنه كما وجد الشمس تغرب في عين حمئة في جهة المشرق وجدها أيضاً تطلع في جهة المشرق، أو: المقصود أنه: بلغ مغربها كما بلغ مطلعها، ولا يحيط بما قاساه غير الله عز وجل، أو: (كذلك) صفة لقوم، أي: على قوم مثل ذلك القبيل الذين تغرب عليهم الشمس في الكفر والحجب، كذلك وجد قوماً بنفس الصفة في المشرق. ((وقد أحطنا بما لديه خبراً))، أي: علماً نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض. ((كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا))، يفهم من هذا الإشارة إلى عظيم العدد والعدد التي كانت معه، بحيث لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يستطيع غير الله أن يحصر ويحيط ما معه من الجيوش الكثيرة وكذلك العدد والآلات. قال تعالى ((ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا))، بعدما اتجه إلى مشرق الأرض حيث مطلع الشمس أتبع سبباً، أي: طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب. ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ))، بعض المصنفين يذكر أن هذه المنطقة تقع ما بين البحر الأسود وبين بحر قزوين، وهي عبارة عن منطقة جبلية تزيد على ألف ومائتين وخمسين كيلو متر تقريباً، وهي منطقة جبال متصلة، فهي في حد ذاتها سد، وليس فيها مكان سوى مسافة واحدة هي التي تنقطع عندها السلسلة الجبلية، وهي التي أنشأ فيها هذا السد، وهي الجهة الوحيدة في المنطقة التي فيها سهل أو شعب واسع بين الجبلين، وكان يأجوج ومأجوج يغيران على الأمم من خلاله، أما ما عدا ذلك فكانت حواجز جبلية قوية جداً، وهي سلسلة جبال القوقاز، والله تعالى أعلم. ((السدين)) بفتح السين وضمها قراءتان، أي: بين الجبلين اللذين سد ما بينهما. ((وجد من دونهما))، أي: وراءهما، ((قوماً)) أمة من الناس، ((لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا))، لكون لغتهم غريبة مجهولة، ولقلة فطنتهم. ((قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ))، بالقتل والإضرار. ((فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا))، أي: جعلاً نخرجه من أموالنا، وقرئ: ((فهل نجعل لك خراجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً))، أي: حاجزاً يمنع خروجهم علينا، ((قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ))، أي: ما جعلني فيه مكيناً من المال والملك أجلّ مما تريدون بذله، وأنا لست في حاجة إلى هذا الجهد أو هذا الخراج؛ لأن ما مكني منه الله سبحانه وتعالى من المال والملك أجل وأعظم مما تريدون بذله. ((فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ))، بعمالة وصناع وآلات، ((أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا))، أي: حاجزاً حصيناً، وأصل الردم: سد الثلمة بالحجارة ونحوها. ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ))، أي: ناولوني قطع الحديد. ((حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ))، أي: بين جانبي الجبلين، ((قَالَ انفُخُوا))، أي: في الأكوار والحديد. ((حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا)) أي: المنفوخ فيه جعله كالنار في الإحماء، ((قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا))، يعني: كان الحديد بمثابة اللبنات، والنحاس المذاب بمثابة الإسمنت، وهذه سبيكة من أقوى ما تكون من السبائك، والمعنى: أفرغ عليه نحاساً مذاباً ليلصق بالحديد ويتدعم البناء به ويشتد. ((فما اسطاعوا أن يظهروه))، يعني: لم يستطيعوا أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته، (وما استطاعوا له نقباً)، لم يستطيعوا ثقبه لسماكته وصلابته. ((قال هذا رحمة من ربي))، أي: هذا السد رحمة من ربي على القاطنين عنده، وعلى القوم الذين يسكنون في هذه المنطقة؛ لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم لسد الطريق عليهم، يعني: هو أمان لهؤلاء الذين يسكنون عنده، وأمان لمن وراءهم أيضاً، لأنهم لن يصلوا إليهم بسبب هذا السد. ((فإذا جاء وعد ربي))، بدحره وخرابه، ((جعله دكاء))، بالمد، أي: أرضاً مستوية، وقرئ: ((جعله دكا)) أي: مدكوكاً مسوىً بالأرض. ((وكان وعد ربي حقاً)) أي: كائناً لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين.

تنبيهات على قصة ذي القرنين

تنبيهات على قصة ذي القرنين ثم يذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات:

قصص القرآن عظات وأحكام وآداب

قصص القرآن عظات وأحكام وآداب التنبيه الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار يعني أن القرآن الكريم لا يسلك مسلك الروايات التاريخية أو القصص والحكايات ومجرد الأخبار، وإنما المقصود بما ذكر من ذلك العظات والأحكام والآداب التي تتجلى في سياق الوقائع، فيجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات وما يستنبط من تلك الآيات، وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علماً إلى العليم الخبير. فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض، ورزقه من يشاء بغير حساب ملكاً ومالاً، لما له من خفي الحكم وباهر القدرة، فلا إله سواه، والإشارة هنا إلى رفع شأن ذي القرنين. ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل، وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر، فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس ومطلعها وشمالها وعدم فتوره؛ فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القطر عذراً في الخمول والرضا بالدون، بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء. يعني أنه إذا ذاق المرارة نتيجة الجد والكفاح والسعي، فعليه أن يعزي نفسه بحلاوة العاقبة من الراحة والهناء، كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار، إن لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون. ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة، ولا يؤخر الاجتهاد في تحصيل المطالب العالية إلى مرحلة الكهولة، إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال، إذ إن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره، وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب، فهزم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم وكأنه القضاء المبرم، ولم يقف في وجهه عدد ولا عدد، وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل، وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية التي ورثها عن أبيه وهو شاب، وقضى -أي: مات- وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين. ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة، فيسوقهم بعصا الإذلال ويجرعهم غصص الاستعباد والنكال، بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} [الكهف:87] إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف. ومنها: أن على الملك إذا اشتكي إليه جور المجاورين أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعاً عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب، قياماً بفريضة دفع المعتدين، وإمضاء العدل بين العالمين، كما لبى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد، وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار لرد غارات البرابرة وصد هجماتهم. ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة في مقابلة عمل يأتيه ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته، وزيادة الشغف بمحبته، كما تأبى الإسكندر تفضلاً وتكرماً. ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام، كقول الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم والشفقة عليهم: {مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] كقول سليمان: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنجليزية. ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص، وبوضع صفائح النحاس خلال الصخور الصم صدقاً في العمل ونصحاً فيه؛ لينتفع به على تطاول الأجيال، فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه. ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال، ومشاركتهم بنفسه إذا اقتضى الحال؛ تنشيطاً لهمتهم، وتجرئة لهم، وترويحاً لقلوبهم، وقد كان الإسكندر يقاسم الرجال الأتعاب، ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:96]. ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم ليعرفوا قدره فيظهروا شكره، ولذا قال: ((هذا رحمة من ربي)). ومنها: الإعلام بالدور الأخروي، وانقضاء هذا الطور الأولي؛ لتبقى النفوس تواقة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمدي، ولذا قال: ((فإذا جاء وعد ربي))، إشارة إلى العالم الآخر. ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء وجميل الآثار، فإن من أمعن النظر فيما قص عنه في هذه الآية الكريمة يتضح له جلياً حسن سجاياه وسمو مزاياه من الشجاعة، وعلو الهمة، والعفة، والعدل، ودأبه على توطيد الأمن، وإثابته المحسنين، وتأديبه للظالمين، والإحسان إلى النوع البشري لاسيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة وحشية فاسدة. ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمماً متباينة، كما كان يرمي إليه سعي الإسكندر، فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد، وقد حكي: أنه كان يجيش من كل أمة استولى عليها جيشاً عرمرماً يضيفه إلى جيشه المقدوني اليوناني، ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء. ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد يقضي على المرء أن يعيش أولاً طفلاً مرضعاً لا يعلم ما حوله، ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة قياماً بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له، وعرضة لأسقام تذيقه الآلام وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئاً من هذا النظام، فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله؛ ترعرع إنساناً عظيماً ظافراً بمنتهى أمله، كما فعل الإسكندر الكبير. هذا فيما يتعلق بالتنبيه الأول.

تحرير النزاع في حقيقة ذي القرنين

تحرير النزاع في حقيقة ذي القرنين التنبيه الثاني: من هو ذو القرنين؟ اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن فليب، وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان حينما كان يتكلم عن الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدوني، وهو ابن فليب، وليس بـ الإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما في الدين أعظم تباين. فـ ذو القرنين كان رجلاً صالحاً موحداً لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكان يغزو عباد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدوني فكان مشركاً يعبد الأصنام هو وأهل مملكته، وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة، والنصارى تؤرخ له، وكان أرسطا طاليس وزيراً له، وكان مشركاً يعبد الأصنام. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى. ثم يعلق القاسمي على كلام ابن القيم قائلاً: وفيه نظر، فإن المرجع في ذلك -يعني: في حسم هذه القضية- هم أئمة التاريخ، وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فليب باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا، وأما دعوى أنه كان مشركاً يعبد الأصنام؛ فغير مسلم. وأكيد أنكم سعداء مثلي حينما نسمع بأن الإسكندر كان رجلاً مسلماً موحداً، فنرجو أن يكون هذا هو المذهب الراجح، لأن الإنسان إذا تخيل أن باني الإسكندرية رجل وثني لاشك أن الفرق شاسع جداً في الأمرين، على أي الأحوال القاسمي يتحمس جداً للترجيح بأن الإسكندر كان مؤمناً موحداً، وأنه هو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم. يقول: وأما دعوى أنه كان مشركاً يعبد الأصنام؛ فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين؛ لأنه كان تلميذاً لـ أرسطا طاليس، وقد جاء في ترجمته كما في طبقات الأطباء وغيرها: أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت، وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر -لما كفر بعبادة الأصنام حكم عليه قومه بالكفر في ذلك الوقت- وأريد السعاية به إلى الملك، فلما أحس بذلك شخص عن أثينا -هرب من أثينا لما أرادوا الانتقام منه بسبب موقفه من عبادة الأصنام- لأنه كره أن يبتليه أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراط معلم أفلاطون؛ فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم، وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام، وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها؛ فثوروا عليه العامة، واضطر الملك إلى قتله، فأودعه السجن ليكفهم عنه، ثم لم يرض المشركون إلا بقتله، فسقاه السم خوفاً من شرهم بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. كان هذا الكلام كله في حق سقراط. قال: فالوثنية وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه، كـ النجاشي ملك الحبشة؛ فإنه جاهر بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى، وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله؛ فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد. قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس أستاذ سقراط يقول ببقاء النفس، وكونها فيما بعد في ثواب وعقاب على رأي الحكماء الإلهيين. وأما قول الفخر الرازي: إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالاً قوياً، وهو أنه كان تلميذ أرسطا طاليس الحكيم وكان على منهجه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطا طاليس حق وصدق، وذلك مما لا سبيل إليه. أي: على أساس أنه لو أن الإسكندر تلميذ أرسطا طاليس، والقرآن الكريم يمدح ذا القرنين، فلو كان الإسكندر هو ذا القرنين، وهو تلميذ لـ أرسطا طاليس فتعظيم الله لـ ذي القرنين أو للإسكندر يوجب الحكم بأن مذهب أرسطا طاليس حق وصدق. ثم يرد القاسمي قائلاً: فلا يخفى دفع هذا اللزوم؛ فإن من كان تابعاً لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه؛ إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه، وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلداً، أفلا يمكن أن يكون حراً في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق، ومن آتاه الله من الملك ما آتاه أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر، وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف فيه متبوعه؟ يعني أنه لا يليق به أن يكون مقلداً لأستاذه فإن من آتاه الله سبحانه وتعالى الملك والجاه لا يبعد أن يؤتيه الله من تنور الفكر وعدم التقليد ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه. قال: هذا على فرض أن متبوعه مذموم، وقد عرفنا أن متبوعه أعني أرسطا طاليس كان موحداً، وهو معروف في التاريخ. وقد قيل: إن أرسطو وسائر الناس في زمانه كانوا على منهج الأنبياء، وهذا لا يبعد، فعندما يكون التاريخ موغلاً في العراقة والقدم بهذا الشكل لا يصعب تحريفه خاصة من ذوي الأغراض من مزوري التاريخ والكاذبين على المعاصرين، فضلاً عن الغابرين، فضلاً عمن بيننا وبينهم آلاف أو مئات السنوات. يقول: على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بها كمالاً، وللرازي فرص يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف بمذهبهم، وهذه منها وإن صبغها سامحه الله بهذا الأسلوب، عرف ذلك من عرف.

سبب تلقيب ذي القرنين بذلك

سبب تلقيب ذي القرنين بذلك التنبيه الثالث: اختلف في سبب تلقيبه بـ ذي القرنين، فقيل: لأنه طاف قرني الدنيا -طاف في قرني العالم أقصى الشرق وأقصى الغرب- أو: لأنه كان له قرنان، أي: ظفيرتان، أو لأنه ملك الروم والفرس. قال الزمخشري: ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته، كما يسمى الشجاع كبشاً، فلما ذكر أحد علماء الحديث البخاري، قال: ذلك الكبش النطاح. لأنه شجاع ينطح أقرانه ويغلبهم في العلم. يقول القاسمي: هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان؛ لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها، والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود الذين هم السائلون: ((ويسألونك عن ذي القرنين))، وقد وقع في توارتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك: فإذا أنا بكبش واقف عند النهر وله قرنان، والمراد به: ملك له قرنان، ثم قوله: وبينما كنت متأملاً إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها، وللسيف قرن عجيب المنظر بين عينيه. قالوا: القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان، والسيف: رمز إلى مملكة اليونان، والقرن هو رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير، وما أشار إليه من سرعة مسيره إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد به من الغارات المتواصلة، وقوله (خرج من المغرب)، إشارة إلى خروجه من مقدونيا أو مكدونيا -وهي التي وقعت فيها مذبحة قريبة في الجبل الأسود أو كوسوفا- التي هي إلى غرب فارس، وذلك حين تقدم على جيوش داريوث وكسره وتعقبه إلى داخل مملكته. والقصد: أن هذا اللقب - ذو القرنين - شهير، وليس من أوضاع العرب خاصة كما زعمه بعضهم، بل هو معروف حتى عند أهل الكتاب، بل هو معروف عند العصرانيين أيضاً، وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي صارت إلى العرب وأقرتهم عليها.

خلاف العلماء في نبوة ذي القرنين

خلاف العلماء في نبوة ذي القرنين التنبيه الرابع: قال الرازي: اختلفوا في ذي القرنين، هل كان من الأنبياء أم لا؟ منهم من قال: إنه كان نبياً، واحتج عليه بوجوه: الأول: قوله تعالى: ((إنا مكنا له في الأرض))، والأولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة. الثاني: قوله تعالى: ((وآتيناه من كل شي سبباً)) ومن جملة الأشياء النبوة. الثالث: قوله تعالى: ((قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا))، والذي يتكلم الله معه لابد أن يكون نبياً. ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً. انتهى كلام الرازي. ثم قال الرازي بعد: يدل قوله تعالى: ((قلنا يا ذا القرنين)) على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبياً، وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء عدول عن الظاهر. ثم يعلق القاسمي: ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته. يعني: التمسك بمثل هذه العمومات لا يكفي في إثبات النبوة؛ لأن الأدلة في عامتها يضعف وجه دلالتها على كونه كان نبياً؛ لأن قوله: ((إنا مكنا له في الأرض)) ما المانع من أن يكون المقصود به الملك والتمكين الدنيوي والصفوة وتوسع النفوذ والسلطان؟ وليس شرطاً أن يكون التمكين بالنبوة، والظاهر أنه كان ملكاً عظيماً. ثانياً: قوله: ((وآتيناه من كل شيء سبباً)) لا تستلزم أن يؤتى النبوة أيضاً، باعتبارها سبباً من الأسباب، كما في قوله تعالى في شأن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، وهي إنما أوتيت من كل شيء مما يؤتاه الملوك، كذلك هذا آتاه الله من كل شيء سبباً ولا يشترط أن تشتمل على معنى النبوة. يقول القاسمي: ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته؛ لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص، وأما الاعتماد على العمومات لاستفادة فمثل ذلك فغير مقنع، وأما قوله تعالى: ((قلنا يا ذا القرنين))، فقد قلنا إنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم، لا أنه قول مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى وملقناً ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. يقصد القاسمي: أن قوله تعالى: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86]، كناية عن تمكينه له تعالى من هؤلاء القوم، لا أنه قال له ذلك مشافهة، وإلا لو كان ذلك لكان مخيراً منه تعالى، كأن الله هو الذي خيره ولقنه ما يفعل بهم، فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر، {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86] فإذا كان الله مكنه منهم، وكان من قبل قد قال له: أنت مخير أن تفعل هذا أو ذاك، فكيف يسوغ له بعد ذلك أن يجتهد اجتهاداً ينقض هذا الحكم؟ قال: ولا يقال: إن الأصل في الإطلاق الحقيقة، لأنا نقول به ما لم يمنع منه مانع وللتنزيل الكريم أسلوب خاص عرفه من أمعن النظر في بديع بيانه. نعم. لو كان مراد القائل بنبوته: إنه من الملهمين، ذهاباً في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع لكان قريباً، فتكون نبوته من القسم الثاني، وهو الإلهام الذي جاء في الحديث تسمية صاحبه محدثاً كما في البخاري قال عليه الصلام والسلام: (إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، وإطلاق النبوة عليه وإن كان محظوراً في الإسلام إلا أنه كان معروفاً قبله في العباد الأخيار.

سبب نزول الآيات الواردة في ذي القرنين

سبب نزول الآيات الواردة في ذي القرنين التنبيه الخامس: حكي في قوله تعالى: ((ويسألونك عن ذي القرنين)) قولان: في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم، ورجح الأول من وجهين: الأول: إن للإسكندر عند اليهود شأناً وقدراً، وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة، فدخلها إسكندر وسمع نبوءة التوراة فسر، وأحسن إلى اليهود -يعني رؤيا دانيال- وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم. ثانيهما: أن عنوان ذي القرنين مستعمل في لغة الإسرائيليين، كما قدمناه عنهم.

المراد بالعين الحمئة المذكورة

المراد بالعين الحمئة المذكورة التنبيه السادس: قالوا: المراد بالعين الحمئة البحر المحيط، وتسميته عيناً لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى كعين، وإن عظم عندنا، قالوا: رأى الشمس في ناظره تغرب في البحر، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحل البحر يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق فلكها، يعني: لا تزال تدور في فلكها بعيداً عن الأرض. وللإمام ابن حزم رحمه الله رأي آخر في الآية ذكره في كتاب الملل في بحث كروية الأرض قال: ذو القرنين كان في العين الحمئة الحامئة، كما تقول: رأيتك في البحر، تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر. وبرهان هذا: أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل، ومقدار ما بين أول مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت لرأس السرطان، مرئي مشاهد.

موضع السدين

موضع السدين التنبيه السابع: قال الرازي: الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال، وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان، وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك. وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه: أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع. وذكر ابن خرداد في كتاب المسالك والممالك: أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشهدوه، فوصفوه بأنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند. قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. يقول: فقد بعث إليه الواثق -يعني: إلى هذا السد- أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه، وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً. هذه نقطة مهمة جداً في الحقيقة، يقول: حتى لو لم نستطع الآن أن نراه لم يضرنا. وبعض الناس يقول: حصل مسح جغرافي شامل للكرة الأرضية، وأن هذا السد لو كان موجوداً لرأيناه إلى آخره، وهذا الكلام لا يسلم؛ لأنه كم من منطقة بالذات هذه المناطق الجبلية لم تطأها قدم إنسان على الإطلاق، وهناك مناطق لا يتصور أن يصل إليها إنسان، وهذا وارد، فهذا لا يضر خبرنا شيئاً. يقول: وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئاً؛ لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء؛ بحيث يكون ميل الشمس ورجوعها وبعدها كما هو في الجهة الشمالية. ثم يقول: واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان، فهو كاذب مبطل جاهل أو متجاهل، لاسيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره، وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهية العقل، فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر، ونعوذ بالله من البلاء. قال بعض المحققين: اعلم أن كثيراً ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فقد تحدث بين طبقات الأرض فروق عن طريق الزلازل والبراكين ونحو هذه الأشياء، ومثل هذا ما يسمى بـ: المتحف الروماني، أو المسرح الروماني فهو تحت الأرض، وكان من قبل جبلاً عالياً، وكان في هذه المنطقة بركان، ثم أزيل لأن رجلاً يونانياً مغرم بالبحث عن حلمه في الحياة، وكل حياته كرسها لأجل أن يبحث عن مقبرة الإسكندر، فكان يحفر حتى اكتشفوا المقابر أو المساكن ومن ضمنها المسرح الذي تحت الأرض، فما الذي هبط بهم؟ عذاب، فخسف الله بهم الأرض، أو زلازل أو براكين وانقلبت البلد، أو غطيت بهذه الأكوام من الصخور، إذاً: هذا شيء وارد في علم الله وفي قدرة الله سبحانه وتعالى، تحصل بعض الزلازل أو البراكين فتغير التركيب الجيولوجي للطبقات. فيقول: كثيراً ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زماننا هذا، فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن فربما كان ذلك ناشئاً من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره، ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة. هذه المسألة فيها خلاف، ودليل القرآن يدل على بقاء هذا السد إلى يوم القيامة. قد يقول قائل: كيف وقد قال تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]، فمعناه: أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه، حيث كان هذا السد حائلاً بين يأجوج ومأجوج وبين الإفساد في هذه البلاد. ((قال هذا رحمة من ربي)) لمن؟ رحمة من الله بالأمم القريبة منه لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أنه مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله، ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف لحظة واحدة أمام قدرة الله، بل يدكها جمعاء دكاً في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول: تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، ((فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء)) أي: إن الله قادر على أن يدكه دكاً. قال: فأراد ذو القرنين تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله، فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان وكان هذا السد موجوداً دكه الله دكاً، وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها لأسباب أخرى كالزلازل إذا قدم عهده، وكالثورات البركانية كما قلنا، وليس في الآية ما ينافي هذا. قال: وأما قوله تعالى: ((حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)) فالمراد منه: خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض كما يخرج الشيء المحبوس المضغوط إذا انفجر، واستعمال لفظ الفتح مجازاً شائع في اللغة، ومنه قول: افتتحوا البلاد، وقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، فليس للأشياء أبواب، وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم، بل هم من كل حدب ينسلون، والمراد أن المراد بخروجهم هذا -وهو الغالب- خروج المغول والتتار، وهم نسل يأجوج ومأجوج، وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري، وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض بعد أن انتشروا فيها من الإفساد والنهب والقتل والسبي. وهناك رسالة لأحد المصنفين بعنوان: يأجوج ومأجوج، في مجلد كبير، وتتبع الخروج المتعدد للمغول والتتار والإفساد الذي أفسدوه في الأرض بصورة مفصلة، والذي انتهى بأن هزمهم الإسلام وذابوا في الهوية الإسلامية، وفروا من ملوكهم وأصبحوا مسلمين يحكمون بالإسلام. ثم يقول: والراجح أن السد كان موجوداً بإقليم داغستان -التابع الآن لروسيا بين مدينة ديربل وخوازر- فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة بالسد، وبه موضع يسمى باب الحديد، وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب بجبل قاف، وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم، ويقولون: إنه في نهاية الأرض، وذلك بحسب ما عرفوه منها ومن ورائه قبيلة يأجوج ومأجوج. انتهى. وجاء في صفوة الاعتبار: أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس هو سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين، فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلاً، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدماً، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدماً، وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدماً، وقالوا: إن هذا السور أيضاً كان من أحد الوسائل الدفاعية لرد هجمات المغول والقبائل الشمالية، والسور الآن خراب في جهات كثيرة. وهذا تأويل بعيد. يقول: فإن كان هو المراد بالسد في الآية لزم حمل الصفات المذكورة فيه من كونه زبر الحديد، ومفرغاً عليه النحاس على بقاع من ذلك السور. وهذا احتمال بعيد جداً. ثم قال بعض المصنفين في هذا: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي كوة قاف تقتضي أن هذا الجبل كان مسدوداً بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين، وهذا السد العظيم تارة يعزى للإسكندر وتارة لـ أنو شروان، ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن تروى لمن يروم ذلك.

تسمية يأجوج ومأجوج أعجمية

تسمية يأجوج ومأجوج أعجمية التنبيه الثامن: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان لم ينصرفا للعجمة والتعريف، ويجوز ياجوج وماجوج بترك الهمز. قيل: إنهما من الترك، وقيل: إن يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم، ثم من الناس من وصفهم بصغر القامة وصغر الجثة، وقال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز المعروفة عند العرب بجبل قاف في إقليم داغستان قبيلتان تسمى إحداهما آكوك والثانية ماكوك فعربهما العرب بيأجوج ومأجوج، وهما معروفان عند كثير من الأمم، وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب، ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا.

الإسرائيليات في ذكر يأجوج ومأجوج

الإسرائيليات في ذكر يأجوج ومأجوج التنبيه التاسع: توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواية في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج، وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات، ومن ذلك حديث: (إن يأجوج أمة ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف أمة، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه، كان كل قد حمل السلاح) إلى آخره في هذا الكلام، رواه ابن عدي في الضعفاء عن حذيفة مرفوعاً وقال: موضوع منكر. أيضا هناك أثر عن وهب بن منبه، كما قال ابن جرير؛ الأثر الطويل العجيب في سير ذي القرنين وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم. وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها، فجزى الله البخاري أحسن الجزاء على نبذه تلك الروايات، واشتراطه الصحة في المرويات، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار، ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله: إن راوي الضعاف غاش آثم مضل، والله المستعان.

يأجوج ومأجوج في السنة

يأجوج ومأجوج في السنة العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى له كلام في هذه القضية أيضاً، يقول: اعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود، وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له. ورغم أن القاسمي في آخر كلامه أثنى على البخاري لأنه نبذ الإسرائيليات، لكن نلاحظ أيضاً أن القاسمي لم يتعرض لما في البخاري ومسلم من الأحاديث التي تعرضت لذكر السد، وذكر يأجوج ومأجوج، وتفاصيل ما سيقع في قيام الساعة، فهذا مما يضعف الاستناد لاستنباطات القاسمي، لأنه أهمل ذكر السنة مع أنه أثنى على البخاري رحمه الله تعالى. وهذا الجانب من البحث الذي يعتبر نقطة ضعف من كلام القاسمي وفاه وعالجه من وجهة نظر أخرى العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى. يقول: فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين الكريمتين لهما بيان أوضحته السنة، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بياناً وافياً بالمقصود، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين -دون يأجوج ومأجوج - إنما يجعله الله دكاً عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه، وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة؛ لأنه قال هنا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:98 - 99]، وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة التي عوض عنها تنوين (يومئذ) من قوله: ((وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض)) أنه إذا جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض. ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم، وإذا تقرر أن معنى يومئذ: يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهم، فاعلم أن الضمير في قوله: (وتركنا بعضهم)، على القول بأنه لجميع بني آدم، فالمراد يوم القيامة. وإذاً: فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد وقربه منه، وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج، فقوله بعده: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف:99]، يدل في الجملة على أنه قريب منه. قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98]، هو إشارة إلى السد، أي: هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده، أو: هذا الإقدار والتمكين من تسويته ((فإذا جاء وعد ربي)) يعني: فإذا دنا مجيء يوم القيامة، وشارف أن يأتي جعل السد دكاً أي: مدكوكاً مبسوطاً مسوىً بالأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك، ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام. وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:96 - 97]. لأن قوله تعالى: ((حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج))، وإتباعه لذلك بقوله: ((واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا)) يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها، وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم روسيا -إن يأجوج ومأجوج هم الروس- وإن السد فتح منذ زمان طويل. فإذا قيل: إنما تدل الآيات المذكورة في الكهف والأنبياء على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد، واقترابه من يوم القيامة، لا ينافي كونه قد وقع بالفعل. يعني: إنه يوجد قول آخر يرد على هذا الكلام، يقول: اقتراب القيامة ليس فيه إشكال، وتوجد علامات كثيرة جداً تدل على اقتراب الساعة، كبعثة النبي محمد عليه السلام. يقول: كما قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها)؛ فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به، بل يصح اقترابه مع مهلة، وإذاً فلا ينافي دك السد الماضي المزعوم الاقتراب من يوم القيامة، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن؟ فالجواب هو ما قدمنا: أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافياً بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له. يعني رغم محاولة الشنقيطي لاستنباط هذا المعنى من آيتي سورة الكهف وسورة الأنبياء، يقول: لكنه يحتاج لمزيد من الإيضاح عن طريق السنة. يقول: ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة؛ لأنها مبينة للقرآن. قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي: أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟، قلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافئة، كأني أشبهه بـ عبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا. قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا. اقدروا له قدره. قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت دراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله؛ فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم -أي: لا أحد يستطيع أبداً أن يقاتلهم- فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم؛ فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. يدعو عليهم المسيح عليه السلام فيهلكهم الله سبحانه وتعالى. ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً، لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة -المجموعة من الناس- من الرمانة، ويستظلون بقحفها -قحف الرمان هو ورقه- ويبارك الله في الرسل؛ حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة). وهذا الحديث رواه مسلم. وهذه الريح هي التي تأتي من اليمن تقبض نفس كل مؤمن، وهي المشار إليها بقول النبي عليه السلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، يعني: حتى تأتي هذه الريح التي تقبض أرواح جميع المؤمنين. قال: وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال، فمن يدعي أنهم روسيا، وأن السد قد اندك منذ زمان، فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها، ولا شك أن كل خبر ناقض خبر ا

خطر الخوض في تنزيل أشراط الساعة على الواقع

خطر الخوض في تنزيل أشراط الساعة على الواقع ونحتاج وقفة يسيرة هنا مع ظاهرة مؤلمة تتكرر بين وقت وآخر: وهي ظاهرة الاستناد إلى مرويات أهل الكتاب والإسرائيليات، فهذا من الشيء المؤسف جداً، الآن توجد موجة كاسحة في عالم التأليف عن أشراط الساعة، حتى يكاد الناس يقولون: فلان هو فلان المذكور في كذا، إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو أن اعتماده على أحاديث مأخوذة من كتب الشيعة وكذبهم وضلالهم، وإما من كلام أهل الكتاب والإسرائيليات، ويحاولون أن يطبقوها على الواقع، يقول لك: إن صدام حسين هو السفياني. هذه الموضة كانت بدأت منذ سنوات، وكان معظم الناس يتكلمون ويقولون: إن العام الحاسم هو عام (1997)، ثم مرت سنة (1997) وحصل ما حصل. فالرجم بالغيب، والإخبار عن المستقبل أو تنزيل النصوص على الواقع بدون بينة من الشرع، يعتبر من التقول على الله سبحانه وتعالى بغير علم، وموافقة لهوى النفس، فالإنسان يجد دافعاً داخلياً للاستجابة، لكن الأحداث لا تسير حسب الأماني، ونحن إنما نفرح حينما نعلم أنه سيكون النصر في النهاية للمسلمين. كما حصل أيضاً في فتنة الخليج قالوا: هذه هي الملحمة بيننا وبين اليهود والنصارى في فلسطين، وستحصل الملحمة الكبرى في المنطقة المعروفة بالشام، ونحن إن كنا نوقن بأن الملحمة ستقع؛ لأن الرسول عليه السلام أخبر بذلك في أحاديث صحيحة، إلا أننا لا نطبقها على الواقع إلا إذا وقعت، فلا يصلح أن نستدعي أحداث آخر الزمان بإرادتنا، هذه أمور كونية قدرية ستقع حتماً، لكن كما شاء الله ومتى شاء الله، ونحن مسئولون فقط عن الإيمان بها إيماناً مجملاً، أما تنزيلها على الأعيان والزمان فهو تقول على الله بغير علم. وقد حصل الخلل في مثل هذا الأمر في حادثة المهدي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، سنة ألف وأربعمائة هجرية، لما حصل الاعتصام في الحرم؛ لأنهم كانوا يريدون تسرعة الأحداث بأيديهم، فأخرجوا المهدي من بينهم، وخططوا لذلك في ضوء أحاديث ضعيفة ونحو ذلك؛ فحصل ما حصل من انتهاك حرمات الله عز وجل. فنحن غير مسئولين عن أشراط الساعة وغير مكلفين بأن نجتلبها، والأحداث ستسير وفق ما حدده الله لا الهوى، وتأتي رواية تقول لك: توجد روايات في التوراة تقول كذا، وإن السفياني رجل جبار وقاسي القلب، لكن يهزم إلخ، وينتهي في النهاية نهاية سعيدة، وبلا شك -إن شاء الله- ستكون نهاية سعيدة للمسلمين، ويمكن لهم الله سبحانه وتعالى، آجلاً أو عاجلاً، كما وعدنا الله سبحانه وتعالى، لكن الخطر في أن هذه التحليلات تمثل حرباً نفسية، لأن إسرائيل كأنها إذا أرادت فلا مرد لإرادتها ولا لأمرها، فهذه نوع من الحرب النفسية ومساهمة في نشر الأراجيف بين المسلمين. قد كنت أنتظر مرور سنة (1997) هذه بأي طريقة، حتى أقول هذا الكلام، وجاءت الآن المناسبة، أين العامة التي كانت تلهج بذكر سنة (1997) وبما سيكون فيها؟ وجاء الوقت الآن وبدأت الجعجعة لسنة ألفين، لكن نقول: الغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، أما أن نلهو بالغيب بناءً على إسرائيليات لا نعرف صدقها من كذبها، أو بناءً على منامات، أو حديث موضوع، أو اقتباسات من كتب الشيعة الكذابين الذين هم أكذب الفرق في القديم والحديث، ثم بعد ذلك نمني أنفسنا ونهرب من الواقع إلى هذه الخيالات، فهذا مما لا يليق بالمسلم. فلنكف عن الخوض في هذه الموجة النازلة، حتى الكتب أصبحت كثيرة في هذا الباب، والكل يكتب عن أشراط الساعة، ويرتب بعضها على بعض، ولماذا صدام حسين خصيصاً؟! وما الذي يعجب في صدام حسين السفاح المجرم الأفاك الأثيم؟! أليس هو الذي جلب لنا كل هذا الشؤم؟! حرب الخليج تعتبر مثل حادثة الفيل في استعمالها للتأريخ؛ لأنها فصلت بين حقبتين تاريخيتين، فهي فتحت أمامها الشر والذل والهوان الذي نحن فيه الآن، إذ أن الجيوش الأمريكية والإنجليزية التي أرسلت صارت الآن تخزن أسلحتها في فلسطين المحتلة، وأصبح من حق اليهود استعمالها عند الضرورة -خدمة ما بعدها خدمة- وبعض المساكين السذج في الصدام الأخير المزعوم بين صدام حسين وأمريكا لم يلتفت إلى أن الغرض هو إيجاد المبرر لزيادة هذه القوات، والناس ظنوا أن أمريكا تراجعت، لا. بل وجدت المبرر لحشد القوات في هذه المنطقة. صحيح عند النصارى توجه في أمريكا، وبلا شك عند اليهود يقين بوقوع ملحمة هرمجدون، وربما هي التي يسميها الرسول عليه الصلاة والسلام الملحمة الكبرى، فهم يزعمون أن النصر سيكون حليفهم في النهاية، ولكن قطعاً سيكون النصر حليف المسلمين كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، ولكن متى؟ لا ندري، وهذه الملحمة في الشام في مكان حدده النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكل دقة، أما أن نقول: إن حرب الخليج كانت هي الملحمة وسيحصل كذا وكذا. إذاً: الإنسان لا يرجم بالغيب وينتظر أن تقع الأشياء بصورة لا تقبل التأويل، ثم نقول: هذا الذي كان مقصوداً بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما أن ننسى الأحاديث، ومنهج أهل السنة والجماعة، ومنهج المحدثين، ونتشبث بأحلام ومنامات، ومنها أحلام نصرانية أو كتابية، أو أحاديث إسرائيلية، وأحاديث ضعيفة وموضوعة بالذات من قبل الشيعة، فهم يجيدون الكذب في مثل هذه الأشياء، فهذا ليس هو المنهج الصحيح، والقضية تحتمل كلاماً مفصلاً، لكن هذه إشارة عابرة باعتبارها أول فرصة مناسبة نتكلم فيها على هذا الأمر. يقول الشنقيطي: فقولكم لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس غير صحيح؛ لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس، حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس، ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره تعالى في سورة المائدة من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذلك في قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]، وهم في فراسخ قليلة من الأرض، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه؛ لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق، وعلى كل حال فربك فعال لما يريد. وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة، وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة زاعمين أنه منزل في التوراة أو غيرها من الكتب السماوية باطل يقيناً لا يعول عليه؛ لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ؛ بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم، كقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46]، وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام:91]، وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]، إلى غير ذلك من الآيات العظيمة. بخلاف هذا القرآن العظيم، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه ولم يكله إلى أحد، حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17]، وقال: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، وقال في النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. ولما رأى النبي عليه السلام صحيفة من التوراة في يد بعض الصحابة غضب غضباً شديداً، وقال: (أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي)، فالموضة الجديدة الآن: جاء في الآثار كذا وكذا، وفي الإنجيل كذا، وفي التوراة كذا، هذا مما ينبغي عدم التسامح فيه، وتوجد حالات قليلة عند مناظرة أهل الكتاب نلزمهم فيها بما في كتبهم من الأشياء التي توافق ما عندنا، وتدعم الإيمان بنبوة النبي عليه السلام، فهذه يمكن أن تستخدم في مجال معين كالاستدلال بها، أما أن يسمى عندنا: (كتاب مقدس) وبعض الناس يقول: وجاء في الكتاب المقدس، من قال لك: إنه هو الكتاب المقدس؟ لذلك بعض الإخوة ذوي الفطانة كتب ضمن المراجع في آخر الكتاب: المرجع رقم كذا الكتاب المقدس عندهم، لأنه ليس مقدساً عندنا، نحن نؤمن بالتوراة وبالإنجيل بلا شك، لكن هل الذي في أيديهم الآن هو الذي أنزله الله، أم أنه اختلط حقه بباطل كثير؟ كما قال ابن القيم: (ما عند أهل الكتاب في كتبهم باطله أضعاف أضعاف حقه، والحق الذي فيه منسوخ)، فنحن في غنى عن أن ننظر في مثل هذه الكتب، نحن نؤمن بالتوراة التي نزلت على موسى، ونؤمن بالإنجيل الذي نزل على عيسى، لا أربعة أناجيل على الأقل، فأيها الصحيح؟ وهي متناقضة ومتعارضة، وفيها من الكذب والتحريف ما فيها، فموضوع التسامح في مثل هذا مما يهدد العقيدة. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم، خوف أن يصدقوا بباطل أو يكذبوا بحق، ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات: في واحدة منها يج

طه [1 - 43]

تفسير سورة طه [1 - 43]

تفسير قوله تعالى: (طه)

تفسير قوله تعالى: (طه) يقول الله تعالى: {طه} [طه:1]. نبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية على نكتة تتعلق بالحروف المقطعة في أوائل بعض السور فقال: وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ رفها ترى سراً عظيم الشان لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن إذ كان إخباراً به عنها وفي هذا الشفاء لطالب الإيمان ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها والحق ذو تبيان فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان مع تلوها أيضاً ومع حم مع يس وافهم مقتضى الفرقان والعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يرى أن أظهر الأقوال في هذه الحروف أنها مما تحدى به الله في القرآن الكريم العرب، فهو مكون من نفس لغة العرب التي نزل بها القرآن، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله! يقول: أظهر الأقوال عندي أن {طه} [طه:1] من الحروف المقطعة في أوائل السور، مثل {حم} [غافر:1] و {الم} [البقرة:1] وغيرها، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها بأنها من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة الشعراء: {طسم} [الشعراء:1]، وفاتحة النمل: {طس} [النمل:1]، وفاتحة القصص، وأما الهاء ففي فاتحة مريم: {كهيعص} [مريم:1]، فخير ما يفسر به القرآن القرآن. وقال بعض أهل العلم وهو أيضاً قول معتمد عندهم: أن (طه) الطاء مثل الطاء في (طسم)، والهاء مثل الهاء في (كهيعص)، يعني أنها من الحروف المقطعة في أوائل السور، خلافاً لما يزعمه بعض الناس من أنه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويسمون أبناءهم بـ (طه) بناء على هذا، وهذا مما لا يثبت، وإنما هي حروف كأي حروف أخرى مقطعة في أوائل السور. وقال بعض أهل العلم: قوله: (طه) معناها: يا رجل، وهي لغة بني عبس من عدنان، وبني قيس، وبني عكل، قالوا: لو قلت لرجل من بني عكل: يا رجل، لم يفهم أنك تناديه، حتى تقول له: يا طه، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: دعوت لطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون مزايلاً وقال عبد الله بن عمرو: معنى (طه) بلغة عك: يا حبيبي! ذكره الغزنوي وقال هو بلغة طي، وأنشد يزيد بن المهلهل: إن السفاهة طه في شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين ويروى: إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين وممن نقل عنه: أن معنى (طه) يا رجل: ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى. وغيرهم، نقل ذلك عنهم ابن كثير وغيره. وذكر القاضي عياض عن الربيع بن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه)) يعني: طء الأرض بقدميك يا محمد! وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة يعني: فهو أمر بالوطء على الأرض بقدميه. وفي (طه) أقوال أخر ضعيفة مثل: القول: بأنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. والقول: بأن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية، كأن الله تعالى يقول: يا طاهراً من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وغير ذلك من الأقوال الضعيفة. والصواب -إن شاء الله- في الآية هو ما صدرنا به كلامنا، ودل عليه القرآن في مواضع أخر. إذاً: معنى (طه) مثل (الم)، وليس كبعض الناس إذا سمع (طه) قال: صلى الله عليه وسلم، نعم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر اسمه، لكن (طه) ليست من أسمائه عليه الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)

تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) قال تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، يعني: لتسعد بترك تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، والشقاء هنا: بمعنى التعب، ومنه المثل: أشقى من رائض مهر. {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3]، أي: تذكيراً له. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن أنزلنا القرآن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار، والقصد: أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، هذا هو واجبك، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، وليس بمسئوليتك قيام القلوب بهذا الحق، لكن عليك بيان هذا الحق والتبليغ. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع من التنزيل: أن ينهاه عن الحزن عليهم، وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف:2]، وقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وهذا يصور مدى سخط النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، فصوره بمن يفارق أحب الناس إليه، ثم هم ينصرفون عنه ويودعوه، وإذا به يظل يلاحقهم ويمشي خلفهم أسفاً على فراقهم وذهابهم عنه، حتى كاد أن يقتل نفسه من الغم والحزن والحسرة والتأسف لفراقهم؛ فلذلك يقول الله تعالى هنا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف:6] يعني: لعلك مهلك نفسك، (على آثارهم) لأنه يحرص على أن يهتدوا، {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، كأن الله سبحانه وتعالى يقول له: ترفق بنفسك فإنك تكاد أن تقتل نفسك، وتكاد أن تموت من شدة الشفقة عليهم؛ صلى الله عليه وسلم. ويقول الله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران:176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً مثل: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] أي: هون عليك، ما أنزلنا عليك القرآن حتى تشقى وتتألم وتحزن هذا الحزن لنفورهم من الإيمان، ولكن بلغ وأنذر فقط، وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن العناية به والرأفة ما لا يخفى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى): فيها وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له القرآن: الأول: أن معنى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] أي: لتتعب التعب الشديد بقصد تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة، كقوله: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فأنزل الله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2] أي: لتنهك نفسك بالعبادة؛ وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحاء، وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: إن كان المنطوق إرادة نفي الشقاء بنزول القرآن؛ فالمفهوم إرادة السعادة؛ فلذلك قال الشنقيطي: ويفهم من قوله: (لتشقى)، أنه أنزله عليه ليسعد صلى الله عليه وسلم كما يدلنا على ذلك الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). وقد روى الطبراني، عن ثعلبة بن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقول للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي)، قال ابن كثير: إسناده جيد. فيكون معنى الآيات على هذا القول الأخير مثل قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، حسب الاستطاعة. وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب: ذو العقل يبقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة يلعب فالشقاوة هنا بمعنى: العناء والتعب، ومنه قوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، أريد بذلك العناء والتعب في دار الدنيا. {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3]، (تذكرة) أظهر الأقوال فيه أنه مفعول لأجله، أي: ما أنزلنا عليك القرآن (إلا تذكرة) أي: لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عقابه، والتذكرة: هي الموعظة التي تلين القلوب، فتمتثل أمر الله وتجتنب نهيه، وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم؛ لأن هؤلاء الذين يخشون الله هم الذين ينتفعون بالتذكرة، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45]، فالتخصيص المذكور بقوله: (لمن يخشى) في الآيات فيمن تنفع فيهم الذكرى، كما قال تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، فهي تنفع المؤمن، ولذلك قال هنا: ((إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى))؛ لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكرة دون غيرهم. أما ما ذكره تعالى هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة، فقد بينه في غير هذا الموضوع، كما في قوله عز وجل: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:27 - 28]، وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90]، إلى غير ذلك من الآيات.

تفسير قوله تعالى: (تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى)

تفسير قوله تعالى: (تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم أشار إلى تضخيم هذا المنزل الكريم بنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:4 - 6]، فهذا كله تفخيم لشأن القرآن الكريم، وبيان عظم قدر من أنزله، وهو الله سبحانه وتعالى المتفرد بصفاته وأفعاله. وقوله: (الرحمن) قرئ بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصوف، والكلام هنا على وصف الرحمن: ((تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى)) ((الرَّحْمَنُ))، بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصول، يعني: ممن خلق. قوله: ((عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) أي: علا وارتفع، قاله ابن جرير، وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان، كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلاً. ولا شك أن هذا المسلك الخلفي مسلك مذموم، وهو من التأويل الفاسد الذي يجب رده، والصحيح بل الصواب الذي لا يصح غيره: أن مثل هذه الآيات من آيات الصفات تمر على ظاهرها الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، بلا كيف، وبلا تعطيل، قال ابن كثير: والمسلك في ذلك طريقة السلف من إمرار ما جاء من ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6]، هذا بيان لشمول قهره وملكه للكل، أي: كلها تحت ملكه وقهره وسلطنته وتدبيره، لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)

تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى) قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، بيان لكمال لطفه، أي: علمه نافذ في الكل؛ فيعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] والأخفى من السر: سر السر، فكذلك إن تجهر أو تخفت فيعلمه بجهرٍ وخفتٍ. {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8]،أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله سبحانه وتعالى، ((لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) أي: الفضلى؛ لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى: ((وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)) المراد بقوله في هذه الآية: (وأخفى) أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها القرآن. يقول الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر) أي: ما قاله العبد سراً، (وأخفى) أي: ويعلم ما هو أخفى من السر، وهو ما توسوس به نفسه. يعني: السر هو ما يقوله العبد في الخفاء، أما ما هو أخفى من السر: فهو ما توسوس به نفسه، يعني مجرد ما يحدث الإنسان نفسه بشيء دون أن ينطق به فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. قول آخر: (فإنه يعلم السر)، السر: ما توسوس به نفسه، (وأخفى) ما هو أخفى من ذلك، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله، ويعلم ما سيكون في المستقبل من أفعال هذا الإنسان، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، وكما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، إن الله يعلم ما يسره الإنسان اليوم وما سيسره غداً؛ لأن ما يسره غداً هو أخفى بلا شك من السر، والعبد لا يعلم ما في غد، كما قال زهير في معلقته: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وأخفى) صيغة تفضيل، يعني: يعلم ويعلم ما هو أخفى من السر. وهناك قول ظاهر السقوط، وهو الزعم بأن (أخفى) فعل ماض: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] يعني: أنه يعلم سر الخلق وأخفى عنهم ما يعلهه هو. وهذا قول ظاهر السقوط، وإنما (أخفى) أفعل تفضيل، يعني: ما هو أخفى من السر. فقوله تبارك تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] يعني: فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه، كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف:205]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، ولكن لابد في الدعاء من النطق وتحريك اللسان، لكن لا يرفع ولا يجهر بذلك.

تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)

تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى) قال تبارك وتعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:9 - 10]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى) هذا من عطف القصة أو الاستئناف، والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهت إليه الآية قبله ببيان أنه دعوى كل نبي لاسيما أشهرهم نبأً وهو موسى عليه السلام، فقد خوطب بقوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14]، وبه ختم نبأه في هذه السورة بقوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98]، يعني: لما ذكر قصة موسى عليه السلام بدأها ببيان دعوته إلى لا إله إلا الله وإلى التوحيد، وختمها أيضاً بذلك، ففي مبدأ القصة خاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي))، وفي آخر القصة قال: ((إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا))، وربما قصد بذلك حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التأسي بموسى في الصبر والثبات؛ لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له.

تفسير قوله تعالى: (إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا)

تفسير قوله تعالى: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً) أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام إلى كيفية ابتداء الوحي إليه وتكريمه تعالى إياه؛ وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعدما طالت غيبته عنها ومعه زوجته، فأضل الطريق في صحراء سيناء، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء، فبينما هو كذلك إذ: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] يعني: أحس من جانب الطور ناراً، كما خصه تعالى بقوله: {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:10]، أي: أبصرتها إبصاراً بيناً لا شبهة فيه، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10]، أي: بشعلة مقتبسة تصطلون وتستدفئون بها، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10]، أي: أجد هادياً يدلني على الطريق، لأنه كان قد ضل الطريق. {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:11 - 12]، (فلما أتاها) أي: النار، (نودي يا موسى) (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)، فيجب في مثل هذا الوادي رعاية الأدب بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه له، كما يراعى أدب القيام عند الملوك، (وطوى) اسم للوادي. {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13] أي: اصطفيتك للنبوة، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] أي: استمع للذي يوحى، ثم بينه بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] أي: خصني بالعبادة وحدي، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركتها دالة على ما في القلب واللسان، وأن تجعل الحركة صورة ظاهرة تعكس ما في القلب واللسان من الخشوع. قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر، وأفردت في الأمر بالعبادة؛ لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وذلك قوله تعالى: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي))، أي: لتذكرني، فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار، أو (لذكري) خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو بإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر، أو لتكون ذاكراً لي غير ناس. هذه أقوال في معنى قوله: ((وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)).

تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى)

تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) ثم أشار عز وجل إلى وجوب إفراده بالعبادة، وإقامة الصلاة لذكره بقوله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} [طه:15] أي: واقعة لا محالة، {أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] أي: بسعيها عن اختيار منها، والنفس متعلقة بآتية، يعني: إن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما تسعى. ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات، وأن الساعة لا يُعلم متى هي، وفي: (كاد) معنى القرب من ذلك، وتأولوا الآية على وجوه: الوجه الأول: إن كاد منه تعالى واجبة، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: أكاد أن أفعل كذا، معناها: أن ذلك واجب أن يقع كما أراد الله سبحانه وتعالى، والمعنى: (أكاد أخفيها) أنا عن الخلق لقوله تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51]، فعسى من الله واجبة، بمعنى: هو قريب. الوجه الثاني: قال أبو مسلم: (أكاد) بمعنى: أريد، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76]. ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد) بمعنى: ولا أريد أن أفعل. قال الشهاب: تفسير (أكاد) بأريد هو أحد معانيها، كما نقله ابن جني في المحتسب عن الأخفش، واستدلوا عليه بقوله: كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى كادت وكدت، يعني: أرادت وأردت، بدليل أنه قال بعدها: وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى بمعنى: أراد، لقوله: تلك خير إرادة. الوجه الثالث: أن (أكاد) صلة في الكلام، قال زيد الخير: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس الوجه الرابع: أن معنى (أكاد أخفيها): فلا أذكرها إجمالاً، ولا أقول: هي آتية؛ وذلك لفرض إرادته تعالى: إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي: اللطف بالمؤمنين، وبحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف وإن اتسع اللفظ لها.

تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى)

تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16]. (فلا يصدنك عنها) أي: فلا يصدنك عن تصديق الساعة، (من لا يؤمن بها واتبع هواه) أي: ما تهواه نفسه من الشهوات، وترك النظر والاستدلال، (فتردى) أي: فتهلك. قال الزمخشري: يعني: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير، إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيراً من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم -لا تغتر بكثرة عددهم-، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه لا البرهان وتدبره، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله، {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16] أي: فتهلك معهم.

تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى) قال تبارك وتعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، هنا شروع في ما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر، وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع. لماذا ينبه الله موسى عليه السلام أنها عصا؟ لأن هذا تمهيد وإيقاظ وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى. {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] استوفى الجواب كل أركان التعريف، فإن أي شيء أردت أن تعرفه فإنك تعرف الذات، ثم النسبة فقال: (عصاي)، والياء ياء النسبة، ثم فؤائدها: (أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى). (أتوكأ عليها) أي: أعتمد عليها إذا عييت، أو إذا وقفت على رأس القطيع عند الصخرة. (وأهش بها على غنمي) أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله. (ولي فيها مآرب أخرى)، أي: حاجات أخر. {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:19 - 21] أي: سنعيدها إلى هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تفعل من قبل، فليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك. {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه:22] أي: إلى إبطك، {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [طه:22] أي: نيرة، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه:22]، أي: من غير قبح وعيب؛ كبياض البرص فإنه مما ينفر عنه؛ لأن البياض المستقبح هو البياض الذي ينشأ عن البرص -المرض المعروف- فلذلك قال: (بيضاء من غير سوء)، حتى لا يتوهم أحد أن هذا بياض منفر كبياض البرص، واعتمد الزمخشري أن قوله تبارك وتعالى: (من غير سوء) كناية عن البرص، كما كنى عن العورة بالسوءة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه لجاجة، فكان جديراً بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا أنصف ولا أجمل للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه، ((تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى)) أي: معجزة أخرى غير العطاء. {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23]، حق الآيات أن تظهر بعد التحدي والمناظرة، ولكن لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى؛ فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. والمقصود من هاتين المعجزتين وما ينضاف إليهما: إفحام فرعون، وتأييد موسى بهذه المعجزات أمام الكفار عند المناظرة، والله سبحانه وتعالى أراه أولاً هذه المعجزات مع أن حقهما إظهارهما عند التحدي والمناظرة، لكن أراه الله أولاً بعض آياته الكبرى ليقوى قلبه على مناظرة الطغاة، فحينما يقصد ويواجه فرعون يكون قلبه متيقناً أن معجزاته واقعة، فقد رأى العصا انقلبت حية، ورأى ما حصل بيده عليه السلام، وغير ذلك من هذه الآيات.

تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)

تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى) قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:24] أمره أن يذهب إليه بعد أن طمأن قلبه بهذه المعجزات، وأنه مؤيد من الله سبحانه وتعالى، (اذهب إلى فرعون) هذا هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. إذاً: كل ما مضى تمهيد لهذا المقصود؛ وهو الذهاب إلى فرعون، وفصل عما قبله من الأوامر إيذاناً بأصالته، والأوامر الماضية لما قال له تبارك وتعالى: (ألقها يا موسى)، ثم قال: (خذها ولا تخف)، ثم قال: (واضمم يدك إلى جناحك)، ثم فصل بينهما بقوله تبارك وتعالى: (تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى)، بعد هذا الفصل قال: (اذهب إلى فرعون)، على أنها مهمة مستقلة، أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعوه إلى عبادتي، وحذره من نقمتي. {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] أي: جاوز الحد في التكبر والعتو حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية، فلابد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية التي صدقتها المعجزة.

تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري)

تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري) قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]، إنما سأل ذلك لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل؛ لأنه كما قال في السورة الأخرى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، لما قتل بطريق الخطأ وعدم القصد ذلك الرجل القبطي الذي استغاثه عليه الرجل من شيعته: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، فسأل الله سبحانه وتعالى هذه الأمور؛ لأنه كان يتخوف من آل فرعون في شأن هذا القتيل، ولأن الذي بُعث إليه هو فرعون الذي يعرف أنه جبار عنيد، وأقوى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً، فهذا مما لا شك فيه أن صاحب مثل هذه المهمة الخطيرة يحتاج إلى عناية ربانية؛ فلذلك التجأ موسى عليه السلام إلى سلاح الدعاء، سائلاً الله سبحانه وتعالى هذه الأمور: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]، سأله أن يمده بمنطق فصيح؛ لما في لسانه من عقدة كانت تمنعه من كثير من الكلام، كما قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34]، وقول فرعون: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]. ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون ليكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، وذلك بقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28]، قال بعض العلماء: دل قوله: (عقدة من لساني)، عقدة بالتنكير والإفراد، ثم أتبع ذلك بقوله: (يفقهوا قولي)، هذا يدل على أنه لم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فهم كلامه مع بقاء بعضها، فهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى عنه: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34]، وقوله تعالى عن فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، والاستدلال بقول فرعون في موسى فيه نظر، فإن فرعون معروف بالكذب والبهتان، والعلم عند الله تعالى. ثم قال موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31] أي: قو به ظهري، {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:29 - 34] أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك؛ لأن التعاون مهيج للرغبات، ويتزايد الخير ويتكاثر، ولا شك أن التعاون والاجتماع على الطاعة مما يشد أزر الإنسان، ويقوي نيته للعمل الصالح. {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:35] أي: عالماً بأحوالنا، وبأن المدعو به مما يفيدنا. ودائماً الجماعة تشعر وتدرك بركتها خاصة في أعمال الطاعات والعبادات، كما يحصل في صيام رمضان؛ لأن الناس كلهم يتعاونون على إظهار ذكر الله سبحانه وتعالى، وهكذا أي شيء يعمل جماعة، فإن الجماعة تكون فيها البركة.

تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى)

تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى) قال الله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] أي: أجيب دعاؤك* {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37]، هذا كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ولبيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمة التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو داع له أولى وأحرى. يعني: ما مر من الآيات يبين الله سبحانه وتعالى لموسى أنه أنعم عليه بأعظم نعمة وهي نعمة النبوة والرسالة، ثم أنعم عليه بهذه المعجزات، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول له: قد أنعمنا عليك هذه النعمة العظمى؛ نعمة الرسالة بدون طلب منك، وإنما ابتدأها الله سبحانه وتعالى في حقه من غير سابقة دعاء منه ولا طلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى. {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37]، فصدره هنا بالقسم: (ولقد مننا)، لكمال الاعتناء بذلك، (مرة أخرى) أي: في وقت آخر. {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:38 - 39] قوله: (إذ أوحينا إلى أمك) يعني: ألقينا بطريق الإلهام، والوحي إلى أم موسى لا يدل على أنها كانت نبية، وإنما هذا إلهام جعله الله في قلبها أو ألقاه في روعها، وليس وحياً كالوحي الذي ينزل على الأنبياء. ((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)) يعني: الصندوق، ((فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ)) (اليم) البحر، يعني: ألقيه واقذفيه متوكلة على الله عز وجل. ((فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي))، لماذا هو عدو لله؟ بدعواه الألوهية، ((وَعَدُوٌّ لَهُ))، لدعوته إلى نبذ ما يدعي؛ وهو سوف يدعوه إلى نفس ما يدعيه من الألوهية وغير ذلك. قال الزمخشري: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته ألا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقائه إليه؛ سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} [طه:39] أي: على سبيل الاستعارة بالكناية بتشبيه اليم بمأمور منقاد وإثبات الأمر تسهيل. وهذا الكلام في الحقيقة فيه نظر، من أين لنا أن هذا الأمر مجاز؟ والله قادر أن يخلق في اليم إدراكاً بحيث يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى. (فليلقه اليم بالساحل) أمر الله اليم أن يلقيه في الساحل، ((يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)) أي: محبة واسعة مني زرعتها في قلب من يراك، وهذه من خصائص موسى عليه السلام، فما كان أحد يراه إلا وأحبه، ولذلك أحبه فرعون بمجرد أن رآه، وقالت زوجته: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]. ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي))، أي: ولتربى بيد العدو على رغد بالحفظ والعناية؛ لأن المصون يجعل بمرأى ممن يكفله، (على) بمعنى الباء، لأنه في الأصل بمعنى: بمرأى مني. {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه:40]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه منّ على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه؛ وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير. ومعنى الوحي إلى أمه: أي: ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام، وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك، ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبياً لمجرد موقف عام أوحى الله إليه، وليس وحياً كالذي ينزل على الأنبياء، فليست الآية دليلاً لـ ابن حزم وحيث ذهب إلى جواز نبوة المرأة؛ لأن المرأة لا تكون نبية. (أن) مفسرة؛ لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه، والتعبير بكلمة (ما) الموصولة يدل على تعظيم شأن الأمر المذكور، كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78] يعني: شيء عظيم، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]، للدلالة على عظم شأن الموحى به. ((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ)) أي: الصندوق، {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه:40] البحر، ((فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ))، شاطئ البحر، والبحر المذكور هو نيل مصر، والقذف: الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26] يعني: ألقى ووضع، ومعنى: (فاقذفيه في التابوت) أي: ضعيه في الصندوق، والضمير في قوله: (أن اقذفيه) راجع إلى موسى بلا خلاف، وأما الضمير في قوله: (فاقذفيه في اليم) فهو راجع إلى التابوت أو موسى. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت؛ لأن تفريق الضمائر غير حسن، فالأصل أن الضمائر كلها على نسق واحد، كلها تعود إلى موسى، خلافاً لقول من قال: إن الهاء في: (اقذفيه في اليم) إلى التابوت، والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت، (فليلقه اليم) أي: موسى عليه السلام في الساحل. ((يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ)) وهو فرعون، وصيغة الأمر معناها الخبر. قال أبو حيان في البحر المحيط: (فليلقه) أمر معناه: خبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها. الوجه الثاني: أن صيغة الأمر في قوله: (فليلقه) أريد بها الأمر الكوني القدري، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل؛ لأن الله أمره بذلك كوناً وقدراً. وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله في سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، ولا شك أن هذه الآية من أعظم آيات البلاغة في القرآن الكريم. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] (ليكون)، هذه لام العاقبة، وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر، وألقاه اليم بالساحل، وأخذه عدوه فرعون وذلك في قوله تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]، والمعنى: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)) إلا من محبة موسى؛ ولذلك يقولون في تعريف العشق: حركة قلب فارغ، وقوله هنا: ((وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)) أي: من كل شيء إلا من محبة موسى عليه السلام، ومن شدة وجد قلبها من محبته والشفقة عليه كادت أن تنطق بهذا السر: (إن كادت لتبدي به)، من شدة وجدها، {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]. وإعراب: (يأخذه) جواب الطلب مجزوم؛ لأنه في جواب الطلب: (فليلقه اليم بالساحل)؛ لأننا قلنا: إن معناه الأمر الكوني. أما إذا قلنا إن: (فليلقه اليم بالساحل) بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ وليس لمعنى، والصيغة تنافي الأمر، والعلم عند الله تعالى. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وذكر في قصتها: أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت؛ لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت، وحشته قطناً محلوجاً، وقيل: إن التابوت المذكور من شجر الجميّز، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون، واسمه حزقيل، وكانت عقدت في التابوت حبلاً، فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل، فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها، وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى؛ فحصل لها بذلك من الغم والهم ما ذكره الله تعالى في قوله عز وجل: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10]. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37]، أشار إلى ما يشبهه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات:114]. قوله: (وألقيت عليك محبة مني)، قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ما ذكره جل وعلا في القصص بقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، قال ابن عباس: (وألقيت عليك محبة مني) أي: أحبه الله وحببه إلى خلقه، وقال ابن عطية: جعل عليه مسحة من جمال، لا يكاد يصدر عنه من رآه، وقال قتادة: كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه، نقله القرطبي.

تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله)

تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله) قال تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40]. هذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كون أخته مشت إليهم، وقالت لهم: (هل أدلكم على من يكفله)، أوضحه جل وعلا في سورة القصص، فبين أن أخته المذكورة كانت مرسلة من قبل أمها لتتعرف على خبره بعد ذهابه في البحر، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك، وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريماً كونياً قدرياً، فقالت لهم أخته: (هل أدلكم على من يكفله) أي: على مرضع يقبل ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة؟ وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:11 - 13]، فقوله تعالى في آية القصص: (وقالت لأخته) أي: قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها، (قصيه) أي: اتبعي أثره وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره. (فبصرت به عن جنب) أي: رأته من بعيد كالمعرضة عنه؛ تنظر إليه وكأنها لا تريده، (وهم لا يشعرون) بأنها أخته جاءت لتعرف خبره، فوجدته ممتنعاً من أن يقبل ثدي مرضعة؛ لأن الله يقول: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص:12] أي: تحريماً كونياً قدرياً، ومنعناه منها ليكون بذلك رجوعه إلى أمه، وليكون ذلك سبب رجوعه إلى أمه؛ لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها لما قالت لهم: ((هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ))، أخذوها وشكوا في أمرها، وقالوا لها: ما يدريك بنصحهم له، وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ورجاء منفعته. يعني: أنها تكون مخلصة وناصحة له وأمينة؛ كي تنتفع من الملك بأجر هذه الرضاعة؛ فأرسلوها لما قالت لهم ذلك، وخلصت من أذاهم، فذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة؛ ولكن لكونه قبل ثديها سألتها أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليهم، وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً، ولا أقدر على المقام عندكم، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والغلال والكساوي والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها، وقد أبدلها الله بعد خوفها أمناً في عز وجاه ورزق دارٍ! قوله تعالى في آية القصص: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [القصص:13]، وعد الله هو المذكور في قوله: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، والمؤرخون يقولون: إن أخت موسى المذكورة اسمها مريم. قوله: (كي) إن قلنا: إن (كي) حرف مصدري واللام محذوف، فالمعنى: لكي تقر، وإن قلنا: إنها تعليلية فالفعل منصوب بأن مضمرة. (تقر عينها) قيل: أصله من القرار؛ لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه، ولا تنظر إلى غيره، فقرت العين: أن العين إذا رأته تسكن وتثبت عليه ولا تتحول إلى غيره من شدة الوله به. وقيل: أصله من القرار كما في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، فالقرار المقصود به السكون، بمعنى: أن العين إذا رأته لشدة حبه له تدخل وتستقر عليه، ولا تتحول إلى غيره. وإذا قلنا: هو مأخوذ من القر: البرد، تقول العرب: يوم قر، أي: بارد، ومنه قول امرئ القيس: تميم بن مر وأشياعها وكندة حولي جميعاً صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا تحرفت الأرض واليوم قُرّ يعني: واليوم بارد. ومنه أيضاً قول حاتم الطائي الجواد: أوقف فإن الليل ليل قر والريح يا وافد ريح صر فالقر البرد، ولماذا خص البارد؟ لأنهم يقولون: إن البكاء الذي ينشأ عن الفرحة تكون دموعه باردة، والبكاء الذي يصدر عن الحزن يكون ساخناً، وعلى هذا القول فإن قرة العين من بردها؛ لأن عين المسرور باردة، ودمع البكاء من السرور بارد جداً، بخلاف عين المحزون فإنها حارة، ودمع البكاء من الحزن حار جداً، ومن أمثال العرب: أحر من دمع المقلاة، والمقلاة هي المرأة التي لا يعيش لها ولد، فيشتد حزنها بموت أولادها، فتشتد حرارة دمعها بذلك. قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ((إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ)): أي: يضمن حضانته ورضاعته، فقبلوا قولها؛ وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها، كما قال تعالى: (وحرمنا عليه المراضع)، فجاءت أخته فقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فجاءت بأمه كما قال: (فرجعناك إلى أمك) أي: مع كونك في يد العدو، (كي تقر عينها)، برؤيتك، (ولا تحزن) بفراقك، فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.

تفسير قوله تعالى: (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا)

تفسير قوله تعالى: (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً) ثم أشار إلى ما من عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع، بقوله: {وَقَتَلْتَ نَفْساً} [طه:40] أي: من آل فرعون، وهو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] أي: اغتممت وحزنت أن يطبق عليك القصاص، وموسى ما قصد القتل؛ وإنما لأن موسى كان شديد القوة فعندما وكزه بيده إذا بهذه الوكزة تقتل الرجل من شدة قوته عليه السلام؛ وكما تعلمون فإن الأنبياء يكونون في أكمل صورة في كل شيء خَلقاً وخُلقاً ونسباً وقوة بالبدن وجمالاً في الصورة والحسب، وكل الصفات الخَلقية والخُلقية يكونون فيها أكمل الناس. وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا رجلاً مصارعاً إلى الإسلام فلما دعاه قال: إن صرعتني سأسلم، وكان من أقوى المصارعين العرب، فصارعه، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأسلم. وفي الحديث أيضاً: (كنا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالصحابة هم أشجع الأمم على الإطلاق، ومع ذلك يقولون: إذا كنا في حالة الجهاد والالتحام المسلح مع الأعداء نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلهم يختبئون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمون به، (فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه صلى الله عليه وسلم). {فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ} [طه:40] أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه من الكفار؛ وذلك أنه عليه السلام فر من آل فرعون حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]. {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] أي: ابتليناك ابتلاء، على أن الفتون مصدر كالسكون، أو إن الفتون جمع فتنة، يعني ضروباً من الفتن، أي: فجعلنا لك فرجاً ومخرجاً منها، وهو إجمال لما سبق ذكره. {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} [طه:40] أي: معزز الجانب، مكفي المئونة، في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم وهو نبيهم عليه السلام، ولم يثبت أن هذا الرجل الصالح هو شعيب عليه السلام. {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] أي: بعد أن قضيت الأجل المبروم بينك وبين شعيب مع الزيادة، جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك في وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك الخبر غير مستقدم ولا مستأخر، والأمر له تعالى، وهو المسير عباده وخلقه كيفما يشاء. قال أبو السعود: وقوله تعالى: ((ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى))، تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً. {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، تذكير بقوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13]، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه، والاصطناع افتعال من الصنع، بمعنى: الصنيعة، يقال: صنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاً لإكرامه ولاختياره وتقريبه منه، ولجعله من خواص نفسه وندمائه وجلسائه، فجعله نبياً مكرماً كريماً منعماً عليه بحلائل النعم. والظاهر هنا: العدول عن نون العظمة تمهيداً لإفراد لفظ النهي؛ لأنه قال تعالى: (وحرمنا)، (فرجعناك)، (وفتناك)، (واصطنعتك)، فهل يصح أن يقول: صنعناك بأنفسنا؟ لا؛ لأنه حينئذ سيقول: لنفسي، ولا يمكن-معاذ الله- أن يجمع ذلك في حق الله. يقول: والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: (وفتناك) ونظيريه السابقين تمهيد لإخراج لفظ النفس اللائقة بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص، (واصطنعتك لنفسي). ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه وتعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه:42] أي: بمعجزاتي كالعصا، وبياض اليد، وحل العقدة، مع ما سيظهر على يده، {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42] أي: لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلي. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]، لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله من هذه الناحية، ولا ممن هي، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم، ولا الفتون الذي فتنه، ولكنه بين في سورة القصص خبر القتيل المذكور في قوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:15 - 16]، وأشار إلى القتيل المذكور في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14]، وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19]، شيء عجيب، موسى في زمن فرعون يُكفّر، ولذلك رد عليه قائلاً: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20]. وقد أشار تعالى في سورة القصص أيضاً إلى غم موسى، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه بقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:20 - 22] إلى قوله: {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]. وقوله تعالى: (وفتناك فتونا) قال بعض أهل العلم: الفتون مصدر، وربما جاء المصدر الثلاثي المتعدي على فعول، وقال بعضهم: هو جمع فتنة، وقال الزمخشري في الكشاف: فتوناً: يجوز أن يكون مصدراً على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور. وجمع فتن أو فتنة فتون، وقد تكون جمع فتن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث؛ كحجوز وبدور في حجرة وبدرة، أي: فتناك ضروباً من الفتن اهـ. وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث الفتون، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده، وهو حديث طويل يقتضي: أن الفتون يشمل كل ما جرى على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره، مثل الخوف عليه من الذبح وهو صغير، فهذه فتنة، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت، وقذف في اليم، وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله، وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور. وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق حديث الفتون بطوله: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً اهـ.

تفسير قوله تعالى: (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى) قال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40]، السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27]، يقول: قد قدمنا أنه أتم العقد، وبينا دليل ذلك من السنة، وبه تعرف أن الأجل في قوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص:29] عشر سنين لا ثمان. وقال بعض أهل العلم: لبث موسى في مدين ثمان وعشرين سنة، عشر منها مهر ابنة صهره، وثمانية عشرة أقامها هو اختياراً، والله تعالى أعلم. وأظهر الأقوال في قوله تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] أي: جئت على القدر الذي قدرته، وسبق في علمي أنك تجيء فيه، فلم تتأخر ولم تتقدم، كما قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز: نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى موسى ربه على قدر

تفسير قوله تعالى: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري)

تفسير قوله تعالى: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) قال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:42 - 43]، والمراد بالآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]، وقوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل:12]. (إنه طغى)، أصل الطغيان: مجاوزة الحد، ومنه: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، وقد بين تعالى شدة طغيان فرعون ومجاوزته الحد في قوله تعالى: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقوله عنه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقوله عنه أيضاً: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. (ولا تنيا)، مضارع وني يني على حسب قول ابن هانئ في الخلاصة، يقول: والونى أو الوني في اللغة الضعف والفتور والكلال والإعياء، وقال العجاج: فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر يعني: ما كسل وما تعب وما أعيا. إذاً: قوله: ((وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي)) أي: لا تضعفا ولا تفترا في ذكري، وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته بقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191]، وأمر بذكره عند لقاء العدو بقوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال:45]، وقال ابن كثير رحمه الله: والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله حال مواجهة فرعون، فيكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له، كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه) أي: وهو يلاقي أو يقاتل قرنه أي: خصمه. وقال بعض أهل العلم: (ولا تنيا في ذكري): لا تزالا في ذكري، واستشهد لذلك بقول طرفة: كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبداً تغلي أي: لا تزال تغلي.

طه [44 - 59]

تفسير سورة طه [44 - 59]

تفسير قوله تعالى: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)

تفسير قوله تعالى: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، هذا من خطاب الله لموسى وهارون عليهما السلام، والمعنى: لعله يخشى عقابي؛ فإن تزيين القول مما يكسر ثغرة عناد العتاة ويلين عريكة الطغاة، وقد بين الله ذلك في قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19]، وهذا من مظاهر تلطف موسى بفرعون: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18]، تلطف في العبارة: (هل لك)، ولم يقل: تعال كي أزكيك، وإنما نسب التزكية إلى نفسه هو: (إلى أن تزكى)، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت. {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19]. وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وقوله تبارك وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله، فإنه لا يصح منه، ولذا قال القاضي أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب بعدكما، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن: إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما في تضاعيف ذلك من الآيات. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]: أمر الله جل وعلا نبييه موسى وهارون عليهما السلام أن يقولا لفرعون في حال تبيين رسالات الله إليه: (قولاً ليناً) أي: كلاماً لطيفاً سهلاً رقيقاً ليس فيه ما يغضب وينفر، وقد بين جل وعلا المراد بالقول البين في هذه الآية بقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:17 - 19]، وهذا -والله- غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى. وقد كانت عادة قدماء المصريين عموماً -للأسف الشديد- عبادة ملوكهم ومن يلي أمرهم، واتخاذهم آلهة، إلى حد أن الشعب كأنه لا قيمة له ولا وزن، كذلك نلاحظ خلاف من كان قبلهم من الأمم يقول الله: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65]، يتكلم عن القبيلة كلها، أو الأمة بمجموعها. أما موسى فكثير من الآيات تخبر أن الله أرسله إلى فرعون، كما قال هنا: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43]، وقال أيضاً: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات:17]، وإذا ذكر شعبه معه فعلى سبيل التبعية له، لذا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى التعبير بهذا التعبير: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النازعات:17]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: يؤخذ من الآية الكريمة: أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرق واللين لا بالقسوة والشدة والعنف، كما قال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال يزيد الرقاشي عند قوله: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا)): يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ فانظر إلى لطف الله سبحانه وتعالى، وتحببه إلى عدوه الطاغي الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومع ذلك انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى من رحمته ولطفه به يحرض نبييه الكريمين عليهما السلام أن يقولا له قولا ليناً؛ لأن الهدف هو انقياده إلى الحق؛ فلذلك كان يقول يزيد الرقاشي عندما يتلو هذه الآية: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ كيف بالمؤمن الذي يتولى الله ويناديه ويناجيه ويسأله الهداية والتوفيق؟! ولقد صدق الله من قال: ولو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكاً وزورا أناب إلى الله مستغفراً لما وجد الله إلا غفورا قوله تعالى: ((لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) يقول: قد قدمنا قول بعض العلماء: إن (لعل) في القرآن بمعنى التعليل، إلا التي في سورة الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، فهي بمعنى: كأنكم، وقد قدمنا أيضاً: أن لعل تأتي في العربية للتعليل، ومنه قوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق وهذا مثل واقع المسلمين الآن مع اليهود لعنهم الله، وقوله: (لعلنا نكف) يعني: لأجل أن نكف. فأحياناً كلمة (لعل) في القرآن الكريم تستعمل للتعليل، بمعنى لكي أو لأجل، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] يعني: لأجل أن تتقوا، فإن الصيام وسيلة إلى التقوى، وهذا خلاف الكلام الذي ذكره القاسمي رحمه الله تعالى؛ لأن القاسمي لما جعلها على بابها؛ أي: أن لعل للترجي، قال: إن الرجاء هنا صادر عن موسى وهارون، أما الشنقيطي رحمه الله تعالى فيقول: إن لعل في القرآن تأتي أحياناً بمعنى التعليل، إلا في سورة الشعراء: ((وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ))، فإن معناها: كأنكم تخلدون. وقال بعض أهل العلم: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى))، معناه: على رجائكما وطمعكما، فالترجي والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر، وعزى القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كـ سيبويه وغيره.

تفسير قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى)

تفسير قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يعني: يبادرنا بالعقوبة، (أو أن يطغى) أي: يزداد طغياناً بالعناد في قطع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتجرؤ على أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لجرأته وقسوة قلبه، واقتصر على الثاني الزمخشري. إذاً: المعنى: أن يبادرنا بالعقوبة، (أو أن يطغى) يزداد في العناد ثم يأمر بقتلنا. وقول آخر في تفسير: (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) أن يقول في حق الله سبحانه وتعالى كلاماً لا ينبغي لجرأته وقسوة قلبه. قال الزمخشري: إن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز؛ باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة. قالا: (أو أن يطغى)، ولم يذكرا تفاصيل هذا الطغيان، فلم يقولا: نخاف أن يسب الله سبحانه وتعالى، أو يقول كلمته العظيمة، وهذا كله من أجل التحاشي عن التفوه بالكلام الذي لا يليق في حق الله تبارك وتعالى، وهذا هو الأدب الذي ينبغي أن يلزم، حتى إذا حكى الإنسان كلاماً من الكفر؛ فينبغي أن يغير في العبارة بحيث يتجنب ويتحاشى التلفظ بما لا يليق بحق الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن الإنسان يصاب أحياناً من كلمات بعض الملاحدة من العلمانيين وغيرهم ممن يقولون في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق دينه ما تقشعر له الجلود، فلا بد من استعمال الرمز بحكاية ما فيه إيذاءً لله سبحانه وتعالى. {قَالَ لا تَخَافَا} [طه:46]، هذا الخوف خوف فطري جبلي، وهو خوف من الأذى أو القتل، وهذا لا يلام عليه الإنسان، فهذا من الخوف الجبلي الذي هو من جبلة وطبيعة البشر، وليس الخوف الذي هو شرك. (قال لا تخافا) أي: من صلفه وطغيانه. {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46]، بالحفظ والنصرة، فهذه المعية الخاصة وليست المعية العامة التي هي معية الله مع جميع الخلق، بالسمع والبصر والرقابة والشهادة وغير ذلك، وإنما هذه المعية معية خاصة بالمؤمنين ولأهل التقوى وللأنبياء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، بالنصرة والتأييد والتولي. {أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: ما يجري بينكما وبينه، فأرعاكما بالحفظ، فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ، كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير، وإذا كان الله الحافظ تم الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدو؛ ولذلك موسى عليه السلام في أحرج اللحظات لما طارده فرعون وجيشه، فلما وصل موسى وقومه إلى ساحل البحر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، ماذا يفعل؟ البحر أمامه، والعدو من خلفه! فانظر إلى جواب موسى لثقته بهذا الوعد من الله، وقد يكون موسى لا يعرف كيف يكون المخرج؟ لكن في أشد اللحظات هو واثق بوعد الله، مع أن العدو على وشك أن يصلهم، فقالوا له: (إنا لمدركون) أي: حقاً سوف ينالون منا ويصلون إلينا، {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، هذه هي المعية الموعود بها هنا: (إنني معكما أسمع وأرى).

تفسير قوله تعالى: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل) قال تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]. ((فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: أطلقهم من الأسر والعبودية؛ لأن بني إسرائيل عانوا في مصر أشد العذاب والعناء على يد فرعون وملئه، فمعنى: (أرسل معنا بني إسرائيل) أي: لإطلاقهم من الأسر والعبودية وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين، (ولا تعذبهم) أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة. (قد جئناك بآية من ربك) أي: آية تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك. (والسلام على من تبع الهدى) أي: آمن بآيات الله المبينة للحق، وفيه من ترغيبه لاتبعاهما على ألطف وجه ما لا يخفى. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ألف الاثنين في قوله: (فأتياه فقولا)، راجعة إلى موسى عليه السلام وهارون، والهاء في قوله: (فأتياه) تعود إلى فرعون، أي: فأتيا فرعون (فقولا له إنا رسولا ربك) أي: إنا رسولان إليك من ربك، (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي: خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاءوا. (ولا تعذبهم)، العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل هو المذكور في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49]، وجاء ذكره أيضاً في سورة إبراهيم والأعراف والدخان في قوله: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:30 - 31]، وقال في سورة الشعراء: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]، وقال أيضاً في سورة الشعراء: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:16 - 17]. وقوله تبارك وتعالى: (قد جئناك بآية من ربك) الآية هنا جاءت مفردة؛ وهي اسم جنس، وهذه الآية مفردة يراد بها جنس الآية الصادق على العصا واليد وغيرهما لدلالة آيات أخرى على ذلك، بل آيات أخرى تدل على أن موسى أوتي تسع آيات وليس آية واحدة. إذاً: المقصود (بآية) هنا جنس الآية. (والسلام على من اتبع الهدى) يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى، ويفهم من الآية أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه، وفرعون كذلك؛ ولذلك كان في أول كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام)، إلى آخر كتابه صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى)

تفسير قوله تعالى: (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) قال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، والآيات في هذا كثيرة، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39]، وقوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16]، وقال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:31 - 35] إلى غير ذلك من الآيات. قوله هنا: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا} [طه:48] يعني: من ربنا، {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ} [طه:48] أي: بآياته تعالى، {وَتَوَلَّى} [طه:48] أي: أعرض عنها. وفيه التنصيص بالوعيد، ولم يصرح بحلول العذاب به، وهذا منتهى التلطف به بالوعيد، رغم أن فرعون أتى بهذه الأمور العظام لكن انظر إلى التلطف، لم يقل: إن العذاب سوف يحل عليك، وإنما قال: {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، فلم يصرح بحلول العذاب به، وتلطف في إثبات الوعيد لمن كذب وتولى. ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى)) (قال) أي: فرعون، {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية والأعضاء التي تطابق المنفعة المنوطة بها، فسواها بها وعدلها، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز به بين الخير والشر، وهذه الآية في معناها آية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، وآية: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي. زاعماً أنه لا يعرف الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعلم لهما إلهاً غير نفسه، كما قال في الآية الأخرى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، وقد دلت آيات القرآن الكريم على أن فرعون كاذب في دعواه أنه هو ربهم الأعلى، وأنه يعلم أنه عبد مربوب لرب العالمين، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] كان على سبيل المكابرة، كذلك هنا في قوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى}، على سبيل الاستنكاف أن يكون لهما إله غير نفسه، وقال أيضاً: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. إذاً: قوله: ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا))، هذا تجاهل عارف؛ لأنه عبد مربوب لرب العالمين، ففرعون بطبعه يأكل ويشرب وينام ويمرض، والناس قد رأوه ولد من أب وأم، وتجري عليه كل الأعراض البشرية، فمن أين له أن يدعي هذه الألوهية؟! وقبل أن يولد أين كان؟! أين عقول هؤلاء القوم الذين استساغت عقولهم الضعيفة أو المريضة هذا القول؟! ((قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى))، هذا تجاهل عارف، وادعاء منه بالجهل وعدم معرفته بالله، وأنه لا يعرف الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الإسراء على لسان موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، فموسى الصادق المصدوق عليه السلام يخبره بالحقيقة: (لقد علمت) يعني: أنت تعرف جيداً يا فرعون، (ما أنزل هؤلاء)، أي: هؤلاء الآيات، ((إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)). كذلك أيضاً قال تبارك وتعالى في سورة النمل: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ)) أي: فرعون وقومه، {آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:13 - 14]، رغم أنهم كانوا على يقين أن هذا من عند الله، لكنه الجحود، وادعاء الجهل والنكران بعد العلم: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. وسؤال فرعون عن رب موسى وجواب موسى له جاء موضحاً في سورة الشعراء بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23 - 24]، انظروا للحوار، فرعون يقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:23 - 25]، يتعجب من جواب موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي} [الشعراء:26 - 29]، انظر للفرق بين الحجة وبين الإقناع بالسطوة والسلطة: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء:29 - 32].

تفسير قوله تعالى: (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)

تفسير قوله تعالى: (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) قال الله تعالى: {الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: أن الله عز وجل أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجاً، فجعل للرجال أزواجاً من بني آدم من جنس آخر، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجاً، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه، فلم يزوجه بالإناث من البهائم مثلاً، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك. ((ثُمَّ هَدَى)) أي: هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة، وقال بعض أهل العلم: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة. وهذا المعنى فصله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، حيث بين فيه النوع الأول من أنواع الهداية، وهو الهداية العامة لكافة المخلوقات إلى ما يصلحها. هذا هو معنى قوله: ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))؛ حتى الرضيع حينما يخرج من بطن أمه هداه إلى كيفية الرضاعة، مع أن لها ميكانيكية محددة في غاية الدقة، وهذا لم يسبق له، كما قال الله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل:78]، لكنه بنداء الفطرة يتجه إلى الأم ويرضع بالطريقة المعروفة. كذلك عالم الحيوانات والنباتات والحشرات وكل هذه العوالم إذا الإنسان تطلع إلى آيات الله سبحانه وتعالى فيها وتدبر لوجد شرحاً لهذه الآية الكريمة: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، فهناك علم من العلوم الحديثة التي تكشف آيات الله سبحانه وتعالى، وأيضاً العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر هذا بالتفصيل في قضية القضاء والقدر، وذكر أمثلة كثيرة جداً من هداية الحيوانات إلى ما يصلحها، والعلم الحديث الآن ذكر آلاف الأمثلة أكثر مما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى. يقف يتأمل في مملكة النحل والعجائب التي أعطاها الله للنحل من خلقه، ثم هداها إلى الوظائف التي تؤديها، وهكذا مملكة النمل أعطى كل نملة خلقها، ثم هداها إلى ما فيه صلاحها، ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى أن فأراً وقف على برميل زيت، وهو يريد أن يشرب من هذا الزيت، وكان مستوى الزيت إلى حد لا يصل إليه الفأر، فأتى بماء في فمه ثم صبه على الزيت، ومعلوم أن كثافة الزيت أقل من كثافة الماء، وهو ما درس هذا ولا تعلم قوانينه، فصار الزيت يعلو الماء ويرتفع في البرميل، إلى أن استطاع أن يشرب منه! ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)). ومنها: أن شخصاً أتى بإناء فيه عسل وطعام ووضعه داخل إناء آخر فيه ماء، لكن النمل حاولت أن تصل إلى العسل فلم تستطع، فماذا فعلت؟ صعدت على السقف، ثم تدلت واحدة على الأخرى حتى بلغ السرب الإناء فأخذت منه! وعجائب صنع الله سبحانه وتعالى كثيرة جداً في هذا الباب. وقال بعض أهل العلم: ((أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)) أي: أعطى كل شيء صورته المناسبة له، فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديراً، كما قال الشاعر: وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل يعني: له لكل شيء صورة ((ثُمَّ هَدَى))، كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه. وقال بعض أهل العلم: من العجائب موضوع هجرة الأسماك وهجرة الطيور، وكيف أنها تقطع كل هذه المسافات الهائلة، ثم تعود من حيث أتت! ما الذي يهديها في الظلام، لا توجد معالم في الأرض تميز بها طريق الهجرة، كيف تميز؟ وكيف تعرف؟ كل هذا بلا شك من آيات الله سبحانه تعالى. وقال بعض أهل العلم: ((أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)) أي: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، إذ كل جزئية في العين لها وظيفة تناسبها، فالأذن خلقت على شكل يوافق الاستماع، كذلك الأنف والرجل واللسان وغيرها، وكذلك كل موضع في الإنسان، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. ومن أعظم آيات الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان أن كل شيء في مكانه، ومع ذلك الملاحدة الذين طمس الله على قلوبهم يزعمون أن الطبيعة هي الخالق! إن أي جزئية في جسم الإنسان نجد أنها في الموقع المناسب لها والملائم للوظيفة التي خلقت من أجلها، ولو نظرنا للأسنان مثلاً لرأينا حكمة الله في هذه الأضراس، ترتيب الأسنان بهذا الوصف وبهذه الصورة العجيبة لحكمة مطلقة من فعل الله سبحانه وتعالى. فأفعال الربوبية ترشد كلها لقوله: ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))، العين مثلاً كان ممكن أن توضع في القفا، أو يوضع الحاجب أسفل منها، أو الفم يكون على صورة أخرى بخلاف خلق الله سبحانه وتعالى، وعندها فإنه لا يتطابق مع الوظيفة التي خلق لها. وانظر إلى أنواع الشعر: الشعر الذي في الرأس، وشعر الحاجب، والرموش، واللحية، ثم انظر إلى حكمة الله سبحانه وتعالى: لو أن شعر الرموش صار نموه بنفس معدل نمو شعر الرأس ماذا سيحصل؟! وغير ذلك من هذه الأحوال، بل كل بحكمة الله يتواءم مع وظيفة خلق الله الإنسان لكي يؤديها، فكل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير نائب عن الآخر. إذاًَ: ((الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ))، (كلَّ) مفعول، (أعطى) فعل يتعدى لمفعولين، والمفعول الثاني (خلقه). وقيل في المعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأحوال المذكورة؛ لأنه لاشك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به، ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به؛ فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وأكمل قدرته! وكما يقول الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فهذه آيات الله سبحانه وتعالى كلها خلقت وبثت في الأرض وفي أنفسنا كي تدلنا عليه عز وجل، نتدبر ونتفكر في خلق السماوات والأرض وفي خلق أنفسنا؛ كي نتعرف على قدرة الله سبحانه وتعالى، ونصل إلى توحيده عز وجل. وابن القيم رحمه الله فصل الكلام في كتابة التبيان في أقسام القرآن وفصل كثيراً جداً على أساس المستوى العلمي الذي وصلوا إليه في زمانهم، وهو مما يكشف عن ثقافة عالية جداً بالنسبة لزمانهم، ولا شك أننا الآن لدينا أضعاف أضعافها، ولكن للأسف الشديد نحن نتلقاها من الكفار الملاحدة، وهذه الآيات يطلع عليها الكفار والملاحدة سواء في الشرق أو في الغرب ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يطمس على قلوبهم إلا من رحم الله، ومع أن هذه الآيات أمام أحدهم لكن أعماه الله مما يدل على أن القوة هي التي عطلت عقولهم عن أن تنتفع بهذه الآيات التي بين أيديهم، فمن يطالع موسوعة الطبيعة يلاحظ تفاصيل كثيرة جداً لهذه الآية، وأيضاً موسوعة الألف الأمريكية فيها كثير جداً من هذه الآيات. وفي معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]. وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في علوم القرآن أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافاً حقيقاً يكذب بعضه بعضاً، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضاً، والآيات تشمله جميعاً، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وسأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه إليهم جماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فما بال القرون الأولى)

تفسير قوله تعالى: (فما بال القرون الأولى) قال تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]. قال فرعون: ((فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))؟ يعني: ما حال القرون السالفة؟ وما جرى عليهم؟ لنا استفسار عن قوى فرعون، فقد كان في قمة الغباء، ولديه عقلية ضعيفة كما هو واضح من هذه الآيات، وكان يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، يرمي موسى بأنه لا يعرف الفصاحة، ثم: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] هل هذه هي مؤهلات الحجة والعلم، {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، ولكن لما أخذه الله جعل الماء يجري من فوقه وأغرقه بعد ذلك! وانظر إلى المناظرة التي ذكرها الله في سورة الشعراء، والنقاش الذي يدل على أن عقليته مشوهة تماماً، وليس عنده أي قدر من المفهومية أو العقل أو الذكاء. كذلك هنا أيضاً يسأل موسى عليه السلام ويقول له: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50]، وانظر إلى المراوغة، يريد أن يصرف النقاش عن صلبه، ومحوره الأساسي، قال الله عنه: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وما دخل القرون الأولى بالموضوع الذي نتكلم فيه؟! لقد كان هذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه أو لشغله عن دعوته إلى التوحيد، وتوضيح الحقيقة أكثر وأكثر في الدعوة إلى (لا إله إلا الله)، وإشغاله عما أرسل به، وإما أنه كان يتوهم أن موسى يعرف الغيب فلذلك سأل عن أحوال الْقُرُونِ الأُولَى، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، كل هذا من أجل أن يقطع موسى عن الوصول إلى هدفه وغايته! فلما قال: ((فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))، أجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به فلا يعلمه إلا هو، وليس من شأن الرسالة أن تتكلم عن تفاصيل القرون الأولى، وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ محصي غير منسي، ((قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ)) [طه:52]، وهو اللوح المحفوظ، {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، ويجوز أن يكون قوله: (في كتاب) تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة، فنشبه علمه تعالى الذي لا يتغير بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته حتى لا يذهب أصلاً، والذي يسجل المعلومات في كتاب لا ينسى. كما في الحديث: (قيدوا العلم بالكتابة). العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقه نحن نحتاج إلى كتابة؛ لأننا نضل وننسى، أما الله سبحانه وتعالى فقد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، لكن هذا ليس عن خوف نسيان كما يحصل بالنسبة للمخلوقات، لذلك نزه موسى الله سبحانه وتعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}، فمن يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان، والله سبحانه وتعالى منزه عنه، فالكتاب على هذا القول بمعناه اللغوي هو السفر لا اللوح المحفوظ.

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهدا)

تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً) قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53]. ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً)) فراشاً، ((وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)) أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس في الطعم، والرائحة، والشكل، والنفع. انظر إلى موسى عليه السلام لم يسمح له أن يحول مجرى النقاش، وهو لما بدأ بهذا Q { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً} [طه:49 - 53]. شرع يسرد أدلة توحيد الربوبية ليتوصل بها إلى توحيد الألوهية، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} قال الزمخشري في قوله تعالى: ((وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ)): هذا من باب الالتفات، وناقشه الناصر بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد، يصرف كلامه على وجوه شتى، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى)). ثم قوله تعالى: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً)). إلى قوله: ((فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى))، فإما أن يجعل من قول موسى ويكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا، وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات، وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ((لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى))، ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً، وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف عند قوله: ((وَلا يَنسَى)) ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل معنىً آخر، وهو: أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على ظهر الغيبة، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى}، فلما حكاه الله تعالى عنه أسند الضمير إلى ذاته؛ لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى، فمرجع الضميرين واحد، وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية، وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات، لكن الزمخشري لم يعنه، والله تعالى أعلم. اهـ قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي (مَهْداً) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف، وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف، والمهاد: الفراش، والمهد بمعناه. ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً))، بين تبارك وتعالى في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده، ومع كونها من آيات كمال قدرته، واستحقاقه العبادة وحده دون غيره، فهي من النعم العظمى على بني آدم. الأولى: فرشه الأرض على هذا النمط العجيب. الثانية: جعله فيها سبلاً يمر بها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر. الثالثة: إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب. الرابعة: إخراجه أنواع النبات من الأرض. ثم شرع الشنقيطي رحمه الله تعالى في ذكر أنواع كثيرة من الآيات التي تشرح وتفصل هذا فنتجاوزها، ونأتي للخطاب وقوله تعالى: ((وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً)) وقد قدمنا أن معنى السلك الإدخال، وقوله: ((َسَلَكَ)) معناه: أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلاً فجاجاً يمر الخلق منها، وعبر عن ذلك هنا بقوله: ((وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً))، وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل كقوله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، وقال في الزخرف: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10]، وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في النحل: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [النحل:15]؛ لأن عطف السبل على الرواسي ظاهر في ذلك. ((كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ)) أي: كلوا -أيها الناس- من الثمار والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلناه من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب والفواكه ونحو ذلك. ((وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ)) أي: أسيموها وسرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها، والأمر في قوله: ((كُلُوا وَارْعَوْا)) للإباحة، ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك العبادة وحده. ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى)) أي: لأصحاب العقول، فالنهى جمع نهية وهي العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق، تقول العرب: نهو الرجل بصيغة فعُل بالضم: إذا كملت نهيته أي: عقله.

تفسير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)

تفسير قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه:54] (منها) أي: من الأرض (خلقناكم) أي: خلقنا أصلكم وهو آدم، أو: خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن ما في الأرض، ((وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ)) أي: بالإماتة، مثل إعادة البذر إلى الأرض ((وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)) أي: بردهم كما كانوا أحياء. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} قد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل: الأولى: أنه خلق بني آدم من الأرض. الثانية: أنه يعيدهم فيها. الثالثة: أنه يخرجهم منها مرة أخرى. ثم ذكر آيات كثيرة جداً في تفصيل كل واحدة من هذه المسائل الثلاث.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى) ثم أشار تعالى إلى عتو فرعون وعناده، فقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى} [طه:56 - 58]. ((وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا)) أي: من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين ((فَكَذَّبَ وَأَبَى)). {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} * {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى} أي: مستوياً واضحاً يجمعنا. {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]، وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه، {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] أي: في النهار لكي يكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه. {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} [طه:60] أي: انصرف عن المجلس، {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه:60] أي: ما يكيد به موسى من السحرة وأدواتهم، ثم أتى إلى الموعد ومعه من جمعه. قوله تبارك وتعالى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}، قال الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة السلام قال: إن الآيات التي جاء بها موسى سحر، وأنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم. أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر، فقد ذكر ذلك عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13]، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:76]، وقوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، وقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف:49]، إلى غير ذلك من الآيات. وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر: فقد ذكره الله جل وعلا أيضاً في مواضع من كتابه، كقوله تعالى في هذه السورة: ((أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى)) * ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) * ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) -واضح تماماً أن فرعون كانت أعمدة حكمه قائمة على السحر تماماً كما هو الآن أن إحدى الممالك قائمة على السحر، والله المستعان! - وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:109 - 110]، وقوله في سورة يونس: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78]، وقال سحرة فرعون: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63]. قوله عز وجل: ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنه الله لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة، وادعى أنها سحر؛ أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر، وقد بين في غير هذا الموضع أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك: {قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:109 - 112]، فقوله عز وجل حاكياً عن فرعون: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) في الموضعين يدل على أن قول فرعون: ((فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ)) وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك. ((فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ))، والإخلاف عدم إنجاز الوعد، وقرر أن يكون مكان الاجتماع للمناظرة والمغالبة في السحر في زعمه ((مَكَاناً سُوًى))، وأصح الأقوال في قوله: ((سُوًى)) أن أصله من الاستواء؛ لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية، وقوله: (سوى) فيه ثلاث لغات: الضم والكسر مع القصر وفتح السين مع المد.

طه [66 - 79]

تفسير سورة طه [66 - 79]

تفسير قوله تعالى: (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)

تفسير قوله تعالى: (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]. هذا يدل على نوع السحر الذي جاء به سحرة فرعون، وأنه سحر تخييلي وليس سحراً حقيقياً، فقد سحروا أعين الناس؛ لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي، وإما أن يؤثر في المرئي، فالسحر قد يحصل في العين نفسها، فالعين ترى حصول الشيء وهو لم يحصل، أو ربما يحصل في الشيء الذي هو مرئي. قال الشنقيطي: هذه الآية الكريمة تدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون كان سحر تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر، وهذا الذي دلت عليه آية طه هذه، دلت عليه آية الأعراف، وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116]، وهذا يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمراً لا حقيقة له، وبهاتين الآيتين احتجت المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له، فالمعتزلة ينكرون حقيقة السحر. والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تبارك وتعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً بالتفريق بين الرجل وامرأته، وقد عبر الله عنه بما الموصولة، وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي، ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن، فلولا أن السحر له حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه. إذاً: لا يوجد تعارض بين الآيات التي تدل على أن السحر له حقيقة، وبين الآيات الدالة على أنه خيال، بل يجمع بينهما بأن من السحر ما هو تخييل كما أخبر عن سحرة فرعون، ومنه ما هو حقيقة كما ذكرنا. فإن قيل: قوله في طه: ((يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ))، وقوله في الأعراف: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف:116]، الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له، يعارضهما قوله في الأعراف: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]؛ لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال، فالذي يظهر في الجواب -والله تعالى أعلم- أنهم أخذوا كثيراً من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى، وهي كثيرة، فظن الناظرون أن الأرض ملئت بحيات تسعى؛ لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي، فخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظمة، وهذا ظاهر لا إشكال فيه. وقد قال غير واحد: إنهم جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال والعصي، فخيل للناظرين أنها تسعى. وعن ابن عباس: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً، مع كل ساحر منهم حبال وعصي، وقيل: كانوا أربعمائة، وقيل: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل: أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنكدر: كانوا ثمانين ألفاً، وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له: شمعون، وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيباً، مع كل نقيب عشرون عريفاً، مع كل عريف ألف ساحر، وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف، وكان رئيسهم أعمى. وهذه الأقوال كلها من الإسرائيليات، ونحن نتجنبها دائماً، ونقلل من ذكرها، وربما ذكرنا قليلاً منها منبهين عليه.

تفسير قوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى)

تفسير قوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى) تكلم الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، ببحث طويل كثير النفع في حوالى اثنتين وثلاثين صفحة، ونحن سوف نمر على رءوس الكلام بحيث يعلم عموم معنى كلامه، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتابه المبارك (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن). قوله: ((لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)) هذه الصيغة للعموم؛ لأن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم كما هنا: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} فهو أيضاً من صيغ العموم. قال الشنقيطي: فقوله تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ)) نفي يعم جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله: ((حَيْثُ أَتَى))، وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران: الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]. فقوله تعالى: ((وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)) يدل على أنه لو كان ساحراً -وحاشاه من ذلك- لكان كافراً. وقوله: ((وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)) صريح في كفر معلم السحر، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقرراً له: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]-يعني: ((فَلا تَكْفُرْ)) بتعلم السحر- وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]. فقوله تعالى: ((وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)) أي: من نصيب، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذاً بالله تعالى، وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح، وذلك مما لا شك فيه. الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن الكريم أن الغالب فيه أن لفظة: (لا يفلح) يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة يونس: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس:68] يعني: ما عندكم دليل على هذا {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:68 - 70]. فهذا يدل على أن نفي الفلاح كان عن الكافر. وقوله تعالى في سورة يونس أيضاً: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:17]، فنفى الفلاح عن الكافرين أيضاً. وقال في الأنعام: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]. ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة: أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة والكفرة فإنه ينال الفلاح، وهو كذلك، فالذي ينال الفلاح هو المؤمن الذي يتجنب هذه الأفعال وهذه الصفات التي اتصف بها السحرة والكافرون، كقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]، وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، والآيات بمثل ذلك كثيرة. وقوله تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ)) مضارع أفلح بمعنى: نال الفلاح، والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب، ومنه قول لبيد: فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل فقوله: (ولقد أفلح من كان عقل) يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر المطلوب. ويطلق الفلاح أيضاً على البقاء والدوام في النعيم، ومنه قول لبيد: لو أن حياً مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح فقوله: (مدرك الفلاح) يعني: البقاء، وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم: (حي على الفلاح) في الأذان والإقامة، فحي على الفلاح تحتمل معنيين: إما الفوز بالمطلوب، أي: هلموا إلى الصلاة لتفوزوا بمطلوبكم، أو البقاء والدوام لنعيم الجنة. ((حَيْثُ أَتَى)) حيث كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان، وربما ضمّنت معنى الشرط، وقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي: حيث توجه وسلك.

مسائل تتعلق بقوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى)

مسائل تتعلق بقوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى) ذكر الشنقيطي مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة: المسألة الأولى: اعلم أن السحر يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه، ولطف ودق، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر. المسألة الثانية: اعلم أن الفخر الرازي قسم السحر إلى ثمانية أنواع: النوع الأول: سحر الكلدانيين والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم، وراداً عليهم. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ومعلوم بأن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف؛ لأنهم كانوا يتقربون فيه إلى الكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله، ويرجون الخير من الكواكب، ويخافون الشر من قبلها، كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه، فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح. النوع الثاني من السحر: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، وفصل في ذلك. النوع الثالث: من أنواع السحر: الاستعانة بالأرواح. النوع الرابع من أنواع السحر: التخيلات والأخذ بالعيون. النوع الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضربت بالبوق من غير أن يمسه أحد! ومنها: الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى أنهم يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور، وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت، فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل. قال ابن كثير بعد ذكر كلام الرازي: ومن هذا القبيل حيل النصارى. يعني: من أنواع السحر الذي يكون فيه نوع من الحيل وخفة اليد ونحو هؤلاء الناس أصحاب الألاعيب، وليس له في الحقيقة واقع، والرازي يرى أن سحر سحرة فرعون هو من هذا النوع الذي هو تخييل ((يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى))؛ لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فألقوه في وقت الضحى، فجاءت الشمس على هذا الزئبق وتمدد، فبالتالي الزئبق حرك هذه العصي وظنوا أنها حركة طبيعية. يقول ابن كثير: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، يعني: النصارى -أضلهم الله- خبراء في هذا الدجل، وهذا النوع من الدجل هو أقصى ما يستطيعون أن يموهوا به على أتباعهم ممن أظلم الله قلوبهم بالشرك والتثليث؛ لأنهم لا عقول لهم، فإنهم يسهل جداً أن يؤسروا بمثل هذه الأشياء التي نذكرها، وكنت قرأت يوماً وأنا عابر شعاراً يتعلق بالتمثال المزعوم لـ مريم عليها السلام، ويقولون: هناك حركات معينة تلتمس من هذا التمثال! وقد تعودنا على سماع هذا الكلام، وهم لا يملكون إلا هذا الدجل، وليس هناك ما يؤيدون به باطلهم سوى الدجل، وهذه الألاعيب، فالقوم لهم خبرة عريقة في مجال الدجل والخداع وأسر الجهلة بمثل هذا الكلام. يقول ابن كثير: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس. وهكذا ابن كثير وغيره من العلماء إذا ذكروا كنيسة القيامة يسمونها كنيسة القمامة، استهزاء بها؛ أولاً: لأننا لا نعترف بما يسمونه قيامة؛ لأن معنى كلامهم أن المسيح -والعياذ بالله كما كذبوا- صلب، ودفن ثلاثة أيام، ثم قام من بين الأموات في هذا اليوم الثالث وصعد إلى السماء، فهذا لا شك أنه تكذيب بالقرآن الكريم، وكفر بواح صراح، فـ المسيح عليه السلام رفع، ولم يتمكن منه اليهود لعنهم الله، وإنما رفع إلى السماء، والنصارى عندهم كنيسة يسمونها (القيامة) ويحتفلون بالعيد فيها. ويحصل ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم غارقون في الجهل ومنافاة التوحيد، أن بعضهم يهنئ النصارى بعيد المسيح (المجيد)، وهذا قد يخرج من الإسلام والملة إذا كان معتقداً لذلك، فمعناها أنه يكذب القرآن، وهم يقيمون هذا العيد في كنيسة القيامة، ويبدو أن النصارى سموها بهذا الاسم للتعظيم، وزرع الهيبة في النفوس لباطلهم. وفي هذه الكنيسة التي في بيت المقدس يحتالون في إدخال النار خفية إليها، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم، وأما الخواص فهم يعرفون أنها حيلة من حيلهم التي يستعينون بها، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم! وقد حصل منذ سنوات خرافات منها: الزعم أن مريم عليها السلام ظهرت في كنيسة الزيتون في القاهرة، ووقعت ضجة كبيرة في هذا الأمر، حتى فتن بهذا الأمر الكثير من الطغام من المسلمين الجهال إلى آخر هذا الدجل. فالنصارى لهم خبرة عظيمة جداً في هذا المجال، والآن بواسطة التكنولوجيا الحديثة سهل جداً إيهام الناس أن نوراً يظهر وسط الظلام، ولكن هل مريم عليها السلام تظهر لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها من دون الله، والذين يشتمون ويسبون الله؟! إن الشياطين تتلاعب بعقولهم، فخوارق العادات بحد ذاتها لا تدل على إيمان أو صلاح، وخوارق العادات لا تدل على أن هذا هو حق، وإلا كان سحرة الهند وأصحاب حركات الخفة على حق. خوارق العادات لابد فيها من شرطين: أولاً: أن تكون غير مخالفة للشرع. ثانياً: أن ينظر في سيرة الرجل الذي كانت له هذه الخوارق، فإن كان رجلاً صالحاً مستقيماً على السنة، وعلى الشرع، مجانباً للكبائر والمعاصي، وكانت الكرامة لا تتنافى مع الشريعة، ففي هذه الحالة نسميها كرامة. أما خرق العادة في حد ذاته فقد يحصل بأسباب كثيرة، منها: السحر والتخييل، ونحو هذه الأشياء التي يفعلها صاحب خفة اليد. وأما النصارى، فحتى لو حصلت لهم هذه، وفعلوا ما فعلوا، فمجرد أن الإنسان يجوز أن يكون دينهم مرضياً عنه أو فيه شيء من الحق؛ فإنه يخرج من الإسلام، ومن ذلك أن يجوز أن مريم موالية لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها، ويعبدون المسيح من دون الله. فهل مريم عليها السلام تكون مع هؤلاء أو تؤيدهم؟! هذا مستحيل. فالشاهد: أن هذه الأشياء لا يضحك بها إلا على بسطاء العقول. يقول: وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ؛ فإنه من يكذب عليّ يلج النار). ثم ذكر الرازي حكاية عن بعض الرهبان، وهي: أنه سمع صوت طائر حزين الصوت، ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب في وكره من ثمر الزيتون، ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه؟ يعني: النصارى يرون ذلك منه وهو في الصومعة، فهو عمل هذه الحيلة كي يأتي بهم، فيرون الزيتون، فيعتبرون أن هذا من كراماته على الله؛ ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى. من ذلك أيضاً: أن بعضهم كان يعمل تمثالاً ويعمل فيه تجويف؛ بحيث إنه في وقت معين يوهم الناس أن التمثال يدر لبناً في وقت معين، وقد جعل أنبوباً موصلاً، ويصب اللبن من فوق وينزل، ويوهم الناس أنه يدر لبناً! وهذه الأشياء لا تزلزل قلب المؤمن أبداً؛ لأن الإنسان دائماً عندما يذكر خوارق العادات عليه أن يتذكر المسيح الدجال، ويقارن ما يفعله هؤلاء بما سيفعله المسيح الدجال، فهل يساوون شيئاً بالنسبة لما سيفعله المسيح الدجال؟! لا، فهو سيفعل أشياء مذهلة، ويدعي الألوهية، ويفتن الناس بهذه الخوارق وهذه الأفعال، فهل هذا دليل على أنه على حق؟! A لا، إذاً: هؤلاء الناس سيسهل على المسيح الدجال أن يقنعهم، ولا شك أن هذا منهج غير صحيح في البحث عن الحق، فالبحث عن الحق لا يكون عن طريق هذه الأشياء. ثم قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وعلوم الشر كثيرة، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعاً، وأن منها ما هو كفر بواح، ومنها ما يؤدي إلى كفر، وأقل درجاتها التحريم الشديد. المسألة الثالثة: اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال بعضهم: إنه يكفر بذلك، وهو قول جمهور العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة وأصحاب أحمد وغيرهم، وعن أحمد ما يقتضي عدم كفره، وعن الشافعي: أنه إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك؛ فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها؛ فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، واعتقد إباحته فهو كافر أيضاً وإلا فلا، وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة. قال الشنقيطي: التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل: فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر؛ فهو كفر بلا نزاع، وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.

تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة سجدا)

تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة سجداً) قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تبارك وتعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجداً لله تبارك وتعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى، فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي هذه الهداية العظيمة، وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في الأعراف: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] إلى قوله: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:120 - 122]. قال الله تبارك وتعالى: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)) يدل على قوة البرهان الذي عاينوه؛ لأن هذه الحجة كانت حجة في غاية القوة، وكأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها، فلشدة تأثرهم بهذه المعجزة كأن هناك من أمسكهم بغاية القوة وألقاهم بحيث يسقطون ساجدين من شدة وعظم المعجزة التي عاينوها! وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم، والظاهر أن هذا من الإسرائيليات. وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظراً إلى حالهم الماضية، فقوله: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)). فهم في هذه اللحظة كانوا مؤمنين، ولم يعودوا ساحرين كافرين، لكن أطلق عليهم اسم السحرة باعتبار حالهم الماضية، كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]، فهل اليتامى يؤتون المال وهم يتامى قبل أن يبلغوا؟ لا، بل لا يدفع إليهم مالهم حتى يبلغوا سن الرشد بعد بلوغهم النكاح {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، لكن عبر عنهم باليتامى باعتبار حالهم الماضية. واعلم أن علم السحر مع خسته، وأن الله صرح بأنه يضر ولا ينفع، قد كان سبباً لإيمان سحرة فرعون؛ لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا، وأنها خارجة عن طور السحر، وأنها أمر إلهي؛ فلم يداخلهم شك في ذلك. وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في نوع المعجزة التي يؤيد بها أنبياءه، أنها تكون من جنس الشيء الذي يتميزون به، كما أيد عيسى عليه السلام بكثير من المعجزات الطبية؛ لأنه كان في عصر تفوق أهله في علم الطب جداً، وكذلك أيد سليمان عليه السلام بالقصور والملك الكبير؛ لأنه كان يتعامل مع اليهود الماديين، وكذلك لما دعا بلقيس أظهر لها ما يدهشها ويذهلها. كذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعظم معجزة على الإطلاق، وهي القرآن الكريم؛ لأن العرب كانوا في قمة البلاغة في ذلك الوقت، ولذلك أتى بمعجزة من جنس العلم الذي تفوقوا فيه، وهكذا. إذاً هؤلاء السحرة كانوا بارعين جداً في السحر، وفرعون بلا شك قد انتقى أكثرهم تفوقاً في علم السحر: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:112]، فحذقهم في هذا السحر هي التي جعلتهم يؤمنون أن هذا من عند الله سبحانه وتعالى، وأنها أمر إلهي، ولم يشكوا في ذلك، فكان ذلك سبباً لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد والتهديد. فانظر كم كان عمر إيمانهم؟ ثواني معدودة، ومع ذلك انظر كيف صمدوا أمام فرعون هذا الصمود: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، ولو كانوا غير عالمين بالسحر، لأمكن أن يظنوا أن العصا من جنس الشعوذة والعلم عند الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)

تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم) قال تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، لما آمن السحرة بالله عز وجل قال لهم فرعون منكراً عليهم: ((آمَنْتُمْ لَهُ)) أي: صدقتموه بأنه نبي مرسل من الله وآمنتم له قبل أن آذن لكم؟ يعني: أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم؛ لأنه يزعم أنه لا يحق لهم أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذنه لهم. فانظر إلى الأعجب من ذلك! فرعون بعدما كان يمني السحرة ويعدهم، ويقول لهم: {وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، ويكون لكم الحظ، فإذا به يتهم موسى عليه السلام بأنه كبير السحرة، وبأنه أستاذهم الذي علمهم السحر، ثم هددهم مقسماً على أنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلاً، وهذا أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة؛ لأن قطعهما من جهة واحدة يبقى معه شق كامل صحيح بخلاف قطعهما من خلاف، فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم، وكذلك يصلبهم في جذوع النخل، وجذع النخل هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من الجذوع كما هو معروف. وقد بين هذا قوله تبارك وتعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:49]، وقال تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:123 - 124]، فقوله هنا في سورة طه: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، هو المراد بقوله: ((لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)). يعني: آية الأعراف بينت آية طه. وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71]. ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا))، أنا أم رب موسى ((أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)). إذاً: فرعون كان يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله، وهذا أيضاً كقوله: {قال أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقوله: {لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]. وقال بعضهم: ((وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا)) يعني: أنا أم موسى أشد عذاباً وأبقى، وعلى هذا فهو يتهكم بموسى؛ لأن موسى يعتقد أنه قطعاً لن يكون أقوى منه، وأنه ضعيف بالنسبة إليه، فهذا التهكم بموسى عليه السلام لاستضعافه له، وأنه يقدر على أن يعذب من لم يطعه، كقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، والله جل وعلا أعلم. قال الشنقيطي: واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل فيهم فرعون ما توعدهم به أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم، وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندي أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لموسى وهارون: {أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، والعلم عند الله تعالى. إذاً: هذا هو الشيء الوحيد الذي استند إليه العلامة الشنقيطي في هذا الترجيح؛ لأن الله قال: {أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، فعموماً هذا الوعد من الله عز وجل يقتضي أنهم غالبون، وأن فرعون لن يقتلهم ولن يصلبهم كما توعدهم. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً)) أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا؛ فألقي السحرة سجداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية و ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)) فقال فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ} [طه:71] أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك، {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه:71] أي: من جانبين متخالفين، {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71] يعني: أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه أو من تخليده في العذاب {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايمي: وضعفه الزمخشري؛ لأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: ((آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)) أي: لموسى، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى. إذاً: قوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}، فيها قولان: القول الأول: أنا أم رب هارون وموسى ((أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى)). القول الثاني: ((َلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا)) أنا أم موسى ((أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى))، والراجح القول الثاني لقوله: ((قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ))، يقول: إن اللام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغير الله تعالى، يعني إذا استقرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن فعل الإيمان حينما يتعدى باللام يكون في حق غير الله عز وجل، كما في قول إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، وكذلك هنا: {آمَنْتُمْ لَهُ} [الشعراء:49] يعني: صدقتم موسى عليه السلام، وقال تبارك وتعالى في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]؛ فمع الله عداها بالباء، أما مع المؤمنين فقال: ((يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)). إذاً: تعدي فعل الإيمان باللام يكون في حق غير الله تعالى، فهذا الوجه هو الذي رجح به كون قول فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}، المقصود به: أنا أم موسى؛ لأن في السياق قبله مباشرة: ((آمَنْتُمْ لَهُ)) أي: بموسى عليه السلام، وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع المسلمين؛ لأن موسى ما عذب أحداً ولا هدد أحداً بالتعذيب، فهو يريد أن يتهكم بموسى.

تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات)

تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) قال تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. قال الشنقيطي: قوله: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ)) أي: لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات، كمعجزة العصا التي أتتنا وتيقنا صحتها. والواو في قوله: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) عاطفة على (ما) من قوله: ((عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ)) أي: لن نختارك (على ما جاءنا من البينات)، ولا على (الذي فطرنا) أي: خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود. وقيل: هي واو القسم. يعني: والله الذي فطرنا؛ على أنها قسم، وقيل: هي واو القسم والمقسم عليه محذوف دل عليه ما قبله، أي: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) لا نؤثرك على ما جاءنا من البينات. ((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) أي: اصنع ما أنت صانع فلسنا راجعين عما نحن عليه ((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) أي: إنما ينفذ أمرك فيها فقط، فتكون (هذه) منصوبة على الظرف على الأصح، أي: وليس فيها شيء يهم لسرعة زوالها وانقضائها. وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع من ثباتهم على الإيمان، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده؛ رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، مذكور في غير هذا الموضع، كقوله في الشعراء عنهم في هذه القصة بعينها: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، وقال في الأعراف: {قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 - 126]. وقوله: ((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) عائد الصلة محذوف، أي: ما أنت قاضيه؛ لأنه مخفوض بالوصف ((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا))، على أن الأقرب هو إعراب (هذه) على أنها ظرف، يعني: يمكن أن تقضي أو تحسم فقط علينا في الدنيا ولا سلطان لك على الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا)

تفسير قوله تعالى: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) قال تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]. ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة أن فرعون لعنه الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا قالوا له: ((إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا))، يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر وغيره من المعاصي ((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) أي: ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وهذا الذي ذكره عنهم أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الشعراء عنهم: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:50 - 51]، وقال عنهم في الأعراف: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]. وفي آية طه هذه سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم: ((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) يدل على أنه أكرههم عليه مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في طه: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى} [طه:62 - 64]، فقولهم: ((فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً)) صريح في أنهم غير مكرهين، وكذلك قوله عنهم في الشعراء حينما قالوا لفرعون: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]. سبحان الله! هؤلاء فعلوا ما فعلوا تقرباً إلى فرعون لينالوا القربة والزلفى من فرعون على ما هو عليه، قالوا لفرعون: ((أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً)) مكافآت وجوائز ((إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ)) {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ}. وقوله في الأعراف: {قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114]. إذاً: هذه الآيات تدل على أنهم كانوا غير مكرهين، فما الجواب عن هذا الإكراه المذكور في آية طه؟ قال: للعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة: منها: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم. يعني هو أكرههم على القدوم والحضور من كافة البلاد في مصر كي يحضروا هذه المواجهة، قال: فهو أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر، وطواعهم نسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة، وبذلك ينتفي التعارض، ويدل لهذا قوله: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:36]، وفي الآية الأخرى: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111] يعني: كأن هناك قواتاً معينة ستذهب وتحضر السحرة، وتجندهم لكي ينفذوا أمر فرعون، فهذا دليل على أنهم لم يأتوا طوعاً، وإنما أرسل إليهم من يجتذبهم ويحضرهم إلى هذا الموعد. جواب آخر: قالوا: إنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر، ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين. ((وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ)) يعني: أكرهتنا صغاراً، ثم تعلموا وتخرجوا بالسحر وبعد ذلك كانوا يمارسونه. جواب آخر: أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائماً، ففعل فوجدوا أن عصاه تحرسه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر؛ لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه، وألزمهم بذلك، فلما لم يجدوا بداً من ذلك فعلوه طائعين، وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تبارك وتعالى. إذاً: أظهر هذه الأجوبة هو الجواب الأول: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أجبروا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم هو بالنسبة إلى أول الأمر، وبالنسبة إلى آخر الأمر تنفك الجهة، وبذلك انتفى التعارض، ويدل لهذا قوله: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:36]، وقوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف:111]. وظاهر قوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أن المعنى: والله خير من فرعون وأبقى منه؛ لأنه باق لا يزول، ولا يذل ولا يموت ولا يعدم كما يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النحل: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً} [النحل:52] أي: دائماً لا ينقطع أبداً، وغيره من الملوك يذهب عنهم ملكه، إما أن يذهب هو عن ملكه، أو يذهب الملك عنه، وآيات الله كثيرة في ذلك. والله جل وعلا لا يزول ملكه أبداً، أما غيره من الملوك فإما أن يزول هو عن الملك أو يزول عنه الملك، وأكثر المفسرين على أن معنى قوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) يعني: أن ثوابه خير مما وعدهم به فرعون في قوله {قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:113 - 114]، فردوا على هذا بقولهم: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) وأبقى أي: أدوم؛ لأن ما وعدهم به فرعون زائل، وثواب الله باق، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وقال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]. وفسر بعض العلماء قوله: ((وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) خير ثواباً، وأبقى عذاباً من عذابك وأدوم منه؛ فهو الأجدر بأن نخافه، ونشفق منه، ونفر منه، وعليه فهو رد لقول فرعون: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى}، ومعنى أبقى: أكثر بقاء.

تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا)

تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا) قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]. (إنه) هذه هاء الأمر أو الشأن ((مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ)) يعني: يوم القيامة ((مُجْرِماً)) يعني: في حال كونه مجرماً، أي: مرتكباً للجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذاً بالله تعالى ((فَإِنَّ لَهُ)) أي: عند الله ((جَهَنَّمَ)) يعذب فيها ((لا يَمُوتُ)) يعني: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة فيها راحة؛ لأنه إذا مات يستريح، فيكون أعظم أمنية عندهم أن يموتوا، لكن الموت يذبح وينتهي، ويقال: خلود ولا موت، ((وَلا يَحْيَا)) حياة هنيئة، وإنما يحيا حياة العذاب والشقاء، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، وقال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17]، وقال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وقال تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:11 - 13]، وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فأعظم أمنية لأهل النار هي أن يموتوا، فيجيبهم مالك خازن النار فيقول لهم: ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) لا أمل لكم في الخروج على الإطلاق ((إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))، ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة: ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم

تفسير قوله تعالى: (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى)

تفسير قوله تعالى: (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} [طه:75]. ((وَمَنْ يَأْتِهِ)) يوم القيامة في حال كونه مؤمناً ((قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ)) أي: في الدنيا حتى مات على ذلك ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ)) أي: عند الله ((الدَّرَجَاتُ الْعُلا)) والعلا: جمع عليا، وهي تأنيث الأعلى، وورد هذا المعنى في قوله عز وجل أيضاً: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21]، وقال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]، ونحو ذلك من الآيات. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ)) أي: لن نختارك بالإيمان والاتباع (على ما جاءنا) أي: من الله على يد موسى ((مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)) أي: وهذا الذي خلقنا، واختيار هذا الوقف للإشعار بعلة الحكم، فلم يقولوا مثلاً: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} وعلى ربنا، أو: وعلى الله، وإنما قالوا: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) يعني: لن نؤثرك على الذي فطرك، فاختيار الوقف على أن الله الذي خلقهم وفطرهم للإشعار بعلة الحكم؛ فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب إيثارهم عليه سبحانه وتعالى، وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]، فأجابوا بقولهم: ((قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)) يعني: هو الذي خلقنا، فهو أحق أن نؤمن به، أما أنت فلست سوى مخلوق مثلنا، فكيف نعبدك؟! وكيف نحتاج إلى إذنك قبل أن يدخل الإيمان قلوبنا؟! وقيل: إن قوله: ((وَالَّذِي فَطَرَنَا)) قسم محذوف الجواب، ((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) أي: اصنع ما أنت صانع، وهذا جواب عن قوله لهم: {لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [الأعراف:124]. ((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) أي: تقضي في هذه الحياة الدنيا، وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها، وإنما نريد الآخرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73] أي: خير وأبقى ثواباً، ((إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا)) يعني: فينقضي عذابه (ولا يحيا) أي: حياة طيبة. {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} [طه:75] أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.

تفسير قوله تعالى: (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى)

تفسير قوله تعالى: (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76] أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. ثم ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض اللطائف فيقول: اللطيفة الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] استعمال أدب حسن معه، فهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، وفيه أيضاً تواضع له وخفض جناح، وربما ببركة هذا الأدب مع موسى هداهم الله سبحانه وشرح قلوبهم للإيمان، فتأدبوا معه مع ما كان تقتضيه الخصومة والمواجهة. وفيه تنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلَّم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم {قَالَ بَلْ أَلْقُوا}، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب حينما قال: ((بَلْ أَلْقُوا))، حتى يخرجوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفذوا أقصى مجهودهم، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وقذف المعجزة على السحر فمحقه، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين، وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ} [طه:58]، ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى ها هنا أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون إلقاؤه العصا قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رءوس الأشهاد، فيكون أفضح بكيدهم، وأهتك لستر حرمهم. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: ((مَا فِي يَمِينِكَ))، ما الحكمة من أن اللفظ الكريم آثر: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:69]، ولم يقل: وألق عصاك تلقف ما صنعوا؟ المشهور قولان: القول الأول: أن هذا لتعظيم العصا. القول الثاني: أن هذا لتحقير العصا. الوجه الأول: أن يكون تعظيماً لها، والإبهام وهو يستعمل أحياناً للتعظيم أو للتحقيق، فالاحتمال الأول: أنه أريد بذلك تعظيم العصا {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني: العصا العظيمة التي في يمينك، أي: لا تبالي بهذه الأجرام الكبيرة، وهذه العصي التي ألقوها وهي كثيرة وكبيرة، فإن ما في يمينك شيء أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فألق ما في يمينك يتلقفها بإذن الله ويمحقها. الوجه الثاني: أن يكون تصغيراً لها: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يعني: ألق هذا الشيء الحقير الذي في يمينك، وهو عصا صغيرة هي فرع من شجرة، أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق الشيء الصغير الذي في يمينك؛ فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة تحقير كيد السحرة بطريق الأولى، فتحقير العصا على هذا الوجه ليس تحقيراً لآيات الله سبحانه وتعالى، بل المقصود من ذلك تحقير كيد السحرة، فهذه العصا الهينة الصغيرة أبطلت هذا السحر العظيم الذي أتوا به؛ لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى؛ فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ففي الحقيقة يئول الأمر إلى تحقير السحر الذي أتوا به، وأنه سحر حقير إلى حد أن مثل هذه العصا الضئيلة بقدرة الله تلقفته وأبطلت كيدهم وسحرهم! ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، فقد كان علماء البلاغة والذين يتذوقون البلاغة حق التذوق لهم أساليب، فإذا أرادوا أن يمدحوا أنفسهم بعد الانتصار على العدو وجيشه فيظل يمدح أحدهم هذا الجيش وهو في الحقيقة يمدح نفسه أو يمدح جيشه، فإن كان هذا الجيش بهذه القوة وبهذه الإمكانات والعدة والعتاد، وفيه الشجعان وكذا وكذا، ثم هزم أمام جيشنا؛ فإن هذا يتضمن مدح جيشنا في الحقيقة، فهذا أسلوب من أساليب العرب. يقول: ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ويلزم من ذلك تعظيم شيء ممدوح قهره واستولى عليه، فكسر الله أمر العصا ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين، فدحض السحرة بالعصا الصغيرة التي ذكرها الله هنا بقوله: ((مَا فِي يَمِينِكَ)) يعني: كأنه شيء ما يستحق أن يذكر لصغره، لكن مع صغرها دحضت سحرهم وأبطلته في طرفة عين، فكيف بكيد السحرة أنفسهم؟ لا شك أنه أحقر، لأنه هو الذي هزم. واعلم أنه لابد من نكتة تناسب الأمرين: التعظيم والتحقير، وتلك -والله تعالى أعلم- هي إرادة المذكور مبهماً؛ لأن ما في يمينك أبهم من عصاك، وللعرب مذهب في التنكير والإبهام والإجمال تسلكه مرة في تحقير شأن ما أخذته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يذكره ويوضحه، ومرة لتعظيم شأنه، وليوهم أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، فيكفي فيه الرمز والإشارة، فهذا هو الوجه المناسب لهما جميعاً. ثم قال الناصر: وعندي في الآيات وجه سوى قصد التعظيم والتحقير والله تعالى أعلم، وهو: أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا من الله تبارك وتعالى آية، وذلك عندما سأله عنها، وقد قال الله تعالى له في أول موقف علم فيه موسى أن العصا آية من آيات الله التي يؤيده بها: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] ثم أظهر الله له تعالى آيتها. فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} يذكره بكلمة (يمينك)، ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه:17]، وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها، وذلك مقام يناسب التثبيت والتأنيس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:67 - 69] إذاً: هذا تأنيس لموسى وإذهاب للوحشة والخوف منه، حيث يذكره بكلمة: (بيمينك)، فإنه قيل له ذلك من قبل ثم ظهر له أنها آية. ولـ أبي حيان نكتة أخرى، وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة، فاليمين مرتبطة دائماً باليُمن والبركة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي) أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه من إنجائهم وإهلاك عدوهم، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:77 - 79]. ((وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)) أي: سر بهم من مصر ليلاً ((فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)) أي: يابساً، فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله، ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك، ((وَلا تَخْشَى)) أي: غرقاً من بين يديك. إذاً: قوله ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) من الخلق أن يلحقوك ويدركوك، ((وَلا تَخْشَى)) مما أنت عليه من الحال بين يديك، وهو الغرق في البحر، ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) لا من خلفك ولا من أمامك، ولا تخشى غرقاً. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: أن يسري بعباده -وهم بنو إسرائيل- فيخرجهم من قبضة فرعون ليلاً، وأن يضرب لهم طريقاً في البحر يبساً، أي: يابساً لا ماء فيه ولا بلل، وأنه لا يخاف دركاً من فرعون وراءه أن يناله بسوء، ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه، وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع، كقوله في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:52 - 63] جبل من الماء هنا، وجبل من الماء نفسه هنا، وكلاهما وقف بقدرة الله كالحائط! {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]؛ لأن البحر عميق، فالماء وقف كما يقف الجدار من الجانبين، ثم انكشف لهم القاع، ومشوا عليه، والماء منصوب بقدرة الله سبحانه وتعالى! وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، أما الآية العظمى الأخرى -والله تعالى أعلم- فهي أن فرعون أعمى الله عقله فسيطر عليه الغرور والكبر إلى آخر لحظة في حياته، ومع كل هذا لا يقول: آمنت بالله سبحانه وتعالى، وهو يرى هذه الآية وهم يمشون والماء واقف من الجانبين، وقد انكشف لهم القاع، فمع أنه يرى هذه الآية، فللكبر والعتو يمضي وراءهم ويطاردهم داخل هذا البحر إلى أن نجى الله موسى ومن معه، ثم انطبق البحر على فرعون وجنوده وأغرقهم. قال: فقوله في الشعراء: {أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء:63] أي: فضربه، فانفلق يوضح معنى قوله: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا}، وقوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، يوضح معنى قوله: ((لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى))، وقد أشار إلى ذلك في سورة الدخان في قوله تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:22 - 24]، إلى غير ذلك من الآيات. وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية: ((فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً)) أي: فاجعل لهم طريقاً، من قولهم: ضرب له في ماله سهماً، وضرب اللبن عمله. اليبس مصدر وصف به، يقال: يبس يبساً ويبيساً ونحوهما العدم، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل: شاتنا يبس، وناقتنا يبس: إذا جف لبناها. وقوله: ((لا تَخَافُ دَرَكاً)) الدرك اسم مصدر بمعنى الإدراك، أي: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك من ورائك، ولا تخشى من البحر أمامك، وعلى قراءة الجمهور: (لا تخاف) فالجملة حال من الضمير في قوله: (تضرب) أي: تضرب لهم طريقاً في حال كونك غير خائف دركاً ولا خاش.

تفسير قوله تعالى: (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم)

تفسير قوله تعالى: (فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم) قال تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78]. ((فَأَتْبَعَهُمْ)) أي: اتبعهم، والمعنى: أن موسى لما سرى ببني إسرائيل ليلاً أتبعهم فرعون وجنوده (فغشيهم من اليم) أي: من البحر ما غشيهم، أي: أغرق الله فرعون وجنوده في البحر فانتهوا عن آخرهم، ووضح ذلك في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] يعني: سيتبعكم فرعون وجنوده، ثم بين كيفية اتباعه لهم فقال: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:53 - 60]، كان هذا في وقت شروق الشمس، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فقوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60] أي: أول النهار عند إشراق الشمس، وقال أيضاً: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً} [يونس:90]، وقال في الدخان: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اتباعه لهم. أما إغراقه فقال تعالى عنه هنا: ((فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ))، وقال في الشعراء: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:63 - 67]، وقال في الأعراف: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الأعراف:136]، وقال في الزخرف: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55]، وقال في البقرة: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، وقال في يونس: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، وقال في الدخان: {وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24]، والتعبير باسم المبهم (ما) الذي هو الموصول بقوله تعالى: ((فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)) يدل على تعظيم الأمر وتفخيم شأنه، ونظيره في القرآن: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]، وقال أيضاً: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54]، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]، فالإبهام هنا للتعظيم، واليم: البحر، والمعنى: فأصابهم من البحر ما أصابهم، وهو الغرق والهلاك المستأصل. {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} يعني: أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليه، وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فالآية ترد عليه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}، ما كان عنده هدى ولا رشاد إنما أضلهم وأهلكهم. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:96 - 97]، وهو الذي كان يدعي ويقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، وهم قالوا في طريقتهم: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} [طه:63] أي: أحسن منهج وطريق. {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:97 - 98] فالنكتة البلاغية في حذف المفعول في قوله تبارك وتعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}، ولم يقل: (وما هداهم)، هي مراعاة فواصل الآيات، ونظيره في القرآن قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] المقصود بها: (وما قلاك)، ولكن قال: (وما قلى) مراعاة لهذه الفواصل. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ))؛ لأنه ندم على الإذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم، كما قال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:54 - 55]؛ فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم ونزلوا في الطريق الذي سلكوه؛ ففاجأهم الموج، كما قال تعالى: ((فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)) أي: علاهم منه وغمرهم ما لا يحاط بهوله. {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي: أوردهم الهلاك بعتوه وعناده في الدنيا والآخرة وما هداهم سبيل الرشاد.

طه [80 - 94]

تفسير سورة طه [80 - 94]

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم)

تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم) ذكر تبارك وتعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، فقال سبحانه وتعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:80 - 82]. قوله تعالى: ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ))، وهو فرعون وقومه، فقد كانوا: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49]، وذلك بأن أقر أعينكم منهم بإغراقهم وأنتم تنظرون. ((قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ)) أي: لمناجاة موسى وإنزال التوراة عليهم، واليهود السامرية يعتقدون أن هذا الجبل في نابلس، ويسمونه جبل الطور، ولهم عيد سنوي يقعدون فيه، ويقربون فيه القرابين، والمعروف أن هذا الجبل هو جبل معروف في طور سيناء، والله تعالى أعلم. وأصل هذه المواعدة كانت لموسى عليه السلام، وبعد ذلك خاطب الله سبحانه وتعالى بها بني إسرائيل في سياق الامتنان عليهم بهذه المعاتبة {وَواعَدْنَاكُمْ}، مع أن الأصل أنه واعد موسى عليه السلام، فيقول الزمخشري: إنما عدى المواعدة إليهم؛ لأنها لابستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. ((جَانِبَ)) مفعول فيه أو مفعول به على الاتساع، أو بتقدير مضاف، يعني: وواعدناكم إذ كان جانب الطور الأيمن: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى)) * ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) يعني: من بدائله؛ فإن المن كالعسل، والسلوى من الطيور الجيد لحمها. ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) أي: فيما رزقناكم بأن تتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به. ((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) أي: فقد هلك. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ)): الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله سبحانه وتعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142]، وقوله: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة:51]، وقوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه:86]، وهو الوعد بإنزال التوراة. وقوله هنا: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى))، قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع من القرآن كقوله في البقرة: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، وقوله في الأعراف: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [الأعراف:160]. وأكثر العلماء على أن المن هو الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض. ويسمونه الآن في العراق وتركيا ماء السماء، يجمع من فوق أوراق الأشجار في الصباح، وهو مثل البودرة، ثم يجمع ويتفننون في إضافة المواد عليه. يقول: وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى، ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض، والسلوى طائر يشبه السُّمانى، وقيل: هو السماني، وهذا قول الجمهور في المن والسلوى، وقيل: السلوى العسل، وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل. والتحقيق: أن السلوى يطلق على العسل لغة، ومنه قول خالد بن زهير الهذلي: وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها يعني: ألذ من العسل إذا ما نستخرجها؛ لأن النشور استخراج العسل، قال مؤرج بن عمر السدوسي: إطلاق السلوى على العسل لغة كناية، سمي به لأنه يسلي، قاله القرطبي؛ إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية، يعني: ليس المراد في الآية العسل، وإن كان لغة يطلق السلوى على العسل. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والأظهر عندي في المن: أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كسب ولا تعب، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه، ويشمل غير ذلك مما يماثله، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: مما امتن الله به على عباده، وكثير من الناس يقولون: إن الكمأة هي النبات المشهور الآن بعش الغراب، وفوائدها الصحية كثيرة جداً. قوله عليه الصلاة والسلام: (الكمأة من المن) يعني: مما امتن الله به على عباده. فمنه الكمأة، ومنه أيضاً المن الذي هو العسل، وماؤها شفاء للعين. يقول: والأظهر عندي في السلوى: أنه طائر، سواء قلنا: إنه السمانى أو طائر يشبهه؛ لإطلاق جمهور العلماء من السلف والخلف على ذلك، مع أن السلوى يطلق لغة على العسل كما بينا. وقوله في آية طه هذه: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) أي: من المن والسلوى، والأمر فيه للإباحة والامتنان. وقوله تعالى: ((كُلُوا)) يقدر قبلها: وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ))، الضمير المجرور في قوله تعالى: ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) راجع إلى الموصول الذي هو (ما) في قوله: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)). ((وَلا تَطْغَوْا فِيهِ)) أي: لا تطغوا فيما رزقناكم. ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم، وهو: أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي، أو يستعينوا به على المعصية، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه، ونحو ذلك، فهذا كله من الطغيان فيما رزقنا الله، وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا؛ لأن الفاء في قوله تعالى: ((فَيَحِلَّ)) فاء سببية والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها؛ لأنه بعد النهي وهو طلب محض. وقرأ الكسائي هذا الحرف ((فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)) بضم الحاء (فيحُل). ((وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) أي: هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر: هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده ويقولون: هوت أمه، أي: سقط سقوطاً لا نهوض بعده. واعلم أن الغضب صفة وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه إذا انتهكت حرماته، وتظهر آثارها في المغضوب عليهم؛ نعوذ بالله من غضبه جل وعلا! ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت، فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة الأعراف. قرأ حمزة والكسائي هذه الآية: (قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم جانب الطور الأيمن) بتاء المتكلم فيهما، وقرأه الباقون (وواعدناكم) (وأنجيناكم) بالنون الدالة على العظمة. قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق ((وَعَمِلَ صَالِحاً)) بجوارحه ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: استقام وثبت على الهدى المذكور، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] وفي الآية ترغيب لمن وقع في وحشة الطغيان ببيان المخرج له كي لا ييئس: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}. وقوله: ((إِنِّي لَغَفَّارٌ)) أي: كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره، وآمن به وعمل صالحاً ثم اهتدى، وقد أوضح الله هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وقال في حق الذين سبوه وشتموه وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، مرغباً لهم في التوبة عن ذلك الشرك: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، وقال أيضاً: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53]، يعني: لمن تاب {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه} [الزمر:53 - 54]، إلى غير ذلك من الآيات، وقد قدمنا معنى التوبة والعمل الصالح.

تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى)

تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى) قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83] أي: أي شيء عجل بك عنهم، على سبيل الإنكار؛ فالله سبحانه وتعالى أنكر على موسى عليه السلام أنه تقدم بين يدي من كانوا معه من نقباء بني إسرائيل، وعجل شوقاً إلى كلام ربه عز وجل ولقائه. فقوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، إنكار من الله سبحانه وتعالى لتعجل موسى عن قومه، وكان قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور على الموعد المطلوب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه. {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]. ((قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)) أي: قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير، ولذا قال: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)) أي: ظننت أن تقدمي بين أيديهم وسبقي إياهم إليك مما يرضيك عني للمسارعة إلى الامتثال بأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك، وزيادة (رب) لمزيد الضراعة والابتهال ورغبة في قبول العذر، ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)) يعني: يا رب لترضى، ويعتبر هذا براً منه عليه السلام وابتهالاً إلى الله سبحانه وتعالى، عسى أن يتقبل عذره بعدما أنكر الله عليه تعجله في لقائه قبل قومه. قال الناصر: إنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} وهو سبحانه وتعالى أعلم أن يعلم موسى أدب السفر، وهو: أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، كما كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجعل أصحابه بين يديه ويتأخر هو عنهم في مؤخرة المجموعة التي يصحبها، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب موسى بهذا الأدب، وهو أنه كان ينبغي أن تتأخر فأنت رئيس القوم، وذلك ليكون نظره محيطاً بطائفته، وقد كانت الملائكة تتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذا كان يتأخر، وكذلك لأنه إذا كان في مؤخرتهم فإنه يحيط نظره بهم جميعاً، فيرى من كان مريضاً أو من أصابه شيء، أو من ارتد عن المجموعة، فيكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم، وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطاً عليه السلام في قوله: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ} [الحجر:65] يعني: اجعلهم يمشون أمامك وكن أنت خلفهم، فأمره أن يكون آخرهم، على أن موسى عليه السلام إنما فعل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عز وجل، يعني: موسى عليه السلام ضحى بهذا الأدب لشدة شوقه إلى لقاء ربه، وكان يحسب أن في ذلك إرضاءاً لله عز وجل في مبادرته إليه ومسارعته إلى الميعاد، وذلك شأن الموعود بما يطلبه، وهذه طبيعة فيمن عنده موعد مع من يحب أو موعد يسره، فلو استطاع أن يطير قبل الموعد لسارع إلى ذلك، ولا أسرَّ من مواعدة الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام الذي ذاق طعم مناجاة الله عز وجل من قبل، فكان في أشد الشوق إلى لقاء الله وحضور موعده عز وجل. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:83 - 84]: أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة، وذهابه إلى الميقات، واستعجاله إليه قبل قومه، وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه؛ استعجل إلى الميقات، فقال له ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى}، وهذه القصة التي أجملها هنا أشار إليها تبارك وتعالى في غير هذا الموضع، كقوله في الأعراف: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:142 - 143]. وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو: أن جواب موسى ليس مطابقاً للسؤال الذي سأله ربه؛ لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه، والجواب لم يأت مطابقاً لذلك؛ لأنه أجاب بقوله: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. وأجيب عن ذلك بأجوبة منها: أن قوله: ((هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)) يعني: هم قريب وما تقدمتهم إلا بقدر يسير يغتفر مثله، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم. هذا هو الجواب الأول. الجواب الثاني: أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله: ((وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ))، داخله عليه السلام من الهيبة والإجلال والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق، والله تعالى أعلم. في قوله تعالى: {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أدب المؤمن، وهو المسارعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، والإنسان متى ما عرف أن رضا الله سبحانه وتعالى في شيء فعليه أن يسارع إلى هذا الشيء، ويشهد لهذا المعنى آيات كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وكذلك في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، ومن الآيات التي تمثل هذا المعنى قوله تعالى: ((وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى))، فإن كان عليه ذنب فليعجل التوبة ولا يسوفها؛ لأن تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه؛ فيجب على الإنسان التوبة على الفور، فكلما أخر التوبة فإنه يكتسب ذنباً جديداً.

تفسير قوله تعالى: (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك)

تفسير قوله تعالى: (قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك) قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} [طه:85]. ((قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ)) أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة، ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ)) يعني: اليهودي الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً لما طالت عليهم غيبة موسى، ويئسوا من رجوعه، والسامري في لغة العرب بمعنى اليهودي، وقد قال بالظن من ادعى تسميته أو حاول تعيينه، فلا يسأل أحد: من هو هذا السامري؟ فلم يصح شيء في تسمية السامري، لكنه رجل من اليهود، وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جل عاداتها. ((قَالَ فَإِنَّا)) خبر ((قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، والآية إخبار من الله سبحانه وتعالى لموسى بوقوع قومه في الفتنة، لكن في الحقيقة يراد بهذا الخبر الأمر برجوعه لقومه وإصلاح ما فسد؛ فكأن المعنى: فارجع إليهم يا موسى وأصلح ما فسد من حالهم، وذلك جاء في قوله: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [طه:86]، رجع لأنه فهم من هذا الخبر أنه أمر بالرجوع إليهم لإصلاح ما فسد من أحوالهم. {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} أي: حزيناً {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} [طه:86] أي: بإنزال التوراة عليه ورجوعه بها إليهم، {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ} [طه:86]، أفطال عليكم زمان الإنجاء، ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي))، أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات. يقول الشنقيطي: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ}، كلمة الفتنة في اللغة تأتي بمعان كثيرة منها: الاختبار، والعذاب، والإضلال، والمقصود بها هنا فتنة الإضلال؛ لأنه قال: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، فالظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل فهي فتنة إضلال، كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، فهذه الفتنة في عبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة، كقوله تعالى: {ووَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51]. فقوله عز وجل هنا: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع، كقوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، إلى قوله: ((اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ)) أي: اتخذوه إلهاً، وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته، وقوله هنا: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} [طه:87]، يشرح معنى: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أي: كيف أضلهم! قال موسى في الآيات: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]. والسامري قيل: اسمه هارون، وقيل: اسمه موسى بن ظفر، وعن ابن عباس: أنه من قوم كانوا يعبدون البقر، وقيل: كان رجلاً من القبط، وكان جاراً لموسى آمن به وخرج معه، وقيل: كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة، وهم معروفون بالشام، قال سعيد بن جبير: كان من أهل كرمان. والفتنة أصلها في اللغة وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف، وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة، منها: الوضع في النار، كقوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يحرقون بها، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] يعني: الذين أحرقوهم بنار الأخدود. ومنها: الاختبار، وهو الأغلب في استعمال الفتنة، كقوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وقوله: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:16 - 17]. ومنها: نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك، كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، وقوله هنا: ((فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ)) أي: أضللناهم. ومنها أيضاً الحجة، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: لم تكن حجتهم. فقوله عز وجل هنا: ((وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ))، أسند إضلالهم إلى السامري؛ لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورمى عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل؛ فجعله الله بسبب ذلك عجلاً جسداً له خوار، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة: ((فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)) * ((فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ))، وقال في الأعراف: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، والخوار: صوت البقر، قال بعض العلماء: جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسداً من لحم ودم، وهذا هو ظاهر قوله: {عِجْلاً جَسَداً} [الأعراف:148]. وقال بعض العلماء: لم تكن تلك الصورة لحماً ولا دماً، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل، فهو صنع العجل على هيئة فيها تجويف تدخل منها الريح وتخرج، فإذا دخلت من مكان تخرج من الناحية الأخرى مصدرة صوت العجل، وهو خوار العجل. قال: والأول أقرب لظاهر الآية؛ فهم فتنوا بأن حولت لهم صورة العجل إلى عجل حقيقي بلحم ودم، فالله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحماً ودماً كما جعل آدم لحماً ودماً وكان طيناً، لكن ترجيح مثل هذا يحتاج إلى دليل إلا أن يقال: إن الدليل هو قوله: (جسداً)، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا)

تفسير قوله تعالى: (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً) قال تعالى: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [طه:86]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل، فقوله: ((أَسِفاً)) أي: شديد الغضب، فالأسف هنا شدة الغضب، وعلى هذا فقوله: ((غَضْبَانَ أَسِفاً)) أي: غضبان شديد الغضب، ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن الكريم قوله تعالى في الزخرف: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55]، لما آسفونا أي: لما أغضبونا، فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم. قال الشنقيطي: وقوله: ((غَضْبَانَ أَسِفاً)) حالان، وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً، كما أشار له في الخلاصة بقوله: والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد يعني: ممكن الحال يكون كلمة وممكن أن يتعدد، فهذا معنى قول صاحب الخلاصة. وما ذكره جل وعلا في آية (طه) من كون موسى رجع إلى قومه: (غضبان أسفاً) ذكره في غير هذا الموضع، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور، كقوله في سورة الأعراف: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف:150]، وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، قال عز وجل في الأعراف: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] وقال في (طه) مشيراً لأخذه برأس أخيه: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان؛ لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله عز وجل: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ}، وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه، ومع ذلك لم يبلغ الغضب بموسى عليه السلام يلقي الألواح، لكنه لما عاين -بعينه- قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك، فألقى الألواح حتى تكسرت وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تبارك وتعالى. وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح). وهذا معنى الحكمة المشهورة: ليس الخبر كالمعاينة. ويمكن استنباط نفس هذه الحكمة من القرآن الكريم من موضع آخر: {لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18]، فالنبي عليه السلام وصف له حالهم في القرآن لكنه لو رآهم لولى فراراً وامتلئ رعباً، فالله يقول: ((لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ)) أي: لو رأيتهم ونظرت إليهم بعينك لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً. وقوله تعالى: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) قال الشنقيطي: أظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون من خير الدنيا والآخرة، وهذا الوعد هو المذكور هنا في قوله: ((وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ)) يعني: كي ينزل على موسى عليه السلام التوراة، وقد كتبها الله له بيده، وهي ألواح التوراة، فهذا هو الوعد الحسن. قال: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ}، الاستفهام هنا للإنكار، يعني: لم يطل العهد، وهذا هو السبب مع أني لم أتأخر عنكم كثيراً، أي: لم يطل عليكم العهد، كما يقال في المثل: وما بالعهد من قدم؛ لأن طول العهد مظنة للنسيان والعهد قريب لم يطل، فكيف نسيتم؟ ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي))، هنا قال بعض العلماء: (أم) هنا هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ} بل ((أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ))، والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم، فكأنهم أرادوا الغضب لما عملوا السبب الذي يجلب لهم غضب الله سبحانه وتعالى وهو الكفر. ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم؛ فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه، وهو الكفر بعبادة العجل. وقوله: (فأخلفتم موعدي) كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى؛ فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى، فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره. ((قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا))، قرأه نافع وعاصم (بملكنا) بفتح الميم، وقرأه حمزة والكسائي بضم الميم، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بكسر الميم، يعني: فيها ثلاث حركات يقول: والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك، وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده، وهو اعتبار بارد ساقط كما ترى، يعني: هذا العذر السخيف ينطبق عليه قول القائل: عذر أقبح من ذنب، يعني: ما كان بأيدينا لكن غلبنا السامري وكادنا وغلبنا، ولقد صدق من قال: إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر الذنب إن كان بغير عذر مقبول، فالعذر ساذج. وهنا يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة لغوية، يقول: كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ (لم) إذا تقدمتها همزة استفهام فلها وجهان معروفان عند العلماء: الأول: أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) بمعنى وعدكم. نلاحظ هنا الفعل (يعدكم) فعل مضارع سبقته (لم) الجازمة، وسبقها همزة الاستفهام، فإذاً: فعل مضارع مجزوم بلم تقدمتها همزة استفهام، فالقول الأول: أن المضارع ينقلب ماضياً، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ)) تساوي: وعدكم، وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] تساوي: شرحنا لك صدرك، وقوله: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ} [البلد:8] تساوي: جعلنا له عينين، ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر؛ لأن لم حرف يقلب المضارع إلى معنى الماضي كما هو معروف، ووجه انقلاب النفي إثباتاً: أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم، أي: تنفي النفي، ونفي النفي إثبات فيئول إلى معنى الإثبات. هذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: أن الاستفهام في ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر، فيقول: بلى. يعني: هذه الصيغة تأتي من أجل أن يقر المخاطب، يقول: ألم نفعل كذا؟ تقول: بلى. لكي تثبت ذلك. وعليه فالمراد من قوله: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً)) حملهم على أن يقروا بذلك، فيقولوا: بلى قد وعدنا ربنا وعداً حسناً، ونظير هذا من كلام العرب قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح فإذا عرفت أن قوله هنا: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب: ((أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ))؛ فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكن بينه في غير هذا الموضع كقوله في الأعراف في القصة بعينها: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف:150]، وبين بعض ما فعل بقوله في الأعراف: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ َ} [الأعراف:150]، وقد أشار إلى هذا في (طه) في قوله: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)).

تفسير قوله تعالى: (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا) قال تعالى: ((قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ)) [طه:87]. قال الزمخشري: قرئ بالحركات الثلاث على الميم، قال الزمخشري أي: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا وخُلِّينا وراءنا لما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده، {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}. ((وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا))، وفي القراءة الأخرى: ((ولكنا حملنا أوزاراً)) أي: أثقالاً وأحمالاً، ((مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)) يعني: من حلي القبط، (والقوم) المقصود بهم قوم فرعون، والمقصود بالحلي حلي نسائهم. ((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: قذفناها في النار لنتلفها. ((فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)) أي: كان إلقاؤه ((فَأَخْرَجَ لَهُمْ)) أي: من تلك الحلي ((عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ)) أي: صوت عجل، وقد قيل: إنه صار حياً وخار كما يخور العجل، ودبت فيه الحياة، وقيل: وإنما جعل فيه منافذ ومخارج بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوتاً مثل صوت العجل. قوله تعالى: ((فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى)) يعني: السامري ومن افتتنوا به، فقالوا بالتغرير: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)) أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور! كيف ذهب موسى يطلب لقاء الله في الطور وهذا هو إلهنا وإله موسى؟ ويقصدون -والعياذ بالله- هذا العجل، فهذا معنى قولهم: ((هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)) يعني: موسى غفل عن إلهه وهو هنا وذهب يطلبه في الطور!

تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا)

تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه مما لا يستتر بطلانه على أحد، فقال سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89]. ((أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ)) أي: العجل، ((إِلَيْهِمْ قَوْلًا)) أي: لا يرد لهم جواباً، ((وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا)) أي: دفع ضر، ولا جلب نفع، فكيف يتخذ إلهاً؟ قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا)): قال بعض العلماء: والأوزار معناها: الأثقال، قال بعض العلماء: معناها: الآثام، ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم. ووجه الثاني: أنها آثام وتبعات؛ لأنهم كانوا مع القبط في حكم المستأمنين في دار الحرب، وليس للمستأمن أن يأخذ أمان الحربي؛ ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم، والتعليل الأخير أقوى؛ لأن من خصائص هذه الشريعة المحمدية ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فهؤلاء حملوا معهم حلي القبط، ولم تكن تحل لهم في شريعتهم غنائم، فكأنهم لما حملوها حملوا معها أوزاراً وآثاماً لأنهم مستأمنون، وبالتالي لا يجوز لهم أن يأخذوا أموالهم، فهذا التعليل أقوى من التعليل الأول. ((مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ)) المراد بالزينة: الحلي، كما يوضحه قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]، ((فَقَذَفْنَاهَا)) أي: ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة؛ لأن السامري حفر حفرة وأمرهم أن يقذفوا هذه الحلي في داخل الحفرة، وبعض المفسرين يقول: فعلوا ذلك لأن الحلي لما كانت متناثرة كان يشق عليهم حملها، وهم أرادوا أن يقبروها في كتلة واحدة حتى يسهل حملها. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة؛ لأن ذلك أسهل لحفظه إلى أن يرى نبي الله موسى فيه رأيه. والسامري لما أمرهم بحفر حفرة، وأمرهم أن يضعوا فيها الحلي، كان يريد تدبير خطة لم يطلعهم عليها، وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات، وكان على فرس؛ أخذ السامري تراباً مسه حافر تلك الفرس، ويزعمون في هذه القصة: أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات، أي: لاحظ أن الموضع الذي أصابه حافر الفرس ينبت فيه نبات، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة، فأخذ تلك القبضة من التراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام واحتفظ بها، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب، وجعلوه فيها، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكور، وقال له: كن عجلاً جسداً له خوار، فجعله الله عجلاً جسداً له خوار، يعني: كأن الله أقدره على هذا الفعل ابتلاءً وامتحاناً وفتنة، كما يقدر المسيح الدجال على الخوارق فتنةً للناس، فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى! كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:95 - 96] يعني: حينما لاحظت وقوع الحافر في الأرض قبضت قبضة مما وقع عليه حافر الفرس واحتفظت بها: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه:96]. وقوله في هذه الآية الكريمة {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمُِ} هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد، {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} فهذا يدل على أن ذلك الاعتراف كان من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم، ولا يوجد احتمال أنه من غيرهم. إذاً: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:87 - 88] أي: نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر! قال ابن عباس في حديث الفتون وهو قول مجاهد، وعن ابن عباس أيضاً من طريق عكرمة (فنسي) أي: نسي أن يذكركم به، وعن ابن عباس أيضاً (فنسي) أي: السامري نسي ما كان عليه من الإسلام وصار كافراً بادعاء ألوهية العجل وعبادته. إذاً: (نسي) الفاعل هنا ضمير يعود إلى السامري، أي: نسي السامري الإسلام الذي كان عليه.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولا ضراً لمن عصاه، وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزاً عن النفع والضر ورد الجواب، وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف في القصة: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148]. ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلاً إلهاً أنه من أظلم الظالمين؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها؛ لأن العابد في هذه الحالة أكمل من المعبود من حيث سريان الحياة فيه، ومع ذلك يعبد صنماً لا يسمع ولا يعي ولا يعقل، يقول: ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:42]، وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73]، وقوله تعالى أيضاً: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ} [الأعراف:195]، وقال تعالى أيضاً: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، وقال أيضاً: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]. قال الشنقيطي: قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً يعني: هل يفهم من هذه الآية: أنه إن كان يرجع إليهم قولاً ويتكلم يصلح أن يكون إلهاً؟ لا، فليس المقصود بهذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي عدم حصول المشروط، وحصول الواحد منها لا يقتضي حصول المشروط. وهذا معروف في تعريف الشرط أنه ما يتوقف وجود الشيء على وجوده، ولا يتوقف على وجوده عدم ذلك الشيء، مثلاً: شروط الحياة بالنسبة للبذرة: أولاً: أن تكون البذرة نفسها سليمة. ثانياً: لابد من التربة الصالحة ومن الماء والهواء، فالحياة في البذرة لابد فيها من شروط، فهل مجرد وجود شرط واحد يستلزم وجود هذه الحياة؛ لا، فقد يوجد الهواء فقط لكن البذرة مسوسة مثلاً أو غير ذلك من الشروط، ففي هذه الحالة لا يمكن أن تحصل الحياة، فكذلك الشيء الذي يعلق على أكثر من شرط لا يتحقق إلا بوجود جميع هذه الشروط، وإذا تخلف شرط واحد لا يقع الشيء، ووجوده وحده لا يقتضي وجود هذا الشيء؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات شرط منها يقتضي فوات المشروط، وحصول شرط منها لا يقتضي حصول المشروط، فمثلاً الصلاة من شروطها: الطهارة، استقبال القبلة، ستر العورة، فلو أن رجلاً استقبل القبلة وهو غير طاهر والمكان نجس وثوبه نجس، فهل تصح صلاته؟ لا تصح الصلاة مع أنه أتى بشرط من الشروط. يقول: فكل ما توقف على شرطين فصاعداً لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط، فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه ديناراً، لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة، ومحل هذا ما لم يمكن تعليق الشروط على سبيل البدل؛ فإنه يكفي فيه واحد، كما لو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهماً، فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله: وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين وما على البدل قد تعلقا فبحصول واحد تحققا وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري: أن هذا العجل اسمه يهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل! كان المفروض أن يحافظوا على هذه الزينة التي هي الحلي إلى أن يأتي موسى فيرى فيها رأيه؛ فهم تورعوا عن زين القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، قال: فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب يعني: هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين رضي الله عنهما- وهم يسألون عن دم البعوضة! انتهى منه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل)

تفسير قوله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل) قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} [طه:90] يعني: من قبل رجوع موسى إليهم، {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} [طه:90] أي: ضللتم بعبادته، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]، في عبادته سبحانه وتعالى، وترك عبادة العجل، {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] (قال) أي: موسى {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ} [طه:92 - 93] يعني: في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر. وقوله: ((أَلَّا تَتَّبِعَنِ)) فيها أقوال منها: ما منعك أن تتبعني؟ أو المعنى: ما حملك على ألا تتبعني؟ بحمل النقيض على مثله فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله، أو: ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم فتكون مفارقتك زجراً لهم؟ ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)) وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه ويصلح ما يراه فاسداً. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن بني إسرائيل لما فتنهم السامري وأضلهم بعبادة العجل نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين لهم أن عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها -أي: كفر وضلال ارتكبوه بذلك- وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا، وأن عجلاً مصطنعاً من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر، وأمرهم باتباعه في توحيد الله تبارك وتعالى، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن يطيعوه في ذلك؛ فصارحوه بالتمرد والعصيان والديمومة على الكفر حتى يرجع إليهم موسى، وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه، وقد أوضح الله هذا المعنى في سورة الأعراف فقال تعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:150]، فقولهم في خطابهم له: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى}، أي: نستمر ونستديم على عبادتنا، فهذا يدل على استضعفاهم له، وتمردهم عليه المصرح به في الأعراف كما بينا.

فتوى الطرطوشي في رقص وتواجد الصوفية

فتوى الطرطوشي في رقص وتواجد الصوفية ذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى من باب الشيء بالشيء يذكر؛ بمناسبة الكلام على أنهم صاروا عاكفين حول هذا العجل يعبدونه فذكر بهذه المناسبة ما يفعله بعض الصوفية من ذلك مما سيذكره؛ يقول رحمه الله تعالى: قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه: سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية، واعلم حرس الله مدته! أنه اجتمع جماعة من رجال يكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم -يعني: نوع من الإيقاع من الموسيقى- ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه- يذكرون الله ويذكرون الرسول عليه السلام، ويحضرون شيئاً يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه: يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل واعمل لنفسك صالحاً ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله! مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا أن يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق. انتهى منه بلفظه. وعلق الشنقيطي رحمه الله تعالى بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا في سورة مريم ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق، ولا شك أن منهم من هو على الصراط المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها وراقبوها وعرفوا أحوالها، وتكلموا على أحوال القلوب كلاماً مفصلاً كما هو معلوم؛ كـ عبد الرحمن بن عطية وابن أحمد بن عطية وابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني وكـ عون بن عبد الله الذي كان يقال له: حكيم الأمة. وكـ سهل بن عبد الله التستري، وأبي طالب المكي وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي والجنيد بن محمد ومن سار على منوالهم؛ لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع، فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح إطلاقه، والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان منهم متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وهديه وسمته، كمن ذكرنا وأمثالهم فإنهم من جملة العلماء العاملين، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال، وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال، نعم صار المعروف في الآونة الأخيرة وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا -إلا من شاء الله منهم- دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم؛ ليتخذوا بذلك أتباعاً وخدماً وأموالاً وجاهاً، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعملون بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين، فيجب التباعد عنهم والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال: إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عن حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [النساء:123 - 125]. فمن كان عمله مخالفاً للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال، ومن كان عمله موافقاً لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي؛ نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين، وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ)) أي: قال هارون (يا ابن أم) أو (يا ابن أم) أي: بكسر الميم أو فتحها في (أم)، وذكرها أعطف لقلبه {لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94] يعني: لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضب موسى لله وغيرته على حرمات الله، ((إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: بتركهم لا رأي لهم، ((وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي))، أي: لم تراع في الاستخلاف والقعود بين ظهرانيهم.

تفسير قوله تعالى: (ألا تتبعن أفعصيت أمري)

تفسير قوله تعالى: (ألا تتبعن أفعصيت أمري) قوله تعالى قال {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:92 - 93] قال بعض أهل العلم (لا) في قوله: (أن لا تتبعني) زائدة للتوكيد، المقصود: ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن تتبعني، لكنا هنا المراد به التوبيخ، ومثله قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، قالوا: لأن المراد ما منعك أن تسجد إذ أمرتك بدليل قوله في القصة بعينها في سورة ص: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فحذف لفظة: (لا) في سورة ص مع ثبوتها في الأعراف، والمعنى واحد، فدل ذلك على أنها مزيدة للتوكيد. قال مقيده عفا الله عنه: قد عرف في اللغة العربية: أن زيادة لفظة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة. يعني: بعض الناس لا يفهمون أن في اللفظ الفلاني حروف مزيدة، والبعض يستغرب كيف يكون في الآية لفظ مزيد، وهذا يجري على لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم. قال الشنقيطي: قال بعض أهل العلم: (لا) في قوله: (ألا تتبعن) زائدة للتوكيد، واستدل من قال ذلك بقوله تعالى في الأعراف: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]؛ لأن المراد: ما منعك أن تسجد إذا أمرتك، بدليل قوله في القصة بعينها في سورة ص: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] أي: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وقوله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] أي: فوربك لا يؤمنون، وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] أي: والسيئة، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] يعني: أنهم يرجعون، فهل من أهلك يعود إلى الحياة؟ لا، فقوله: {وَحَرَامٌ} هذا تحريم كوني قدري على أحد القولين، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109]، فالمقصود: أنها إذا جاءت يؤمنون، كذلك قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا} [الأنعام:151] على أحد القولين: أن تشركوا بالله، فهذا هو التفسير، لكن في القرآن: ((أَلَّا تُشْرِكُوا)). قال: ونظير ذلك في كلام العرب قول امرئ القيس: فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر يعني: فوأبيك، وقول أبي النجم: فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا يعني: لا ألوم البيض أن تسخرا، وقول الآخر: ما كان يرضي رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر يعني: وعمر. وقول الآخر: وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع ذائب غير غافل يعني: أن أحبه، و (لا) مزيدة في جميع الأبيات لتوكيد الجحد فيها. وقال الفراء: إنها لا تزاد إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، كالأمثلة المتقدمة، والمراد بالجحد: النفي وما يشبهه، كالمنع في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، فالمنع في حد ذاته في معنى الجحد. يقول الشنقيطي: والذي يظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن زيادة لفظة: (لا) لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره، وأنشد الأصمعي لزيادة (لا) قول ساعدة الهذلي: أفعنك لا برق كان وميضة غاب تمسنه ضراب مثقب ويروى: (أفمنك) بدل (أفعنك) يعني: أعنك برق، و (لا) زائدة للتوكيد، والكلام ليس فيه معنى الجحد، ونظيره قوله الآخر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع يعني: وكاد صميم القلب يتقطع، مع أنه ليس فيها معنى الجحد. ومثل هذا قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] فالمعنى: أقسم بهذا البلد، و {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] المقصود: أقسم بيوم القيامة. قال الشنقيطي: قوله تعالى: ((أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)) الظاهر أن أمره المذكور في هذه الآية هو المذكور في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر الوجوب؛ لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فجعل أمره وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم مانعاً من الاختيار موجباً للامتثال، وقال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، فيدل على أن الأمر ظاهره الوجوب، يعني: الأصل في أي صيغة أمر أنها تحمل على الوجوب، ولا تصرف عن الوجوب إلى الاستحباب أو غيره إلا بقرينة، قال في مراقي السعود: وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب وافعل: يعني: صيغة افعل صيغة الأمر.

تفسير قوله تعالى: (قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي)

تفسير قوله تعالى: (قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي) قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]. قال الشنقيطي: وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته، وقد بين تعالى في سورة الأعراف أنه أخذ برأسه يجره إليه، وذلك في قوله: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150]، وقوله: ((وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي))، هذا من بقية كلام هارون، أي: ((خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ))، وأن تقول لي: لم ترقب قولي! أي: لم تعمل بوصيتي، وتمتثل أمري. ثم يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة من هذه الآية، وهي: أن هذه الآية تعتبر من المواضع الواضحة في القرآن الكريم في التعرض للحية: ((قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)). كان العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى صاحب كتاب: فتح المنعم سئل مرة سؤالاً حيث يريد السائل دليلاً من القرآن على مشروعية إعفاء اللحية، ففتح الله عليه بهذه الآية، وهو دليل من القرآن الكريم مباشر وهذا المعنى يوضحه الشنقيطي في هذا التنبيه فيقول: وهذه الآية الكريمة بضميمة آية الأنعام إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية. يعني: من سأل فقال: أين الدليل القرآني على وجوب إعفاء اللحية من القرآن؟ فنقول: أولاً: لا يلزم للشيء أن يكون واجباً أن يثبت فقط بالقرآن، فمحجية السنة أمر لا شك فيه، لكن بغض النظر عن هذا نحاول الإجابة عن Q يقول: يمكن أن يستدل بهذه الآية، لكن بشرط أن نفهمها في ضوء آية سورة الأنعام، وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84] ثم إنه تبارك وتعالى بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين -الذين منهم؟ هارون، قال عز وجل مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم-: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، وأمره صلى الله عليه وسلم بذلك أمر لنا؛ لأن أمر القدوة أمر لأتباعه، أي: الأمر الموجه للقدوة أمر لأتباعه. قال: وقد قدمنا هناك أنه ثبت في صحيح البخاري أن مجاهداً سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أين أخذت السجدة في سورة ص؟ قال: أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} [الأنعام:84] {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]؟ فسجدها داود، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولفظه في البخاري عن العوام قال: سألت مجاهداً عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس: من أين سجدت؟ فقال: (أو ما تقرأ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام:84] {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]؟ فكان داود ممن أمر نبيكم أن يقتدي به، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: اقتداء بداود حينما سجد في هذا الموطن في سورة ص. يقول الشنقيطي رحمه الله: فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في سورة الأنعام، وعلمت أن أمره أمر لنا؛ لأن لنا فيهم أسوةً حسنة، وعلمت أن هارون كان موفراً شعر لحيته بدليل قوله لأخيه: ((تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي))؛ لأنه لو كان حالقاً لما أراد أخوه الأخذ بلحيته؛ تبين لك من ذلك بإيضاح أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن الكريم، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم. والعجب من الذين مسخت ضمائرهم، واضمحل ذوقهم، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية، وشرف الرجولة إلى خنوثة الأنوثة، ويمثلون بوجههم بحلق أذقانهم، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر والأنثى وهو اللحية! وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها؛ ليس فيهم حالق، نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. ثم يقول الشنقيطي: أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية، فلسنا بحاجة إلى ذكرها؛ لشهرتها بين الناس؛ وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك، وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن. هل يستطيع أحد أن يناقش هذا الاستدلال؟ ومتى يصح الاستدلال بالآية على الوجوب؟ الآية بمفردها تدل على المشروعية، وهي تدل على الوجوب إذا أضفنا في الاستدلال بها أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، فما دام أن هارون فعل ذلك على سبيل الوجوب، وأمر نبينا أن يقتدي به في ذلك؛ فحينئذٍ يصبح هذا دليل الوجوب، لكن الفعل في حد ذاته يحتمل الوجوب ويحتمل النسخ أو الاستحباب، وهذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري في هذا الموضع. على كل الأحوال الحكم ثابت بالوجوب، ونحن ذكرنا هذا للاستزادة، فراجعوا في فتح الباري. ثم قال الشنقيطي: وإنما قال هارون لأخيه ((يَبْنَؤُمَّ))؛ لأن قرابة الأم أشد عطفاً وحناناً من قرابة الأب. وأصله. يا ابن أمي بالإضافة إلى ياء المتكلم، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفاً، وحذف الألف المبدلة منها كما هنا.

طه [95 - 103]

تفسير سورة طه [95 - 103]

تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري)

تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبك يا سامري) قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [طه:90 - 94] يعني: بتركهم لا راعي لهم، {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] أي: لم تراع قولي في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم. {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} [طه:95]. بعد هذا الحوار التفت موسى إلى السامري {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ}، أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكراً: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} [طه:96] أي: فطنت لما لم يتفطنوا له، {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} [طه:96] يعني: كنت من قبل قد قبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها، يعني: ألقيتها في الحلي المذاب حتى صار عجلاً حيا، {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} [طه:96] أي: حسنته وزينته، ((قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا)) [طه:97] يعني: وإن لعذابك موعداً {لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه:97] أي: لنصيرنه رماداً في البحر بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر.

تنبيهات متعلقة بقصة عبادة بني إسرائيل للعجل

تنبيهات متعلقة بقصة عبادة بني إسرائيل للعجل

وعظ هارون لقومه أحسن الوعظ

وعظ هارون لقومه أحسن الوعظ يذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فيقول: الأول: اعلم أن هارون عليه السلام سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله: ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ))، ثم دعاهم لمعرفة الله تبارك وتعالى ثانياً بقوله: ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ))، ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى: ((فَاتَّبِعُونِي))، ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: ((وَأَطِيعُوا أَمْرِي))، وهذا هو الترتيب الجيد؛ لأنه لابد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة الله تعالى، فإزالة الشبهات في قوله: ((إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ))، ثم معرفة الله في قوله: ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ))، فمعرفة الله هي الأصل، ثم التي بعدها النبوة في قوله: ((فَاتَّبِعُونِي))، ثم الشريعة في قوله: ((وَأَطِيعُوا أَمْرِي))، فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته. هذا من كذبهم على نبي الله هارون عليه السلام، لأنه قطعاً مثل موسى وسائر الأنبياء معصومون من أدنى من ذلك بكثير، فكيف لا يعصمون من الشرك؟ وكيف لا يعصمون من عبادة العجل؟ فإذاً: ما ادعاه كتبة التوراة من أن السامري هو هارون عليه السلام الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته كما هو موجود عندهم، هو من أعظم الفراء بلا امتراء. عندما تقارن بين مواقف القرآن من الأنبياء عليهم السلام، وبين مواقف هؤلاء الذين حرفوا الكلم من بعد مواضعه، تتعجب! فقد ادعوا أن سليمان عليه السلام عبد الأصنام، وما أكثر القبائح التي نسبوها لغيرهم من الأنبياء! وانظر إلى القرآن كيف يعظم هؤلاء الأنبياء كداود وسليمان، وبيان ذلك بالتفصيل في تفسير سورة ص، وهذا من العلامات البينات الدالة على أن القرآن كتاب الله حقاً، وأنه من عند الله عز وجل، وأنه ذكر أحسن المواقف وأعظمها للأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهاهم هؤلاء اليهود لعنهم الله ينسبون ويدعون أن هارون هو السامري، وأنه هو الذي اتخذ العجل، وأنه هو الذي أمر بني إسرائيل بذلك، فانظر كيف يأتي القرآن مهيمناً على ما عندهم من الضلال وحاكياً عن هارون عليه السلام أنه قال: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90].

المقصود بالرسول في قوله: (من أثر الرسول)

المقصود بالرسول في قوله: (من أثر الرسول) التنبيه الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} هو جبريل عليه السلام، و ((أَثَرِ الرَّسُولِ)) يعني: التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته، حيث قالوا: إنه لاحظ أن أثر الحافر ينبت فيه نبات، فتفرس وتفطن إلى أن فيه قوة حياتية، فمن ثم قبض هذه القبضة وألقاها في الحلي حينما صهرها؛ ليكون منها العجل. يقول: فعامة المفسرين ذهبوا إلى أن الرسول هو جبريل، والمراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته، ثم اختلفوا في السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر، وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور. واختلفوا أيضاً كيف أن السامري اختص برؤية جبريل عليه السلام؟ فقيل: إنما عرفه؛ لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه،. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم، ولا يدل عليه التنزيل الكريم؛ ولذا قال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، وههنا وجه وآخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام، ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) المراد بالرسول موسى عليه السلام، وبأثره سنته، ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان، وفلان يقبض أثر فلان، إذا كان يمتثل رسمه، يعني يتبع هديه وطريقته، ويقال: فلان يقفو أثر شيخه، يعني: يتبعه، فأثر الرسول هو سنته وهديه ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان، ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير: أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بهذا العجل، فرد عليه السامري قائلاً: ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنتك ودينك، فخالفته أي: طرحته، هذا هو الوجه الذي ذهب إليه أبو مسلم، وهو متجه؛ لأنه كما قال: لا توجد أدلة على هذا الذي حكوه من أن أثر الرسول هو جبريل، وأنه أثر حافر فرسه إلى آخره، فلم نقف على دليل على ذلك عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تفهم الآية بهذا الوجه المستقيم ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) يعني: هذا من فتنته بالشرك والردة، قال: أنا فهمت شيئاً لم يفهمه الآخرون، وعرفت لفطانتي وبصيرتي أنكم لستم على الحق، وأن الإسلام ليس هو دين الحق. ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)) أي: اعتد برأيه، وظن أن ما عليه موسى وهارون وقومهما ليس هو الحق، وقد كنت من قبل قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، يعني: شيئاً من سنتك ودينك، ((فَنَبَذْتُهَا)) يعني: فقذفته وطرحته ورفضته، كنت متمسكاً بهديك وسنتك بالحق، لكنني عندما بصرت بما لم تبصروا به طرحت ونبذت هذا الشيء، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟ وهو يشير إلى قوله: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) إذاً: الكلام هنا في سياق الغائب، وإن كنا في التفسير نقول: فقبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، لكن لفظ القرآن جاء في سياق الغائب، ((قَالَ)) مخاطباً موسى: ((بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)) لأنه في حالة خطاب مع موسى عليه السلام. وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً مع جحده وكفره، يعني: كيف يخاطبه بقوله: قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، وهو مكذب بموسى؟ فعلى مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، فهل هم يؤمنون أن النبي أنزل عليه الذكر؟ لا، لكن يقصدون بذلك أنهم لم يؤمنوا بالإنزال، لكن هذا على سبيل السخرية منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الحجر:6 - 7]. قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس مشهوراً باسم الرسول، فليست (ال) العهدية حتى تنصرف إلى جبريل عليه السلام، خاصة وأن جبريل عليه السلام لم يجر له ذكر فيما تقدم حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه؛ فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام كأنه تكلف بعلم الغيب. يعني: لا يوجد دليل نقلي يثبت أن الرسول هو جبريل عليه السلام، فجبريل لم يشتهر بلفظ الرسول، بالذات عند الإطلاق كقوله تعالى في سورة المدثر: ((فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ))؛ لأن السياق يرشدنا إلى أن الرسول المعهود هو موسى عليه السلام، أما هنا لم يجر ذكر جبريل، وجبريل لا يشتهر باسم الرسول بحيث ينصرف الاسم إليه عند الإطلاق، وأيضاً لم تجر لفظ الإشارة حتى تجعل لام التعريف في كلمة: ((الرَّسُولِ)) إشارة إلى جبريل عليه السلام. إذاً: لا يوجد أي دليل على تفسير الرسول بجبريل، وكأن القول بأنه جبريل من ادعاء علم الغيب، فمن أين لنا أن أنه جبريل؟ هذا غيب، ولا يوجد دليل على تأييد ذلك. ثانيهاً -أي ثاني الوجوه-: أنه لابد فيه من الإضمار، والإضمار بلا شك خلاف الأصل؛ لأننا كما قلنا: الوجه الأول من التفسير المشهور عند المفسرين: ((فَقَبَضْتُ قَبْضَةً)) أي: من أثر حافر فرس جبريل، يعني: نحن نقدر ثلاث كلمات، والإضمار خلاف الأصل، الأصل ألا يكون هناك إضمار، فهذا إضمار فيه كثير من التكلف. ثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان كيف أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ من أين عرف أنه جبريل؟! ومن أين رآه؟! ولماذا هو بالذات؟! ولماذا لم يره غيره من الناس؟! فنحتاج إلى التعسف في جوابنا على هذه الأسئلة. كيف اختص السامري من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته أنه هو جبريل؟ ثم كيف عرف أن لتراب حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه بعيد. يقولون: إن جبريل هو الذي رباه لما أنقذه من فرعون وهو صغير، ولم يقتله كما كان يقتل صبية بني إسرائيل وهذا احتمال بعيد؛ لأن السامري إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبي صادق، فكيف يحاول الإضلال؟! فلدينا أحد أمرين: إما أن السامري عرف جبريل في حال صغره قبل أن يكتمل عقله، وإما بعد أن اكتمل عقله، فإذا كان عرف جبريل وهو يأتي موسى عليه السلام من عند الله حال كمال عقله، فلا شك أنه سيعرف بذلك أن موسى نبي صادق، حيث هو يرى بعينيه جبريل ملك الوحي الذي ينزل على موسى، فهذا دليل قطعي على نبوة موسى عليه السلام، فكيف يرتد بعد ذلك عن الإيمان بموسى؟! وكيف يحاول إضلال بني إسرائيل؟! ثم إن كان لم يعرفه حالة البلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية في حصول تلك المعرفة؟ هذه أيضاً أشياء تستوجب قدراً كبيراً من التعسف للإجابة على هذه الأسئلة، والحقيقة أن هذا التفسير تفسير قوي، وله وجه للأسباب التي ذكرنا، فهذه من الفوائد العظيمة في تفسير القاسمي، فعضوا عليها بالنواجذ.

أوجه تفسير قوله: (لا مساس)

أوجه تفسير قوله: (لا مساس) التنبيه الثالث في قوله: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] في قوله: ((لا مِسَاسَ)). وجوه: الوجه الأول: لا أَمس ولا أُمس، يعني عوقب السامري بأنه ما دام حياً لا يقربه أحد أبداً، ولا يمس أحداً. الوجه الثاني: أن المقصود من قوله: ((لا مِسَاسَ)): المنع من أن يخالط أحداً، أو يخالطه أحد عقوبة له، هجرة وعقوبة جماعية له، فالناس كلهم يقاطعونه عقوبة له على ما صنع. الوجه الثالث: ما ذكره أبو مسلم أي: ما أريد مس النساء، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله، فلا يكون له ولد يؤنسه، فيحرمه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]؛ لأن المس يكنى به عن النكاح، كما في قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237]، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو)

تفسير قوله تعالى: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو) ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98]. ((إِنَّمَا إِلَهُكُمُ)) أي: المستحق للعبادة والتعظيم {اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي: أحاط علمه بكل شيء. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا}: بين جل وعلا في هذه الآية أن العجل الذي صنعه السامري من حلي القبط لا يمكن أن يكون إلهاً؛ وذلك لأنه حصر الإله أي المعبود بحق بـ: ((إِنَّمَا)) -التي هي أداة حصر على التحقيق- في خالق السماوات والأرض. {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [طه:98] أي: لا معبود بحق إلا هو وحده جل وعلا، وهو الذي وسع كل شيء علماً، (وعلماً) تمييز محول عن الفاعل. أي: وسع علمه كل شيء. وما ذكره تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة: من أنه تعالى هو الإله المعبود بحق دون غيره، وأنه وسع كل شيء علماً؛ ذكره في آيات كثيرة من كتابه الكريم، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255]، وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. وقال في إحاطة علمه بكل شيء: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس:61]، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.

تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)

تفسير قوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) قوله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءَِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه:99]، هذا السياق -كما بينه القاسمي - إشارة إلى فضل الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما قصه عليه من أنباء الأنبياء تنويهاً بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته. قال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا}. ((ذِكْرًا)) أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمى القرآن ذكراً؛ لما فيه من ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمه، ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر الخاص له صلوات الله وسلامه عليه. قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43]. كما بين تعالى نعمته بذلك بين شدة الوعيد لمن أعرض عنه فلم يؤمن به، فقال عز وجل: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:100 - 101]. ((مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ)) أي: عن هذا القرآن، وعن هذا الذكر ((فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا)) أي: إثماً، يعني: عقوبة ثقيلة، شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقب، وصعوبة تحملها أو صعوبة احتمالها. ((خَالِدِينَ فِيهِ)) أي: باحتماله المستمر، ((وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)). {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:102 - 103].

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)): الكاف في قوله: ((كَذَلِكَ)) [طه: 99]، في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: نقص عليك من أنباء ما سبق قصصاً مثل ذلك القصص الحسن الحق الذي قصصنا عليك عن موسى وهارون، وعن موسى وقومه والسامري. والظاهر أن (من) في قوله تعالى: ((مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)) للتبعيض، ويفهم من ذلك: أن بعضهم لم يقصص عليه خبره، وليس المقصود بها البيان؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر في موضع آخر في القرآن الكريم أنه قص عليه أنباء بعض الرسل، وبعضهم لم يقصه عليه، كما قال تبارك وتعالى في سورة النساء: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، وقال تعالى في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] وقال في سورة إبراهيم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [إبراهيم:9]. والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر الذي له شأن. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أخبار الماضين. أي: ليبين بذلك صدق نبوته، فالله سبحانه وتعالى من حكمة اشتمال القرآن الكريم على قصص الأنبياء السابقين الماضين: هو تأييد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المعجزة؛ لأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ الكتب، ولم يتعلم أخبار الأمم وقصصهم؛ فلولا أن الله أوحى إليه ذلك لما علمه، وهذا ما بينه تعالى في قوله عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] أي: فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما كان لك به علم، وقوله تعالى في سورة هود: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقال أيضاً في سورة هود: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، وقال تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، وقال أيضاً في قصة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] يعني: لم يكن عندك علم بهذا الذي قصصنا عليك، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص:44]، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص:46]، وقوله أيضاً: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:45]، كل هذه الآيات تؤكد معنى واحد، وهو: أن هذا من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من مؤيدات نبوته وأعلامها؛ لأن المقصود أنك لم تكن حاضراً يا نبي الله تلك الوقائع، فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما علمته. وقوله تعالى: ((كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)) أي: أخبار ما مضى من أحوال الأمم والرسل، وقوله: ((وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا)) أي: أعطيناك من عندنا ذكراً، وهو هذا القرآن العظيم، وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله عز وجل: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [الأنبياء:50]، وقال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58]، فالقرآن يسمى ذكراً، وقال أيضاً: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وقال أيضاً: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1]، وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، إلى غير ذلك من الآيات. قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه: أحدها: أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم. ثانيها: أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمه تعالى، ففيه التذكير والمواعظ. ثالثها: أن فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: فإنه شرف لك ولقومك. واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكراً، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43]. ويدل على الوجه الثاني في كلامه قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وقوله تعالى: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113].

تفسير قوله تعالى: (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا)

تفسير قوله تعالى: (من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً) قال تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} [طه:100]. قال الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم، أي: صد وأدبر عنه، ولم يعمل بما فيه من الحلال والحرام، والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من القصص والأمثال، ونحو ذلك؛ ((فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا))، قال الزمخشري: يريد بالوزر العقوبة الثقيلة الباهظة، سماها وزراً: تشبيهاً -في ثقلها على المعاقب، وصعوبة احتمالها- بالحمل الذي يفدح الحامل، وينقض ظهره، ويلقي عليه بهره، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله على أن المجرمين يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم، أي: أثقال ذنوبهم على ظهورهم كقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31]، وقال في النحل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]، وقال في العنكبوت: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، وقال في فاطر: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18]، وبهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تعلم أن معنى قوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا}، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:101]: أن المراد بذلك الوزر المحمول: أثقال ذنوبهم وكفرهم يأتون يوم القيامة يحملونها، سواء قلنا: إن أعمالهم السيئة تتجسم في أقبح صورة وأنتنها، أو غير ذلك كما تقدم إيضاحه، والعلم عند الله. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: ((خَالِدِينَ فِيهِ)) يريد: مقيمين فيه أي: في جزائه، وجزاؤه جهنم.

تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا)

تفسير قوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً) قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] بدل من يوم القيامة، أو منصوب بمحذوف، والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يماثلها إلا نفخة في بوق، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور، والبحث وراء هذا عبث لا يسوغ للمسلم، أفاده بعض المحققين. {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: نسوقهم إلى جهنم، ((زُرْقًا)) أي: زرق الوجوه، والزرقة تقرب من السواد، فتكون وجوههم فيها زرقة قريبة جداً من السواد، فهذا بمعنى قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]. وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم، والأزرق شاخص؛ لأنه لضعف بصره يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه، وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]، نقله الرازي، والأول أظهر، يعني: أنه فعلاً وجوههم تكون شديدة الزرقة بحيث تقترب من اللون الأسود. {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103]. ((يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ)) أي: يتسارُّون من الرعب والهول أو من الضعف، قائلين يهمس بعضهم في أذن بعض، فهم يتخافتون فيما بينهم من الرعب والهول، أو من الضعف الشديد سراً، قائلين: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا))، يعني: في الدنيا لبثتم عشر ليال، يتذكرون المدة التي عاشوها في الدنيا، فيقدرونها ويقولون: نحن عشنا تقريباً في الدنيا عشر ليال فقط، كل العمر الذي عاشوه ستين أو سبعين أو ثمانين سنة يوازي عشر ليال. قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا: إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور. يعني: الشدائد التي يلقونها يوم القيامة من هولها تنسيهم أيام السرور، وهذا قريب جداً مما ذكرناه في سورة يس: ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)). هل هم كانوا في حالة رقود، أم كانوا يعذبون في القبور؟ يعني: من شدة الأهوال التي عاينوها نسوا العذاب الذي كان في القبر؛ لأنه بالنسبة إليه شيء لا يذكر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].

تفسير قوله تعالى: (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا)

تفسير قوله تعالى: (يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً) قال تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103]. ((يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ)) أي: يتسارُّون من الرعب والهول أو من الضعف، قائلين يهمس بعضهم في أذن بعض: ((إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا)) يعني: في الدنيا لبثتم عشر ليال، يتذكرون المدة التي عاشوها في الدنيا، فيقدرونها ويقولون: نحن عشنا في الدنيا تقريباً عشر ليال فقط! كل العمر الذي عاشوه ستين أو سبعين أو ثمانين سنة يوازي عشر ليال!! قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لما يعاينون من الشدائد التي تنسيهم أيام النعمة والسرور. يعني: الشدائد التي يلقونها يوم القيامة من هولها تنسيهم أيام السرور، وهذا قريب جداً مما ذكرناه في سورة يس: ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)). فهم كانوا يعذبون في القبور، ومن شدة الأهوال التي عاينوها نسوا العذاب الذي كان في القبر؛ لأنه بالنسبة إليه شيء لا يذكر: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52].

طه [128 - 132]

تفسير سورة طه [128 - 132]

تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون) قال تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128]، ((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ)) أي: لهؤلاء المكذبين، ((كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ)) أي: الأمم المكذبة للرسل، ((يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)) يريد قريشاً حيث يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط، ويعاينون آثار هلاكهم، فقوله: ((مَسَاكِنِهِمْ)) يعود إلى هؤلاء المعذبين من القرون المهلكة، أما قوله: ((يَمْشُونَ)) فالواو تعود إلى كفار قريش، أي: هم يتقلبون في بلاد عاد وثمود ولوط، ويعاينون آثار هلاكهم، وأنه ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر. ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى)) أي: العقول السليمة، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].

تفسير قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى)

تفسير قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى) قال عز وجل: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه:129]، هذا بيان لحكمة تأخير عذابهم، مع إشعار قوله تبارك وتعالى: ((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)) بإهلاكهم مثل هلاك أولئك، يعني: كما كذب هؤلاء المكذبون من قريش فلهم نفس المصير الذي لقيه المكذبون فيما مضى، لكن يمنع من نزول العذاب بهم الآن كما نزل على من قبلهم أن لذلك أجلاً محتماً لا يخلفه الله سبحانه وتعالى، وما هي هذه الكلمة السابقة؟ قال القاشاني: هو القضاء السابق ألا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا؛ لأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة، فقد قضى الله سبحانه وتعالى ألا يهلك أمته إهلاكاً عاماً يستأصل شأفة المكذبين منهم كما حصل في الأمم السابقة. وقال الزمخشري في تفسير الكلمة السابقة: هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة، فقد وعد الله سبحانه وتعالى أنه يؤجل عذابهم إلى الآخرة، فلولا هذه العدة؛ لكان مثل إهلاكنا عاداً وثمود لازماً لهؤلاء الكفرة. وقوله: ((لَكَانَ لِزَامًا)) يعني: كان إهلاكهم لازماً ومحتماً كما أهلك الأولون، واللزام مصدر لازم كالخطاب، وصف بالمصدر مبالغة كما تقول: رجل صدق، فيوصف الإنسان بالمصدر أحياناً للمبالغة، أو أن اللزام اسم آلة؛ لأنها تبنى عليه، كحزام وركاب، واسم الآلة يوصف به مبالغة أيضاً كقولهم: مسعر حرب، ونزال خصم، بمعنى: مجهز على خصمه، من نز بمعنى ضيق عليه، وجوز أبو البقاء كون لزام جمع لازم، كقيام جمع قائم.

معنى قوله تعالى: (وأجل مسمى)

معنى قوله تعالى: (وأجل مسمى) قوله تعالى: ((وَأَجَلٌ مُسَمًّى)) عطف على (كلمة)، (ولولا كلمة وأجل) أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة؛ لما تأخر عذابهم أصلاً، فهم يستحقون العذاب؛ لأنهم كذبوا، فالأصل أنهم يعاقبون كما عوقب السابقون الذين أشير إليهم في قوله تعالى: ((أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ)) إلا أن الله سبحانه وتعالى بين أن هناك مانعين يمنعان أن يكون العذاب لازماً لهم الآن، فالأول هو العدة بتأخير جزائهم إلى يوم القيامة، ولولا أيضاً أجل مسمى، فلا يستغرب أحد كيف أن (لزاماً) منصوبة، و (أجل) مرفوعة؛ لأن (أجل) معطوفة على (كلمة)، وكلمة مرفوعة، قال تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}، إذاً: لولا كلمة سبقت من الله ولولا أيضاً أجل مسمى لكان نزول العذاب فيهم أمراً لازماً محتماً. وقوله تعالى: ((وَأَجَلٌ مُسَمًّى)) إذا كان في الدنيا فقد يكون يوم بدر كما قال الله: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77]، وفي حديث أشراط الساعة التي تكون قبل يوم القيامة: (اللزام) وهو العذاب الذي لزمهم يوم بدر، أو يكون الأجل المسمى يوم القيامة، فلولا هذا الأجل المسمى لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه -يعني: مع تقارب المعنى بين قوله: ((كَلِمَةٌ سَبَقَتْ))، وبين قوله: ((أَجَلٌ مُسَمًّى)) - للإشعار باستقلال كل منهما، فالعطف للمغايرة، ولنفي لزوم العذاب، ومراعاة لفواصل الآية الكريمة، ويحتمل أن المقصود ((لَكَانَ لِزَامًا)) يعني: لكان الأخذ العاجل ((لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى)) كدأب عاد وثمود وأضرابهم.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك) قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130] أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال، بل إمهال، فإن الله يمهل ولا يهمل؛ فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر. فهذه الفاء سببية في قوله: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ))، والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، وليس المراد ترك القتال فتكون الآية منسوخة، لكن المقصود: لا تضطرب ولا تجزع لما صدر منهم من الأقوال الكفرية.

معنى قوله: (وسبح بحمد ربك)

معنى قوله: (وسبح بحمد ربك) قوله تعالى: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)) في المراد بالتسبيح هنا وجهان: الأول: أنه التنزيه، والثاني: أنه الصلاة، فيحتمل أن المقصود: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) يعني: نزه ربك عن الشرك، وسائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامداً له على ما ميزك بالهدى، معترفاً بأنه المولي للنعم كلها، ومن الصيغ الثابتة المأثورة في التسبيح: سبحان الله وبحمده. وخصص هذه الأوقات بالتسبيح؛ لأن لبعض الأوقات مزية على غيرها فقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]، وذكر طرفي النهار؛ ليعم الأمر بالتسبيح الليل والنهار، فكأنه قال: سبح بحمد ربك في كل وقت، فذكر الطرفين؛ ليفيد عموم هذه الأوقات، أو يكون المقصود أن لهذين الوقتين بالذات مزية على غيرهما من الأوقات، وهذا صحيح، فإن بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، وبعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس -اللذان هما طرفا النهار- من الأوقات المباركة، وثبت في فضيلتهما كثير من الأحاديث، وهما أفضل أوقات الذكر في النهار على الإطلاق. إذاً: القول الأول: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) يعني: نزه ربك متلبساً بحمده؛ لأن الكمال يتضمن أمرين: نفياً وإثباتاً، فالنفي يشير إليه التسبيح، فلفظة التسبيح تفيد تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص وعن كل ما لا يليق به، أما التحميد فهو الثناء على الله بالكمالات كلها، فله صفات الكمال والجمال والجلال. والحمد أعم من الشكر، فالحمد هو الثناء الحسن، والمدح بصفات الكمال والجمال والجلال، فإذا قلنا: سبحان الله وبحمده، استجابة لقوله: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ))؛ فهذه الباء تفيد التلبس، يعني: سبح بحمد ربك متلبساً بتحميده، يعني: اقرن بين التسبيح وبين التحميد؛ لتجمع بين السببين، نفي النقائص وإثبات الكمالات، فهذا معنى: سبحان الله وبحمده، سبحان الله: أي: أنزه الله عما لا يليق، وبحمده أي: أقول بجانب سبحان الله: الحمد لله، يعني: أثني عليه بإثبات الكمالات له وأمدحه بذلك. القول الثاني: أن المراد بالتسبيح هنا: الصلاة، ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) أي: صل لربك، وهو الأقرب عند القاسمي رحمه الله، بدلالة قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وهذه دلالة الاقتران، فقرن الصبر بالصلاة، فنفهم آية طه في ضوء آية البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] أي: استعينوا على البلاء الذي منه أذية الكفار للمؤمنين بما يسمعونه منهم من كلمات الكفر والأذى، كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، وهنا يقول: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)) يعني: اصبر على ما يقولون من كلمات الكفر والأذى الذي يؤذونك به، فهذه الآية مثل قوله في الآية الأخرى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]. قوله تعال: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) عطف على الأمر بالصبر على ما يقولون من الأذى، وفي الآية الأخرى عطف على الأمر بالصبر، فيصير المقصود بالتسبيح هنا الصلاة، والآيات يفسر بعضها بعضاً، وفي بعض الأحاديث يطلق على الصلاة تسبيح، مثل حديث: (كان لا يسبح في السفر)، وقول ابن عمر: (لو كنت مسبحاً لأتممت) يعني: لو كنت متنفلاً في السفر لأتممت، وفي الحديث: (جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين المغرب والعشاء بمزدلفة جمع تأخير ولم يسبح بينهما شيئاً) يعني: لم يتنفل بينهما، فالصلاة يطلق عليها تسبيح، باعتبار أن التسبيح أحد أعمال الصلاة، فيجوز أن يطلق عليها جزء من أجزائها. إذاً: المعنى: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)) أي: صل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه. ((قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ)) يعني: صلاة الفجر، ((وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)) يعني: صلاة الظهر والعصر؛ لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها، ((وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى)) أي: من ساعات الليل، والمراد: صلاة المغرب والعشاء، وإنما جعل وقت الصلاة فيهما لاختصاصهما بمزيد من الفضل؛ وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب، وهدوء الرجل، والخلو بالرب تبارك وتعالى، ولأن الليل وقت السكون والراحة، فصرفه للعبادة على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنفق، فكانت أفضل عند الله وأقرب؛ لأن فيها مجاهدة للنوم واللجوء إلى الراحة. وقوله: ((وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)) ظرف، يعني: سبح أطراف النهار، وقوله: ((وَأَطْرَافَ النَّهَارِ)) تكرير لصلاة الفجر والعصر، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية، ومجيئه بلفظ الجمع مشاكلة لآناء الليل، أو لأن صلاة الظهر في نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير، فجمع باعتبار النصفين، أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. قال الرازي: إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح؛ لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوى والراحة، إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تبارك وتعالى. وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: ((لَعَلَّكَ تَرْضَى)) أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، يعني: الزم هذين الأمرين: الصبر والتسبيح لعلك تنال ثواب ذلك وهو أن يرضيك الله، وتنال به ما ترضى به نفسك من رفع ذكرك، ونصرك على عدوك، وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك، وهذا كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، وفي الحديث القدسي: (يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).

تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم) أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من زخارف الدنيا إنما هو فتنة لهم، فلا ينبغي الرغبة فيه، وأن ما عنده أجل وأسمى، فقال تبارك وتعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، ((أَزْوَاجًا)) أي: أصنافاً، ((زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا)) أي: زينتها، منصوب على البدلية، بدل من ((أَزْوَاجًا)) أو منصوب بـ ((مَتَّعْنَا))، على تضمين معنى أعطينا أو خولنا. وقوله: ((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم، فإن ذلك فان وزائل، وغرور وخداع مضمحل. قال أبو السعود: قوله تعالى: ((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) متعلق بقوله: ((مَتَّعْنَا)) يعني: متعناهم بهذه الدنيا، لنفتنهم فيه، جيء به للتنفير عنه، ببيان سوء عاقبته مآلاً، إثر إظهار بهجته حالاً، فهو في الحال زهرة، لها بهجة ونضارة، لكن في المآل تضمحل وتزول، ولذلك قال: ((زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا)) فهذا إشارة إلى سوء عاقبة ما هم فيه من المتاع مآلاً إثر إظهار بهجته حالاً، أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه، أو لنعذبهم في الآخرة بسببه. ((وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) أي: ثوابه الأخروي خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، ((وَرِزْقُ رَبِّكَ)) يعني: ثوابه في الآخرة، خير في نفسه، ((وَأَبْقَى)) يعني: أدوم؛ لأنه لا يفنى، بل يكونون خالدين فيه، فلذلك قال: (ورزق ربك خير) مما هم فيه من زهرة الحياة الدنيا، والثواب الأخروي أفضل وأبقى مما هم فيه؛ لأن ما هم فيه زهرة لا تلبث أن تضمحل، أما رزق ربك وثواب الآخرة فإنه باق لا يضمحل ولا يفنى، وهذا كقوله تعالى: {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]. أو المعنى: ما أوتيت من النبوة والهدى خير مما فتنوا به وأبقى، ((وَرِزْقُ رَبِّكَ)) يعني: ما أوتيت -يا محمد- من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى؛ لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى، وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب.

قول الزمخشري في تفسير هذه الآية

قول الزمخشري في تفسير هذه الآية من لطائف الآية ما قاله الزمخشري رحمه الله ونصه: مد النظر تطويله، وألا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه، وإعجاباً به، وتمنياً أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]. قال: وفيه: أن النظر غير الممدود معفو عنه، فالنهي ليس عن النظر، وإنما هو عن مد النظر، فالنظر غير الممدود معفو عنه، وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر، ثم غض الطرف، يعني: مثل نظرة الفجأة، فمن نظر نظرة لا يقصدها، فرأى شيئاً ينبغي له أن يغض النظر عنه، فيغض طرفه بسرعة، ولا حرج عليه في ذلك، فالنهي هو عن مد البصر وإدامته كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي بن أبي طالب: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) له الأولى التي نفهمها في ضوء حديث جرير في نظرة الفجأة، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؛ فأمرني أن أصرف بصري). إذاً: نظر الفجأة هي النظرة التي تقع بطريقة غير إرادية، وغير مقصودة، وسرعان ما يغض الطرف عن المنظور، لكن لو كانت النظرة الأولى ناشئة عن عمد ونية فلا تحل الأولى ولا الثانية، وبعض الناس عندهم مرض في قلوبهم؛ ولذلك يفهمون الأحاديث والنصوص فهماً سقيماً، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لك الأولى وليست لك الآخرة) فيظن أن له أن ينظر الأولى عامداً إلى حرم الله النظر إليه، وليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود: لك الأولى إذا كانت نظرة فجأة بغير قصد، أما بقصد فلا تحل أولى ولا أخرى. يقول الزمخشري: ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وأن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره، ويملأ منه عينيه، قيل: ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)) أي: لا تفعل ما أنت معتاد له، وظالم به، ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة، في اللباس والمراكب وغير ذلك؛ لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم. وهم إنما اتخذوها لجذب ولفت أنظار الناس إليهم، فمن ينظر إليهم فكأنه يغريهم على اتخاذ هذه الأشياء؛ لأنه يحصل لهم غرضهم الذي اتخذوها من أجله، والنظر إلى صورة المنظور تؤثر في القلب، وكذلك النظر إلى الظلمة له تأثير في إمراض القلب؛ ولذلك يجتهدون الآن في تدخيل التقنية الحديثة في تضخيم الأصوات، والتحدث بطريقة معينة، والتحرك بطريقة معينة، وكل ذلك أمور مدروسة؛ لإظهار الهيبة من هؤلاء.

تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)

تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] يعني: بأهله: أهل بيته أو التابعين له صلى الله عليه وسلم، والراجح: أن أهل النبي عليه الصلاة والسلام هم كل مؤمن كما حققه العلامة ابن القيم في كتابه: جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، صلى الله عليه وسلم، فمن أراد تحقيق هذه المسألة فليراجع كتاب جلاء الأفهام للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فقد شرح وبين أن المقصود بالآل في قولنا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، أتباعه المؤمنون به عليه الصلاة والسلام. يقول: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)) يعني: أهل بيته أو التابعين له، أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (واصطبر عليها)

معنى قوله تعالى: (واصطبر عليها) قوله تعالى: ((وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) أي: اصطبر على أدائها؛ لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة؛ لأن الإنسان إذا واظب على الصلاة فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع، فلذلك هل يمكن أن تجد من هو محافظ على الصلوات الخمس في جماعة، ثم يفطر في رمضان عامداً؟ لا؛ لأنه إذا حافظ على الصلاة فلابد أنه سيحافظ على الزكاة والحج وصوم رمضان وغير ذلك، لكن إذا هان على إنسان أن يضيع الصلاة فإنه يهون عليه ما عدا الصلاة من العبادة. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها؛ إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، فالأمر بالصلاة ليس لأن الله سبحانه وتعالى محتاج إلى عباده، أو أن صلاتهم تعود عليه بنفع ما، وإنما لأن نفع الصلاة يعود إليهم هم؛ فلذلك عقب الأمر بالصلاة بقوله: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)).

معنى قوله تعالى: (لا نسألك رزقا نحن نرزقك)

معنى قوله تعالى: (لا نسألك رزقاً نحن نرزقك) الأمر بالصلاة إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها وهو الله سبحانه وتعالى نفع ما، لتعاليه وتنزهه، ولذلك قال: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) أي: لا نسألك مالاً، بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً، ومعنى ((نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) أي: نحن نعطيك المال ونكسبك، ولا نسألك هو، وهذا قاله ابن جرير رحمه الله تعالى. وقال أبو مسلم: المعنى: أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج، فإن شأنكم معشر البشر إذا كان للرجل منكم عبيد فإنه يترك هؤلاء العبيد يعملون ويكتسبون المال، ويعودون بهذا المال على سيدهم، فهو ينتفع بهم؛ لأن المال الذي في يد العبد ملك لسيده في الحقيقة، فالله تبارك وتعالى يبين أنه ما يريد منهم ولا منه عليه الصلاة والسلام سوى العبادة، ولا يريد من العباد أن يرزقونه، كما تريد السادة من العبيد الخراج، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. وقال بعض المفسرين: معنى الآية: أقبل مع أهلك على الصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم، ولا تهتموا بأمر الرزق والمعشية. وهذه الآية من أعظم ما يرد به على قول بعض المفرطين: العمل عبادة، وهي كلمة صحيحة إذا حملت على أحسن الوجوه، لكنهم قد يتركون الصلاة ويقولون هذه الكلمة! مرة في مجلس الشعب دخل عليهم وقت المغرب، فقام رجل من الدعاة الصالحين الموجودين، فقال: الصلاة يا رئيس! فقال له: نحن في عبادة! وهذا نسمعه الآن في كل مكان، تنصح إنساناً وتقول له: أترك ما في يدك واذهب إلى الصلاة، فيقول: العمل عبادة، فنقول: العمل عبادة، والصلاة أليست عبادة؟! ثم إن العمل وقته متسع لكن الصلاة وقتها يضيق، خاصة صلاة الفجر أو العصر، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) يعني: كأن مصيبة أصابته ضاع فيها كل أهله وكل ماله، وأصبح بلا أهل ولا مال، وفي حديث آخر: (من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله)، فترك الصلاة من كبائر الذنوب العظيمة، فكيف يقال: العمل عبادة، إذا كان هذا العمل يعطل عن الصلاة؟! المفروض أن الناس ينظمون مواعيدهم وأعمالهم بحيث لا تعارض أعمالهم مواعيد الصلاة، فهو إذا طرأت عليه الحاجة البشرية فلا شك أنه يسارع ويبادر لقضاء هذه الحاجة، مثل الطعام، فلماذا لا يبقى في العمل ويقول: العمل عبادة، ويترك الطعام والشراب؟! لماذا عند ذكر الله وعند فرائض الله يقول: العمل عبادة؟! العمل الذي هو عبادة هو العمل الذي لا يلهي عن طاعة الله سبحانه وتعالى، والصلاة هي أشرف الأعمال على الإطلاق، قال عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، وهذا القول من تلبيس الشيطان ولعبه بعقول هؤلاء الناس، يضيع الصلاة ويقول: العمل عبادة، يترك العبادة بحجة العمل، فهذه عبادة للشيطان في الحقيقة، وليست عبادة للرحمن جل وعلا. هذه الآية: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)) لابد لكل إنسان دائماً أن يتذكرها، وأن يكرر الأمر لأهله بالصلاة، ففي كل وقت صلاة يأمرهم بها، حتى لو كان يتوقع أنهم سيبادرون إلى الصلاة؛ امتثالاً لهذه الآية، لابد أن الإنسان يعود نفسه، ولي الأمر هو المسئول الأول أن يأمر أولاده بالصلاة قبل ذهابه لصلاة الجماعة، فيأمرهم بالصلاة، ويقول لهم: بادروا بالصلاة، لا تؤخروا الصلاة، حضرت الصلاة، فيذكرهم باستمرار بحضور وقت الصلاة، ويأمرهم بذلك، فينبغي أن يكون هذا سلوك ثابت في كل بيت مسلم، فالأصل أن الذي يقود دفة السفينة يأمرهم دائماً بالصلاة، والصلاة -بلا شك- أولى من متابعة الواجبات المدرسية والمذاكرة وغير ذلك من الأمور التي هي دون الصلاة بكثير، فلابد أن يكون من وظائف ولي الأمر التي لا يخل بها أبداً الأمر بالصلاة امتثالاً لهذه الآية: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)). أيضاً في هذه الآية بيان أن الصلاة هي السبب في سعة الرزق، فمن أراد سعة الرزق فلا يترك الصلاة اشتغالاً بالرزق، والحقيقة أن ما عند الله ينال بطاعته ولا ينال بمعصيته، فالرزق عند الله كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فإذا كان الرزق من عند الله فهل نطلب ما عند الله بمعصية الله أم بطاعة الله؟ نطلب الرزق الذي عند الله بطاعته، فإذا أطعنا الله يبارك لنا في هذا الرزق، والآية تشير إلى أن الصلاة سبب في سعة الرزق، ولا يمكن أن تكون الصلاة عائقة عن الرزق؛ لأنه عقب قوله: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)) بقوله: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ)) فالذي يرزقنا وضمن لنا أرزاقنا هو الذي أمرنا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها. فالإنسان إذا نزلت به خصاصة أو حاجة أو فقر، فمن أعظم أسباب سعة الرزق أن يبادر إلى الصلاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصابته خصاصة فزع إلى الصلاة، وكان يفزع إلى الصلاة إذا أصابه أي مكروه، امتثالاً لقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، يقول بعض المفسرين: معنى الآية: أقبل مع أهلك على الصلاة، واستعينوا بها على خصاصتكم، يعني: على حاجتكم، فلا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، مضمون، ونحن رازقوك: ((لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ))، وهذا المعنى تدل عليه الآية مفهوماً. وليس في الآية حث على القعود عن الكسب، وليست مستنداً للكسالى القابعين في المساجد عن السعي المأمور به، فبعض الناس يقعد عن الكسب والعمل، ويقول: نصلي ونمكث في المساجد ونترك العمل والوظيفة والسعي وراء الرزق الحلال، فهل استدلالهم بهذه الآية يكون في محله؟ لا، فليس الأمر كما يقول بعضهم: جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين فالله سبحانه وتعالى أمرك بالسعي في طلب الرزق كما قال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، وقال في سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] يعني: بعد أن تؤدي الواجب افعل لطلب الرزق ما شئت، لكن المهم ألا تضيع الصلاة بحجة الرزق، والدليل أن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، وهذا أمر صريح بترك ما يسميه بعضهم الآن: العمل عبادة، فالله يأمرك بترك هذه العبادة وقت الصلاة. ومن العجيب أن يطلق على طلب الدنيا عبادة بهذا المعنى! بل هذا كله من عبادة الدنيا، فالدنيا استعبدته في الحقيقة، فهو عابد للدنيا، فالعمل الذي هو عبادة هو الذي لا يشغلك عن أشرف العبادات، والكسب الحلال والسعي وراء الرزق عبادة يثاب عليها الإنسان، لكن لا ينبغي أن يغتر بمن يقيم التعارض بين الأمرين، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، إلى آخر الآية في سورة النور؛ إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين، يعني: يحافظون على الصلاة، ويعمرون المساجد بصلاة الجماعة، وفي نفس الوقت يسعون إلى الرزق الحلال؛ {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] * {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، وقال تبارك وتعالى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. ((وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل لأهل التقوى والخشية من الله دون من لا يخاف منه عقاباً ولا يرجو منه ثواباً، كما قال في الآية الأخرى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

طه [133 - 135]

تفسير سورة طه [133 - 135]

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت: آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى وكناقة صالح، واقتراحهم في ذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك: ((لَوْلا يَأْتِينَا))، أي: هلا يأتينا محمد بآية كناقة صالح وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحرص وحث. فأجابهم الله بقوله: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، وهي هذا القرآن العظيم؛ لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز! وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه ((بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))؛ لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها. فالقرآن الكريم يشهد بصدق وصحة الكتب السابقة التي أوحاها الله سبحانه وتعالى إلى أنبيائه. هذا معنى: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، وهو القرآن الكريم الذي هو حجة وبرهان قاطع على صحة ما أنزله الله من قبل من الكتب كالتوراة والإنجيل وغير ذلك كما قال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] إلى غير ذلك من الآيات. وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه جل وعلا في سورة العنكبوت في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:50 - 51]، فقوله في سورة العنكبوت: ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)) هو معنى قوله تبارك وتعالى في سورة طه: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)) كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. ويزيد ذلك إيضاحاً الحديث المتفق عليه: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، معنى الحديث: أنه ما من نبي إلا أوتي من المعجزات ما آمن البشر على مثله، وهي معجزات مؤقتة مثل عصا موسى، هل هي باقية حتى الآن هذه العصا يحدث بها ما كان يحصل لموسى عليه السلام؟ ومثل معجزات عيسى عليه السلام أو ناقة صالح أو غير ذلك من هذه الآيات التي كان فيها خرق للعادة مقترنة بدعوى النبوة لتأييد الأنبياء، فهي معجزات للأنبياء لكنها معجزات موقوتة، وهي خارقة وقاهرة لمن يرونها، ثم بعد ذلك تبقى خبراً كما نخبر نحن عنها الآن، وكما أخبر بها من أتوا بعد الأنبياء عليهم السلام. أما القرآن العظيم فهو معجزة باقية حية متجددة لا تنقضي أبداً؛ لأنه معجزة بكل معنى الكلمة، وبكل مظاهر الإعجاز، وكما قلنا مراراً: نأمل أن تأتي فرصة نناقش فيها قضية إعجاز القرآن وتعطى حقها الذي تستحقه، لأن هذا باب من العلم في غاية الأهمية خاصة في مثل هذا الزمان. بعض الخبثاء من أعداء الله في موقع على الإنترنت ادعى أنه يقبل التحدي، وأنه يأتي بضد القرآن وهذا الكلام لا يصدر إلا عن إنسان جبان، ولو كان على مستوى التحدي فلماذا لم يظهر نفسه واختبأ كالفئران والجرذان؟ ولا أحد يستطيع أن يصل إليه، وعلى الأقل يفتح مكاناً في نفس الموقع للتعليقات، لكنه لم يترك أي وسيلة يمكن لإنسان أن يرد عليه بها في نفس الموقع؛ إذا كنت تتحدى! هل تختبئ في الخندق؟! الإنسان عندما يتحدى يقف ويثبت أمام التحدي. فهل يعجز أحد عن السباب والشتائم؟ كل إنسان قادر على أن يسب وأن يشتم وينتقي أقبح الألفاظ. فعندما يأتي مثلاً بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3] هل يعجز أحد أن يقول: أنا سأقبل التحدي، ويأخذ كلمة (الكافرون) ويقول: يا أيها المسلمون! هل هكذا يكون التحدي؟! كثير منا لا يعرف ما معنى إعجاز القرآن ومن سبقوه كانوا أكثر منه علماً وواقعية، فهذا قام بوضع البدائل ويقول: أنا قابل للتحدي، وسوف أعمل نفس القرآن الكريم، ويظل يكتب: يا محمد! لما أضللت عبادي، وأدخلتهم النار، وجعلتهم من الكافرين؟ إلى آخره!! فمثل هذه الخزعبلات وهذا الضلال لو كان كاتبها عنده شجاعة أدبية لأظهر نفسه، وبدأ يناقش العلماء الذين يتحداهم، لكنه لما خاف أن يظهر عجزه للناظرين اختبأ! هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: نحن من غير قصد أحياناً نتعرض لمثل هذه المحاولات ونتعامل معها بطريقة تخدم سياسة الأعداء، فمثل هذه القضية التي انشغل الناس بها ونشروها في الجرائد لو كان عندهم نوع من الفقه لامتنعوا من نشرها أصلاً؛ لأن كثيراً من الناس لا يقصدون بذلك إلا أن يلقوا إلينا مثل هذه الشبهات ونحن الذين ننشرها على أوسع نطاق! وكمثال عابر بعض الأدوية التي يتحدث عنها الناس نجد طريقة الدعاية التي حصلت لها ما كانت تحلم بها شركات الأدوية ولو أنفقت على ذلك البلايين، لا يمكن أنها كانت تصل للمستوى الإعلامي الذي حصل نتيجة تناولها بشكل غير مدروس، فيحدث أن كل الناس تتكلم عنها: ولماذا لا نرد؟ لازم نرد، لكن أين سترد؟ على موقع آخر؛ لأن الموقع الذي كتب فيه لا يسمح بالرد، أو لا يوجد به مكان للرد عليه. فالمصيبة أن بعض من ليس عندهم فقه يرد في موقع آخر، ويكون بذلك قد ساهم في إطلاع من لم يطلع على الأمر في الأساس، فالأولى أن يترك الموضوع ولا يثار، وإلا كان كالتراب الي بتحريكه ينتشر في الجو فعدم الرد على مثل هذه الأشياء هذا أفضل؛ لأن الشخص المجهول قد جبن عن أن يواجه، ولم يترك فرصة لأحد ليرد عليه، ثم لا يعجز أحد كما قلنا عن الشتائم؛ فلنعامل هذا كما في قوله تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]؛ لأنه لا يوجد أحد يعجز عن الشتائم، فما علينا إلا الصبر {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، فالمطلوب الصبر على هذا الأذى كما أمرنا الله تبارك وتعالى. فإذاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، هذه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة باقية حجة على البشرية إلى نهاية الزمان، وهذا يتوافق مع وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه خاتم الأنبياء، لأنه إذا كان خاتم الأنبياء فلا يوجد نبي بعده، ومقتضى ذلك أن تبقى معجزته أيضاً قائمة ظاهرة باهرة قاهرة لكل من عاندها، وهي معجزة القرآن الكريم؛ ففي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، أرجو أن تكون أمتي أكثر أمم الأنبياء جميعاً، لماذا؟ لأن المعجزة باقية ودائمة ومتجددة إلى قيام الساعة، وليست كمعجزات الأنبياء السابقين الذين حصل لهم خرق العادة ثم توقفت وصارت بعد ذلك خبراً، أما القرآن فتكفل الله بحفظه لكي يبقى حجة على البشر، ودلالة واضحة قاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ))، يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم في سورة بني إسرائيل، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:90 - 93]-من ذهب- {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93]، أنا أقترح على الله؟! ليس هذا من شأني. وقوله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ)) فأجابهم تعالى: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)) أي: أولم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب؟! وهذا تفسير آخر، لكن الشنقيطي رحمه الله تعالى فسر بينة ما في الصحف الأولى بأنها القرآن الكريم. أولم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات فسخروا بها لما أتتهم، ثم عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا لكفرهم بها؟! يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك؟ وهذا قاله ابن جرير رحمه الله تعالى؛ ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، فأقوام الأنبياء طلبوا واقترحوا الآيات، ولم يكتفوا بما أيد الله به الأنبياء من المعجزات، فلما أجيبوا إلى ذلك وكفروا نزل بهم العذاب العاجل! وهذه سنة الله فيمن تعنت واقترح آية ثم أجيب إلى هذه الآية فكفر بها، فيأتيه العذاب. يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعدما حكى قول ابن جرير: وذهب غيره إلى أن المعنى: أولم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور، مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يتعلم ممن علمها، فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف ففنده، وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان. ينبغي أن يكون الدليل الأعظم على صحة الكتب السابقة هو القرآن الكريم، لا بد أن نكون على يقين من ذلك، وأن هذا يكفي، ليس معنى يكفي أننا ننفي ما عداه من المعجزات، لكن نقول: إنه معجزة المعجزات لأن الآية تقول: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍِ مِنْ رَبِّهِ}، فماذا جاء الجواب؟ ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)) أي: أولم يأتهم القرآن الكريم؟ وهذا السياق يفهم منه: أن القرآن كاف في إقامة الدليل على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكما قال الله أيضاً في سورة العنكبوت: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} [العنكبوت:50 - 51] انظر إلى كلمة ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ)) يعني: أن القرآن فيه الكفاية في إقامة الدلالة على معجزته عليه الصلاة والسلام وعلى نبوته {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].

القرآن معجزة النبي الكبرى

القرآن معجزة النبي الكبرى قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره، وهو الدليل وحده؛ وما عداه مما ورد من الأخبار سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهى فليس مما يوجب القطع عند المسلمين، فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وحظ من التأكيد لمن سلمه من أهله؛ ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة وأن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر هو: أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتابة، ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم منقذاً لهم من خسران كانوا فيه وهلاك أشرفوا عليه، وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف. مع أن التحدي كان تحدياً صارخاً لأعظم بلغاء عرفهم تاريخ العرب وهم قريش، مع ذلك ما يعرف عن رجل منهم أنه استجاب لهذا التحدي، إنما لجئوا إلى المجالدة والقتال بالسيف، لكن هل عرف عن أحد منهم أنه استجاب لهذا التحدي؟! لا. يقول: فعجزوا والآية تتحداهم، وهل تحدي أقوى من أن يقول الله لهم: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]؟ وهذه الآية من أعظم إعجاز القرآن الكريم حيث قال: ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا))، فقطع بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم! وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء، واضطهاد المؤمنين؛ إلى أن ألجئوهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جنباتها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم، وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وقال تعالى: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38]. يقول: وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصح دليلاً على المدعى، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:23 - 24]، وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. فالقرآن يطالبهم بمقاومة الحجة بالحجة، ولم يطالبهم بمجرد التسليم على الرغم من العقل، فالإسلام ما طالب الناس أن يدخلوا فيه بالإكراه وبالإرغام وبالإجبار، وإنما أمرهم بإعمال العقل، وأن يستعملوا العقل الذي ميزهم الله به عن العجماوات، حتى يهتدوا به إلى إعجاز هذا القرآن الكريم. يقول: معجزة القرآن جامع من القول العلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها خطة الذي لا ينتقص؛ وله أن يأخذ حقه الذي لا ينتقص من التدبر في القرآن الكريم، فهي معجزة أعجزت كل قوم أن يأتوا بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت، أو إخراج شيطان من جن، أو شفاء علة من بدن؛ فهي مما ينقطع عنده العقل، ويجمد لديه الفهم. هذا الفارق بين معجزة القرآن ومعجزات من سبق من الأنبياء؛ كإحياء الموتى مثلاً بالنسبة لعيسى عليه السلام، هل معجزة إحياء الموتى أو معجزة العصا من الأشياء التي يفسح فيها المجال للعقل لكي يتفكر ويتعقل كيف حصلت؟ لا، لأنها خرق للأسباب العادية، فهذا هو المقصود من قوله: فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله سبحانه وتعالى على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم تضئ عقولهم بنور العلم، وهكذا يؤتي الله بقدرته الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. يقول: وقال فاضل آخر: قضت رحمة الله جل شأنه أن تكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم، يبسط بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليهم انتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يئوب من استبطائه بنجاح، بدون هذا الاعتبار للعقل لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها، هذا ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية، وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن الإحاطة بها عقولهم، وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه. وأما الآن حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنساني رشده؛ فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة؛ لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية، فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولاً، ثم إذا ظهر لهم برآته منه صاروا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات! ومحمد عبده له موقف فيه ملاحظات كثيرة بالنسبة لقضية المعجزات، وهذا الكلام في الحقيقة لا يخفى أن فيه ما يرد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام له معجزات حسية، وكان القرآن قطعاً أكبر معجزة، لكن هل اقتصر الله سبحانه وتعالى في تأييد نبيه محمد عليه الصلاة والسلام على معجزة القرآن فقط؟ لا! نعم هو معجزة المعجزات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أيد بمعجزات أخرى؛ كنبع الماء من بين أصابع يده الشريفة عليه الصلاة والسلام والإسراء والمعراج وغير ذلك والمعجزات كثيرة جداً. فالكلام السابق يشم منه رائحة كلام من مدرسة محمد عبده الغير مرضي في قضية المعجزات. ومن الكلام الذي لا نقبله قوله: مما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تجوز فيها مسائل المعجزات تكذيب علماء أوروبا لكل المعجزات السابقة، وهو وإن كان تهوراً منهم إلا أنهم مصيبون في قولهم: إننا في زمان لا ينشئ فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. هذا الكلام فيه نظر! فلا زالت المعجزة وخرق العادة دليلاً واضحاً جداً على أن هذا الإنسان مؤيد من عند الله سبحانه وتعالى. الفارق فقط أنه لم توجد في زمننا معجزة خارقة للعادة كمعجزات الأنبياء؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد قبض عليه الصلاة والسلام وذهب إلى الرفيق الأعلى، وترك معجزاته الحسية خبراً يخبر به. أما المعجزة الحية التي هي متجددة وقائمة فهي لا شك القرآن الكريم، لكن هذا لا ينفي الإعجاز بما عدا القرآن الكريم من المعجزات بأنواعها. يقول: لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق بأعمال العقل واتباع قواعد العلم بصرف النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. وهذا الكلام أيضاً غير صحيح، وأنا أعجب كيف أن القاسمي مع سلفيته الواضحة جداً يتورط في موافقة مدرسة محمد عبده في مثل هذه الأشياء؟! يقول: لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله)

تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم والإعذار ببعثته بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]. ((وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ)) أي: من قبل إتيان البينة، أو: من قبل محمد عليه الصلاة والسلام، يعني: لو أن الله أنزل عليهم العذاب قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، لقالوا: ربنا كيف عذبتنا؟ لولا أرسلت إلينا رسولاً لترى هل نطيعه أم لا؟ لماذا عذبتنا قبل أن ترسل إلينا رسولاً وتقيم علينا الحجة؟ الله سبحانه وتعالى يقول لهم: قد جاءتكم الحجة، وقد جاءتكم المعجزة والدليل على صدق هذا النبي: ((وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ)) أي: من قبل البينة أو من قبل محمد عليه الصلاة والسلام ((لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ)) أي: من عذاب دنيوي ((وَنَخْزَى)) أي: من عذاب أخروي؛ أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها، فلم يحصل أننا أهلكناهم قبل إتيان الآية والبينة؛ فانقطعت معذرتهم؛ لأن الله أرسل إليهم الرسول بالفعل ولم يهلكهم قبل أن يرسل الرسول. فانقطعت معذرتهم، ولذلك عندما يسألون: أما جاءتكم الرسل والنذر؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] {قَالُوا بَلَى} [الملك:9] فيقرون: {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:9]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}، هذه الآية تشير إلى معناها آية القصص في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]، فهذه الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير، هي المذكورة في قوله تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] يعني: قبل الرسل تكون لهم هذه الحجة، ويقولون: {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:47]، لكن بعد الرسل قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، ويقول تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. قال تعالى: {قُلْ} [طه:135] أي: لأولئك الكفرة المتمردين، {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه:135] كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ)) أي: منتظر لما يئول إليه أمرنا وأمركم {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ} [طه:135]، عما قريب، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} [طه:135] المستقيم {وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] أي: من الزيغ والضلال، أي: هل هو النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه أم هم وأتباعهم؛ وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده؛ فلله الحمد في الأولى والآخرة. ((قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا))، أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار الذين يقترحون الآيات عليه عناداً وتعنتاً: كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ))، أي: منتظر ما يحل بالآخر من الزواجر كالموت والغلبة. وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، الشهادة أو النصر {إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، وقال تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة:98]، إلى غير ذلك من الآيات. والتربص: الانتظار.

تفسير قوله تعالى: (قل كل متر بص فتربصوا)

تفسير قوله تعالى: (قل كل متر بص فتربصوا) قال تعالى: {قُلْ} [طه:135] أي: لأولئك الكفرة المتمردين، {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه:135] كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ)) أي: منتظر لما يئول إليه أمرنا وأمركم {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ} [طه:135]، عما قريب، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} [طه:135] المستقيم {وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] أي: من الزيغ والضلال، أي: هل هو النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه أم هم وأتباعهم؛ وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده؛ فلله الحمد في الأولى والآخرة. أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار الذين يقترحون الآيات عليه عناداً وتعنتاً: كل منا ومنكم ((مُتَرَبِّصٌ)) أي: منتظر ما يحل بالآخر من الزواجر كالموت والغلبة. وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون كله خير، بعكس ما ينتظره الكفار، كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، الشهادة أو النصر {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52]، وقال تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة:98]، إلى غير ذلك من الآيات، والتربص هو: الانتظار. وفي قوله: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135] ذكر جل وعلا أن الكفار سيعلمون ((مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى)) أي: وفق لطريق الصواب والديمومة على ذلك، وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار. والمعنى: سيتضح لكم أننا مهتدون، وأنا على صراط مستقيم، وأنكم على ضلال وباطل، وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة، ويظهر لهم في الدنيا لما يرونه من نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ودينه. وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع، كقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42] فالناس الآن في الدنيا، في أثناء السباق، التراب يملأ الجو، وبالتالي لا يستطيع الناس أن يعرفوا من الذي سيسبق؟ ومن الذي سيصل أولاً؟ ومن الذي غلب؟ كما قال الشاعر: سوف تدري إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار فكذلك إذا انقضت الدنيا سوف يعلمون. ومتى يعلم الكفار أن المسلمين كانوا هم أهل الهداية وأصحاب الصراط السوي؟ يجيب تعالى بقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، وقال تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:26]، فبمجرد أن تأتيهم ملائكة الموت وملائكة العذاب سيعلمون ساعتها قطعاً ويقيناً من المهتدي ومن كان على صواب، وقال تبارك وتعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، إلى غير ذلك من الآيات. والصراط في لغة العرب: الطريق الواضح، والسوي: المستقيم، وهو الذي لا اعوجاج فيه، ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم وقوله تعالى: ((فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ)). ((مَنْ)) في قوله: ((مَنْ أَصْحَابُ)) قال فيها بعض العلماء: هي موصولة، فيكون إعراب ((مَنِ)) مفعول به في محل نصب. وقال بعضهم: هي استفهامية معلقة بالعلم. هذا آخر تفسير سورة طه.

الزخرف [1 - 20]

تفسير سورة الزخرف [1 - 20]

بين يدي سورة الزخرف

بين يدي سورة الزخرف سميت سورة الزخرف بهذا الاسم لدلالتها على أن الدنيا في غاية الخسة في نفسها، وغاية العداوة مع ربها؛ بحيث لا تليق بالأصالة إلا لأعدائه، كما سيتضح هذا المعنى جلياً عند تفسير الآية التي ذكر فيها الزخرف، فالدنيا ليست للمؤمنين وطناً ولا مقراً. وهي سورة مكية إلا قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وآياتها تسع وثمانون آية.

تفسير قوله تعالى: (حم.

تفسير قوله تعالى: (حم. والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآناً عربياً) قال تبارك وتعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:1 - 3] أي: لعلكم تعقلون معانيه: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ} [الزخرف:4] أي: رفيع القدر، بحيث لا رفعة وراءها، {حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: ذو الحكمة الجامعة.

تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين)

تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين) قال تبارك وتعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]. أي: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر بسبب الإسراف، يعني: أن الشخص الذي يحتاج إلى تذكير بآيات الله سبحانه وتعالى هو المسرف، فإنه يذكر ليرجع إلى الاعتدال، فيقول الله تبارك وتعالى: ((أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا)) يعني: أنهملكم ونصرف عنكم الذكر لإسرافكم، وإنما كانت الحاجة إلى الذكر للإسراف، إذ لو كانوا على السيرة العادلة والطريقة الوسطى لما احتيج إلى التذكير، بل التذكير يجب عند الإسراف والتفريط، ولهذا بعث الله الأنبياء في زمان الفترة؛ لشدة حاجة الناس إلى التذكير؛ لأنهم يميلون إما إلى الإفراط وإما إلى التفريط.

تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين.

تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين. وما يأتيهم من نبي) قال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف:6 - 8] أي: قوة، {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8] أي: سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصصهم وحالهم مع تكذيبهم وتعذيبهم وما مثلناه لهم، وهذا هو الذي اختاره القاسمي. والمقصود من ذلك أن يتوقع هؤلاء المستهزئون من العقوبة مثل ما حل بسلفهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ}. قال الألوسي: الضمير في قوله: (أشد منهم) عائد إلى القوم المسرفين المخاطبين في قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ}، وفيه ما يسميه علماء البلاغة: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة. وقوله: (أشد منهم) مفعول به لأهلكنا، لكن الأصل أن (أشد) نعت لمحذوف؛ لأن المفعول محذوف تقديره: أهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، على حسب قوله في الخلاصة: وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل فهنا حذف المنعوت لوضوح النعت، وعلى هذا فقوله: ((فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا)) يعني: فأهلكنا قوماً أشد منهم بطشاً، والبطش أصله: الأخذ بعنف وشدة، والمعنى: فأهلكنا قوماً أشد بطشاً من كفار مكة الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ بسبب تكذيبهم رسلهم، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشاً، أي: كانوا أكثر منهم عَدداً وعُدداً وجلداً، فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بالأقوى الأكثر. وقوله تعالى: ((وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ)) أي: صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل، وقول من قال: (مثل الأولين) أي: عقوبتهم وسنتهم راجع إلى ذلك المعنى.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض لعلكم تهتدون)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض لعلكم تهتدون) قال تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف:9 - 10]، وفي قراءة: (مهاداً) أي: فراشاً تستقرون عليها، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: طرقاً تمشون عليها من بلدة إلى بلدة لمعايشكم ومتاجركم. وقوله: (لعلكم تهتدون) أي: بتلك السبل إلى حيث أردتم من القرى والأمصار.

تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر)

تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر) قال الله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11]. قال تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بمقدار الحاجة إليه، فلم يجعله طوفاناً يهلك، ولا رذاذاً لا ينبت، بل قدره بما ينفعكم ويقضي حاجاتكم، فهو غيث مغيث. وقوله تعالى: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي: أحيينا به بلدة ميتاً من النبات، قد درجت من الجدب، وعتت من القحط، فأحياها الله سبحانه وتعالى بعد موتها بهذا الماء. وقوله: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي: من بعد فنائكم ومصيركم في الأرض كذلك يخرجكم الله سبحانه وتعالى أحياءً، وقد تقدم أن من أدلة البعث والنشور الاعتبار بإحياء الله تعالى الأرض بعد موتها. قال بعض العلماء في قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء بقدر): أي: بقدر سابق وقضاء، وهذا تفسير آخر. وقال بعض العلماء: أي: بمقدار يكون به إصلاح البشر، فلم يكثر الماء جداً فيكون طوفاناً فيهلكهم، ولم يجعله قليلاً دون قدر الكفاية، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21]، إلى قوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22].

تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها)

تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها) قال تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12]. قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أي: خلق كل شيء فزوجه، أي: جعله صنفين، كما قال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:39]، والأزواج هي الأصناف، والزوج تطلق في لغة العرب على الصنف، وقد بين تعالى أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، وقال أيضاً: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه:53]، وقال أيضاً: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] أي: من كل صنف حسن من أصناف النبات، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10]. ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن الكريم قول الله سبحانه وتعالى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] أي: أصناف، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه:131] أي: أصنافاً منهم، وقال تعالى أيضاً: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: والأصناف الذين كانوا على شاكلتهم. وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أي: جعل لكم من السفن والبهائم ما تركبونه.

تفسير قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم)

تفسير قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم) قال تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]. قال السيوطي في (الإكليل): في الآية استخدام هذا الذكر عند ركوب الدابة والسفينة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوله كلما استوى على راحلته أو دابته. ومما يلفت النظر هنا أن الآية تشير إلى هذا الذكر بعد قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] و (الفلك): سفن، والسفن جمادات ليس فيها روح. فإذاً: هذا الذكر يقال عند ركوب أي شيء من وسائل المواصلات، سواء كان المصعد مثلاً؛ لأنه من تسهيل الله، أو كانت الحافلة أو السيارة أو الدراجة، أو أي شيء مما سخره الله سبحانه وتعالى من أنواع الجمادات، بجانب المخلوقات الحية من الخيول والجمال وغيرها، فيستحب أن يقال هذا الذكر عند الاستواء عليها. فالله جل وعلا جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن، ومن الأنعام. وقوله: ((لِتَسْتَوُوا)) أي: ترتفعوا؛ لأن الاستواء بمعنى الارتفاع، أي: لترتفعوا معتدلين على ظهورها، ثم تذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات، فلابد من شكر هذه النعمة بالقلب، ثم يضيف إلى ذلك الشكر باللسان، بأن يقولوا بألسنتهم مع تفهم معنى الكلام الذي يقولونه: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.

معنى قوله تعالى: (سبحان الذي سخر لنا هذا)

معنى قوله تعالى: (سبحان الذي سخر لنا هذا) قوله: (سبحان) تدل على تنزيه الله عز وجل أكمل تنزيه وأتمه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وقوله: (الذي سخر لنا هذا) (هذا) راجعة إلى لفظة: (ما) في قوله سبحانه وتعالى: {مَا تَرْكَبُونَ} يعني: الذي تركبون، والمعنى: (سبحان الذي سخر لنا هذا الذي نركبه. ويلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جمع الظهور مع أن كلمة: (ما) مفرد، فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} فجمع الظهور نظراً إلى معنى ما؛ لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها، فعام، فالجمع في الآية باعتبار معناها، والإفراد في قوله: (عليه) باعتبار لفظها. وقوله: ((سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا)) أي: ذلل لنا هذا الذي نركبه من الأنعام والسفن؛ لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الإنسان، فلابد للإنسان أن يستحضر هذه النعمة، وأن يشكرها بقلبه، ثم يتدبر ويتفكر فيما يقول ليحسن أداء الشكر بلسانه، وقد رأينا صور الفيلة في بلاد الهند وغيرها، ومع هذا يأتي طفل صغير فيركب على الفيل ويقوده، وكم بين طفل وبين فيل! وأيضاً الجمال، فالجمل بلا شك أقوى من الإنسان، ويعرف هذا جيداً من يعرف طبع الجمل إذا نفر وتمرد على صاحبه، فهذا التسخير هو بقوة الله عز وجل وإرادته. وكذلك البحر، فإنه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وفيه من القوة ما لا يجهله أحد، ففيه من الأمواج ما قد تغرق أقوى السفن على الإطلاق، ومع ذلك يذلله الله سبحانه وتعالى ويسخره لبني آدم، فلو لم يذلل الله هذا البحر لإجراء السفن فيه لما قدر الناس على شيء من ذلك. وقد يقول بعض الناس: إن الذي يحكمه أحوال الطبيعة، وإن السفينة تحمل الأثقال الكبيرة وتثبت فوق الماء وكذا، فنقول: ينبغي أن ننتبه إلى أن الله هو الذي أودع فيه هذه السنن وهذه القوانين، ونحن فقط نكتشفها، أو نكتشف ما نستطيعه مما يتوافق مع حاجاتنا ومصالحنا، ولا شك إنها كلها من فعل الله سبحانه وتعالى. والقوانين التي تسمى بقوانين الفيزياء كلها عبارة عن سنن موجودة منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى هذا الخلق، فأودعها فيه، ونحن نكتشفها، فالفضل لله عز وجل أولاً وآخراً.

معنى قوله تعالى: (وما كنا له مقرنين)

معنى قوله تعالى: (وما كنا له مقرنين) وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: مطيقين، والعرب تقول: أقرن الرجل بالأمر وأقرنه إذا كان مطيقاً له كفؤاً للقيام به، من قولهم: أقرنت الدابة بالدابة، إذا قرنتها في حبل بدابة أخرى قدرت على مقاومتها، ولم تكن أضعف منها، فتجرها؛ لأن الضعيف إذا لز في القرن -الذي هو الحبل- مع القوي جره ولم يقدر على مقاومته، كما قال جرير: وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس والبزل: جمع بازل: وهو البعير الذي يضع نتاجه وهذا كله في السنة الثامنة أو التاسعة. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معدي كرب -وقد حمله قطرب على هذا المعنى-: لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنين

وسائل المواصلات من تسخير الله عز وجل

وسائل المواصلات من تسخير الله عز وجل وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام فإنه لو لم يذلله الله لهم لما قدروا عليه ولما أطاقوه، كما جاء ذلك مبيناً في آيات أخر، منها قوله سبحانه وتعالى مبيناً العلامات العظام على قدرة الله سبحانه وتعالى ومننه على خلقه، {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:41 - 42]، وكما سبق في تفسير سورة يس أن في قوله: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) إشارة إلى ما استجد من وسائل المواصلات، سواء في البر أو البحر أو الجو، فكلها داخلة في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ}. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل:14]، وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية:12]، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ} [إبراهيم:32]، وقال تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] وغير ذلك من الآيات.

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً) قال تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15]. قوله: (وجعلوا له من عباده جزءاً) أي: جعل هؤلاء المشركون لله من خلقه نصيباً، وذلك قولهم للملائكة: هم بنات الله. قال القاشاني: أي: اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومبدعهما وفاطرهما، وقد جسموه وجزءوه بإثبات الولد له الذي هو بعض من الوالد مماثل له في النوع. يعني: لا شك أن الولد فرع عن الوالد الذي هو الأصل، فإثبات الولد فيه تجسيم لله سبحانه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فالولد يكون مماثلاً في النوع لوالده، فهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم ماديين وظاهريين جسمانيين، لا يتجاوزن عن رتبة الحس ولا يتجردون عن ملابس الجثمانيات حتى يدركوا الحقائق المجردة والذوات المقدسة فضلاً عن ذات الله تعالى، فكل ما تصوروا وتخيلوا كان شيئاً جسمانياً، يعني: كحالة الماديين في عصرنا الذين يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما يرونه ويحسونه، ويجعلون جهلهم بما وراء ذلك من الغيبيات دليلاً كافياً في التكذيب بها، ولهذا كذبوا الأنبياء في إثبات الآخرة والبعث والنشور وكل ما يتعلق بالمعاد، وكذبوا بالجن وبالملائكة، وبغير ذلك مما لا يقع تحت حسهم؛ إذ لا يتعدى إدراكهم الحياة الدنيا، وأيضاً لا تتعدى عقولهم المحجوبة عن نور الهداية أمور المعاش، فلا مناسبة أصلاً بين ذواتهم وذوات الأنبياء إلا في ظاهر البشرية، فلا حاجة إلى ما وراءها. وقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} أي: لجحود نعم ربه التي أنعمها عليه، وهذا يبين كفرانه لمن تدبر حاله.

خلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (جزءا)

خلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (جزءاً) يقول الألوسي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: (وجعلوا له من عباده جزءاً): قال بعض العلماء: (جزءاً) أي: عدلاً ونظيراً، يعني: الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله عز وجل. وقال بعض العلماء: (جزءاً) ولداً. وقال بعض العلماء: (جزءاً) البنات. وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أن الجزء هو النصيب، وتبعه القاسمي على ذلك؛ فـ القاسمي ذهب إلى أنه النصيب، واستشهد ابن كثير على ذلك بآية الأنعام، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136]. قال الألوسي عفا الله عنه وغفر له ورحمه: إن الذي يظهر أن قول ابن كثير رحمه الله هذا غير صواب في الآية؛ لأن المدعى لله في آية الأنعام هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام، والمدعى له في آية الزخرف هذه جزء من عباده، لا مما ذرأ من الحرث والأنعام، فبين الأمرين فرق واضح كما ترى. وقول قتادة ومن وافقه: إن المراد بالجزء: العدل والنظير الذي هو الشريك غير صواب أيضاً؛ لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب، أما كون المراد بالجزء في الآية الولد، وكون المراد بالولد خصوص الإناث، فهذا هو التحقيق لمعنى هذه الآية الكريمة. يعني: أن هناك من قال: إن الجزء هو: الولد، وهناك من قال: إن الجزء هو البنات، والعلامة الألوسي رحمه الله تعالى يقول: المذهب الأول صحيح باعتبار عمومه، لكن المراد من هذا العموم الخصوص (البنات) يعني: أن كلمة الولد تعم الذكور والإناث، كما قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، ثم خصص وقال: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، فالبنت يطلق عليها أيضاً ولد. فإذاً: لا تعارض بين التفسيرين، بل بينهما عموم وخصوص، فالبنت تدخل في قوله الولد، لكن المراد خصوص البنت من قسمي الولد، فيكون إطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين: أحدهما: ما قاله بعض علماء العربية: إن العرب تطلق الجزء مراداً به البنات، فيقولون: أجزأت المرأة إذا ولدت البنات، وامرأة مجزئة، أي: تلد البنات، ومنه قول الشاعر: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحياناً وقول الآخر: زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلاً: إنها كذب وافتراء على العرب، وقال في (الكشاف) في الكلام على هذه الآية الكريمة: ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب ووضع مستحدث ملحون، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتاً وبيتاً: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئة إلى آخره. وقال ابن منظور في (اللسان): وفي التنزيل العزيز {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف:15] قال أبو إسحاق: يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات لله تعالى وتقدس عما افتروا، قال: وقد أنشدت بيتاً يدل على أن معنى جزءاً معنى الإناث، قال: ولا أدري البيت هو قديم أم مصنوع: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب إلى آخر البيت. فالمعنى في قوله: (وجعلوا له من عباده جزءاً) أي: جعلوا نصيب الله من الولد الإناث، قال: ولم أجده في شعر قديم، ولا رواه عن العرب الثقات، وأجزأت المرأة: ولدت الإناث، وأنشد أبو حنيفة: زوجتها من بنات الأوس مجزئة انتهى الغرض من كلام صاحب (اللسان). وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم: أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث معروف، ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له. إذاً: لاحظنا أن هناك اختلافاً في ثبوت المعنى المذكور لكلمة (جزءاً).

التحقيق في معنى الآية

التحقيق في معنى الآية أما الوجه الثاني وهو التحقيق إن شاء الله: أن المراد بالجزء في الآية: الولد، وأنه أطلق عليه اسم البنت؛ لأن الفرع كأنه جزء من أصله، والولد بضعة من الوالد. لأن معنى الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكاراً شديداً، وقرع مرتكبه تقريعاً شديداً في قوله تعالى بعده مباشرة: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:16 - 17]، إلى قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، ففي سياق الآيات عموماً في هذا الموضع كلها يتكلم الله على ما هو معروف من بغض العرب للإناث، وكيف أنهم نسبوا البنات -وهن أخس النوعين في نظرهم- إلى الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)

تفسير قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16]. (أم اتخذ) يعني: بل اتخذ، والهمزة للإنكار تكذيباً لهم وتعجيباً من فعلهم؛ حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءاً حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزئين وهو الإناث دون الذكور، مع أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهن، وقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن، وكأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضاً وتمثيلاً، أما تستحيون من السقوط في الفتنة ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير الجنسين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما؟! أفاده الزمخشري. يقول الألوسي رحمه الله في قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}: (أم) هنا بمعنى استفهام الإنكار، فالكفار لما قالوا: الملائكة بنات الله، أنكر الله عليهم أشد الإنكار موبخاً لهم أشد التوبيخ، حيث افتروا عليه الولد، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما وهو الأنثى، كما قال تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات) وهي النصيب الأدنى من الأولاد، (وأصفاكم) أي: خصكم وآثركم (بالبنين) الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد، وهذا ما وضحه تعالى في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17]، وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] يعني: فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسوداً من الكآبة وهو كظيم، أي: ممتلئ حزناً وغماً؟ وقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم؛ لأنهم مع افترائهم عليه جل وعلا الولد جعلوا له أنقص الولدين؛ وفي هذا إشارة إلى نوعين من الضعف والنقص يوجدان في المرأة: النوع الأول: نقص ظاهري. والنوع الثاني: نقص باطني. أما النقص الظاهري فمن حيث الصورة؛ فإنه لا شك أن الرجل أكمل من المرأة من الناحية البدنية، ولذلك تحاول النساء تكميل هذا النقص في الظاهر بارتداء الحلي والزينة، أما الرجل فزينته هي الرجولة نفسها، ولذلك لا يليق بالرجل أن يلبس الذهب ولا يلبس الحرير ونحو ذلك، ومع تحريم الذهب والحرير إلا أن الله تعالى -مراعاة لفطرة النساء- أباح لهن هذه الأشياء، وقال هنا: ((أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين))، أي: أتختارون لله سبحانه وتعالى النصيب الأدنى والأضعف والأنقص؟! كيف والأنثى لنقصها الظاهري تنشأ في الحلية، وتنجذب إلى الزينة لتكملة هذا النقص بالملابس والزينة وغير ذلك؟ قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفراً كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا فالنقص الظاهري تجبره المرأة بالزينة من الذهب وغيره. وقوله: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} هذا هو النقص الداخلي الباطني، فالغالب في المرأة أنها حيية لا تفصح ولا تقوى على المناظرة ولا المحاورة عند الخصام والجدال، فالنساء إذا شئن أن يفتخرن في الشعر لم يقارن الرجال، بخلاف الرثاء فإن فيه ضعفاً؛ فرثاء الخنساء لأخيها صخر بالنسبة لرثاء الشعراء من الرجال فيه تميز واضح جداً. إذاً: هنا إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم على الله سبحانه وتعالى الولد جعلوا له أنقص الولدين الذي لنقصه الخلقي ينشأ في الحلية من الحلي والحلل وأنواع الزينة من صغره إلى كبره، حتى ترى الطفلة الصغيرة التي لا رأت التلفزيون ولا رأت الأفلام ولا خالطت المتبرجات تذهب بالفطرة إلى المرآة، ولا شغل لها إلا المرآة والزينة وتسريح الشعر والفرح والسعادة بهذا الحلي، لتجبر بتلك الزينة نقصها الخلقي الطبيعي، والأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها. وقد يقول بعض الناس: هناك بعض النساء عندهن قدرة على الخصام، فنقول: نعم، لكن هل هو خصام مبين ينفع أو يشفع؟ A لا، ففي الغالب أن المرأة لا تقوى على مثل ذلك، ولكن توجد بعض استثناءات، كما قال الشاعر: فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال فالأنثى غالباً لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها.

ضلال الجاهلية في نسبة البنات إلى الله

ضلال الجاهلية في نسبة البنات إلى الله قال تبارك وتعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [النحل:62]؛ لأن كراهية البنات سنة جاهلية قبيحة ومبغوضة من الله سبحانه وتعالى. وقال تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40]. وقال سبحانه وتعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:21 - 22]. وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:149 - 157]. كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وحينما يئدون البنات ويدفنونهن أحياء كانوا يقولون: نلحقهن ببنات الله، وندفنهن حتى يلتحقن بالملائكة الذين زعموا أنهم إناث، وبعض الجهلة يزينون ستائر البيوت بالتماثيل، ولكن ليت الأمر وقف عند حد التزيين بالتماثيل، بل يصنعون تماثيل على هيئة عرائس صغيرة بأجنحة، يعني: على نفس المعنى الجاهلي الذي نعاه الله سبحانه وتعالى واستنكره على أهل الجاهلية، أي: أنهم يصفون الملائكة بأنهم إناث، فتراهم يصنعون تمثالاً صغيراً على هيئة البنات، ذوات أجنحة، على أساس أن هذه هي الملائكة، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذا يخرج من نفس المنبع الجاهلي، فينبغي للمسلم أن يحذر من ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا)

تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17]. وقوله تبارك وتعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً) فيه إشارة إلى أسلوب آخر من أساليب الإنكار عليهم فيما يزعمون؛ لأن هذه البنات المزعومة يلزم من ادعائها أن تكون من جنس من نسبت إليه؛ لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته، فهذا هو السر في قوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} [الزخرف:17] يعني: أنهم بزعمهم أن لله بنات وهي الملائكة، فهذا يقتضي أنهم يجعلون هؤلاء الملائكة من المثل لله سبحانه وتعالى. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلاً لله في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} ظاهر؛ لأن البنات المزعومة يلزم من ادعائها أن تكون من جنس من نسبت إليه؛ لأن الوالد والولد من جنس واحد، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته، فلذا قال: (مثلاً). ويقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا}: أي: من البنات، {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} أي: من الكآبة والغم والحزن، (وهو كظيم) أي: مملوء قلبه من الكرب.

تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)

تفسير قوله تعالى: (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) قال تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]. قوله: (أومن ينشأ) أي: يربى، (في الحلية) أي: في الزينة، يعني البنات، (وهو في الخصام) أي: في المجادلة، (غير مبين) أي: لمن خاصمه ببرهان وحجة، لعجزه وضعفه، والمعنى: أومن كان كذلك جعلتموه جزءاً لله من خلقه، وزعمتم أنه نصيبه منهم. قال إلكيا الهراسي رحمه الله تعالى: فيه دليل على إباحة الحلي للنساء، سئل أبو العالية عن الذهب للنساء فلم ير به بأساً، وتلا هذه الآية: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]. قال تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} أي: جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثاً، والتفسير لـ (عنده) مبني على قراءة أخرى في نفس هذه الآية وهي أن بعض القراء يقرءونها: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً)، أخذاً من قوله تعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ} [فصلت:38] وليس هناك إشكال؛ لأن من شروط القراءة الصحيحة أولاً: أن توافق الرسم والخط العثماني، والخط العثماني لم يكن منقوطاً، وذلك أن (عند وعباد) تكتب بنفس الحروف العين والباء والدال، لأن عباد تكتب في المصحف العثماني (عبد) لكن تُقرأ عباد إذا قدرنا النقطة تحت الباء، أما إذا قرأناها: الذين هم عند الرحمن، فتكون النقطة فوق، وسبب هذا أن المصحف العثماني لا توجد فيه هذه النقطة لا فوق ولا تحت. ثانياً: أن تكون موافقة للإعراب ولقواعد النحو العربي. ثالثاً: أن تثبت بالتواتر. وقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]، في القراءة الأخرى: (الذين هم عند الرحمن إناثاً) أي: جعلوا ملائكة الله الذين هم عنده يسبحونه ويقدسونه إناثاً، فقالوا: هم بنات الله، جهلاً منهم بحق الله سبحانه، وجراءة منهم على قول الكذب. وقوله: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي: أحضروا خلق الله إياهم فوصفوهم بذلك لعلمهم بهم وبرؤيتهم إياهم؟! وهو إنكار عليهم. وقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} أي: على الملائكة بما هم مبرءون منه، {وَيُسْأَلُونَ} أي: يسألون عنها يوم القيامة، بأن يأتوا ببرهان على حقيقتها، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً، وفيه من الوعيد ما فيه؛ لأن كتابتها والسؤال عنها يقتضي أنهم سوف يعاقبون ويجازون على ذلك أشد الجزاء.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:20 - 22]. في هذه الآيات الرد على من يقلدون آبائهم على الباطل، وبيان أن ذلك من عبادة الطاغوت؛ لأن الله يكره ويبغض عبادة الطاغوت، والناس في ذلك أصناف، كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} [النحل:36] وهم الذين عبدوا الله ووحدوه، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] وهم الذين عبدوا الطاغوت من دون الله، فعبادة الطاغوت من دون الله لا يمكن أن يكون صاحبها مهتدياً، ولهذا كذبهم الله في قولهم: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}، بأنهم ليسوا مهتدين، بل هم ضالون. وأوضح أنه لم يكن راضياً بكفرهم، وأنه بعث في كل أمة رسولاً، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ويجتنبوا الطاغوت، أي: يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه، وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة، أي: ثبت عليه الكفر والشقاء، كما قال تعالى في آية الأنعام: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، فالله وحده هو الذي يملك التوفيق والهداية، وله الحجة البالغة على خلقه، يعني: فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق فهو فضل منا ورحمة، ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة؛ لأنه لم يكن له ذلك ديناً علينا ولا واجباً مستحقاً، بل إن أعطيناه ذلك ففضل، وإن لم نعطه فعدل.

تقدير الله للمقادير قبل خلق الخلق

تقدير الله للمقادير قبل خلق الخلق الله تبارك وتعالى قدر مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، وعلم أن قوماً صائرون إلى الشقاء، وقوماً صائرون إلى السعادة، كما قال تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبساً، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك، ثم إنه تعالى وفق من شاء توفيقه، ولم يوفق من سبق له في علمه الشقاء الأزلي، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر، وصرف قدرتهم وإرادتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء، فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا طائعين مختارين غير مجبورين ولا مقهورين، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]، وقال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء، ومن أعظم الضروريات الدالة عليه: أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية فرقاً ضرورياً، لا ينكره عاقل، وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون وفقأت عينه -مثلاً- وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر فقلت له: أنا مجبور، ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك، بل هو فعل الله، وأنا لا دخل لي فيه، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك، بل يبالغ في إرادة الانتقام منك، قائلاً: إن هذا بإرادتك ومشيئتك، مع سبق الإصرار والترصد. ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية أن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته: أنه لا يمكن لأحد أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر، وسبق علم الله فيما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى. وإيضاح ذلك: أنك لو قلت للقدري الذي ينفي القدر السابق: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا بمحل كذا وفي وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك، وتصير علم الله جهلاً بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟! والجواب بلا شك: هو أن ذلك لا يمكن بحال، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]، وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، ولا إشكال البتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعاً مختاراً غير مقهور ولا مجبور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29]. والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا، وهي أن عبد الجبار المعتزلي قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، يريد أن يقول: إن المعاصي مثل السرقة والزنا لا تقع بمشيئة الله؛ لأنه في زعمه يريد أن ينزه أن تكون هذه الرذائل بمشيئة الله، فهم يريدون نفي القدر السابق تنزيهاً لله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا تقع المعاصي بمشيئته، فلما قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، قال له أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال -أي: أبو إسحاق - رداً عليه: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، فقال عبد الجبار: أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبراً عليه، فأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى، أتراه أحسن أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن منعك حقاً واجباً لك عليه فقد ظلمك، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل. فبهت عبد الجبار، وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب. ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار هو معنى قوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]. وذكر بعضهم: أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت، وطلب منه أن يدعو الله أن يردها إليه، فقال عمرو ما معناه: اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها؛ لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا، فقال الأعرابي: ناشدتك الله يا هذا إلا ما كففت عني من دعائك الخبيث؛ فإن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه. فألقمه حجراً. والله أعلم.

الزخرف [21 - 32]

تفسير سورة الزخرف [21 - 32]

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً) قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21]. تقدم أن ناقشنا بالتفصيل معنى قوله تعالى تبارك وتعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)، وبينا أن مسلك المفلسين: إما الاحتجاج بالتقليد، وإما الاحتجاج بالقدر في مصادمة الشرع، ويحسبون أن في الاستناد إلى مشيئة الله العامة -المشيئة الكونية القدرية- حجة لهم، في حين أن الحجة هي لله عليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك كوناً وقدراً، لكنه شاءه أيضاً شرعاً، حيث شاء منهم الهداية والطاعة، فلا ينبغي أن يحتج الإنسان بالقدر إلا في المواضع التي ذكرنا تفصيلها فيما تقدم. وقوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) (أم) هي المنقطعة المقدرة بـ (بل والهمزة)، يعني: أنهم ((ما لهم بذلك من علم)) وفي هذا وصفهم بالجهل فيما يتخرصون به، حيث قالوا: ((لو شاء الرحمن ما عبدناهم)). وقوله: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله)) أي: هل عندهم كتاب من الله سبحانه وتعالى أوحي إليهم من قبل هذا القرآن، ((فهم به مستمسكون)) أي: بهذا المنهج، وهو الاحتجاج بالقدر فيما هم عليه من الشرك، وهذا كقوله تعالى في الآيات الأخرى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] يعني: كتاباً موحىً فيه ذلك. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون)): (أم) هنا تتضمن معنى استفهام إنكار، يعني: أن هذا الذي عليه الكفار من عبادتهم الأوثان وجعلهم الملائكة بنات الله لا دليل لهم عليه، ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتاباً يحل فيه ذلك، وأنكر أن يكونوا قد أوتوا هذا الكتاب، وأنكر أن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله، إنكاراً دالاً على النفي للتمسك بالكتاب المذكور مع التوبيخ والتقريع. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله، ولا كتاب أنزله الله بذلك، بينه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ} [فاطر:40]، وهذا دليل عقلي. ثم طالبهم بالدليل النقلي فقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40]. وقال تعالى في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]. وقال تعالى في سورة الروم: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35]. وقال في سورة الصافات: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:156 - 157]، وقال في سورة النمل: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]. وقال عز وجل في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]. وقال تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148].

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)

تفسير قوله تعالى: (بل قالوا إن وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) قال تبارك وتعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]. أي: لا حجة لهم إلا تقليدهم آبائهم الجهلة مثلهم، ولذا قالوا: ((إنا وجدنا آباءنا على أمة)) يعني: على ملة أو على دين. ((وإنا على آثارهم مهتدون)) أي: أنهم يعتزون بتراث الآباء والأجداد وعقائدهم.

تفسير قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير)

تفسير قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. يعني: أن هؤلاء ليسوا أول كفار اتكئوا واستندوا إلى تقليد الآباء والأجداد ومشايعتهم على الكفر، بل هذه سنة الأقوام والأمم من قبلك، أي: كما فعل هؤلاء المشركون من دفاع الحجة بالتقليد فعل من قبلهم من أهل الكفر بالله. قال القاضي البيضاوي: والقاضي عند الإطلاق في كتب التفسير يقصد به البيضاوي. قال: وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقييد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن مقلديهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور فيه. وتخصيص المترفين في قوله: ((إلا قال مترفوها)) إشعار بأن النعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد، فالترف له آفات كثيرة جداً، منها أن الترف يصرف الإنسان ويثبط همته بحيث لا يترقى عن مستوى التقليد، والأخذ بقول الغير بدون دليل.

تفسير قوله تعالى: (قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتهم عليه آباءكم)

تفسير قوله تعالى: (قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتهم عليه آباءكم) قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24]. وفي قراءة أخرى: (قُل أولوا جئتكم بأهذى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) أي: جاحدون منكرون، وإن كان أهدى، إقناطاً للمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيه، يعني: حتى لو كان ما تأتينا به أهدى مما وجدنا عليه آباءنا ((فإنا بما أرسلتم به كافرون))؛ لأن كلامهم هذا جاء جواباً لقول الرسول: ((أولو جئتكم)) يعني: أتكفرون وتكذبون حتى ولو جئتكم ((بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم))؟ قالوا: نعم، ((إنا بما أرسلتم به كافرون)) ولو كان أهدى؛ لأنهم يقصدون بذلك تيئيس وإقناط الرسل والمنذرين من أن ينظروا أو يتفكروا فيما جاءهم به الرسول.

تفسير قوله تعالى: (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)

تفسير قوله تعالى: (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) ثم قال تعالى: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:25]. كان العذاب فيما مضى يأتي الأمة المكذبة فيستأصلها، وقد رفع هذا العذاب المستأصل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أعني: بذلك أمة الإجابة، وإلا فإن أمة محمد هي كل من على ظهر الأرض منذ أن بعث إلى أن تقوم الساعة، إذ ليس للبشرية نبي سوى محمد عليه الصلاة والسلام، فأمة الدعوة هم المخاطبون برسالته وبالقرآن، والمكلفون بالإيمان به، وهم كل البشر على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، فلا تعاقب هذه الأمة بالاستئصال التام، لكن يمكن أن تكون هناك زلازل في بعض الأماكن، إلا أنها لا تكون عقوبة كاملة لأهل الأرض، وهذا مما رحم الله به البشرية ببعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، فلذلك في التفسير هنا في قوله: ((فانتقمنا منهم)) يعني: بعذاب الاستئصال. وقوله: ((فانظر كيف كان عاقبة المكذبين)) أي: انظر كيف كان آخر أمرهم مما أصبح مثلاً وعبرة.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني) قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]. (وإذ قال إبراهيم) قال القاضي: أي: اذكر وقت قوله هذا؛ ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل، يعني: هم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] ولو كان هؤلاء الكفار من العرب أو مشركي قريش عقلاء، وكان لابد من تقليد، فليقلدوا أباهم إبراهيم؛ فإن أشرف آبائهم هو إبراهيم عليه السلام. (إنني براء مما تعبدون) أي: بريء من عبادتكم، أو من معبودكم. و (براء) هي القراءة العامة، وهو مصدر كالطلاق والعتاق، أريد به معنى الوصف مبالغة؛ لأن المصدر إذا استعمل في الصفة يكون فيه مبالغة، فإذا قلت: رجل عدل، أي: أنه هو نفس العدل، وقد تقدم بيان هذا مراراً، فلذلك أطلق على الواحد وغيره. وقُرئ بضم الباء: (إنني بُراء) فيكون اسماً مفرداً صفة مبالغة، كطُوال وكُرام بضم الطاء والكاف. وقوله: ((إلا الذي فطرني فإنه سيهدين)) هذا استثناء منقطع، أو متصل على أن (ما) في قوله: (إنني براء مما) يعم أولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام، أو (إلا) بمعنى غير فتكون صفة لـ (ما) أي: إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني أي: خلقني. ((فإنه سيهدين)) أي: للدين الحق واتباع سبيل الرشد، والسين إما للتأكيد، بدليل أن نفس الآية جاءت في نفس القصة جاءت في سورة الشعراء بدون سين: (يهدين) فهي للتأكيد، والمضارع في الموضعين للاستمرار، أي: استمرار هذه الهداية. أو أن السين للتسويف والاستقبال، والمراد هداية زائدة على ما كان له أولاً، فيتغاير ما في الآيتين من المحكي بناءً على تكرر قصته عليه السلام.

براءة إبراهيم هي كلمة التوحيد

براءة إبراهيم هي كلمة التوحيد يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء، أي: بريء من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله، أي أنه بريء من عبادة كل معبود إلا المعبود الذي خلقه وأوجده وهو وحده معبوده، وضحه قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:75 - 78]، وكقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79] فبين أيضاً هنا براءته من المشركين، وزاد في سورة الممتحنة بيان براءته من العابدين وعداوته وبغضه لهم في الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. قوله عز وجل هنا: ((فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ))، ذكر نحوه في الشعراء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، وقوله أيضاً: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وقال: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]. وقوله: ((إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)) * ((إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)) أي: خلقني، وهذا يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا من خلق؛ ولا خالق إلا الله سبحانه وتعالى، وفي الآية الأخرى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]، فإذا كان هو الذي خلقكم فينبغي أن تعبدوه وحده، وقال عز وجل: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:184]، وقال: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد:16]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17]، وقال أيضاً: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقال أيضاً: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]. وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] وكل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، مأخوذ من فعلوت من الطغيان، والطغيان هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، فالطاغوت ما جاوز الحد؛ لأن الإنسان إذا رفع المخلوق إلى حد أن يعبده فيكون قد طغى واتخذه طاغوتاً، ورأس الطاغوت: الشيطان؛ لأنه الآمر بكل شرك وكفر وعصيان، ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] يعني: بـ (لا إله إلا الله) وهذا هو تحقيق لا إله إلا الله، أي: أن تكفر بكل ما عبد من دون الله، وتؤمن أنه لا يستحق أن يوجه له شيء من العبادة التي لا تنبغي إلا الله، وتثبت أحقية هذه العبادة لله سبحانه وتعالى، ولذلك فمعنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس المعنى: لا إله موجود إلا الله؛ لأن الناس يزعمون أو يصفون بالألوهية مخلوقات من دون الله سبحانه وتعالى ويتخذونها آلهة، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على إله الحق وإله الباطل، أما الله فلا يطلق إلا على الإله الحق، ولذلك الإعراب: لا: نافية للجنس، ولا يصح أن يكون التقدير: لا إله موجود، وأنا الحقيقة يلح علي دائماً المثال الذي كان المدرس يقوله لنا ونحن في ابتدائي: لا زعيم إلا جمال، يعني: لا زعيم موجود. أما لا إله إلا الله فالتقدير: لا إله حق، وليس: لا إله موجود؛ لأنه توجد آلهة تعبد من دون الله، وهي آلهة باطلة، فالشيطان يُعبد، كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، وكذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، والمال إله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم) وهكذا. فإذاً: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، فلا يصح الإيمان بالله إلا مع الكفر بالطاغوت الذي يتجاوز به العبد حده حينما يرفعه إلى مقام الألوهية ويعبده من دون الله، فكل هذا معناه واحد فقوله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله) يعني: وحده، (فقد استمسك بالعروة الوثقى) التي هي: لا إله إلا الله، وكذلك قول إبراهيم عليه السلام هنا: (إنني براء مما تعبدون) * (إلا الذي فطرني) يساوي: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله)، وتساوي: لا إله إلا الله، ولذلك قال هنا: (وجعلها كلمة) أي: كلمة التوحيد، (باقية في عقبه لعلهم يرجعون).

تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)

تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه) قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]. يقول القاسمي: (وجعلها) أي: شهادة التوحيد، (كلمة باقية في عقبه) أي: موصىً بها موروثة متداولة محفوظة، فإبراهيم عليه السلام قبل أن يموت كان يوصي بنيه بأن يتمسكوا بلا إله إلا الله، وأن يتبرءوا من المشركين، وبنوه كذلك فيما بعد كانوا يوصون أبناءهم، وهكذا كل جيل كان يوصي الآتي من عقب إبراهيم بأن لا إله إلا الله، ولذلك عندما نراجع وصايا العلماء نجد فيها: أن هذه وصية فلان الفلاني؛ أوصي بأني أشهد أن لا إله إلا الله، يعني: كأنها وصية لمن يأتي بعده من ذريته بأن يثبتوا على التوحيد، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] يعني: وحده بلا شريك، وقال تبارك وتعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. وقوله: (لعلهم يرجعون) أي: لكي يرجعوا إلى عبادته وإلى توحيده في سائر شئونهم، أو لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم، وهذا التفسير مجمل، نشير إليه أولاً، ثم نأتي بالتفاصيل من كلام الشنقيطي رحمه الله. وقوله: (وجعلها) يعني: كلمة التوحيد المفهومة من قول إبراهيم الآنف الذكر: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27]. وقوله: (كلمة باقية في عقبه) والقاسمي هنا يفهم من تفسيره أنه ليس كل عقب إبراهيم وذريته استقاموا على التوحيد، بل منهم من انحرف عن التوحيد إلى الشرك، لكن بقي الموحدون منهم يوصون عبر الأجيال بكلمة التوحيد، ويتداولونها ويحفظونها، كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:132]، وكذلك أيضاً وصى بنيه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. وهذه الآية فصلها العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيلاً وافياً فقال: قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) * (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين) * (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) يقول: الضمير المنصوب في (جعلها) راجعه إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى (لا إله إلا الله) وهذه الكلمة مذكورة في الآية السابقة بالمعنى، لكنها تساوي في اللفظ معنى: لا إله إلا الله؛ لأن (لا إله إلا الله) نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات، وهذا المعنى جاء موضحاً في قوله: (إنني براء مما تعبدون)، ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله، كما في قوله: (إلا الذي فطرني فإنه سيهدين).

ذكر خلاف المفسرين في فاعل جعل من قوله: (وجعلها كلمة)

ذكر خلاف المفسرين في فاعل جعل من قوله: (وجعلها كلمة) الفاعل في قوله: (وجعلها) ضمير مستتر، يرجع إلى إبراهيم، وفي قول آخر: يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. فبعض المفسرين قالوا: هو راجع إلى إبراهيم، وهذا هو ظاهر السياق؛ لأن السياق في شأن إبراهيم عليه السلام. وقال بعضهم: هو راجع إلى الله سبحانه وتعالى، يعني: أن الله هو الذي جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.

معنى جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم عليه السلام

معنى جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم عليه السلام فعلى القول الأول أن إبراهيم جعل كلمة التوحيد كلمة باقية في عقبه، فالمعنى: صير إبراهيم تلك الكلمة باقية في عقبه، يعني: في ولده وولد ولده، وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم، لأن إبراهيم عليه السلام تسبب في بقائها فيهم بأمرين: أحدهما: وصيته لأولاده بذلك، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيوصي به السلف منهم الخلف، فهو الذي سن فيهم هذه السنة، يوصيهم بالتوحيد في حياته، ثم اقتدى به أولاده من بعده، فكل واحد منهم يوصي من يأتي بعده بالتمسك بـ (لا إله إلا الله) كما أشار إلى ذلك الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] * {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:131 - 132]. الأمر الثاني: سؤاله ربه تعالى لذريته الإيمان والصلاح، فإنه كان يسأل الله لهم الإيمان والصلاح، كما قال عز وجل: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] يعني: واجعل يا رب من ذريتي أئمة. وقال تبارك وتعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وقال أيضاً: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وقال عنه هو وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:128 - 129]، فأجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور في قوله: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم) وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني: استجاب الله هذه الدعوة لإبراهيم عليه السلام، ولذلك تسبب إبراهيم بهذه الدعوة في بعثة محمد عليه السلام؛ لأن من هذه الأسباب الدعاء، وهو قال: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم)، وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته، ولذلك إذا أطلق على إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء فإنما المقصود أبو الأنبياء من بعده، أما الذين قبله فلا يدخلون في ذرية إبراهيم؛ لأنه لم يكن قد خلق، أما إبراهيم عليه السلام فكافأه الله عز وجل بأن جعل كل الأنبياء الذين أتوا من بعده في ذريته، فأول ذلك إسحاق، ثم رزق إسحاق يعقوب، وهو إسرائيل، ثم من نسل يعقوب جاءت أنبياء بني إسرائيل، ولم تخرج عنهم النبوة إلا ببعثة النبي عليه السلام من نسل إسماعيل أخي إسحاق، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، وقال عنه وعن نوح في سورة الحديد: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد:26]. أما على القول الثاني في قوله: (وجعلها كلمة) وهو أن الذي جعلها هو الله سبحانه وتعالى، فلا إشكال، ويكون التفسير: وجعلها كلمة باقية في المؤمنين من عقبه. وقوله: (لعلهم) يعني: لعل المشركين من عقبه أو من ذريته (يرجعون) أي: عن الشرك إلى التوحيد.

هل استجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؟

هل استجاب الله دعوة إبراهيم عليه السلام؟ وقد بين تبارك وتعالى هنا أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته؛ لأن إبراهيم عليه السلام كان دعا لذريته بأن يكونوا على التوحيد فقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128] يعني: أن ذريته خرج منهم مؤمنون وخرج منهم كافرون، سواء في بني إسرائيل أو في العرب؛ لأنهم من نسل إسماعيل عليه السلام. فإذاً: بين الله سبحانه وتعالى هنا أنه لم يستجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته، وإنما استجابها في البعض وهم المؤمنون من ذريته؛ لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا صلى الله عليه وسلم من عقبه بإجماع العلماء، وقد كذبوه صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنه ساحر، وكثير منهم مات على ذلك، وذلك في قوله عز وجل: (بل متعت هؤلاء وآباءهم)، يعني: متعت كفار مكة وآباءهم، (حتى جاءهم الحق ورسول مبين) هو محمد صلى الله عليه وسلم، (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) فكفار مكة من نسل إبراهيم من ذرية إسماعيل، ومع ذلك يثبت الله هنا أنهم كفروا ووصفوا النبي عليه السلام بالسحر، فدلت هذه الآية على أن تلك الدعوة لم تستجب في حق كل ذرية إبراهيم، وإنما في المؤمنين منهم. وما دلت عليه آية الزخرف هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في البقرة: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] يعني: واجعل من ذريتي أئمة، {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] أي: الظالمين من ذرية إبراهيم، ففهم من ذلك أن من ذريته ظالمين، وقوله تعالى في الصافات: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113]، فالمحسن منهم هو الذي كلمة التوحيد باقية فيه، والظالم لنفسه المبين من ليس كذلك. وقال تعالى في النساء: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:54 - 55]. وبين عز وجل في سورة الحديد أن غير المهتدين من ذريته كثيرون في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26]. وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: (لعلهم يرجعون) أي: جعل الكلمة باقية فيهم لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم؛ لأن الحق ما دام قائماً في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول، لأن (لعل) تفيد الترجي، والترجي هنا بالنسبة لبني آدم؛ لأن الترجي هو أن يرجو الإنسان حصول شيء وهو لا يجزم بحصوله؛ لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ومن يصير إلى الضلال، فالترجي هنا هو بالنسبة إلى بني آدم وليس بالنسبة لله سبحانه وتعالى.

ترادف العقب والذرية والبنين

ترادف العقب والذرية والبنين والعلامة الشنقيطي وقف هنا وقفة يسيرة قال فيها: ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على انسحاب معنى العقب والذرية والبنين، يعني: أن كلمات: العقب، والذرية، والبنين معناها واحد؛ لأنه قال في بعض هذه الآيات عن إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وقال في بعض الآيات: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، وفي بعضها: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:37]، وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ} [العنكبوت:27]، وقال: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ))، فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد؛ وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفاً أو تصدق صدقة على بنيه، فقال: هذا وقف على بني أو علي ذريتي أو على عقبي، فحكم ذلك واحد. وقد دلت بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم ذرية الرجل، وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين دل ذلك على دخول أولاد البنين في العقب أيضاً. فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام:84] إلى قوله عز وجل: {وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} [الأنعام:85] الشاهد: (وعيسى)؛ لأن عيسى عليه السلام ابن بنت، لا أب له، فهو ابن بنت من جهة مريم عليها السلام. ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23]؛ لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة شامل لبنات البنات وبنات بناتهن، وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، وهو نص قرآني صريح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن، فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب هو ظاهر القرآن، ولا ينبغي العدول عنه. أما لفظ الولد فلا يدخل فيه أولاد البنات، والدليل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، فهذا لا يدخل فيه أولاد البنات، فهو نص صريح على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد.

تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآبائهم خير مما يجمعون)

تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآبائهم خير مما يجمعون) قال تبارك وتعالى: ((بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:29 - 32]. قوله: (بل متعت هؤلاء) يعني: أهل مكة، (وآباءهم) أي: من قبلهم في الحياة فلم أعاجلهم على كفرهم (حتى جاءهم الحق) أي: دعوة التوحيد أو القرآن (ورسول مبين) أي: ظاهر الرسالة بالآيات والحجج التي يحتج بها عليهم في دعوى رسالته. قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (كافرون) أي: جاحدون، فازدادوا في ضلالهم لضمهم إلى شركهم معاندة الحق؛ لأن الكفر قابل للزيادة، والدليل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]، والكفر نفسه درجات، فكلما ازداد الكافر في الصد عن سبيل الله عز وجل والتكذيب بآياته ازداد كفراً. وقالوا أيضاً في مواجهة هذا الحق الذي أرسل إليهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. أي: لولا نزل هذا القرآن على رجل من إحدى القريتين المعهودتين في أذهانكم: من مكة أو الطائف، فالتعريف هنا للعهد. وقوله: (عظيم) يقصدون بالعظمة الجاه والمال، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم عندهم. قال القاضي: ولم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل والكمالات القدسية لا التزخرف بالزخارف الدنيوية. وقد أجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} وهذا إنكار فيه تجهيل ورد لتحكمهم فيما لا يتولاه إلا هو تبارك وتعالى، وبيان أن هذا ليس إليهم، فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، والله عز وجل يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فالنبوة هبة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما معناه: (إن الله نظر في قلوب العباد، فاختار من قلوب العباد قلب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أصفى قلب وأطهر قلب وأكمل قلب، فاصطفاه لرسالته ولنبوته ولكتابه، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً رضي الله تعالى عنهم) إلى آخر الأثر الموقوف الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والمراد بالرحمة: النبوة، ولو وقفت على كلمة (رحمت) وقفت بالتاء مراعاة لرسم المصحف؛ لأنه إذا كانت التاء مكتوبة تاءً مفتوحة فإذا وقفت عليها تقف عليه بالتاء. وقوله: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: فجعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً، ورفعنا بعضهم بالغنى فوق بعض درجات. وقوله: (ليتخذ بعضهم) يعني: ليتخذ الغني (بعضاً) يعني: الفقير (سخرياً) أي: مسخراً في العمل، وما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع؛ لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه. وهذه الآية الكريمة كلها في الرد على الاقتراح، وبيان جهلهم بحكمة الله سبحانه وتعالى في المفاضلة في مراتب الناس؛ حيث جعلوا مقاييس المفاضلة هي المال والجاه، فرد الله عليهم أن ذلك ليس إليهم، ثم بين عز وجل ذلك فقال: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعض سخرياً)، أي: ليس المقصود الاستهزاء، وإنما يعني التسخير بالعمل، لأنه لو كان كل الناس وزراء فمن الذين سيخدمون الناس ويقومون بالوظائف الأخرى؟! لكن الله سبحانه وتعالى فاضل بين خلقه وخالف بين وظائفهم؛ كي ينتفع بعضهم من بعض، ويحصلوا بذلك مصالحهم، لكن ليس هذا التسخير بإعطاء البعض وتخصيصه بالغناء، والتقتير على البعض وكونه فقيراً، دليلاً على أن الغني أكمل من الفقير، أو أن الفقير أحقر من الغني، هذا الاعتبار إنما هو في موازين هؤلاء الماديين. وقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) أي: جعلنا بعضهم غنياً وبعضهم فقيراً. وقوله: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أي: رفعنا الغني فوق الفقير درجات في الدنيا. وقوله: (ليتخذ بعضهم) أي: الغني (بعضاً) أي: الفقير (سخرياً) يعني: مسخراً في العمل؛ لأن كل شيء لابد أن يكون فيه رئيس ومرءوس، حتى يحصل ما به قوام المعايش والوصول إلى المنافع، وليس هذا الاختيار لكمال في الموسع عليه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، لكن هذا التفاضل لأن حاجة البشر ماسة إلى التضام والتآلف الذي به ينتظم شملهم، أما النفحات الربانية والعلوم اللدنية فليست مما يستدعي سعة ويساراً؛ لأنها اختصاص إلهي وفيض رحماني. والسخري بالضم منسوب إلى السخرة بوزن غرفة، وهي الاستخدام والقهر على العمل. وقوله: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة خير مما يجمعون من الحصاد الفاني، فرحمة ربك في أول الآية وفي آخرها مقصود بها النبوة، فإذا كانت رحمة ربك خيراً مما يجمعون من الأموال والغنى والسعة واليسار فإن العظيم حقاً هو الذي أعطيها، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. يقول الشنقيطي في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} وقال كفار مكة: (لولا) هلا، (نزل هذا القرآن على رجل من القريتين) أي: على رجل من إحدى القريتين؛ وهما مكة والطائف (عظيم) يعنون كثرة ماله، وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، وعظيم الطائف هو عروة بن مسعود، وقيل: حبيب بن عمرو بن عمير، وقيل: هو كنانة بن عبد يا ليل وقيل غير ذلك. وإيضاح الآية: أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر، ففي البداية أنكروا واقترحوا أن الله يرسل عليهم ملائكة، ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر، تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين فقالوا: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)، وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم وسخافة عقولهم؛ حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجباً لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي، ولذا زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم، وقد بين تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم وسخافة عقولهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي، وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن، كقوله تعالى في سورة الدخان: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:5 - 6]، وقال في آخر سورة القصص: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]، وقال في آخر سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تعالى في سورة الكهف: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الكهف:65]، على القول بأن الخضر عليه السلام نبي. قال تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)) يعني: أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا، بل تولى قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا رفيعاً وهذا وضيعاً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً ونحو ذلك، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ولم يحكمهم فيها، بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟! فهذا مما لا يعقل، ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين. وقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} التحقيق -إن شاء الله- أنه من التسخير، ومعنى تسخير بعضهم لبعض: خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض؛ لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك، فمن حكمته جل وعلا أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيئ له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي، فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي، فتنتظم المعيشة لكل منهما، وهكذا.

الرد على زعم واقتراحات الكفار في هذه السورة

الرد على زعم واقتراحات الكفار في هذه السورة والمسائل التي ذكرها الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله. أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً وقدراً من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في سورة (ص) في قوله حاكياً عنهم: {أأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:8]، وهذا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم؛ لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه؛ لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم، وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى: {أأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر:25]، فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] وقال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] يعني: لشدة التشابه بين العبارات التي كانوا يقابلون بها أنبياءهم من التكذيب والاحتقار والازدراء صارت متشابهة حتى في الألفاظ؛ ولذلك قال تعالى: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) يعني: كلما جاء قوماً رسول ردوا عليه نفس الرد، كأن كل أمة كافرة كانت توصي التي بعدها، ولا يؤخذ من السياق أن هذا حصل بالفعل، لكن لشدة التشابه صار كأنهم يتواصون به. وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124] يعني: مثل ما نزل عليهم الوحي ينزل علينا نحن أيضاً، ولذلك جاء A { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] أي: أن تنزل عليه صحف بالوحي من السماء. أما إنكاره تعالى عليهم اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار تجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله: (أهم يقسمون رحمة ربك) فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام؛ لأنه تعالى لما قال: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]، أتبع ذلك بقوله رداً عليهم وإنكاراً لمقالتهم: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، ثم أوعدهم على ذلك بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام:124]. وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم فقد جاء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل:71]، وقال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، وقال تعالى: {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، وقال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]. وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ والقوة والضعف فقال هنا: (ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً)، وقال تعالى: (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني: أن النبوة والاهتداء بهدي الأنبياء وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها، قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، فإذا تأملنا وجدنا أن هنا أمراً بالفرح، وفي الآية الأخرى في سورة القصص نهي عن الفرح في قول قوم قارون له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، والمقصود بالفرح المنهي عنه ما يكون عن البطر والطغيان والاستكبار في الأرض، أما الفرح هنا فهو الفرح بالإيمان وبالهدى وبالقرآن وبالإسلام، كما يدل عليه قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} [يونس:58] أي: بالإيمان والقرآن والإسلام، ولذلك كان الإمام وكيع بن الجراح سميناً، وكان إذا أراد أن يبكت من يكلمه في هذا السمن أو يقول له: أراك سميناً؟! يقول له: هذا من فرحي بالإسلام. فإذاً: قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) أي: نفرح بالقرآن، ونفرح بالإسلام وبالسنة؛ لأن هذا هو الذي ينبغي أن يفرح الإنسان به، ويأمرنا الله سبحانه وتعالى بأن نجتهد به؛ لأنه (خير مما يجمعون)، وقال تعالى في سورة آل عمران: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157].

بيان فساد قول الاشتراكيين في التسوية بين الناس

بيان فساد قول الاشتراكيين في التسوية بين الناس ختم الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه الآية الكريمة بشيء هو حقيقة واقعة في فترة من الفترات في ظل الحكم الاشتراكي في عهد عدو الله عبد الناصر؛ حيث كانت هناك محاولة لتمرير مفاهيم الاشتراكية وفرضها على الناس، وجرت علينا الشؤم والبلاء في النظام، فإنها غصبت أموال الناس قهراً وظلماً، وحصل غير ذلك من المظالم التي ذاق الناس ويلاتها، فالشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى كان يعيش في تلك الفترة في الجزيرة العربية؛ فلذلك يشير إلى هذا الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الوقت، يقول: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وهي قوله كقوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا)، وقوله: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71] ونحو ذلك من الآيات دلت على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها بوجه من الوجوه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وبذلك تحقق. والعجيب أن العلامة الشنقيطي يتكلم بهذا الكلام في وقت كنا هنا في مصر ونحن تلامذة في المدارس نحفظ الميثاق أكثر مما نحفظ آيات القرآن الكريم، وكان لابد في أي موضوع تعبير أو موضوع إنشاء من أنك ترصعه بنص من الميثاق، وكأنه آية قرآنية! حتى قالت أمينة السعيد في يوم من الأيام: كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟ وبعض هؤلاء يقول: إن الإسلام لا يتصادم مع الاشتراكية! حتى ألف أحد الدعاة الكبار المشهورين كتاباً اسمه: الاشتراكية في الإسلام، وأجهد نفسه هو وغيره في محاولتهم أن يأتوا من الشرق ومن الغرب بدليل أو شبهة حتى يثبتوا أن الإسلام دين الاشتراكية، وكأن الإسلام تابع لمذاهبهم ولضلالهم! والعجيب أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يتصدى لهذا المفهوم في وقت كانت فيه هذه المفاهيم حقائق مقررة، وكان لا يستطيع أحد أن يوقفها أبداً، ومع ذلك هو يجهر ويتنبأ بفشل هؤلاء، ونحن الآن نعيش بعد سنوات طويلة من حقب الاشتراكية السوداء المهينة، ونراجع تلك الأيام، وكيف عذبت الشعوب وقهرتها، وأذلتها وأفقرتها، حتى نفس روسيا التي كانت منظراً فقط للأسلحة النووية، تتسول اليوم من الشرق ومن الغرب، وأمريكا تذلها وتجبرها على الركوع تحت أقدامها، وغير ذلك من التهديدات التي نسمعها بين الحين والآخر. الشاهد من هذا الكلام: أن العلامة الشنقيطي يتكلم في جو ما كان أحد يتكلم بهذا الكلام فيه، بل كان الغالب والسائد في المؤلفات والخطب، والدروس والكتب والمطبوعات والإعلام، هو ترسيخ أن الإسلام هو دين الاشتراكية، وأن الإسلام يدعو للاشتراكية، وكانوا يرددون بيت لـ حافظ إبراهيم يقول فيه: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء يعني: يزعمون أن محمداً عليه الصلاة والسلام هو إمام الاشتراكيين! مع أن الاشتراكية هذه أتت في وقت قريب، والله المستعان! وبعدما ذكر بقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71]، يقول: وبذلك تتحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس. فهم يظهرون للناس أن الاشتراكية تحقق وتوزع الحق بين الناس بالتساوي، وهم ينتقدون غيرها من المبادئ والأنظمة، سواء كان هذا نظاماً رأسمالياً أو غيره فيقولون: النظام الرأسمالي فيه استغلال لكن الاشتراكية توزع الفرص على الناس بالتساوي، وفي الحقيقة هم يريدون أن يستأثروا بالثروات؛ ولذلك فإن زعماء الشيوعية كانوا طوال عمرهم يعيشون حالة من الترف أشد من حالة الأباطرة والقياصرة أيام المملكة القيصرية؛ فيقتنون أعجب أنواع السيارات في العالم كله. يقول: مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ ليتمتعوا بها، ويتصرفوا بها كيف شاءوا تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور، والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينظم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء، حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير. وكان النظام الشيوعي يوزع كل شيء بالبطائق؛ لأن مبدأ الشيوعية أن يعطي كل واحد حسب حاجته لا حسب قدرته وبذله، يعني: كل واحد يبذل للدولة حسب قدرته، ويبذل أقصى طاقته في الإنتاج، ثم يوزع على الناس حسب حاجتهم، وليس الذي يسعى أكثر ينال أكثر، بل ينال كل واحد حسب حاجته. قال: وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس، بدعوى أن هذا فقير، وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال عز وجل: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135].

الزخرف [33 - 61]

تفسير سورة الزخرف [33 - 61]

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا)

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمةً واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً) قال تبارك وتعالى مشيراً إلى حقارة الدنيا عنده وفي ميزانه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. قوله تعالى: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً))، أي: متفقة على الكفر بالله تبارك وتعالى، أي: لولا كراهة أن يصبح الناس أمة واحدة على الكفر. ((لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ)) يعني: هذا الذي يكفر بالرحمن سبحانه وتعالى يعطيه الله المزيد من الدنيا؛ لأنه إذا أتاه المزيد من الدنيا يظن أن الله يريد به خيراً، فيستدرجه، فكلما ازداد كفره بنعم الله ازداد استحقاقه للعذاب بجانب كفره الأصلي، فيزداد عذاباً، وهذا كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. وأما إعراب قوله: ((لِبُيُوتِهِمْ)) فهو بدل اشتمال، من كلمة (من)، يعني: لبيوت من يكفر. وقوله: ((لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ)) فيها قراءتان: (سَقْفَاً مِنْ فِضَةْ)، والقراءة الأخرى: ((سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ)). وقوله: ((وَمَعَارِجَ)) يعني: مصاعد من فضة ((عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)) أي: يرتقون. وقوله: ((وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا)) أي: من فضة ((وَسُرُرًا)) أي: من فضة ((عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ)). وقوله: ((وَزُخْرُفًا)) أي: ولجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، أي: زينة من ذهب وجواهر أو فضة. ثم أشار تعالى إلى أنه لا دلالة في ذلك على فضيلتهم، يعني: حتى ولو أعطاهم الله سبحانه وتعالى كل ذلك لما دل ذلك على أنهم كمل أو على أفضليتهم عند الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: وما كل هذه الأشياء التي ذكرت من السقف الفضية والمعارج والأبواب والسرر والزخرف، إلا متاعاً يستمتع به أهل الدنيا في الدنيا. وقوله: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)) أي: وزينة الدار الآخرة وبهاؤها عند ربك للمتقين، أي: الذين اتقوا الله فخافوا عقابه، فجدوا في طاعته، وحذروا معاصيه، خاصة دون غيرهم. قال المهايمي: لا خصوصية في ذلك المتاع، بحيث يدل على عدم منصب النبوة، وإنما الذي يدل على عدم النبوة عدم التقوى؛ فالنبوة إنما تكون لمن كمل تقواه، سواء كانت عنده الدنيا أم لا. وإنما كانت الزينة الدنيوية أحق بالكفار لأنها تثير ظلمة الأهوية المانعة من رؤية الحق، بحيث يصير صاحبها أعشى. وسيأتي مزيد بيان في كلام الشنقيطي رحمه الله تعالى حول هذه الآية، لكن نثبت أولاً كلام القاسمي رحمه الله حيث قال: تنبيه: ما قدمنا من أن معنى ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) لولا كراهة ذلك، وأن معنى كونهم أمة واحدة اجتماعهم على أمر واحد وهو الكفر، أي: أن كراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع الكافر بها على الوجه المذكور، هذا هو ما ذكره المفسرون. فورد عليه -يعني: يورد بعض الناس إشكالاً على هذا- أنه حين لم يوسع على الكافرين خشية الفتنة التي كانت تؤدي إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر؛ لحبهم الدنيا، وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ فأجيب: بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضاً؛ لما تؤدي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من ديدن المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبر؛ حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى. هذا ما قاله الزمخشري. على أي الأحوال هذه الآية تتمة لما قبلها ترد على أولئك الضالين زعمهم أن العظمة الدنيوية تستوجب النبوة، فبين تبارك وتعالى حكمته في تفاوت الخلق في الآية الأولى وهي التسخير، وفي الآية الثانية وهي حقارة الدنيا عنده، وأنه لولا التسخير لما آتاها أحط الخلق، وأبعدهم منه؛ مبالغة في الإعلام بضعتها. فالدنيا أحقر عند الله من جناح بعوضة، ولولا كراهة الفتنة أن يصير جميع البشر أمة واحدة متفقة على الكفر لآتى الله سبحانه الكافر كل هذا النعيم، ولذا قال سبحانه: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:33 - 34] ((وَزُخْرُفًا)) أي: ذهباً. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تزن عند الله سبحانه وتعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). والحقيقة أن الحديث لا ينص على أنها تساوي جناح بعوضة، بل يدل على أن الدنيا أحقر من جناح البعوضة؛ لأنها لو كانت تساوي جناح بعوضة لما سقاه شربة ماء، فتأمل شربة الماء بالنسبة إلى كل النعيم الذي يؤتاه الكافر تعرف مدى حقارة الدنيا عند الله سبحانه وتعالى! قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ)). قوله: ((لِبُيُوتِهِمْ)) في الموضعين قرأه ورش وأبو عمرو وحفص عن عاصم بضم الباء على الأصل، وقرأه قالون عن نافع وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم: بكسر الباء؛ لمجانسة الكسرة للياء. وقوله: ((سُقُفًا)) قرأه نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم ((سُقُفاً)) بضمتين على الجمع، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ((سَقْفًا)) بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد، والمراد به: الجمع. قوله تعالى: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) قرأه نافع وابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان وإحدى الروايتين عن هشام وأبو عمرو والكسائي: ((لَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) بتخفيف الميم من (لمَا)، وقرأه عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين: ((لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ)) بتشديد الميم من (لمَّا). ومعنى الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى لما بين حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة في قوله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها، وأنه جعلها مشتركة بين المؤمنين والكافرين؛ وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصاً بالمؤمنين دون الكافرين، وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر في نعيم الدنيا بقوله: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً))، أي: لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة متفقة على الكفر لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار، ولعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبها لها لو أعطينا ذلك كله للكفار، لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفاراً، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنياً وفقيراً، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا.

اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين

اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين ثم بين جل وعلا اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، أي: أن متاع الدنيا مشترك بين المؤمنين والكافرين، لكن الآخرة ليست مشتركة: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ))، فالآخرة خاصة بالمتقين، وهذا المعنى جاء موضحاً في غير موضع، كقوله تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]. فقوله: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: مشتركة في الحياة الدنيا بين المؤمنين والكافرين، ويدل على هذا الاشتراك صدر الآية: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ))، فهنا امتنان على العباد بهذه النعم التي أطلق أيديهم فيها، وأنعم عليهم بها. ثم هناك أمر مهم جداً، وهو أن في آية الزخرف ما يدل على هذا الاشتراك وهو كلمة (لولا) في قوله: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ)). ؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، ثم يأتي العلماء والمفسرون ويقولون: هي مشتركة بين المؤمنين وبين الكفار في الحياة الدنيا، فلابد أن يعرف الإنسان ما الدليل على هذا التفسير، والدليل هو أن كلمة: ((َلَوْلا)) حرف امتناع لوجود، والذي امتنع هو أن يقصر الله الدنيا على الكفار، ويوسع عليهم فيها وحدهم، هذا هو الممتنع. إذاً: هي ليست مقصورة عليهم؛ لأن هذا ممتنع بسبب وجود كراهة أن يصير الناس جميعاً أمة واحدة. وكذلك تفسير هذه الآية هنا في سورة الزخرف: ((وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، أي: أن متاع الدنيا مشترك بينهم وبين الكفار لكن التمتع في الآخرة خاص بالمؤمنين؛ لأنه قال: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)). وقال في آية الأعراف: ((خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، أي: خالصة لهم دون غيرهم، ولا يشاركهم فيها أحد. يقول: فقوله في آية الأعراف هذه: ((قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا، وذلك الاشتراك دل عليه حرف الامتناع للوجود الذي هو (لولا) في قوله هنا: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)). أي: امتناع تخصيص الكفار بنعيم الدنيا ومتاعها، فهو ممتنع بهذا الدليل. قال: وخصوص طيبات الآخرة بالمؤمنين منصوص عليه في آية الأعراف بقوله: ((خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وهو الذي أوضحه في آية الزخرف بقوله: ((وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)). وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ (المتقين)؛ لأن كل مؤمن اتقى على الأقل الشرك بالله، فيصدق عليه أنه من المتقين.

تمتيع الكافر في الدنيا

تمتيع الكافر في الدنيا وما دلت عليه هذه الآيات من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى، كقوله تعالى: {قَاْلَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} [البقرة:126]، وقال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:69 - 70]. وقد بين تبارك وتعالى في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]. وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر،)، فالدنيا جنة الكافر؛ لأن من ضمن حكمة الله سبحانه وتعالى في التوسعة على الكافر في الدنيا أنه يكافئه مقابل ما يعمل من الأعمال الحسنة، كبر الوالدين، وصدق الوعد، والإحسان إلى الفقير واليتيم والمسكين، وغير ذلك مما يسمونه بالأشياء الإنسانية، فإذا عملها وهو يريد بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فقد يجازى بها في الدنيا؛ لأنها لا تنفعه على الإطلاق في الآخرة؛ لأنه لا يسمى عملاً صالحاً؛ لأنه يفتقد شرط الإيمان، كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97]، فلابد أن يكون مؤمناً، فالذي بدون الإيمان قد ينفعه في الدنيا فقط، لكن لا يمكن أن ينفعه في الآخرة، ونقول: (قد) لأنه لا ينال ذلك إلا بمشيئة الله، كما قال تعالى في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فالمنفعة معلقة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فيعطى الكافر في الدنيا مقابل الأعمال الحسنة التي يعملها؛ لأن هذه هي الجنة والفرصة الوحيدة لأن يثاب على هذا العمل، أما في الآخرة فلا يمكن أن ينتفع ويثاب على عمله. ثم قال تعالى أيضاً: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95]. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] على أظهر التفسيرين. وقال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. وقال تعالى: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44]. ودعوى الكفار أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه، واستحقاقهم لذلك، وأنه إن كان البعث حقاً أعطاهم خيراً منه في الآخرة، ردها الله عليهم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون:55] * {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56]. وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ:37]. وقال تعالى: {قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48]. وقال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]. وقال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].

المقصود بالمعارج والسقف والزخرف

المقصود بالمعارج والسقف والزخرف وقوله تعالى: ((وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا)). يعني: لصيرنا، وقوله: ((لِبُيُوتِهِمْ)) بدل اشتمال مع إعادة العامل -يعني: حرف الجر- من قوله: ((لِمَنْ يَكْفُرُ)). وعلى قراءة (سُقُفاً) بضمتين فهو جمع سقف، وسقف البيت معروف. وعلى قراءة (سَقْفاً) فهو مفرد أريد به الجمع، وقد قدمنا في أول سورة الحج في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج:5] أن المفرد إذا كان اسم جنس يجوز إطلاقه مراداً به الجمع، وأكثرنا من أمثلة ذلك من القرآن، ومن الشواهد العربية على ذلك. وقوله تعالى: ((وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)) الظاهر أنه جمع معرج، والمعرج والمعراج بمعنى واحد، وهو: الآلة التي يعرج بها، يعني: يصعد بها إلى العلو. ((وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)). أي: يصعدون ويرتفعون؛ حتى يصيروا على ظهور البيوت، ومن ذلك المعنى قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97]. والسرر: جمع سرير، والاتكاء معروف، والأبواب: جمع باب، وهو معروف، والزخرف: الذهب. قال الزمخشري: إن المعارج التي هي المصاعد، والأبواب والسرر، كل ذلك من فضة. وكأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك، وعلى هذا المعنى فقوله: ((َزُخْرُفًا)) مفعول عامله محذوف، والتقدير: وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً، يعني: ذهباً. وقال بعض العلماء: إن جميع ذلك بعضه من فضة، وبعضه من زخرف، يعني: من ذهب.

تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين)

تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناَ فهو له قرين) قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]. أي: ومن يعرض عن ذكر الرحمن فلم يخف سطوته، ولم يخش عقابه (نقيض له شيطاناً فهو له قرين)، أي: نجعل له شيطاناً يغويه، ويضله عن السبيل القويم دائماً؛ لمقارنته له، فإنه يظل مقارناً إياه. قال: القاشاني: قرئ: ((وَمَنْ يَعْشُ عن))، وقرئ: ((وَمَنْ يَعْشَ عن)) بضم الشين وفتحها، والفرق: أن عشى يستعمل إذا نظر نظرة العشى لعارض أو متعمداً من غير آفة في بصره، وعشي إذا ضعف بصره. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها أيضاً: وسنتعرض لهذا التفسير في أثناء تفسير سورة فصلت في قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25]. ((وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ)) أي: جئناهم بهم، وأتحناهم لهم، أو هيأنا، أو سلطنا، أو بعثنا ووكلنا، أو سببنا، أو قدرنا، وجميع تلك العبارات راجعة إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى، ويزينون لهم الكفر والمعاصي. والقرناء: جمع قرين، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق. ((فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)) أي: من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة. ((وَمَا خَلْفَهُمْ)) أي: من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث. وبين هنا في سورة الزخرف سبب هذا التقييض، وأنهم مع إضلالهم لهم يحسبون أنهم مهتدون، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38]. فترتيب قوله: ((نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا)) على قوله: (ومن يعش) يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن، ونظير ذلك آية أخرى في القرآن الكريم فيها الربط بين الغفلة عن الذكر وبين تسليط الشياطين، وهي قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4]، فكلمة (الوسواس الخناس) معناها: أن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله وسوس له الشيطان، وإذا ذكر الله انخنس، وفي الحديث أنه إذا سمع الذكر يولي وله ضراط، لشدة نفرته عن ذكر الله سبحانه وتعالى. إذاً: سورة الناس فيها نفس هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4]؛ لأن الوسواس هو كثير الوسوسة؛ ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم: خنس يخنس إذا تأخر وهرب، فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمن. إذاً: من أعظم علاج الوسوسة المواظبة على ذكر الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذكر يضعف تأثير الشيطان، ويجعله يفر بعيداً عن الإنسان، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، وهي قوله تعالى: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ)) فعقوبته: ((نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)). ودل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100]؛ لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم. ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]. وقال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ} [الأنعام:128]، أي: استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا. وقال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202]. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60] إلى قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62]. وقوله تعالى: ((فَبِئْسَ الْقَرِينُ)) يدل على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت وآية الزخرف وغيرهما جديرون بالذم الشديد، وقد صرح تعالى في سورة النساء بقوله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38]، وقال هنا: ((فَبِئْسَ الْقَرِينُ))؛ لأن كلاً من (ساء) و (بئس) فعل جامد لإنشاء الذم.

تفسير قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون)

تفسير قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) واعلم أن الله تعالى بين أن الكفار الذين أضلهم قرناؤهم من الشياطين يظنون أنهم على هدى، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى، فقال تعالى عنهم: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37]. وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]. وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد أخسر الناس أعمالاً في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] وهذا ظاهر وملموس ومحسوس من أحوال الكفار، ونحن نرى شدة اغترارهم بما هم عليه، كما قال كلينتون في حفل تنصيبه للرئاسة: إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وأن عليها التزاماً مقدساً بتحويل العالم إلى صورتها. ونقول: لو تحول العالم إلى هذه الصورة فبئس العصر! أيضاً: أقر مجلس الشيوخ في أمريكا القانون الإرهابي الذي تبنته أمريكا، والذي يبيح للرئيس الأمريكي أن يتدخل في أي دولة في العالم؛ لحماية الحرية، وتسهيل ممارسة الحرية الدينية للطوائف المخالفة للدين. ومصر موضوعة في أوائل هذه الدول التي يطبق عليها هذا الكلام، ومن حقه أن يتدخل بفرض عقوبات على أي دولة تتعرض للحرية الدينية بأي طريقة مخالفة. الشاهد: أن واحداً من هؤلاء الشيوخ -شيوخ الضلال- تكلم وقال: إن هذه البلد تصدر كل شيء للعالم، فينبغي أن تصدر له أيضاً قيمها، وإن من هذه القيم حماية الحريات الدينية، وغير ذلك! وطبعاً كل هذه من أساليب أقنعة الهيمنة والإذلال والقهر للأمم، وهذا كله مما يبين لنا كيف أن هؤلاء على ضلالهم وكفرهم، يحسبون أنهم مهتدون. وقوله تعالى هنا في آية الزخرف: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ))، من قولهم: عشا عن الشيء يعشو، إذا ضعف بصره عن إدراكه؛ لأن الكافر أعمى القلب، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، بسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين. وقوله تبارك وتعالى: ((وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)). قال ابن جرير في تفسيرها: وإن الشياطين ليصدون هؤلاء الذين يعشون عن ذكر الله عن سبيل الحق، فيزينون لهم الضلالة، ويكرهون لهم الإيمان بالله والعمل بطاعته. وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:30]، أي: يظن هؤلاء المشركون بالله بتزيين الشياطين لهم ما هم عليه أنهم على الصواب والهدى. وقوله: ((حَتَّى إِذَا جَاءَنَا)) أي: العاشي عن ذكر الله. وقوله: ((قَالَ)) أي: قال لشيطانه. وقوله: ((يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)) المقصود: بعد المسافة بين المشرق والمغرب، وقال: (المشرقين) من باب التغليب، ونظير ذلك أن تقول: العصران، والمقصود بها: الظهر والعصر، أو العمران، والمقصود بهما: أبو بكر وعمر، والأبوان: الأب والأم، والأسودان: التمر والماء، والقمران: الشمس والقمر. وقيل: المراد: مشرقا الصيف والشتاء، والتقدير: من المغربين. يقول بعض الشعراء أيضاً في كلمة القمرين هذه: أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع. قوله: (لنا قمراها) يعني: الشمس والقمر. وقوله: ((فَبِئْسَ الْقَرِينُ)). أي: حتى إذا حضر عقابنا اللازم لاعتقاده وأعماله والعذاب المستحق لمذهبه ودينه تمنى غاية البعد بينه وبين شيطانه الذي أضله عن الحق، وزين له ما وقع بسببه في العذاب، واستوحش من قرينه واستذله، لعدم الرابطة الطبيعية، أو انقطاع الأجساد بينهما.

تفسير قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون)

تفسير قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) قال تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]. قال القاشاني: أي: لن ينفعكم التمني وقت حلول العذاب واستحقاق العقاب إذا ثبت وصح ظلمكم في الدنيا، وتبين عاقبته، وكشف عن حاله؛ لأنكم مشتركون في العذاب لاشتراككم في سببه. أو: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب من شدته؛ لأن كل واحد منكم له الحظ الأوفر من العذاب. قال المبرد: منعوا روح التأسي؛ لأن التأسي يسهل المصيبة. وهذا شيء طبيعي في الإنسان، كما يقول العوام: المصيبة إذا عمت هانت، أو إذا رأى الإنسان بلية غيره هانت عليه بليته. فحتى هذا المعنى النفسي الذي يحصل بسبب الاشتراك في البلاء من التخفيف يحرم منه أهل النار، فالآية تشير إلى أن اشتراكهم في العذاب لن يحدث لهم المساواة التي كانوا يجدونها في الدنيا إذا اشتركوا في بلية، فإنهم في النار اشتركوا في البلية، لكنهم منعوا روح التأسي؛ لأن التأسي يسهل المصيبة، كما قالت الخنساء رضي الله عنها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي وقوله: ((وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)) وهو كقوله تعالى في سورة الصافات: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات:33].

تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين)

تفسير قوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين) قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]. هذا إنكار تعتيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا الله سبحانه وتعالى وحده، فهذه هداية خاصة بالله عز وجل، أما أنت يا محمد فإنك لا تسمع الصم، ولا تهدي العمي؛ لأن هذا النوع من الهداية لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وقد تكرر في التنزيل التعبير عنهم بالصم العمي الضلال؛ لأنه لا أجمع من ذلك لحالهم، ولا أبلغ منه؛ إذ سلبوا استماع حجج الله وهداه، كالأصم، وإبصار آيات الله والاعتبار بها كالأعمى، وقُصد بذلك الضال الحائر.

تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون عليهم مقتدرون)

تفسير قوله تعالى: (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون عليهم مقتدرون) قال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:41 - 42]. ((فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ)) أي: نقبضك قبل أن نظهرك عليهم. ((فإنا منهم منتقمون)) أي: بالعذاب الأخروي. ثم قال تعالى: ((أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)). وهذا كقوله تعالى: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] وفي تعبيره بالوعد -وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد- إشارة إلى أنه هو الواقع؛ وهكذا كان؛ إذ لم يفلت أحد من صناديدهم إلا من تحصن بالإيمان.

تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]. يعني: دين الله الذي أمر به، وهو الإسلام، فإنه كامل الاستقامة من كل وجه. قال الشهاب: هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم، وأمر له بالدوام على التمسك. يعني: هو متمسك، لكن أمره هنا للدوام، وهذا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ِ} [النساء:136] أي: دوموا على ذلك، واثبتوا عليه. فكذلك هنا: (فاستمسك) هو متمسك منذ الوحي نزل، لكن الأمر هنا هذا أمر وهو الدوام على التمسك بهذا الحق. والفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أي: إذا كان أحد هذين واقعاً لا محالة فاستمسك به. وهذه الآية تدل على أن المتمسك بهذا القرآن على هدى من الله سبحانه وتعالى، وهذا معلوم بالضرورة.

تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]. ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)) أي: وإن الذي أوحي إليك لشرف لك ولقومك من قريش؛ لما خصهم به من نزوله بلسانهم، أو أن المراد بقوله: ((وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)) أي: أتباعه صلى الله عليه وسلم، أي: أنه تنويه بقدرك، وبقدر أمتك، وذلك لما أعطاهم الله بسببه من العلوم والمزايا والخصائص والشرائع الملائمة لسائر الأحوال والأزمان. ويجوز أن يراد بالذكر: الموعظة. وقوله: ((وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ)) أي: عما عملتم من ائتماركم بأوامره، وانتهائكم عن نواهيه.

تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا)

تفسير قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]. أي: هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ وهل جاءت في ملة من مللهم؟ قال القاضي: والمراد هنا الاستشهاد بشيء معين، وهو الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد والدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه فيكذب ويعادى، والذين أمر بمسائلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم هم مؤمنو أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. فقوله سبحانه: ((وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا)) يعني: من أمم رسلنا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سيسأل الموجودين في زمنه، والموجودون في زمنهم هم المؤمنون من أتباع كتابهم. أو أنه جعل سؤالهم بمنزلة سؤال أنبيائهم؛ لأنهم يخبرون عما قاله أنبياؤهم، وذلك أن دعوة التوحيد هي أظهر ما في دعوات الأنبياء، وهم يخبرون عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء. وقال بعض المفسرين: إن هذا كان في حادثة الإسراء.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا لعلهم يرجعون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا لعلهم يرجعون) قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:46 - 47]. ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا)) أي المصدقة له ((إِلَى فِرْعَوْنَ))؛ لينهاه عن الاستعباد، ((وَمَلَئِهِ)) أي: لينهاهم عن التعبد له. وقوله: ((فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، أي: فأبان أنه لا يستحق العبادة غير الله تبارك وتعالى، وأنه ليس لأحد سواه عبودية؛ لأنها حق الربوبية المطلقة لله عز وجل. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف:47]. أي: فلما أتاهم بالحجج على التوحيد، والبراءة من الشرك، إذا فرعون وقومه يضحكون، كما أن قومك مما جئتهم به من الآيات والعبر يسخرون، وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، عما كان يلقى من مشركي قومه، وإعلان منه لهم أن قومه من أهل الشرك لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم في الكفر بالله وتكذيب رسله، وإرشاد له صلى الله عليه وسلم بالصبر عليهم أخذاً بسنن أولي العزم من الرسل، وإخبار منه له أن مردهم إلى البوار والهلاك، كسنته في المتمردين عليهم قبله، وإظهاره عليهم وإعلائه أمره، كالذي فعل بموسى عليه السلام وقومه الذين آمنوا به، من إظهارهم على فرعون وملئه. ثم أشار إلى أن موجب الهزء لم يكن إلا لعناد، فما كانوا يهزئون من الآيات والمعجزات التي جاءهم بها موسى عليه السلام لقصور في تلك الآيات على ما تدل عليه، وإنما لمجرد العناد، ومحض الاستكبار والجحود، كما بين موجب هذا الهزء بقوله: ((وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا)). أي: أختها السابقة عليها، ((وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ)). أي: العذاب الدنيوي مما يلجئ إلى الرجوع، ((لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)). فسلط الله عليهم العذاب الدنيوي إلجاءً لهم إلى الرجوع وإلى التوبة.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك) قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:49 - 50]. قوله تبارك وتعالى: ((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ)) فيها أقوال: قيل: يا أيها العالم! لأنهم كانوا يعظمون الساحر، ولذلك خاطبوه على جهة التعظيم بقولهم: ((يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ)). وقيل: قالوها على جهة الاستهزاء، ويرشح ذلك أن السياق في ذكر سبب استهزائهم؛ لأنه قال قبلها: ((إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ))، ثم قال: ((وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ))، أي: استهزاءً به عليه السلام. أو أنهم خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر، حيث كان أشيع عنه أنه ساحر، فتقدم لهم وصفه وتسميته بأنه ساحر فيما بلغهم عنه، فلما لقوه أو أتوه أو فزعوا إليه قالوا له: ((يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ))، باعتبار هذه التسمية المتقدمة عندهم. وقوله: ((ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ)) العهد الذي عهده الله سبحانه وتعالى عند موسى أنه لا يعذب من آمن بموسى، فقالوا: فادع الله لنا بهذا العهد، أن من آمن منا فسوف لا يعذبه. وقوله: ((إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ)) أي: بما تزعم أنه الهداية، يعني: كأنهم يعطونه وعداً: ((لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) [الأعراف:134]. وهذا دليل واضح على أن فرعون وقومه كانوا يعرفون في قلوبهم أن موسى رسول من عند الله حقاً وصدقاً، وأنه لا يكذب على الله، والأدلة كثيرة في القرآن، منها هذه الآية: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي: سوف نتبعك ونهتدي إن كشفت عنا العذاب، كما قال تبارك وتعالى في سورة الأعراف: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الأعراف:134 - 135]. وكذلك قال هنا: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ}، أي: ينكثون العهد الذي عاهدوا عليه، ويتمادون في غيهم.

تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر)

تفسير قوله تعالى: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر) قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]. المقصود بقوله: ((من تحتي)) أي: من تحت قصوري ((أفلا تبصرون)) أي: أفلا تبصرون قوتي وملكي وعظمتي؟! فشاء الله سبحانه وتعالى أن يأتيه الجزاء من جنس العمل، فإنه لما قال هذه العبارة: ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)) تفاخراً وتعاظماً، أجرى الله الماء من فوقه، وأغرقه في النهاية. وقوله: ((وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي))، يعني بذلك: أنهار النيل. وقوله: ((أَفَلا تُبْصِرُونَ)) أي: ما أنا فيه من النعيم، والخير، وما فيه موسى من الفقر؟!

تفسير قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)

تفسير قوله تعالى: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]. قوله: ((أَمْ أَنَا خَيْرٌ)) (أم) هنا بمعنى: بل، والمعنى: بل أنا خير ((مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ)) أي: ذليل ضعيف، لا شيء له من الملك والأموال، وهذا هو نفس المنطق المادي الذي يشيع في الكفار. وقوله: ((وَلا يَكَادُ يُبِينُ)) يعني: لا يكاد يبين الكلام؛ لمخالفة اللغة العبرانية للغة القبطية، وكلمة قبطي لا تدل على ديانة، وإنما أصلها المصري القديم، وهذا يعني أن المصري القديم كان في ساعات يعبد فرعون، وفي ساعات يعبد كذا، ولما دخلت النصرانية مصر تدينوا بها، لكن للأسف الشديد حتى اليوم نحن المصريين نسمى باللغة العبرانية بالأقباط، ففي اللغة العبرية كلمة (إيجبشن) ومعناها: قبطي، ولم تعرب بكلمة مصر إلى الآن. وقوله: ((وَلا يَكَادُ يُبِينُ))؛ أي: أن لغته غير واضحة بالنسبة لفرعون؛ لأنه يتكلم بالعبرانية، أما فرعون فيتكلم القبطية. قال بعض المفسرين: إن هذا إشارة إلى عقدة كانت في لسانه، ثم أذهبها الله عنه، وهذا ورد في حديث الفتوح الطويل المعروف، وإن كان لم يصح، لكن يشيع عند المفسرين، خاصة في تفسير سورة طه، عند قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]، فموسى عليه السلام لما كان صغيراً، وخشي فرعون على ملكه منه، قيل له: اختبره، وانظر ماذا سيختار، فأتى بجمرة من النار، وبشيء آخر، فألهم أن يأخذ جمرة النار؛ حتى يظهر له أنه لا يعقل ولا يعي الأشياء، فحصل منها هذه العقدة في لسانه، والله تعالى أعلم، وإن كان الظاهر والأصل أن الأنبياء مبرءون عن العيوب الجسدية. وعلى أي الأحوال حتى لو فرضت صحة ذلك فالذي نؤمن به يقيناً أن موسى عليه السلام دعا الله سبحانه وتعالى أن يذهب عنه ذلك، وقد استجاب دعاءه؛ كما حكى الله عن موسى عليه السلام أنه قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:27 - 32] إلى قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]. إذاً: هذا الخبيث فرعون إن كان يقصد بقوله: ((وَلا يَكَادُ يُبِينُ)) الإشارة إلى هذه العقدة التي كانت في لسانه، فنقول: لنفترض فعلاً أنها كانت عقدة، فقد أذهبها الله عنه، فكأن فرعون عيره بشيء قد كان وزال، وفرعون وإن كان يدري هذا لكنه أراد التضليل على الرعية؛ لأنه عارف بالحقيقة.

تفسير قوله تعالى: (فلولا ألقي عليه أسورة قوما فاسقين)

تفسير قوله تعالى: (فلولا ألقي عليه أسورة قوماً فاسقين) قال تعالى: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53]. ((فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)) يعني: نريد أن تنزل عليه أسورة الذهب من السماء، ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ))؛ كي يؤيدوه، وسبق الرد على اقتراح الآيات، وقلنا: إن هذا ليس إلى الأنبياء، بل هو من محض إرادة الله سبحانه وتعالى، ولذلك لو أن الملائكة جاءتهم في صورتهم الحقيقية فلابد أن تأتيهم بالعذاب، وإلا فإنها تأتيهم في صورة رجال، كما قال عز وجل: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]. ويفهم من قوله: ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)) أن فرعون كان يؤمن بوجود الملائكة، كما أن فرعون ما كان ينكر وجود الله، ولم يحك القرآن عن أمة من الأمم الكافرة أنها أنكرت وجود الله، فإن توحيد الربوبية قد أطبق عليه المشركون كافة، حتى الذين قص الله خبرهم في سورة المؤمنون كانوا يقرون بوجود الله، كما هو واضح من سياق الآيات. وكذلك أبو لهب وأبو جهل وغيرهم من كفار قريش كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، لكن النزاع كان في توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد، أما توحيد الربوبية فإنه لا يسمى إيماناً، كما يفعل بعض الناس الآن؛ حيث يصف الكفار والمسلمين، ويضع معهم النصارى واليهود، كأن يقول: نحن معشر المؤمنين بالله. إذاً: على هذا القول كان أبو جهل مؤمناً وكان أبو لهب مؤمناً وكان فرعون مؤمناً. فالمقصود توحيد الألوهية والعبادة، وليس توحيد الربوبية، بدليل أن كلمة التوحيد هي (لا إله إلا الله)، وليست (لا رب إلا الله)؛ ولو كانت (لا رب إلا الله) لدل على أن المشركين كانوا مسلمين؛ لقول الله عز وجل عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم كانوا يقولون: لا رب إلا الله. وقوله: ((أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)) أي: يعينونه ويصدقونه. ((فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ)) أي: استفزهم بهذه المغالطات وحملهم على أن يخفوا له ويصدقوه ((فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)).

تفسير قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم ومثلا للآخرين)

تفسير قوله تعالى: (فلما آسفونا انتقمنا منهم ومثلاً للآخرين) قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56]. ((فَلَمَّا آسَفُونَا))، يعني: أغضبونا وأسخطونا؛ لأن الأسف يراد به الغضب، كما أطلق الله سبحانه وتعالى الأسف على أشد الغضب في قوله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:150]، على أصح التفسيرين. فقوله: ((فَلَمَّا آسَفُونَا)) أي: أغضبونا بطاعة عدونا، وقبول مغالطاته بلا دليل، وتكذيب موسى وإيذائه ووصفه بالساحر، ونكث العهود. وقوله: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، وذلك لاستغراقهم في بحر الضلال الأجيال الطوال، وعدم نفع العظة معهم بحال من الأحوال. وقوله: ((فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا)) أي: حجة للهالكين بعدهم؛ لأن السلف هم السابقون، كما قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، فهم سابقون من حيث الزمان، فقوله: ((فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا)) يعني: حجة للهالكين بعدهم، وسلفاً لمن يهلك بعدهم. وقوله: ((وَمَثَلًا)) أي: عبرة ((للآخرين))، كما قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8].

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا وجعلناه مثلا لبني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) ثم قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58]. ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) هذه الآية فيها عدة تفاسير منها: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) يعني: في كونه كآدم، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]. والمعنى: أنه بين وصفه الحق من أنه عبد مخلوق منعم عليه بالنبوة، عبادته كفر، ودعاؤه شرك، إذ لم يأذن الله بعبادة غيره. وقوله: ((إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ)). أي: من هذا المثل المضروب، ووصفه المبين ((يَصِدُّونَ)). أي: يعرضون ولا يعون. وقوله: ((وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ)) يعنون بآلهتهم الملائكة الذين عبدوهم، زعماً منهم أنهم بنات الله تعالى كما ذكر عنهم ذلك في أول السورة، يريدون أنهم خير من عيسى وأفضل؛ لأنهم من الملأ الأعلى، والنوع الأسمى، فإذا جازت عبادة المفضول فبالأولى عبادة الأفضل، هذا لأنهم يقررون على شركهم أصولاً صحيحة، ويبنون على تمسكهم أقيسة صريحة، وغفلوا لجهلهم عن بطلان المقيس والمقيس عليه، وأن البرهان القاطع قام على بطلان عبادة غيره تبارك وتعالى. يعني: أنهم يستدلون بعبادة النصارى لعيسى عليه السلام على عبادتهم للملائكة، والملائكة أفضل من عيسى، فأولى أن تعبد الملائكة؛ لأنهم أفضل من عيسى! ولا شك في بطلان هذا القياس، وبطلان المقيس عليه، فأولاً: هل عبادتهم عيسى عليه السلام مما يرضي الله؟ أو هل أمر الله به؟ فالمقيس باطل، وهذا مجرد دعوى وكفر، وكذلك المقيس نفسه باطل، وهو عبادة الملائكة؛ للأدلة الواضحة التي سوف نذكرها، وكأنهم يقررون على شركهم أصولاً صحيحة، ويبنون على تمسكهم بالباطل أقيسة صريحة، وغفلوا لجهلهم عن بطلان المقيس والمقيس عليه، وأن البرهان القاطع قام على بطلان عبادة غير الله تعالى، وعلى استحالة التوالد في ذاته العادية، وإذا اتضح الهدى، فما وراءه إلا الضلال، والمشاغبة بالجدال. فهذا أمر واضح وضوح الشمس، فإن كلا العبادتين باطل، سواء عبادة الملائكة أو عبادة المسيح عليه السلام. فإذاً: هم في هذا الكلام يعرفون جيداً أن هذا باطل، لكنهم ما أرادوا إلا المشاغبة والجدال العقيم، ولذلك قال سبحانه وتعالى: ((وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، يعني: هم مقتنعون أنهم لا يقيمون حجة، إنما يجادلون لدفع الحق. فقوله: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، أي: ما ضربوا لك هذا القول إلا لأجل الجدل والخصومة، لا عن اعتقاد؛ لظهور بطلانه. وقوله: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))، أي: شديدو الخصومة للباطل تمويهاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجهل) وما ذكرناه في تفسير هذه الآية هو الجلي الواضح لدلالة السياق والسباق، فقابل بين ما حكيناه وبين ما حكاه غيرنا وأنصف. ثم رفع الله جل وعلا شأن عيسى عليه السلام فقال سبحانه وتعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:59]. ((إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ)) أي: عبد لله، ((أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) أي: بالنبوة والرسالة. وقوله: ((وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: آية وحجة عليهم، لما ظهر على يديه، مما أيد نبوته ورسالته، وصدق دعواه.

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون)

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60]. ((منكم)) هنا معناها: بدلكم، يعني: أن (من) تأتي بمعنى بدل، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42]، يعني: بدل الرحمن، وقوله تعالى في سورة التوبة: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة:38]، يعني: بدلاً عن الآخرة. ((مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ)) أي: يكونون مكانكم، وهذا إيعاد لهم بأنهم في قبضة الله ومشيئة، وأنه لو شاء إهلاكهم وإبدال من هو خير منهم لفعل، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. وقيل: معنى ((لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ)): لولدنا منكم ملائكة، كما ولدنا عيسى من غير أب؛ لتعرفوا تميزنا في القدرة. واللفظ الكريم يحتمله، إلا أن الأظهر هو الأول.

تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم) قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61]. ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) قيل: إن الضمير عائد إلى القرآن، كما ذهب إليه قوم، أي: وإن القرآن الكريم يُعْلِم بالساعة، ويخبر عنها، وعن أهوالها، وفي جعله عين العلم مبالغة، والعلم بمعنى: العلامة. وقيل: الضمير عائد إلى عيسى عليه السلام، أي أن ظهوره من أشراط الساعة، فتكون هذه الآية من أدلة نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان. وهناك آية أخرى تدل على هذا المعنى، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، على التفسير الأرجح من أن الهاء تعود إلى المسيح عليه السلام؛ لأن المسيح ما مات، بل هو حي في السماء، وسوف ينزل في آخر الزمان حاكماً بالقرآن، كما أشارت بذلك الأحاديث. فالمسيح يصدق عليه تعريف صحابي؛ لأنه لقي الرسول عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء والمعراج مؤمناً به بلا شك بجانب أنه رسول الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعلى هذا فهو أفضل الصحابة، وهو أيضاً آخر الصحابة موتاً؛ لأنه لم يمت بعد، وسيموت بعدما ينزل إلى الأرض. وقوله: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) [الزخرف:61] قيل: إن ظهور المسيح عليه السلام من أشراط الساعة، ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا؛ لأن هذه الآيات الكبار تتابع كما تتتابع حبات العقد إذا انفرط نظامه. وقال بعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها، فإنه هو ومعجزاته من أعظم الدلائل على إمكان البعث. فقوله: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)) أي لعلامة على إمكان البعث والنشور؛ لظهور قدرة الله سبحانه وتعالى في كيفية خلق المسيح عليه السلام من غير أب. وقرئ: ((وإنه لَعَلَمٌ للساعة)) بفتحتين، أي أنه كالجبل الذي يهتدى به إلى معرفة الطريق ونحوه؛ لأن العَلَم هو: الجبل، والجبل يسمى العلامة؛ لأن كل الناس يرونه.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلا)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً) ونختم الكلام بكلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى لقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي: (يصُدون) بضم الصاد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة: ((يَصِدُّونَ)) بكسر الصاد، فقراءة الكسر معناها: يضجون ويصيحون، وقيل: يضحكون. وقيل: معنى القراءتين واحد، كيعرِشون ويعرُشون ويعكِفون ويعكُفون. وعلى قراءة الضم فهو من الصدود، والفاعل المحذوف في قوله: ((ضُرِبَ)) قال جمهور المفسرين: هو عبد الله بن الزبعري السهمي قبل إسلامه. أي: أن الذي ضرب ابن مريم مثلاً هو هذا الرجل قبل أن يدخل في الإسلام. المقصود: ولما ضرب ابن الزبعري المذكور عيسى بن مريم مثلاً فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك. أو أنه قال هذا الكلام الذي سنحكيه. والظاهر أن لفظة (من) هنا في قوله: ((إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)) سببية، كقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة: أقسم بالله لمن ضربه مات. يعني: بسبب ضربه مات. وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً أن الله سبحانه وتعالى لما أنزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، قال ابن الزبعري: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: إن كل معبود من دون الله في النار، وإننا وأصنامنا جميعاً في النار، وهذا عيسى بن مريم قد عبده النصارى من دون الله، فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة؛ لأن عزيراً عبده اليهود، والملائكة عبدهم بعض العرب. فيقتضي أن يكون عيسى عليه السلام مثلاً لأصنامهم في كون الجميع في النار، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يثني على عيسى الثناء الجميل، وهذا المشرك العنيد كأنه يلزم الرسول عليه السلام، ويقول للناس: هذا كلام محمد يضرب بعضه بعضاً، إذ كيف يثني على عيسى ويمدحه، ويصفه بأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ثم يقول: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)) وهو معبود، فيدخل هو وعابدوه النار؟! فزعم ابن الزبعري أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول النار، مع أنه عليه الصلاة والسلام يعترف بأن عيسى رسول الله، وأنه ليس في النار، فيدل ذلك على بطلان كلامه عنده، وأن الكفار وآلهتهم لا يدخلون النار. عند ذلك أنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:101 - 103]. وأنزل الله سبحانه وتعالى أيضاً: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا))، أي: ما ضربوا عيسى مثلاً إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل، لقصد الغلبة بغير حق. وقيل: إن (جدلاً) حال، وإتيان المصدر المنكر حالاً كثير. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل: أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموا، وهم أهل اللسان، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات، والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة (ما) التي هي في الوضع العربي لغير العقلاء؛ لأنه قال: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ))، ولم يقل: إنكم ومن تعبدون، وذلك صريح في أن المراد بها هنا الأصنام؛ لأنها جماد لا يعقل، فلا يقال فيها: (من) إنما يقال فيها: (ما) فهي مقتصرة هنا على الأصنام. وأن قوله: ((وَمَا تَعْبُدُونَ)) لا يتناول عيسى ولا عزيراً ولا الملائكة، كما أوضح تعالى أنه لا يرد ذلك بقوله تبارك وتعالى بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]. ووجه التعبير بصيغة الجمع في قوله تبارك وتعالى: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) مع أن القائل هو عبد الله بن الزبعري السهمي يرجع إلى أمرين: أحدهما: أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع القبيلة، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس، مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم، وهو ورقاء بن زهير. والشاعر يهجو بني عبس بذلك. الأمر الثاني: أن جميع كفار قريش صوبوا ضرب ابن الزبعري عيسى مثلاً، وفرحوا بذلك، ووافقوه عليه، فصاروا كالمتمالئين عليه. وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف:77] وقوله أيضاً: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14] وبين صيغة الإفراد في قوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29].

معنى آخر لآية: (ما ضربوه لك إلا جدلا)

معنى آخر لآية: (ما ضربوه لك إلا جدلاً) وقال بعض العلماء: الفاعل المحذوف في قوله: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) هو عامة قريش؛ لأن كفار قريش لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عيسى، وسمعوا قول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك، كما عبد النصارى عيسى! وعلى هذا القول فمعنى قوله: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا)) أي: ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه. وقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] هذه الآية وإن كانت من القرآن المدني النازل بعد الهجرة إلا أن معناها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكررها عليهم كثيراً قبل الهجرة. فالإشارة هنا إلى أن هذا المعنى كان ثابتاً عندهم وإن لم يكن قد نزل في ذلك نص هذه الآية من سورة آل عمران. وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، ولا شك أن كفار قريش متيقنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في مكة قبل الهجرة ثلاث عشرة سنة لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم، وهم يعلمون أنهم مجادلون في ذلك. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ))، التحقيق أن الضمير في قوله: ((هُوَ)) راجع إلى عيسى، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام. قال بعض العلماء: ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى. قيل: لأنهم يتخذون الملائكة آلهة، والملائكة أفضل عندهم من عيسى، وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عُبد من دون الله، ولم يكن ذلك سبباً لكونه في النار، ومعبوداتنا خير من عيسى، فكيف تزعم أنهم في النار؟ وقال بعض العلماء: أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم، والمعنى أنهم يقولون: عيسى خير من آلهتنا في زعمك، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، وعيسى قد عبده النصارى من دون الله، فدلالة قولك على أن عيسى في النار مع اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أننا وآلهتنا في النار ليس بحق أيضاً. وقوله تعالى: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) أي: لد مبالغون في الخصومة بالباطل، كما قال تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، أي: شديدي الخصومة، وقال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204]؛ لأن وزن فَعِل كالخصم من صيغ المبالغة، قال عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الرجال عند الله الألد الخصم). وقد علمت مما ذكرنا أن قوله تعالى: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا)) إنما بينته الآيات التي ذكرنا بيان سببها، ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها، فعلى القول الأول أنهم ضربوا عيسى مثلاً لأصنامهم في دخول النار، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية قوله تعالى قبلها: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]؛ لأنها لما نزلت قالوا: إن عيسى عُبد من دون الله كآلهتهم، فهم بالنسبة لما دلت عليه سواء، وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفاً، وعلى القول الثاني: أنهم ضربوا عيسى مثلاً لمحمد عليه الصلاة والسلام في أن عيسى قد عُبد، وأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يُعبد كما عُبد عيسى. فكون سبب ذلك سماعهم لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59]. وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى يوضح المراد بالمثل.

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف:59]. التحقيق أن الضمير في قوله: ((إِنْ هُوَ)) عائد إلى عيسى أيضاً، لا إلى محمد عليهما الصلاة والسلام. وقوله: ((أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)) لم يبين هنا شيئاً من الإنعام الذي أنعم به على عبده عيسى، ولكنه بين ذلك في سورة المائدة في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة:110]، وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45] إلى قوله: {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:46]. والله تعالى أعلم.

الزخرف [61 - 71]

تفسير سورة الزخرف [61 - 71]

تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لعلم للساعة) قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61]. ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ))، الضمير في قوله: (وإنه) إما للقرآن كما قال ذلك بعض المفسرين، فيكون المعنى أن القرآن الكريم يعلم بالساعة ويخبر عنها وعن أهوالها، وفي جعلها عين العلم مبالغة، والعَلَم بمعنى العلامة. وقيل: الضمير لعيسى عليه السلام أي أن ظهور المسيح عليه السلام من أشراط الساعة، ونزوله إلى الأرض في آخر الزمان دليل على فناء الدنيا، قال بعضهم: معناه أن عيسى سبب للعلم بها، وفي قراءة: ((وإنه لعَلَمٌ للساعة)) أي: شرط من أشراط الساعة وعلامة من علاماتها، فالمعروف أن من علامات الساعة الكبرى نزول المسيح عيسى عليه السلام في آخر الزمان. أو إنه سبب للعلم بالساعة؛ لأن عيسى عليه السلام والمعجزات التي أجراها الله سبحانه وتعالى على يده من أعظم الدلائل على إمكان البعث والنشور، فعيسى عليه السلام في حد ذاته خلق من غير أب فهو آية من آيات الله التي تظهر قدرته على كل شيء، ومن ذلك الإحياء بعد الإماتة، وكذلك المعجزات الأخرى من شفاء الأكمه والأبرص، وإحياء الميت بإذن الله، كل هذا يدل على إمكان البعث والنشور، كما تقول: أمطرت السماء نباتاً، أي: أرسلت ماء يتسبب في إنبات النبات. كالجبل الذي يهتدى به إلى معرفة الطريق ونحوه، فبعيسى عليه السلام يهتدى إلى طريقة إقامة الدليل على إمكان الساعة وكيفية حصولها؛ لأننا نستدل بخلقه من غير أب، وبإحيائه الموتى بإذن الله على إمكان حصول الساعة أيضاً.

نزول عيسى عليه السلام ثابت في القرآن وفي السنة المتواترة

نزول عيسى عليه السلام ثابت في القرآن وفي السنة المتواترة ((فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: اتبعوا هداي أو اتبعوا شرعي أو رسولي، أو هو أمر للرسول أن يقول: ((هذا)) أي: القرآن أو ما أدعوكم إليه ((صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) ((وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ))، أي: عن الاتباع ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)). فصل العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى الكلام في هذه الآية يقول: التحقيق أن الضمير في قوله: (وإنه) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله: ((لعلم للساعة)) على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة، هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حياً علم للساعة، أي علامة لقرب مجيء الساعة؛ لأنه من أشراطها الدالة على قربها، وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى جار على أمرين كلاهما أسلوب عربي معروف. أحدها: أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقرب الساعة كانت تلك العلامة سبباً لعلم قربها، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب. وإطلاق المسبب وإرادة السبب أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تبارك وتعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13]، فالزرق مسبب عن المطر، والمطر سببه، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب. والثاني من الأمرين: أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير وإنه لذو علم للساعة، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها لكونه علامة لذلك، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كثير في القرآن وفي كلام العرب، وإليه أشار في الخلاصة بقوله: وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الاعراب إذا ما حذفا وهذا الأخير هو أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر كقولك: زيد كرم وعمرو عدل، تقصد: زيد ذو كرم، وعمرو ذو عدل، كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح، فقد قال تعالى في سورة النساء في حق المسيح عليه السلام: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]، ومعروف أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه.

إثبات الشنقيطي لحياة عيسى عليه السلام بالأدلة

إثبات الشنقيطي لحياة عيسى عليه السلام بالأدلة فقوله هنا: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية النساء هذه، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب، ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض. فإن قيل: قد ذهبت جماعة من المفسرين من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) راجع إلى الكتابي، أي: إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي، يعني: يقولون إن عيسى يمثل له عند موته، فيراه ويؤمن عند احتضاره وخروج روحه أنه عبد ورسول وليس رباً. ف A أن كون الضمير راجعاً إلى عيسى يجب المصير إليه دون القول الآخر؛ لأنه أرجح منه من أربعة أوجه: الأول: أنه هو ظاهر القرآن المتبادر من السياق، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض، أما القول الآخر فبخلاف ذلك. وإيضاح هذا: أن الله سبحانه تعالى قال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} [النساء:157]، ثم قال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ))، أي: عيسى، ((وَمَا صَلَبُوهُ)) أي: صلبوا عيسى، ((وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ))، والذي شبه لهم هو عيسى عليه السلام، ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ)) أي: في عيسى، ((لَفِي شَكٍّ مِنْهُ)) أي: عيسى، ((مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ))، أي: عيسى، ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)) أي: عيسى، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] أي: عيسى، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:159] أي: عيسى ((قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي: عيسى، ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)) أي: يكون عيسى عليهم شهيداً. فهذا السياق القرآني الذي ترى ظاهر ظهوراً لا ينبغي العدول عنه في أن الضمير في قوله: (قبل موته) راجع إلى عيسى. هذا هو الوجه الأول الذي يترجح به عود الضمير إلى عيسى عليه السلام. الوجه الثاني من مرجحات هذا القول: أنه على هذا القول الصحيح، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله تعالى: ((وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ)). وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكوراً في الآية أصلاً، بل هو مقدر تقديره: (ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته)، أي: موت أحد أهل الكتاب المقدر. أي: فعلى القول بأن الضمير في قوله: (موته) راجع إلى الكتابي، لا يجود ما يفسر الضمير في الآية، فيحتاج إلى تقديره بما ذكر، وهو تكلف، ولا شك أن التفسير الذي لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير؛ فإذا فسرناه: ((وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي: قبل موت المسيح ما احتجنا إلى أي تقدير؛ لأن كل الضمائر كما ذكرنا سياقها في شأن المسيح عليه السلام، أما على القول الآخر فلا بد من تقدير. الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح: أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة؛ فلقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسيح عيسى عليه السلام حي الآن، وأنه سينزل في آخر الزمان حكماً مقسطاً، ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر. وللأسف الشديد أنه تورط بعض من له فضل على مذهب السلفية في مصر، وهو الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى وعفا عنه، حيث تابع شيخه الشيخ محمد عبده في هذه الضلالة، وهي إنكار نزول المسيح عيسى عليه السلام آخر الزمان! رغم خدمات الشيخ رضا للمنهج السلفي، وأنه ممن أحيوا هذا المنهج هنا في مصر، ومع ذلك كان في متابعاته لـ محمد عبده ما نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه فيه، أو عنهما جميعاً، فهذا مما ضل فيه وزل الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى، والعلماء ردوا عليه في عدة كتب. قال ابن كثير بعدما نصر هذا القول: هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى اهـ. ويعني بالدليل القاطع: الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً؛ لأن الروايات كثيرة جداً؛ لكن القدر المجمع المتفق عليه هو إثبات نزول المسيح عليه السلام، وليس مثلاً كحديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)؛ لأن التواتر هنا تواتر لفظي. يقول الشنقيطي معلقاً على قول ابن كثير: هذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله تعالى اهـ. يقول: وقوله: بالدليل القاطع، يعني السنة المتواترة؛ لأنها قطعية، وهو صادق في ذلك، وقال ابن كثير في تفسير آية الزخرف ما نصه: وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً، وأما القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى أهل الكتاب فهو خلاف ظاهر القرآن، ولم يقم عليه دليل لا من كتاب ولا سنة. الوجه الرابع: هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص بخلاف القول الآخر، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره، ظاهرة البعد والسقوط؛ لأنه على القول بأن الضمير في قوله (قبل موته) راجع إلى عيسى فلا إشكال ولا خفاء، ولا حاجة إلى تأويل، ولا إلى تخصيص. أما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جداً بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب! يعني: لا يمكن الأخذ بهذا القول الثاني إلا بتأويل أو تخصيص؛ لأنه من الممكن أن يأتي الموت لأي رجل كتابي فجأة، فلا يمكنه أن يرى عيسى ولا غيره، كمثل من سقط من مكان عال إلى أسفل، أو من قطع رأسه بالسيف فجأة وهو غافل، أو من مات وهو نائم ونحو ذلك، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص. فيقال: كل أهل الكتاب ما من منهم أحد حينما يموت إلا ويؤمن بالمسيح قبل موته إلا من سقط من أعلى إلى أسفل، وإلا من صدمته سيارة فمات فجأة، وإلا من مات وهو نائم، وإلا من قطع رأسه بالسيف وهو غافل، وإلا من كذا وكذا ممن لن يستطيعوا أن يروا المسيح قبل الموت ويؤمنوا به. وهذا التخصيص ليس عليه دليل. ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة. وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله (قبل موته)، راجع إلى عيسى، وأن تلك الآية من سورة النساء تبين قوله تعالى هنا: (وإنه لعلم للساعة)، كما ذكرنا.

إبطال الشنقيطي بأن عيسى قد توفي من أربعة أوجه

إبطال الشنقيطي بأن عيسى قد توفي من أربعة أوجه فإن قيل: إن كثيراً ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وقوله تعالى على لسان المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117]. وهذا السياق للأسف الشديد أورده الشيخ محمد رشيد رضا وهو شيء مؤلم حقيقة وددنا لو لم يقع في مثل هذه الزلات! ف A أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلاً، أما قوله تعالى: (إني متوفيك) فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه: الأول: أن قوله: (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملاً غير ناقص، والعرب تقول: توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له، إذا قبضه وحازه إليه كاملاً من غير نقص. فمعنى: (إني متوفيك) في الوضع اللغوي أي حائزك إلي كاملاً بروحك وجسمك، وعيسى عليه السلام رفع بجسده وروحه، ولو سلمنا جدلاً أن قوله: (إني متوفيك) معناها: إني مميتك، فلا إشكال فيها فإننا نؤمن بأن الله سوف يميت المسيح يوماً من الأيام بعد ما ينزل، كل ما في الأمر أنه لم يحدد متى سيتوفاه، فلم يقل مثلاً: إني متوفيك قبل رفعك إلى السماء، وإنما قال: (إني متوفيك)، فهذا لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه مضى، وهو متوفيه قطعاً يوماً ما. وبعض الناس قد يقول: ألم يقل الله: (إني متوفيك ورافعك إلي) فربط التوفي بالرفع على أساس أن العطف يقتضي التتابع أو الترتيب؟! فنقول: لا دليل في ذلك؛ لإطباق جمهور أهل اللسان العرب على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك، وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق، خلافاً لـ قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الجاحظ وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه، وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه، وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي. وخلاصة الكلام أن الواو تقتضي مطلق التشريك، تقول: جاء محمد وعلي وحسن، فالعطف هنا يقتضي أنهم كلهم اشتركوا في المجيء، لكن لا يفيد أن مجيئهم كان مرتباً، بخلاف ما إذا قلت: جاء علي ثم محمد ثم حسن، فإن (ثم) تقتضي الترتيب. وقد استدل القائلون بالترتيب بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أبدأ بما بدأ الله به ((إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ)))، ولكن لا يدل ذلك على اقتضائها الترتيب، وإنما تدل على الاهتمام بالشيء المقدم، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالمذكور الأول، كقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، وأحياناً يكون المعطوف بها مرتباً، كما قال حسان: هجوت محمداً وأجبت عنه وعند الله في ذلك الجزاء على رواية الواو، لأن هناك رواية أخرى: هجوت محمداً فأجبت عنه وقد يراد بالواو المعية، كما في قوله: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، يعني مع أصحاب السفينة، وقوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:9]، يعني مع القمر، لكن لا تحمل الواو على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل يدل على ذلك. فهذا هو الوجه الأول في الجواب. الوجه الثاني: أن معنى (إني متوفيك) أي: منيمك، (ورافعك إلي)، أي في تلك النومة. كأنه ألقي عليه النوم ثم رفعه الله سبحانه وتعالى إليه، وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين. الوجه الثالث: أن (متوفيك)، اسم فاعل توفاه، إذا قبضه وحازه إليه، ومنه قولهم: توفى فلان دينه إذا قبضه إليه، فيكون معنى (متوفيك) على هذا: قابضك منهم إلي حياً، وهذا اختيار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى. ثم أعاد التنبيه في بيان أن (متوفيك) حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه كاملاً من غير نقصان، فالمعنى أنه توفاه بالروح والجسد، في حين أن معنى: إني مميتك فيها التوفي بالروح فقط وليس الجسد، فيكون قوله: (إني متوفيك) دالاً على نقيض ما يستدلون له. الدليل الثاني: أن (متوفيك) وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك، أي على أن ذلك في المستقبل بعدما ينزل إلى الأرض. الثالث: أنه توفي نوم، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن الوفاة تطلق على النوم. أما قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117]، فدلالته على أن عيسى مات، ودلالة هذا القول على أن عيسى مات منفية من وجهين: الأول منهما: أن عيسى عليه السلام يقول ذلك يوم القيامة، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة،، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى. والثاني منهما: أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد لا توفي موت. وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117]، تدل على ذلك؛ لأنه لو كان التوفي هنا توفي موت لقال: وكنت عليهم شهيداً ما دمت حياً فلما توفيتني؛ كما قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31]؛ لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة، أما التوفي الذي يقابل بالديمومة فيهم والبقاء فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر، وهو الرفع إلى السماء، فيكون المعنى: (وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني) أي: نقلتني من الأرض إلى السماء، ولم أعد دائماً فيهم. وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقاً: أن الذين زعموا أن عيسى قد مات، قالوا: إنه لا سبب لذلك الموت، إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه، فإذا تحقق نفي هذا السبب وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره، تحققنا أنه لم يمت أصلاً، وذلك السبب الذي زعموه منفي يقيناً بلا شك؛ لأن الله جل وعلا قال: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ))، وقال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)). فإذا أتى اليقين من الله سبحانه وتعالى بنفي موت المسيح عليه السلام بالقتل ونفي موته بالصلب لم يبق إلا أنه رفعه إليه، ومن ادعى أن المسيح مات لم يدع إلا بسبب من هذين السببين إما القتل وإما الصلب، فإذا نفى الله قطعاً كلا السببين لم يبق إلا أنه باق على الحياة، قال تعالى: ((وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ))، وقال أيضاً: ((وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ))، وانظر إلى الإضراب والانتقال من الضد إلى الضد، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وفيها إشارة إلى معنى العزة والقهر والغلبة، وأن الله ينفذ إرادته ضد إرادة من أراد قتل المسيح عليه السلام أو صلبه. وضمير (رفعه) في قوله: (بل رفعه الله إليه) ظاهر في رفع الروح والجسم معاً. وقد بين الله جل وعلا مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر، فصار من يراه يعتقد اعتقاداً جازماً أنه عيسى عليه السلام، وهذا هو السبب في أنهم أنفسهم يقولون: ((إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ))، فهم رأوا صورة المسيح على شخص آخر، فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي على هذا الشخص اعتقاداً جازماً أنه عيسى فقتلوه، فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وأنهم صلبوه، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، فمحمد صلى الله عليه وسلم والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى، كما أوضحه تعالى بقوله: ((وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)). والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم كلاهما دال على أن عيسى حي، وأنه سينزل في آخر الزمان، وأن نزوله من علامات الساعة، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى، وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك، وأن قوله: (متوفيك) لا يدل على موته فعلاً، وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه.

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات هذا صراط مستقيم)

تفسير قوله تعالى: (ولما جاء عيسى بالبينات هذا صراط مستقيم) قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف:63]. ((تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)) أي: من أحكام التوراة وغيرها، كاختلاف اليهود في القيامة لعدم صراحتها في كتبهم، وقد جاء في نحوها آية: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، وقد وضع عيسى عن اليهود شيئاً من إصر التوراة وأغلال الناموس كما فعل في يوم السبت. قال بعض المحققين: وإنما لم يقل: لأبين لكم كل ما تختلفون فيه، بل قال: ((وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ))، لأنه لم يفعل ذلك، بل ترك بيان كثير من الأشياء كالفساد الذي دخل في أغلب كتبهم تركه للفارقليد، أي: لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يأتي بعده، وجاء في آخر طبعات الأناجيل في قصة نهاية مواقف المسيح عليه السلام أنه قال لمن حوله من الحواريين: إنني ينبغي أن أنصرف عنكم الآن؛ لأني إن لم أنصرف لا يأتيكم الفارقليد روح الحق الذي هو من عند الله سبحانه وتعالى، يأتيكم ويخبركم بكل ما كنت أريد أن أقوله لكم، وإنه ينطق بالحق على فمه، ولا بد أن أمضي الآن، حتى يأتيكم الفارقليد. والذي سوف يدين العالم ويفعل كذا وكذا. فتكرر استعمال لفظ الفارقليد أو الفارقليتوس باللغة اليونانية القديمة، وقد كان صاحب كتاب صصد الأنبياء على معرفة بأستاذ اسمه كارلون لينو وهو إيطالي متخصص ومتعمق جداً في اللغة اليونانية القديمة، فقال له: ما معنى كلمة الفارقليد فقال له: إن القسس يزعمون أن معناها المعزي أو المخلص أو المحامي إلى آخر كلامهم، فقال له: أنا لا أسأل القسس أو القساوسة، ولكني أسأل الدكتور كارلون لينو الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة، فقال: إنها تعني الشخص الذي في اسمه حمد كثير، قلت له: هل يعني ذلك صيغة أفعل التفضيل من حمد أو أحمد، قال: نعم، قال: كذلك اسم نبينا محمد {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]، قال: يا أخي إنك تقرأ كثيراً وسكت اكتفاء بهذا التعليق! وهناك بحوث كثيرة جداً وخاصة من علماء النصارى الذين يدخلون في الإسلام عن علم وعن خبرة وبحوث في غاية العمق، خاصة عبد الأحد داود الذي كان من أكبر قساوسة الطائفة الكلدانية في العراق، ثم أسلم، وله كتب في غاية القوة، ولهم بحوث مستفيضة في ذلك، الذين قاموا بالترجمة من اللغة العبرانية التي تكلم بها المسيح عليه السلام على هذه الكلمة (الفارقليد) لم يحافظوا على اللفظ، بل ترجموا الكلمة بمعناها، مع أن المفروض أن الأعلام لا تغير، فالذي اسمه كريم يظل اسمه في كل العالم (كريماً)، وتكتب حتى بالإنجليزي ( KAREEM) مثلاً، لكن الذي حصل أنهم لما ترجموا أحمد ترجموها بالمعنى، مثل أن تحول كريم إلى: جنرس!! فحولتها لمعنى اللغة التي ترجمتها، فهذا الذي فعلوه بكلمة أحمد، حيث ترجمت على أنها صيغة أفعل التفضيل من المدح، والشخص الذي في اسمه حمد ومدح وثناء كثير هو محمد أو أحمد. فهذا هو السبب في أن هذه الكلمة الفارقليد التي تعني أن هذا الاسم شخص في اسمه حمد كثير، على وزن أفعل التفضيل من حمد، يعني: أحمد بالضبط، فالذي حصل أنهم تناقلوه، لما كثر استدلال المسلمين بهذه الآية، وكثر دخول النصارى في الإسلام بسبب ورود نص في الإنجيل على الفارقليد وأن المسيح مضى كي يأتي الفارقليد، وأنه سوف يغير كل شيء، وأنه ينطق بالحكمة ويعلمهم كل ما يحتاجونه، وأنه هو الذي سيدين هذا العالم وغير ذلك من صفات النبي عليه السلام؛ عندها بدءوا مهنة التحريف، فبدأوا يتجنبون في الطبعات الأخيرة من الأناجيل كلمة الفارقليد ويقولون: المعزي أو المخلص كي يهربوا من ذلك، لكن الأناجيل القديمة كلها كانت تستعمل الفارقليد. فقوله: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63]، إنما قال: (بعض) لأنه ترك مهمة تبيين كل ما يختلفون فيه إلى من سيأتي بعده، وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أتى بكتاب يهيمن على كل الكتب السابقة، وذلك لعدم استعداد الناس في زمانه لقبول كل شيء منه، كما قال هو عن نفسه في إنجيل يوحنا في الإصحاح السادس عشر: وخصوصاً إذا تعرض للطعن في كتبهم، وهي رأس مالهم الوحيد، وتراث أجدادهم، ولو أنه كشف لهم التزييف الذي زيفوه لشك فيه الكثيرون منهم وكذبوه، ولما اتبعه إلا الأقلون أو النادرون. وأما قول الله تعالى على لسانه: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:50]، فالمراد بمثل هذا التعبير أنه بمجيئه عليه السلام تحققت نبوات التوراة عنه، وبه صحت وصدقت، يعني: أن المسيح أخبرت به التوراة، فمجيئه بعد ذلك مما يصدق أن التوراة من عند الله، وكلمة التوراة تطلق على كتب العهد القديم، فالمعنى أن النبي عيسى كان وفق ما أنبأ به النبيون عنه من قبل، ولولاه لما صدقت تلك النبوات فإنها لا تنطبق إلا عليه، وليس المراد أن عيسى يقر كل ما في التوراة كما يتوهم النصارى الآن من مثل هذه الآية، وإلا لما قال بعدها مباشرة: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، فكيف يقرها وهو قد جاء ناسخاً لبعض ما فيها؟! فتدبر ذلك ولا تكن كهؤلاء الذين يهرفون بما لا يعرفون، والمفسرون ما لا يفهمون. انتهى كلامه، وهو وجيه جداً. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} [الزخرف:64]. قال ابن جرير: أي إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له عز وجل هو ربي وربكم جميعاً، فاعبدوه وحده لا تشركوا معه في عبادته شيئاً. ((هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) أي: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله وطاعته، وإفراده بالألوهية هو الطريق القويم، وإذا كان هذا قول عيسى عليه السلام فلا عبرة بقول الملحدين فيه والمفترين عليه ما لم يقله، ثم أشار إلى وعيد من خالف الحق بعد وضوحه.

تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)

تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) قال سبحانه وتعالى: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65] أي: اختلفت الفرق المتحزبة اختلافاً نشأ من بينهم، ولم ينشأ الاختلاف من كلام الله، ولا من كلام عيسى، وإنما نشأ من بينهم هم، فهم الذين اختلفوا في الحق ظلماً وعناداً. ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) أي: مؤلم من شدة الأهوال وكثرة الفضائح، وظلمهم بترك النظر في الدلائل العقلية والنقلية. ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)) ولا بد من تفسير الذين ظلموا بالذين كفروا، وفي القرآن يطلق الظلم على الظلم الأكبر: الكفر والشرك، ويطلق كذلك على ظلم دون ظلم وهو المعصية، فهنا لا بد من تفسير ظلموا بالذين كفروا، بدليل ما جاء في سورة مريم: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] في نفس المناسبة، وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، وقال أيضاً: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، وقال عز وجل: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، وقد جاء في الحديث تعيين الظلم هنا بأنه الشرك.

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة إلا المتقين)

تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا الساعة إلا المتقين) قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:66 - 67]. ((هَلْ يَنظُرُونَ)) أي قريش، وينظرون أي: ينتظرون، والاستفهام هنا بمعنى النفي، أي: لا ينتظر الكفار ((إِلَّا السَّاعَةَ)) أي القيامة، ((أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) أي: في حال كونها مباغتة، أو مفاجئة لهم، وهم لا يشعرون بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها. والمصدر من (أن) وصلتها في قوله: ((أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) في محل نصب على أنه بدل اشتمال من الساعة. قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187]، وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، وقال تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49]. ((الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ)) أي: المتخالون على المعاصي والفساد والصد عن الحق يوم القيامة ((بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) أي: معادٍ يتبرأ كل من صاحبه ((إِلَّا الْمُتَّقِينَ)) إلا المتصادقين في طاعة الله ومحبته عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم أنتم وأزواجكم تحبرون)

تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم أنتم وأزواجكم تحبرون) قال تعالى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69]. ((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)) يعني: يؤمنهم من العذاب، ((وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)) أي: على فوات لذات الدنيا، لكونهم على حال ألذ منها وأحسن حالاً وأجمل. ((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا)) أي: صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، ((وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) أي: أهل خضوع لله بقلوبهم وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء لا يهود ولا نصارى ولا أهل أوثان {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة، فذكر منها هنا الإيمان بآياته والإسلام، وذكر بعضاً منها في غير هذا الموضع، فمن ذلك -يعني: مما ينفي عن الإنسان الخوف والحزن يوم القيامة-: الإيمان والتقوى، قال سبحانه وتعالى في سورة يونس: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] ومن ذلك أيضاً: الاستقامة، وقولهم: (ربنا الله) {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، وقال في الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]. والخوف في لغة العرب: الغم من أمر مستقبل. والحزن: الغم من أمر ماض. وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر. وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف. قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة:229]، يعني: إلا أن يعلما ألا يقيما حدود الله، ومنه أيضاً قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] يعني: إذا علمتم أنكم لن تعدلوا في اليتامى. ومنه قول أبي محجن الثقفي: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها يعني: من شدة ما يحب شرب الخمر يتمنى أن يدفنوه بعد موته إلى جنب شجرة عنب، حتى تروي عظامه بالكرم، فالعروق والجذور تتغلغل في الأرض وتصل للعظام. ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها في الفلاة: أي في الصحراء الخالية، بل ادفني في بستان فيه شجرة عنب. (فإني أخاف): أخاف هنا معناها: أعلم، أنني إذا مت لن أستطيع أن أذوقها؛ لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته. قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام، وقد دلت بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]، ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وثبت في الصحيح حديث وفد عبد القيس، وفيه أنه جعل من الإيمان الأعمال الظاهرة: أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وقال تبارك وتعالى: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)) أي: تسرون سرواً يظهر حبوره أي أثره على جلودكم، كما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)). قوله تعالى: ((أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ)) فيه لعلماء التفسير وجهان: أحدهما: أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة، ومن هم على شاكلتهم في الإيمان وتقوى الله، وهذا القول اقتصر عليه ابن كثير القول الثاني: أن المراد بأزواجهم: نساؤهم في الجنة، قالوا: لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول؛ ولذا يكثر في القرآن ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة، قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:55 - 56]، وقال تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] وقال: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23]، وقال: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70]، إلى قوله: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، وقال: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]. ومفرد الأزواج زوج بلا هاء -يعني هذا هو الأصل في اللغة- والزوجة بالهاء لغة وليست لحناً، خلافاً لمن زعم أن الزوجة من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة، ومنها قول الفرزدق: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها وقول الحماسي: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صفية: (إنها زوجتي). وقوله: ((تحبرون)) معناه: أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها.

تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأنتم فيها خالدون)

تفسير قوله تعالى: (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأنتم فيها خالدون) قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71]. الصحاف: جمع صحفة وهي آنية الأكل، والأكواب: جمع كوب، وهو ما يشرب منه كالكوز، لكن الكوب ما لا عروة له، قال الشهاب: ما يمسك منه، ويسمى أذناً، ولذا قال من قال فيه: وذي أذن بلا سمع له قلب بلا قلب إذا استولى على صب فقل ما شئت في الصب (وذي أذن بلا سمع) يعني: هو الشيء الذي له أذن لكن لا يسمع بها، وهو الإبريق الذي يكون له أذن يمسك منها (إذا استولى على صب) الصب: يعني المولع بالغرام والشوق. (فقل ما شئت في الصب) يعني: صب الماء. ومن اللطائف هاهنا أنه قيل: إنه لما كانت الأواني للمأكولات أكثر بالنسبة لأواني المشروب في العادة جمع الأول جمع كثرة، والثاني جمع قلة؛ لأن أواني الأكل تكون أكثر، وأواني الشرب تكون أقل. ((وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ))، أي: تلتذ الأعين برؤيته لحسنه، كما قال تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] وأسند اللذة إلى العين وإن كان المقصود الرائي بالعين، وهذا كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16]، والمقصود صاحب هذه الناصية أي: الشخص نفسه، كذلك أيضاً إسناد الخشوع إلى الوجوه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3]، المقصود بها الشخص كله، لكن عبر عنها بالوجوه.

الزخرف [72 - 89]

تفسير سورة الزخرف [72 - 89]

تفسير قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون)

تفسير قوله تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة، كقوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]. وقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]. وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]. وهذه من الإحالات الكثيرة التي يتميز بها كتاب (أضواء البيان)، وكتاب (أضواء البيان) أهم شيء فيه هذه الإحالات، وأول الطبعات التي طبعت في حياة الشيخ رحمه الله لم يحصل فيها إثبات لهذه الإحالات أو فهرسة كافية لها. وقد أحسن بعض الإخوة الأفاضل حين ألف كتاب (التبيان لمواضع الإحالات في أضواء البيان)، وهو كتاب لابد منه لمن يتعامل مع أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن؛ لأنه في كل موضع فيه إحالة يكتب نفس اسم السورة ومواضع الآيات كما هي هنا، مثل قوله: وقد قدمنا الكلام عن هذه الآية الكريمة، فيكتب المواضع التي سبق الكلام فيها بالنسبة لهذه الآيات الكريمة. إلا أن المؤسف أن بعض الناس لما شرعوا في طباعة الكتاب عدة طبعات كان المفروض للذين يعملون طبعة أن يعملوا فيها جهداً جديداً، وليس مجرد أنه يسرق جهد الآخرين، فلا أحد حتى الآن نعرف أنه خدم الكتاب كما ينبغي، خاصة بالنسبة لقضية الإحالات التي يكون القارئ أحوج ما يكون إليها، فموضوع الإحالات لأضواء البيان مهمة؛ فمثلاً: أنا أنفقت وقتاً كثيراً جداً في محاولة الوصول إلى هذه المواضع؛ لأن المذهب الذي رجحه العلامة الشنقيطي هنا مذهب قويم؛ حيث بين وجه الجمع بين تلك الآيات التي فيها إثبات دخول الجنة بالأعمال، وبين الأحاديث التي فيها: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، فهو جمع حسن وقريب، كما سنبين إن شاء الله تعالى، فرجعت حتى إلى كتاب الفهارس، والأخ أثبت أن فيه إحالة، لكن يبدو أنه مثلي أعياه الوصول إلى هذه الإحالة، فبحثت عن جميع المظان التي يمكن أن يكون الشيخ أشار إليها هنا في حدود علمي، فما استطعت الوصول إليها فيما سبق من أضواء البيان، لا هذه الآية التي هي آية الأعراف، ولا التي تليها التي هي في سورة مريم، فالله أعلم أين تكلم الشيخ على ذلك، ويحتمل أنه كان يقوله في الدروس وليس في الكتاب، وعلى أي الأحوال هذه فائدة عابرة: أنه لابد لمن يتعامل مع أضواء البيان من وجود كتاب الإحالات (التبيان لمواضع الإحالات من أضواء البيان). المهم أن الشيخ يقول: قد تم الكلام على الجمع بين هذه الأدلة التي تثبت أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وبيَّنا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها مع قوله عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). ومن أوجه الجمع بين الآيات والحديث: أن الباء باء السببية، وليست باء المقابلة، فقولك: اشتريت منك هذا الثوب بعشرين جنيهاً فمعناه: أن الثوب يساوي العشرين جنيهاً، فهذه باء مقابلة، لكن الباء في الحديث سببية، أي: أن العمل مجرد سبب في دخول الجنة. وشيخ الإسلام له رسالة مستقلة في هذا الموضوع، وكذا الإمام النووي فقد بحثه في شرح صحيح مسلم. وبعض العلماء قالوا: إن دخول الجنة برحمة الله، أما تفاوت الدرجات في داخل الجنة فهذا بالأعمال الصالحة، لكن العلامة الشنقيطي هنا يقول: إن أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وبين الحديث الشريف: أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل. فالعمل الذي يكون سبب دخول الجنة ليس كل عمل، وإنما هو العمل الذي يتقبله الله سبحانه وتعالى برحمة منه وفضل، وأما العمل الذي لا يدخل الجنة فهو الذي لم يتقبله الله، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فإذا تقبله الله فهذا هو الذي يكون سبباً في دخول الجنة، وأما ما لم يتقبله الله فإنه لا يكون سبباً في دخول الجنة.

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون)

تفسير قوله تعالى: (لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) يقول تبارك وتعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:73]. أي: ما اشتهيتم، و (من) إما ابتدائية، أو تبعيضية، ورجح التبعيض بدلالته على كثرة النعم، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأنها مزينة بالثمار أبداً موقرة بها، أي: فمهما أكل أهل الجنة فإنما يأكلون بعضاً من هذه الثمار وليس كلها فهذا هو وجه ترجيح كون من تبعيضية وليست ابتدائية.

تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون كانوا هم الظالمين)

تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون كانوا هم الظالمين) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:74 - 76]. ((إِنَّ الْمُجْرِمِينَ))، أي: الذين اجترحوا الكفر والمعاصي في الدنيا ((فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)). ((لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ)) أي: لا يخفف ولا ينقص. ((وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ))، أي: يائسون. ((وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ))، أي: بهذا العذاب، ((وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)) أي: بكفرهم بالله وجحودهم توحيده عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك)

تفسير قوله تعالى: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. ((وَنَادَوْا)) يعني: بعد إدخالهم جهنم. ((يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) أي: يمتنا، فهذه اللام لام الدعاء، ولا يصح أبداً أن تكون لام الأمر؛ لأن الخطاب من شخص عادي للملك لا يصح أن يكون أمراً. والمعنى: سله أن يفعل بنا ذلك، فتمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس لشدة التألم من عذاب جهنم. ((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) أي: لابثون.

تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)

تفسير قوله تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) قال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]. أي: لا تقبلونه، وتنفرون منه، وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليداً، وهذا في غاية الدقة، وهو من مظاهر بلاغة القرآن الكريم. وقوله: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)) وهل بعض الكفار يحبون الحق؟ ولماذا قال: ((أَكْثَرَكُمْ)). A الكفار نوعان: النوع الأول: أكثر الكفار الذين يكرهون الحق ويبغضونه وينفرون منه، ولو كان واضحاً لديهم أنه حق، فهم يجحدون ويعاندون. النوع الثاني: الأتباع الذين يتبعون هؤلاء الرؤساء أو هؤلاء السادة أو المفكرين أو المثقفين، فيكفرون تقليداً لهم، فالذي يكفر تقليداً ليس كارهاً للحق، ولكنه كافر كفر التقليد، وهو أن يأخذ غيره بزمامه كالدابة دون أن يبحث عن دليل أو يتعرف على برهان، فهذا النوع موجود ضمن الكفار الذين يكفرون بالحق، لكنهم لم يكرهوه، بمعنى: أن كفرهم إنما كان تقليداً لكبرائهم ورؤسائهم، لكن أكثرهم كانوا كارهين مبغضين للحق. قال القاشاني: سمي خازن النار مالكاً لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها، وبمن حصل الدنيا وملكها، كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39]. كما سمي خازن الجنة رضواناً لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. اللام في قوله: ((لِيَقْضِ عَلَيْنَا)) لام الدعاء، والظاهر أن مرادهم بذلك: سؤال مالك خازن النار أن يدعو الله لهم بالموت، فتفسير الآية: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) معناها: ادع الله لنا أن يميتنا، هذا هو التفسير الأرجح للآية. والدليل على ذلك أمران: الأول: أنهم لو أرادوا دعاء الله في أنفسهم أن يميتهم لما نادوا مالكاً، ولما خاطبوه في قولهم: (ربك). الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى بين في سورة (المؤمن) أن أهل النار يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله لهم ليخفف عنهم العذاب؛ وذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49]. وقوله: ((لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) أي: ليمتنا، فنستريح بالموت من العذاب. وهذا نظير قوله تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، يعني: أماته. وقوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))، هذا دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت، بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية، فقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يخرجون منها. أما كونهم لا يموتون فيها فدل عليه قوله: ((قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ))، وقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، وقوله تبارك وتعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:11 - 13]، وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]، وقوله عز وجل: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17]. وأما كون النار لا تخفف عنهم فقد بينه قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]؛ لأن (كلما) صيغة عموم. وقال تعالى: {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]. وقال: {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:162]. وقال: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف:75]. وقال: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]. وقال: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:77]. أما كونهم لا يخرجون منها فالآيات أيضاً كثيرة في هذا المعنى.

تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمرا لديهم يكتبون)

تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً لديهم يكتبون) ثم قال تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80]. ((أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا)) أي: أم أبرم مشركو مكة أمراً؛ فأحكموه يكيدون به الحق الذي جاءهم، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم من النكال، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42]. وكما قال تعالى أيضاً: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. ((أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ)) أي: ما أخفوه من تناجيهم عندما يمكرون، فيحسبون أنا لا نجازيهم عليه لخفائه علينا؟! ((بَلَى)) أي: نسمعه ونطلع عليه، ((وَرُسُلُنَا)) أي: الحفظة، ((لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)) أي: ما تكلموا ولفظوا به من قول.

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)

تفسير قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]. ثم أشار إلى رد إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى ختماً للسورة بما بدئت به؛ لأن صدر السورة تعرض لإبطال ودحض دعواهم أن الملائكة بنات الله، وهذا يسمى في علم البديع رد العجز على الصدر. قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) أي: لذلك الولد، والأولية بالنسبة للمخاطبين لا لمن تقدمهم. قال الشهاب: ولو أبقي على إطلاقه على أن المراد إبهام الرغبة والمسارعة جاز. قال القاشاني: وهذا إما أن يدل على نفي الولد عن الله سبحانه بالبرهان، وإما أن يدل على نفي الشرك عن الرسول بالمفهوم. أما دلالته على الأول ففي قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82]. والتفسير في هذه الآية -وبالذات في تفسير القاسمي - مختصر جداً؛ مع خطورة الانحراف في فهم هذه الآية الكريمة. ولذلك سوف نستعرض كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ حيث أبدع أعظم الإبداع في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)). اختلف العلماء في معنى (إن) في هذه الآية؛ فقالت جماعة من أهل العلم: إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى. والذين قالوا: إن (إن) شرطية اختلفوا في المراد بقوله تبارك وتعالى: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)). فقال بعضهم: فأنا أول العابدين لذلك الولد. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله؛ جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد. والإنسان قلبه يتفطر وهو يقرأ هذا التفسير؛ لأن بعض الناس يتساهل في التفسير وعدم تنقيح الأقوال إلى هذا الحد الخطير، كما يتضح لنا أثناء مدارسة كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى. وبعضهم قال: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، يعني: لذلك الولد، لكن هو ليس له ولد. وهناك قول آخر: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً. وكلا الاحتمالين في غاية الخطورة؛ لأنه يشترط في صحة الإيمان الكفر بعبادة أي والد وأي مولود، لا يصح الإيمان ولا الإسلام لأي شخص إلا إذا كفر أو اعتقد عدم استحقاق أي والد أو أي مولود لأن يعبد أو يتخذ إلهاً، هذا شرط في صحة الإيمان، والقضية في غاية الخطورة، كما سيأتي إن شاء الله. القول الثالث: قوله: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد. وقال جماعة آخرون: إن لفظة (إن) في الآية نافية، تساوي ما النافية، والمعنى: قل ما كان للرحمن ولد. وعلى القول بأن (إن) نافية ففي معنى قوله: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) ثلاثة أوجه: الأول وهو أقرب الوجوه: أن معنى قوله: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)): ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له عن الولد وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله. والذي يقوي ويؤكد هذا التفسير ويصححه دون غيره هو قوله سبحانه في الآية التي بعدها مباشرة: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82]. الوجه الثاني: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، أي: أنا أول الآنفين المستنكفين من ذلك القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له، والعرب تقول: عَبِد بكسر الباء، يعبَد بفتحها، فهو عَبِد، بفتح فكسر على القياس، و (عابد) سماعاً: إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه. ومنه قول الفرزدق: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليباً بدارم قوله: (وأعبد) أي: آنف وأستنكف. ومنه أيضاً قول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالم يعني: يستنكف أو يستكبر عليه. وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه المشهورة: (أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت فولدت في ستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم؛ اعتقاداً منه أنها كانت حاملاً قبل العقد؛ لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما: إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، ويقول جل وعلا: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، فلم يبق عن الاتصال من المدة إلا ستة أشهر، فما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها لترد ولا ترجم). فتأملوا هنا قول الراوي: (فما عبد عثمان) يعني: ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق حين أفتاه به علي رضي الله تعالى عنه. الوجه الثالث: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد، ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)) الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. قال مقيده غفر الله له وعفا عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن (إن) نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء، وإنما اخترنا أن (إن) هي النافية لا الشرطية وقلنا: إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور: الأول: أن هذا القول جارٍ على الأسلوب العربي جرياناً واضحاً لا إشكال فيه، فكون: ((إِنْ كَانَ))، بمعنى: ما كان، كثير في القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29] أي: ما كانت إلا صيحة واحدة. فمعنى الآية الكريمة: ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم المنزه عن الولد، أو ما كان لله ولد فأنا أول الآنفين المستنكفين أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وهل الآية على هذا فيها إشكال؟ A لا إشكال. وأيضاً: هذا القول دال على تنزيه الله سبحانه وتعالى تنزيهاً تاماً عن الولد من غير إيهام لخلاف ذلك، فلا يوجد أي شيء من هذه الاحتمالات المبنية على أساس أن (إن) نافية، ولا يتوهم متوهم أن الله يمكن أن يكون له ولد أو أن يتخذ ولداً، فهذا الاحتمال أو هذا الإيهام غير وارد على الإطلاق. الأمر الثاني الذي يعين تفسير (إن) بمعنى (ما) النافية: أن تنزيه الله عن الولد بالعبارات التي لا إيهام فيها هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:4 - 5]. وفي سورة مريم قال تبارك وتعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:88 - 92]. والآيات التي ذكرناها في ذلك تبين أن (إن) نافية؛ لأن سياق آيات القرآن ونظام القرآن في كل الآيات عند نفي قضية الولد تأتي حاسمة وجازمة بنفيه بصورة ليس فيها أدنى إيهام. فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح، فلنسلك بهذه الآية نفس المسلك؛ لأن هذه الآية قد تنازع العلماء في تفسيرها، فيترجح القول الذي يتفق مع أسلوب القرآن الكريم في عدة آيات في الصرامة والوضوح الكامل في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وخير ما يفسر به القرآن القرآن. فعندما نقول: ما كان للرحمن ولد على أنها بصيغة النفي الصريح، فهذا مطابق لقوله تعالى في آخر سورة بني إسرائيل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111]. وقال تعالى في أول سورة الفرقان: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان:2]. وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91]. وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]. وقال عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:151 - 152]، إلى غير ذلك من الآيات. والعلامة الشنقيطي يتناول هذه المسألة تناولاً في غاية الروعة، وكتاب أضواء البيان من درر العلم وكنوزه النادرة، وفيه من التحقيقات ما لا يوجد في غيره. يقول: وأما على القول بأن (إن) شرطية، وأن قوله تعالى: ((فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ))، جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى. أي: أن هذا التفسير لا توجد آية واحدة تسانده. الأمر الثالث الذي يحتم القول بأن (إن) نافية هو: أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا يجب تنزيهه عن حمله على معانٍ محذورة لا يجوز القول بها. وإيضاح هذا: أنه على القول بأ

تفسير قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون)

تفسير قوله تعالى: (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) قال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف:82]. ((سُبْحَانَ)) مصدر يدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وإجلاله، ولما قال تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)) نزه نفسه تنزيهاً تاماً عما يصفونه به من نسبة الولد إليه، مبيناً أن رب السماوات والأرض ورب العرش جدير بالتنزيه عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.

تفسير قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا)

تفسير قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا) قال تبارك وتعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83]. ((فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا)) أي: في باطلهم، ((وَيَلْعَبُوا)) أي: في دنياهم، ((حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)) وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم، وهو يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84]. هذا مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الأنعام {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3]، يعني: هو الإله الحق المعبود بحق في السماوات وفي الأرض، ولا ينافي ذلك كون المشركين اتخذوا معه آلهة باطلة؛ لأن مآلهم مع هذه الآلهة هو الخلود في جهنم إلى الأبد، فهذه الآلهة آلهة باطلة، ولذلك فإن معنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وأما ما عدا الله من آلهة فهو باطل بلا شك. وقوله: ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ))، يعني: هو معبود في السماء ومعبود في الأرض، كما في آية الأنعام. ((وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)) أي: في تدبير خلقه وتسخريهم بما يشاء لمصالحهم.

تفسير قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض) قال تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف:85 - 86]. ((وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ)) يعني: لا يملك هؤلاء الذي يعبدونهم من دون الله أن يشفعوا لهم كما يزعمون. ((إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، أي: من آمن بالله فأقر بتوحيده وهم يعلمون حقيقة توحيده، أي: وحدوه وأخلصوا له على علم منهم ويقين، وهذا كقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. قال ابن كثير: هذا استثناء منقطع. أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. قال الشهاب: استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الشهادة لا تكون إلا عن علم، وأنها تجوز وإن لم يشهد.

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فإنى يؤفكون)

تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فإنى يؤفكون) قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87]. أي: ليقولن الله هو الذي خلقنا؛ لتعذر المكابرة من فرط ظهوره، وهذا أحد الأدلة الكثيرة التي تثبت أن المشركين كانوا يقولون: لا رب إلا الله، والنصارى يقولون: لا رب إلا الله، وهكذا جميع طوائف المشركين، حتى اليهود يقولون: لا رب إلا الله. وأبو جهل وأبو لهب كانا يقولان: لا رب إلا الله، وتوحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله التي تأتي من آثار ربوبيته، كالخلق والإحياء والإماتة والرزق، ونحو ذلك، فكل ما يأتي من الله إلى العباد فهو من أفعال الربوبية، فهم جميعاً كانوا يقرون أنه لا رب إلا الله، ولا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله وهكذا. فتوحيد الله في أفعاله عقيدة مشتركة بين كافة الأمم الكافرة، ولم يقص الله في القرآن عن أمة واحدة أنها أنكرت وجود الله، نعم منهم من أنكر البعث والنشور، كالدهريين الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، لكنهم لم ينكروا وجود الله. لكن بيت القصيد هو لا إله إلا الله، هذه هي القضية، فكلمة النجاة ليست: لا رب إلا الله؛ لما نرى هنا في هذه الآية: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ)) من ربهم الذي خلقهم؟ ((لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))، فهم يقرون بذلك. ((فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ))، أي: يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.

تفسير قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) قال تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88]. ((وَقِيلِهِ)) أي: قال محمد صلوات الله وسلامه عليه شاكياً إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذبوه وما يلقى منهم. وبعض العلماء عدوا هذه الآية من الآيات التي فيها خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيها القسم بقول النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك شيء آخر أيضاً من الخصائص في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فقوله: (لَعَمْرُكَ) يعني: وحياتك يا محمد؛ لأن لله سبحانه وتعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته وآياته العظيمة، وانظر إلى حب الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام، ولذا يحلف بحياته فيقول: لعمرك يا محمد! وهذا ما لم يحصل لنبي آخر من الأنبياء. وهنا أقسم الله سبحانه بقول محمد عليه الصلاة والسلام فقال: ((وَقِيلِهِ)) فإنه قال شاكياً إلى الله: ((يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)). وقيل: إن (قيله) معطوفة على ((وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)). فقوله: ((وَقِيلِهِ)) أي: قيل محمد صلوات الله عليه، شاكياً إلى ربه تبارك وتعالى قومه الذين كذبوه وما يلقى منهم: ((يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ))، أي: إن هؤلاء الذين أمرتني بإبلاغهم وأرسلتني إليهم لدعائهم إليك قوم لا يؤمنون بالتوحيد والرسالة واليوم الآخر، وهذا كقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].

تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) ثم قال تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]. هذا خطاب له صلى الله عليه وسلم، فادعاء أن الضمير عائد على عيسى عليه السلام لا دليل عليه، ولا وجه له، وما تضمنته هذه الآيات الكريمة من شكواه عليه الصلاة والسلام إلى ربه عدم إيمان قومه جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]. وقال موسى عليه السلام شاكياً قومه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان:22]. وقال نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح:5 - 6] إلى آخر الآيات. وقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89]، هذه الآية فيها قراءتان: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))، والقراءة الأخرى: ((فسوف تعلمون)). يقول الشنقيطي رحمه الله: هذه الآية الكريمة تضمنت ثلاثة أمور: الأول: أمره بالصفح عن الكفار. الثاني: أن يقول لهم: ((سَلامٌ)). الثالث: تهديد للكفار بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار. أما الأول: فقد أوضحه قوله تعالى: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ))، وقال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، وقال عز وجل: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48]، والصفح هو الإعراض عن المؤاخذة بالذنب، قال بعضهم: وهو أبلغ من العفو؛ لأن الصفح مشتق من صفحة العنق، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضاً عن عتابه فما فوقه. وأما الأمر الثاني: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ))، فقد بين تعالى أنه شأن عباده الطيبين، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم هو سيد الطيبين عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، وهناك كلمة في اللغة العربية على وزن المفاعلة، هي (المتاركة)، وهي أن يذهب كل في شأنه ويترك صاحبه، فهذا يعبر عنه بكلمة (المتاركة)، وهذا كما في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]، وكذلك قال: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]. وقال عز وجل عن إبراهيم أنه قال له أبوه: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46]، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]. ومعنى السلام في الآيات المذكورة: إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم ومن مجازاتهم لهم بالسوء، فلا يتعارض النهي عن بداءة اليهود والنصارى بالسلام مع الأمر هنا بالسلام؛ فالسلام هنا المقصود منه المتاركة، وليس المقصود التحية، فالمعنى: أخبر هؤلاء الكفار بأنك لن تمسهم بأذى، وأنك لن تجزيهم بالسوء يعني: سلمتم منا؛ فلا نسافهكم ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا. فمعنى (سلام): أننا لا نؤذيكم، فلا يجوز للإنسان أن يستعمل نفس الآية في المسافهة؛ لأن بعض الناس يريد أن يشتم خصمه ويصفه بالجهل، فيقول له: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين، وهو يقصد أن يصفه بالجهل، فهذه مسافهة، والمقصود بالآية: سلام عليكم أننا لن نؤذيكم، وهذه متاركة كما قلنا. وأذكر أن في إحدى المحاكمات القديمة كان القاضي يسرد أسماء بعض الناس ويقول له: مذنب أم غير مذنب؟ فكان البعض يرد على القاضي بقوله: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. وهذا في هذه الحالة ناقض المعنى الذي تدل عليه الآية، والله تعالى أعلم. أما الأمر الثالث الذي هو تهديد للكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة فقد قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]، وقال أيضاً: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67]، وقال: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:4 - 5]، وقال: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3 - 4]، وقال أيضاً عز وجل: {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:6 - 7]. وكثير من أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: ((فَاصْفَحْ عَنْهُمْ))، وما في معناه منسوخ بآيات الجهاد، وجماعة من المحققين يقولون: ليس بمنسوخ، والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة والإعراض عنهم وصف كريم وأدب سماوي لا يتعارض مع ذلك، والعلم عند الله تعالى. فحتى لو وصل الأمر في مواجهة الكفار إلى حد القتل، فلا يعني ذلك أن يكون الإنسان سيء الخلق، وألا يتحلى بمكارم الأخلاق، فالقتل في محل يجب فيه القتال، وأما الصفح عن الجهلة والصبر على آذاهم أو الإعراض عنهم فهو وصف كريم وأدب سماوي ليس مما يدخله النسخ؛ لأن هذا من محاسن الأخلاق، كالعفو والإعراض عن الجاهلين. قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الخاتمة من سورة الزخرف: ((فَاصْفَحْ)) أي: أعرض ((عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ)) لكم أو عليكم، أو أمري سلام، أي: متاركة، يقول القاسمي: فهو سلام متاركة لا تحية. وقال الرازي: احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر، ثم قال: إن صح هذا الاستدلال فإنه يوجب الاقتصار على مجرد قول: سلام، وأن يقال للمؤمن: سلام عليكم. والمقصود: التنبيه على التحية التي تنسب للمسلم والكافر، أي: فإن كان كافراً قلت: سلام، ولكن هذا الكلام الذي ذكره الرازي فيه نظر؛ لأنه جمود على الظاهر البحت هنا والغفلة عن نظائره، يعني: أن بعض الناس فهم من الآية أنك تقول للكافر: سلام فقط، لكن المسلم تقول له: سلام عليكم، وهذا فيه غفلة عن نظائره من القرآن، مثل قوله تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {سَلامٌ عَلَيْكَ} [مريم:47]، فإنه استعمل كلمة (عليك) لأبيه وهو كافر. وكذلك في الآية الأخرى في سورة القصص قال سبحانه: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، استعمل كلمة عليكم. على أن الأكثر على أن الخبر هنا محذوف، والتقدير: (فقل سلام): أي عليكم، والمقدر كالمذكور، والمحذوف لعلة كالثابت، فالصواب أن السلام للمتاركة. والله تعالى أعلم. فإذاً: هذا السلام سلام متاركة، وليس سلام تحية، فإذا قلنا: إنه سلام متاركة لم يحصل تعارض بين فهم هذه الآية وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام). فالظاهر تحريم مبادأة اليهود والنصارى بالسلام، إلا إن كان على صفة عامة، مثل قول الله تبارك وتعالى حاكياً كلام موسى عليه السلام: {وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47]، فيمكن إذا دخلت مجلساً فيه مسلمون وكفار أن تقول: السلام على من اتبع الهدى، وأنت تقصد المسلمين. وأيضاً: فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل الكتاب إلى هرقل سلم بقوله: (السلام على من اتبع الهدى). كذلك يمكن أن تقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أما مبادأة اليهود والنصارى بالسلام فإن ذلك لا يجوز، كما بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهل يجوز ابتداؤهم بغير السلام؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء؛ فبعض العلماء يقول: يجوز أن تقول للكافر: كيف حالك؟ ونحو ذلك وهناك رواية عن الإمام أحمد أنه قال: هذا أشد من السلام. وإن كان لا يوجد دليل على المنع من ذلك، لكن بعض العلماء قالوا: إذا هو بدأ بالسلام وأنت ترد التحية بمثلها فهنا يجوز أن ترد عليه بالسلام؛ لعموم قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]. وعلى أي الأحوال نرجو أن يأتي وقت آخر نفصل فيه أحكام السلام إن شاء الله تعالى. وقوله: ((فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))، أي: حقيقة ما أرسلت به في سمو الحق وزهوق الباطل. والحقيقة أن هناك كلاماً فيما يتعلق بإعراب قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ}. قال القاسمي: قرئ: (وقيلَه) بالنصب عطفاً على (سرهم ونجواهم) في قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، وهذا القول ضعيف؛ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، أو أنه معطوف على محل (ساعة)؛ في قوله: ((وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ))؛ لأنه مصدر مضاف لمفعوله، فهو في محل نصب، أو بإضمار فعل، أي: وقال قيلَه. وقرئ بالجر عطفاً على الساعة، أو أن الواو للقسم، والجواب محذوف، أي: لأفعلن بهم ما أريد، أو مذكور، وهو قوله: ((إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)). وقرئ بالرفع (وقيلُه) عطفاً على (علم الساعة) بتقدير مضاف، أي: وعنده قيله، أو مرفوع بالابتداء، وقوله: (يا رب) إلى آخره هو الخبر، أو أن الخبر محذوف، أي: وقيلُه كيت وكيت مسموع أو متقبل. والله أعلم. هذا آخر تفسير سورة الزخرف، ونشرع بعد ذلك إن شاء الله في تفسير سورة الدخان.

الدخان

تفسير سورة الدخان

تفسير قوله تعالى: (حم.

تفسير قوله تعالى: (حم. والكتاب المبين؟ إنا أنزلناه في ليلة مباركة) سورة الدخان سورة مكية، وآيها تسع وخمسون، وقد روي مرفوعاً: (من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك) وهذا الحديث منكر لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2] تقدم الكلام مراراً في الحروف المقطعة في أوائل السور. {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يعني: ليلة القدر التي قدر فيها سبحانه إنزال ذكره الحكيم، وكانت في رمضان، كما قال سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]. إذاً: وصف هذه الليلة بأنها أنزل فيها القرآن يفسره قوله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، ووصف الليلة بأنها مباركة أيضاً يفسره قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3]، ولا شك أن كونها خيراً من ألف شهر مظهر من مظاهر هذه البركة، كما أن إنزال القرآن فيها مظهر أيضاً من مظاهر كونها ليلة مباركة. قال ابن كثير: ومن قال: إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد النجعة؛ فإن نص القرآن أنها في رمضان، وما روي من الآثار في فضل ليلة النصف من شعبان لا تثبت، فهي ما بين مرسل وضعيف، وعلى فرض صحتها فهي لا تفيد أن القرآن نزل فيها، والبركة اليُمن، ولا ريب أنها كانت أبرك ليلة وأيمنها على العالمين، وذلك بتنزيل ما فيه الحكمة والهدى والنجاة من الضلال والردى. قال القاشاني: ووصفها بالمباركة لظهور الرحمة والبركة والهداية والعدالة في العالم بسببها، وازدياد رتبته صلى الله عليه وسلم وكماله بها، كما سماها ليلة القدر؛ لأن قدره وكماله إنما ظهر بها. قوله: (إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) أي: من خالف مقتضى الحكمة وقوة الدلائل، واختار المذام، وتذلل للهوى، ولم يكتف بهداية الله، ولم يقت روحه بقوت معارفه، وذلك لتقوم حجة الله على عباده.

تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم)

تفسير قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] أي: يفصل ويبين كل أمر تقتضيه الحكمة على وجه متين محمود عند الكمل، تقتات به أرواحهم، وترحم به نفوسهم. وهذه الآية تدل على نوع من أنواع القدر وهو التقدير الحولي؛ لأن ليلة القدر تأتي في الحول مرة في شهر رمضان، حيث يكتب في ليلة القدر موافقاً لما سبق به القضاء في اللوح المحفوظ ما يحصل من هذه السنة إلى السنة التي تليها؛ فإن هناك تقديراً عاماً قبل خلق السماوات والأرض، وهناك تقديراً يومياً ويدل عليه قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] وهذه التقادير لا تتناقض ولا تتعارض؛ لأنها كلها تكون متوافقة مع ما سبق به القدر في اللوح المحفوظ. قوله تعالى: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:5] نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا، على مقتضى حكمتنا، فبعدما فخّم الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، ووصفه بقوله: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:2]، فهذا بيان لفخامة القرآن الذاتية من حيث كونه كلام الله سبحانه وتعالى، ومن حيث كونه كتاباً مبيناً؛ أتبع ذلك ببيان فخامته الإضافية إلى الله. إذاً: قوله عز وجل: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} بيان لفخامته الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية. {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:6] أي: مرسلين إلى الناس رسولاً من أنفسهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ رحمة منه تعالى بهم لمسيس الحاجة إليه، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:6] السميع لدعوة حقائق الأشياء بمقتضياتها، (العليم) أي: بمقادير قابلياتها، فلا يبعد عليه الإرسال والإنزال.

تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض بل هم في شك يلعبون)

تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض بل هم في شك يلعبون) قال الله تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7]. قوله: (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدون اليقين، وليس معنى: (إن كنتم موقنين) يعني: إن كنتم متصفين باليقين؛ لأن الخطاب هنا يعم أيضاً الكافرين، فيقول أبو مسلم: (إن كنتم موقنين) أي: إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا، كقولهم: فلان منجد مسهم أي: يريد نجداً وسهاماً. انتهى. وقيل: معناه: (إن كنتم موقنين) بما تقرون به من أنه رب الجميع وخالقهم، وذلك بتوحيد الربوبية؛ فينبغي ألا تعبدوا إلا الله كما أنكم توقنون أن لا رب إلا الله، ولذلك أتبع الآية التالية بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان:8]. قال عز وجل: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان:9] أي: بل ليسوا بموقنين في إقرارهم بربوبيته؛ لأن الإيقان يستلزم قبول البرهان، فإنما يقولون هذا القول وهذا الإقرار على سبيل مزجه باللعب.

تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم)

تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم) قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:10 - 12]. قوله: (فارتقب) أي: انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل، ولا يستعمل الارتقاب إلا في أمر مكروه. يقول القاسمي: وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه:

الوجه الأول في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب)

الوجه الأول في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب) قال بعضهم: كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسني يوسف، يعني السبع العجاف التي قاد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام الحركة الاقتصادية في مصر وأخرجهم من الأزمة، فدعا عليهم عليه الصلاة والسلام أن يعاقبوا بسنين جدب وقحط كسني يوسف عليه السلام، فاستجاب الله سبحانه وتعالى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام على قريش فأخذوا بالمجاعة. ما علاقة ذلك الجدب بالدخان؟ قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان. كأن هذا عرض نفسي، كما يعبر في الأمراض النفسية بالهلوسة البصرية، وهو خلل في إدراك الأشياء، فيرى شيئاً معيناً نتيجة خلل أو اضطراب، وبعض الأدوية قد تحصل بها تلك الهلوسة للإنسان إذا استيقظ من النوم. روى ابن جرير عن مسروق قال: (كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جلوساً وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن! إن قاصاً عند أبواب كندة يقص، ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بنفوس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقام عبد الله وجلس وهو غضبان، فقال: يا أيها الناس! اتقوا الله! فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم: لا أعلم؟ فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)) [ص:86] إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من قريش إدباراً عن دعوته ورفضاً، قال: اللهم سبعاً كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حطت كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخاناً من الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال: يا محمد! إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، قال الله عز وجل: ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)) * ((يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)) * ((رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)) * ((أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ)) * ((ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ)) * ((إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ)) [الدخان:10 - 15] قال: فكشف عنهم). والحقيقة أن هذه الآية من الآيات التي اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها اختلافاً مشهوراً، ولذلك يهتم بها علماء التفسير اهتماماً خاصاً، فيفصلون الكلام فيها ويطيلون النفس، فهذا ابن مسعود يجزم بأن آية الدخان قد مضت في هذه المناسبة التي ذكرنا، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. إذاً: ابن مسعود كان يقطع بأن آية الدخان قد مضت، وهي الدخان الذي كان يراه أحدهم من شدة الجوع كأنه في السماء. قال ابن كثير: وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما. ثم قال: وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى جماعة من السلف كـ مجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: (ثم عادوا) وفي الآية: (إنكم عائدون). يعني: حينما يستجيب الله لدعاء نبيه فيكشف عنكم هذا العذاب سوف تعودون إلى الكفر من جديد، ولا توفون بما وعدتم به من الإيمان والطاعة. يقول: ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب حاضراً ذلك، فلذلك قال أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، لكن روي ما يدل على أن القصة المذكورة وقعت في المدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل جداً، والله المستعان. وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان على هذا معنيين: أحدهما: أن في سنة القحط يعظم اليبس بسبب انقطاع المطر، ويرتفع الغبار الكثير، ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان، ولذلك يقال لسنة المجاعة: الغبراء. ثانيهما: أن العرب يسمون الشر الغالب الكثير بالدخان، فيقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، يعني: حصل بسببه شر كثير أو شر غالب، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان. وقال الشهاب: الظاهر أن هذه التسمية استعارة؛ لأن الدخان مما يتأذى به، فأطلق على كل مؤذ يشبهه أو على ما يلزمه الدخان؛ ولذا قيل: تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان لا بد أن تكون هناك صفات غير مرغوبة في الإنسان، كالعود لا يفوح منه الريح الطيب إلا مع خروج الدخان فيه. يعني: أنه لا يوجد إنسان معصوم يسلم من الشر قط إلا الأنبياء. إذاً: هذا ما يتعلق بالوجه الأول في تفسير الآية على ما قاله وانتصر له وجزم به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو: أن الدخان آية حصلت ومضت وانقضت.

الوجه الثاني في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب)

الوجه الثاني في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب) الوجه الثاني في الآية: أن هذا الدخان المذكور في قوله: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد وهو آت، وهذا قول حذيفة رضي الله تعالى عنه، ويروى عن علي وابن عباس وجمع من التابعين. قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الوجه الأول: أن قوله: ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ)) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، فقوله: (يوم تأتي السماء بدخان) نص واضح وصريح على أن السماء نفسها سوف تأتي بدخان، ولا شك أن الأصل حمل الآية على الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة تصرفه عنها. إذاًَ: لفظ هذه الآية: ((يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة للعين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء، فهذا الشيء الذي يراه الجائع من شدة الجوع من ظلمة أو غبراء لا يطلق عليه دخان، ولا ينطبق عليه قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين). (يَغْشَى النَّاسَ) فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل يرجح هذا التأويل، وهذا لا يجوز. الوجه الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً يقول عز وجل: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك؛ لأنها حالة عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً. الوجه الثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس، قال تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل. الوجه الرابع: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من عده الدخان من الآيات المنتظرة، فقد ثبت في الأحاديث أن الدخان من الآيات المنتظرة ومن أشراط الساعة. والقول الأول لا شك أنه يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً. فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى قص عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام الأمر؛ فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى ذلك عنهم رجعوا إلى شركهم؛ ولأننا إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ. نقول: هذا كلام أيضاً فيه نظر، ويجاب عنه: ما المستغرب أنها تكون آية من آيات القيامة ومن أشراط الساعة، وأنهم إذا نزلت بهم يقولون: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيقول الله لهم بعدما يصيبهم هذا العذاب أو هذا الدخان: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15] أي: رغم كشفنا عنكم هذا العذاب، فهل هذا فيه أي إشكال؟! ليس فيه أي إشكال، إلا في حالة واحدة وهي لو كانت هذه العلامة مثل: علامة طلوع الشمس من مغربها حيث يغلق باب التوبة ولا يستجاب لهم في مثل ذلك، لكن لم يأت دليل على أن آية الدخان مثل هذه العلامة، فلا إشكال في كون العذاب يقع عليهم كما أخبر الله ويدعون الله قائلين: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) ويقول الله لهم: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون). ثم يقول: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فإن عامة علامات القيامة لا توجب انقطاع التكليف، فخروج المهدي مثلاً لا يوجب انقطاع التكليف على النفس، ونزول المسيح عليه الصلاة والسلام لا يوجب انقطاع التكليف، وغير ذلك من أشراط الساعة التي لا توجب انقطاع التكليف، بل الناس يخافون جداً فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه، والله تعالى أعلم. وقد رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرها التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة. فـ ابن عباس يخالف قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في مجموعة أخرى من الصحابة والتابعين. إذاً: قول ابن عباس لا شك أنه ظاهر القرآن، وهو أن قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} من علامات الساعة، أي: دخان بين واضح يراه كل أحد، أما على تفسير ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فليس بدخان بيّن حقيقي وإنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، لكن قوله تعالى: {يَغْشَى النَّاسَ} يعني: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يغشى الناس) أي: عامة الناس، أما ما حصل لأهل مكة فكان في الكافرين. قوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: (هذا عذاب أليم)، كقوله عز وجل: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:13 - 14] أي: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون)، أو يقول بعضهم لبعض: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون). وقوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] أي يقول الكافرون ذلك إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، وكذا أيضاً قوله تعالى: {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44]، وهكذا هنا حين قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12] قال لهم الله سبحانه وتعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان:13] أي: كيف لهم في التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14] أي: ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون، كقوله جلت عظمته: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23]، وكقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [سبأ:51] إلى آخر سورة سبأ. ثم قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15] هنا معنيان: أحدهما: أنه تعالى يقول: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75]، وكقوله جلت عظمته: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]. المعنى الثاني: أن يكون المراد بقوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً) أي: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من كشف العذاب عنهم أن يكون العذاب قد نزل بهم بالفعل، وإنما يكون العذاب قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم ثم كشفه الله عنهم وإن لم ينزل بهم، وذلك مثل قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فقوم يونس لم ينزل بهم العذاب ثم كشفه الله عنهم، وإنما كانوا قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى استثناهم من سنته، وإلا فأي أمة استحقت العذاب فلا بد أن يصيبها العذاب. إذاً: قوم يونس لما آمنوا حينما استحقوا العذاب عوملوا معاملة استثنائية، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، فلم يكن العذاب قد اتصل بهم، وهذا هو الشاهد على أن قوله: ((إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ)) لا يستلزم أن يكون العذاب قد باشرهم واتصل بهم، وإنما قد يكون المعنى: أن العذاب قد انعقدت أسبابه بعد أن استحقوه. يقول القاسمي رحمه الله: ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ ي

الوجه الثالث في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب)

الوجه الثالث في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب) قال القاسمي: وأما الوجه الثالث في الآية: فروى ابن أبي حاتم بسنده عن عبد الرحمن الأعرج في قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين) قال: كان يوم فتح مكة. أي: أن هذا الدخان المبين كان يوم فتح مكة. قال ابن كثير: وهذا القول غريب جداً، بل منكر. ومثل هذا القول لم يرو مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ترجمان القرآن أو غيره من الصحب، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له وصدقها عليه، لاسيما وأن قوله تعالى في آخر السورة: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] يفهم منه أن هذا وعد بظهوره عليه الصلاة والسلام على هؤلاء الكفار، وكان ذلك بالفعل يوم الفتح، وحينئذ فمعنى قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ} [الدخان:15] أي: ما ينزل بهم يومئذ برفع القتل والأسر عنهم. قوله: (إنكم عائدون) أي: إلى لقاء الله ومجازاته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب عليهم الرضوان اهتماماً في معناها، وعناية في البحث عن المراد منها، حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه، وعلي وابن عباس وحذيفة على وجه آخر على ما أسند عنهم من طرق، ولعمر الحق! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية، وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار، وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم وإيثاره من الألفاظ أرقها وأوجزها.

تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون)

تفسير قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) قال الله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]. قوله: (يوم نبطش البطشة الكبرى) فسرها ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول من وافق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه من رواية العوفي عنه، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه، وهو محتمل. يقول القاسمي: والظاهر أن ذلك يكون يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة. وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الدخان:17]. (ولقد فتنا) أي: ابتلينا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون، وذلك بإرسال موسى عليه السلام إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر على الإيمان. قوله: (وجاءهم رسول كريم) أي: كريم على الله وكريم على المؤمنين، أو كريم في نفسه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:18] أي: قال موسى عليه السلام مخاطباً فرعون وقومه: أرسلوا معي بني إسرائيل. قوله: (عباد الله) يحتمل في إعرابها أن قوله: (عباد الله) منادى حذفت أداة ندائه، أي: يا عباد الله، لكن الأرجح أن قوله: (عباد الله) مفعول به، أي: أرسلوا أو ابذلوا إلي عباد الله، بدليل آية طه: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} [طه:47] فهي تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله)، كذلك قوله في الآية الأخرى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:17]، فهذه تفسر قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أنها مفعول به منصوب، ولفظ الجلالة مضاف إليه. قوله: (أن أدوا إلي عباد الله) أي: أرسلوا معي بني إسرائيل؛ لأسير بهم إلى بلادنا الأولى، وأطلقوهم من أسركم وحبسكم، فإنهم قوم أحرار، وأنتم أذللتموهم واستعبدتموهم، فهم رفضوا هذه الديار وكرهوا هذا الضيم وهذا الذل، فأطلقوهم من هذا الحبس وهذا الظلم. قوله: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي: على وحيه ورسالته التي حملنيها إليكم؛ لأنذركم بأسه إن عصيتم. قوله تعالى: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان:19] أي: لا تعلوا على الله بإنكار ربوبيته، ودعوى الربوبية لأنفسكم وتكذيب رسوله. قوله: (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: حجة واضحة على ربوبية الله ونبذ ربوبيتكم، وعلى رسالتي، وعلى أن بني إسرائيل عباده. قوله تعالى: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان:20] أي: اعتصمت به من رجمكم -يعني: القتل-، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه. وهكذا قوة التوكل على الله سبحانه وتعالى، كما في مواقف أخرى لموسى عليه السلام حينما أتى مع قومه البحر وطاردتهم جيوش فرعون، قال قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62] منتهى الثقة والتوكل على الله سبحانه وتعالى، وهكذا هنا قال: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) أي: اعتصمت به من أن ترجموني أو تقتلوني، فعصمني فلا ينالني منكم مكروه، وقصد بهذا الكلام إظهار مزيد شجاعته وثباته في موقف تضطرب فيه الأفئدة، وتزل الأقدام خوفاً ورعباً، وما ذاك إلا لإيوائه إلى عصمة الله سبحانه وتعالى وتأييده. قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان:21] أي: فكونوا بمعزل عني فلست بموال منكم أحداً.

تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء مجرمون إنهم جند مغرقون)

تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء مجرمون إنهم جند مغرقون) قال الله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ} [الدخان:22] أي: لما امتنعوا عن إجابة موسى عليه السلام دعا ربه (أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي: مشركون مفسدون. قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [الدخان:23] أي: فأجاب الله سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بأن سر بقومك ليلاً. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي: أن فرعون وقومه من القبط متبعوكم إذا خرجتم عن بلدهم وأرضهم ليرجعوكم. قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24] قوله: (رهواً) أي: إذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكناً على حاله التي كان عليها حين دخلته ولا تضربه بعصاك؛ ليدخله القبط فيغرقون.

تفسير قوله تعالى: (كم تركوا من جنات ونعيم وأورثناها قوما آخرين)

تفسير قوله تعالى: (كم تركوا من جنات ونعيم وأورثناها قوماً آخرين) قال الله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] أي: بعد إهلاكهم بالغرق تركوا بساتين وعيوناً يسقى منها ويتنعم بالنظر فيها، هذا في التفكه والتنزه. قوله تعالى: {وَزُرُوعٍ} [الدخان:26] أي: مزارع قائمة مليئة وحافلة بالأقوات. قوله: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان:26] أي: محافل مزينة ومنازل مزخرفة. قوله تعالى: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان:27] أي: متنعمين بهذه النعمة من النساء والأموال والحشم وما لا يحصى من المشتهيات. وقوله: (كم) هنا للتكثير، أي: أخرجناهم مثل هذا الإخراج، فالجار والمجرور صفة مصدر مفهوم من الترك، أو هو خبر محذوف يعني: الأمر كذلك، والمراد به التأكيد والتقرير. قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان:28] يعني: من خلفهم بعد مهلكهم.

تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض)

تفسير قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والأرض) قال الله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]. قال الزمخشري: إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلمت له الشمس، فيقول الشاعر: فالريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامة يعني: حزناً على هذا الرجل الخطير المهم الذي مات. وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: فالشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا أي: تبكي عليك نجوم الليل وكذلك القمر يبكي معها. وقالت الخارجية ليلى بنت طريف الشيباني ترثي أخاها الوليد: أيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع على ابن طريف يقول: وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه. والقاسمي شرح ما ورد من الآثار عن بعض الصحابة أو السلف في تفسيرها على أنها تعبير لغوي عند العرب، يعبرون به عن شدة المصيبة التي نزلت بموت هذا الخطير، فيقول: وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء؛ فهو تمثيل. ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ) فيه تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم قتله، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض. وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين. يعني: ما بكى عليهم أهل السماء وهم الملائكة وأهل الأرض وهم المؤمنون. أما القول الذي صدر به القاسمي تفسيره فعجيب، وهو -أي: القاسمي - مع سلفيته القوية الواضحة يجنح أحياناً إلى القول بالمجاز كما في هذه الآية، ما الذي يمنع من أن يكون هناك بكاء حقيقي للسماوات والأرض من حيث النصوص؟ وقد دلت النصوص أن السماء والأرض تسبح: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]. إذاً: لا يوجد شيء يمنع أبداً من أن يخلق الله سبحانه وتعالى في الجمادات إدراكاً تدرك به بعض هذه الأشياء، والكلام في هذه المسألة مستوعب بتفصيل كبير في كتاب (عبودية الكائنات) للأخ الشيخ فريد التوني، ففيه نقد لكل هذه المناحي التأويلية أو المجازية في نظائر ذلك من آيات القرآن الكريم، فعلى الأقل يقال: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} يعني: ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض، أما أن يقال: إن هذا مجرد مجاز أو تمثيل فهذا مبني على استبعاد أن يحصل هذا حقيقة، وقد ثبت أن الجذع قد حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى لفراقه، حتى نزل من المنبر وضمه إليه حتى هدأ، فهذا جذع حن لفقد النبي عليه الصلاة والسلام، والآيات كثيرة في مثل هذه المعاني، وننصح الإخوة بمراجعة كتاب ((عبودية الكائنات)) فإنه استوفى البحث في هذه الآية ومظاهرها. قوله: (وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) أي: مؤخرين بالعقوبة، بل عوجلوا بها زيادة سخط عليهم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان:30] يعني: بالعذاب المهين: استعباد فرعون وقتله أبناءهم. قوله تعالى: {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان:31] إعراب: (من فرعون) بدل من العذاب على حذف مضاف، يعني: من عذاب فرعون، أو جعله عذاباً مهيناً مبالغة لإفراطه في التعذيب، يعني: كأن فرعون نفسه هو العذاب، أو يكون فرعون حالاً من المهين، بمعنى: هذا العذاب المهين واقع من جهة فرعون. قوله: (إنه كان عالياً) أي: متكبراً على الناس، وكلمة الفراعنة مرتبطة بالتعالي والتجبر والعلو في الأرض. قوله: (من المسرفين) أي: المتجاوزين الحد في العتو والشر.

تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) قال الله تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]. قوله: (ولقد اخترناهم) أي: فضلنا بني إسرائيل على العالمين، وليس لبني إسرائيل في هذا الزمان أو المنسوبين إليهم أن يفرحوا بمثل هذه الآية، ويستدلوا بها في أروقة الأمم المتحدة على أن القرآن يمدحهم، وأن القرآن يثبت أحقيتهم بفلسطين، كلا، فإن هؤلاء الذين يمدحهم الله سبحانه وتعالى في القرآن هم المؤمنون من بني إسرائيل، وهم إخواننا وهم مسلمون مثلنا، فهؤلاء المؤمنون لو عاشوا في هذا الزمان لقاتلوا مع المسلمين هؤلاء اليهود. فأي آية فيها تفضيل بني إسرائيل على العالمين فهي مقيدة وليست مطلقة، أي: فضلوا على عالمي زمانهم فقط، أما الأمة المفضلة على جميع العالمين فهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فكنتم هنا بمعنى: أنتم. قوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ) أي: بني إسرائيل. قوله: (عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي: فضلناهم لأجل علم معهم على عالم زمانهم، أو فضلناهم على علم منا بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويؤثروا ويفضلوا، فهذا مدح لبني إسرائيل المؤمنين الذين آمنوا بموسى عليه السلام، وهؤلاء كانوا مسلمين موحدين، وهؤلاء لو أدركوا محمداً عليه السلام لآمنوا به وأسلموا ودخلوا في دينه. قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ} [الدخان:33] يعني: زيادة على اختيارهم وتفضيلهم، آتيناهم زيادة على ذلك. (مِنَ الآيَاتِ) أي: المعجزات والكرامات. (مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ) بلاء: نعمة ظاهرة؛ لأنها حجة واضحة على أعدائهم.

تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون.

تفسير قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون. إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين) قال الله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} [الدخان:34 - 35]. (إن هؤلاء) مشركي مكة (لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) أي: الموتة التي يموتونها بعد وجودهم هنا في الدنيا. قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) كأنهم أرادوا إن هي إلا موتتنا هذه التي سوف نموتها، لكن هل يفهم من هذا التعبير أن المشركين يثبتون موتة ثانية؟ لا، لكن المقصود (إن هي إلا موتتنا الأولى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه فقط. قال العلامة الأسنوي في التمهيد: الأول في اللغة: ابتداء الشيء. إذاً: الشيء الذي يبدأ قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول -مثلاً- لشخص اشتغل في الصباح فقابلته فسألته: كم معك مدخول؟ قال: هذا أول ما اكتسبته، هل معنى ذلك أنه لا بد أن يكتسب بعد ذلك شيئاً؟ لا، قد يكتسب وقد لا يكتسب، فهذا يدل على الأولية فقط. ومن فروع المسألة فرع فقهي يترتب على هذا الفهم، وهو لو أن رجلاً قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإذا ولدت هذا الذكر أتطلق أم لا تطلق؟ تطلق. لكن للأسف الشديد نحن علمنا الناس وحفظناهم في مسألة الطلاق أنه إذا سأل شخص عن مسألة طلاق أن يقال له: نيتك كانت ماذا؟ وأصبح الواحد يُسأل هذا السؤال وهو قد أتى بمصيبة كبرى ويقول: لم تكن نيتي طلاقاً! فنحن الذين علمنا الناس، وكذلك علمناهم مسألة الطلاق حال الغضب، وأن الغضب قد يكون عذراً، وما أكثر المفاسد المترتبة على هذا! نحن نقول في طلاق الكناية: اسأله عن النية، لكن من أتى بلفظ صريح فإنه يقع به الطلاق، كأن يقول لها: أنت طالق، أو كان الطلاق معلقاً بشرط ووقع الشرط؛ فحينئذ يقع الطلاق، وموضوع النية يكون في طلاق الكناية، كالحقي بأهلك مثلاً، أو غير ذلك من العبارات التي تفتقر إلى استبيان النية من الشخص، ويجب أن يكون صادقاً في الإجابة؛ لأن الله سيحاسبه على ما في قلبه، فموضوع النية لا بد أن يوضع له حد، وكذلك الكلام في موضوع الغضب، وهذه لفتة عابرة، ونعود لموضوعنا؛ من فروع المسألة أنه لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق، فإنها تطلق إذا ولدت هذا الولد وإن لم تلد غيره باتفاق العلماء؛ لأنه قال: أول ولد، ولا يقال: ننظر الثاني فقد يكون أنثى، لا؛ لأنه لا يشترط، وقد تلد مرة ثانية وقد لا تلد؛ لأن كلمة أول هي مجرد ابتداء الولادة بدون ارتباطها بكونها تلد ثانياً أو ثالثاً. قال أبو علي: اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولاً أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط ألا يتقدم عليه غيره. قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى) يعني: إن هي إلا موتتنا هذه التي ستحصل لنا في الدنيا، والمشركون لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية. قوله: (وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ) أي: وما نحن بمبعوثين، وهذا يؤيد أن المشركين لا يعتقدون أن هناك موتة ثانية؛ لأنهم لو كانوا يعتقدون أن هناك موتة ثم حياة لما أنكروا البعث والنشور، فقوله: (وما نحن بمنشرين) يدل على أنهم يعتقدون أن هذه الموتة لا شيء بعدها: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].

تفسير قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين إنهم كانوا مجرمين)

تفسير قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين إنهم كانوا مجرمين) قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان:36] أي: إن كنتم صادقين في أننا نبعث بعد بلائنا من قبورنا (فأتوا بآبائنا) أي: أحضروا لنا آباءنا. قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في دار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً. ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم من المشركين فقال سبحانه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان:37]. قوله: (أهم خير) أي: في القوة والمنعة. قوله: (أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) أي: أهلكناهم بجرمهم وفحشهم وفسادهم، وهم ما هم من حيث القوة والرخاء وكذا وكذا، فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ أهلكهم الله عز وجل، وفرقهم في البلاد شذر مذر، كما تقدم في سورة سبأ. وقد ذكر تبع في القرآن مرتين هنا وفي سورة (ق)، وتبع من الصالحين الذين ورد ذكرهم في القرآن واختلف في إثبات نبوتهم، كـ ذي القرنين وكالخضر ونحو ذلك، فالأفضل في أمر ذي القرنين وتبع أن يتوقف الإنسان في إثبات النبوة لهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الحاكم والبيهقي وصححه، وهو صحيح: (ما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري أذو القرنين نبي أم لا؟)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوقف فنحن قطعاً لا بد أن نتوقف، وإن كان البعض من السلف خاضوا وناقشوا هذه القضية، لكن إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو مصدر العلم بالنسبة لنا لا يدري فنحن أحرى ألا ندري. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: كانوا عرباً من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافراً -يعني: لا يوصف حاكم مصر بأنه فرعون إلا إذا كان كافراً- والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل -يعني: كانوا يقرونه ويبذلون له القرى الذي يقدم للضيف من الطعام والإكرام بالليل-؛ لأنهم كانوا يرون هذا واجباً عليهم؛ لأنهم عرب كرام -فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما- أخذ الحبرين اليهوديين- معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر، ثم كر راجعاً إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن. وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه ((السيرة)) وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر ابن عساكر أنه ملك دمشق، وساق ما روي في النهي عن لعنه. قال ابن كثير: وكأنه -والله أعلم- كان كافراً ثم أسلم، وتابع دين الكليم عليه السلام على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق، قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه، ثم عاد إلى اليمن، وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله، وعبد الله بن سلام هو أثبت وأكبر وأعلم، وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ. ثم قال: وتبع هذا هو تبع الأوسط واسمه أسعد أبو كريب، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف، وكان ممن يحفظ هذا الشعر أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره، وهو: شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت عن صدره كل غم ثم ساق ابن كثير آثاراً في النهي عن سبه. وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروية في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح إلا أن ذلك مما يجوز التوسع فيه؛ لأنه عبارة عن خبر محض لا يتضمن حكماً شرعياً، لكن يؤكد حقيقة أخرى وهي أن تبعاً كان له خبر متواتر عند قريش يتناقلونه جيلاً بعد جيل، وكان خبراً عظيماً بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال مخاطباً قريشاً: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) يعني: قوم تبع الذين تعرفونهم وتسمرون بأخبارهم، وتتناقلون أخبارهم جيلاً بعد جيل، فيفهم من قوله: (أهم خير أم قوم تبع) أن المخاطبين وهم قريش يعرفون من هو تبع، بل يعرفون خبر تبع، وأنه أقوى منهم وأملك منهم في كل شيء، فإذا كان قوم تبع مع قوتهم وشدتهم لما كفروا أهلكهم الله، أفلا يهلك قريشاً إذا سارت على درب الكفر؟! لا شك أن قريشاً كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به في شأنه، وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا جعل ذلك خبراً من الأخبار وسمراً من الأسمار كما هو السر في أمثال نبئه، وبالله التوفيق.

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين)

تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38 - 39] أي: خلق الله السماوات والأرض وبث فيهما من آياته؛ ليستدل العباد بهذه الآيات على توحيد الله سبحانه وتعالى، وينقادوا إلى طاعته وعبادته. قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:39] أي: لا يعلمون حكمة خلقها؛ ولذا يعرضون عنه سبحانه.

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين)

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) قال الله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40] أي: فصل الله بين الخلائق ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شر. قوله تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:41] أي: للإثابة أو تحمل عقاب، كقوله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42] أي: بأن وفقه للإيمان والعمل الصالح. قوله: (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي: الغالب في انتقامه من أعدائه. قوله: (الرَّحِيمُ) أي: بأوليائه وأهل طاعته.

تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم)

تفسير قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) قال الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} [الدخان:43] أي: التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية. قوله تعالى: {طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:44] أي: الفاجر الكثير الآثام. قوله تعالى: {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] قوله: ((كالمهل)) وهو دردي الزيت، كما تقول العرب: أول الدن دردي، أو أول القصيدة كفر كما يقولون، يعني: إذا كان الدن الذي فيه زيت دردياً ممتلئاً بالقاذورات والخبائث فماذا سيكون في أسفل الدن؟! قوله: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) أي: يضطرب في البطون من شدة الحرارة فيحرقها. قوله: ((في البطون)) كقوله الله سبحانه وتعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:6 - 7]. وكذلك آيات الصافات: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:62 - 67]. قوله تعالى: {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] أي: الماء الحار الذي انتهى غليانه. قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] العتل: هو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر كعتل البعير. قوله: ((خذوه فاعتلوه)) يعني: جروه وادفعوه بعنف. قوله: ((إلى سواء الجحيم)) أي: وسطها ومعظمها. قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها، لم يقل: صبوا فوق رجليه؛ لأنه إذا صب على الرجلين سيصيب الرجلين فقط، لكن لما يصب من فوق الرأس فإنه يصيب جميع البدن، فينال كل جزء من البدن نصيبه من العذاب عافانا الله وإياكم منه. قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] أي يقال له: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يقال له ذلك على سبيل الهزء والتهكم، فيتم له مع العذاب الحسي بالنار العذاب النفسي والعقلي والعياذ بالله. فقوله: ((ذق إنك أنت العزيز الكريم)) فيه توبيخ وتقريع وتأنيب واستهزاء وتهكم به. قوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ قيل في تفسيرها: ذق بأنك أنت العزيز الكريم، أو لأنك العزيز الكريم؛ لأن أبا جهل -كما روي- لقي النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما معناه: لا تستطيع أن تفعل أنت ولا ربك لي شيئاً؛ فإنه ليس في قريش أعز مني ولا أكرم. فقال بعض المفسرين: إن هذا خطاب لـ أبي جهل ومن كان مثله، فإنه يقال له يوم القيامة: ((ذق إنك أنت العزيز الكريم)) يعني: بزعمك كما قال قوم شعيب له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] على أحد التفسيرين: أنهم أرادوا الاستهزاء به؛ لأنهم يقصدون -والعياذ بالله- وصفه بأنه سفيه جاهل. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:50] أي: هذا العذاب أو هذا الأمر ما كنتم تشكون فيه مع ظهور دلائله، أو تتمارون وتتلاحون وتتجادلون وتناقشون فيه.

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين)

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين) قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] أي: يأمن صاحبه من الخوف والفزع. {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان:52 - 53] قوله: ((سندس وإستبرق)) يعني: ما رق من الحرير وما غلظ من الديباج. ((متقابلين)) أي: في مجالسهم أو أماكنهم؛ لحسن ترتيب الغرف وتصفيف منازلهم كالإخوة يتجالسون مواجهة؛ لأنه قال في سورة الحجر: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] أي: قرناهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم لوصولهم بمحبوبهم، وحصولهم على كمال مرادهم. قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55] قوله: ((يدعون فيها بكل فاكهة)) أي: يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه. قوله: ((آمنين)) من كل ضرر. قوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] قال ابن جرير: أي: لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا. وكان بعض أهل العربية يوجه (إلا) هنا بمعنى سوى، أي: سوى الموتة الأولى فلا يذوقون الموت بعد ذلك، يعني: أن الاستثناء منقطع، ((ووقاهم عذاب الجحيم)). ثم قال تعالى: {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان:57].

تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون)

تفسير قوله تعالى: (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان:58] يعني: سهلناه حيث أنزلناه بلغتك. قوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي: يتعظون بعبره وعظاته وحججه؛ فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق.

تفسير قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون)

تفسير قوله تعالى: (فارتقب إنهم مرتقبون) قال الله تعالى: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:59] أي: ما يحل بهم من عذاب بسبب باطلهم. قوله: ((إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)) أي: منتظرون عند أنفسهم غلبتك، أو المقصود بقوله: ((إنهم مرتقبون)) ما ورد في قوله تعالى: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] فهم يرتقبون موتك، فارتقب كما قال تعالى: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52] أنتم انتظروا ونحن سننتظر، وسنعلم لمن تكون العاقبة: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:42]. فقوله تبارك وتعالى هنا: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} وعد له صلى الله عليه وسلم بالنصرة والفتح عليهم، ووعيد لهم، وقد أنجز الله وعده، كما قال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].

الجاثية [1 - 20]

تفسير سورة الجاثية [1 - 20]

بين يدي سورة الجاثية

بين يدي سورة الجاثية سورة الجاثية تسمى سورة الشريعة؛ لقوله تعالى فيها: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:18]. أما تسميتها بالجاثية؛ فلتضمن آياتها بيان أن سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة اجتماع الأمم للمحاكمة أمام الله سبحانه وتعالى، وفصله بينهم يوم القيامة، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الأمم أنها تكون جاثية حينئذ فقال: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية:28]، وهذه من المطالب الشريفة في القرآن الكريم. وتسمى سورة الشريعة؛ لتضمن آياتها وجه نسخ هذه الشريعة سائر الشرائع، {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، فسميت الشريعة أيضاً؛ لأن نفس هذه الآية التي ذكر فيها لفظ الشريعة تثبت أن هذه الشريعة ناسخة لما قبلها من الشرائع؛ لفضلها وتقدمها عليها، وهذه أيضاً من المطالب العزيزة في القرآن الكريم. وهذه السورة مكية، واستثنى بعضهم منها آية: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ} [الجاثية:14]، فقد قيل: إنها مدنية نزلت في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: إن هذا الأثر لا يصح. أي: لا يصح أن الآية نزلت في هذا الشأن كما سنبين إن شاء الله تعالى. وآياتها سبع وثلاثون آية.

تفسير قوله تعالى: (حم فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (حم فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:1 - 6]. قال المهايمي: فعزته تقتضي: إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها، وأنواع السعادات، وحدة النظر، والحكمة تقتضي: محو الشبه، وإزالة المخاوف، وإحراق الشقاوة، وتهذيب الفكر. وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته؛ لتشمير القوة النظرية والعملية؛ لنتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية من الإيمان والإيقان والعقل، وذلك إنما يكون بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ورفع الشبه، فمنها آيات الأجسام. يقول عز وجل: {إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:3 - 5]. حذف حرف الجر الذي تكرر في الآيتين السابقتين: (إن في السموات والأرض) (وفي خلقكم)، ثم قال: (واختلاف الليل والنهار)؛ لتقدم ذكره. وأنشد سيبويه في الحذف: أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل ناراً يعني: وكل نار توقد بالليل ناراً، فهذا شاهد الحذف. قوله تعالى: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ)) أي: مطر، وسمي رزقاً؛ لأنه سببه. (فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) أي: عن الله ما وعظهم به ودعاهم إليه. قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]. (تلك آيات الله)، الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته. (نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)، أي: بعد الله وبعد آياته ودلائله الباهرة. وتقديم اسم الله للمبالغة والتعظيم، كما في قولك: أعجبني زيد وكرمه.

كلام الشنقيطي على صدر سورة الجاثية

كلام الشنقيطي على صدر سورة الجاثية وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره من صدر هذه السورة: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات من أول سورة الجاثية ستة براهين من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده. الأول منها: خلقه السماوات والأرض. الثاني: خلقه الناس لقوله: (وفي خلقكم). الثالث: خلقه الدواب. الرابع: اختلاف الليل والنهار. الخامس: إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به. السادس: تصريف الرياح. وذكر أن هذه الآيات والبراهين إنما ينتفع بها المؤمنون الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه وآياته، فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم، ولذا قال: (لآيات للمؤمنين)، ثم قال: (آيات لقوم يوقنون)، ثم قال: (آيات لقوم يعقلون). وذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيل هذه الآيات كما بينتها المواضع الأخرى من القرآن الكريم. ونتوقف فقط عند أحد هذه الأدلة وهو الخامس منها؛ لأن الكلام تكرر عما سبق من قبل مراراً، فنتكلم عن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به، وإنبات الرزق فيها، كما في قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، فقد بينته آيات أخرى من القرآن الكريم، كقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:24 - 28]، إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32]، وهذه الآية تدل على وجوب النظر والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، وقوله: (فلينظر) أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه الذي يأكله ويعيش به، إنما هو من خلق الله الذي كان سبباً لنباته، وهل يقدر أحد غير الله سبحانه وتعالى أن يخلق هذا النبات أو الماء أو البذر الذي كان منه هذا الخبز؟ A لا. ثم هب أن الماء الذي كان سبباً لحياة النبات قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض حتى تروى به الأرض تدريجياً من غير أن يحصل به هدم ولا غرق، كما قال تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]؟ A لا. لا توجد قوة بشرية تتحكم في الماء الذي هو سبب أساسي جداً بالنسبة لحياة كل الكائنات الحية، فما هي إلا رحمة الله سبحانه وتعالى. هذا الهواء الذي نتنفسه متاع لجميع الناس، هل هناك شركة تصرف لنا الهواء الذي نتنفسه؟ تخيل لو أن أحداً من البشر يملك خزائن رحمة الله سواء من الهواء الذي نتنفسه، أو من الماء الذي نشربه ونحيا به إلى غير ذلك من هذه النعم العامة! ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً وأنزل في الأرض على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض ويخرج منها من ثمار النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أنك وضعت البذرة في وضع غير الوضع الذي ينبغي أن تكون عليه في التربة، فسوف تجدها بعد حين اعتدلت وأخذت الوضع الصحيح، بحيث أن الجذر يتجه إلى أسفل، والساق يتجه للأعلى، من الذي يفعل هذا؟ إنه الله سبحانه وتعالى. ثم هب أن النبات خرج من الأرض فانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ هذه كلها من آيات الله سبحانه وتعالى التي يجب علينا أن نمتثل أمره الواجب في التفكر فيها، (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، فواجب وفريضة وحتم ولازم أن نتفكر في هذه النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى علينا. فلابد أننا نلتفت إلى أن هناك قوة، فكل هذه الأشياء لا تحصل بدون مدبر وصانع، وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه وراء كل مظاهر كل شيء في هذا الوجود، فلا حول ولا قوة إلا بالله. فأي نبات أو أي حركة في هذه الدنيا وفي هذا العالم إنما هي بإرادة الله وبقوة الله عز وجل ومشيئته، فالناس ينظرون إلى النبات وهو ينمو، لكن يجب أن نتفكر ما الذي يُنمِّي هذا النبات؟ هي قوة الله سبحانه وتعالى. الجنين ينمو فمن الذي ينميه من نطفة من ماء مهين، فيجعله بشراً سوياً؟ إنها قوة الله سبحانه وتعالى. ولذلك تحداهم الله عز وجل فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74]، تحداهم الله سبحانه وتعالى، وقطع بأنهم يعجزون عن الخلق، ولذلك جزم بقوله: (لن يخلقوا ذباباً)، الذي هو أهون شيء، (ولو اجتمعوا له)، وهذا التحدي قائم إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة، لن يستطيعوا أبداً أن يخلقوا شيئاً مهما كان هذا الشيء حقيراً، بل إن من أخطر وأضر مخلوقات الله التي نعرفها الفيروسات، انظر كيف تأتي بالدمار وبالأمراض الخطيرة جداً مع أنها من الكائنات الدقيقة، ومع ذلك هي جند من جنود الله يسلطها على أعدائه المتمردين عليه. فالشاهد: أننا لابد أن نلتفت إلى هذه القوة، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه تفكير المؤمن؛ أن ينسب هذه القوة التي لا نراها -لكن نحس أثرها- إلى فعل الله عز وجل. يقول: ثم هب أن النبات خرج من الأرض وانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أن السنبل خرج من النبات، فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى ينبت ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟ الجواب: لا، وقد قال تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99]. وكقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:14 - 16]. وقال سبحانه وتعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33]. واعلم أن إطلاق الله سبحانه وتعالى الرزق على الماء في آية الجاثية هذه، إنما هو باعتبار أن الماء سبب لحصول الرزق، كما قال في سورة المؤمن (سورة غافر): {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13].

دلالة صدر سورة الجاثية على براهين البعث

دلالة صدر سورة الجاثية على براهين البعث قال العلامة الشنقيطي: اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة الجاثية ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث كثرة مستفيضة. الأول منها: خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت؛ لأن مَن خَلق الأعظم الأكبر لاشك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر، كما قال سبحانه وتعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، وقال تبارك وتعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81]، وقال سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]، وقال سبحانه وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات:11]، (أم من خلقنا) يشير إلى خلق السموات والأرض وما ذكر معهما كما في قوله: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات:5]. أما الثاني من البراهين المذكورة فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى؛ لأن من خلقهم على غير مثال سابق لاشك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى كما لا يخفى. ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5]، إلى آخر الآيات. وقال سبحانه تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، ولاشك أن إعادة الخلق أسهل من ابتدائه. وقال سبحانه: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، وقال سبحانه: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وقال عز وجل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} [النجم:45 - 47]. وقال سبحانه وتعالى أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:1 - 6]، إلى قوله تبارك وتعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] يعني: أي شيء يحملك على التكذيب بالدين؟! والدين المقصود به هنا البعث والجزاء، أي: ما يحملك على التكذيب بالبعث والجزاء؟! وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من استطاع الإيجاد الأول فلاشك في قدرته على إعادته مرة أخرى. وأما البرهان الثالث من براهين البعث في هذه الآيات: فهو إحياء الأرض في قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا))، وقال سبحانه وتعالى موضحاً ذلك: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]، وقال سبحانه وتعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]، وقال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57] أي: كذلك نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت. ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ)) أي: تلك آيات الله الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته. ومن أساليب اللغة العربية: إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب، كما في قوله هنا: (تلك آيات الله)، والمقصود: هذه آيات الله القريبة، وكقوله تعالى: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] بمعنى: هذا الكتاب. ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي: أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً أنني أنا ذلك يعني: أنني أنا هذا. وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] أي: بعد آياته ودلائله الباهرة.

تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم من رجز أليم)

تفسير قوله تعالى: (ويل لكل أفاك أثيم من رجز أليم) {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية:7 - 11]. قال الله عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] أي: كذاب يتكلم في حق الله وصفاته على خلاف الدليل. (أَثِيمٍ) أي: بترك الاستدلال، لاسيما إذا لم يترك عن غفلة، بل مع كونه يسمع آيات الله، فليست له حجة بترك الاستدلال؛ لعدم وجود الأدلة، بل بلغته الحجة فإنه {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. قوله تعالى: ((يسمع آيات الله)) أي: يسمعها بنفسه لا بالإخبار عنها بالغيب، بل (تتلى عليه ثم يصر) أي: على إنكارها، وعدم قبولها، ولا يتأثر بها أصلاً. (مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم). يقول تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا} [الجاثية:9]، استهانة بها، وفي قراءة: (وإذا عُلِّم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً)، كما فعل أبو جهل لما نزل قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44]، فأحضر زبداً وتمراً ونادى أصحابه ودعاهم إلى أن يأكلوا، وقال: هذا هو الزقوم الذي يهددنا به محمد؛ استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك من مظاهر استهزاء الكفار بآيات الله عز وجل. {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية:10]، السياق من أوله: (أفاك أثيم) مفرد (يسمع)، (تتلى عليه)، (ثم يصر)، (كأن لم يسمعها)، (فبشره)، (وإذا علم)، (اتخذها)، ثم قال: (أولئك لهم عذاب مهين)، فاسم الإشارة ورد بالجمع، لأنه رد الكلام إلى معنى لفظ (كل)؛ لأن قوله تعالى: ((وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)) إلى آخره، جمع بالنظر إلى معنى كلمة (كل). وقوله تبارك وتعالى: (من ورائهم جهنم) يعني: من بعد انقضاء آجالهم عذاب جهنم. {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا}، أي: من الأموال والأولاد، ((شَيْئًا))، من عذاب الله. {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: آلهتهم التي عبدوها، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر، واتخذوهم نصراء في الدنيا. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. قال تعالى: {هَذَا هُدًى} أي: هذا القرآن بيان ودليل على الحق، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ}، أي: بتسخيره. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الجاثية:12] أي: باستفادة علم وتجارة وأمتعة غريبة، وجهاد وهداية، وغوص فيه لاستخراج لآليه، وفيض منه. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: نعمة هذا التسخير، فتعبدوه وحده، وتصرفوا ما أنعم به عليكم إلى ما خلقتكم له.

وقفة يسيرة مع قوله تعالى: (من ورائهم جهنم)

وقفة يسيرة مع قوله تعالى: (من ورائهم جهنم) قوله تبارك وتعالى: (من ورائهم جهنم)، وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم:15 - 16]، والوراء هنا بمعنى أمام على أصح الوجهين. فقوله: (من ورائهم جهنم) يعني: أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، يعني: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، كما في قراءة ابن عباس: (وكان أمامهم ملك)، فهل معنى ذلك أن المعنى يختلف للاختلاف في القراءة؟ لا، لكن المقصود أن هذه القراءة تفسيرية، ولهذا نظائر كثيرة، فكان ابن عباس يقرؤها: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً)، يريد بذلك تفسير وراءهم بأمامهم. ومنه قول لبيد: أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أي: إذا امتد بي العمر حتى صرت شيخاً هرماً، ماذا أتوقع أن يكون؟ ألست أتوقع أن ألزم العصا تحنى عليها الأصابع؟! ويروى أيضاً: أليس ورائي إن تراخت منيتي أدب مع الولدان أزحف كالنسر يشير بذلك إلى حالة الشيخ الهرم. ومنه قول الشاعر أيضاً: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا وقول الآخر: ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي ومن ورائك أي: أمامك. وقوله تبارك وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]. (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)، وقرئ: (مِنّة)، وقرئ أيضاً: (جميعاً مَنُّهُ) أي: فضل الله وتكرمه تبارك وتعالى. (إن في ذلك لآيات)، أي: في آيات الله وحججه وأدلته. (لآيات لقوم يتفكرون) يعتبرون بها. قال المهايمي: منها: أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده، وجعل البعض سبباً لبعض دليل حكمته، وجعل الكل مسخراً للإنسان دليل كمال وجوده، فمن أنكر هذه الآيات ولم يذكره عند النعم استوجب أعظم وجوه الانتقام.

تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ثم إلى ربكم ترجعون)

تفسير قوله تعالى: (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ثم إلى ربكم ترجعون) قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14]. (قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه. (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قيل: لا يرجون ثوابه، أو لا يخافون بأس الله ونقمته، على أن الرجاء يأتي أحياناً بمعنى الخوف، كقوله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: لا تخافون له عظمة. وقيل: معنى: (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخشون مثل العذاب الذي نزل بالأمم الخالية، والأيام يعبر بها عن الوقائع والأحداث. وقيل: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل: لا يخافون البعث والنشور. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه. (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخافون بأس الله ونقمه ووقائعه بأعدائه في الأمم الخالية. (ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون)، أي: من عملهم، ومنه العفو والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، فيجزي المؤمنين على صبرهم على أذى المشركين الذي أخبرهم الله سبحانه وتعالى به في قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران:186]، فهذا أمر بالصبر والتجاوز والعفو عن بعض ما يؤذي وما يوحش، أي: سوف تجزون على ذلك: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14]. وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فنزلت هذه الآية. قال ابن العربي: هذا لم يصح من حيث السبب. وقيل: إنها نزلت في غزوة بني المصطلق لما أرسل عمر من سقى وجمع الماء، واستوفى الماء، فقيل لبعض المشركين: إن المسلمين هم الذين أخذوا هذا الماء، فقال: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك! فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاخترط سيفه وأراد قتله، فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي، فإنه عندما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] قال قولته الشنيعة، ونسب الله سبحانه وتعالى إلى الحاجة والعوز. وإذا قيل: إن الآية نزلت في كذا، فلا يشترط أن يكون بالفعل هو سبب النزول الذي نزلت الآية من أجله؛ لأن هذه الوقائع كلها بعد الهجرة. هذا السبب هو الذي جعل البعض يقول: إن هذه السورة مكية إلا هذه الآية، بناء على ما روي فيها من أسباب النزول، ولكن السبب لم يصح، وحتى لو ثبت فلا يستلزم ذلك كونها مدنية، فنزولها في عمر -إن صح ذلك- إنما يعني ذلك أنها تصدق على قضيته، فالمعنى: أن هذه الآية الكريمة تصدق على المناسبة الفلانية، حتى ولو لم يكن نزل فيها بالفعل، وقد سبق التنبيه على هذا. يقول: وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فتكون الآية المدنية. قيل: يؤيده ما أورد على كونها مكية، من أن من أسلم بها كانوا مقهورين، فلا يمكنهم الانتصار منهم، والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح، أي: أن البعض استدل على كون هذه الآية مدنية بالأخبار التي أشرنا إليها، وهي لا يصح منها شيء، فأيدوا ذلك بمعنى آخر، فقالوا: إن العفو لا يؤمر الإنسان به إلا إذا كان عن قدرة وتمكن من التنفيذ، فكونها مكية، والمؤمنون في مكة كانوا مستضعفين؛ قد يتعارض مع قوله تعالى: ((يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ))، فالعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح؛ لأنه مقهور لا يمكنه أصلاً الانتصار ممن يؤذيه، فيتعين أن تكون هذه الآية مدنية. وأجيب: بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله في قلبه ليثاب عليه، حتى لو كان مقهوراً، فهو يشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليثاب على ذلك، مع العلم أنه ليس كل أحد من المؤمنين الموجودين في مكة كانوا مقهورين مغلوبين، بل كان منهم من يستطيع الانتصار لنفسه، وأولهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. فالصواب: أن الآية مكية مثل بقية السورة، ومعنى نزولها في عمر -إن صح الأثر- صدقها على قضيته، والاستشهاد بها لسماحه كما حققنا المراد من النزول غير ما مرة. ثم قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} [الجاثية:15] لكونه فكها من العذاب. {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [الجاثية:15] أي: أساء عمله بمعصية ربه، فعلى نفسه جنى؛ لأنه أوبقها بذلك. {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15] أي: تصيرون، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب فيما كانوا فيه يختلفون)

تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب فيما كانوا فيه يختلفون) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:16 - 17]. (الكتاب): التوراة. (والحكم): الفهم للكتاب، والعلم بالسنن التي لم تنزل بالكتاب. (والنبوة): جعلنا منهم أنبياء ورسلاً إلى الخلق. وقوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) هل يصلح أن نقول: ابتداء من إسحاق؟ لا؛ لأن إسحاق هو أبو إسرائيل وليس ابن إسرائيل، ولا يصلح أن تقول: ابتداء من يعقوب؛ لأن يعقوب هو نفسه إسرائيل، وإنما أول أنبياء بني إسرائيل هو يوسف عليه السلام، كما قال الله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34]. إذاً: المقصود بقوله: (والنبوة)، من وقت يوسف إلى زمن عيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. (ورزقناهم من الطيبات)، المن والسلوى. (وفضلناهم على العالمين)، على عالم أهل زمانهم، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم. يقول العلامة الشنقيطي: رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وفضلناهم على العالمين): ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين، ووضحه في قوله في البقرة: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47]، وقال في الدخان: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وقال في الأعراف: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف:140]. ولكن الله جل وعلا بين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من بني إسرائيل، وأكرم على الله كما صرح بذلك في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يعني: أنتم، فخير صيغة تفضيل، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع أمم بني إسرائيل وغيرهم. ومما يزيد ذلك إيضاحاً: حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته: (أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله). رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث مشهور، قال ابن كثير: حسنه الترمذي، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما نحوه. قال الشنقيطي رحمه الله وغفر له: ولاشك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور رضي الله عنه؛ لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر، في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وفي قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]. فقوله: (وسطاً) أي: خياراً عدولاً. إذاً: لا تعارض بين هذه الآية التي تدل على الأفضلية المطلقة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على جميع العالمين، وبين ما دل على تفضيل بني إسرائيل على العالمين؛ لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: (وفضلناهم على العالمين) الموجودين. فهل كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجودة في ذلك الوقت؟ لم تكن أمة محمد عليه الصلاة والسلام قد وجدت بعد، وبنو إسرائيل المفضلون ليسوا أجداداً للقردة والخنازير الموجودين الآن؛ لأن العلاقة بيننا وبين هؤلاء المذكورين الذين فضلهم الله على العالمين أنهم إخواننا، فهم مسلمون مثلنا، وهؤلاء لو عاشوا حتى أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام لدخلوا في الإسلام؛ لأنهم أتباع موسى على دين الإسلام، وعلى التوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى؛ فهم مسلمون مؤمنون موحدون يعبدون الله، وإذا كان نبيهم نفسه قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فكيف بأتباع موسى؟ لاشك أنهم سيكونون أحرى وأولى أن ينقادوا للنبي صلى الله عليه وسلم ولشريعته. فليس لليهود الكفرة -لعنهم الله- أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم شعب الله المختار؛ لأن الذين اختارهم الله كانوا مسلمين مؤمنين موحدين، ولو قدر أنهم يعيشون الآن لانضموا إلى المسلمين في محاربة اليهود؛ لأنهم كفار، لأن الإيمان يميز الناس إلى حزب الله وحزب الشيطان. يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف:14]، فكلهم بنو إسرائيل، لكن انفصلوا بمجرد الإيمان، وبمجرد الدخول في الإسلام؛ ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ))، وانظر ماذا قال عز وجل بعدها مباشرة: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]، صاروا أعداء بمجرد المفارقة والمفاصلة في ضوء العقيدة وفي ضوء الإيمان، فمن كفر فهو عدو للمؤمن حتى لو كان أباه أو أخاه أو قريبه أو صفيه، فهو عدو له وعدو للجميع. الشاهد: ليس لهؤلاء الكفار أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم مختارون، وكيف يختارهم الله وهم يشتمون الله؟ كيف وهم قتلة الأنبياء، وهم الطاعنون في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وفي دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! إذاً: التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه، ولكنه تعالى بعد وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم صرح بأنها خير الأمم، وهذا واضح؛ لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل إنما يراد به ذكر أحوال سابقة؛ لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا وكذبوا به، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، والله سبحانه وتعالى في سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة والنساء ذم كفار بني إسرائيل الذين أبوا الانقياد لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام، ففي وقت نزول القرآن هل يمكن أن يكونوا ما زالوا مفضلين على العالمين وقد كفروا وكذبوا به؟ هل يتصور أنهم لا يزالون هم شعب الله المختار، والله سبحانه وتعالى يقول لهم: ((فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ))، ويقصد بذلك اليهود؟ لا يمكن، فالتفضيل إنما هو في حال عدم وجود أمة محمد عليه الصلاة والسلام، لكن بعد نزول القرآن كفروا بالقرآن وكذبوا، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلاً إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق لا في وقت نزول القرآن، فمعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف تفضيل بني إسرائيل، وأنها بعد وجودها صرح الله عز وجل بأنها خير الأمم كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. يقول تبارك وتعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ} [الجاثية:17] أي: حججاً وبراهين وأدلة قاطعة تأبى الاختلاف، ولكنهم أبوا إلا الاختلاف. {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] أي: ظلماً وتعدياً منهم؛ لطلب الحظوظ العاجلة. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17] أي: بالمؤاخذة والمجازاة. قال ابن كثير: وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم، يعني: في الاختلاف والفرقة.

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)

تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) قال سبحانه وتعالى إشارة إلى هذا التحذير الذي تضمنته هذه الآية، قال بعدها مباشرة: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]. قوله هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) الشريعة لغة: الطريق إلى الماء، وضربت مثلاً للطريق إلى الحق لما فيها من عذوبة المورد، وسلامة المصدر وحسنه. قال القاسمي هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) أي: على طريقة وسنة ومنهاج من أمر الدين الذي أمرنا به. تلك الشريعة الثابتة بالدلائل والحجج. (ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) يعني: المشركين، وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها، وتكرر هذا في القرآن الكريم وصف المشركين بأنهم لا يعلمون كما في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:118]، {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113]، وفي سورة الروم وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأثبت لهم علم كالعدم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]، فأبدل من (لا يعلمون) (يعلمون)، إشارة إلى أنهم لا يعلمون في الحقيقة، والعلم الذي يعلمونه لا قيمة له؛ لأنه منحصر في ظاهر من الحياة الدنيا كما هو حال المشركين في هذا الزمان. فاستغراق الإنسان في علم الدنيا وتفاصيل أحوال الدنيا مع الغفلة عن الآخرة مما يدرجه في هذا الذم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة). قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر): فالشريعة في اللغة المذهب والملة، ويقال لمشرعة الماء، التي هي المورد والشاربة، والطريق الذي يؤدي إلى الماء، ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصد، فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع: الشرائع. وقوله: (من الأمر) قال ابن العربي: والأمر يرد في اللغة بمعنيين: الأول: يأتي بمعنى الشأن، كقوله تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، يعني: شأن فرعون. الثاني: أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي، فالأمر ضد النهي، وكلاهما يصح أن يكون مراداً هاهنا في قوله: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)، أي: ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123]، ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع حسب ما علمه سبحانه وتعالى. وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ظن بعض من يتكلم في العلم: أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء، فهل يلزم اتباعه أم لا؟ وهذه إشارة وجيزة إلى أن هذه الآية لا يصلح أن يستدل بها على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، خاصة ما أتى منه في معرض المدح والثناء. وشرع من قبلنا أحد الأدلة الشرعية المختلف في حجيتها، والأدلة المجمع على حجيتها القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وما عدا ذلك فمختلف فيه مثل المصلحة المرسلة أو الاجتهاد أو قول صحابي أو العرف أو شرع من قبلنا، فهذه أدلة مختلف في حجيتها، لكن على أي الأحوال فشرع من قبلنا شرع لنا إذا وافق شرعنا، وليس المجال مجال تحقيق الكلام في هذه القضية، لكن هذه مجرد إشارة. (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، من المشركين وما هم عليه من الأهواء والضلالات. وفي الآية إشارة إلى أن الوحي يقابله الهوى، ولذلك قال تبارك وتعالى هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)، أي: الوحي، (فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعملون)، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ))، يعني: للوحي ولشريعتك، ((فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ))، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا)

تفسير قوله تعالى: (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً) قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية:19] أي: لن يدفعوا عنك من غضبه وعقابه شيئاً ما. {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الجاثية:19] أي: أعوان وأنصار على المؤمنين وأهل الطاعة، أو: أولياء بعض في التحزب والتقوي، ولكن ماذا تغنيهم ولايتهم لبعضهم وقد تخلت عناية الله ونصرته عنهم. {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:19] أي: المتقين الشرك والمعاصي، أو: والله ولي من اتقاه بعبادته وحده وخشيته لكفايته من بغى عليه وكاده بسوء، ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ))، كما قال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، ولذلك لما قال أبو سفيان في غزوة أحد: اعل هبل، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقولوا: (الله أعلى وأجل)، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يقولوا: (الله مولانا ولا مولى لكم). {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}، فهل يغلب حزب يتولاه الله؟ يقول القاسمي رحمه الله تعالى: الأظهر تفسير هذه الآية بآية: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257].

تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون)

تفسير قوله تعالى: (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20]. قوله: ((هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ))، (هذا) أي: هذا القرآن. (بصائر للناس) أي: يبصرون به الحق من الباطل، ويعرفون به سبيل الرشاد. قال الزمخشري: جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل روحاً وحياة. {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى}، من الضلالة. {وَرَحْمَةٌ}، من العذاب لمن آمن وأيقن. {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يطلبون اليقين، وسبق أن فسرنا آية في سورة الدخان بنفس المعنى، وهي قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان:7] أي: إن كنتم تريدون اليقين، فكذلك هنا (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) أي: يطلبون اليقين، كما تقول العرب: منجد ومتهم، يعني: إذا أراد نجداً وتهامة.

الجاثية [21 - 37]

تفسير سورة الجاثية [21 - 37]

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا)

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا) قال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. هذه الآية لها اسم معين، فهي تسمى: بكاة العابدين؛ لأن كل إنسان له جرح معين وإذا صادف آية معينة من القرآن الكريم سواء إشارة أو نعتاً لهذا الجرح؛ فإنها تثير شجوه وبكاءه، وخوفه من الله سبحانه وتعالى. فكل إنسان قد يتأثر ببعض الآيات؛ لأنها تمس هذا الأمر أكثر من غيره مما يهمه. هذه الآية: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ))، أشفق منها السلف، حتى كان منهم من يصلي بها الليل كله لا يتجاوزها، وسبب ذلك أنها آية محكمة، لم يدخلها نسخ. عن أبي الضحاك عن مسروق قال: قال رجل من أهل مكة: هذا مقام تميم الداري -يعني: أشار إلى مكان معين-، لقد رأيته ذات ليلة قام حتى قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله ويركع ويسجد ويبكي، وهي قوله تعالى: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)). وقال بشير: بِتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية فمكث ليله حتى أصبح لم يعدها لبكاء شديد. (لم يعدها) يعني: لم يتجاوزها إلى ما بعدها. وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيراً ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية ونظيرها، ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تسمى مبكاة العابدين؛ لأنها محكمة. قوله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات) أي: اكتسبوا سيئات الأعمال. (أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) أي: فالأصل عدم التساوي، ومن زعم أن المؤمنين والكفار والذين اجترحوا السيئات سوف يتساوون، فـ (ساء ما يحكمون) أي: ساء ما يزعمونه من عدم التفاوت بين هذا الفريق وذاك. قال الزمخشري: والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً، وأن يستووا مماتاً. لا يمكن أن يستوي المحسنون في الحال ولا في المآل، في الحال يعني: في الحياة، ولا في المآل يعني: بعد الممات؛ لافتراق أحوالهم أحياء حيث اعتاد هؤلاء على القيام بالطاعات، وأولئك على ركوب المعاصي، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه، وأولئك على اليأس من رحمة الله، والوصول إلى هول ما أعد لهم. وحيث عاش هؤلاء على الهدى والعلم بالله، وسنن الرشاد وطمأنينة القلب، وأولئك على الضلال والجهل والعيث بالفساد، واضطراب القلب، وضيق الصدر؛ لعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. ولئلا يظن الكافر أنه لا يبرز بكفره، قال سبحانه وتعالى مباشرة بعد قوله: ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) * ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)). (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) أي: بالحكمة والصواب. قال ابن جرير: أي: بالعدل والحق، لا كما حسب هؤلاء الجاهلون بالله من التسوية بين الأبرار والفجار. (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) بالحكمة وبالصواب وبالعدل؛ ليعدل بين الناس، ولم يخلقها لما يظن هؤلاء الجاهلون من التسوية بين الأبرار والفجار؛ لأن هذه التسوية خلاف العدل والإنصاف والحكمة. (ولتجزى) معطوف على (بالحق)؛ لأن فيه معنى التعليل للحق، يعني: للعدل بين الفريقين، أو معطوف على معلل محذوف تقديره: خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته. (وهم لا يظلمون) أي: في جزاء أعمالهم.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) قال تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]. (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، أي: من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى، فكأنه يعبده، فجعله إلهاً، وهذا تشبيه بليغ أو استعارة. والهوى إله يعبد من دون الله، فكلمة (إله) تطلق على الإله الحق، وعلى الإله الباطل، وتطلق أيضاً بمعنى معبود، وهناك من يعبد الآلهة الباطلة؛ ولذلك قلنا في معنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس معناها لا إله موجود إلا الله؛ لأنه من حيث الواقع فالمعبودون من دون الله كثيرون؛ فالشيطان إله يعبد من دون الله، كما قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، فهناك من إلهه الشيطان، والهوى إله كما في هذه الآية وفي آية الفرقان: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، والمال إله يعبد من دون الله كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والشهوات إله تعبد من دون الله، وهكذا كل ما عبد من دون الله فهو إله، لكنها كلها آلهة باطلة، ولا يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل وحده لا شريك له. يقول القاشاني: الإله المعبود، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلهاً، إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته فهو إلهه، ولو كان حجراً. (وأضله الله على علم)، يعني: أضله الله على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية. أو: (أضله الله على علم) أي: عالم بحاله من زوال استعداده، وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية، أو: مع كون ذلك العابد للهوى عالماً يعلم ما يجب عليه فعله في الدين، على تقدير أن يكون (على علم) حال من الضمير المفعول في (أضله الله)، فإما أن يكون حال، أي: أضله الله على علم منه مسبق فيه أنه لن يهتدي أو: أنها حال من الضمير الهاء، وأضله مفعول فهو يعلم ما يجب عليه من أمر الدين، وحينئذ يكون إضلاله؛ لمخالفته علمه، لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى، أو: على علم منه غير نافع، لكونه من باب الفضول، ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول، يعني: له علم لا قيمة له. (وختم على سمعه وقلبه) أي: بالطرد عن باب الهدى، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه بمكان الرين وغلظ الحجاب، فلا يعقل منه شيئاً. (وجعل على بصره غشاوة)، أي: عن رؤية حجج الله وآياته. وكما تلاحظون فإنه جعل الختم على السمع والقلب، أما البصر فقال: (وجعل على بصره غشاوة)، وهذا دليل لمن رأى الوقف في أول سورة البقرة في قوله تبارك وتعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7]، فهنا تقف، ثم تواصل: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، فهذه الآية دليل لمن رأى الوقف على قوله تبارك وتعالى: (وعلى سمعهم). (فمن يهديه من بعد الله) أي: فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه، وهذا يرجحهإعراب (على علم) أنها حال من الله سبحانه وتعالى. (فأضله الله على علم)، يعني: بعلم الله السابق أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آياته. (فمن يهديه من بعد الله) أي: من يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه.

تفسير القرطبي لقوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)

تفسير القرطبي لقوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم) قال ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه. وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه، فإذا استحسن شيئاً وهويه اتخذه إلها. وقال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. وقيل: أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده؟ تعجيباً لذوي العقول من هذا الجهل. وقال الحسن بن فضل: في هذه الآية تقديم وتأخير، والتقدير: أفرأيت من اتخذ هواه إلهه، أفرأيت من اتخذ هواه إلهه. وقال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه. والهوى يمكن أن يستعمل في غير الذنب، كما في الحديث: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك). قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176]، وقال تعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم:29]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به). وعن أبي أمامة مرفوعاً: (ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى). وتفسير القرطبي من الكتب التي تحتاج إلى تحقيق، خاصة في الأحاديث التي يوردها دون أن يحققها. وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله). وعنه صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة). وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، فالمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه والمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعاً لعلمه فيومه يوم صالح. وقال الأصمعي: سمعت رجلاً يقول: إن الهوان هو الهوى قلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه فأخذه الشاعر فنظمه وقال: نون الهوان من الهوى مسروقة فإذا هويت فقد لقيت هوانا يعني: الهوان يساوي الهوى. وقال آخر: إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد كسبت هوانا وإذا هويت فقد تعبدك الهوى فاخضع لحِبِّك كائناً من كانا ولـ عبد الله بن المبارك: ومن البلاء وللبلاء علامة ألّا يرى لك عن هواك نزوع العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع تارة ويجوع ولـ ابن جريج: إذا خالفتك النفس يوماً بشهوة وكان إليها للخلاف طريق فدعها وخالف ما هويت فإنما هواك عدو والخلاف صديق ولـ أبي عبيد الطوسي: والنفس إن أعطيتها مناها فاغرة نحو هواها فاها وقال أحمد بن أبي الحواري: مررت براهب فوجدته نحيفاً، فقلت له: أنت عليل؟ قال: نعم، قلت: مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي! قلت: فتداو؟ قال: قد أعياني الدواء، وقد عزمت على الكي، قلت: وما الكي؟ قال: مخالفة الهوى. قلت: لنتحفظ من التساهل في حكاية مثل هذه القصص عن الرهبان، فقد أغنانا الله سبحانه وتعالى بالوحي وبالآثار عن سلفنا الصالحين عن أن نحتاج إلى أن نأخذ من راهب يصدق فيه قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3]، وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. وقال سهل بن عبد الله التستري: هواك داؤك؛ فإن خالفته فدواءك. وقال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما؛ فانظر أبعدهما من هواك فائته. وللعلماء في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب، وحسبك بقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. ومن أشهر هذه الكتب: كتاب ذم الهوى لـ ابن الجوزي، ومن ذلك أيضاً الفصل الذي ختم به وكذلك الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى كتابه روضة المحبين ونزهة المشتاقين وهو فصل رائع في ذم الهوى وكيفية علاجه. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: (وأضله الله على علم) أي: على علم قد علمه منه. أي: قلنا من قبل: على علم سابق من الله أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية. وقيل: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال مقاتل: على علم منه أنه ضال، والمعنى متقارب. يقول القرطبي رحمه الله: وهذه الآيات ترد على القدرية والإمامية ومن سلك سبيلهم في الاعتقاد، إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. قوله: (وختم على سمعه وقلبه) قيل: إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم، وقيل: إنه خارج مخرج الدعاء عليهم، (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) يعني: هذه الجمل دعائية، دعا بذلك عليهم.

تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]. قوله سبحانه وتعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) أي: ما الحياة، أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها. (نموت) أي: بالموت البدني الطبيعي. (ونحيا) أي: الحياة الجثمانية الحسية، لا موت ولا حياة غيرهما. (وما يهلكنا إلا الدهر) أي: مر الليالي والأيام وطول العمر. (وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) أي: وما يقولون ذلك عن علم، ولكن عن ظن وتخمين. وفي تفسير قوله: (نموت ونحيا) أقوال: منها: في الآية تقديم وتأخير، فيكون الأصل: (نحيا) حياة ثم نموت بعدها، فقدم (نموت) وأخر (نحيا)، وهذا نوع من أنواع علوم القرآن (المقدم والمؤخر). قول آخر: (نموت ونحيا) يعني: يحيا البعض ويموت البعض. قول ثالث: (نموت ونحيا) على الترتيب كما هي بدون تقديم وتأخير، لكن المقصود: أن هذا كلام من يقول بتناسخ الأرواح، بعدما يموت الإنسان فإن روحه تخرج ثم تحل في جسد آخر. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وفي قوله: (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون)، إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر، أو إلى إنكار البعث، أو إلى كليهما، (وما لهم بذلك من علم). قال الزمخشري: كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس، وينكرون ملك الموت، وقبضه الأرواح بأمر الله، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر) أي: فإن الله هو الآتي بالحوادث وليس الدهر. انتهى كلام الزمخشري. وقال الخطابي: معناه: أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها. والدهر ظرف زمان، والفاعل الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، فإنما الدهر زمان جعل ظرفاً لمواقع الأمور، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر، فقالوا: بؤساً للدهر أو سباً للدهر. قال ابن كثير: وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث. يعني: لا يصح أبداً أن يقال: إن من الأسماء الحسنى الدهر، اعتماداً على هذا الحديث: (أنا الدهر)؛ لأن معناه: أنا خالق الدهر، وأنا مصرف الأحداث ومدبر الوقائع. وفي هذه الآيات رد على الدهرية وهم المعطلة، لأن متمسكهم ظن وتخييل، لم يشم رائحة اليقين، وما هذا سبيله فالقبول في وجهه مسدود: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36]. قال الشهرستاني في معطلة العرب: فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني. يعني: الطبيعة هي التي تحيي الناس، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. (نموت ونحيا) إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي، وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها، فالجامع هو الطبع، والمهلك هو الدهر. فاستدل الله عليهم بضرورات فكرية وآيات فطرية في كثير من الآيات، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف:184]، يأمرهم بالتفكر، وقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ} [النحل:48]، وقال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [النساء:1]. فأثبت في الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق، فإنه قادر على الكمال إبداء وإعادة. انتهى كلام الشهرستاني. يقول القاسمي رحمه الله: ولي في الرد على الدهريين -وهم الماديون والطبيعيون- كتاب (دلائل التوحيد) فليرجع إليه المريد؛ فليس وراءه بحمده تعالى من مزيد.

تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)

تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وقالوا ماهي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) قال الله تعالى: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، هذا نص البخاري ولفظه، وقد أخرجه مسلم أيضاً وأبو داود. وفي الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر)، وسواء كان الدهر أو أي وقت آخر للزمان من الليالي والأيام، فهذا مما لا يجوز أن يسب، بل لبيان شرف الزمان أقسم الله به وبأجزائه وأبعاضه، فأقسم به في قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]، (والعصر) على أحد التفسيرات يعني: الوقت والزمان، فالله لا يقسم إلا بالآيات العظام والأمور الشريفة، فحينما أقسم بالدهر؛ أقسم ليبين لنا أن الدهر لا ذنب له إنما هو ظرف، وإنما الشؤم يكون من عمل الإنسان ومن كسبه، وليس للدهر في ذلك ذنب، كما يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا وقد تساهل الناس في هذا خاصة في الأناشيد والأغاني والأمثال الشعبية ونحو هذه الأشياء، ففي كثير منها سب الدهر أو وصف اليوم أنه يوم أسود أو يوم كذا، ومن العجب أن يقع ذلك أحياناً في القنوت من بعض الأئمة! فقد اخترعوا دعاء: (وأرنا فيهم يوماً أسوداً)، ولا يمكن أن يكون هذا مأثوراً عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن فيه سب الدهر، وفيه أمر آخر وهو قولهم: (أسوداً) وهو على وزن أفعل، ممنوع من الصرف، ولا يمكن أن تكون أسوداً، والصواب لغة أسود، فلذلك الإنسان إذا لم يكن متمكناً من اللغة، ولا يحسن اختيار الألفاظ في الدعاء فعليه أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالأدعية المأثورة عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام جمع ما لم يوجد في غيره من الفصاحة؛ فهو في قمة الفصاحة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وهو أبلغ العرب وأنصحهم للأمة، وهو أعرف الناس بالله، وأخشاهم لله عز وجل، وأعلمهم بلغة العرب، فمن ثم دائماً الإنسان يحاول أن يقتصر على الدعاء المأثور الذي يعلمه من أجل السلامة من مثل هذه الاختراعات. كان بعض المكروبين يتبجح ويقول في بعض أشعاره: أقول دهر أحمق الخطا يعني: يخبر أنه أحمق الخطا والعياذ بالله إلى غير ذلك من الأشعار، ولا يليق أن نذكرها كلها. على أي حال نعود للحديث: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر! فإن الله هو الدهر) استدل بهذا الحديث من قال: إن الدهر من أسماء الله، وقال من لم يجعله من العلماء اسماً: إنما خرج رداً على العرب في جاهليتها، فإنهم كانوا يعتقدون أن الدهر هو الفاعل كما أخبر الله عنهم في هذه الآية، فكانوا إذا أصابهم ضر أو ضيم أو مكروه نسبوا ذلك إلى الدهر، فقيل لهم على ذلك: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) أي: إن الله هو الفعال لهذه الأمور التي تضيفونها إلى الدهر؛ فيرجع السب إليه سبحانه، فنهوا عن ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: يؤذيني ابن آدم)، ولقد أحسن أبو علي الثقفي حين قال: يا عائب الدهر إذا نابه لا تلم الدهر على غدره الدهر مأمور له آمر وأنت للدهر إلى أمره كم كافر أمواله جمة تزداد أضعافاً على كفره ومؤمن ليس له درهم يزداد إيماناً على فقره فمن الناس من يقول: الدر غدار، والزمن غدار، وهذا سب للدهر. وروي أن سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيراً ما يذكر الدهر فزجره أبوه وقال: إياك يا بني وذكر الدهر! وأنشد: فما الدهر بالجاني لشيء لحينه ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا ولكن متى ما يبعث الله باعثاً على معشر يجعل مياسيرهم عسرا يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وكان المشركون أصنافاً: منهم هؤلاء -أي: هؤلاء الذين يقولون: (نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) -، ومنهم: من كان يثبت الصانع وينكر البعث. وهل مذهب الدهريين يدل على أنهم ينكرون وجود الله لا يستلزم أنهم ينكرون الله عز وجل، وإلا فمشركو العرب كانوا يقرون بوجود الله، وكانوا يوحدون توحيد الربوبية ومع ذلك كانوا ينكرون البعث، فلا تلازم بين إنكار البعث والنشور وبين إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، فلينتبه لهذا. قال: ومن أصناف المشركين من كان يثبت الصانع وينكر البعث، ومنهم من كان يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره. وحدث في الإسلام أقوام ليس يمكنهم إنكار البعث خوفاً من المسلمين، فيتأولون ويرون القيامة موت البدن، ويرون الثواب والعقاب خيالات تقع للأرواح بزعمهم، فشر هؤلاء أضر من شر جميع الكفار؛ لأن هؤلاء يلبسون على الناس الحق، ويغتر بتلبيسهم الجاهل، وأما المشرك المجاهر بشركه فيحذره المسلم. وقيل: نموت وتحيا آثارنا؛ فهذه حياة الذكر. وقيل: أشاروا إلى التناسخ، أي: يموت الرجل فتجعل روحه في موات فتحيا به.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25]. قال الله تبارك وتعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)؛ لأن الله باعث خلقه يوم القيامة. (ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)، أي: انشروهم أحياء حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا، يعني: أرونا دليلاً عملياً، يا ألله هات آباءنا وأحيهم الآن حتى نصدق أن هناك بعثاً ونشوراً! وقوله: (ما كان حجتهم إلا أن قالوا)، كيف يطلق على ذلك حجة؟ إما حقيقة بناء على زعمهم، يعني: ما كان حجتهم في زعمهم، وهم الذين وصفوها بأنها حجة، لكن هذه لا تصلح أن تكون حجة؛ فإنهم ساقوا هذا الكلام مساق الحجة، أو إن الحجة مجاز، وقالها الله تهكماً بهم كما في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، وكذلك هنا: ((مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ))، استهزاء بما يسمونه حجة، كأنه قيل: ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، بمعنى: أنه لا حجة لهم ألبتة، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس، حيث سمي ما هو ضد الحجة -وهو الجحد- باسم الحجة، فهذه من المبالغة؛ لأنه نزل الضد منزلة المتجانس. قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال الزمخشري: فإن قلت: لم سمى قولهم حجة وليس بحجة؟ قلت: لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته، وساقوه مساقها؛ فسميت حجة على سبيل التهكم، أو لأنه في حسبانهم وتقديرهم حجة. أو لأنه من باب أسلوب قول الشاعر: وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع يقول: إذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلاً من تحية بعضهم بعضاً الضرب الوجيع، فهل الضرب تحية؟ ليس تحية، بل هذا تهكم بأن التحية التي حيوا بها خصومهم الضرب الوجيع بالسيوف والقتل. فكذلك قوله هنا: (ما كان حجتهم) من نفس هذا الأسلوب. فالمقصود: أنه ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن تكون لهم حجة ألبتة. فإن قلت: كيف وقع قوله: {قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ} [الجاثية:26] جواب قوله تعالى: (ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين)؟ يقول القرطبي: قلت: لما أنكروا البعث وكذبوا الرسل، وحسبوا أن ما قالوه قول مسكت ألزموا ما هم مقرون به، من أن الله عز وجل هو الذي يحييهم ثم يميتهم، فهم يقرون بأن الله يحييهم؛ لأنهم يقرون بتوحيد الربوبية، فألزموا بما هم مؤمنون به على ما هم مكذبون به، فهم يقرون أن الله هو الذي يحييهم ثم يميتهم. قال القرطبي: ضم إلى ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به، إن أنصفوا وأصغوا إلى داعي الحق. قال تعالى: (قل الله يحييكم) ثم قال: (ثم يميتكم ثم يجمعكم) ضم إلى هذا العبرة في القدرة، فما دمتم آمنتم بقدرة الله على خلقكم وعلى إماتتكم، فيلزم على ذلك الإيمان بقدرة الله التي لا يحدها شيء، وقدرته العامة الكاملة على كل شيء، ومنه: خلقكم بعد البعث، فهذا هو أسلوب الإلزام بما يجب أن يقروا به لو أنصفوا. قال القرطبي: وهو جمعهم يوم القيامة ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإتيان بآبائهم، وكان أهون شيء عليه. قوله: (قل الله يحييكم) الاستدلال هنا بعموم قدرة الله، وأنتم تقرون بهذه القدرة، وينبغي بناء على ذلك أن تؤمنوا أيضاً بأنه يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، فإذا كان قادراً على هذا فهو أولى أن يكون قادراً على أن يحيي آباءكم، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يجيبهم إلى ما اقترحوه من الآيات، ولماذا لا يجيبهم الله عز وجل إلى ما اقترحوه من الآيات؟ قل لهم في جواب قولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر): (الله يحييكم ثم يميتكم) لا الدهر، لما عرف بالوجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود ومسبب الأسباب، ومصدر الكائنات، أو قل لهم في جواب إنكارهم البعث: من قدر على الإبداء يقدر على الإعادة، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مر مراراً. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:27] أي: فلا مالك غيره، ولا معبود سواه. {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] أي: الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم، وهم عبدة غيره تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية)

تفسير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية) {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28]. {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] (جاثية) أي: جالسة على الركب، غير مطمئنة. يقول القاسمي: (وترى كل أمة جاثية) أي: جالسة مستوفزة على الركب لا حراك بها، شأن الخائف المنتظر لما يكره، وذلك عند الحساب أو في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: (وترى كل أمة جاثية) يعني: من هول ذلك اليوم، والمقصود بالأمة هنا أهل كل ملة. وفي الجاثية تأويلات خمسة: الأول: قال مجاهد: (جاثية) مستوفزة. وقال سفيان: المستوفز الذي لا يصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله. وقال الضحاك: ذلك عند الحساب. القول الثاني: (جاثية) مجتمعة، قاله ابن عباس. وقال الفراء: المعنى: وترى أهل كل دين مجتمعين. القول الثالث: (جاثية) متميزة، قاله عكرمة. الرابع: (جاثية) خاضعة بلغة قريش، قاله المؤرج. الخامس: (جاثية) جالسة على الركب، قاله الحسن. والجثو هو: البورك على الركب، جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثواً وجثياً، وأصل الجثوة: الجماعة من كل شيء. قال طرفة يصف قبرين: ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد إذاً: قوله تعالى: ((كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا))، أي: باركة مستوفزة على الركب لا حراك بها، شأن الخائف المنتظر لما يكره، وذلك عند الحساب أو في الموقف الأول وقت البعث قبل الجزاء. (كل أمة تدعى إلى كتابها) أي: اللوح الذي أثبت فيه أعمالها، ويعطى بيمينه من كان سعيداً، وبشماله من كان شقياً.

تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق)

تفسير قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] أي: يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان، وإنما أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه تبارك وتعالى؛ لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم. ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم، ولذلك فسرها القاسمي يقول: (نستنسخ): نستكتبها، يعني: نأمر الملائكة بكتابة ما كنتم تعملون. وقال: القرطبي: (إنا كنا نستنسخ) أي: نأمر بنسخ ما كنتم تعملون، بناء على أن النسخ لا يكون إلا من أصل، وكذلك بعض المفسرين قالوا: إن النسخ هنا هو من اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: إن الله وكل ملائكة مطهرين فينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما يكون من أعمال بني آدم، فيعارضون حفظة الله على العباد كل خميس، فيجدون ما جاء به الحفظة من أعمال العباد موافقاً لما في كتابهم الذي استنسخوا من ذلك الكتاب، لا زيادة فيه ولا نقصان. قال ابن عباس: وهل يكون النسخ إلا من كتاب. وقال الحسن: نستنسخ ما كتبته الحفظة على بني آدم؛ لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال، وتوجد أقوال أخرى في هذه الآية، لكن لم يؤثر فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فظاهر معنى قوله: (نستنسخ) أي: نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم وكفى. قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:30] أي: ما صلح به حالهم في المعاد الجثماني. {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30] (في رحمته) أي: في جنته، يعني: مكان رحمته وهو الجنة. {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الجاثية:31]، فلابد أن نقدر: وأما الذين كفروا فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31]. (مجرمين) يعني: مسرفين تكتسبون المعاصي؛ ويقال: فلان جريمة أهله إذا كان هو كاسبهم، يعني الذي يشتغل ويكسب المال لينفق عليهم وعائلهم. فالمجرم أكسب نفسه المعاصي. وقد قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، فالمجرم ضد المحسن، فهو المذنب بالكفر. (وكنتم قوماً مجرمين) أي: بكسب الآثام والكفر بالله، وعدم التصديق بالمعاد ولا الإيمان بثواب وعقاب.

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل إن وعد الله حق) قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]. (قلتم ما ندري ما الساعة)، أي: أي شيء هي، أي: لا نستيقن بها. (إن نظن إلا ظناً) تقديره عند المبرد: إن نحن إلا نظن ظناً. وقيل: التقدير: إن نظن إلا أنكم تظنون ظناً. وقيل: أي: وقلتم: إن نظن إلا ظناً، وما نحن بمستيقنين أن الساعة آتية. {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33] أي: قبائح أعمالهم، أو عقوبات أعمالهم السيئات. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الجاثية:33] وهو الجزاء.

تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا)

تفسير قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) قال تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية:34] (ننساكم) أي: نترككم في العذاب ترك ما ينسى، كما تركتم التأهب له، وفي هذا المعنى جاء الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة: ألم أكرمك وأزوجك وأزودك؟! وأسخر لك الخيل والإبل؟! وأذرك ترأس وتربع؟!)، ترأس: تكون رئيساً على قومك، وتربع: تأخذ المرباع، وهو الذي كانت ملوك الجاهلية تأخذه، فقد كانت تأخذ من الغنيمة ربع الأموال، هذا أصل معنى المرباع، لكن معناه هنا: ألم أجعلك رئيساً مطاعاً؟ (فيقول: بلى، فيقول الله سبحانه وتعالى: أفظننت أنك ملاقي؟! فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني). أي: أمنعك الرحمة كما امتنعت من طاعتي، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فالنسيان يأتي بمعنى الترك. يقول تبارك وتعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:34 - 35] أي: خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة، وزعمتم أن لا حياة سواها. {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية:35] أي: من النار. {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية:35] يعني: لا يغفر لهم، أو لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي: يرضوه؛ لأن الرضا هو إزالة العتب، فجاء كناية عن الإرضاء. (ولا هم يستعتبون) يعني: لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله تعالى؛ لأنه ليس وقت توبة ولا اعتراف، ولات حين مندم. أو المعنى: لا يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة، فما بعد الموت مستعتب.

تفسير قوله تعالى: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) قال تبارك وتعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية:36]. (فلله الحمد) أي: الثناء الكامل. قال ابن جرير: أي: فلله الحمد على نعمه وأياديه عند خلقه، فإياه فاحمدوا أيها الناس، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه، دون ما تعبدون من دونه من آلهة ووثن. {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية:37] أي: له الاستعلاء ونهاية الترفع والكبر على كل شيء، وغاية العلو والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} [الجاثية:37] أي: القوي القاهر لكل شيء. {الْحَكِيمُ} [الجاثية:37] قال القاشاني: المرتب لاستعداد كل شيء بنسخ تبديله المهيأ لقبوله، لما أراد منهم من صفاته بدقيق صنعته، وخفي حكمته، لا إله إلا هو رب العالمين.

الأحقاف [1 - 12]

تفسير سورة الأحقاف [1 - 12]

بين يدي سورة الأحقاف

بين يدي سورة الأحقاف نشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير سورة الأحقاف. سميت هذه السورة باسم وادي الأحقاف موطن قوم عاد كما قال الله: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21]. وهذه السورة مكية، واستثني البعض منها خمس آيات هي: قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17]، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10]، وكذلك قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف:15]، وقوله تعالى أيضاً: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في مواضعه. وعدد آياتها خمس وثلاثون آية.

تفسير قوله تعالى: (حم عما أنذروا معرضون)

تفسير قوله تعالى: (حم عما أنذروا معرضون) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {حم} [الأحقاف:1]، سبق أن تكلمنا مراراً عن الحروف المقطعة التي تأتي في أوائل السور فلتراجع {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:2 - 3]، أي: بالحكمة وإقامة العدل في الخلق. {وَأَجَلٍ مُسَمًّى}، أي: لتقدير أجل معين لكل منها، لينهيه إذا هو بلغه وهو يوم القيامة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ}، (عما أنذروا) من هول ذلك اليوم. (معرضون)، لا يؤمنون، أي: معرضون مولون لاهون غير مستعدين له.

استحقاق الله تعالى للعبادة وحده لا شريك له

استحقاق الله تعالى للعبادة وحده لا شريك له قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الكلمة: {مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الأحقاف:3]: صيغة الجمع في قوله تعالى: (مَا خَلَقْنَا)، للتعظيم، (إلا بالحق) أي: إلا خلقاً متلبساً بالحق، فالباء تدل على التلبس، كما تقول: سبحان الله وبحمده، أي: أسبح الله متلبساً مع ذلك بحمده، فكذلك هنا (إلا بالحق) أي: ما خلقنا السماوات والأرض إلا خلقاً متلبساً بالحق، والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبساً بالحق: أنه خلقهما لحكم ظاهرة ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً ولا لعباً، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسان به: إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، ثم أقام البرهان على أن الله هو الإله الواحد بقوله بعد ذكل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]، فتلبس خلق السماوات والأرض بالحق واضح جداً من قوله تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، إلى قوله تعالى: ((لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، بعد قوله تعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))؛ لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى: (لا إله إلا الله)، هو أعظم الحق. فبدأ الآيات بقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، ثم ذكر ما يبرهن على أنه لا إله حق إلا الله، فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، إلى قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فهذا مظهر من مظاهر تلبس خلق السماوات والأرض بالحق، أي: أن يكون في خلقهما وفي الآيات المبثوثة فيهما دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا إله حق إلا هو سبحانه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، وهذه أول صيغة أمر في القرآن الكريم: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، وقد تضمنت هاتان الآيتان معنى لا إله إلا الله؛ لأن قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، هذا هو قسم الإثبات، وهو ما يدل عليه قوله: (إلا الله)، أما قسم النفي فهو في قوله: ((فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ))، وهو ما يدل عليه قوله: (لا إله)، فقوله: (واعبدوا ربكم) فيه معنى الإثبات في لا إله إلا الله، وقوله: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه. وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما في قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بناء} [البقرة:21 - 22] إلى آخر الآية، وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بأعظم الحق الذي هو: إقامة البرهان القاطع على توحيده جل وعلا. ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان المذكور القاطع على توحيده جل وعلا ومن استقراء القرآن الكريم علم أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء فهو مخلوق محتاج لا يصح أن يعبد بحال. والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً؛ كقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فقوله: (الذي خلقكم) يدل على أن المعبود هو الخالق وحده. وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، يعني: أن خالق كل شيء هو المعبود وحده، وهو وحده الذي يستحق العبادة. وفي سورة النحل لما ذكر تعالى فيها البراهين القاطعة على توحيده جل وعلا في قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل:3]، إلى قوله: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، أتبع ذلك مباشرة بقوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وذلك واضح جداً في أن من يخلق غيره هو المعبود، وأن من لا يخلق شيئاً لا يصح أن يعبد؛ ولهذا قال تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل:20]، وقال في الأعراف: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقال في الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فمن لا يقدر أن يخلق شيئاً لا يصح أن يكون معبوداً بحال. وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] * {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2]، كذلك في أول سورة الفرقان لما بين تعالى صفات من يستحق أن يعبد ومن لا يستحق أن يعبد، قال في صفات من يستحق العبادة: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال في صفات من لا يصح أن يعبد: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]، والآيات في ذلك كثيرة جداً، وكلها تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، يعني: أنه خلقهما لكي يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما آية وعلامة وبرهاناً على أعظم حقيقة في الوجود وهي: أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى. فهذا أحد معاني قوله تعالى في أول هذه السورة الكريمة: ((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ))، أي: خلق متلبس بالحق، لحكم عظيمة، أعظمها وأجلها: أن يكون خلق السماوات والأرض دليلاً وبرهاناً للناس على أنه لا إله إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد إلا من يخلق.

قدرة الله تعالى على كل شيء وإحاطته بكل شيء علما

قدرة الله تعالى على كل شيء وإحاطته بكل شيء علماً وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، فمن الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض: أن يعلم العباد ويستدلون بخلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما على قدرته جل وعلا، وأنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، فلا شك أن هذه الآية مصرحة بمظهر من مظاهر هذا الحق الذي خلقت السماوات والأرض متلبسات به، فإن قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)، ذكر بعده لام التعليل في هذا الخلق، فقال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وهذا من الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض، فلام التعليل في قوله: (لتعلموا) متعلق بقوله: (خلق سبع سماوات) إلى آخر الآية، وبه تعلم أنه ما خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن إلا خلقاً متلبساً بالحق.

التكليف والابتلاء والجزاء

التكليف والابتلاء والجزاء ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، فمن الحق الذي تلبس بخلق السماوات والأرض: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فلام التعليل في قوله: (ليبلوكم) متعلقة بقوله: (خلق السماوات والأرض)، فيكون قوله: (وهو الذي خلق السماوات والأرض)، إلى قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، يدل على أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق. ونظير ذلك قوله تعالى في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، وقال في أول الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال في آخر الذاريات: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أي: إلا ليعبدوني وحدي ولا يشركوا بي شيئاً. وسواء قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم؛ لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له، كما قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، أو قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا ليقروا لي بالعبودية ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي؛ لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً. ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقاً متلبساً به جزاء الناس بأعمالهم. وقال في سورة النجم: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، فقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: هو خالقهما وخالق ما فيهما، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). وهذا أيضاً إعلام منه عز وجل بأنه خلق ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الناس بأعمالهم، ويوضح ذلك قوله تعالى في سورة يونس: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:4]. لما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً -بغير حق- لا لحكمة التكليف ولا الحساب ولا الجزاء؛ أبدلهم الويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ضل في قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] * {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:116]، تعالى وتنزه عن أن يخلق خلقه عبثاً، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]. وهذا الذي نزه الله تعالى عنه نفسه نزهه عنه أولو الألباب من خلقه، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191 - 191]، فمعنى: (سبحانك) تنزيهاً لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلاً لا لحكمة تكليف وبعث وحساب وجزاء. وقوله تبارك وتعالى هنا في آية الأحقاف: ((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ))، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً ولا لعباً ولا عبثاً كما صرح بهذا المفهوم في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص:27]، وفي قوله: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)) [آل عمران:191]، وفي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38 - 39]. وقوله: ((وَأَجَلٍ مُسَمًّى))، هذا معطوف على قوله: (بالحق)، أي: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسمى، أي: وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في أخريات سورة الحجر في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، وانظر كيف قرن خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق بقوله: (وإن الساعة لآتية) إشارة إلى ما ذكر هنا في هذه الآية: (إلا بالحق وأجل مسمى). وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمداً ينتهي إليه أمرهما، كما قال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، وقال تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:11]، وقال: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14]، إلى غير ذلك من الآيات.

إعراض الكافرين عما أنذروا

إعراض الكافرين عما أنذروا قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، أي: معرضون عما أنذرتهم به الرسل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وقال في سورة يس: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:10]، وقال أيضاً: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4]. والإعراض عن الشيء هو الصدود عنه وعدم الإقبال عليه، قال بعض العلماء: وأصله من العرض، وهو الجانب؛ لأن المعرض عن الشيء يوليه جانب عنقه صاداً عنه، والإنذار: هو الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً، فالإنذار نوع خاص من الإعلام؛ إذ هو إعلام مقترن بتهديد، والإنذار يأتي عاماً ويأتي خاصاً، فقد يأتي عاماً لكل الخلق، وقد يأتي خاصاً لخاصة الخلق، وهم المؤمنون والمتقون. وفي هذه الحالة إذا قصر الإنذار على المؤمنين والمتقين يكون لهم فقط؛ لأنهم هم الذين إذا أنذروا ينتفعون بهذا الإنذار، فكأنه ما أنذر سواهم. وإذا كان للكافرين فإنه لإعلامهم وتهديدهم؛ فهو إعلام مقترن بتهديد. قوله هنا: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ))، ما: هنا إما أنها موصولة، وإما أنها مصدرية، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيكون المعنى: والذين كفروا معرضون عن الإنذار. وإذا قلنا: إنها موصولة والعائد محذوف فيكون في غير القرآن: والذين كفروا عن الذي أنذروه معرضون؛ لأنها إذا كانت موصولة فلابد لها من عائد، وهو ضمير يكون في جملة الصلة يعود على الاسم الموصول، فقوله: (عما أنذروا) قال بعض العلماء: هي موصولة والعائد محذوف، أي: الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه وخوفوه من عذاب يوم القيامة، وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مطرد كما هو معلوم.

تفسير قول الله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله)

تفسير قول الله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله) قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]. (قل أرأيتم ما تدعون) أي: تعبدون. (من دون الله) من الأوثان والأنداد التي تعبدونها. (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات)، أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضي بالاستقلال، أو في شيء سماوي بالشركة؛ حتى تستحق العبادة، فقوله: (ماذا خلقوا من الأرض) يريد به على سبيل الاستقلال بخلقه. (أم لهم شرك في السماوات)، هل خلقوا شيئاً سماوياً بالشركة حتى يستحقوا العبادة؟! (ائتوني بكتاب من قبل هذا)، أي: من قبل هذا القرآن، وهذا تيئيس لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تيئيسم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي، فالدليل العقلي في قوله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)، ائتوني بدليل عقلي على أنهم خلقوا فيستحقون أن يعبدوا. (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، وهذا تعجيز لهم بطلب دليل نقلي مما أثر في الكتب السابقة، {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، أي: ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم. (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، أو بقية من علم بقيت لكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم؛ فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو سلطان نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها. والمفسرون في هذا الموضع عند قوله تعالى: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، يتعرضون إلى الكلام في قضية الخط في الرمل، ويشيرون إلى حديث رواه مسلم في صحيحه: (كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)، وهذه القضية شغلت العلماء كثيراً وتكلموا فيها كثيراً، وممن تكلم فيها: الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي المتوفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة من الهجرة في رسالة له بعنوان: الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط، لما روي في ذلك من أحاديث ووجه تأويلها، وهو وإن لم يصحح الحديث فالحديث صحيح ثابت في صحيح مسلم، وإنما قال بفرض صحته فإنه يجاب عنه بكذا وكذا، وذكر بعض التأويلات، وقد أجاد في ذكر هذه التأويلات التي لابد منها بعدما بين أن الله سبحانه وتعالى كذب مدعي علم الغيب، وأنه لا يظهر أحداً على غيبه، فقال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27]، وغير ذلك من الآيات. وهذه إشارة موجزة بحيث من قرأ منكم ذلك في بعض كتب التفسير يعلم أن العلماء قاموا بتأويل هذا الحديث حتى وإن صح سنده، فقد تأولوه على أن ذلك كان آية خاصة بهذا النبي بالذات، وأن هذه كانت علامة خاصة به وليس لأحد أن يدعي علم الغيب عن طريق ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله) قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]. قوله: (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) دعاءه؛ لعجزه عنه. (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)؛ لأنهم إما جمادات، وإما مسخرون مشغولون بأحوالهم. (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، قال الناصر في قوله تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، قال: في قوله: (إلى يوم القيامة) نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، يعني: كأن عدم الاستجابة ممتد إلى يوم القيامة، فيفهم لأول وهلة أنه بعد يوم القيامة قد يستجيب، لكن الأمر ليس كذلك في الحقيقة؛ فعدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية قطعاً؛ لأنهم في يوم القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم. فالوجه والله تعالى أعلم أنها من الغايات المستمرة؛ لأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه؛ لأن عدم الاستجابة بعد القيامة أشد من عدم الاستجابة فيما قبلها؛ إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالتالي، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، فعدم استجابتهم لهؤلاء التي تنتهي في الظاهر إلى يوم القيامة هي بعد يوم القيامة أشد، وذلك لأن الحالة الأولى التي جعلت غايتها إلى يوم القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، بل تقتصر فقط على عدم الاستجابة. لكن الحالة الثانية التي في القيامة وما بعدها فيها زيادة على عدم الاستجابة العداوة والكفر بعبادتهم إياهم، فهم ينقلبون عليهم أعداء كما في الآية الثانية مباشرة، وهي قوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، فمع عدم الاستجابة ينضاف إليها في القيامة وبعد القيامة: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، فليس هم فقط في غفلة عنهم أثناء الدنيا ويوم تقوم القيامة، وهذا هو معنى الغاية، فإن الغاية فقط هي عدم الاستجابة، وفي القيامة عدم الاستجابة ممتدة لكن ينضاف إليها أن يصيروا لهم أعداءً وأن يكفروا بعبادتهم إياهم. ,كنت قد طالعت كتاباً قديماً جداً من كتب التوحيد التي كان لها شأن عظيم في الماضي إلا أنه كتاب منقرض وهو كتاب: صراع بين الحق والباطل، تأليف الأستاذ سعد صادق محمد، أرجو أن يكون الله قد مد في عمره إلى الآن، والكتاب مطبوع سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف، وهو كتاب قيم جداً في التصدي للضلالات الصوفية، والأستاذ سعد صادق محمد -رحمه الله حياً أو ميتاً- يعد من دعاة أبطال السنة الذين كان لهم قدم صدق في التصدي لبدع الصوفية والضالين. وأرى أنه من المناسب أن نذكر هذا المثال العابر عند هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، يقول وهو يتكلم عن صور من هذا الضلال، (يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) يدعو الشافعي، يدعو الدسوقي، والبدوي، والموتى، والمقبورين، وهم في غفلة عما هو مهلك نفسه فيه، يقول: منذ سنوات مضت وجد في صندوق السيد البدوي ظرف ختم بالشمع الأحمر وبه ورقة بعشرة جنيهات، يقول: أنا الذي استغربت له: ما الذي أتى بالشمع الأحمر؟! وكأن الرجل أتى كيما يقدم شكوى أو طلباً للبدوي في ظرف مختوم حتى لا يفتحه إلا البدوي بنفسه!! ختم بالشمع الأحمر وبه عشرة جنيهات، ومكتوب في الخطاب: أرجو المعذرة يا سيدي! فهذه الجنيهات العشرة هي كل ما حصلت عليه وما قدرت على جمعه، لذلك أرجو رجاءً خاصاً أن تنتظرني حتى شهر أكتوبر وهو شهر المحصول فأسدد لك باقي الحساب، فعليك الصفح وعلينا الوفاء. وفي أحد صناديق النذور وجد عقد اتفاق قانوني بين السيد صاحب الضريح والسيدة الناذرة، حيث نذرت لصاحب الضريح في هذا العقد القانوني بين هذه الناذرة الحية وبين هذا الميت، أن الطرف الثاني يتعهد بأن يدفع للطرف الأول مبلغ جنيه واحد كل شهر بدون تأخير ولا مماطلة ولا تسويف، إذا ما توسط الطرف الأول عند الله في أن يعيش ابن الطرف الثاني!! إلى آخر هذا الكلام. يقول: وهنا يروى أيضاً أن أحدهم وضع في صندوق نذور البدوي مبلغاً من المال على سبيل النصب، ثم رفع قضية إلى وزارة الأوقاف مدعياً أنه أراد أن يضع ورقة من فئة الجنيه فوضع بدلاً منها ورقة من فئة الخمسين جنيهاً!! والكتاب مليء وحافل بنماذج من هذا القبيل، وإنما أردت أن آتي بمثال، ولعل هذا يحتاج إلى درس مستقل بمفرده. والأفظع من ذلك أن بعض المسلمين يذهبون إلى قبر ما يسمى بالبابا بولس السادس أو الثالث، ويكتبون أمثال هذه الشكاوى وهذه الطلبات من مثل هذا المخلوق!! قبر البابا بولس تكتب له شكاوى ويخاطب ويطلب منه كل شيء مما لا ينبغي أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى!! ويوجد في مجلة البيان عدد شهر رجب ألف وأربعمائة وتسعة عشر، ملف كبير بعنوان: فسطاط الخرافة، ولأول مرة تتعرض المجلة لهذا الأمر، وهو بحث رائع جداً، وللأسف فإنه تأخر عن وقته؛ لأن المفروض أن مثل هذه القضايا هي أولى أن يهتم بها؛ لأن خطرها معلوم، وشيوع الضلال في هذا الباب معلوم، فالحمد لله أن القائمين على المجلة استدركوا هذا التقصير، وهذه أول مرة يفتح فيها هذا الملف ويتعامل معه معاملة سلفية نقية مائة بالمائة.

تفسير قوله تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء)

تفسير قوله تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء) قال تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، (وإذا حشر الناس) أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب، (كانوا) أي: آلهتهم التي عبدوها، (لهم أعداءً) أي: لتبروئهم منهم، (وكانوا بعبادتهم كافرين) أي: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا، فالتكذيب بلسان المقال فضلاً عن بيان أن معبودهم في الحقيقة هم الشياطين وأهواؤهم. قال القاسمي في قوله تعالى: ((وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً)): (كانوا أعداءً)؛ لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم لا تكون إلا لغرض نفساني، وكذا استعباد الموالي لخدمهم، فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب كانوا لهم أعداءً، وأنكروا عبادتهم، يقولون: ما خذلتمونا ولكن خذلتم أنفسكم، كما قيل في تفسير قوله: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات)

تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:7]، أي: بادروه بالجحود أول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعمال روية. (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) اللام هنا لام الأجل، وهي متعلقة بقال، وقيل: هي بمعنى الباء، وهي متعلقة بكفروا، وعدي الكفر باللام حملاً على نقيضه وهو الإيمان؛ لأن الإيمان يعدى باللام، كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]. وهذا الذي تضمنته هذه الآية بينه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30]، وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:2 - 3]، وقوله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7].

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) قال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف:8]. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني شيئاً إن أصابني الله به، و (إن) منقطعة مقدرة بـ (بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام المنوه به عن الإنكار والتعجب، فهو يدل على أن الافتراء على الله تعالى والكذب عليه جريمة أشنع من جريمة السحر، فهم يبدءون أولاً بقولهم: (هذا سحر مبين)، وكأن الله يقول: إنهم لا يقتصرون على قولهم: هو سحر مبين، بل يقولون ما هو أشد من ذلك، ثم يرد ذلك بصيغة الاستفهام الإنكاري التعجبي، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، (أم) تفكك إلى بل والهمزة: بل أيقولون افتراه، فجريمة دعوى الافتراء أشد بلا شك من دعوى السحر. ووجه كون الافتراء أشنع من السحر: أن الكذب -خصوصاً على الله- متفق على قبحه، حتى إنك ترى أن كل أحد يشمئز بنسبته إليه؛ بخلاف السحر فإنه إن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تكون معرفته من السمات المرغوبة. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ)، أي: بما تخوضون في حقه من أنه سحر أو إثم. (كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، أي: يشهد لي بالصدق مما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، لمن رجع منكم عن الكفر وتاب وآمن. قال الزجاج: إنما ذكر ها هنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم به ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به، كمثل قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]. يقول العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية الكريمة: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:8]: (أم) هذه هي المنقطعة، وتأتي بمعنى الإضراب، وتأتي بمعنى همزة الإنكار، وتأتي بمعناهما معاً الذي هو الإنكار والإضراب، وهذا هو الظاهر في هذه الآية الكريمة. فـ (أم) هنا تفيد معنى الإضراب والإنكار معاً، والمعنى: دع هذا واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه، فإن السحر أهون وأخف، بل أيقولون افترى على الله الكذب؟! هذا معنى: (أم يقولون افترى على الله الكذب)، دع هذا السحر فهو أخف مما هو آت، ولم يقتصر على ذلك؛ بل قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه أن محمداً عليه الصلاة والسلام افترى هذا القرآن. وقد أكذبهم الله في هذه الدعوى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38]، وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس:37]. وقوله تعالى: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، أي: إن كنت أنا قد افتريت هذا القرآن على سبيل الفرض فأنتم لن تملكوا لي من الله شيئاً، والله عز وجل هو من يعاجلني بالعقوبة الشديدة إن أنا افتريت على الله كلاماً لم يقله سبحانه وتعالى؛ فلابد أنه معاقبي أشد العقوبة، وأنتم لا تملكون لي من الله شيئاً، ولا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على ما أحدثت من الافتراء، وقد بين هذا قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]، وهذا على سبيل الافتراض أن لو وقع ذلك بم كان سيعاقب الله من يفتري عليه هذا القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم قطعاً أنه معصوم من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وسلم. فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44]، كقوله هنا في آية الأحقاف: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا). وقوله: (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، يساوي قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47]؛ لأن معنى قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47]، أي: أنهم لا يقدرون على أن يدفعوا عنه عذاب الله له بالقتل، ونظير ذلك في المعنى قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]. وأيضاً جاء معناه في قوله تعالى في سورة يونس: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15]، أي: إني أخاف إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره (عذاب يوم عظيم). وذكر الله تعالى مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخرى، كقوله سبحانه وتعالى عن صالح عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود:63]، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} [هود:30].

تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل)

تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل) قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف:9]. (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)، البدع والبديع من كل شيء هو المبتدع، والمعنى: أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى من قبلي، فقد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم فلم تستنكرون بعثتي وتستبعدون رسالتي؟ وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، والبدع كالبديع، بمعنى: الجديد المبتدع. قال ابن جرير: ومن البدع قول علي بن زيد: فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد أي: فلا أنا أول الناس الذي أصابتني هذه الحوادث بعد تقلب أحداث الزمان بالبؤس والتعس وبالشقاء والأفراح وغير ذلك. ومن البديع الذي هو بمعنى الجديد أو المبتدأ قول الأحوص: فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع والأحوص -كما في الأغاني- كان يوماً عند سكينة بنت الحسين، وهي من نسل النبي عليه الصلاة والسلام، فأذن مؤذن، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فاخرت سكينة بما سمعت من ذكر أبيها في الأذان، ولا شك أن هذا فخر في محله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، ورفع ذكر النبي عليه الصلاة والسلام رفع حسي ورفع معنوي، فمن الرفع الحسي: أن يذكر اسمه في الأذان خمس مرات على الأماكن العالية المرتفعة كما هي السنة، كما قال حسان بن ثابت: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد فيقترن الاسم باسم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن الذي فخرت به سكينة فخر عن جدارة واستحقاق، ولا يستطيع أحد مهما حاول أن يدانيها في هذا الفخار وهذا الشرف، فهي لما سمعت المؤذن يؤذن ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله؛ فاخرت بما سمعت، فقال الأحوص معلقاً على ذلك: فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع يعني: لست أنت أول من يفخر بهذه المكارم، فأنا أيضاً لي من المكارم ما أفخر به. فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع لأن الأحوص الشاعر هو أبو عاصم عبد الله بن محمد بن عبيد الله ابن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، فهو يفاخرها به، فيقول: فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع ويفتخر أيضاً بخاله حنظلة: غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع قال أبو زيد: وقد لعمري فخر بفخر لو على غير سكينة فخر به يعني: فعلاً هو افتخر بفخر لكن لو كان هذا الفخر على غير سكينة. وبأبي سكينة حمة أباه الدبر وغسلت خاله الملائكة لأن ما قيمة عاصم بن ثابت وما قيمة حنظلة إن لم يكونا قد شرفا بالانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالفخر عائد أيضاً إلى سكينة. فالشاهد من كل هذا الكلام: أن كلمة (بديع) تساوي كلمة (بدع) وتساوي المبتدأ أو الجديد، فهو ذكر أولاً شاهد البدع في قول علي بن زيد: فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد يقول: ومن استعمال كلمة البديع بنفس المعنى قول الأحوص: فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبـ ر قتيل اللحيان يوم الرجيع غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، قال أبو السعود: أي: لا أدري أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى، وماذا يقدر لنا من قضاياه، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله. وعن الحسن رضي الله عنه قال: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة، أي: وما أدري ما يفعل بي وبكم على جهة التفصيل، على أساس أنه يعرف من خبر الله أن الله سبحانه وتعالى مظهر دينه وناصر دعوته، فلعله يقصد على سبيل التفصيل، فالمنفي هو الدراية المفصلة. يقول: والأظهر أن (ما) في قوله: (وما أدري ما يفعل) عبارة عما ليس عينه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية دون ما سيقع في الآخرة، (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) يعني: في الدنيا، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين، بالنبي ومن معه وبالكافرين ومن معهم، انتهى كلام أبي السعود. وهذا القول هو الأظهر، وهو ما عول عليه ابن جرير، قال ابن جرير: (بل لا يجوز غيره)، فلا يجوز ولا يصح على الإطلاق أن يدعي أحد أن المقصود بقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) يعني: في الآخرة. وقال ابن كثير: (بل لا يجوز غيره)، يعني: لا يجوز غير أن يقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، إذ كيف يجوز ذلك وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة هو ومن اتبعه بإحسان، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئول إليه أمره وأمر مشركي قريش أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون لكفرهم؟! وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أم العلاء وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: صار لنا في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه -أي: كان من نصيبهم حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين- فاشتكى عثمان عندنا -أي: مرض- فمرضناه، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي)، قالت: فقلت: والله لا أزكي أحداً بعده أبداً، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لـ عثمان رضي الله عنه عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك عمله) فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم. وفي لفظ للبخاري: (ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به)، وفي رواية: (ما أدري ما يفعل بي)، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، أي: رواية: (ما يفعل به)، بدليل قولها: فأحزنني ذلك على عثمان، فيكون متفقاً مع رواية أم العلاء: (فإنني وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل به)، فلذلك حزنت بعدما كانت ظنت أن الله قد أكرمه بالفعل، فلما أدبها النبي عليه السلام بالأدب الواجب في مثل هذا، وأحزنها ذلك ونامت فرأت رؤيا ما يذهب عنها ذلك الحزن لاطمئنانها على عثمان حين رأت هذه العين الجارية، وأولها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها عمله. وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة وابن سلام والرميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وأشباه هؤلاء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلا ينبغي المجازفة في القطع بالجنة لمن لم ينص الوحي على أنه من أهل الجنة، وهذا للأسف الشديد شائع الآن خاصة في الزعماء والكبراء من الدعاة أو العلماء المعظمين عند أتابعهم، يتكلمون كأنهم جاءهم صك من الوحي بأن فلاناً الآن في الجنة، فهذا مما لا يجوز، وهذا من العدوان، كما هو ظاهر في هذا الحديث. ومعنى قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)، أي: فيما لم يوح إلي، والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي، ولم يكن لي أن أنسب إلى الوحي كذباً من عندي. (إِنْ أَتَّبِعُ)، أي: في تقرير الأمور الغيبية. (إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، أي: منذر عقاب الله على كفركم به، فقد أبان لكم إنذاره، وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم. وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية فقال رحمه الله تعالى: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) التحقيق -إن شاء الله-: أن معنى الآية الكريمة: في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء؟ وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة؟ وما أدري ما يفعل بكم: أيخسف بكم أم تنزل عليكم حجارة من السماء ونحو ذلك؟ هذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين. وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، وقال تعالى آمراً إياه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50]، وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس و

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10]. (قل أرأيتم إن كان من عند الله)، يعني: إن كان القرآن منزلاً من لدنه سبحانه وتعالى عليَّ لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون. (وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل)، أي: عالم من علماء بني إسرائيل، واقف على أسرار الوحي عن طريق التوراة التي يؤمن بها، (على مثله). وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو موسى عليه السلام، (على مثله) أي: على التوراة. وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو عبد الله بن سلام عالم اليهود وكبيرهم في المدينة وقد أسلم، (على مثله) أي: على مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المطابقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى، أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله شهادة على مثل شهادة القرآن؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله. وقد يكون المثل هنا صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، وهذا تعبير معروف في اللغة العربية أن كلمة (مثل) تستعمل هذا الاستعمال، فقوله: (على مثله) أي: عليه، أي: على أنه من عند الله. (فآمن) الشاهد وهو ابن سلام، (واستكبرتم) يا معشر اليهود. والفاء تدل على أن هذا الشاهد سارع إلى الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه الشهادة. (إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، هذا استئناف مشعر بأن كفرهم لضلالهم المتسبب عنه ظلمهم، وهذا دليل على جواب المحذوف؛ لأن الجواب هنا محذوف، فيقول: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم، أين الجواب؟ محذوف تقديره: ألستم ظالمين، أو فمن أضل منكم. فيكون مثل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52]، فوافقهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم إنما هو لظلمهم. يقول القاسمي: روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فتكون الآيات مدنية مستثناة من السورة؛ لأن عبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، فهذا هو السبب في أن بعض المفسرين قالوا: إن هذه الآية من الآيات المستثنيات؛ لأن السورة مكية، وقالوا: إن هذه الآية آية مدينة؛ لأنه إذا كان الشاهد عبد الله بن سلام فـ عبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة، وهذا استدلال غير قوي، لماذا؟ لأنه لا إشكال أن يخبر القرآن بذلك، وأن يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ويكون قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)، إخبار عما سيقع في المستقبل. إذاً: السورة مكية، وهذا إنما هو إخبار عما سيقع من إسلام عبد الله بن سلام فيما بعد، فما الإشكال في ذلك؟ وتكون هذه من علامات النبوة، تماماً كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا} [الأعراف:48]، فهذا إخبار بالماضي عن شيء سيحصل في المستقبل. ويرشحه: أن (شهد) معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً، فلا خير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره بها بياناً للواقع لا عن أنه مراد بخصوصه منها، هذا ما حققوه، وسواء كان هذا الشاهد عبد الله بن سلام أو غيره من علماء بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام فلا إشكال في هذا، فيكون معناها: أنه يصدق واقع استسلام عبد الله بن سلام وشهادته للقرآن وللرسول عليه السلام، فيعم كل من يشهد من علماء وأحبار بني إسرائيل للإسلام وللقرآن، فالمقصود أن اللفظ الكريم يتناول هذا الشاهد كما يمكن أن يتناول غيره. وقال العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10]: التحقيق -إن شاء الله- أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها، فإن المثل في لغة العرب تطلق أحياناً على الذات مثلها، وهذا مشهور جداً في لغتهم كما في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، معناها: ليس كالله شيء؛ لأن الله لا مثل له، فهذه الآية جارية على أسلوب عربي معروف وهو إطلاق المثل على الذات نفسها كقولهم: مثلك لا يفعل هذا، يعنون بذلك: أنت لا ينبغي لك أن تفعله، وعلى هذا فالمعنى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)): على هذا القرآن أنه وحي منزل حقاً من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له، ولذلك قال: ((فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، فهذا يرجح قول من فسرها بأنه شاهد على القرآن أنه حق من عند الله، فآمن هذا الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، بخلاف ما لو قلنا: (فشهد شاهد) وهو موسى عليه السلام، (على مثله) على التوراة، وماذا ستقولون في قوله: (فآمن واستكبرتم) في حق موسى عليه السلام والخطاب للمشركين؟ فأقوى وأوضح أن يقال: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) وهو عبد الله بن سلام، (على مثله) على القرآن نفسه، وليس على شيء آخر كالتوراة مثلاً؛ لما علم من لغة العرب أن المثل تطلق ويراد بها الذات نفسها، فآمن الشاهد وأما أنتم فقد استكبرتم عن الإيمان والانقياد. وهذا كقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، تفسيرها: كمن هو نفسه في الظلمات، وهذا أسلوب من أساليب العرب، وقال أيضاً تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، أي: فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق. إذاً: القول المحقق في أمثال هذه الآيات: أنه لا يقال: إن (مثل) هنا بمعنى أنه يوجد مماثل آخر، وإنما المقصود هو نفس الشيء، فقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، تفسيرها: فإن آمنوا بما آمنتم به، وليس: فإن آمنوا بشيء آخر مماثل لما آمنتم به، ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، وكأنها قراءة تفسيرية. والشاهد في الآيات هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية ليست مدنية كما سبق الجواب عن هذا، وأن القول بأنها مدنية غير لازم؛ لأنها في سورة مكية، بل يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل أن يقع، ويحمل قول من قال: إنها نزلت في عبد الله بن سلام على أن لفظ الآية يشمل عبد الله بن سلام وغيره، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه)

تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه) أشار تبارك وتعالى إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل، فقال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11]. (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، أي: لو كان الإيمان، أو لو كان ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ما سبقتمونا إليه، أي: لو كان من عند الله لكنا أولى به كسائر الخيرات من المال والجاه. قال ابن كثير: يعنون بلالاً وعماراً وصهيب وخباباً رضي الله تعالى عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية، وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطئوا خطأً بيناً، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]، يقول الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، بلى. أي: يتعجبون كيف ساد هؤلاء دوننا؟! ولهذا قالوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه). وهذه العبارة من كلام ابن كثير ينبغي أن تحفظ؛ لأنها عبارة رائعة من ابن كثير رحمه الله، فهو يفرق بين قول أهل الحق، أهل السنة والجماعة، وبين قول هؤلاء الكافرين المتمردين المتكبرين في نظرة كل فريق إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم إن كانوا يقولون: لو كان الإسلام خيراً ما سبقونا إليه احتقاراً وازدراءً لهم فإنا نردد مع ابن كثير رحمه الله تعالى قوله: (وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها رضي الله تعالى عنهم أجمعين)، فهذه عبارة حقها أن تكتب بماء العيون ليس فقط بماء الذهب. ونحن والكفار كلانا لنا موقف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فقد كانوا يحتقرون ضعفاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفقراءهم وعبيدهم بأن يقولوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه) استكباراً وعلواً واحتقاراً وازدراءً لهم. أما أهل الحق في كل عصر وفي كل دين إلى أن تقوم الساعة فإنهم يقولون: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى الناس بالخير، وفي هذه العبارة يدفع في صدر كل مبتدع أياً كان إذا كان يبتدع شيئاً لم يفعله الصحابة؛ فإننا ندرأ في نحره بهذه العبارة الرائعة من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى: وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11]. (وإذ لم يهتدوا به) يعني: بالقرآن. (فسيقولون هذا إفك قديم) أي: كذب قديم، كما قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، قال ابن كثير: فيتنقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حده: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فهم جمعوا بين هذين الركنين من أركان الكبر: بطر الحق: تكبر عن الانقياد إلى الحق، واحتقار الناس: فهم احتقروا الصحابة وقالوا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، وتنقصوا القرآن بأن لم ينقادوا به، بأن قالوا فيه: {هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ}، هذا أساطير الأولين، فجمعوا بين هذين الركنين اللذين هما ركنا الكبر. فأهل القرآن ينبغي أن يكونوا أعظم الناس حظاً من التبجيل والاحترام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سماهم باسم ينبض بأعظم معاني التكريم ورفع الشأن حينما قال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)، فهم خاصة الله عز وجل من بين الخلق، وهم أيضاً الذين مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ولذلك فقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا) على تفسيرات عدة: منها: من لم يشعر بأنه أغنى خلق الله إذا حاز القرآن بين جنبيه وفي صدره، فهذا قد حاز أعظم الغناء، ولذلك قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام بعدما قال له سبحانه وتعالى أولاً: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، فمن ثم نهاه بعدها مباشرة وقال: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:88]؛ لأنك غني بالقرآن، فلا تحتاج أبداً أن تنظر إلى زينة الحياة الدنيا، فالزينة هي القرآن وهي الإيمان، أما هؤلاء الكفار فقد تمكنوا من صفة الكبر، واستوفوا ركني الكبر اللذين هما: بطر الحق، فتكبروا عن الانقياد للحق حينما قالوا: ((هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، أو قالوا: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، وغمط الناس حينما قالوا في المؤمنين: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)). كان رجل يقول: ما من علم إلا ويوجد في القرآن، فقال له رجل على سبيل التحدي والتعجيز: فأين في القرآن: إن المرء عدو ما يجهل؟ فقال له: في قوله تعالى: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))؛ لأنه لما جهل القرآن وجهل الحق عاداه. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)): أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة: أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ): أنهم كفار مكة، وأن مرادهم: أن فقراء المسلمين وضعفاءهم كـ بلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم رضي الله تعالى عنهم أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير، وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير بزعمهم، وأن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة، وهذا المعنى تدل له آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر القرآن به القرآن. أما ادعاؤهم: أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة، فتكذيب الله لهم في ذلك قد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]، فمن الاغترار ومن الجهل والحمق أن يظن هؤلاء الكفار أن الله إن كان أعطاهم الدنيا فلابد أن ما هم فيه خير، وأنه سوف يؤتيهم مثله في الدار الآخرة، كلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين والإيمان إلا لمن أحب واصطفى. ففي ميزان الله سبحانه وتعالى لا الصور ولا الأحساب ولا الأنساب ولا المال ولا الجاه يؤثر على الإطلاق، وإنما أكرمكم عند الله أتقاكم، وإلا فكل البشر سواء؛ لا فضل لعربي على أعجمي لأبيض على أسود ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى كما بين النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:77 - 80]، وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، مع قوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]، وفي سورة الكهف: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36]. وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير، وأن ما هم عليه لو كان خيراً لسبقهم إليه أصحاب الغناء والجاه والولد من الكفار فقد دلت عليه آيات أخرى، كقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]، فهمزة الإنكار في قوله: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير، وقد رد الله عليهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، بلى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]. وقال تعالى في الأعراف: (

تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة)

تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة) قال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:12]. (من قبله) أي: من قبل القرآن، (كتاب موسى) ومع ذلك لم يهتدوا به. (إماماً) أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه. (ورحمة) لمن آمن به وعمل بما فيه. (وهذا كتاب) هذا الذي يقولون فيه ما يقولون. (مصدق) أي: بكتاب موسى، من غير تعلّم من أُنزل عليه إياه. (لساناً عربياً) (لساناً) حال، (عربياً)، أي: بيناً واضحاً، وفي تقييد الكتاب بذلك مع أن عربيته أمر معلوم للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية. وهذا معنى جيد، وكان يكفي أن يقال: وهذا كتاب عربياً، لكن أتى بكلمة: (لساناً عربياً) للتوكيد، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيد صالحاً، فزيادة (رجلاً) للتوكيد. ويذكر القاسمي هنا فائدة لذكر لفظ (لساناً عربياً) أي: بيناً واضحاً، وقيد الكتاب بأنه (لساناً عربياً) مع أن عربية القرآن أمر معلوم، ما سر ذلك؟ سر ذلك: للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية، وهذا كتاب مصدق للتوراة، أتى بلسان عربي فاتحدت معاني الدعوة للتوحيد بين التوراة والقرآن، فالقرآن يطابق التوراة باتحادهما في المعنى، مع أنها غير عربية، ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أن الذي أوحى القرآن إلى النبي عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعرف لغة التوراة ومع ذلك ففي كتابه نفس المعاني التي في هذا الكتاب. (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: المشركين. (وَبُشْرَى)، أي: وهو بشرى، (لِلْمُحْسِنِينَ). ومن الملاحظ أن القرآن الكريم حافل بالمواضع التي فيها ربط بين الرسولين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأيضاً في الكتب مواقف كثيرة فيها الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والربط دائماً بين التوراة وبين القرآن الكريم، وبين هذه الأمة وبين أمة بني إسرائيل، ومن ذلك قوله تعالى هنا: (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل القرآن، (كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ) أي: هذا القرآن، (مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا)، فهذا ربط بين القرآن وبين التوراة. وفي نفس السورة قال تعالى عن مؤمني الجن لما سمعوا القرآن: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30]، فلم يقولوا: من بعد عيسى؛ لأنه كما ذكرنا هناك ربط شديد في القرآن بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن الشريعة الأساسية هي شريعة موسى عليه السلام، أما عيسى فجاءت شريعته مكملة فقط وليست هي الكتاب الأساس، وإنما الأساس هو التوراة. كذلك أيضاً في مقدمة سورة الإسراء ربط هذا الربط الذي أشرنا إليه، وفي حديث إسلام النجاشي لما تلا جعفر على النجاشي وأصحابه سورة مريم، بكى النجاشي وقال: إن هذا هو الذي جاء به موسى، وإنهما ليخرجا من مشكاة واحدة. وكذلك قال ورقة بن نوفل مع أنه كان نصرانياً، كما في حديث بدء الوحي، قال: (هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى) إلى آخر الحديث. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الأحقاف [15 - 20]

تفسير سورة الأحقاف [15 - 20]

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا)

تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) قال الله تبارك وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]. قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) وقرئ: (حسناً)، وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور في قوله تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف:17] أي أن هذه مقدمة بذكر حق الوالدين قبل التعرض لذكر كل عاصٍ عاقٍ لوالديه. (حملته أمه كرهاً) قيل: المراد بهذا الكره شدة الطلق، وقيل: حملته أمه كرهاً أي: حملاً ذا كره وهو المشقة التي تعانيها في الحمل كلما ثقل، ((ووضعته كرهاً)) هذا هو الذي قيل إنه شدة الطلق، فشدة الطلق داخلة في قوله: (ووضعته كرهاً).

مدة الحمل والرضاع

مدة الحمل والرضاع قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ((وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا))، أي: حمله جنيناً في بطنها وفصاله من الرضاع ثلاثون شهراً، أي: تمضي عليها هذه المدة ثلاثون شهراً بمعاناة المشاق ومقاساة الشدائد لأجله، مما يوجب للأم مزيد العناية وأكيد الرعاية. ولو أننا حسبنا حمله وفصاله ثلاثين شهراً، فمدة الحمل تسعة أشهر، وأجل الرضاع: أربعة وعشرون شهراً، فيكون المجموع ثلاثة وثلاثون شهراً. فقوله: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) إما أنهم أسقطوا الكسر واكتفوا بالعقود، أو أن مدة الرضاع لا يشترط أن تستوفى إلى غاية السنتين، فقد تكون أقل من ذلك كما هنا في هذه الآية، أو أن أقل مدة الحمل كما استنبط ذلك علي رضي الله تعالى عنه بضميمة هذه الآية إلى الآية الأخرى، تكون ستة أشهر. يقول: لا يقال: بقي ثلاثة أشهر؛ لأن أمد الرضاع حولان؛ لأنا نقول: إن الحولين أمد من أراد إتمام الأجل، وإلا فأصله أقل منهما كما ينبئ عنه قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، إذاً: لا يشترط أن تستوفى مدة الرضاعة حولين كاملين، ولنفرض أن أمد الرضاع لابد أن يكون سنتين، فيكون في الآية اكتفاء بالعقود وحذف الكسور، فبدل أن يقول: ثلاثة وثلاثون شهراً، اكتفى الله سبحانه وتعالى بذكر العقود الثلاثة وهي الثلاثون، وحذف الكسور جرياً على عرف العرب في ذلك، كما ذكروه في حديث أنس في وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنه توفي عليه الصلاة والسلام على رأس ستين سنة، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين سنة، فهذا يحمل على أن أنساً رضي الله تعالى عنه اكتفى بذكر العقود وحذف الكسور، كما هي عادة العرب في ذلك. قالوا: إن الراوي للأولى اقتصر فيه على العقود وترك الكسور، وسر ذلك هو القصد إلى ذكر المهم وما يكتفى به فيما سيق له الكلام، لا ضبط الحساب وتدقيق الأعداد. قال ابن كثير: وقد استدل علي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية مع الآية التي في سورة لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وقوله تبارك وتعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

معنى الكره في الحمل والوضع

معنى الكره في الحمل والوضع قال العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية الكريمة: ((حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا)): قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمر وهشام عن ابن عامر (كَرهاً) وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر (كُرهاً) بضم الكاف في الموضعين، وهما لغتان كالضُعف والضَعف، و (حملته كَرهاً أو كُرهاً) معناه: أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة، ومن المعلوم أن ما تلاقيه الحامل من المشقة والضعف إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها يكون كبيراً، ومعنى وضعته كرهاً: أنها في حالة وضع الولد تلاقي من ألم الطلق وكربه مشقة شديدة كما هو معلوم، وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه، لا شك أنه يعظم حقها بها، ويتحتم برها والإحسان إليها كما لا يخفى، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل دلت عليه آية أخرى، وهي قوله تعالى في سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14]، أي: ضعفاً على ضعف؛ لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها ازدادت ضعفاً على ضعف. وقوله هنا (كرهاً) في الموضعين مصدر منكر، وتعرب: كرهاً على أنها حال مع أنه نكرة، ومجيء المصدر المنكر حالاً كثير، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع وقال بعضهم: كرهاً في الموضعين: نعت لمصدر، أي: حملته حملاً ذا كره، ووضعته وضعاً ذا كره، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: ((وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا))، هذه الآية الكريمة ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل، ولكن بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل؛ لأن هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف صرحت بأن أمد الحمل والفصال معاً ثلاثون شهراً، فيكون مجموع الحمل مع الفصال ثلاثين شهراً، وقوله تعالى في سورة لقمان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وكذلك قوله في سورة البقرة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233]، ليبين أن أمد الفطام عامان، وهما أربعة وعشرون شهراً، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمداً للحمل وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين العلماء، ودلالة هذه الآية على أن الستة الأشهر أمد للحمل هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة. فالحمل إما تسعة أشهر وأقله ستة أشهر، أما الرضاع فأربعة وعشرون شهراً، فحمله وفصاله (9أشهر+24شهر=33شهراً) أو حمله وفصاله (6+24=30)، كما في هذه السورة، إذاً ستة أشهر هي أقل مدة الحمل.

معنى بلوغ الإنسان الأشد

معنى بلوغ الإنسان الأشد قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15]، قال القاسمي: حتى إذا استكمل قوته وعقله وبلغ أربعين سنة، وفي ضوء منهج تفسير القرآن بالقرآن هل نستطيع أن نوجد من القرآن الكريم تفسيراً دقيقاً لمعنى (أشده)؟ يقول تعالى في سورة النساء: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، إذا ضممنا هاتين الآيتين إلى بعض وفهمنا هذه الآية في ضوء تلك استطعنا أن نفسر قوله تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الأنعام: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152]، ما معنى أشده؟ أوضحها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]، إذاً: في ضوء تفسير القرآن بالقرآن نفهم أن قوله تعالى هنا: (حتى إذا بلغ أشده) أي: بلغ الحلم، (وبلغ أربعين سنة) أي: بعد ذلك وهو غاية الكمال والنضج البدني والعقلي.

معنى قوله: (وبلغ أربعين سنة)

معنى قوله: (وبلغ أربعين سنة) قوله تعالى: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف:15]، أي: أمهلني، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف:15]، أي: بالهداية بالتوحيد والعمل بطاعته وغير ذلك، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] أي: واجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، ((إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ)) أي: من ذنوبي التي سلفت مني، ((وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) أي: المستسلمين لأمرك ونهيك المنقادين لحكمك. إذاً: يستحب لمن شرع في الأربعين فما فوقها أن يكثر من هذا الدعاء: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ لأنه إذا بلغ هذه السن فقد بدأ المرحلة الأخيرة من العمر، أو بتعبير آخر يسمونها في الطب العمر المتوسط، وهو السن الذي يبدأ من الأربعين إلى الستين، وما بعد الستين يسمونه الشيخوخة، بخلاف العرب فإنهم يعدون من بلغ الأربعين شيخاً. وقال بعض السلف: تركت الذنوب حياءً من الناس أربعين سنة، وتركتها حياءً من الله أربعين سنة، وقال بعضهم: إن سن الأربعين هو مصدر لإلهام كثير من الأدباء والشعراء بكثير من المعاني التي تفيض بمساءة من قد اقترب من القبر جداً، ولذلك يقول بعضهم: تمسكت بعد الأربعين ضرورة ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ يعني: لم يبق لي إلا أن أتمسك، ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ عندما يأتيه أجله، فهي السن التي يبدأ الإنسان يترقب فيها حضور أجله، فإن الإنسان في فترات الفحولة والصبا والشباب إذا سلم من الآفات في كل هذه الفترات فهو كالزرع إذا سلم من الآفات في جميع مراحل نموه، لكن مهما نما ومهما سلم فسوف تكون نهايته الحصاد، فلابد أن يحصد حتى وإن سلم فيما مضى من السنين.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) قال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16]. (أولئك)، أي: الموصوفون بالتوبة والاستقامة في الآيات السابقة. (الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) أي: من الصالحات فنجازيهم عليها، ونتجاوز عن سيئاتهم، أي: فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم منها، (في أصحاب الجنة) أي: في جملة من يتجاوز عنهم وهم معدودون في أصحاب الجنة وفي زمرتهم ثواباً ومقاماً. قال الشهاب: والظاهر أنه من قبيل: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] أي: أن كلمة: (في أصحاب الجنة) تعبير يستفاد منه المبالغة في علو منزلتهم في الجنة، فإن قولك: فلان معدود في العلماء، أو فلان من العلماء، أقوى من أن تقول: فلان عالم. وكذلك قوله تبارك وتعالى هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ))، أي: أولئك في أصحاب الجنة، فهذه أبلغ من قول: أولئك أصحاب الجنة، فتكون من باب قوله تعالى في يوسف عليه السلام: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20]، فيوسف الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ومع ذلك (كانوا فيه من الزاهدين) إشارة إلى علو مقام يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فمن لم يتنبه لهذا المعنى قال: إن قوله: (في أصحاب الجنة) بمعنى: مع أصحاب الجنة، والصواب أن هناك سراً في إيثار (في) على (مع) في اللفظ الكريم، فلم يقل تعالى: أولئك مع أصحاب الجنة، ولكن قال: (أولئك في أصحاب الجنة)؛ لأن (في) تفيد المبالغة في علو مكانهم ومنزلتهم. (وعد الصدق)، منصوب على أنه مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (أولئك الذين نتقبل عنهم) فهذه فيها معنى الوعظ، كأنك تقول في التفسير: أولئك الذين وعدهم الله أن يتقبل عنهم أعمالهم فوعدهم بالقبول، فقال سبحانه وتعالى: (وعد الصدق) كأنه يقول: وعدتهم وعد الصدق أن أتقبل أعمالهم، يؤكد ذلك قوله تعالى: (الذي كانوا يوعدون) على ألسنة الرسل في الدنيا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران:194]، فقوله تعالى: ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ))، أي: وعدهم تعالى هذا الوعد، وعد الحق في الدنيا وهو موفيه لهم في الآخرة، كما قال: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].

تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)

تفسير قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) بين الله تعالى من عصى ما وصى به من الإحسان لوالديه من كل ولد عاق كافر، وبين مآله وماله في مآله؛ بقوله سبحانه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا}. إذاً: هذه الآية نزلت لتشمل كل كافر عاق لوالديه المؤمنين: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17]. (والذي قال لوالديه) أي: حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة، (أف لكما) أي: من هذه الدعوة؛ لأن (أف) اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، (أتعدانني أن أخرج) أي: أبعث من قبري بعد فنائي، (وقد خلت القرون من قبلي) أي: قد هلكت ومضت ولم يرجع أحد منهم، وهذا يعني أن هذا الولد العاق الكافر يكذب بالبعث والنشور، ويقول: (قد خلت القرون من قبلي) ومضوا، ولم يعد منهم أحد. (وهما يستغيثان الله) أي: يطلبان الغياث بالله منه، والمراد إنكار قوله واستعظامه؛ كأنهما لجئا إلى الله في دفعه، كما يقال: العياذ بالله، أو المعنى: وهما يطلبان من الله أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه، (ويلك آمن): صدق بوعد الله، وأقر بأنك مبعوث بعد موتك، والويل في الأصل معناها الدعاء بالهلاك، فأقيم مقام الحث على فعل أو ترك، أي أن أصل كلمة الويل: دعاء على الإنسان بالهلاك، لكن كثر وشاع استعمالها في الحث على الفعل أو الترك، يقال: ويلك ماذا تفعل؟ ويلك افعل كذا، فتستعمل في الحث على الفعل أو الترك للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه وأخذ الأصلح له. (إن وعد الله حق) أي: إن وعده تعالى لخلقه بأنه سوف يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حق لا مرية فيه. (فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين): فيقول هذا الكافر العاق مجيباً لوالديه وراداً عليهما نصيحتهما وتكذيباً لوعد الله: (ما هذا) الذي تقولانه (إلا أساطير الأولين) أي: أباطيلهم التي كتبوها.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول) قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18]. (أولئك) أي: الكفار، كأن قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) ثم قوله في أول الآية التي تليها: (أولئك الذين حق عليهم القول) إشارة إلى أولئك الكفار العاقين لوالديهم المؤمنين، وهذا الذي رجحه العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى. إذاً: قوله تعالى: (أولئك) أي: أولئك الكفار المشار إليهم في الآية السابقة من كل كافر عاق، (أولئك الذين حق عليهم القول) الإلهي، وهو العذاب المذكور في قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، ((فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ)) أي: مع أمم قد خلت ((مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ)) أي: الذين كذبوا رسل الله وعتوا عن أمره ((إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ)) ببيعهم الهدى بالضلال والباقي بالفاني.

تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا)

تفسير قوله تعالى: (ولكل درجات مما عملوا) قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:19]. (ولكل): هذا تنوين تعويض عن اسم، وهو ما يضاف إلى (كل)، والمعنى: ولكل فريق من الفريقين المذكورين المؤمنين والكفار. والإشارة إلى الفريقين في قوله: (ولكل درجات مما عملوا) هي إشارة إلى الطرفين المذكورين: الفريق الأول: الذين قال تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14]، إلى قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:15 - 16]، هذا هو الفريق الأول. والفريق الثاني: (والذي قال لوالديه أف لكما) إلخ. (ولكل درجات مما عملوا) أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر، فيتفاضل أهل الجنة في الكرامة وأهل النار في العذاب، فإن درجات الجنة تذهب علواً، كلما ارتفعت تكون أعلى، ودركات النار تذهب إلى أسفل، فالجنة درجات كما أن النار دركات. (ولكل درجات مما عملوا) أي: مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيئ، (وليوفيهم أعمالهم) أي: جزاءها، (وهم لا يظلمون)، بنقص ثواب ولا زيادة عقاب.

ما ورد في سبب نزول الآيات

ما ورد في سبب نزول الآيات روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن هذه الآية نزلت في ابن لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، قال لأبويه وهما: أبو بكر وأم رومان وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام، فكان يرد عليهما ويكذبهما فيقول: فأين فلان؟ وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، فأسلم بعد ذلك عبد الرحمن وحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف:19]. وهذا غير صحيح، فلا يصح أن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما؛ لأن قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ)) يثبت لهذا الشخص أو هذه المجموعة من الكفار العاقين دخول النار، فمن أثبت الله له سوء العاقبة، وأنه من أهل النار، فهل يحتمل أن يكون من غير أهل النار؟ وهذا مثل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]، وهذه الآية يذكر أنها علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يسلم أبداً لا هو ولا امرأته، وبالفعل ماتا على الكفر والعياذ بالله، فصارت هذه من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كذلك قوله هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فإذا كان الله قد كتب الشقاء على إنسان فلا يمكن أن يبدل هذا الحكم، في حين أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قد أسلم وحسن إسلامه. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (لكن نفي عائشة وهي أخت عبد الرحمن أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته أصح إسناداً وأولى بالقبول)؛ فأم المؤمنين عائشة لا شك أنها أعلم بأخيها وبأهل بيتها وبأبويها رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فنفي عائشة أصح من حيث الإسناد وأولى قبولاً، وذلك ما رواه البخاري والإسماعيلي والنسائي وأبو يعلى: أن مروان كان عاملاً على المدينة، فأراد معاوية رضي الله عنه أن يستخلف يزيد، فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم فذكر يزيد ودعا إلى بيعته، وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلفه -ليدافع عن هذا الأمر، وأن هذه ليست بدعة- فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: ما هي إلا هرقلية، يعني: أنتم تحاولون جعلها نظاماً ملكياً بالتوارث، بعدما يموت معاوية رضي الله تعالى عنه يرثه ابنه الملك ويكون يزيد ملكاً بعده، فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: هرقلية، إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده، فقال مروان: خذوه -اقبضوا عليه- فدخل عبد الرحمن بيت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا -يقصد عبد الرحمن بن أبي بكر -الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17]، فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن -أي: نحن آل أبي بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين- إلا أن الله أنزل عذري، ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله لعن أبا مروان ومروان في صلبه. إذاً: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها نفت تماماً وقطعت بأنه لم ينزل في آل بيت أبي بكر شيء من القرآن إلا ما أنزل الله سبحانه وتعالى في براءتها رضي الله تعالى عنها، وهذا من حيث الإسناد أصح، ومن حيث المعنى أولى بالقبول. قال الزجاج: وقول من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن باطل؛ لقوله تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فأعلم الله أن هؤلاء لا يؤمنون، فما دام حق عليهم القول لا يؤمنون، وعبد الرحمن رضي الله تعالى عنه مؤمن. يقول القاسمي: ومما يؤيده: أن الذين حق عليهم القول هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين، وقد حاول بعضهم عدم التنافي والجمع بين القولين: بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه ثم يسلم بعد ذلك، ومعلوم أن الإسلام يجب ما قبله، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمقبلين عليه الذين لم يقلعوا لكثرة ما ورد في العفو عن السائلين، وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى، وكلها على من كان مشركاً آنئذ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم، أو أن فيها ما يحط من أقدارهم ويجعلها مغمزاً عليهم، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا هذا، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة وقالة يلوكها الرعاع، وهم الذين يهمه أمرهم، ويرحم الله عبد الرحمن فقد كفى الأمة وصدع بالحق في حين أن لا ظهير له ولا نصير، والله تعالى أعلم. إذاً: القول الراجح والأقوى من حيث السند ومن حيث المعنى ألا يكون ذلك في عبد الرحمن، واستظهرنا على ذلك بقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأحقاف:18] إلى آخره. وهناك قول آخر لبعض العلماء الذين أرادوا أن يجمعوا بين الاثنين فقالوا: ربما هي فعلاً نزلت في حق عبد الرحمن بن أبي بكر لكن ذلك كان قبل إسلامه، ثم بعد ذلك أسلم وحسن إسلامه، والإسلام يجب ما قبله، وبما أن الإسلام يجب ما قبله فلا يجوز على الإطلاق تعييره بشيء ارتكبه حال كفره. واستدل أصحاب هذا القول بأنه في بداية الوحي ونزول القرآن الكريم في السور المكية كانت هناك آيات فيها وعيد شديد للكفار وللمشركين، فكانت تشمل كل مشرك قائم في ذلك الوقت، لكن بعد ذلك لما أسلم عدد كبير من الصحابة زال عنهم وصف الشرك؛ فخرجوا من استحقاق الوعيد الموجود في هذه الآيات التي نزلت في أول الوحي حينما أسلموا وحسن إسلامهم، وبالتالي لا يجوز أبداً أن يعير مسلم بما ارتكبه في حال الشرك. فكأنه يقول: حتى لو كانت الآية فعلاً نزلت في حق عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما فهذا مما لا ينبغي أن يعير به عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه أسلم بعد ذلك، والإسلام يجب ما كان قبله، فلم يكن لـ مروان أن يطعن فيه بمثل هذا؛ بل إنه لجأ إلى أن يعزف على نغمة يطرب لها الجهلة، وقالة يلوكها الرعاع، ويرحم الله عبد الرحمن فقد أحسن في تصديه لـ مروان، ورد أبلغ الرد بحيث إنه كان ضعيفاً لا أهل ولا والد له ولا نصير ولا ظهير إلا الله سبحانه وتعالى.

الأضرحة والقبور المزورة

الأضرحة والقبور المزورة قال ابن قتيبة في المعارف: أربعة رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وهم من بعضهم البعض: أبو قحافة وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه محمد بن عبد الرحمن، أي: الجد أبو قحافة والابن أبو بكر والحفيد عبد الرحمن بن أبي بكر وابن ابن الابن وهو محمد بن عبد الرحمن. وقال ابن قتيبة أيضاً: كان عبد الرحمن من أفضل قريش، ويكنى أبا محمد، وله عقب بالمدينة، وليسوا بالكثير، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين في جبل يقرب من مكة، فأدخلته عائشة رضي الله تعالى عنها الحرم فدفنته وأعتقت عنه. وفيه مسقى في مقبرة باب السراديب المسماة بالدحداح، ما دام يقال: إنه عبد الرحمن بن أبي بكر وقد أثبت أنه دفن في مكة رضي الله عنه، وأن أم المؤمنين هي التي دفنته، ثم يعقب قائلاً رحمه الله تعالى: وفي دمشق في مقبرة باب سراديب المسماة بالدحداح مزار يقال: إنه قبر عبد الرحمن بن أبي بكر نسب إليه زوراً، وانتبهوا الآن إلى العبارة الجميلة من القاسمي حيث يقول: وما أكثر المزورات في المزارات، كما يعلمه من دقق في الوفيات. ويوجد بحث رائع جداً يليق أن يجمع كبحث مستقل يسمى: المزارات المزورات، وقد بلغت الفتنة عند المسلمين بموضوع القبور والمزارات والمشاهد إلى أن أصبحت أغلبها مزورة. وما أكثر المزارات الباطلة والمزعومة أنها للأولياء والصالحين، ولعلنا نذكر من ذلك أمثلة منها: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ضريح الحسين في القاهرة كذب مختلق بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم الذين يرجع إليهم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم، فإنه معلوم باتفاق الناس أن هذا المشهد في القاهرة بني عام بضع وأربعين وخمسمائة، وأنه نقل من مشهد بعسقلان، وأن ذلك المشهد بعسقلان كان قد أحدث بعد التسعين والأربعمائة، فمن المعلوم أن قول القائل: إن ذلك الذي بعسقلان هو مبني على رأس الحسين رضي الله عنه قول بلا حجة أصلاً، وقد ورد عن المتائهي ابن دقيق العيد وابن خلف الدمياطي وابن القسطلاني والقرطبي صاحب التفسير وعبد العزيز الديجني: إنكارهم أمر هذا المشهد؛ بل ذكر عن ابن القسطلاني أن هذا المشهد -مشهد الحسين - مبني على قبر نصراني! وهذا شيء لا يستغرب، فإنه يوجد في العهد القريب في دمنهور مولد أبي حصيرة وهو يهودي، بدليل أن اليهود جعلوه مسمار جحا، ويأتون كل سنة في مولده، وتقام حفلات كبيرة عنده، حتى إن الدولة أقامت لهم (كوبري) يوصل إلى أبي حصيرة مباشرة، فيأتي اليهود والمسلمون يحتفلون معاً بمولد أبي حصيرة اليهودي، وعليه يبعد أن يكون ما ذكره ابن القسطلاني: صحيحاً، وهو أن المشهد الحسيني مبني على قبر نصراني. يقول شيخ الإسلام: وإضافة إلى مشهدي عسقلان والقاهرة هناك ضريح آخر في سفح جبل الجوشن غربي حلب ينسب إلى رأس الحسين أيضاً، وهو من أضرحة الرؤيا -أي: بني بسبب رؤيا- وكذلك توجد أربعة مواضع أخرى يقال: إن بها رأس الحسين في دمشق والحنانة بين النجف والكوفة، وبالمدينة عند قبر أمه فاطمة رضي الله تعالى عنهما، وفي النجف بجوار القبر المنسوب إلى أبيه رضي الله عنهم، وفي كربلاء حيث قيل: إنه أعيد إلى جسده. ورغم أن المحققين يقولون: إن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما ماتت بالمدينة ودفنت في البقيع، إلا أن القبر المنسوب إليها والذي أقامه الشيعة في دمشق هو القبر الأول الذي يحظى بحج الجماهير إليه، ولا يقل عنه جماهيرية ذلك الضريح المنسوب إليها في القاهرة، والذي لم يكن له وجود ولا ذكر في عصور التاريخ الإسلامي إلى ما قبل محمد علي باشا بسنوات معدودة، ويقول علي مبارك في الخطبة التوفيقية: لم أر في كتب التاريخ أن السيدة زينب بنت علي رضي الله عنهما جاءت إلى مصر في الحياة أو بعد الممات. وأهل الإسكندرية بمصر يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أبا الدرداء مدفون في الضريح المنسوب إليه في مدينتهم، ومن المقطوع به عند أهل العلم أنه لم يدفن في تلك المدينة. هناك بعض المواضع سوف نتجاوزها فكلها تعكس فتنة كثير من المسلمين بهذه القبور، وكيف أن بعض القرى قد يعير أهلها لعدم وجود شيخ يحرسها، ومن يسافر على الطريق الزراعي يلاحظ المقابر ويرى وجود حفرة كبيرة يعتقدون أن هذا يحرس البلد، وكذلك يكون هناك قبر متميز. يقول: بل وصل الأمر إلى حد أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً من نسل النبي عليه السلام مر عليهم وهو مسافر، ولحبهم له أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها!! ومن الحب ما قتل! أيضاً يقول: في (تنارك) في الهند قبر أبي البشر آدم عليه السلام وتنارك هذه بلدة فيها جماعة سلفية قوية جداً في الهند، ومع ذلك يوجد فيها أيضاً قبوريون، وهناك قبر زوجه وقبر أمه، يقولون: هذا قبر آدم، وهذا قبر حواء، وهذا قبر أم آدم، ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة! ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى: أن شريف مكة الشريف عون عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز اعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، فقد كانوا يعتقدون أنه في جدة، وإنما يقال لها: جدة من جدة البشر، أي: جدتنا حواء، فلأجل ذلك -والله أعلم- يسمونها جدة، فاعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء؛ بحجة أن حواء أم لجميع الناس، وليست أماً للمسلمين فقط. وعلى كل حال: هذه إشارة عابرة من هذا الملف القيم إلا إنه بقي أيضاً بعض الإشارات تتعلق بما ذكرنا نحن به أهل الإسكندرية فهي مناسبة بمناسبة الكلام على المزارات المزورات. يقول الأستاذ سعد صالح محمد في كتابه: صراع بين الحق والباطل) المطبوع سنة 1368 هجرية: نشرت جريدة الجمهورية سنة 1359هـ أن أحد قطاع الطرق أراد أن يبحث عن عمل آخر غير احتراف السلب وترويح الناس، ففكر في مزاولة جريمة سلب أموال الناس في مجال آخر؛ ليكون في مأمن من يد القانون، وتشاور الرجل مع أفراد عصابته، وأخيراً استقر رأيهم على أن يدعي قاطع الطريق أنه ولي من أولياء الله الصالحين، فيطلق لحيته، ويلبس زي الدراويش، كما اتفقوا أيضاً على أن يقوم أفراد العصابة بأدوار المريدين، وأن يسيروا في ركاب ولي الله ليروجوا بين الناس معجزاته، ولكي يؤمن الأهالي بالشيخ ويشهدوا له ولو بمعجزة واحدة -هم يقصدون كرامة لا معجزة؛ لأن المعجزة خاصة بالأنبياء- اقترح قاطع الطريق أن يسرق رجاله محراثاً كان يمتلكه شيخ القرية، وأن يقوموا بتخبئته في مكان معلوم من الترعة، وسوف يقوم المريدون بالدعاية للولي في القرية، ويدعون أنه يعرف الغيب، وعندئذ سوف يأتيه شيخ القرية ليرشده إلى المحراث المسروق، وسوف تتم هنا المعجزة المشهودة، حيث يحقق ولي الله أمل صاحب المحراث، وبعدها سيصبح قاطع الطرق في معتقدات الأهالي من أولياء الله، ثم تتدفق عليهم جميعاً العطايا، وقام رجال العصابة بتنفيذ الفكرة وحدث ما توقعوه، وكبر الأهالي وهللوا؛ فقد أصبح الشيخ محقق المعجزات، وكان جوهرها قائماً على سرقة المحراث وتخبئته!! كشفت الأيام الغطاء عن ولية خيالية، وضعها سادة القبور ليحجبوا عن أعين الناس الحقيقة التي كانت مختفية تحت ذلك الضريح الوهمي، قرر المسئولون عام تسعة وخمسين وثلاثمائة وألف هدم مبنى محافظة القاهرة بناحية باب الخلق لبنائه من جديد، وكان المبنى القديم يضم في أحد أركانه ضريحاً أطلق عليه اسم: الشيخة سعادة، وادعى السدنة أنها ابنة الحسين رضي الله تعالى عنه، وبعد أن تم هدم المحافظة نفسها جاءت الفئوس لتأتي على بقية المبنى، وهو الركن الذي يضم الضريح، وانتشر خبر هدم الضريح في حي قبر سعادة والأحياء المجاورة لها، وسرعان ما تجمع الأهالي والمضللون وأحاطوا بالضريح على عادتهم في مثل هذه الحوادث، وراح المبطلون وغيرهم يتناقلون عن بعضهم بجهل وتقليد ما توارثوه من كلام سخيف غير معقول حول الضريح، فمن قائل: إن العامل الذي بدأ في الهدم شلت يداه ونحو ذلك، فبدءوا يحكون الكرامات حتى يحتالوا على الناس، وكلها في الكرامات المؤذية، فالذي بدأ في الهدم شلت يداه، وكسرت يد فأسه، وغير ذلك من الأراجيف والمفتريات. أما سادنة هذا الضريح فلم تنس هي الأخرى أن تطلق عدة شائعات، وكيف تنسى وقد هزتها الصدمة وزلزلت كيانها بسبب هدم الضريح، فقد كان مورد رزقها الوحيد، ومما كانت تحكيه السادنة عن كرامات الشيخة المزعومة: أن مهندساً حاول هدم الضريح وفوجئ في اليوم الثاني بقرار نقله إلى الصعيد، وبينما الناس مشغولون بقصة الضريح كانت الفئوس تنزل بالحفر إلى مسافات كبيرة، ولم يجدوا في الضريح شيئاً سوى بقايا ساقية وبعض المواسير والأسلاك الكهربائية والأحجار، وفضحت هذه الخدعة. أيضاً قال الشيخ سيد سابق حفظه الله تعالى حين كان مدير الثقافة بالأوقاف وقتها: إن هناك شيخاً اسمه الأربعين، له عدة أضرحة في أماكن متفرقة بمصر، وإنه لا يوجد شيخ بهذا الاسم، يقول: فليت سكان الصعيد الأفاضل يقتنعون بهذه الحقيقة وينصرفون عن هذا الولي الوهمي وغيرهم من الأولياء الذين أحبوهم وقدسوهم. يأتي دورنا هنا أهل الإسكندرانية، يقول: ولـ أبي الدرداء ضريح وهمي، وله أيضاً قصة تحمل في طياتها كرامة خيالية كان وما زال لها شأن كبي

معنى (الذي) في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما)

معنى (الذي) في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف:17]، يقول: التحقيق -إن شاء الله- أن الذي في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه) بمعنى: الذين، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث، والدليل من القرآن على أن (الذي) بمعنى: الذين، وأن المراد به العموم، وأن الذي في قوله تعالى: (والذي قال لوالديه) مبتدأ وخبره: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ))، فالذي: مبتدأ، وأولئك هي الخبر، والإخبار عن لفظة الذي في قوله: (أولئك الذين حق عليهم القول) بصيغة الجمع صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وبهذا الدليل القرآني نعلم أن قول من قال في هذه الآيات الكريمة: إنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ليس بصحيح كما جزمت عائشة رضي الله عنها ببطلانه، وفي نفس آية الأحقاف هذه دليل آخر واضح على بطلانه، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا بتلك المقالة حق عليهم القول، وهو قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف:18]، ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم وحسن إسلامه، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة رضي الله عنهم، وغاية ما في هذه الآية الكريمة إطلاق (الذي) وإرادة (الذين)، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب؛ لأن لفظة: (الذي) مفردة ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها؛ لأن (الذي) من صيغ العموم، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم كما أشار إليه في مراقي السعود في قوله: صيغه كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع إشارة إلى أن من صيغ العموم صيغة كل، وصيغة الجميع، وقوله: (وقد تلا الذي التي) الذي هي اسم موصول، وكذلك والتي أيضاً، والفروع: فروعهما اللذان واللتان وهكذا. فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف، وقوله تعالى في سورة البقرة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]، في التفسير نقول: كمثل الذين استوقدوا ناراً، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]. وقوله أيضاً في البقرة: {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] تفسيرها: كالذين ينفقون، بدليل أنه قال: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:264] بالجمع، وقال في الزمر: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، كذلك قال في التوبة: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69] أي: كالذين خاضوا، بناءً على أنها موصولة لا مصدرية، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة: فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد والمقصود: الذين، لأنه قال: هم القوم. وقول عدي بن الفرح العزي: وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي وقول الراجز: يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد يعني: إلا الذين قاموا. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (والذي قال لوالديه أف لكما)، أف: كلمة تضجر، وقائل ذلك عاق لوالديه غير مجتنب نهي الله تعالى في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]. {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] الأساطير: جمع أسطورة، وقيل: جمع إسطارة، ومراده بها ما سطره الأولون، أي: ما كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها.

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار)

تفسير قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار) قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]. (ويوم يعرض الذين كفروا) أي: واذكر لهم يوم يعرض الذين كفروا على النار، وهذا توبيخ لهم، (أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا) وقُرأت: (آذهبتم) وقرئ أيضاً: (أأذهبتم)، والعرب توبخ بألف وبغير ألف. (أذهبتم طيباتكم) أي: فما بقي لكم من اللذائذ شيء باستيفائكم إياها. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي: الهوان، {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: بغير ما أباح لكم وأذن، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} عن طاعته فأبعدكم عن كرامته.

استحباب عدم التوسع في المباحات

استحباب عدم التوسع في المباحات قوله تعالى: (فاليوم تجزون عذاب الهون) الهون: هو الهوان بلغة قريش، فقد تورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها، وكان يقول: أخاف أن أكون كالذين قال الله تعالى لهم وقرعهم: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)، وقال أبو مجلز: ليتفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأنا أعلم بخفض العيش ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصناباً وصلائق، ولكني أستبقي حسناتي، فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) قوله: (لأنا أعلم بخفض العيش) أي: أنا أعرف جيداً كيف أتمتع بأصناف المأكولات والمشروبات والملبوسات، فعندي خبرة في هذا وأعرف ذلك جيداً، وما أعرضت عنها جهلاً بها ولكنه يخشى هذه الآية. ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء، والصلاء: هو السواء، والصواب: هي الأصبغة، والصلائق: ما يسلق من البقول وغيرها، والصلائق: الخبز الرقاق العريض، يقول: ولكني أستبقي حسناتي؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها). وقال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وألينكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة، ولما قدم عمر الشام صنع له طعام لم ير قط مثله، فقال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة. فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام وذهبوا هم في حظهم بالجنة فلقد باينونا بوناً بعيداً. وفي صحيح مسلم وغيره: (أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربته حين هجر نساءه، قال: فالتفت فلم أر شيئاً يرد البصر إلا أهباً -أي: جلوداً- معطونة قد سطع ريحها، فقلت: يا رسول الله! أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟ قال: فاستوى جالساً وقال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، فقلت: استغفر لي، فقال: اللهم اغفر له). وقال جابر رضي الله عنه: اشتهى أهلي لحماً فاشتريته لهم، فمررت بـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟! فأخبرته، فقال: أوكلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه؟ أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]؟ قال ابن العربي: وهذا عتاب منه على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جنس الخبز والماء، فإن تعاطي الطيبات من الحلال تستشره لها الطباع وتستمرئها العادة، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض؛ لغلبة العادة واستكراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله، والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأخذ ما وجد طيباً كان أو قفاراً ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلاً ولا يجعله ديدنه، ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة وطريقة الصحابة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام، فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص ويعين على الخلاص برحمته. وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن، فإن تناول الطيبات الحلال مأذون فيه، فإذا ترك الشكر عليه، واستعان به على ما لا يحل له، فقد أذهبه، والله تعالى أعلم.

معنى عرض العذاب على الكفار

معنى عرض العذاب على الكفار يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: إن معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]، فقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20] معناه: يباشرون حرها كقول العرب: عرضهم على السيف إذا قتلهم به، وهذا معنى معروف في كلام العرب، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأحقاف:34]، وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب. وقال سبحانه وتعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:45 - 46]، فالعرض ليس معناه: أنه يعرض أمامهم العذاب، بل يعرضون على النار يعني: يدخلون العذاب ويباشرونه مباشرة، (وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً)؛ لأنه عرض عذاب. قال بعض العلماء: معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها، والكشف لهم عنها حتى يروها، كما قال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف:53]، وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23]. وقال بعض العلماء: في الكلام قلب، وهو من أساليب العرب، والمعنى: ويوم تعرض النار على الذين كفروا، فالآية: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20] والمعنى: ويوم تعرض النار على الذين كفروا، كما تقول العرب: عرضت الناقة على الحوض، يعنون: عرضت الحوض على الناقة، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية كقلب الفاعل مفعولاً والمفعول فاعلاً ونحو ذلك اختلف فيه علماء العربية؛ فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه، فأجازوا قلب المشبه مشبهاً به والمشبه به مشبهاً بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسراً لطيفاً، كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه بالمخلوق، وأجازه كثير من علماء العربية، والذي يظهر لنا: أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها، إلا أنه يحفظ ما سمع منه ولا يقاس عليه، يعني ما سمع فقط هو الذي يحفظ ويستعمل، لكن لا يقاس عليه غيره، ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز رؤبة: ومهمة مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه يعني: كأن سماءه لون أرضه. وقول آخر: وبدا الصبح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح الأصل تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح، فقلب في التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه، فهو يمدح وجه الخليفة لما يضيء ويشبهه بنور الصبح، وأيهما يكون أقوى بالشبه: المشبه أم المشبه به؟ المشبه به يكون أقوى، نقول: علي قوي كالأسد، مع أن الأسد أقوى، فالأصل أنه يشبه وجه الخليفة بنور الصبح، لكن أراد أن يوهم أن الخليفة نوره قوي جداً لدرجة أنه يشبه الصبح، فهو يوري بهذا القلب. قالوا: ومن أمثلة القلب في القرآن قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، (وآتيناه) أي: قارون، (من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) الذي ينوء بالمفاتيح هم العصبة، يعني: مجموعة من الرجال الأشداء الأقوياء، يعني: بمشقة كبيرة يستطيعون أن يرفعوا مفاتيح الخزائن، فهنا في القرآن الكريم جعل المفاتيح هي التي تنوء، فهذا من القلب؛ لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها، فهذا مثال من أمثلة القلب. ومنه أيضاً قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} [القصص:66]، يعني: عموا هم عن هذه الأنباء.

قول الشنقيطي في التقشف والتوسع في المباحات

قول الشنقيطي في التقشف والتوسع في المباحات يقول الشنقيطي: واعلم أن للعلماء كلاماً كثيراً في هذه الآية قائلين: إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ونحو ذلك، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك خوفاً منه أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]. والمفسرون يذكرون هنا آثاراً كثيرة في ذلك، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية: هو أنها في الكفار وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذائذ التي أباحها الله لهم؛ لأنه تعالى ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم، وإنما قلنا: إن هذا هو التحقيق لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه، فالله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، أما كون الآية في الكفار: فقد صرح تعالى بقوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20]: هذا حاسم في الجواب، {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]. إذاً: الآية في الكفار، والقرآن والسنة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملاً صالحاً مطابقاً للشرع، مخلصاً فيه لله، كالكافر الذي يبر والديه، ويصل الرحم، ويقري الضيف، وينفس عن المكروب، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله؛ فإنه يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق والعافية ونحو ذلك، ولا نصيب له في الآخرة. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] وهذا واضح تماماً أنه في حق الكفار. وقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وهذا الثواب الدنيوي المذكور في هذه الآيات إنما هو بمشيئة الله وإرادته، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)، وهذا لفظ مسلم في صحيحه. وفي لفظ له عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته). فهذا الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً، وبمقتضى ذلك يتعين تعييناً لا محيد عنه: أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر؛ لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة؛ لأن الدنيا جنة الكافر، وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معاً فلم يذهب طيباته في الدنيا؛ لأن حسناته مدخرة له في الآخرة، مع أن الله تعالى يثيبه بها في الدنيا، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب ثواباً في الدنيا، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة. وعلى كل حال فالله جل وعلا أباح لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الطيبات في الحياة الدنيا، وأجاز لهم التمتع بها، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، وتفسير ذلك في سورة الزخرف في قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35]. فقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:32]، يعطيها للكفار في الدنيا، ولكن هي {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] خالصة يوم القيامة للمؤمنين، فالدنيا يعطيها الله من يحب ويعطيها من لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه إلا لمن أحب. فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة يكون لهم أجر زائد على ذلك؛ لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد كما هو معلوم، والنصوص دلت على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا؛ لأنه يجزى عليها في الدنيا فقط كالآيات المذكورة من قبل، وحديث أنس عند مسلم، قد تم الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]. قوله تعالى: ((فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) يعني: الذل والصغار، (بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون): هذه الباء سببية، وما مصدرية، أي: تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض وكونكم فاسقين. وأوضح ذلك في قوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]، وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20]، وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20]، (بغير الحق): مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكباراً متلبساً بغير الحق، كقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه، وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم، وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} [آل عمران:167]، ومعلوم أن القول لا يكون إلا بالأفواه، فهذا أسلوب من أساليب العرب نزل به القرآن الكريم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} مع أن كل استكبار يكون بغير الحق، وهذا جارٍ على نفس هذا الأسلوب العربي.

الأحقاف [21 - 35]

تفسير سورة الأحقاف [21 - 35]

تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف)

تفسير قوله تعالى: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف) قال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21]. قوله تعالى: (واذكر أخا عاد) يعني: هوداً عليه السلام، فقد كان أخاهم في النسب وليس في الدين، فهي أخوة نسبية وليست دينية. (إذ أنذر قومه بالأحقاف) ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر قصتهم لقومه؛ ليخافوا ويتعظوا. وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به، ويهون عليه تكذيب قومه إياه. (إذ أنذر قومه بالأحقاف) الأحقاف جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع. قال قتادة: ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر. إذاً: الأحقاف هي ديار عاد، وهي الرمال العظام في قول الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بفضل قوتهم. إذاً: الأحقاف جمع حقف، وهو ما استطال من الرمل العظيم واعوج، ولم يبلغ أن يكون جبالاً. وقال ابن زيد: الأحقاف رمال مشرفة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً. يقال: احقوقف الرمل، أو احقوقف الهلال، أي: اعوج. وقال قتادة: هي جبال مشرفة بالشحر، والشحر قريبة من عدن. وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت. وهناك بعض الأقوال الضعيفة سبق أن تعرضنا لها قريباً، وهي أن قوم عاد كانوا بمصر، وإليهم تنسب الآثار والديار المعروفة عند قدماء المصريين، والله تعالى أعلم.

إعراب قوله تعالى: (إذ أنذر قومه)

إعراب قوله تعالى: (إذ أنذر قومه) (إذ أنذر) إعرابها: بدل اشتمال من (أخا عاد) وهو هود عليه السلام. (إذ أنذر قومه)، أي: وقت إنذاره إياهم، فالبدل إما بدل كل من كل، ويكون مطابقاً للمبدل منه ومساوٍ له في المعنى، كما تقول: مررت بأخيك زيد، أو زره خالداً. هذا بدل كل من كل. وهناك بدل بعض من كل، كما تقول: أكلت الرغيف ثلثه. هذا بدل بعض من كل. وهناك بدل مباين للمبدل منه، وهو إما أن يكون على سبيل الإضراب أو الغلط والنسيان. الإضراب مثل أن تقول: أكلت خبزاً لحماً. وبدل الغلط والنسيان مثل أن يكون الإنسان يتكلم ثم يخطئ في الكلام، ثم يأتي بالكلام الصحيح عقب ما أخطأ فيه، فهو كان يقصد البدل فقط، وإنما غلط فذكر المبدل منه، كما يقول مثلاً: رأيت رجلاً حماراً، أخطأ ثم استدرك وقال: رأيت حماراً، فأتى بها على نسق واحد، رأيت رجلاً حماراً. أما البدل الذي هنا في قوله: (إذ أنذر قومه) فهو بدل الاشتمال، وبدل الاشتمال يدل على المعنى في متبوعه، كما تقول: أعجبني زيد علمه، فهذا بدل اشتمال، ومثاله في القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217]، أي: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، و (قتال فيه) بدل اشتمال من الشهر الحرام. كذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} [مريم:16] يعني: أن شأن مريم يشتمل على أمور كثيرة، فأنت تذكر انتباذها مكاناً شرقياً، فكذلك هنا (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه) أي: اذكر وقت إنذاره قومه، فهذا بدل اشتمال من هود.

معنى قوله تعالى: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه)

معنى قوله تعالى: (وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) ((وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)) أي: قد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده؛ متفقين على ألا تعبدوا إلا الله. إذاً قوله تعالى: ((وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)) الجملة في محل نصب حال، و (خلت) يعني: مضت. (الرسل من بين يديه) الهاء تعود على هود عليه السلام. (من بين يديه)، من قبله. (ومن خلفه)، من بعده. قال ابن كثير: وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين. (ألا تعبدوا إلا الله)، أي: لا تشركوا مع الله سبحانه وتعالى شيئاً في عبادتكم إياه. وقال كل واحد منهم عليهم السلام: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} [الأعراف:59] أي: من عبادة غير الله {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59] أي: بمقدار عذاب الله بالشرك.

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا)

تفسير قوله تعالى: (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا) قال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف:22]. (قالوا أجئتنا لتأفكنا)، أي: جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا. وقيل: (لتأفكنا) أي: لتزيلنا أو لتمنعنا أو لتصرفنا، وكلها معان متقاربة (فأتنا بما تعدنا) من العذاب. وهذه الآية فيها دليل على أن الوعد قد يطلق ويوضع موضع الوعيد؛ لأنه قال هنا: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) يعني: في وعدك لنا به، أو: (إن كنت من الصادقين) في أنك نبي، وهذا استعجال منهم بعذاب الله وعقوبته على سبيل استبعادهم وقوعه، كقول الله سبحانه وتعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى:18]. ((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ)) أي: إني وإن علمت إتيانه قطعاً، وإن كنت أقطع بأن العذاب آتيكم بسبب كفركم وإعراضكم، لكنني لا أعلم وقت مجيئه؛ لأن العلم بوقته عند الله سبحانه وتعالى، فيأتيكم الله به في وقته الذي قدره له. ((قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ)) أي: أنا شأني ووظيفتي فقط أن أبلغكم ((مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)) حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا لما جئتكم به، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل، وهذا الاقتراح يكشف مدى جهلهم؛ لأنهم حينما يطلبون من الرسول أن يأتيهم بالعذاب؛ ويستعجلونه بإتيان العذاب؛ فهذا من جهلهم، فناسب أن يوصفوا بالجهل؛ لأن هذه ليست وظيفته هو، إنما وظيفته أن يبلغهم، أما متى يحين الأجل الذي ينزل الله فيه العذاب؟ فهذا ليس إلى الأنبياء، وإنما هو إلى الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قال لهم لما قالوا: ((فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)): {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف:23]. وقال الطبري: تجهلون مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24]. أي: لما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه فرأوه عارضاً في ناحية من نواحي السماء، متجهاً نحو مزارعهم، والهاء في قوله: (فلما رأوه)، تعود إلى غير مذكور، وقد بين هذا المذكور قوله تعالى: (عارضاً). إذاً: الضمير يعود إلى السحاب؛ لأنه نصب كلمة عارضاً على الحال من سحاب، أي: عرض له، فعارضاً منصوب على الحال. وقيل: الضمير يعود إلى (ما) في قولهم: (فأتنا بما تعدنا)، ثم جاءت الآية: (فلما رأوه)، يعني: ما كان يعدهم. (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) سمي السحاب عارضاً؛ لأنه يبدو في عرض السماء. وقال الجوهري: العارض السحاب يعترض في الأفق. (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم) يعني: متوجهاً نحو أوديتهم. قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد يقال له: المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر. قال ابن كثير: قال الله سبحانه وتعالى: (بل هو ما استعجلتم به) أي: هو العذاب الذي قلتم: (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين). وقال غيره: قال لهم هود: (بل هو ما استعجلتم به) من العذاب حيث قالوا: (فأتنا بما تعدنا). (ريح) أي: هي ريح. أو ريح بدل من ما؛ (ريح فيها عذاب أليم). ((تُدَمِّرُ)) تهلك. ((كُلَّ شَيْءٍ)) من أموالهم وأنفسهم. ((بِأَمْرِ رَبِّهَا)) بإذنه الذي لا يعارض، فلم تدفع عنهم آلهتهم بل دمرتهم. {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] بيوتهم.

تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها)

تفسير قوله تعالى: (تدمر كل شيء بأمر ربها) وقوله عز وجل: (ريح فيها عذاب أليم)، هذه صفة للريح، (تدمر كل شيء)، هذه صفة ثانية للريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه، وخرج هود من بين أظهرهم، فجعلت هذه الريح تحمل الفساطيط -جمع فسطاط وهي الخيام -وتحمل الظعينة -وهو الجمل يظعن عليه- والهودج سواء كانت فيه امرأة أم لا، فترفعها كأنها جرادة ثم تضرب بها الصخور. قال ابن عباس: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم، فأول ما عرفوا أنه عذاب، ورأوا ما كان خارجاً من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريح، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال واحتملتهم ورمتهم في البحر، فهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (تدمر كل شيء بأمر ربها). قال ابن عباس: (تدمر كل شيء) أي: كل شيء بعثت إليه، وهذا التفسير يجب أن ننتبه له، فقوله: (تدمر كل شيء بأمر ربها)، ليس على عمومه ولا على إطلاقه، لكنه مقيد بـ: كل شيء بعثت لتدميره، وليس كل شيء على الحقيقة كما يظهر لأول وهلة. قيل: إن هذه الريح أمالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمال كما قال الله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7]، والحسوم: الدائمة في الشر، إذ شرها مستمر لا ينقطع، ثم أمر الله سبحانه وتعالى الريح فكشفت عنهم الرمال، واحتملتهم ورمتهم في البحر، والتدمير الهلاك، وكذلك الدمار، وقرئ: (يدمر كل شيء)، من دمر دماراً دمره ودمر عليه ودمر يدمر دموراً: دخل بغير إذن، وفي الحديث: (من سبق طرفه استئذانه فقد دمر) يعني: دخل بغير إذن. قوله عز وجل: (تدمر كل شيء)، يعني: تدمر كل شيء من بلادهم مما من شأنه الخراب، كما قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] يعني: كالشيء البالي. إذاً: كل شيء هنا ليست على عمومها وإنما المقصود بها: كل شيء أمرت به، أو من شأنه أن يدمر، وما الدليل على قولنا: لابد من تفسيرها: بأنها دمرت كل شيء أمرت بتدميره؟ A قوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)، فبقية الآية دل على أن المساكن لم تؤمر الريح بتدميرها. وقد احتج الإمام أحمد رحمه الله تعالى بهذه الآية في مسألة من مسائل العقيدة، وهي مسألة كلام الله سبحانه وتعالى، فإنه اعتمد على هذا التفسير بأن هناك فرقاً بين قول الرحمن وبين ما كان بقوله. قال الإمام أحمد في كتاب الرد على الزنادقة والجهمية: (ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: أخبرونا عن القرآن هو شيء؟ فقلنا: نعم هو شيء، فقال: إن الله خالق كل شيء، فلم لا يكون القرآن مع الأشياء المخلوقة، وقد أقررتم أنه شيء؟! ومثل هذا السؤال من المغاليط، فهو يدفع إلى إجابة بعينها ويحاول أن يستدرجك إلى إجابة بعينها، مع أن الصواب ليس فيها، وإنما الصواب في غيرها. يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: فلعمري لقد ادعى أمراً أمكنه فيه الدواء، ولبس على الناس بما ادعى، فقلنا -رددنا على هذا المغالط-: إن الله في القرآن لم يسم كلامه شيئاً، وإنما سمى شيئاً الذي كان يقوله، ألم تسمع إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} [النحل:40]، فالشيء ليس هو قوله، إنما الشيء الذي كان بقوله، وفي آية أخرى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} [يس:82]، فالشيء ليس هو أمره، إنما الشيء الذي كان بأمره. ومن الأعلام الدالات أنه لا يعني أن كلامه من الأشياء المخلوقة، أنه قال للريح التي أرسلها على عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}، وقد أتت تلك الريح على أشياء، فلم تدمرها مثل منازلهم ومساكنهم والجبال التي بحضرتهم. فكذلك إذا قال: ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر:62]، لا يعنى نفسه ولا علمه ولا كلامه مع الأشياء المخلوقة. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، فمما يخبر به عن الله أنه شيء، ولذلك كما قلنا في تفسير: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] نقول: خالق كل شيء في عالم الممكنات لا المستحيلات ولا الواجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، كما هو اصطلاح المتكلمين. كذلك قال في ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، أليس ملك سليمان شيئاً؟ وهل هي أوتيت ملك سليمان؟ لا. يعني: أوتيت من كل شيء مما تؤتاه الملوك، وليس على الإطلاق، وقد كان ملك سليمان شيئاً ولم تؤته. وكذلك إذا قال: (خالق كل شيء)، لا يعني أن كلامه مع الأشياء المخلوقة. وشأن أهل البدع دائماً إساءة الفهم، ومغالطتهم في المناقشات، مثلاً: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقال عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقال المسيح عليه السلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقال سبحانه وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، مع أنه قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يعني بقوله: (كل نفس ذائقة الموت)، نفسه عز وجل تعالى عن ذلك علواً كبيراً، فبنفس الباب نرد على من يستدل بقوله: (الله خالق كل شيء)، على أن كلام الله أو أن القرآن مخلوق لعموم قوله: (كل شيء)، كما بينا.

الفرق بين أمر الله القدري والشرعي

الفرق بين أمر الله القدري والشرعي قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25]، هذا أمر كوني قدري، وأمر الله سبحانه وتعالى نوعان: الأمر الشرعي الإرادي الديني، والأمر الكوني القدري، فالأمر الشرعي الإرادي كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وكقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فهي أوامر فيها تكليف. أما الأمر الكوني القدري فمثل قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقوله عز وجل: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء:47]، وقال: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21]، وقال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16]. والأمر الشرعي الإرادي والأمر الكوني القدري جمعهما الله سبحانه وتعالى في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فالخلق متعلق بالربوبية، والأمر متعلق بالألوهية؛ فالأمر الشرعي الإرادي الديني متعلق بالألوهية وبالشرع. إذاً: الأمر الشرعي هو شرعه ودينه، وهذا الأمر قد يعطيه الفجار والفساق. أيضاً الأمر الشرعي يتعلق بالمحبة والرضا، فالله لا يأمر أمراً شرعياً إلا بما يحبه ويرضاه، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، فالأمر الشرعي متعلق بألوهيته وشرعه ودينه، أما الأمر الكوني القدري فهو متعلق بربوبيته وخلقه، وهو قضاؤه وقدره وفعله. والأمر الشرعي الإرادي الديني قد يعطيه الفجار والفساق، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أمر الناس مثلاً بالصدق، وببر الوالدين، وبالعدل والإحسان، فهل لابد أن يقع مادام الناس أمروا به؟ لا، فهذا أمر شرعي كلف الله العباد به، لكن قد يخالفه البعض ويمتثل الأمر البعض الآخر، أي: قد يتمرد على هذا الأمر الكفار والفساق، بخلاف الأمر الكوني القدري فإنه لا يمكن لأحد أبداً الخروج عن حكمه. إذاً: الأمر الشرعي الإرادي الديني يتعلق بالمحبة والرضا، أما الأمر الكوني القدري فلا يتعلق بالمحبة والرضا مطلقاً؛ لأن هذا أمر يعم ما يحبه الله وما لا يحبه الله، ولابد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف. إذاً: الأمران غير متلازمين، فقد يقضي الله سبحانه وتعالى ويقدر ما لا يأمر به وما لم يشرعه سبحانه وتعالى، وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه، ولا يقدره. إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية، ولا يستلزم الإرادة الكونية، بمعنى: أن الحكم الكوني أو القدري مع الحكم الشرعي يجتمعان في كل ما يقع من العباد من طاعات وإيمان وغير ذلك من هذه الأمور التي هي أولاً: حكم شرعي؛ لأن الله أمر بها، ولأن الله يحبها، ويجتمعان في أنها أيضاً داخلة في إرادته الكونية العامة، فهنا اجتمعا فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم. وهل ينتفي الحكمان معاً الشرعي الإرادي والكوني القدري؟ نعم ينتفيان فيما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر، فإن الله لا يأمر بالكفر، وهذه الأشياء بالذات لم يقدرها كوناً وقدراً. وقد ينفرد الحكم الشرعي والقضائي الديني فيما أمر الله به وشرعه، ولكن لم يفعله المأمور، فهنا وقع الحكم الشرعي والقضاء الديني، لكن لم يقع الأمر الكوني القدري؛ لأنه لم ينسبه ديناً. ومتى ينفرد الحكم الكوني القدري؟ ينفرد فيما وقع من المعاصي، وهذا وقع من حيث كوناً وقدراً، لكن هل يقع بشرع الله وإرادته الشرعية؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بذلك. إذاً: الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإن الله لا يأمر إلا بما يريده شرعاً وديناً، ولا يأمر إلا بالأشياء التي يريدها ويحبها مثل: أمره الكافر بالإيمان شرعاً وإن كان لم يوفقه له كوناً وقدراً. كذلك أمر خليله عليه السلام بذبح ولده شرعاً، لكنه ما أراده كوناً وقدراً، بدليل أنه لم يقع. وأمر رسوله بخمسين صلاة، لكنه لم يرد ذلك كوناً وقدراً. والله سبحانه وتعالى يحب إيمان الكفار، ولكنه سبحانه اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له، وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم، وحصلت من الأمر بالذبح. ثم أشار الله سبحانه وتعالى إلى أن هذا التدبير لا يقتصر على عاد، بل هو منتظم لكل من كان على شاكلتهم من أهل مكة وغيرها، يقول سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس:13] أي: الكافرين إذا تمادوا في غيّهم وطغوا على ربهم سبحانه وتعالى.

الهدي النبوي مع السحاب والمطر

الهدي النبوي مع السحاب والمطر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته) يعني: كان إذا ضحك يتبسم، لكن ما كان يحصل أنه يفتح فمه حتى تظهر اللهاة التي في آخر الحلق من شدة الضحك، وهذا أدب من آداب النبوة، (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه -كان يتغير وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً- قلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية! فقال: يا عائشة! وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب - أي: وما يضمن لي-؟ قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}) متفق عليه. وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عنها رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به، فإذا تخبلت السماء؛ تغير لونه، وخرج ودخل، وأدبر وأقبل، فإذا مطرت سري عنه -لأنه عرف أن هذه رحمة وليست عذاباً،- فسألته فقال: لعله -يا عائشة - كما قال قوم عاد: ((هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا))).

معنى قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم)

معنى قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ}، هذه قراءة عاصم وحمزة، أما ابن كثير فقرأ: (فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنهم)، وقراءة باقي القراء (فأصبحوا لا تَرى إلا مساكنهم) يعني: لا ترى -يا محمد عليه الصلاة والسلام- إلا مساكنهم. قال الفراء: لا يرى الناس؛ لأنهم كانوا تحت الرمل، وإنما ترى مساكنهم؛ لأنها قائمة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف:26]، لفظة: (إن) في هذه الآية الكريمة فيها ثلاثة أوجه، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: يدل استقراء القرآن على أن واحداً منها هو الحق دون الاثنين الآخرين. قال بعض العلماء: (إن) ظرفية، لكن الجواب محذوف، والتقدير (ولقد مكناكم فيما إن مكناكم فيه)، كأنها: لو مكناكم فيه لطغيتم وبغيتم، هذا هو القول الأول، وهو: أن شرطية، وجوابها مضمر محذوف، والتقدير: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد، وتم الكلام ثم قال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]. القول الثاني: قوله: (إن مكناكم فيه) (إن) زائدة بعد ما الموصولة، حملاً لما الموصولة على ما النافية؛ لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة (إن) كما هو معلوم، كما قال الشاعر: ما إن رأيت ولا سمعت به. وتقدير الكلام على القول الثاني: (ولقد مكناهم فيما مكانكم فيه)، ومنه قول الأخفش: يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب يعني: يرجي المرء الشيء الذي لا يراه، فـ (إن) هنا زائدة، يؤمل المرء ما إن لا يراه، يعني: الشيء الذي لا يراه، وتعرض دون أدناه الخطوب: وتأتي الخطوب والأخبار تحول وتقطع عن أقرب أمل يؤمله. وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما، إذاً: القول بأن إن شرطية، أو زائدة كليهما مرجوح. أما القول الثالث -وهو الصواب إن شاء الله تعالى- فهو: أن لفظة: (إن) نافية بعد ما الموصولة، أي: (ولقد مكناكم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام وكثرة الأموال والأولاد والعدد)، وإنما قلنا: إن القرآن يشهد لهذا القول؛ لكثرة الآيات الدالة عليه، فإن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشاً وقوة، وأكثر منهم عدداً وأموالاً وأولاداً، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله؛ ليخافوا من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهلكهم الله بسببه؛ كقوله تعالى في سورة المؤمن: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر:82]. وقال أيضاً في نفس السورة: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [غافر:21]. وقال في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]. وقال تعالى في سورة الزخرف: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8]. إذاً: الراجح: أن (إن) هنا نافية. وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26] قال الطبري: أي: جعلنا لهم سمعاً يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصاراً يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم. وسبق أن تكلمنا في سبب إفراد السمع دون الأبصار والأفئدة في جميع آيات القرآن الكريم، وذكرنا بأن سبب ذلك أنها أتت بلفظ المصدر وهو (السمع).

حلول نقمة الله بعاد لما جحدوا آياته

حلول نقمة الله بعاد لما جحدوا آياته {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف:26]؛ لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له بل في خلافه. {إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26]، أي: من العذاب، وهذا وعيد من الله جل ثناؤه لقريش، يقول لهم: (فاحذروا أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله ما حل بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة). قال الشهاب: أفرد السمع في النظم وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات، وتعددت مدركات غيره، ولأنه في الأصل مصدر، وأيضاً مسموعهم من الرسل متحد.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف:27] أي: ما حول قريتكم -يا أهل مكة- من حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبار هؤلاء القوم المهلكين متواترة عند قريش كحجر ثمود، وأرض سدوم، ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمثلات، وخربنا ديارها فجعلنها خاوية على عروشها؛ لعلهم يرجعون عن الكفر بالله ورسله. قال القرطبي: وفي الكلام متروك، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه، وهو: (ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) يعني: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم والتمادي على غيهم، فأهلكناهم فلم ينصرهم منا ناصر.

تفسير قوله تعالى: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة)

تفسير قوله تعالى: (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة) قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28]. (لولا) بمعنى: هلا، أي: هلا نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم، حيث قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم! وقال الكسائي (فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة) القربان: كل ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين. و (قرباناً) إعرابها: حال. {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28] أي: هلكوا عنهم، أو ضلت عنهم آلهتهم؛ لأنها لم يصبها ما أصابهم إذ هي جماد. وقيل: (ضلوا عنهم)، أي: تركوا الأصنام وتبرءوا منها. {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} [الأحقاف:28] أي: والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. (وذلك إفكهم)، يعني: كذبهم، وفي قراءة أخرى: (وذلك أفَكَهُم) أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد، وقرأ عكرمة: (وذلك أفَّكَهم) يعني: قلبهم عما كانوا فيه من النعيم، وفي قراءة أخرى مروية عن ابن عباس: (وذلك إفكِهم) يعني: صارفهم، وعن عبد الله بن الزبير على اختلاف فيه: (وذلك آفكَهم) أي: أصارهم إلى الإفك. والدليل على قراءة العامة: (وذلك إفكهم) قوله تعالى: (وما كانوا يفترون).

تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن)

تفسير قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن) قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30]. (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن) أي: أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك. (يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا)؛ ليتم التدبر والتفكر. (فلما قضي) فرغ من قراءته كمل تأثرهم به، فأرادوا التأثير به، يعني: من شدة تأثرهم بسماع القرآن أرادوا أن يؤثروا به في قومهم من الجن. (ولوا إلى قومهم منذرين) أي: رجعوا فوراً، (إلى قومهم منذرين) لهم عما هم فيه من الضلال. (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى)، وخص موسى لأنه المتفق على تعظيم كتابه، وقد علمنا صدقه؛ لأن هذا القرآن رأينا أنه يصدق الكتب التي بين يديه، وقد فضل عليها؛ لأنه (يهدي إلى الحق) أي: إلى معرفة الحقائق. (وإلى طريق مستقيم) لا عوج فيه، وهو الإسلام. قال ابن كثير: (يهدي إلى الحق) في الاعتقاد والأخبار، (وإلى طريق مستقيم) في الأعمال، فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب، فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]، فالهدى هو العلم النافع، ودين الحق هو العمل الصالح، وهكذا قالت الجن: (يهدي إلى الحق) أي: في الاعتقادات، (وإلى طريق مستقيم) أي: في العمليات. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31] أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله. {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:31 - 32] أي: ليس بمعجز ربه بهربه إذا أراد الله عقوبته؛ لأنه في قبضته وسلطانه. {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] أي: نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه. {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32] أي: على غير استقامة. هذه الجملة من الآيات نحتاج إلى إيضاح بعض الأمور المتعلقة بها.

الربط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشرع

الربط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشرع قوله تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)) ذكر الله سبحانه وتعالى أنه صرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم نفراً من الجن، والنفر عدد أقل من العشرة. وأخبرنا جل وعلا أنهم لما حضروه قال بعضهم لبعض: (أنصتوا) أي: اسكتوا مستمعين، (فلما قضي) أي: لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته (ولوا) أي: رجعوا (إلى قومهم) من الجن في حال كونهم (منذرين) أي: مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله، ويجيبوا داعيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى المنزل من بعد موسى (يهدي إلى الحق) وهو ضد الباطل، (وإلى طريق مستقيم)، لا اعوجاج فيه. يوجد ارتباط وثيق بين رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وكليم الله موسى عليه السلام، والقرآن دائماً يربط بينهما في مناسبات عدة منها هذه الآية، وقوله أيضاً: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [الأحقاف:12]، فانظر إلى الربط بين القرآن والتوراة؛ لأنها أساس الإنجيل الذي هو فرع عن التوراة ومكمل لها. كذلك الربط بين محمد وموسى في حادثة الإسراء والمعراج، وتردد الرسول عليه الصلاة السلام بين ربه وبين موسى عدة مرات. كذلك في حادثة بدء الوحي عندما قال ورقة بن نوفل لـ خديجة: هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى. كذلك لما قرأ جعفر بن أبي طالب على النجاشي سورة مريم وبكى من حوله قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الجن لتلاوته

عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم باستماع الجن لتلاوته دل القرآن الكريم على أن اجتماع هؤلاء النفر من الجن، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله؛ وقع ولم يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه بذلك، كما قال تعالى في القصة بعينها: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن)، لكنه في سورة الجن فصل سبحانه وتعالى هذه القصة بالتفصيل فقال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2] إلى آخر سورة الجن.

إرهاصات ما قبل النبوة

إرهاصات ما قبل النبوة بين يدي الأحداث المهمة يحصل دائماً إرهاصات، وهي تعتبر كالمقدمات لأمر مهم سوف يحصل بعد ذلك. نضرب أمثلة لذلك: ميلاد المسيح عليه السلام: ما الإرهاصات التي كانت قبله؟ حمل امرأة زكريا بيحيى عليه السلام، وهذه مقدمة بين يدي ما هو أعظم؛ لأن امرأة زكريا كانت قد بلغت من الكبر عتياً، وجرت سنة الحياة أنه لا يولد لمثلها؛ لأنها كانت عقيماً، وكان هو قد بلغ من الكبر عتياً، ولما رأى كرامات الله سبحانه وتعالى لـ مريم عليها السلام قال: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:37 - 38]، فدعا ربه أن يهبه الولد الصالح، وقد كان -كما هو مفصل في القرآن الكريم- خرق للعادة، ومعجزة، لكنه إرهاص ومقدمة بين يدي ما هو أعظم وأخطر، وهو معجزة ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. أيضاً: بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام لها إرهاصات ومقدمات تنبئ عن أن شيئاً مهماً جداً سوف يحصل؛ مثل حادثة الفيل، فهي إرهاص حصل قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام يدل على أن الله يحمي هذا البيت؛ لاقتراب بعثة محمد؛ لأنه ولد عليه السلام في نفس عام الفيل. ومن هذه الإرهاصات أيضاً: ما حصل من هواتف الجن وإخبارها عن شيء خطير وقع في هذا الكون، وهو تشديد الحراسة في السماء، فعلموا أن شيئاً خطيراً سوف يحصل؛ لأن السماء ما حرست من قبل هذه الحراسة؛ وذلك إنما حصل لأجل أن يحرس الوحي، ولا يتمكن الجن أن يسترقوا شيئاً من أخبار الوحي. من هذه الأحاديث ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر يقول لشيء قط: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظنه، وهذا من الفراسة قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم، علي بالرجل، يعني: أول ما رأى عمر هذا الرجل قال: أظن أن هذا كان كاهناً في الجاهلية، وعمر من المحدثين الملهمين، وكانت عنده فراسة شديدة رضي الله تعالى عنه، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم! فقال عمر: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، فقال الرجل: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قولها: ألم تر الجن وإبلاسها، يعني: تحيرها ودهشتها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص، جمع قلوص، وهي الناقة الشابة، وأحلاسها: جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت الظهر. فقال عمر: صدق، بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، يعني: في تلك اللحظة لما ذبح العجل صرخ هذا الجني بهذا الصوت: يا جليح! وهذا اسم رجل، فكان يناديه: يا جليح! رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، قال: فوثب القوم، فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبي. فـ عمر نفسه أكد الخبر الذي قاله هذا الرجل الذي كان كاهناً في الجاهلية، بأن حكى هو حكاية حضرها أن جنياً صاح هذا الصياح. وهل الجن يعرفون الغيب؟ لا، لكن هذه الإرهاصات كانت بمثابة مقدمات بين يدي نزول الوحي؛ إذ قبل أن ينزل الوحي إلى السماء اشتدت الحراسة كما قال الله حاكياً عن الجن قولهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:8 - 9].

استماع الجن للقرآن في وادي نخلة

استماع الجن للقرآن في وادي نخلة قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عمرو، قال: سمعت عكرمة، عن الزبير في قوله تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن) قال: بنخلة -وهذا اسم للمكان- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة، ويقرأ القرآن، فأمال الله هؤلاء الجن ووجههم كي يحضروا هذه الصلاة. وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] أي: من الزحام، وحرصهم على استماع القرآن. (لبداً) يعني: بعضهم على بعض، فاللبد يكون طبقات بعضه على بعض. وروى أحمد والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ورجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2]، وأنزل الله على نبيه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1] إلى آخر الآية، فمعنى ذلك أن الرسول عليه السلام ما شعر بهم حين استمعوا إليه، وإنما أوحي إليه قول الجن؛ لأن الله تعالى قال: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من آية الجن). وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. قال الحسن البصري: إنه عليه السلام ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله عليه بخبرهم.

من هواتف الجن قبل البعثة

من هواتف الجن قبل البعثة قال مسلم: حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود -وهو ابن أبي هند - عن عامر قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: (لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير -أي: اغتيل- فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم). ولهذا الحديث عدة طرق تدل بمجموعها أن النبي عليه الصلاة والسلام في بعض المرات ذهب إلى الجن قصداً، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت، ويحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قال ابن عباس، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما قال ابن مسعود. وأما ابن مسعود فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم، وإنما كان بعيداً منهم، ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه، ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة. وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشراً، فيكون ما سمعوا حقاً وما زادوا باطلاً، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبث جنوده، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحديث الذي حدث في الأرض. وذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل، وإيذائهم له، فذكر القصة بطولها ثم قال: (ولما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن باسم الله)، قال ابن كثير: (وهذا صحيح، ولكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المذكور، وخروجه إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين. والرجل الذي كان كاهنهم هو سواد بن قارب، قال البيهقي في حديث سواد بن قارب: ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح. ثم روى بسنده عن البراء قال: (بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فلم يجبه أحد تلك السنة، فلما كان السنة المقبلة قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال: فقلت: يا أمير المؤمنين! وما سواد بن قارب؟ قال: فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئاً عجيباً، قال: فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب، قال: فقال له عمر: يا سواد! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال سواد: إني كنت نازلاً بالهند، وكان لي رئي من الجن، قال: فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل، فقد بعث رسول من لؤي بن غالب، ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتحساسها وشدها العيس بأحلاسها تهوي إلى مكة تبغي الهدى أخير الجن كأنجاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى راسها قال: ثم أنبهني فأفزعني، وقال: يا سواد بن قارب! إن الله عز وجل بعث نبياً فانهض إليه تهتد وترشد، فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتطلابها وشدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس قداماها كأذنابها فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى قابها فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني، ثم قال: عجبت للجن وتخبارها وشدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس ذوو الشر كأخيارها فانهض إلى الصفوة من هاشم ما مؤمنو الجن ككفارها قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، قال: فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو بالمدينة -يعني: مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب! قد علمنا ما جاء بك، قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعراً فاسمعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: قل يا سواد! فقلت: أتاني رئي بعد ليل وهجعة ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك رسول من لؤي بن غالب فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت بي الدعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا رب غيره وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل وإن كان فيما جاء شيب الذوائب وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال لي: أفلحت يا سواد! فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن). وساق الإمام الماوردي هذا الحديث الذي هو علم من أعلام النبوة في هتوف الجن ثم قال: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه، ولا يحد قوله، فخروجه عن العادة نذير، وتأثيره في النصوص بشير، وقد قبلها السامعون، وقبول الأخبار يؤكد صحتها، ويؤيد حجتها، فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، جاز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، -ونحن لم نقل: إنها دليل من أدلة النبوة، وإنما قلنا: هي إرهاصات ومقدمات بين يدي الوحي- وهنا الإمام الماوردي رحمه الله تعالى يقول: وإذا كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، فيجوز أن تكون دليلاً على صحة الكهانة، وعنده وجهان: أحدهما أن دلائل النبوة غيرها، وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة إخباراً. والثاني: أن الكهانة عن مغيب، والبشارة عن معين، فالعيان معلوم، والغائب موهوم.

معنى صرف الجن إلى النبي

معنى صرف الجن إلى النبي قوله تبارك تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن). قال الماوردي: في صرف الجن المذكور في قوله تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ)) وجهان: أحدهما: أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما هذا الحادث في السماء إلا لحادث في الأرض، وتخيلوا به تجديد النبوة، فجابوا الأرض حتى وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عامداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن ورأوه كيف يصلي، ويقتدي به أصحابه، فعلموا أنه لهذا الحادث صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب، وعرفوا أن الوحي ينزل على نبي بعث حديثاً، وأنه لأجل ذلك حرست السماء، وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل: إن السورة التي كان يقرأ بها هي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وقيل: إنها سورة الرحمن؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (قرأتها -أي: سورة الرحمن- على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن رداً منكم، كنت كلما قرأت قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:13]، كان الجن يقولون: ولا بشيء من نعمك -يا ربنا- نكذبك، لك الحمد). الوجه الثاني في قوله (وإذ صرفنا إليك): أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله تعالى حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة، فنزل عليه جبريل في هذه الآية وأخبره بوفود الجن، وأمره بالخروج إليهم، فخرج ومعه ابن مسعود حتى جاء إليهم، قال ابن مسعود: (فخط علي خطاً، وقال: لا تجاوزه). فعلى الوجه الأول: لم يعلم بهم حتى أتوه، وعلى الوجه الثاني: أعلمه جبرائيل قبل إتيانهم. واختلف أهل العلم في رؤيته لهم، وقراءته عليهم. وقوله تعالى: (فلما حضروه قالوا أنصتوا)، لما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتوا لسماعه، وهذا أدب منهم. وقد روى البيهقي عن جابر قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً؟! للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذبك، لك الحمد). ورواه الترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير. قوله تعالى: ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ)) دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامَّ الرسالة إلى الإنس والجن، قال ابن كثير: لأنه دعا الجن إلى الله تعالى، وقرأ عليهم السورة التي فيها تقابل الفريقين، أي: قرأ عليهم سورة الرحمن، وسورة الرحمن فيها خطاب للجن والأنس، وفيها تكليفهم ووعدهم ووعيدهم؛ ولهذا قالوا: (أجيبوا داعي الله وآمنُوا به).

رسل الله إلى الجن

رسل الله إلى الجن قال الماوردي: لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث الله إليهم رسولاً من الإنس، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم أي: جواز أن يكون الرسول جنياً اختلفوا فيه، لكن لم يختلفوا في جواز أن الله سبحانه وتعالى يبعث إلى الجن رسولاً من الإنس. قال: جوز قوم إرسال رسول من الجن إلى الجن؛ لقول الله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، ومنع آخرون منه، وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس، وحملوا قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] على الذين لما سمعوا القرآن ولوا إلى قومهم منذرين، ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلاً في آية سورة يس {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس:14]. وقوله: (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي)، قراءة الجمهور على البناء للمفعول، (فلما قُضي)، وقرأ بعضهم: (فلما قَضى) أي: قضى النبي صلى الله عليه وسلم يعني: فرغ من قراءته، كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10]، وقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12]، وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200]. قوله: (ولوا إلى قومهم منذرين)، أي: رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، واستدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل. ولا شك أن الجن لم يبعث الله منهم رسولاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، وقال عن إبراهيم الخليل: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27]، فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته. وقد يعترض بعض الناس بآية الأنعام: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، ف A أن المراد في الآية هو مجموع الجنسين، وهذا لا يتعارض مع اقتصار الرسل على كونهم من الإنس. فقوله: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم)، المراد هنا مجموع الجنسين، فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كما قال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وهو يخرج من أحدهما.

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى)

تفسير قوله تعالى: (قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى) قال تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] أي: القرآن، وكانوا مؤمنين بموسى. قال عطاء: كانوا يهوداً فأسلموا، ولذلك قالوا: (أنزل من بعد موسى). وعن ابن عباس: أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى، فلذلك قالت: (أنزل من بعد موسى). قال ابن كثير: ولم يذكروا عيسى عليه السلام؛ لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشرعية التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: (أنزل من بعد موسى). وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه أول مرة، فقال: بخ بخ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً، يعني: شاباً عند ظهورها. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:30 - 31] يعني: محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يدل على أنه بعث إلى الجن والإنس، ودعاهم إلى الله، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وهي سورة الرحمن، ولهذا قال: (أجيبوا داعي الله وآمنوا به). وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً ومسجداً، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة). قال مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس. {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]. (يغفر لكم من ذنوبكم) والله سبحانه وتعالى قد يتجاوز للإنسان عن حقوقه هو، لكن حقوق العباد والمظالم التي بينهم فلا يتجاوز الله سبحانه وتعالى إلا أن يستحل صاحب هذا الحق. وهذا هو السبب في قوله عز وجل: (يغفر لكم من ذنوبكم) فـ (من) هنا للتبعيض، أي: بعض هذه الذنوب، وهو ماعدا حق العباد، قاله الشوكاني. وقيل: إن (من) هنا لابتداء الغاية، مثلما تقول: أكلت السمكة من رأسها إلى ذيلها، فقوله: (يغفر لكم من ذنوبكم)، أي: يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى. وقيل: إن (من) زائدة.

دخول المؤمنين من الجن الجنة

دخول المؤمنين من الجن الجنة قوله تعالى: (ويجركم من عذاب أليم) أي: ويقيكم من عذابه الأليم، وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة. قال أبو حنيفة: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا تراباً مثل البهائم، وهذا قول الحسن. وقال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة، يجازون في الإحسان مثل الإنس، وإليه مال مالك والشافعي وابن أبي ليلى. وقال الضحاك: الجن يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون. ودليل هذا المذهب قوله تبارك وتعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، قال ابن كثير: والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]-فيدل على أن الجن قد يثابون أيضاً بالحور العين- وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]، فهو خطاب للإنس والجن، فالله سبحانه تعالى يقول: (ولمن خاف) وهذه صفة عموم، (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فقد امتن الله تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد؛ فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم. وأيضاً فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضاً على ذلك عموم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107]، وما أشبه ذلك من الآيات. أيضاً من الأدلة: أن هذه الجنة يبقى فيها متسع بعدما يدخل الله كل الخلق ممن يستحقون الجنة، حتى أن الله سبحانه وتعالى ينشئ لها خلقاً جديداً يسكنهم الجنة، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحاً؟! وما ذكروه هنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشرع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. هذا كلام ابن كثير. هذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح:4]، وفي هؤلاء المخاطبين من آمن من قوم نوح، فهل الآية اقتصرت فقط على ذكر أن ثوابهم إذا آمنوا وأطاعوا أن يغفر الله لهم ذنوبهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى وأنهم لا يدخلون الجنة؛ لأنه لم يذكر ذلك في هذه الآية؟ لا خلاف أن مؤمني قوم نوح في الجنة، فكذلك هؤلاء. قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19]، يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة؛ لأنه قال في أول الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام:130]، إلى أن قال: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]. (ولكل) يعني: الإنس والجن، والله تعالى أعلم. قال الله في الترغيب: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]، ثم قال تعالى في الترهيب: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف:32] أي: لا يفوت الله، ولا يسبقه، ولا يقدر على الهرب منه؛ لأنه إن هرب كل مهرب فهو في الأرض، ولا سبيل له إلى الخروج منها، وفي قوله: {فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف:32] أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله، وبين سبحانه وتعالى بُعد استحالة نجاته بوساطة غيره. وقوله: {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:32] الإشارة إلى من لا يجب داعي الله سبحانه وتعالى.

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به)

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تكلم في هذه الآية بكلام نختصره، يقول في قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}: منطوق هذه الآية: أن من أجاب داعي الله محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به وبما جاء به من الحق غفر الله له ذنوبه، وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها -يعني: مفهوم المخالفة، أو دليل الخطاب-: أن من لم يجب داعي الله من الجن ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، وقال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:94 - 95]. أما دخول المؤمنين المجيبين داعي الله من الجن الجنة فلم تتعرض له الآية بإثبات ولا نفي، وقد دلت آيات أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة، وهي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]. ويستأنس لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فإنه يشير إلى أن في الجنة جناً يطمثون النساء كالإنس. و A أن آية الأحقاف نص فيها على الغفران، والإجارة من العذاب، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نص فيها على دخولهم الجنة؛ لأنه تعالى قال فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، فقوله: (ولمن) يعني: وللذي أو للذين، وهذا يعم كل خائف مقام ربه، ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معاً بقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان). فإذاً: لا تعارض بين الآيتين؛ لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى، يعني: أن آية الأحقاف لم تتعرض لدخولهم الجنة، لكن آية الرحمن أثبتت دخولهم الجنة، فلا تعارض بين الآيتين، ولو سلمنا أن قوله تعالى: ((يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) يفهم منه عدم دخول الجنة، فالدليل هنا هو مفهوم الآية، (يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) حيث يفهم منها: أن هذا هو جزاؤهم لكن لا يدخلون الجنة، أما قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فهذا عموم يدل على دخولهم الجنة بدلالة المنطوق، ولا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم، وهذا دليل أصولي آخر. وسبق أن ذكرنا أن سر التبعيض في قوله: (يغفر لكم من ذنوبكم) هو: أن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان، كذنوب المظالم، أي: حقوق العباد، وفيه نظر؛ لأن الحربي لو نهب الأموال المصونة، وسفك الدماء المحقونة، ثم حسن إسلامه جب الإسلام عنه إثم ما تقدم بلا إنكار. ويقال: إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضاً. والسر فيه: أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن، يعني قال: (يغفر لكم من ذنوبكم) لأنه خطاب موجه لكافر، فيكون فيه قبض لا بسط للثواب، بخلاف كون الإنسان إذا آمن وأسلم، فإن الأمر يكون فيه بسط. قال ابن كثير: جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب، ولهذا نجع كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً وفوداً.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، لما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر، فقال: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا عرفت ذلك، وقامت البراهين عليه، ولم ينجع في الكافرين؛ (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) أي: الزم الثبات والحزم فإنك منهم. قال مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وقيل: نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى. وقال ابن جريج منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس. وقال الشعبي والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة. وقيل: هم الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط، واختار هذا الحسين بن الفضل؛ لقوله بعد ذكرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]. وقيل: إن الرسل كلهم أولو عزم، وعلى هذا فتكون (من) في قوله تعالى: (فاصبر كما صبر ألوا العزم من الرسل) بيانية لا للتبعيض، أي: اصبر كما صبر الرسل الذين هم أولو العزم. وقيل: هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل. وقال الحسن: هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى. فأما إبراهيم فقيل له: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]، ثم ابتلي في ماله وولده ووطنه ونفسه، فوجد صادقاً صابراً في جميع ما ابتلي به. وأما موسى فعزمه حين قال له قومه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]. وأما داود فأخطأ خطيئة فنبه عليها، فأقام يبكي أربعين سنة حتى نبتت من دموعه شجرة وقعد تحت ظلها. وأما عيسى فعزمه أنه لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها. فكأن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اصبر، أي: كن صادقاً فيما ابتليت به، كما صدق إبراهيم، واثقاً بنصر مولاك مثل ثقة موسى، مهتماً بما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهداً في الدنيا مثل زهد عيسى. ثم قيل: هي منسوخة بآية السيف. وقيل: إنها محكمة. وذكر مقاتل: أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فأمره الله عز وجل أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولو العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له. يقول القاسمي: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)، أي: أولوا الثبات والجد منهم فإنك منهم. والعزم في اللغة كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر، والعزم أيضاً القوة على الشيء والصبر عليه، فالمراد به هنا: المجتهدون المجدون أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم وقدره وقضاه عليهم. ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل وكثير من الأولياء، فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مقصود ببعضهم فلابد من بيانه ليظهر وجه التخصيص، وقد اختلف في عددهم إلى أقوال: الأول: أنهم جميع الرسل. والثاني: أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. والثالث: أنهم خمسة، بزيادة عيسى كما قيل: أولي العزم نوح والخليل المنجد وموسى وعيسى والنبي محمد عليهم الصلاة والسلام. والرابع: أنهم ستة بزيادة هارون أو داود. والخامس: أنهم سبعة بزيادة آدم. والسادس: أنهم تسعة: بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف، وقد يزاد وينقص. وتوجيه التخصيص: أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية وأموره الخارجية، ومبارزة كل أهل عصره كما وقع لنوح، أو الملك الجبار في عصره وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية كـ نمرود إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى، ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل، وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة حسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام؛ فمن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره. وقوله تعالى: ((وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)) أي: ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتدت عليك الأمور من جهتهم.

كلام الشنقيطي في المراد بأولي العزم من الرسل

كلام الشنقيطي في المراد بأولي العزم من الرسل يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافاً كثيراً، وأظهر الأقوال في ذلك: أنهم خمسة، وهم الذين قدمنا ذكرهم في الأحزاب والشورى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7] عليهم السلام. وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا أربعة، فصار هو صلى الله عليه وسلم خامسهم. واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن لفظة (من) في قوله: (من الرسل)، بيانية الذي يظهر أنه خلاف التحقيق، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية كقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فأمر الله جل وعلا نبيه في آية القلم هذه بالصبر، ونهاه عن أن يكون مثل يونس؛ لأنه هو صاحب الحوت. وكقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، فآية القلم، وآية طه المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل. وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] يعني: بالدعاء عليهم أو في إحلال العذاب بهم، فإن أبعد غايتهم يوم القيامة. (ولا تستعجل لهم) مفعول لأجله، يعني: لا تستعجل لهم العذاب.

معنى قوله تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون)

معنى قوله تعالى: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:35] من العذاب أو من الآخرة. {لَمْ يَلْبَثُوا} [الأحقاف:35] أي: في الدنيا، حتى جاءهم العذاب، أو لم يلبثوا في قبورهم حتى بعثوا للحساب. {إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35] يعني: في جنب يوم القيامة. قيل: نساهم هول ما عاينوا من العذاب طول لبثهم في الدنيا. {بَلاغٌ} [الأحقاف:35] أي: هذا القرآن بلاغ، (بلاغ) خبر مبتدأ محذوف، والدليل قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} [إبراهيم:52]، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، والبلاغ بمعنى التبليغ. وفي قوله: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35] بعض العلماء وقف على (ولا تستعجل)، ثم بدأ: (لهم بلاغ) وهذا خطأ، ذكر ذلك أبو حاتم، ويجوز بلاغاً على المصدر أو على النعت للساعة، والخفض على معنى: من نهارٍ بلاغٍ. وروي عن بعض القراء (بلغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) فيقف على (من نهار). وقرأ: (بلّغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون). قرأ الجمهور (يُهلك) على البناء للمفعول، وقرأه ابن محيصن: على البناء للفاعل. (يَهلك) والمعنى: أنه لا يهلك لعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة، الواقعون في معاصي الله. وقال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مسرف. وقيل: هذه الآية أقوى آية في الرجاء، (بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)، يعني: لا يهلك مع رحمة الله وفضله (إلا القوم الفاسقون). قال العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: (بلاغ) أصوب القولين في قوله تعالى: (بلاغ) أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا بلاغ، بدليل قوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ} [إبراهيم:52]، وقوله: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ، وقد علم من استقراء اللغة العربية أنه يأتي كثيراً بمعنى التفعيل، فبلغه بلاغاً أي: تبليغاً، وكلمه كلاماً أي: تكليماً، وطلقها طلاقاً أي: تطليقاً، وسرحها سراحاً، وبينه بياناً، كل ذلك بمعنى التفعيل؛ لأنها مضاعفة العين غير معتلة. وأما القول بأن المعنى وذلك بلاغ، فهو خلاف الظاهر كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وقال القاسمي رحمه الله تعالى: (فهل يهلك) أي: بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة، (إلا القوم الفاسقون) الذين خالفوا أمره، وخرجوا من طاعته، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه.

محمد [1 - 3]

تفسير سورة محمد [1 - 3]

بين يدي سورة محمد

بين يدي سورة محمد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فنشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة القتال، وهي المسماة بسورة محمد صلى الله عليه وسلم، وتسمى سورة الذين كفروا، جاء في الأسباب إنها بدأت بقوله تعالى: {والَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]. أما تسميتها باسم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فلما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم متفرقاً أعظم من الإيمان بما نزِّل مجموعاً على جميع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى بسورة القتال؛ لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم، فلا حرمة لهم عن قتالهم، وأيضاً سميت بسورة القتال لما ذكر فيها من أحكام القتال، وكثرة فوائده. وهي مدنية في قول ابن عباس ذكره النحاس، وقال الماوردي: مدنية في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة، فإنهما قالا: إنها مدنية إلا آيةً منها نزلت عليه بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزناً عليه، فنزل عليه قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]. وقد غلط الثعلبي حيث قال: إنها -أي: السورة- مكية، فهذا قول غريب. وروى ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت في المدينة سورة الذين كفروا، أي: سورة محمد صلى الله عليه وسلم. وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهم في المغرب: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))). وآيها ثمان وثلاثون آية، وقيل: تسع وثلاثون، ومثل هذا الاختلاف في عدد الآيات لا يعني اختلافاً في ألفاظ الآيات، فهي نفس الألفاظ، فبعض الآيات قد يرى بعض العلماء مثلاً أنها آية كاملة، والبعض يرى أنها جزء آية، وليس يمنع هذا الاختلاف في عدد ألفاظ السورة، وإنما في موضع الآية.

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) فقوله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)). قال ابن عباس ومجاهد: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، هم أهل مكة. (كفروا) أي: بتوحيد الله، (وصدوا) أنفسهم والمؤمنين عن دين الله -وهو: الإسلام- بنهيهم عن الدخول فيه، فصدوا أنفسهم بعد الإيمان، وصدوا غيرهم بنهيهم عن الدخول في دين الإسلام. فـ ((الَّذِينَ كَفَرُوا))، أي: جحدوا توحيد الله وعبدوا غيره، ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، أي: أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أو صدوا غيرهم عن ذلك فهذا هو تفسير القاسمي لقوله تعالى: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)). أي: أن الفعل (صدَّ) إما أنه فعل لازم، وإما أنه متعد، فإذا قلنا: إنه لازم، فمعنى (صدوا) أي: أعرضوا، وتقول مثلاً: فصد عني، أي: فأعرض عني، وإذا قلنا إنه متعد فالصد هنا بمعنى المنع، فالكافر يصد عن سبيل الله، أي: أنه يمنع الآخرين وينهاهم عن الدخول في دين الله عز وجل، وسيأتي تفصيل ذلك. وقال الضحاك: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: عن بيت الله بمنع قاصديه. وقيل: هم أهل الكتاب. والاسم الموصول في قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا)) مبتدأ، والخبر قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)). وقد حقق العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في تفصيل كثير جداً لا نحتاجه في القرآن الكريم؛ ولذلك نحن نقف معكم هذه الوقفة، يقول رحمه الله: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، قال بعضهم: هو من الصدود؛ لأن صد في الآية لازمة. وقال بعضهم: ليس من الصدود، وإنما هو من الصد؛ لأن صد في الآية متعدية، وعليه فالمفعول محذوف، أي: صدوا غيرهم عن سبيل الله، وهو الدخول في الإسلام. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وهذا القول الأخير هو الصواب؛ لأنه على القول بأن صد لازمة، فإن ذلك يكون تكراراً، فصد يعني: أعرض هو عن الإسلام ولم يدخل فيه بنفسه، فيكون الفعل هنا صد من الصدود وهو الإعراض، فيكون تكراراً مع قوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يعني: صد عن سبيل الله يكون توكيداً بكفروا، والتكرار عامة يكون للتوكيد؛ لأن الكفر هو أعظم أنواع الصدود أي: الإعراض عن سبيل الله. أما على القول: بأن صد متعدية فلا تكرار؛ لأن المعنى: أنهم ضالون في أنفسهم، مضلون لغيرهم بصدهم إياهم عن سبيل الله، فهذا مثل قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. فإذا حملنا الحياة الطيبة على أنها الآخرة، وقوله: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} [النحل:97] في الآخرة فإنه يكون توكيداً، لكن ممكن أيضاً أن يكون المعنى: ((فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)) هذا في الدنيا، ((وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ)) في الآخرة، فيكون على هذه الحال تأسيساً، وهو الأولى، فاللفظ إذا دار بين التأكيد والتأسيس وجب حمله على التأسيس إلا بدليل يجب الرجوع إليه. فالأرجح في قوله هنا: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) -والله تعالى أعلم- أن (صد) متعدية، والمعنى: أنهم كفروا في أنفسهم، وكانوا نشطين في دعوة غيرهم للبقاء على هذا الكفر، ونهوا الناس عن الدخول في دين الله، فالراجح إذاً هو حملها على التأسيس لا التوكيد. ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، للمفسرين أقوال في تفسير قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، قال القاسمي: أي: جعلها على غير هدى ورشاد. وقال الضحاك: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل كيدهم ومكرهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم. وقيل: معنى ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل ما عملوه في حال كفرهم مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق، فهم في حالة كفرهم كانوا يفعلون بعض الأعمال من مكارم الأخلاق، كصلة الأرحام، وفك الأسارى، وحسن الجوار، وغير ذلك، فهذه الأعمال باعتبار أنها غير مبنية على العقيدة الصحيحة فإنها تحبط، ولا تستعظم في الآخرة، ولم يجعل الله لها جزاءً ولا ثواباً، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فأعمالهم لا تنفعهم في الآخرة. وقيل: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطلها، وقيل: أضلهم عن الهدى بما صرفهم عنه من التوفيق. يقول العلامة الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ))، أي: أبطل ثوابها، فما عمله الكافر من حسن في الدنيا، كقرى الضيف، وبر الوالدين، وحمى الجار، وصلة الرحم، والتنفيس عن المكروب فإنه يبطل يوم القيامة ويضمحل، ولا يكون له أثر، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وهذا هو الصواب في معنى الآية. لكن ينبغي أن ننتبه إلى أمر مهم جداً في القراءة، فنحن نقول: ((أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطل ثوابها في الآخرة، فالكافر إذا عمل شيئاً من هذه الأعمال الحسنة فإنه يثاب عليها في الدنيا إذا شاء الله له ذلك، فالمجال الوحيد في أن يثاب على ما عمل هو: أن يثاب عليها في الدنيا فقط، وذلك بإيساع الرزق والصحة، وغير ذلك من الأمور في الدنيا، وأما في الآخرة فلا يثاب الكافر على عمل عمله وقد قدم على الله كافراً به، فلابد من العقيدة الصحيحة، وأما في الدنيا فقد يثاب بإذن الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18].

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا عملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا عملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2]. فبعد أن ذكر الكافرين أتبعهم بذكر المؤمنين، قال: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، و (الذين) صيغة عموم، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها. فقد قيل: إنها نزلت في الأنصار، وقيل: في أناس من قريش، وقيل: في مؤمني أهل الكتاب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: آمنت قلوبهم وسرائرهم، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم. قوله: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، وهذا من عطف الخاص على العام، فـ (آمنوا) في أول الآية عام، ثم ذكر الخاص بعد ذلك: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، صلى الله عليه وسلم، فهذا عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. أي: (والذين آمنوا) إيماناً عاماً بكل ما ينبغي الإيمان به، لكن هناك إيمان خاص بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الإيمان بما نزّل على محمد، وهو شرط في صحة الإيمان، وإذا لم يأتوا بهذا الشرط حبط كل عملهم، فبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم غلقت جميع الأبواب المؤدية إلى الجنة، ولم يبق إلا باب وطريق واحد وهو اتباع ما جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فمن لم يؤمن بمحمد عليه السلام بعد بعثته كان من أهل النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)، وهذه إشارة إلى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. قال الشوكاني رحمه الله: وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله، تنبيهاً على شرفه وعلو مكانته. أي: مع أن الإيمان بمحمد داخل في قوله: (والذين آمنوا)، لكن خُصّ بالذكر لينبه على شرفه وعلو مكانته. قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) هذه جملة معترضة بين المبتدأ وهو: ((والذين آمنوا)) وبين خبره وهو ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)). قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))، قال الشوكاني: معنى كونه الحق أنه الناسخ لما قبله. قوله: ((مِنْ رَبِّهِمْ))، في محل نصب على الحال. قال القرطبي: يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم. وقيل: إن القرآن هو الحق من ربهم، فقد نسخ به ما قبلهم. قوله: ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: السيئات التي عملوها فيما مضى، فإنه غفرها لهم بالإيمان والعمل الصالح. قوله: ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) قيل: شأنهم، أو أمورهم، أو حالهم، والمعاني الثلاثة متقاربة، وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بالإيمان. وحكى النقاش: أن المعنى: ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح نياتهم، وهو على هذا التأويل محمول على صلاح دينه، يعني: بعض العلماء قالوا: إنها متأولة، أصلح بالهم أي: أصلح ما يتعلق بدنياهم، كذلك قلنا: بأنه الشأن أو الأمور أو الحال. وقال الشوكاني: قيل: ومعنى ((وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: عصمهم من المعاصي في حياتهم، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال، وقد جاء في حديث تشميت العاطس: (يهديكم الله ويصلح بالكم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي: الطاعات فيما بينهم وبين ربهم. قوله: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)) أي: بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خصه بالذكر مع دخوله فيما قبله تعظيماً لشأنه؛ لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به، إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه في إفراده بالذكر، وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية وهي قوله: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ))؛ لتبين شرف وعظم مكانة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل إليه: (وهو الحق) أي: الثابت بالواقع ونفس الأمر، ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الفسق والمعاصي، فالتكفير هو التغطية، ومنه كفرت البذرة إذا غطيتها بالتراب، فالمقصود: أن الإيمان والعمل الصالح ستر وغطى على ما كان منه من الكفر والمعاصي؛ لنزوعهم عنها وتوبتهم، (وأصلح بالهم) أي: حالهم وشأنهم وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق. قال الشهاب: البال يكون معناه الحال والشأن، وقد يَخَصّ بالشأن العظيم، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: (كل أمر ذي بال) (ذي بال) أي: ذي شأن عظيم. ويتجوَّز به عن القلب. أي: قد يستعمل استعمالاً مجازياً بمعنى القلب، ولو فسر البال هنا بالقلب لكان المعنى حسناً أيضاً، ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) أي: أصلح قلوبهم. وقد فسره النسفي بالفكر؛ لأنه إذا صلح قلبه وفكره صلحت عقيدته وأعماله. وقال ابن جرير (البال) كالمصدر مثل الشأن، لا يعرف منه جمع، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة الفعل، فإذا جمعوه قالوا: بالاً، بالاً. وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (وأصلح بالهم) أي: أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه. وما ذكره الله جل وعلا هنا في أول هذه السورة الكريمة من أنه يبطل أعمال الكافرين، ويبقي أعمال المؤمنين جاء موضحاً في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود:15]، تأملوا الظرف (فيها)، فالهاء تعود إلى الحياة الدنيا، أي: لا يجازَون إلا في الدنيا؛ ولذلك صح في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر) فالدنيا هي المكان الوحيد الذي يثاب فيه على ما عمل من الأعمال الحسنة، فيوجد من التقاة من يعمل أعمالاً حسنة كبر الوالدين، وصدق الحديث، والوفاء بالوعد، والإحسان إلى الفقراء، فهذا قد يحصل من الكافر، فيثاب عليها في الدنيا فقط، بشرط أن يشاء الله ذلك. قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] أي: في الدنيا فقط. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} [هود:16] أي: في الآخرة، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]. وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:23 - 24]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]، وقال تعالى في سورة الأحقاف: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20]. قوله تعالى: ((وأضل أعمالهم)) أصله من الضلال، وهو بمعنى: الغيبة والاضمحلال، فالشيء إذا غاب فقد ضل، وليس مأخوذاً من الضالة، فهذا كقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24]. قوله تعالى: ((وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ))، قال ابن كثير: هو عطف خاص على عام، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17]. وقوله تعالى: ((وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)) جملة اعتراضية تتضمن شهادة الله بأن هذا القرآن المنزل على هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله، كما قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، فالله يشهد لنبيه بأنه على الحق: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:50 - 51]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس:108]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:170].

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم) قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد:3]. ((ذلك)): إشارة إلى المذكور من فعله تعالى بالفريقين من مؤمنين وكفار، حيث أضل أعمال الكافرين، وكفر سيئات المؤمنين وأصلح بالهم. قوله: ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) أي: يسبب لهم الأسباب، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالاً، قال الزمخشري: فإن قلت: أين ضرْب الأمثال؟ ف A هو في جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكفار، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين، أو أن المثل في أن جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار، وتكفير السيئات مثلاً لفوز المؤمنين. فقوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ)) أي: إنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شئونهم؛ لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل، ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)) وهو التوحيد والإيمان، ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) أي: يبين لهم مآل أعمالهم، وما يصيرون إليه في معادهم. فالإشارة في قوله تعالى: (ذلك) إشارة إلى ما مر مما أوعد به الكفار، ووعد به المؤمنين، وهو مبتدأ خبره ما بعده، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وتقديره أي: الأمر ذلك، وهذا هو ما يعتمد عليه بعض القراء في مثل هذا الموضع بأنه يجيز الوقف هنا، فلو وقفت هنا بعد كلمة (ذلك) يكون المعنى: الأمر ذلك، ويكون إعرابها: خبر لمبتدأ محذوف، فكأن المعنى قد تم؛ ولذلك جاز الوقوف، وإن وقف عند قوله (ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا) أي: الأمر ذلك بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. قوله: ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) الضمير في (أمثالهم) يرجع إلى كلا الفريقين: الذين كفروا، والذين آمنوا. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ)) أي: ذلك المذكور من إضلال أعمال الكفار، أي: إبطالها واضمحلالها، وبقاء ثواب أعمال المؤمنين، وتكفير سيئاتهم، وإصلاح حالهم كله واقع بسبب أن الكفار اتبعوا الباطل، ومن اتبع الباطل فعمله باطل، والزائل المضمحل تسميه العرب باطلاً، وضده الحق، وقد سبق هذا مراراً في أثناء تفسير القرآن الكريم الحق الثابت الدائم الباقي، فالباطل معناه: الزائل المضمحل، فقال الله عز وجل هنا: ((ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ)) أي: الزائل ومضمحل، ((وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ))، وبسبب أن الذين آمنوا اتبعوا الحق، ومتبع الحق أعماله حق، فهي ثابتة باقية وليست زائلة مضمحلة، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن اختلاف الأعمال يستلزم اختلاف الثواب لا يتوهم استواءهما إلا الكافر الجاهل، أي: لا يتوهم استواء المؤمن مع الكافر أو استواء أعمال المؤمن مع أعمال الكافر إلا كافر جاهل، وينبغي أن يستنكر عليه تسويته بين المؤمنين والكافرين، وهذا ما وضحه قوله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، فهذا معناه أنه يستوجب الإنكار عليهم؛ لأن هذا هو الذي فعله الله بهم، ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ)) الذين اتبعوا الحق من ربهم ((كَالْمُجْرِمِينَ)) الذين اتبعوا الباطل؟! لا يستويان، قال تعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]. قوله تعالى: ((كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ)) سبق بيان معناه، وضرب الأمثال يراد منه بيان الشيء بذكر نظيره الذي هو مثل له.

محمد [4 - 6]

تفسير سورة محمد [4 - 6]

تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)

تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: قال تبارك وتعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. قوله تعالى: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ))، لما ميز الله سبحانه وتعالى بين الفريقين أمر المؤمنين بجهاد الكفار، (فإذا لقيتم) أيها المؤمنون! ((الذين كفروا فضرب الرقاب)). قال ابن عباس في الذين كفروا هنا: هم الكفار المشركون عبدة الأوثان، ويقول: هم كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي، واختاره ابن العربي فقال: وهو الصحيح؛ لعموم الآية فيه، أي: أن الآية أتت بصيغة عموم ((الذين كفروا))، فتعم كل من كفر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً. ((فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) ضرْب: مصدر، قال الزجاج في قوله: ((فضرب الرقاب)): أي: فاضربوا الرقاب ضرباً، وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطع الرقاب، وقيل: إنه لفظ دل على الإغراء، أي: فالزموا ضرب الرقاب. قال أبو عبيدة: وهو كقولك: يا نفس! صبراً، إغراءً بالصبر، أي: يا نفس! اصبري صبراً. وقيل: التقدير: فاقصدوا ضرب الرقاب. وقال بعض العلماء: الحكمة من قوله تعالى: ((فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) ولم يقل فاقتلوهم أن في التعبير بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل؛ لما فيه من تصوير القتل بأبشع صوره، وهو حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجَه أعضائه. قوله: ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) أي: أثخنتم القتل، قال الشوكاني: حتى إذا بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل بهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب لا لبيان غاية الحق، وهو مأخوذ من الشيء الثخين أي: الغليظ، تقول: هذا قماش ثخين، أي: غليظ وسميك، فكذلك هنا: ((حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ)) يعني: أكثرتم فيهم القتل. قوله: ((فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)) قرأ الجمهور بفتح الواو من الوثاق، وقرأ السلمي بكسرها. والوثاق: اسم للشيء الذي يوثق به كالرباط أو الحبل مثلاً، وقرأ الجمهور: وإنما أمر سبحانه بشد الوثائق لئلا ينفلتوا، والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق. قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا))، أي: فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر مناً أو تفدون فداءً، والمن: هو الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يَفدي به الأسير نفسه حتى يتحرر من الأسر. ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم، فالأمر هنا يكون تخييراً بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، واقتصر هنا في هذه الآية على التخيير بين المن والفداء ولم يذكر القتل؛ لأن القتل مذكور في أول الآية. وقد قرأ الجمهور: ((فإما منا بعد وإما فداء)) بالمد، وقرأ ابن كثير: ((وإما فدىً)) بالقصر، وإنما قدم المنّ على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق، فلهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وكما يقول الشاعر الآخر: ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المغيض المحنق فمما كانت تفتخر به العرب: المنّ مع القدرة على الفدية، فيمنون بفكاك الأسرى بلا مقابل، كما قال شاعرهم في البيت السابق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وروي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفاً على رأس الحجاج حين أُتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة، فقتل منهم نحواً من ثلاثة آلاف، حتى قُدِّم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج! ما جازاك الله عن السنة والكرم خيراً، قال: ولم ذاك؟ قال: لأن الله تعالى قال: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) في حق الذين كفروا، فوالله! ما مننت ولا فديت، فقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم فقال الحجاج: أفٍ لهذه الجيف -يقصد بالجيف الثلاثة الآلاف الذين حصدهم عما قريب- أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟! خلوا سبيل من بقي، فخلّي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين؛ بقول ذلك الرجل. ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) الوزر: هو الثقل، ومنه وزير الملك، فسمي وزيراً لأنه يتحمل عنه الأثقال والأعباء، قال مجاهد وابن جبير في قوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)): هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضاً: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي. فقال الكسائي: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) حتى ينتهي الجهاد. ولا ينتهي الجهاد حين يسلم الخلق أجمعون. وقال الفراء: حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي: حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقال الحسن: حتى لا يعبدوا إلا الله. والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور وهي: القتل أو المن أو الفداء، إلى غاية وهي: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى تنتهي الحرب مع الكفار. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً، وَحكَماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها)، فإذا صح هذا الحديث فإنه يكون تفسيراً لقوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) أي: حتى يسلم الخلق أجمعون. وعن سلمة بن نفيل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج) أخرجه ابن سعد، والإمام أحمد، والنسائي، والبغوي، والطبراني، وابن مردويه. قال قتادة في قوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)): أي: حتى لا يبقى شرك. وهذا كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] أي: حتى لا يكون شرك، ويكون الدين لله. وقال ابن كثير: وقوله: ((حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)) قال مجاهد: حتى ينزل عيسى ابن مريم، وكأنه أخذه من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال) رواه أبو داود. إذاً: فلعل هذا الحديث هو الذي استندوا إليه في هذا التفسير، ومعلوم أن الذي يقاتل الدجال هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ويكون معه المسلمون، فيقاتلون الدجال وأتباعه من اليهود. وروى أبو القاسم البغوي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح فقالوا: يا رسول الله! سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها؟ قالوا: لا قتال، قال: كذبوا! الآن جاء القتال، لا يزال الله يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعقر دار المسلمين بالشام) هكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي. إذاً: فهذا يقوي القول بعدم نسخ الآية، وأن هذا التشريع مستمر إلى أن ينزل المسيح يقتل الدجال، فكأن هذا الحكم -وهو التخيير بين الثلاثة الأمور- شرع باقٍ مادامت هناك حرب، فإذا انتهت الحرب فحينئذ يرفع هذا الحكم، وهذا يقوي القول بعدم نسخ هذه الآية الكريمة. وقيل: معنى (الأوزار): السلاح، فالمعنى: شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح، ويكون معنى الحرب هنا (حتى تضع الحرب أوزارها): الأعداء المحاربين، أي: حتى يضعوا سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، ويقال للكراع: أوزار. قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا

خلاف العلماء في تأويل قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)

خلاف العلماء في تأويل قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) وقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية الكريمة: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا)). القول الأول: إن هذه الآية كانت في أهل الأوثان ثم نسخت، فلا يجوز أن يفادوا، ولا يمن عليهم، والناسخ لها عندهم قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))، وهذه آية السيف المعروفة في سورة براءة، قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، فقالوا: إن هذه الآية ناسخة للآية التي في سورة محمد، بمعنى: أن أهل الأوثان لا يجوز أن يفادوا، ولا أن يمن عليهم، وإنما الواجب هو قتلهم. ونسختها أيضاً آية: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]، وأيضاً قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة:36]. قاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبد الكريم الجزري: (كُتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال: اقتلوه؛ لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا). قال الشوكاني: والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن تؤخذ منهم الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله. القول الثاني: إنها في الكفار جميعاً، وهي منسوخة أيضاً على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد قالوا: إذا أسر المشرك لم يجز أن يمنّ عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة؛ لأنها لا تقتل، والناسخ لها قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))؛ إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء، والصبيان، ومن يؤخذ منه الجزية، فهناك أدلة في النهي عن قتل النساء، والصبيان، ومن لا يؤخذ منهم الجزية كالرهبان المعتزلين في الصوامع وغير ذلك. وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة؛ خيفة أن يعودوا حرباً على المسلمين، أي: إذا تُركوا. وعن قتادة قال: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)) قال: نسخها قوله: {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال:57]. وقال مجاهد: نسخها قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ))، وهو قول الحكم. إذاً: فالقولان يقولان: إنها منسوخة، لكن القول الأول يقول: إنها في أهل الأوثان، والقول الثاني: أنها في الكفار عامة، إلا ما استثني من النساء، والصبيان، ومن لا تؤخذ منه الجزية. القول الثالث: إنها ناسخة، فعن الضحاك قال في قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)) قال: نسخها قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)). وعن عطاء في قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً))، قال: فلا يقتل المشرك، ولكن يمنّ عليه ويفادى كما قال الله عز وجل. وقال أشعث كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو قوله: ((فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)). وعن الحسن قال: ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل: إما أن يمنّ، أو يفادى، أو يسترقّ. القول الرابع: إنه لا فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره، وهذا قول سعيد بن جبير. القول الخامس: إن الآية محكمة لا نسخ فيها، والإمام مخير في كل حال. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من العلماء منهم: ابن عمر والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيره، واختاره القرطبي وقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا ذلك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، وفادى سائر أسارى بدر، ومنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناساً من المسلمين، وهبط عليه صلى الله عليه وسلم قوم من أهل مكة فأخذهم النبي عليه الصلاة والسلام ومنّ عليهم، وقد منّ على سبي هوازن، وهذا كله ثابت في الصحيح. قال النحاس: وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن؛ لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للنسخ، وذكْر المنّ والفداء لا ينافي جواز القتل، وإذا كان الأسر والاسترقاء والمفاداة والمنّ فيه مصلحة للمسلمين جاز. وقد فصل القاسمي رحمه الله تعالى أيضاً في حكم هذه الآية بما مختصره: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)) يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، يعني: سبق في الآيات السابقة إشارة إلى ما اقتضى استحقاق المشركين للقتال والشدة والغلظة، وهو أنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأنهم اتبعوا الباطل، فهم يستحقون التشنيع المذكور في الآية الرابعة، فإذا لقيتم هؤلاء الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فأضل الله أعمالهم، والذين اتبعوا الباطل خلافاً للمؤمنين. يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادين عن منهج الرشاد، وبعثاً على الصدق في قتالهم، وكسحاً لعقبة باطلهم، عملاً بما يوجبه الإيمان، ويقبضه الإيقان، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، فأعقب تلك الطليعة بهذه الجملة، أي: أعقب ذكر هذه الطليعة المقدمة في أوائل السورة بهذه الجملة: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ)). ولهذا قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: إن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام، وكأن المعنى: فإذا كان الأمر على ما ذكر من أن: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:1 - 2] إلى آخر الآية، فإذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحاربة فضرب الرقاب، وأصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وقدّم المصدر، فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، وفيه اختصار وتأكيد بليغ، والتعبير به عن القتل تصوير للقتل بأشنع صوره، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه، فإن أيسر وأسهل طريقة للقتل هي ضرب الرقاب. قوله: ((حتى إذا أثخنتموهم)) أي: حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وقهرتم وغلبتم من تبقى منهم ممن لم تضرب رقبته في القتال فصاروا في أيديكم أسرى ((فشدوا الوثاق)) أي: أمسكوهم بهذا الوثاق؛ كي لا يقتلوكم فيهربوا منكم. قوله: ((فإما مناً بعد وإما فداءً)) أي: فإما تمنّون بعد ذلك عليهم فتطلقونهم بغير عوض لزوال سبُعيتهم -أي: كأنهم كالوحوش الضارية-، وإما تفدونهم فداء، فتطلقونهم بعوض مال، أو مبادلة الأسرى كمسلم أسروه، فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم. ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما مر من قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السَّبُعية، أي: من كان في عتاة الكفار وأقويائهم ممن لم يقهر، وبقي فيه الكبر والإصرار على النكاية بالمسلمين، فإن رأى الإمام أن مثل هؤلاء لو أطلقوا فإنهم يعودون بالضرر على المسلمين؛ لبقاء السبعية فيهم كاملة، والقدرة على الأذية والنكاية، فله أن يقتلهم؛ كي لا يعودوا إلى مقاتلة المسلمين. ولم يذكر الاسترقاق أيضاً هنا؛ لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبُعية، ولا تزال كذلك حتى تضع الحرب أوزارها، أي: إلى انقضاء الحرب، والأوزار كالأحمال وزناً ومعنى، واستعير لأداة الحرب التي لا تقوم إلا بها، أي: أنه شبه آلات الحرب بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا يعني: آلات الحرب. وقيل: (أوزارها) آثامها، أي: حتى يترك أهل الحرب -وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم، وذلك بأن يسلموا. قال في الإكليل: في الآية بيان كيفية الجهاد. يقول القاسمي: وهذا القول هو الذي أختاره؛ أن الآية محكمة، والإمام بالخيار بين واحد من هذه الثلاثة: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، فإذا دار الأمر في الآية بين الإحكام و

تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)

تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم) قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:5 - 6]. سبق أن تكلمنا في الحكمة من تشريع الجهاد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بعض أحكام الجهاد وشرحناها فيما مضى، ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل فيه كثير من المؤمنين قال الله سبحانه وتعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: لن يذهبها، بل يكثرها وينميها ويضعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، أي: منهم من يجري عليه ثواب عمله الصالح ما دام في البرزخ، ويستمر وكأنه لم يمت. فلذلك قال تعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فجاء هذا الثواب العظيم للشهادة والقتل في سبيل الله في هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث؛ لأنه ربما يخشى الإنسان أن يقتل في سبيل الله فيلقى الله وعليه ذنوب وخطايا أو غير ذلك مما يخشى منه، فضمن الله لهم الثواب الجزيل كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى؛ ترغيباً لهم في التقدم نحو الجهاد في سبيل الله عز وجل. يقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)). قال بعض المفسرين: يريد قتلى أحد من المؤمنين، ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: لن يذهبها، بل سيكثرها وينميها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن قيس الجذامي -رجل كانت له صحبة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفر عنه كل خطيئة) وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا) أي: يمحو ويكفر خطايا الإنسان، (ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان). وروى الإمام أحمد أيضاً عن المقداد بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوَّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين) (إلا الدين)؛ لأن هذا حق للآدميين، فلا بد أن يؤدى ويستوفى. وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُشفَّع الشهيد في سبعين من أهل بيته)، رواه أبو داود. ((والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم))، وهذه قراءة العامة -أي: عامة القراء أو جمهورهم- وهي اختيار أبي عبيد، وقرأ أبو عمرو وحفص ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير، أي: ((قتِّلوا) وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة: (والذين قَتَلوا في سبيل الله) أي: قتلوا المشركين. وقد رجح بعض العلماء هذه القراءة ((والذين قتلوا في سبيل الله)) من حيث المعنى، وذلك أن السياق يناسبه أن يكون هذا في الدنيا؛ لأنهم قتلوا المشركين وبقوا في الدنيا يعملون، فهم لم يفارقوا الحياة الدنيا، ولذلك قال: ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)). ثم قال: ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: فيما يستقدم مما تبقى من أعمارهم، إذا فهم لا زالوا في الدنيا؛ لأن الآخرة دار جزاء. فهم ركزوا على كلمة: ((سَيَهْدِيهِمْ))، ففهموا من ذلك أنهم لابد أن يبقوا أحياء بعد قتلهم غيرهم، وأما لو كانوا قد قتلوا فهذا بعيد. لكن هذا المذهب مرجوح وسنوضح إن شاء الله تعالى عما قريب سبب ذلك. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة: (والذين قَتَلوُا) أي: قتلوا المشركين في سبيل الله، وقال قتادة: ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات -أي: جراحات القتل-، ولما وجد المشركون الجراحات كثيرة، وقد قتل عدد كبير من المسلمين اغتروا وتكبروا وأخذوا ينادون: اعل هبل اعل هبل، فينادون بالعلو الإلهي لهبل، وهو أحد أصنامهم، فرد عليهم المسلمون: الله أعلى وأجل، وقال المشركون يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا سواء لا سواء -أي: لا نستوي نحن وأنتم-؛ فقتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون فقال المشركون: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم). قال القشيري: قراءة أبي عمرو (قُتِلُوا) بعيدة لقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}، والمقتول لا يوصف بأنه سوف يُهدى؛ لأنه قد فارق الحياة. وقال غيره: يكون المعنى على قراءة: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) * {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}، إذا رجعنا إلى تذكر أنواع الهداية التي دائماً ما نتكلم عنها فأولها: الهداية العامة لجميع الخلق، وغير ذلك من أنواع الهداية التي تنتهي بالهداية في الدار الآخرة، وهي: هداية المؤمنين إلى الجنة وهداية الكفار إلى النار. إذاً: لا استبعاد على الإطلاق في قراءة: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا))، وهي قراءة أبي عمرو وحفص؛ لأن هذا لا يتنافى مع قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}؛ لأن المعنى يكون: سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي: يحقق لهم الهداية. وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر، ويثبتهم عند السؤال في القبر. وقال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) * ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: إلى الطريق المؤدية إلى الجنة، وأما هداية الآخرة فكما في هداية الكفار إلى صراط الجحيم، قال تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:23] أي: فاسلكوا بهم إلى صراط الجحيم. وقال ابن كثير: ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: إلى الجنة؛ لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9]. ويمكن أن نضيف إلى قول ابن كثير آية أخرى وهي قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، وهذا كلام المؤمنين الذين يدخلون الجنة كما هو السياق في سورة الأعراف.

تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم)

تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] أي: أنهم إذا دخلوها فإنه يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم، قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً! أي: لا يسألون غيرهم أن يدلهم عليها، فإنك إذا ذهبت إلى مكان لا تعرفه فإنك تستدل وتسأل: أين المكان الفلاني؟ وأين الشارع الفلاني؟ وأما أهل الجنة فإنهم لا يحتاجوا على الإطلاق إلى تعريف، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تعريفهم بمنازلهم في الجنة. وروي نحوه عن زيد بن أسلم فقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انطلقتم من الجمعة. بل إن هدايتهم إلى منازلهم في الجنة عندما يدخلونها أكبر وأعظم من هدايتهم إلى بيوتهم التي في الدنيا إذا خرجوا منها ثم عادوا إليها، فقد روى البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده! إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله كان في الدنيا). وقال الحسن: وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وهذا قول آخر في تفسير قوله: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي أنه: وصفها لهم وهم في الدنيا وصفاً مشوقاً لكل مؤمن أن يسعى لتحصيلها. وقيل: فيه حذف، والتقدير: عرّف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم، فحذف المضاف. وقيل: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) بواسطة دليل يدلهم على المكان، وهذا الدليل هو الملك الموكل بعمل العبد، فإنه يمشي أمام الإنسان وهو يتبعه حتى يأتي العبد منزله، ويعرّفه الملك جميع ما جُعل له في الجنة، وحديث أبي سعيد السابق يرد هذا القول؛ لأن هذا القول يثبت الواسطة، وأما حديث أبي سعيد فلا يثبت الواسطة، بل إن الله هو الذي يعرفهم مكانهم في الجنة. فالأقرب والصحيح أنه بغير واسطة، والله تعالى هو الذي يعرفهم ويهديهم إلى منازلهم في الجنة. وقال ابن عباس: (((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) من العرف، أي: مأخوذة من العَرْف، وهو: الرائحة الطيبة. قال ابن عباس: (أي: طيبها لهم بأنواع الملاذ)، ويقال: طعام معرف، أي: مطيب، تقول العرب: (عرفت القدر) إذا طيبتها بالملح والإبزار، وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، ويقال: حرير معرف، أي: بعضه فوق بعض، فهو من العرف المتتابع، كعرف الفرس. وقيل: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) أي: وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها. وقيل: عرف المطيعين أنها لهم. فهذه هي الأقوال في تفسيرها، وإذا صح عن النبي عليه السلام قول في تفسير آية ما وجب المصير إليه، فيجب تفسير الآية هنا بما فسرها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن معنى: ((عَرَّفَهَا لَهُمْ)) أنه يهديهم إلى منازلهم في الجنة بمجرد دخولها، وبدون واسطة.

محمد [7 - 14]

تفسير سورة محمد [7 - 14]

تفسر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)

تفسر قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) ثم يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] قال قتادة في قوله تعالى: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)): لأنه حق على الله أن يعطي من سأله، وينصر من نصره. وقوله: ((وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) قال ابن جرير: ويقوكم عليهم ويجرئكم حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددهم، وقل عددكم، وقال القرطبي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي: إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار، نظيره: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، وقال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد. قوله: ((وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) أي: عند القتال، وقيل: يثبت أقدامكم على الإسلام، وقيل: على الصراط، وهذه كلها ليس بينها تعارض، فهي من اختلاف التنوع، وليست من اختلاف التضاد. وقيل: المراد تثبيت القلوب للأمن، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب، قال تعالى في الأنفال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، فأثبت في الأنفال واسطة أن التثبيت يكون عن طريق الملائكة: ((فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))، أما هنا في هذه الآية فلم يذكر هذه الواسطة، بل قال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ))، فنصر الله إما بإلقاء الأمنُ والسكينة في القلوب، وإما بالملائكة، وإما بغير ذلك من الأسباب. وهذا يكون كقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]، وهو القائل عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الروم:40]، فهو يميتكم بواسطة الملك، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2]، ومثل هذا كثير، فلا فاعل في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى وحده. واستدل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة بالعبارة المشهورة: (الجزاء من جنس العمل) ولهذا قال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))، كما جاء في الحديث: (من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، وقد دلت كثير من الآيات القرآنية على نفس هذه المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة القتال، وذلك كقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. إذاً: فهنا ضمان بالنصر والتثبيت، وهذا الضمان مشروط بشروط وهي: أن ينصر العبد الله سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل، فمن أعزّ أمر الله أعزّه الله، ومن نصر دين الله نصره الله، كما في هذه الآية: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) وأما ما هو شائع على ألسنة كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم يبارزون الله سبحانه وتعالى بالمعاصي والمخالفات وأن الله سوف ينصرهم، فهؤلاء لا ينصرون؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ)) وقال: ((وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ))، وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] أي: المتصفين بالإيمان، وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، إذاً: فالذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، ليسوا داخلين في وعد الله بالنصر ألبتة، بل مثلهم كمثل الأجير الذي استأجره مستأجر، فلم يعمل لمستأجره شيئاً، ثم جاء بعد ذلك يطلب منه الأجرة وهو لم يعمل شيئاً، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، فمن يتمادى في المعاصي والمخالفات ثم يقول: إن الله معنا، وإن الله سينصرنا، فهذا غرور منه، فهو ليس من حزب الله الموعودين بنصر الله عز وجل؛ لأنه لم ينصر الله، ولم ينصر دينه وكتابه، ولم يكن جهاده لإعلاء كلمته، وإقامة حدوده وفرائضه عز وجل. وقد رأينا عواقب ذلك، فرأينا أصنافاً كثيرين مغترين في هذا الزمان، وما أكثر ما يستدلون بهذه الآية: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) رأيناهم في النكبة، وذلك حينما كان المذيع يقول: أم كلثوم معك في المعركة، وشادية معك في المعركة، وعبد الحليم حافظ معك في المعركة، فكيف يكون الله معنا وهؤلاء أيضاً معنا؟ وكيف نكون من حزب الله ونحن نطلب النصرة من هؤلاء الأقوام، ومن حزب الشيطان؟! وهذه الآية أيضاً مما يصدق أن يستدل بها في مواجهة كثير من الناس الذين يكثرون الشر، وحينما تدعوهم إلى بعض التكاليف الشرعية سواء كانت ظاهرة أو باطنة، وسواء كانت في الفرائض أو غيرها، كاللحية مثلاً، أو الكلام في أي قضية من القضايا التي لا تروق لبعض الناس، فإنهم يقولون لك: المسلمون يذبّحون وأنت في وادٍ آخر، والكنيسة الشرقية تتحد مع الغربية، واليهود يفعلون، والنصارى يفعلون، وأنت تقول للناس: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، وتتكلم في توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات!! ينبغي أن نشتغل بالأمور المهمة، فالمسلمون يذبحون ويضطهدون، فنقول: هم يتخيلون أن العلاقة بين هذا وذاك علاقة تضاد، وكأنه لا يستطيع المسلم أن يؤدي هذه الأمور كلها، سواء كانت فرعية أو أصلية، فالمسلم يستطيع أن يقوم بهذه الأمور التي ذكرنا، وفي نفس الوقت يكون مجاهداً في سبيل الله إذا أتيح له الجهاد. وأما هؤلاء فيظنون أن العلاقة علاقة تضاد، وأن المسلم لا يستطيع أن يجاهد وهو عافٍ للحيته مثلاً!! فليس هناك علاقة تضاد، ويمكن للإنسان المسلم أن يعمل أكثر من عمل في وقت واحد، فأنا مثلاً الآن جالس، وفي نفس الوقت متكلم، وناظر، وسامع، فهذه كلها توفرت في شخص واحد، وفي وقت واحد، بخلاف الأمور المتضادة كاجتماع النقيضين، فإنهما لا يجتمعان في مكان واحد، وفي آنٍ واحد، كالعمى والبصر، فهذه علاقة تضاد، وكالأبوة والبنوة في شخص واحد من جهة واحدة، فهذا لا يكون أبداً، وأما الصفات غير المتضادة، والصفات المتباينة فيمكن أن تجتمع في وقت واحد، وفي مكان واحد، كالسواد والحلاوة، فإنهما يجتمعان في العسل والتمر مثلاً، أو البياض والبرودة، فيجتمعان في الثلج، فكذلك نفس الشيء هنا، الإنسان يستطيع أن يعفي لحيته مثلاً ويجاهد في سبيل الله، فليس بينهما تضاد بل العكس، فالعلاقة بينهما في الحقيقة بمقتضى هذه الآية تكون علاقة تلازم؛ لأن الله يقول: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ))، فنصرة الله تكون بإقامة شرعه، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، وكثير من هؤلاء الناس لا يستعملون هذا النوع من الجدل إلا في مصادمة السنة، ومن يدعوهم إلى الالتزام بالسنة، في حين أنهم هم أنفسهم في حياتهم العادية يمارسون أشياء منكرة، فبعضهم مثلاً يلبس (الكرفتة) ويكوي ملابسه، ويشتري فواكه، ويعمل رحلات ترفيهية، ثم لا يقبل من أحد أن يقول له: المسلمون يذبحون وأنت تأكل الفاكهة! والمسلمون يضطهدون في أقصى الغرب وأنت تكوي ملابسك وتهتم بكذا وكذا! فهو لا يقبل ذلك ممن يعترض عليه، فأولى ثم أولى حينما نأمرهم بأمر الله، أو أمر رسول الله عليه السلام ألّا يحق لهم الاعتراض بقولهم: المسلمون يذبحون، وكما قال أحد إخواننا في اليمن رداً على هؤلاء القوم حينما اشتغلوا بهذا الفهم، فقال أحدهم: يا جماعة! أنتم غاضبون على الناس عندما تركوا الحجاب، وحلقوا اللحى، والمسلمون في أفغانستان يحاربون من قبل الشيوعيين! وأنتم لا تتكلمون إلا في هذا، فقال له أحد الإخوة من أهل اليمن: هب أننا حلقنا لحانا، وخلعت نساؤنا الحجاب، فماذا يفيد إخواننا الأفغان ذلك؟ وماذا تستفيدون من ذلك؟ فالشاهد: أنه ليس هناك علاقة تضادّ بين التمسك بكل أمور الدين -سواء فرعية أو أصلية- وبين جهاد الأعداء، بل هناك علاقة تلازم، وإثباتها من باب إثبات اللازم للملزوم، فإن نصر الله إنما يتنزل على من ينصر الله، قال تعالى: ((إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))، ثم ليس هناك قاعدة تضبط مثل هذا التفكير، فما يعظمه بعضهم قد يحتقره الآخر، وما يحتقره بعضهم قد يعظمه الآخر، وبالتالي تصبح الشريعة ألعوبة في أيدي الناس، فهذا يحذف منها ما شاء بدعوى عدم التمسك بهذه القشور وهذه المظاهر إلى آخره، وفي ترك ذلك تضييع لكثير من شعب الدين والإيمان.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم) قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8]، قوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا)) يجوز أن يرفع على الابتداء، ((وَالَّذِينَ)) اسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ، ويجوز فيه النصب، ويفسره قوله: ((فَتَعْسًا لَهُمْ)) أي: وكأنه قال: أتعس الله الذين كفروا فتسعاً لهم، وأما قوله: ((فَتَعْسًا لَهُمْ)) فإنه منصوب على المصدر على سبيل الدعاء عليهم، وهو مثل قولك: سقياً لك ورعياً، وهناك عبارة في العربية وهي: (لعاً له) أو (لعاً لك)، وهي كلمة تقال لشخص وقع في حفرة مثلاً وهو آتٍ في الطريق، فأنت تقول له: (لعاً لك) يعني: نجاك الله من هذه الحفرة ورفعك منها، فإذاً (لعاً له) كلمة يدعى بها للعاثر، ومعنى: (لعاً له) ارتفاع له، أي: أن يرتفع من هذه العثرة، قال الأعشى: بذات لوث عصرنا إذ عثرت فالتعس أولى لها من أن أقول لعا وفي قوله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ)) عشرة أقوال: بعداً لهم، حزناً لهم، شقاءً لهم، شتماً لهم من الله، هلاكاً لهم، خيبةً لهم، قبحاً لهم، رغماً لهم، شراً لهم، شقوة لهم، وقيل: إن التعس: الانحطاط والعسار، وقال ابن السكيت: التعس: أن يخر على وجهه، والنكس: أن يخر على رأسه، قال الجوهري: وأصله الكبت، وهو ضد االانتعاش، ويقال: تعس يتعس تعساً. قال مجمع بن هلال: تقول وقد أفردتها من خليلها تعستَ كما أتعستني يا مجمع فيبدو أنه قتل زوجها أو خليلها، فهي تدعو عليه وتقول: تقول وقد أفردتها من خليلها تعست كما أتعستني يا مجمع وجوز قوم تعِس بكسر العين، ومنه حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط)، رواه البخاري. وفي بعض طرق هذا الحديث: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) رواه ابن ماجة. وخبر الموصول محذوف في قوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ))، فإذا قلنا: إن الموصول (الذين) مبتدأ فالخبر في هذه الحالة محذوف وتقديره: والذين كفروا فتعسوا تعساً لهم، ودخلت الفاء في قوله: ((فَتَعْسًا لَهُمْ)) تشبيهاً للمبتدأ بالشرط، واللام في ((لَهُمْ)) للبيان، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ((وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)). قوله: معطوف على ما قبله، وداخل معه في خبرية الموصول.

تفسر قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)

تفسر قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى سبب إتعاسهم وإذلالهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] أي: ذلك الإضلال والإتعاس لأنهم كرهوا ما أنزل الله من الكتب والشرائع، فهم لا يريدونه ولا يحبونه، فأحبط أعمالهم، أي: الأعمال التي عملوها في الدنيا من صور الخيرات التي تدخل تحت العمل الحسن، كعمارة المسجد، وقرى الضيف، وأصناف القرب الأخرى، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن، وذلك بشرطين: الأول: الإخلاص، وذلك أن يراد بالعمل وجه الله، (إنما الأعمال بالنيات). الثاني: الاقتداء، متابعة النبي عليه السلام، بدليل قوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). فالإخلاص والاتباع شرطان في العمل الصالح إذا صدر من المؤمن، وإذا صدر من غير المؤمن فلابد من شرط آخر مهم جداً وهو: الإيمان بالله تعالى ودينه، ثم بعد ذلك يكون الاتّباع والإخلاص لله عز وجل. وقيل: ((أَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)) أي: عبادة الصنم.

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: عاقبة من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلها، الرادة لنصائحهم ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: ما اختصوا به وكان لهم. يقال: دمره، بمعنى: أهلكه، ودمر عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس، والثاني أبلغ، أي: أن قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أبلغ من عبارة: دمرهم؛ لأن قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) تعم في هذه الحالة إهلاك أنفسهم، وإهلاك ما يختص بهم كالأموال وغيره، فإذا قلت: دمرهم الله، ففيه ذكر المفعول به وهو الضمير: (هم)، من دمرهم الله، وأما قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) فإنه لم يصرح بالمفعول؛ لأن الله دمرهم ودمر كل ما يختص بهم، فكأنهم قد صاروا نفياً منفياً عدماً، ولذلك لم يذكر المفعول إيماءً إلى أن التدمير يعمهم ويعم ما يختص به. وأتى بكلمة بعلى في قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) لأن كلمة ((دَمَّرَ)) ضُمِّنت معنى: أطبق عليهم، وكلمة ((أطبق)) تتعدى بعلى، فمعنى: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: أطبق عليهم، ومعنى ذلك: أنه أوقعه عليهم محيطاً بهم من كل الجهات، أو ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: هجم الهلاك عليهم، وأتاهم بغتة. قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)): المقصود بالكافرين هنا: المكذبين للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) أي: أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة، فهذه الآية مما يستدل به على حجية دليل من الأدلة الشرعية وهو القياس، فالله سبحانه وتعالى هنا رغبهم إلى أن يقيسوا أحوالهم على أحوال الأمم المكذبة، فإذا كان حالهم كحالهم في تكذيب الرسل فليقيسوا عاقبتهم على عاقبة الأمم السالفة. وهذه الآية الكريمة إنما ذكرها الله سبحانه وتعالى بعدما بيّن أحوال المؤمن والكافر تنبيهاً على وجوب الإيمان في الآيات السابقة، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فهذا حال المؤمنين، ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} * {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ثم وصل هذا بالأمر بالتفكر والاعتبار والتدبر والسياحة في الأرض؛ ليروا آثار القوم المهلَكين، فقال: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم، ((فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: فينظروا بقلوبهم، ((كَيْفَ كَانَ)) آخر أمر الكافرين قبلهم، ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: أهلكهم واستأصلهم، ثم توعد المشركين، فقال: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) أي: أمثال هذه الفعلة، يعني: التدمير. وقال الزجاج والطبري: أن الهاء في قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) تعود إلى العاقبة في قوله: ((كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ))، أي: وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا.

تفسير قوله: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم)

تفسير قوله: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] وفي حرف ابن مسعود: (ذلك بأن الله ولي الذين آمنوا). قوله: ((ذَلِكَ)) أي: ما مضى مما فعله الله عز وجل بفريق المؤمنين، وما فعله بفريق الكافرين، أو ((ذلك)) إشارة إلى ما ذكره من أن للكافرين أمثالها. قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّ)) فالباء هنا سببيه، ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: وليهم وناصرهم، قاله ابن عباس وغيره. قوله: ((وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ)) مثل قوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]، ولذلك نادى أبو سفيان صخر بن حرب حين كان رئيس المشركين يوم أحد -قبل أن يسلم في فتح مكة- بعدما لاحت لهم بشائر الغلبة على المسلمين نادى فقال سائلاً: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ فلم يجب، فقال: أما هؤلاء فقد هلكوا؛ فظن أنه لم يوجد أحد منهم لأنهم ماتوا، فرد عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله! بل أبقى الله لك ما يسوءك، وإن الذين عددت لأحياء، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سِجال، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، ثم ذهب يرتجز فيقول: اعل هبل، اعل هبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال: (ألا تجيبوه! قالوا: وما نقول يا رسول الله؟!)، وتأملوا أن الرسول لما كان أبو سفيان يقول: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ لم يجبه، ولما أراد أن يخدش عقيدة المسلمين واستعصامهم بربهم أمرهم بالإجابة، فعندما قال: (اعل هبل) وهذا اعتداء على مقام الألوهية، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا تجيبوه! قالوا: يا رسول الله! وما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم).

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) ثم ساق الله سبحانه وتعالى الآية الثانية لبيان ولاية الله للمؤمنين، فإن الآية السابقة كالعنوان وهي قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا))، ثم بين في هذه الآية مظاهر ولاية الله سبحانه وتعالى للمؤمنين فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]. وفي قوله تعالى: ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) رد على من يقول: إن الإيمان من الرجل يقتضي الطاعة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك ما أعادها، فالجنة تنال بالإيمان والعمل الصالح، وقيل: إن الجنة تنال بالإيمان، والدرجات تُستحق بالأعمال الصالحة، والله تعالى أعلم. قوله: ((جَنَّاتٍ)) وهي البساتين, وإنما سميت جنات لأنها تُجِنّ من فيها، أي: تستره بشجرها، ومنه المجن، وهو الترس؛ لأن صاحبه يستتر به أثناء القتال، فإذا جاءت الطعنة فإنها تصيب الترس ولا تصيب صاحبه، فهذا هو المجن، ومنه سمي الجنين؛ لأنه مستور في بطن أمه ولا يُرى ومنه الجن، لأنهم لا يُرون. قوله: ((إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)) إعراب ((تَجْرِي)) فعل مضارع مرفوع؛ لأنه يسبقه ناصب ولا جازم، وحذف الضم من الياء لثقلها، فأصلها (تجريُ)، لكن الياء مع الضمة ثقيلتان، فحذفت الضمة من الياء، فنقرأها: ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ))، عند الأعراب مرفوع بالضمة المقدرة على الياء. وقوله: ((مِنْ تَحْتِهَا)) أي: من تحت أشجارها، فما من جنة ولا بستان إلا وفيه أشجار، فلفظ الجنات دالٌ على الأشجار، فمعنى ((من تحتها)) أي: من تحت أشجارها. وقوله: ((الأَنْهَارُ)) أصل النهر: هو الأخدود، فإذا حفر في الأرض وصار فيها هذا الفراغ الذي يجري فيه الماء، فهذا الأخدود هو النهر، والمقصود هنا في هذه الآية هو الماء الذي يجري في هذا الأخدود، فنسب الجري إلى الأنهار توسعاً، وإنما الذي يجري هو الماء وحده، فحذف اختصاراً، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، والمقصود: واسأل أهل القرية. وقال الشاعر: نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كُلَيب المجلسُ يعني: أهل المجلس فحذف (أهل)، والنهر مأخوذ من أنهرتُ أي: وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم يصف طعنة طَعن بها عدواً له، فيقول: ملكتُ بها كفي فأنهرتُ فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها فقوله: (ملكت بها كفي) أي: سددت وقويت بها كفي، (فأنهرت فتقها) أي: أنه طعن هذا الرجل طعنة واسعة بحيث لو أن شخصاً وقف خلفه يرى من خلاله فيرى ما وراء المطعون. ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه)، يعني: ما وسع الذبح حتى يجري الدم كالنهر، وجمع النهر: نُهُر وأنهار، ونهر أي: كثير الماء، وروي أن أنهار الجنان لا تجري في أخاديد، وإنما تجري على سطح الجنة منضبطة بقدرة الله حيث شاء أهلها، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ))، وهذا هو كل غايتهم وقصارها، أي: أن ينالوا المتع الحسية في الدنيا كأنهم أنعام، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فالذين كفروا يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، فهم ساهون عما في غدهم، فهل الأنعام تخطط للمستقبل، أو تفكر في المحيط؟ لا، فهي تتمادى في الشهوات، وهي لا تعلم أنها كلما استمرت في ذلك عُجِّل في ذبحها، لأن الناس يستحسنون عاقبة الذبح حينما يأكلون هذا اللحم السمين، فكذلك الذين كفروا غافلون عما ينتظرهم في العاقبة، وقيل: إن المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، ((وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)) أي: مقاماً ومنزلاً. وقد ذكر الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هنا في هذا السياق حديث الشيخين المتفق عليه، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو قال: كان أبو نهيك رجلاً أكولاً، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فقال: فأنا أؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أطبق العلماء على تأويل هذا الحديث، فالمشرحون إذا فتحوا بطن الكافر فإنهم لا يجدون أمعاءه سبعة أضعاف أمعاء المؤمن لذلك فأطبق العلماء على تأويل الحديث؛ لقرينة وهي قول أبي نهيك: فأنا أؤمن بالله ورسوله، يعني: لست كافراً. فاختُلف في معنى هذا الحديث، فقيل: ليس المراد ظاهره، وإنما هو مثَل ضُرب للمؤمن وزهده في الدنيا، والكافر وحرصه عليها، فكأن المؤمن لتقلله مادياً يأكل في مِعيٍّ واحد، والكافر لشدة رغبته فيها، واستكثاره منها، يأكل في سبعة أمعاء، فليس المراد حقيقة الأمعاء، ولا خصوص الأكل، وإنما المراد التقلل من الدنيا والاستكثار منها، فكأنه عبَّر عن تناول الدنيا بالأكل، وعن أسباب ذلك بالأمعاء، ووجه العلاقة ظاهر. وقيل: المعنى: أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود، نقله ابن التين. وقيل المراد: حضّ المؤمن على قلة الأكل، إذا علم أن كثرة الأكل صفة للكافر فإن نفسه تنفر من الاتصاف بصفة الكافر، ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ))، وهذا مشاهد في أغلب الكفار وبالذات في الأمريكان كما رأيت، فهم شديدو الشره في الطعام بحيث أنك إذا رأيت الطعام الموضوع على المائدة تعجب كيف سيأكله رجل واحد مع أنه يصلح لعشرة أفراد، وإذا بهذا الكافر يلتهمه التهاماً، فهم يأكلون كميات ضحمة من الأكل! وقد لا يظهر ذلك عليهم؛ لأنهم يمارسون الرياضات، فهم شديدو الشره للطعام بطريقة عجيبة! فكأن الحديث يذكر أن كثرة الأكل والشره في الطعام صفة من صفات الكافر، فالمؤمن دائماً حريص على ألا يتشبه بالكافر، وينفر من صفات الكافر المختصة به، فهذا هو المقصود من الحديث: أن ينفَّر المؤمن الأكول من التشبه بالكافر، وقد تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله عليه السلام: (كف عنا جشاءك؛ فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة)، كما يقول الشاعر: فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقد وصف سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه المشركين فقال: رأيت قوماً ليس لهم فضل على أنعامهم، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم!. فالأنعام معروفة بكثرة الطعام، والشره في تحصيل الشهوات، فهم كالأنعام، وليس لهم فضل على أنعامهم بعقل ولا حكمة، فلا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، أي: أن كل همهم ما يأكلونه ويلبسونه من المتاع والملاذ، قوله: (وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك)، يعني: من المسلمين، (ويشتهون كشهوتهم)، فالمؤمن لا ينخرط في تحصيل متاع الدنيا كالكافر؛ لأن الكافر سبب فعله هذا جهله بالله، وجهله بأحوال يوم القيامة وغير ذلك من الأضرار والأخطار، فإذا بدر منه ذلك فهذا لا يؤاخذ، وأما المؤمن الذي يعرف ما لا يعرفه هؤلاء من عاقبة الانخراط في الشهوات فلا ينبغي له فعل ذلك؛ فلذلك قال هنا: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ)). وهناك قول آخر في تأويل الحديث السابق، وهو: أنه يحمل على ظاهره، فليس فيه تأويل، واختلف الذين قالوا: إنه باق على ظاهره في معناه على أقوال: أحدها: أنه ورد في شخص بعينه، فـ (ال) في كلمة (الكافر) تكون للعهد، أي: في شخص معين فلا تعمم، وجزم بذلك ابن عبد البر فقال: لا سبيل إلى حمله على العموم؛ لأن المشاهدة تدفعه، فكم من كافر يكون أقل أكلاً من مؤمن، وعكسه، وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله. قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيرا ً فأسلم، فكان يأكل أكلاً قليلاً، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء). ودُفع هذا القول بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم، فقد قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا شعبة عن واسع بن محمد عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه، فأدخلت رجلاً يأكل معه، فأكل كثيراً، فقال: يا نافع! لا تُدخل هذا عليّ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)، فهذا يدل على أن ابن عمر راوي الحديث الأول يرى عموم هذا الحديث الذي رواه عن النبي عليه السلام، فهو لم يقصره على شخص بعينه، فقد عممه على هذا الرجل الذي أُتي به ليأكل معه. وتعقِّب هذا القول أيضاً بأنه غير متفق مع تعدد الاستدلال بالحديث مع فرضية تعدد الواقعة، أي: أن القول بأنه ورد في شخص بعينه، وأن اللام عهدية هذا مدفوع بوقوع تعدد الا

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك)

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك) قال الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]. قوله: (وكَأَيِّنْ) بمعنى: كم، قال الخليل وسيبويه: أصلها -أي: كلمة (كَأَيِّنْ) - أي، فدخلت عليها كاف التشبيه، فصارت كأين، وهي بدون التنوين في الأول، يعني: أن (أي) همزة وياء مشددة، أضف عليها كاف التشبيه فصارت (كأي)، فلزمتها كاف التشبيه فصار في الكلام بمعنى: كم، وجعل التنوين في المصحف نوناً فصارت (كَأَيِّنْ)؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها بتغير معناها، ثم كثر استعمالها عند العرب وتصرفت الكلمة فحصل فيها أربع لغات: وكائن، وكئن، وكأين، وكأي وكأيئن أربع لغات، وكلها بمعنى: كم، كما قال الشاعر: وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا وكئن: كاف همزة على نبرة ثم نون، ولفظ: (كأين) كهذا الذي في سورة القتال، ومنه قول الشاعر: كأين أبدنا من عدو بعزنا وكائن أجرنا من ضعيف وخائف وتقول: كأين رجلاً لقيته، بنصب ما بعد (كأين) على التمييز، وتقول أيضاً: كأين من رجل لقيته، وإدخال (من) بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود، يعني: أن تقول: وكأين من رجل لقيت، أفضل وأبلغ من أن تقول: وكأين رجلاً لقيته، كما تقول أيضاً: بكأين تبيع هذا الثوب، أي: بكم تبيعه؟ فقوله تعالى هنا: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) أي: وكم من أهل قرية وهي مكة، ((هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)) أي: أخرجك أهلها، فهو على حذف المضاف. قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حذيفة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار أُراه قال: التفت إلى مكة فقال: أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إلي، فلو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك)، فأعدى الأعداء من أعتدى على الله في حرمه، أو قتل غير قاتل، أو قتل بلحون الجاهلية، واللحون: هي الأحقاد والعداوات، وهي جمع لحن، فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ}. قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، يعني: هذا هو السر في تأنيث كلمة ((أخرجتك))؛ فقال أولاً: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ)) وهذا مؤنث، ((هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ))، ثم قال بعد ذلك: ((أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ))، ولم يقل أهلكتها فلا ناصر لها، ففهم أن المقصود من القرية أهل القرية، لكنه في الجزء الأول راعى اللفظ، وفي الجزء الثاني راعى المعنى، فقوله: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)) راعى فيه لفظ ((قرية))، وأما في قوله: ((أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)) نظر فيه إلى المعنى. قال جل ثناؤه: (أَخْرَجَتْكَ) فأخرج الخبر عن القرية فلذلك أنث، ثم قال: (أَهْلَكْنَاهُمْ)؛ لأن المعنى في قوله: ((أَخْرَجَتْكَ)) ما وصفتَ من أنه أريد به أهل القرية فأخرج الخبر مرة عن اللفظ ومرة عن المعنى. قوله: ((فَلا نَاصِرَ لَهُمْ)) تهديد شديد، ووعيد لأهل مكة في تكذبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المرسلين، وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببه، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟! فإنه رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن هذه الأمة لم يهلكها الله سبحانه وتعالى إهلاكاً عاماً، فهذه من خصائص أمة محمد عليه الصلاة السلام أنه لا يأتي عذاب يستأصلها جميعها. وكذلك بين الله سبحانه وتعالى أن هناك أمانين في عهد النبي عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فقد كانوا يستعجلون نزول العذاب، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فالله أرحم بهم من أنفسهم فلولا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن انظر إلى الجهل والعتو! فإنهم قالوا: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى قائلاً: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))، إكراماً لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما دام في وسط هؤلاء المشركين، فوجوده أمان من نزول العذاب، فبركة وجود النبي عليه السلام تعم حتى هؤلاء الكفار؛ لأن وجوده معهم وبينهم يمنع نزول العذاب عليهم فقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] أي: وما كان الله ليعذبهم وفي وسطهم مؤمنون يستغفرون الله عز وجل. إذاً: فهناك مانع يمنع وقوع العذاب على كثير من المشركين ولا أقول كل المشركين؛ لأن منهم من وقع عليه العذاب كـ أبي جهل، وغيره من أعداء الله، وخاصة من قُتلوا في بدر، وقد رفعت العقوبة في الدنيا عن كثير منهم بسبب وجود الرسول نبي الرحمة عليه الصلاة السلام، وليس معنى هذا أنه إن خفف عنهم في الدنيا أو لم يوقع بهم العذاب في الدنيا فإن العذاب سيخفف عليهم في الآخرة، كلا، فإنه سوف يضاعف لهم العذاب في الآخرة، قال تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20].

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله)

تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله) قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14]. قوله: ((أَفَمَنْ كَانَ)) الهمزة فيه للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، و (من) مبتدأ، والخبر ((كمن زين له))، وأفرد هنا باعتبار لفظ (من)، وجمع في قوله: ((وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)) باعتبار معناه. ثم قال: ((وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ))، فجمع باعتبار معنى (من)؛ لأن (من) هنا تفيد العموم. قال القرطبي: الأَلِف أَلِفُ تقرير، ومعنى: ((عَلَى بَيِّنَة)) أي: على ثبات ويقين قاله ابن عباس. وقال أبو العالية: إن المقصود به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ))، وقوله: ((عَلَى بَيِّنَةٍ)) المقصود بالبينة الوحي، ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)) أي: عبادة الأصنام، وهو أبو جهل والكفار. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ)) أي: على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه، وبما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة، هل هذا كمن: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)) أي: ليس هذا كهذا، وهذا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19]، وكقوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].

لا ينسب الشر إلى الله تعالى

لا ينسب الشر إلى الله تعالى نختم الكلام ببحث يتعلق بقوله عز وجل: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ))، فنحن نحتاج إلى بعض هذه المسائل المهمة أن تكرر بين وقت وآخر، فإن في التكرار تثبيتاً للمعلومات، وتنبيهاً للغافلين، وهذا البحث هو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، فقوله تبارك وتعالى هنا: ((كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)) هذا التزيين: هو من جهة الله خلقاً وكوناً وخبراً، وليس معنى ذلك أن الله تعالى يحبه ويرضاه، ويجوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة، ويجوز أن يكون من الكافرين؛ حيث يزين بعضهم لبعض الكفر. وقال الله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من شر الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، فـ (ما) هنا: موصولة، أي: من شر الذي، ولا يجوز غير ذلك، والشر هنا مسند إلى المخلوق المفعول، أي: من شر ما خلقه الله، أو من شرِّ كل ما خلقه الله، أو من شر كل ذي شر خلقه الله. فالشر هنا مسنود إلى المخلوق وليس إلى خلق الرب تبارك وتعالى الذي هو فعله وتكوينه، فالشر يكون من حيث إضافته إلى المخلوق، وأما من حيث الفعل والتكوين بصفته فعل من أفعال الله، فليس فيه شر بوجه ما، فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته، ولا في أفعاله سبحانه وتعالى، كما أنه لا يلحق ذاته تبارك وتعالى، فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق، والجلال التام، ولا عيب ولا نقص فيها بوجه ما. وكذلك أفعاله سبحانه وتعالى كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلاً، ولو فعل الشر سبحانه وتعالى لاشتق له منه اسم والعياذ بالله، فلم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم تعالى الله وتقدس عن ذلك! فالله سبحانه وتعالى لا ينسب إلى ذاته أو أفعاله أو صفاته أي شر على الإطلاق، فهو يتنزه ويتعالى عن الشر. وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما هو شر بالنسبة إليهم هم، فالشر وقع في تعلق هذه الأفعال بهم وقيامها به، ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة أي: المخلوقات المنفصلة، ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال: أحدهما: أن ما كان متضمناً للشر فإنه لا يكون إلا مفعولاً منفصلاً، ولا يكون وصفاً لله، ولا فعلاً من أفعاله. والأمر الثاني: أن كونه شراً هو أمر نسبي إضافي، فهو خير من جهة تقلقه بفعل الرب وتكوينه، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقاً وتكويناً ومشيئة؛ لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر الله بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها فضلاً عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد. وفاعل الشر إنما يفعله لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فالله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، فلأنه غني وحميد لا يفعل الشر، ولا ينسب الشر إليه، فالشخص الذي يفعل الشر كالسرقة مثلاً فإنما يفعل ذلك لأنه متحاج إلى المال، ولأنه فقير، والشخص الشرير الذي يحب أذية الناس، إنما يفعل ذلك لأنه مذموم لا يستحق أن يحمد، ولله المثل الأعلى، وأما الله سبحانه وتعالى فهو غني حميد، غني عن خلقه، ومتصف بالحمد، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلاً، وإن كان هو الخالق للخير والشر، ونوضح ذلك بالمثال التالي، وهو: أن السارق إذا قطعت يده فذلك شر بالنسبة إليه، والشريعة حكمت بقطع يد السارق، فقطع هذه اليد بالنسبة إلى السارق هو شر، لكن ذلك خير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً، لما في ذلك من الإحسان إلى الناس عموماً، وهي خير بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الذي أمر وحكم بقطع يد السارق؛ لأنه بذلك يحسن إلى عبيده بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم، المضر بهم، فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به، ومشكور عليه، ويستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة. وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، ورجم من يصول عليهم في أعراضهم، فإن كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم، فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟! فالله سبحانه وتعالى لا يضع رحمته ورضاه موضع العقوبة والغضب، ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته، كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] * {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36] فهذا تعجب منهم، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]، فنعم الله سبحانه وتعالى لا تليق بأعدائه الصادين عن سبيله، الساعين في خلاف مرضاته، الذين يرضون إذا غضب، ويغضبون إذا رضي، ويعطلون ما حكم به، ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره، والحكم لغيره، والطاعة لغيره، فهم مضادون له في كل ما يريد، فيحبون ما يبغضه ويدعون إليه، ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه، ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه، ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]، وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، فإذا عرفنا هذا عرفنا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك) أي: أن الشر لا ينسب إلى الله: لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فإن كل أفعاله من حيث كونها صادرة عنه عدل وحكمة ورحمة، فمن هنا لا يصح قول من قال في تأويل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليك) قال: معناه والشر لا يتقرب به إليك، أو: والشر لا يصعد إليك، صحيح أنهم يريدون أن ينزهوا الله عن أن يصعد إليه الشر أو أن يتقرب إليه بالشر، لكنه قول لا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله، وقول المعصوم الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن تنزيه الله في ذاته تبارك وتعالى عن أن ينسب إليه الشر بوجه من الوجوه، لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه، أي: لا ينسب الشر إلى الله أبداً، فينزه الله سبحانه وتعالى عن الشر في ذاته وصفاته وأفعاله، مع أنه داخل في مخلوقاته، فالشر يضاف إلى المخلوقات كما في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]. فمن حيث هو فعل الله هو خير، وهناك كثير من الحكم يمكن أن نتدبرها أو نفصلها في موضع آخر.

طرق القرآن الكريم في نسبة الشر

طرق القرآن الكريم في نسبة الشر أيضاً ممن ينبغي أن نلتفت إليه مراعاة لهذا الأمر وهو أن الشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى ذاته، ولا إلى صفاته، ولا إلى أفعاله، فليس في فعل الله شر، ولا في ذاته، ولا في صفاته مطلقاً. فنسبة الفعل إلى الله خير محض، ولا يمكن أن يكون فيه شر، وأما من حيث إضافته إلى المخلوق فقد يكون شراً بالنسبة إليه، كقطع يد السارق، لذلك نجد أن هذه القاعدة كشفت لنا كثيراً من المعاني في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم له أسلوب خاص في إضافة الشر، فإما أن يضاف الشر إلى سببه ومن قام به، وإما أن يضاف مع حذف فاعله. فمثال إضافة الشر إلى سببه ومن قام به قوله تبارك وتعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فتجد أن الظلم نسب إلى الكافر نفسه، فإنه ظلم نفسه، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6]، فلفظة (فاسقين) صيغة فاعل، فهم الذين يفعلون الفسق، كذلك قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء:160] إلى آخره، فهنا أضاف الشر إلى اليهود، فنسب الشر إلى فاعله من المخلوقين، وكقوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام:146] فأضيف الشر إلى الكافرين، وكقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] فأضاف الظلم إلى هؤلاء القوم. الطريقة الثانية: أن يضاف الشر مع حذف الفاعل، أي: أن ترد الصيغة وليس فيها الفاعل، كقوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]، فنسب الخير إلى الله تعالى؛ لأنه خير محض، فقالوا: ((أم أراد بهم ربهم رشداً))، وأما في الشر فبنوه للمجهول، وحذفوا فاعله فقالوا: ((وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض))؛ لأن الله لا يريد الشر ولا ينسب إليه، وإن كان قد خلقه كوناً وقدراً لحكمة بالغة ليس فيها شر، فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد، ونظيره في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] * {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم} [الفاتحة:7] فخاطبوا الله سبحانه وتعالى بسبق النعمة؛ لأنها خير محض، {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، المغضوب اسم مشتق من غضب عليهم، فهو اسم مفعول مشتق من صيغة الفعل المبني للمجهول، وليس من صيغة الفاعل، أي: غضب الله عليه، فلذلك فقالوا: ((غير المغضوب عليهم ولا الضالين))، فنُسب الضلال إليهم، وهذا من النوع الأول، أي: أن الشر ينسب إلى فاعله المرتبط به، وحُذف الفاعل في قوله: ((غير المغضوب عليهم))، واستعملوا صيغة المبني للمجهول أو المشتق منه وهو اسم المفعول، فذكرت النعمة مضافة إلى الله: ((صراط الذين أنعمت))، وذُكر الغضب مع حذف فاعله، كقول الخضر في السفينة لما صنع فيها العيب: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب الشر إلى نفسه مع أنه كان بأمر الله، وقال في الغلامين: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] فلما كان خيراً محضاً نسبه إلى الله تعالى. ومثله قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} [الحجرات:7]، فأضافه إلى الله؛ لأنه خير، {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7]؛ لأنه خير محض، {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فنسب هذا الأمر المحبوب إليه، لكن في حب الشهوات قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران:14]، فحذف الفاعل منه ولم يصرح به. وقال تعالى هنا في هذه الآية: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ))، ومثله قول الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {الَّذِي خَلَقَنِي} [الشعراء:78]، فنسب الفعل إلى الله سبحانه وتعالى، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78 - 80]، وهنا حذف الفاعل؛ لأن المرض شر، فنسبه إلى نفسه، فما أعرفه بربه! {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 - 82]، فنسب الخطيئة إلى نفسه؛ لأن هذا شر، فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال، ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة، ومثله قول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121]، وهذه الصيغة غالباً ما تكون في سياق المدح، فالله سبحانه وتعالى هو الذي آتاهم الكتاب، فقوله: ((الذين آتيناهم الكتاب)) غالباً ما تكون في سياق مدح مؤمني أهل الكتاب. وغالباً ما تستعمل صيغة: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101] في الذم، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14] فالسر في هاتين الصيغتين أنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعاً في سياق المدح، وحيث حذفه واقعاً في سياق الذم، وذلك من أسرار القرآن، فمثلاً قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] يعني: أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فنسب الإيراث إلى اسم الاستفهام المتعدي؛ لأنه أسلوب مدح، وقال في أهل الكتاب: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]، فالذي يضاف إلى الله سبحانه وتعالى كله خير ومصلحة وعدل، والشر ليس إليه، فالحمد لله أولاً وآخراً.

محمد [15 - 21]

تفسير سورة محمد [15 - 21]

تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)

تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:15]. لما قال الله سبحانه وتعالى فيما تقدم: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [محمد:12] وصف هنا تلك الجنات المعدة للمتقين. وقوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) فـ (مثل) مبتدأ، وخبره قوله تعالى: ((كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا)) بتقدير حرف إنكار ومضاف، والمعنى: أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد؟! فالهمز للاستفهام الإنكاري، فيقدر في الأولى حرف الإنكار، وفي الثانية في قوله: (كمن هو خالد) عبارة: كمثل من هو خالد، ويمكن أن يكون المعنى: أمثَل الجنة كمثل جزاء من هو خالد، فلفظ الآية وإن كان بصيغة الإثبات إلا أنه في معنى الإنكار والنفي: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها) ثم قال تعالى: (كمن هو خالد في النار)، فصورتها ولفظها الإثبات، لكنها في الحقيقة يراد بها الإنكار والنفي، أي: ليس هذا كذلك؛ لانطوائه تحت كلام مقدر بحرف الإنكار، وانسحاب حكمه عليه، وليس في اللفظ قرينة على هذا، وإنما هي في السياق، وهذا من جزالة المعنى، وثَم أعاريب أخر. قال القرطبي: وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه (مثال الجنة التي وعد المتقون)، وقال الشوكاني: الجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة، وبيان ما فيها، ومعنى: (مثل الجنة) أي: وصفها العجيب الشأن، وهذا مبتدأ خبره محذوف كما بينا، قال النضر بن شميل: تقديره: ما يسمعون، وقدره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة التي وعد المتقون، قال: والمثل هو الوصف، ومعناه هنا: وصف الجنة التي وعد المتقون، وجملة: (فيه أنهار من ماء غير آسن) إلى آخره مفسرة لهذا المثل، وقيل: إن (مثل) زائدة، أي: الجنة التي وعد المتقون إلى آخره، وقيل: إن مثل الجنة مبتدأ، والخبر قوله تعالى: (فيها أنهار)، وقيل خبره: (كمن هو خالد)، وهذا الذي ذكره القاسمي كما بينا. (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) أي: غير متغير الرائحة، والآسن من الماء مثل الآجن، وقد أسن الماء يأسن أسناً وأسوناً إذا تغيرت رائحته، ويأسن الرجل أيضاً إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة من ريح البئر أو غير ذلك، فغشي عليه أو دار رأسه، قال زهير: قد أترك القرن مصفراً أنامله يميد في الرمح ميد المائح الأسن وقرأ الجمهور: (فيها أنهار من ماء غير آسن) بالمد، وقرأ حميد وابن كثير بالخفض: (غير أسن)، وهما لغتان كحاذر وحذر، وقال الأخفش أسن للحال، وآسن فاعل يراد به الاستقبال. إذاً؛ فمعنى: (فيه أنهار من ماء غير آسن)، أنه ماء صافٍ لا كدر فيه. (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) أي: لم يحمض بطول المقام كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة، فلبن الجنة في غاية البياض والحلاوة والدسومة، وورد في بعض الآثار المقطوعة: (لم يخرج من ضروع الماشية). ثم قال تعالى: (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي: ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا، بل هي حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل، ومعنى: (الفعل) أي: حسنة الأثر، فقد نزه الله خمر الجنة، بقوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:47]، وقال: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، وقال: {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [الصافات:46]. وفي بعض الآثار: (لن تعصرها الرجال بأقدامها). إذاً: فوصف خمر الجنة بهذه الأوصاف يقتضي نجاسة خمر الدنيا كما ذهب إليه جمهور العلماء، فالله سبحانه وتعالى وصف خمر الجنة بأنه شراب طهور، أي: أنه ليس بنجس كخمر الدنيا، (وأنهار من خمر لذة للشاربين)، وهذا فيه تنويه بخمر الدنيا من حيث حكم مظهرها وطعمها ورائحتها وفعلها، أي: أن أثرها لا يسلب العقل كما تفعل خمر الدنيا، ولذلك فإن من ترك الخمر في الدنيا لله فإنه يثاب بالشرب من خمر الآخرة، وكذلك من امتنع من لبس الحرير في الدنيا فإنه يثاب بلبسه في الجنة، وهكذا: (من ترك شيئاً لله عوضه الله سبحانه وتعالى خيراً منه). (وأنهار من خمر لذة للشاربين) لذة: قراءة الجمهور بالجر على أنها صفة للخمر، وقرئ بالنصب: (لذةً للشاربين) على أنه مصدر أو أنه مفعول له، وقرئ بالرفع: (لذة للشاربين)، فيكون صفة لأنهار. قال الطبري: فأما القراءة فلا أستجيزها إلا خفضاً لإجماع الحجة من القراء عليها. (وأنهار من عسل مصفى)، والعسل يذكر ويؤنث. قال القرطبي: العسل ما يسيل من لعاب النحل، أي: ما يفرزه النحل، (مصفى) أي: مصفى من الشمع، ومصفى من القذى، خلقه الله سبحانه وتعالى كذلك لم يطبخ على نار، ولا دنسه النحل. وفي سنن الترمذي عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة بحر الماء، وبحر العسل، وبحر اللبن، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد) أي: تتفرع منها الأنهار بعد ذلك، قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة). وفي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، وقد أخذ البعض من هذا الوصف للفردوس أن الجنة -من حيث الخلق- كروية؛ لأن الأوسط لا يكون أعلى إلا فيما هو كروي. (ومنه تفجر أنهار الجنة)، وهذا هو الشاهد في موضوعنا. (ولهم فيها من كل الثمرات)، كقوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55]، وقوله عز وجل: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] يعني: لأهل الجنة في الجنة، وذلك مع ما ذكر من الأشربة من كل صنف من أصناف الثمرات، (ولهم فيها من كل الثمرات) (من) هنا زائدة للتوكيد، قاله القرطبي. (ومغفرة من ربهم) أي: ومع ذلك كله مغفرة من ربهم لذنوبهم، ونُكِّرت (مغفرة) لأجل تعظيم هذه المغفرة من الله سبحانه وتعالى، وهذا من ثوابهم المعنوي، فالجنة فيها كل أنواع النعيم كما قال تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، وأما ما يشتغل به بعض الجهلة والملاحدة من الكفار والمستشرقين وأذنابهم من أنهم يمنعون على القرآن الكريم أن يعد المؤمنين بالمتاع والطعام والشراب والفاكهة في الجنة، فهذا بلا شك جهل منهم؛ لأنهم أصلاً ليس عندهم وصف للجنة، وليس لديهم تفصيل بذلك كما بينه الله سبحانه وتعالى في هذه الرسالة الخاتمة، وإنما عندهم أن الإنسان الذي يثاب فإن ذلك يكون بألا تخرج منه الروح فقط، فتطلع روحه إلى السماء ثم ترجع وإلى جسده، وأما في الإسلام فمعلوم أن الإنسان مركب من روح وجسد، فالروح لها متاعها، والجسد له متاعه، ولا ينكر شيء من هذا على الإطلاق، ثم إن آدم وحواء كانا في الجنة، ثم خرجا بسبب مخالفة أمر الله تعالى بعدم القربان من الشجرة، فهذا الأمر متفق عليه بيننا وبين أهل الكتاب، فهم يؤمنون أنهما كانا في الجنة، إذاً: فأهل الجنة يأكلون، لكنهم يتنزهون عن الأنجاس والأوصاف التي تكون في الدنيا، فمتاع الدنيا لابد أن يوجد فيه ما يكدره، ولا يوجد شيء من متاع الدنيا صافٍ، فقد يحب الإنسان نوعاً معيناً من الفاكهة، لكن قد يجد فيها ما يكدره ويضايقه، فعلى الإنسان أن يفتقد أن الدنيا دار متاع، وأن ما يوجد من هذا المتاع فإنه لمجرد التنبيه إلى لذات الآخرة الحقيقية الدائمة، فعامة لذات الدنيا لابد فيها من مكدر، وذلك إما بالنصب والتعب في تحصيلها، وإما ببعض المشاق في إعدادها للطعام وغير ذلك، فالدنيا ليست دار نعيم مطلق، وإنما هي دار ابتلاء، وكما قال تبارك وتعالى في النار مثلاً: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73]، فبين عز وجل أن الحكمة من خلق النار (نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين) أي: إذا رأوها تذكروا نار الآخرة، و (متاعاً للمقوين) أي: متاعاً للاسترفاه، ولإنضاج الطعام، وللإضاءة وغير ذلك من منافع النار، لكن الهدف الأساسي والغاية الأولى هي: (تذكرة) أي: رأيتموها تذكرتم نار الآخرة، وكذلك إذا رأى الإنسان نعيماً في الدنيا فإنه يذكره بنعيم الآخرة، فلذلك جعلت عامة الشهوات مقرونة بالأوجاع والآلام والمكدرات؛ تنبيهاً إلى أن هذه الدار ليست هي دار النعيم، وإنما هي دار قرن ما فيها من نعيم بما يكدره وينغصه، فالإنسان إذا لم يذق هذا المتاع فإنه لا يستطيع أن يتخيل متاع الدنيا، فإذا وجد أي نوع من أنواع هذا المتاع في الدنيا فإنما هو لتنبيه الإنسان على أن في الجنة ما هو أعظم منه، فقوله هنا: (ومغفرة من ربهم) هو نوع من أنواع نعيمهم الروحي، وجزائهم المعنوي، وقال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] وقد تو

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك)

تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك) قال تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16]، يذكر تعالى عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم أنهم كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً. قال القرطبي: أي: من هؤلاء الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وزين لهم سوء عملهم: قوم يستمعون إليك، وهم المنافقون كـ عبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن التابوت وزيد بن الصليت والحارث بن عمرو ومالك بن الدخشم، فقد كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة، فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنها، فإذا خرجوا سألوا عنه، وقيل: كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، فيستمعون منه ما يقول، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر، لأن على قلوبهم أقفالاً، وتلك الأقفال تمنع من أن يدخل فيها الإيمان، أو أن يخرج منها النفاق، والله تعالى أعلم. قوله: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا)). يقول ابن جرير: حتى إذا خرجوا من عندك قالوا إعلاماً منهم لمن حضر معهم مجلسك من أهل العلم بكتاب الله، وتلاوتك عليهم ما تلوت، وقيلك لهم ما قلت، يقولون لمن كان حاضراً من أهل العلم: إنهم لم يصغوا سماعهم لقولك وتلاوتك، ماذا قال آنفا؟ يعني: ماذا قال لنا محمد صلى الله عليه وسلم آنفا؟ قوله تبارك وتعالى: (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم) قال ابن كثير يعني: من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقال عكرمة: هو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهذه منقبة لـ عبد الله بن عباس، وقال ابن عباس: أنا منهم وقد سئلت فيمن سئل. وفي رواية عن ابن عباس أن المقصود بالآية عبد الله بن مسعود وكذا عبد الله بن بريدة. وقال القاسم بن عبد الرحمن: هو أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، وقال ابن زيد: إنهم الصحابة، وقال الشوكاني: والأول أولى، يعني: علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلا تعارض بين ما ذكر من أمثلة من علماء الصحابة وبين التعميم. قوله: (آنفاً) أي: الآن، على جهة الاستهزاء، أي: إما أنهم يقولون: ماذا قال آنفاً؟ على سبيل الاستفهام الحقيقي، وهذا يدل على غباوتهم، وقلة فهمهم، وبلادة عقولهم، فهم لا يعون ما يعيه المؤمنون. وتفسير آخر: (قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً) أنهم يقولون ذلك على جهة الاستهزاء، وإعلاناً منهم أنهم لا يبالون بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم لن يلتفتوا إلى قوله عليه الصلاة والسلام، أما قوله تعالى: (ماذا قال آنفاً) فالآنف: هو الساعة أو الوقت الذي هو أقرب الأوقات إليك، تقول: استأنفت الشيء إذا بدأت به، ومنه: أمر أنف، أي: مبتدأ، و (روضة أنف) أي: لم يرعها أحد، و (كأس أنف) إذا لم يشرب منها شيء، فكأنه استأنف شربها، وهو مثل: روضة أنف، وأنف كل شيء أوله. وقال قتادة في هؤلاء المنافقين: الناس رجلان: رجل عَقِل عن الله فانتفع بما سمع، ورجل لم يعقِل ولم ينتفع بما سمع، وكان يقال: الناس ثلاثة: فسامع عالم، وسامع عاقل، وسامع غافل تارك. (ماذا قال آنفاً) قرئ (آنفاً) منصوباً على الظرفية، أي: وقتاً مؤتنفاً، أو حال من ضمير من قال.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) قال تبارك وتعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ))، أولئك إشارة إلى المذكورين من المنافقين، وقلنا: إنهم منافقون؛ لأن الذين كانوا يحضرون مجلس النبي عليه الصلاة والسلام كانوا من المنافقين، وكانوا لا يجترئون على مواجهته بما يكره، والمنافقون -كما تعلمون- ظهر أمرهم في المدينة ولم يكونوا في مكة، وهذه السورة مدنية، فكانوا يحضرون ويمارسون جميع تعاليم الإسلام الظاهرة، ويتواجدون في مجامع ومجالس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإذا خرجوا من عنده طفحت قلوبهم، وفاضت ألسنتهم بما في قلوبهم من النفاق، كما سيأتي في قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]. (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) (أولئك) أي: المذكورون من المنافقين، (الذين طبع الله على قلوبهم) فلم يؤمنوا، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير، (واتبعوا أهواءهم) أي: في الكفر والعناد. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: وسوى جل ثناؤه بين صفة هؤلاء المنافقين وبين المشركين في أنهم جميعاً إنما يتبعون أهواءهم، فيما هم عليه من فراقهم دين الله الذي ابتعث به محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل في هؤلاء المنافقين: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم). وقال في أهل الكفر به من أهل الشرك: (كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم)؟ وقال القاسمي: (واتبعوا أهواءهم) أي: آراءهم لا ما يدعو إليه البرهان، ولفظ (الهوى) عامة في القرآن مذموم، فالهوى لا يأتي في القرآن إلا مذموماً. وقال ابن كثير: (واتبعوا أهواءهم) أي: فلا فهم صحيح، ولا قصد صحيح.

تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى)

تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدىً) قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، (والذين اهتدوا) أي: للإيمان (زادهم الله هدىً)، وقيل: (زادهم هدىً) أي: زادهم النبي صلى الله عليه وسلم هدىً، وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى أي: يتضاعف يقينهم، ولاشك أن هذا أحد الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن القاعدة: أن ما كان قابلاً للزيادة فإنه يكون قابلاً للنقص، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، وهذه من عقائد أهل السنة والجماعة التي فارقهم فيها أهل الأهواء والبدع كالمرجئة، فقد ذهبوا إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، وهذا غير صحيح؛ فكلما تعلم الإنسان أكثر وزاد من الأعمال الصالحة ازداد عنده الإيمان، فكثير من الناس يسألون وهم متحيرون، فيقول أحدهم: إنه يشعر بضعف إيمانه، ويشعر بضعف يقينه، ويشعر بتراجع في قوة إيمانه، والأمر في ذلك واضح، فكما ازددتَ من الأعمال الصالحة ازداد وارتفع الإيمان في قلبك، وكلما أكثرت من ذكر الله، ومن قراءة القرآن، وتجنبت المعوقات كإطلاق البصر، ومقارنة جلساء السوء، والتعرض لمواقع الفتن، ووفرت الشروط، ونفيتَ الموانع شعرت في نفسك بقوة الإيمان وزيادته، فهذا الأمر محسوس، فكلما أتيت من شعب الإيمان بما هو أكثر، واجتهدت في ذلك فستشعر أن مرض القلب سوف يشفى بإذن الله تبارك وتعالى. (والذين اهتدوا زادهم هدى) قال الفراء: زادهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هدىً، وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى، وفي الهدى الذي زادهم الله أربعة أقاويل: قال الربيع بن أنس: زادهم علماً، وقال الضحاك: (أنهم علموا ما سمعوا، ثم عملوا بما علموا، أي: أنهم أعقبوا العلم الذي سمعوه بالعمل، وفي العمل بعد العلم زيادة هدى، وقد أعطى القرآن الكريم هذه المسألة اهتماماً عظيماً، فتردد في مواضع من القرآن الكريم أهمية ربط العلم بالعمل، كما في قوله تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وكما في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، وفي قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وفي قوله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68]، أي: أنه كان يعمل بما علم، وجاء في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91]، أي: علمتم فلم تعملوا، فما ذلكم بعلم، فقد أثبت ونفى، فالمراد: علمتم شيئاً لم تعملوا به، فكأنكم لم تعلموه؛ لأنكم اشتركتم مع من يجهل هذا الأمر في عدم العمل، وقيل في قوله تبارك وتعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27]: إنهم قطعوا كل ما أمر الله به أن يوصل، فمما أمر الله به أن يوصل: أن يوصل العلم بالعمل، فالتفريط في ما أمر الله به أن يوصل يدخل فيه: أن يتخلف العلم عن العمل، ويدخل فيما أمر الله به أن يوصل: وصل الإيمان بالأنبياء السابقين وبالنبي الذي أرسل إليه، ويدخل فيها أيضاً صلة الرحم، وغير ذلك مما أمر الله به أن يوصل. إذاً: (والذين اهتدوا زادهم هدىً) قيل: علماً، وقيل: العمل بهذا العلم بعد أن سمعوه، وقيل: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقيل: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) أي: ألهمهم إياها. وقيل: فيه خمسة أوجه: الأول: (وآتاهم تقواهم) أي: آتاهم الخشية. والثاني: (وآتاهم تقواهم) أي: أتاهم ثواب تقواهم في الآخرة. والثالث: (وآتاهم تقواهم) أي: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم. الرابع: (وآتاهم تقواهم) أي: بين لهم ما ينبغي عليهم أن يتقوه ويتجنبوه مما نهى الله عنه. الخامس: (وآتاهم تقواهم) قيل: هو ترك المنسوخ بالناسخ. وقال الماوردي: ويحتمل أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم، وقرئ: (وأعطاهم تقواهم)، بدلاً من (وآتاهم). قال عكرمة: هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة)

تفسير قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) قال الله تبارك وتعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [محمد:18]، هذا كقوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:56 - 57] و (الآزفة) اسم من أسماء يوم القيامة، وقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]. إذاً: فالمقصود من قوله تبارك وتعالى: (فقد جاء أشراطها) بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهذه -كما ذكرنا في أول تفسيرها- أنها مدنية، فبعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ونزول الوحي عليه أحد أشراط الساعة الكبرى، فمنذ ذلك الوقت وإلى أن يشاء الله والأشراط والآيات تتوالى،: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، فكثير من الناس ينتظرون بهذا الكلام قرب قيام الساعة، وقد حصل أكثر من مرة بعض الحوادث، وكلما حصلت حادثة حاول الناس أن يلصقوها بقرب وشيك لقيام الساعة، فهناك أحداث مرتبة لها ترتيب زمني معين، فلا تأتي الساعة إلا بعد أن تحصل هذه الأشياء وخاصة العلامات الكبرى، وبعض الناس يستعجلون في تفسير بعض الحوادث فيحصل نوع من الكلام بالهوى وبدون علم، فلما وقعت حرب الخليج مثلاً يقول بعضهم: هذه هي الملحمة المذكورة، فكيف تكون ملحمة ولم يحصل قبلها شيء؟! ويقولون: نحن الآن أصبحنا في القرن الخامس عشر، وقد مرت سنوات من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وقت اقتراب الساعة! وقد كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم يوماً والشمس في الأفق على عشش المدينة، ولم يبق إلا الشيء اليسير في الأفق، فقال عليه الصلاة والسلام ما معناه: (إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه)، فانظر هذه الدقائق المعدودات قبل غروب الشمس، فالنسبة فيه ما بقي من الدنيا إلى ما مضى منها كالنسبة بين هذه الدقائق في آخر اليوم إلى ما مضى من هذا اليوم القريب. يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به إلى صلاة العصر ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً ونحن كنا أكثر عملاً؟! فقال الله عز وجل: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء) رواه البخاري. إذاً: فاقتراب الساعة أمر نسبي، والإنسان لا ينشغل كثيراً بموضوع اقتراب الساعة كما حصل من قبل؛ ومن طبيعة الإنسان أنه دائماً شغوف لمحاولة استطلاع المجهول، فهذه فطرة الإنسان، وقد أشبع الإسلام هذه الفطرة والغريزة في الإنسان، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه أوحى إلى نبيه كثيراً جداً من أخبار الغيب، فهم يسمونه المغيب، ونحن نسميه الغيب، وأشبعت هذه الغريزة عن طريق الأخبار التي أتت في القرآن والسنة تخبرنا عن كثير جداً من المغيبات، سواء فيما مضى من أحداث هذا الكون والخلق، أو فيما سيأتي في أواخر الزمان، فيحصل بعد ذلك ما يحصل من تفاصيل يوم القيامة مما يكون في الجنة، ومما يكون في النار، وصفة أحوال أهلها إلى غير ذلك، فقد استجاب القرآن الكريم لهذه الفطرة في الإنسان -وهي غريزة حب الاستطلاع والتطلع إلى الغيب- وذلك بما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يستطيل الوقت فمن ثم يحاولون أن يصدقوا بعض الأخبار الضعيفة. وبعضهم لا يستحي عندما يكتب من أن يقول: أعرف كذا وكذا في الكتب المقدسة!! ويقصد بالكتب المقدسة التوراة والإنجيل! فهل يجوز لمسلم أن يصف كتاب اليهود والنصارى بأنه كتاب مقدس كما يسمونه هم؟! إن كان ولابد فتقول: كتاب مقدس عندهم، وأما عندنا فليس مقدساً، ونحن نؤمن بالإنجيل والتوارة وجميع الكتب التي أوحاها الله، لكنها تلك الكتب التي لم تحرف ولم تبدل ولم تغير، وأما وضع المصداقية لهذه الكتب المحرفة، والتي فيها الكذب على الله وعلى أنبياء الله عز وجل، وفيها التحريف، وأنها مصادر علمية معتمدة وموثقة فهذا غير صحيح، فلا يوجد سند على الإطلاق بيننا وبين أهل الكتاب، إن الله تعالى قد آتانا هذا القرآن، فكيف نعرض عنه في غمرة العواطف واستعجال يوم القيامة؟! بأننا لو قلنا: إن فلاناً هو المقصود ففيه شرك؛ لأنك تخبر بالأخبار قبل أن تقع، فعندنا مئات من النبوءات الصادقة الثابتة قطعاً وقد حصل منها كثير وسيحصل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بإذن الله تعالى. إذاً: فالانسياق وراء هذه الغريزة -غريزة التطلع لأحداث اليوم الآخر واقتراب قيام الساعة- يتعب النفس، فهذه أمور كونية قدرية سوف تقع لا محالة كما أخبر الله عز وجل، وكما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فأنت مسئول إذا حصلت كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن تجزم بذلك، وأما قبل حصولها فلا تجزم، لكن يكفيك أن تعرف قطعاً وبلا شك أن ساعتك الخاصة بك قد اقترب، فهناك ساعتان للمرء: الساعة الأولى: وهي ساعة انتهاء عمر الدنيا، ثم يكون القيام من القبور، فالقيامة عبارة عن انتهاء الدنيا، والانتقال إلى الآخرة، فهذا في حق الدنيا، فتنتهي الدنيا بقيام القيامة، فهذا حد فاصل بين الدنيا والآخرة. والساعة الثانية: هي الموت، والموت قريب في كل شخص منا، وهو عبارة عن قيامة وساعة؛ لأنك تنتقل من الدنيا إلى مقدمات الآخرة في الحياة البرزخية، وهناك ينقطع عملك، وتواجه حسابك. إذاً: فلكل إنسان قيامة، وقد قال بعض السلف: من مات فقد قامت قيامته، فعليك أن تنشغل بيوم القيامة الخاصة بك؛ لأنك قطعاً ستسأل عنه، لذا فإنه يجب عليك أن تستعد له، وأما أن نستسلم لما ذكرناه سابقاً كما حصل مراراً أن بعض الناس يعمل سيناريو وحواراً وإخراجاً لهذه القضية، وقضية خروج المهدي فهذا لا ينفع، وقد أشيع أن في مستهل القرن الخامس عشر ستقوم القيامة، فكان الناس خائفين من ذلك، وحاول أصحاب هذه الشائعات أن يخترعوا سيناريو معيناً من أجل أن يصدق أن هذا هو المهدي، وأننا لابد أن ننصره. واسمع إلى هذه الكلمة من بعض الأئمة أظنه سفيان الثوري، فقد سئل عن المهدي فقال: إذا خرج فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه. أي: حتى لو أن المهدي الحقيقي خرج فلا تكن منه في شيء، ولا علاقة لك به حتى يجتمع الناس عليه، فإذا اجتمع الناس من علماء وغيرهم عليه، واستقر الأمر أن هذا فعلاً هو المهدي الذي أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة يمكنك أن تنضم إليه. فإذا سمعت بأحد يدعي أنه المهدي فتذكر هذه النصيحة من هذا الإمام الجليل: إذا خرج -أي: المهدي- فلا تكن منه في شيء حتى يجتمع الناس عليه، فهذه إشارة عابرة عن آخر صيحة في عالم المؤلفات، فبعد أن ذقنا سنين من مئات الكتب التي اتصلت بالجن والعفاريت، ورأينا هذا التهريج والإسهال التأليفي في موضوع الجن، ونحن الآن في أحدث الصيحات الموجودة وهي موضوع قيام الساعة، ولعلنا عما قريب سنتكلم فيه بشيء من التفصيل. فقوله تعالى: ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً)) فيه إشارة إلى قرب قيام الساعة بغتة فجأة، فالساعة قريبة لا شك فيها، قال تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ} [النجم:56 - 57] فهي قريبة، لكن اقترابها نسبي، وليس المراد أنها ستقوم الآن، فلا زال هناك كثير من أشراط الساعة الكبرى لم يأت كخروج المهدي، ونزول المسيح عليه السلام، ثم خروج المسيح الدجال إلى آخر تلك الأمارات العظمى، فليس هناك حرج على الإطلاق أن تقول: لن تقوم الساعة الآن، وقد رأينا كثيراً من الدجالين الذين يخرجون في هذا الزمان، فتسمع بعضهم يقول: يوم القيامة سيكون في يوم السبت القادم، فالإنسان روحه ليست في يده وإنما هي في يد غيره وهو الله سبحانه وتعالى، يأخذها متى شاء، فكل واحد له يوم قيامة وهي ساعة موته. فقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام بأنه هناك ترتيباً معيناً أوحي إليه، فلن تقوم الساعة حتى يحصل كذا وكذا وكذا من الأمور المرتبة ترتيباً زمنياً. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة -يعني: من علامات الساعة الكبرى- لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين، وأقام به الحجة على العالمين، وقد أخبر صلوات الله وسلامه عليه بأمارات الساعة وأشراطها، وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وكذا قال الضحاك، قال القاسمي: وهو كما قال، ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والمسيح عليه السلام إذا نزل فإنه لم ينزل بشريعة جديدة، وإنما يحكم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وينزل المسيح -كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام- وقد أقام المسلمون صلاة الفجر، فيخرج المهدي إلى المسيح ليؤمهم في صلاة الفجر، فيأبى المسيح عليه السلام ويقول: إن بعضكم لبعض أئمة؛ تكرمة الله لهذه الأمة، فالمسيح عليه السلام يتجنب الشبهة؛ لأنه ربما إذ

تفسير قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)

تفسير قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) قال الله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]. قوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عالم بالله، فما المقصود إذاً من قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)؟ قال الماوردي: فيه ثلاثة أوجه: الأول: اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله. الثاني: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي: ما علمتَه تبياناً فاعلمه خبراً يقيناً. الثالث: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) يعني: فاذكر أن لا إله إلا الله، فعبر عن الذكر بالعلم؛ لأن الذكر يحدث عن العلم. وجاء عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك). فالاستغفار عمل، والأولى علم، فبدأ بالعلم قبل العمل. وقال أيضاً: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20] إلى قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] فدل على أن العلم يكون أولاً، ثم العمل. وقال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] وقال قبلها: {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فالحذر عمل، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] إلى آخره، ثم أمر بالعمل بعده. وقوله: (واستغفر لذنبك) يحتمل وجهين، أحدهما: استغفر الله أن يقع منك ذنب، الثاني: استغفر الله ليعصمك من الذنوب، وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان، أي: اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص، والحذر، مما تحتاج معه إلى الاستغفار. وقيل: الخطاب في قوله: (واستغفر لذنبك) للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، وهذا كثير ما يأتي في القرآن أن يكون الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام والمراد أمته كقوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] فالأمر هنا للنبي، والمقصود أمته عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا القول: فإن هذه الآيات توجب على المسلم أن يستغفر لجميع المسلمين؛ لقوله: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))، ولا شك أن تكرار اللام إشارة إلى أن ما يضاف إلى النبي عليه السلام من الذنب ليس كما يكون من المؤمنين، وقد كررنا ذلك مراراً، فهي بالنسبة إلى مقامه الشريف تكون كبيرة، وكما قال الجنيد: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فبالنسبة لمقامه سميت ذنوباً، مع أنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أنها من باب ترك الأولى، فلذلك أرشد به، وإما أنها اجتهاد اجتهده النبي صلى الله عليه وسلم ورأى أن فيه رضا الله، فعمله ابتغاء مرضاة الله، ثم بان له بعد ذلك أنه لا يوافق رضا الله، فعاتبه الله عليه، فهو لم يقصد ولم يتعمد المخالفة، والأمثلة كثيرة نتعرض لها بالتفصيل إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفتح بإذن الله تعالى. جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من استغفر للمسلمين والمسلمات كتب له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام. ففيه الترغيب وفضيلة أن يعم الإنسان في دعائه عامة المؤمنين، فلا يزهد الإنسان في هذا الثواب، وقد يقول قائل: كيف تصل هذه الدعوة إلى كل المؤمنين والمؤمنات؟ فنقول: نعم، فهذا من أكثر الأدعية بركة أن تدعو لنفسك، وتضم معك في الدعاء عامة المؤمنين والمسلمين، (من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كان له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة). فالمؤمنون كثر -ولله الحمد- في كل زمان، فإذا استغفرت لهم نلت حسنة عن كل نفس مؤمنة، فهذا مما لا ينبغي أن يُزهد فيه. قيل: كان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين، فنزلت هذه الآية: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) أي: فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أُمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة، (فاستغفر لذنبك) حتى تقتدي به الأمة في ذلك، (وللمؤمنين والمؤمنات) أي: ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، وهذا أمر بالشفاعة. روى مسلم: عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه، فقلت: يا رسول الله! غفر الله لك، فقال لي صاحبي: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))، ثم تحولتُ فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه جمعاً، عليه خيلان كأنه الثآليل). فـ عبد الله بن سرجس رضي الله عنه يعرف أدب النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا واجهه بهذه العبارة: (يا رسول الله! غفر الله لك) يعلم أنه سيجزيه ويثيبه عليها بأن يقول له: ولك، فيدخل تحت من استغفر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (ثم تلا هذه الآية: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)، يقول عبد الله بن سرجس: (ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه)، وهذه من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان خاتم النبوة بين كتفيه، وكان مكتوب فيه: محمد رسول الله. وقوله: (جمعاً) أي: مثل جمع الكتف، يعني: كما تجمع الأصابع وتضمها هكذا جمعاً، (عليه خيلان كأنه الثآليل)، الخيلان: جمع خال، وهو الشامة في الجسد، والثآليل: جمع ثؤلول: وهي حبيبات تعلو الجسد، وهي التي كانت تكتب جملة: محمد رسول الله بالشامة أو هذه الحبيبات. إن خاتم النبوة هذا أمر ثابت بلا شك، والعجيب أنه موجود حتى الآن إشارة إلى ذلك في كتب اليهود والنصارى، فالذي يدّعونه مقدساً موجود فيه هذا النص في وصف خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلمون أن هذا كان أحد العلامات التي استدل بها سلمان الفارسي رضي الله عنه على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فـ سلمان له رحلة طويلة جداً في البحث عن الحق، وقد استغرقت هذه الرحلة عمراً طويلاً، فظل يتنقل بين علماء النصارى إلى أن قال له آخر واحد منهم: إنه قد حضر زمان هذا النبي، أو: إنه كاد أن يظهر في بلاد العرب في يثرب -وهي المدينة- فظل يتنقل إلى أن وصل إلى المدينة، وعلم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام مهاجراً إلى مكة، فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام كان هذا الحبر أو العالم النصراني قد قال له: إن من صفته أنه يقبل الهدية -أي: يأكل الهدية- ولا يأكل الصدقة، ومن صفته أن هناك خاتم النبوة بين كتفيه، فذهب سلمان إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: لقد وجدت أنت وأصحابك في حالة من الضعف والفقر فأتيتك بهذه الصدقة، فأتى بإناء فيه تمر قد جمعه، فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام ودفعه إلى أصحابه وقال: كلوا، ولم يأكل هو، فقال سلمان: هذه واحدة. ثم أتاه في اليوم الثاني وقال له: رأيتك لم تأكل من التمر الذي أتيتك به بالأمس فهذه هدية، فقربها إلى أصحابه وأكل معهم، فقال سلمان: وهذه الثانية. ثم تحول سلمان رضي الله تعالى عنه إلى خلف النبي عليه الصلاة وجعل ينظر، فتفطن النبي عليه السلام أن هذا الرجل يريد أن يرى خاتم النبوة بين كتفيه، فألقى الرداء فرآه، ثم أسلم، إلى آخر هذه القصة الجميلة المليئة بالعبر، وهي قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه. قال حسان: على كتفيه للنبوة خاتم من الله يلوح ويشهد (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)، وتعلمون أن من شروط لا إله إلا الله: العلم بمعناها نفياً وإثباتاً، فلابد أن يتعلم الإنسان معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً، فإنها تنفي استحقاق غير الله للعبادة، وتثبت استحقاق الله سبحانه وتعالى للعبادة وحده لا شريك له، فلابد أن يتعلم الإنسان معنى لا إله إلا الله. قوله: (والله يعلم متقلبكم ومثوابكم) أي: يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. وقيل: (متقلبكم) أي: في أعمالكم نهاراً، (ومثواكم): في ليلكم نياماً، أي: أنه يعلم كل أحوالكم سواء في تقلبكم في النهار في حاجاتكم أو مثواكم في أثناء الليل حينما تنامون. وقيل: (متقلبكم) في الدنيا، (ومثواكم) في الدنيا والآخرة. وقيل: (متقلبكم) في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات، (ومثواكم) أي: مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن إلى الدنيا، ومثواكم في القبور، والعموم يأتي على هذا كله، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم، وكذا جميع خلقه، فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلاً في الأولى والأخرى سبحانه لا إله إلا هو.

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة)

تفسير قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة) قال الله تبارك وتعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:20 - 23]. قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) قرأ الجمهور: (فإذا أنزلت) وذكر على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن عمير: (فإذا نزلت)، وذكر على بناء الفعلين للفاعل، ونصب القتال. وهذه السورة محكمة، يعني: هذه الآية آية محكمة، فليس فيها نسخ، قال ابن جرير: وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال) معنى قوله: (سورة محكمة) يعني: محدثة النزول، وهذه القراءات تفسر المعنى، وليس المقصود بكونها محدثة أنها مخلوقة، وإنما المراد أنها محدثة من حيث النزول، فالقرآن محدث بالنسبة لنزوله، وأما من حيث هو فهو كلام الله. (طاعة وقول معروف) قال القرطبي: قراءة أبي: (يقولون طاعة). (فهل عسيتم) قال الطبري: أجمعت القراء غير نافع على فتح السين من قوله: (فهل عسيتم)، وكان نافع يكسرها ويقول: (فهل عسِيتم)، قال ابن جرير: والصواب عندنا قراءة ذلك بفتح السين بإجماع الحجة من القراء عليها، وأنه لم يسمع في الكلام -أي: كلام العرب- عسي أخوك يقوم، بكسر السين وفتح الياء، ولو كان صواباً كسرها إذا اتصل بها مكني جاءت بالكسر مع غير المكني، وفي إجماعهم على فتحها مع الاسم الظاهر الدليل الواضح على أنها كذلك مع المكني، وإن التي تلي (عسيتم) مكسورة، وهي حرف جزاء، و (أن) التي مع (تفسدوا) في موضع نصب بعسيتم. (فهل عسيتم إن توليتم)، قرأ الجمهور (إن توليتم) مبنياً للفاعل، وقرأ علي بن أبي طالب: بضم التاء وكسر اللام مبني للمفعول (فهل عسيتم إن توليتم)، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن يعقوب. وقال القرطبي: قراءة علي بن أبي طالب (إن توليتم أن تفسدوا في الأرض) بضم التاء والواو وكسر اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحاق، فرواها رويس عن يعقوب: (فهل عسيتم إن تُولِّيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، قال القرطبي: قراءة يعقوب وسلام وعيسى وأبي حاتم: (وتقطعوا أرحامكم)، بفتح التاء وتشديد القاف، من القطع اعتباراً بقوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27]. وروى هذه القراءة هارون عن أبي عمرو وقرأ الحسن: (وتقطعوا أرحامكم) مفتوحة الحروف مشددة؛ اعتباراً بقوله: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93]، وأما الباقون فقد قرءوها: (وتُقَطِّعوا) بضم التاء المشددة والطاء، من التقطيع على التفسير، وهو اختيار أبي عبيد. قوله: (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) أي: نظراً مثل نظر المغشي عليه، (فأولى لهم) هذا مبتدأ وخبر، وقيل: خبر ((أولى)): (طاعة)، (فأولى لهم طاعة)، وقيل: طاعة صفة لسورة، أي: ذات طاعة. قال في فتح البيان: وفيه بُعد لكثرة الفواصل، وقيل: طاعة مبتدأ، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل من غيره، وقيل: التقدير: أمرنا طاعة. قوله: (إن توليتم) جملة معترضة بين (عسيتم) و (أن تفسدوا)، خبر عسى، و (أولئك) إشارة إلى المفسدين، قال في (فتح البيان) من هنا إلى آخر السورة لا يظهر إلا كونه مدنياً صحيح؛ لأن القتال لم يشرع إلا في المدينة، وكذلك النفاق لم يظهر إلا في المدينة. فيحمل القول فيما تقدم بأنها مكية على أغلبها أو أكثرها، ويحمل القول بأنها مدنية على البعض منها. يقول الله تعالى مخبراً عن المؤمنين الذين صدقوا الله ورسوله في تمنيهم شرعية الجهاد، قالوا: ((لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ))، فهذا شأن المؤمنين، أنهم يتشوقون إلى تشريع الجهاد؛ ليحصلوا ما يترتب عليه من الفوائد، وأعظم ذلك الشهادة في سبيل الله. ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ))، أي: أنهم متشوقون إلى نزول سورة تشرع لهم الجهاد والقتال. ((لَوْلا)) أي: هلّا نزلت سورة؛ اشتياقاً للوحي، وحرصاً على الجهاد وثوابه. فلما فرضه الله عز وجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]. وهاهنا يقول عز وجل: ((وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ)) أي: مشتملة على حكم القتال؛ ولهذا قال هنا: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ))، أي: في معنى الجهاد، (مُحْكَمَةٌ)، أي: غير منسوخة. ((وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ))، قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين؛ لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة. وهذا الموضوع بالذات يحتاج إلى بعض الإيضاح، وقد سبق أن أخذناه بالتفصيل في محاضرة، وجعلناها موضوعية إلى التيارات الجهادية، فلا نطيل الآن في ذكره. ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ))، أي: ذكر فيها الأمر بقتال المشركين. ((رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: شك، وهم المنافقون، أو ضعْف في الدين، وأصل المرض: الفتور، فمرض القلوب: فتورها عن قبول الحق، والأول أظهر؛ لموافقته سياق النص الكريم، أي: أنهم المنافقون. قوله: ((يَنظُرُونَ إِلَيْكَ)) -أي: يا محمد! عليه الصلاة والسلام- شزراً وكراهية منهم، وينظرون نظر مغموصين ومغتاظين بتحديث وتحديد، يحدثون بأعينهم، ويحدون النظر من الشزر والكراهية، والغيظ الذي يملأ قلوبهم. وقوله: ((يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ)) أي: من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء خوفاً من أن تؤذيهم فتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، وهم في السر يميلون إلى الكفار، فأنت ستأمرهم إذا نزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال، فهم يخافون أن تأمرهم بالخروج لجهاد الكفار الذين يحبونهم، ويوالونهم في السر، ويظهرون أنهم معك، فيظهر ذلك في عيونهم وفي نظراتهم. ((مِنَ الْمَوْتِ))، أي: من خوف الموت. وقال ابن زيد: هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم فلا يفقهون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وشبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يصرف بصره. ((فَأَوْلَى لَهُمْ))، اتفق المفسرون على أن المراد بقوله تعالى هنا: ((فَأَوْلَى لَهُمْ)) التهديد والوعيد، لكن اختلفوا بعد ذلك في المراد به هنا هل هو تهديد، أو تهديد ووعيد؟ فذهب الأصمعي إلى أنه فعل ماضي، أي: أنه بمعنى قارب، وقيل: قرب، فمعنى: ((فَأَوْلَى لَهُمْ)) أي: قارب هلاكهم. والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي، بمعنى: القرب، ((فَأَوْلَى لَهُمْ))، أي: قرب أجلهم. وقال أبو علي: (أَوْلَى لَهُمْ) اسم تفضيل من الويل، أصلها: (أويل لهم)، فحمل وزنه أفلع، وورد بأن الويل غير متصرف، وأن القلب خلاف الأصل، وفيه نظر. وقيل: إنه أولى: فعل من: آل، يأول. وقال الرضي: إنه علم للوعيد، وهو مبتدأ، و (لَهُمْ) خبره، وقد سمع فيه قولان: بتاء التأنيث. وقال القرطبي: قال الجوهري: وقولهم: أولى لك، تهديد ووعيد. أي: اعتاد العرب أن يستعملوا هذه الصيغة: (أولى لك) للتهديد والوعيد، كما قال الشاعر: فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مردّ وهذا كما في الآية في سورة القيامة: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34 - 35]. وقال الأصمعي: معناه: قاربه ما يدركه، أي: نزل به. فأولى ثم أولى ثم أولى، أي: اقترب، أو قاربه ما يدركه، وهو نازل به لا محالة، ولن يُردّ هذا الوعيد المهلِك عنه. فأولى ثم أولى ثم أولى وهل للدر يحلب من مرد أي: هل يمكن للبن بعد حلبه من الضرع أن يرجع مرة ثانية؟! فكذلك الوعيد سوف يأتيك قطعاً ولن يرد عنك، ولن يزول. وقال الأصمعي: (فَأَوْلَى) معناه: قاربه ما يهلكه، أي: نزل به، وأنشد: فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث أي: وقارب أن يزيد على الثلاث. وقال ثعلب: ولم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي. إذاً: فأفضل ما قيل في تفسير (أولى) أنه بمعنى قاربه ما يهلكه. وقال المبرد: يقال لمن

شرح قوله تعالى: (طاعة وقول معروف)

شرح قوله تعالى: (طاعة وقول معروف) قال الله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]. قوله: ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة، وأن يستعدوا للقتال؛ لأنهم سوف يباشرونه. قوله: ((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)) أي: جد الحال وحضر القتال، ((فَلَوْ صَدَقُوا)) أي: أخلصوا له النية، {َلكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}. قال ابن جرير: قوله ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل هؤلاء المنافقين من قبل أن تنزل سورة محكمة ويذكر فيها القتال، وأنهم إذا قيل لهم: إن الله مفترض عليكم الجهاد قالوا: سمعاً وطاعة، فقال الله عز وجل لهم: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ))، وفرض القتال شق ذلك عليهم وكرهوه، فقال لهم: ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ))، قبل وجوب الفرض عليكم، فإذا عزم الأمر كرهتموه وشق عليكم. ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) أي: نأخذ منكم شيئين فقط قبل أن يفرض عليكم الجهاد بالكلام. ((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)) كرهتموه وشق عليكم، ونظرتم إليه: ((نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ))، إذاً: ففي هذه الحالة يوقف على (فَأَوْلَى)، ثم ابدأ من: (لَهُمْ) {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]. وقال القاسمي: في قوله: ((طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ)) أوجه: الأول: أنه خبر (أولى) على ما تقدم. الثاني: أنها صفة السورة، أي: ((فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ)) (طَاعَةٌ)، أي: ذات طاعة، أو للطاعة، وفيه بُعد؛ لكثرة الفواصل. الثالث: أنه مبتدأ، و (قول): عطف عليه، والخبر محذوف تقديره: أمثَل بكم من غيرهما، أي: طاعة وقول معروف أمثل بكم وأريح من غيرهما. الرابع: أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: أمرنا طاعة. الخامس: أن (لَهُمْ) خبر مقدم، و (طَاعَةٌ) مبتدأ مؤخر، والوقف والابتداء يعرفان مما تقدم. ((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)): أي: جد الحال، وحضر القتال، قال أبو السعود: أسند العزم وهو الجد إلى الأمر، وهو لأصحابه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. وعامل الظرف الذي هو جواب الشرط محذوف ((فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ)) ف A خالفوا أو تخلفوا، وقيل: ناقضوا، وقيل: كرهوا، وقيل: جواب الشرط هو: فلو صدقوا الله تعالى فيما قالوه من الكلام المنبه عن الحرص على الجهاد (لكان) أي: الصدق (خيراً لهم)، أي: في عاجل دنياهم، وآجل أخراهم، وذلك بأن عفر لهم المعصية والمخالفة. وقيل: فلو تركوه في الإيمان، ووافقت قلوبهم ألسنتهم في ذلك، وأياً ما كان فالمراد بهم: الذين في قلوبهم مرض، وهم المخاطبون بقوله تبارك وتعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ))، أي: أيها المنافقون! الذين في قلوبهم مرض، (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).

محمد [22 - 27]

تفسير سورة محمد [22 - 27]

تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقعطوا أرحامكم)

تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقعطوا أرحامكم) قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]. قوله تعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) أي: إن أعرضتم عن تنزيل الله تعالى، وفارقتم أحكام كتابه، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوليتم عن الجهاد، ونكلتم عنه. قوله: ((أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) أي: أن تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، فتسفكوا الدماء، وتقطعوا الأرحام؛ ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. إذاً: فهذا نهي عن الفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام، وهو: الإحسان إلى الأقارب في المقال، والفعال، وبذل الأموال. قوله: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ))، يقال: عسيت أن أفعل كذا، وعسيت أن أفعل كذا بالكسر، والكسر لغتان ذكره الجوهري وهما سبعيتان، أي: قراءتان من القراءات السبع في القرآن. قوله تعالى: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لتأكيد التوبيخ، وتشديد التقريع، والمعنى: هل يتوقع منكم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم؟! قوله: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) قيل: هو من الولاية، أي: ولاية الأمور أو الحكم بين الناس. قال أبو العالية: المعنى: فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن نفسدوا في الأرض بأخذ الرّشا؟! وقال الكلبي: فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم؟! وقال ابن جريج: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام؟! وقال كعب: فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضاً؟! وقيل: (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)، هي من التولي والإعراض عن الشيء. قال قتادة: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)) عن كتاب الله، ((أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)) بسفك الدماء الحرام، ((وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)). وقيل: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) أي: فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن، وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض، وتعودوا إلى جاهليتكم. وقال بكر المزني: إنها نزلت في الحرورية الخوارج وفيه بُعد؛ لأن الخوارج لم يكونوا قد ظهروا بعدُ، والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون كما سيأتي بيان هذه الجملة من الآيات. وقال ابن حيان: المقصود بها: قريش. وقال المسيب بن شريك والفراء: نزلت في بني أمية وبني هاشم، وبنو أمية وبنو هاشم هما من قريش، أي: كأن فيها إشارة إلى ما وقع من القتل، وتقطيع الأرحام، والفساد في صراع بين العباسيين والأمويين، ودليل هذا التأويل ما روى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (((فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ))، ثم قال: هذا الحي من قريش، أخذ الله عليهم إن ولّوا الناس ألا يفسدوا في الأرض، ولا يقطعوا أرحامهم). هناك قراءة أخرى: (فهل عسيتم إن تُولِّيتم)، فيكون المعنى على هذه القراءة: إن وَليتْكم ولاةٌ جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم!! أي: إن حكمكم حكام جائرون ظالمون، خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم.

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله)

تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لعنهم الله) قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}. قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) أي: طردهم وأبعدهم من رحمته، ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) أي: فأصمهم عن استماع الحق، ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، أي: قلوبهم عن الخير، أو أعمى أبصارهم عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد، والبعث، وحقيقة سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتبع الإخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه اللعنة، وسُلب الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. قيل: إن الله سبحانه وتعالى بعد ما قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}، قال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) يعني: من فعلوا ذلك، (فَأَصَمَّهُمَْ) أي: عاقبهم، ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)). وقال: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ))، ثم قال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ))، فرجع من الخطاب إلى الغيبة، فهذا أيضاً التفات على عادة العرب في ذلك، وهذا فيه التفات للإيذان؛ لأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم. أي: أنه كان في الأول: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) بتوجيه الخطاب إليهم، ((إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ))، ثم أعرض في الخطاب عنهم؛ لأنهم إذا فعلوا هذين الفعلين فلا يستحقون أن يخاطبهم الله مباشرة، فمن ثم انتقل إلى الغيبة فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك للإيذان بأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم. قال عز وجل في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: فأصم آذانهم وأعماهم، وإنما قال: ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، والحكمة في ذلك أنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب الاستماع، ويلزم من ذهاب الأعين ذهاب الإبصار، فلو أن إنساناً قطعت أذنه فإنه لا يفقد حاسة السمع تماماً، لكن لا شك أنه سيتأثر؛ لأن الأذن لها فائدة عظيمة، لكن يبقى له السمع؛ فلذلك قال: ((فَأَصَمَّهُمْ))، فلو قال: فقطع آذانهم، أو ذهب بآذانهم لما دل ذلك على انتفاء السمع؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب السمع، ثم قال: ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ))، ولم يقل: (وأعماهم) لأن الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبصار. وقد جعل الله سبحانه وتعالى العينين مقدمتين، وجعل الأذنين في الجانبين، والحكمة في ذلك: أن العينين بمنزلة الكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم، وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه، أما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العقل من أمامه ومن خلفه وعن جانبيه، فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور، فسبحان من بهرت حكمته العقول! وكذلك جعل للعينين غطاء؛ لأن الأذن تجلب الأصوات، والأصوات عبارة عن طاقة لا بقاء لها، فلو جعل على الأذنين غطاء لذهب الصوت قبل ارتفاع الغطاء. فتزول المنفعة المقصودة، وأما نظرة العين فأمر فائت، فالعين محتاجة إلى غطاء يقيها، وحصول الغطاء لا يؤثر في الرؤية قال بعض أهل العلم: عينا الإنسان هاديان، وأذناه رسولان إلى قلبه، ولسانه ترجمانه، ويداه جناحان، ورجلاه بريدان، والقلب ملك، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده. وقد جعل الله سبحانه وتعالى بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطاً ونفوذاً يقوم به بعضها مقام بعض؛ ولهذا يقرن بينهما سبحانه كثيراً في كتابه، فقال عز وجل: {ِإنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف:26]، وقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وقال أيضاً: {َفإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، إذاً: فالعبرة ببصيرة القلب لا بالعين الباصرة؛ ولذلك جاء في حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (انطلقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى، ونجد العلماء يقولون عند وصف العالم الضرير: الشيخ فلان بن فلان البصير بقلبه، وهذه إشارة إلى أنه لا يرى بعينه، لكنه بصير بقلبه، كيف لا وقد آتاه الله كتابه! فهذا تأدُّبٌ بأدب النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (انطقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار، وقال قتادة وغيره: معنى الآية: يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء. وقال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى؟! ألم يسفكوا الدماء الحرام، ويقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله أخوة. فإذاً: إذا كان المقصود بقوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]: أن تقطعوا رحم الإسلام والإيمان بالقتل الذي يكون بين المسلمين، فالرحم على هذا هو عام وليس الرحم الخاص، فالمقصود به رحم الأخوة الإيمانية التي سماها الله أخوة بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]. وعلى قول الفراء: أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية فالمراد: من أضمر منهم نفاقاً، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة؛ لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخره.

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)

تفسير قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) قال الله تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. وهذه آية جامعة عظيمة، والكلام فيها يطول جداً، وإذا أفردنا الكلام الذي ينبغي أن نقوله حتى نستوفي جزءاً من فوائد هذه الآية الكريمة فسوف يكون الكلام كثيراً جداً، ويكفي أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فسر هذه الآية في مائة وخمسة وخمسين صفحة في كتابه الرائع: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، ففسر فيها هذه الآية العظيمة، واستنبط منها العبر، وربط ما دلت عليه بواقع المسلمين في العلم والعمل. قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}، قرأ الجمهور: ((أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، وقرئ: (أم على قلوب إِقفالها) بكسر الهمزة، على أنها مصدر. قال ابن القيم رحمة الله عليه: يريد على قلوب هؤلاء أقفال. ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، قد بدت على قلوب أقفالها يعني: على قلوب هؤلاء المذكورين في الآية. وقال مقاتل: يعني: أن هذه الأقفال قد طبعت على القلوب. عن عروة بن الزبير قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به)، أي: لأنه فقه معنى هذه الآية. وأصل القفل: اليبس والصلابة، يقول القرطبي: فالأقفال هنا إشارة إلى إرتياج القلب وخلوه عن الإيمان، أي: فلا يدخل قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر؛ لأن الله طبع على قلوبهم، وقال: ((عَلَى قُلُوبٍ))؛ لأنه لو قال: على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة، والمراد: أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها؟! وهذا الاستفهام قيل: إنه للإنكار، وقيل أيضاً: ((أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، أم: هي المنقطعة، ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، بل: ((عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))، فهم لا يفهمون ولا يعقلون، والمراد قلوب هؤلاء المخاطبين. قوله: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ))، يقول: أصل التدبر: التفكر في عاقبة الشيء، وما سيئول إليه أمره. وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الذهن، ويشترط فيه تقليل الغذاء والكلام، وإخلاص النية، والآيات بعمومها تشمل كل من لا يتدبر القرآن ولا يتأثر به، ويدخل فيه من نزلت فيه الآية أولاً، والمقلدة الشاردة عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم الذين: ((عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)). وإن كان في هذا الحصر نظر. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الهمزة في قوله: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ)) للإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة على أصح القولين، والتقدير: أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن؟! وقال رحمه الله: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68]، وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]. وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف:57]. وقال الشنقيطي أيضاً: وقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]. وكما ذمت النصوص من لا يتدبر القرآن ففي الجانب الآخر مدحت وأثنت على من تدبر القرآن وتعلمه وعمل به، فجعلهم صلى الله عليه وسلم خير الناس، فكما أن خير الكلام كلام الله فكذلك خير طلبة العلم من طلب علم القرآن، فالقرآن أفضل وأكمل وأعظم ما يشتغل به، وقد وردت خيرية هذا في حديث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فخير العلماء من علم القرآن، وخير المتعلمين من تعلم القرآن، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل القرآن فقال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). وقال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. قال البغوي في تفسيرها: قال ابن عباس: ((كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)) أي: كونوا فقهاء معلمين. وقيل: سمى العلماء ربانيين لأنهم يربون العلم، أي: يقومون به، يقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه، فهو رباً له، وقيل: سمو ربانيين لأنهم يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، وزيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، وقيل: (الربانيون): هم العلماء بالحلال والحرام.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25]. أما القراءات في هذه الآية الكريمة فقرئ قوله عز وجل: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)). في قراءة أخرى: (وأُملِيَ لهم)، والقراءة الثالثة: (وأُمليْ لهم). فعلى القراءة الأولى: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)) إما أن يكون الذي أملى لهم هو الشيطان، وإما أن الله سبحانه تعالى هو الذي أملى لهم. والقراءة الثانية: (الشيطان سول لهم وأُملِيَ لهم) فيها نفس الاحتمالين. والقراءة الثالثة: (الشيطان سول لهم وأُمليْ لهم) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملي لهم. وقال ابن جرير: وأولى هذه القراءات بالصواب التي عليها عامة قراء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك؛ لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار. يعني قراءة: ((أَمْلَى لَهُمْ)). قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) فجملة المبتدأ والخبر: ((الشَّيْطَانُ سَوَّلَ))، وهذه الجملة في محل نصب خبر إنّ. والظاهر في قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى)) أنهم قوم كفروا بعد إيمانهم. وقال بعض العلماء: هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بُعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به. إذاً: فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ)) لو قلنا: إن المقصود بها اليهود لعنهم الله، فإن ارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوه وتيقنوه، وهذا هو سبب استعمال كلمة: ((ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ))، أي: رجعوا عما كانوا عليه من التصديق والإيمان بنبي يبعث صفته كذا وكذا، فلما عرفوه وتيقنوه كذبوه، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]. فكلمة: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ) تشير إلى معنى قوله تعالى: ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى))، فهم قد عرفوه كما في قوله: ((فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا)) [البقرة:89]. وقوله تعالى: (كَفَرُوا بِهِ) يشير إليه قوله تعالى: ((ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ)). وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن. قال بعض العلماء: وهذا أولى؛ لأن السياق في المنافقين، وهذا القول في التفسير نصره شيخ المسلمين وإمامهم بلا منافس ولا منازع الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فقد قال: هم أهل النفاق، وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا أشبه منها بصفة أهل الكتاب وذلك أن الله عز وجل أخبر أن ردتهم كانت لقيلهم للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، ولو كانت من صفة أهل الكتاب، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية من الخبر عنهم أنهم إنما ارتدوا من أجل قيلهم ما قالوا، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى هو إغواء الشيطان لهم، كما قال تعالى مشيراً إلى علة ذلك: ((الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) أي: زين لهم الكفر والارتداد عن الدين. قوله: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)) أي: مد لهم في الأمل، ووعدهم طول العمر، وطول الأمل من أعظم أسباب الكفر وارتكاب المعاصي. ويشهد لهذا المعنى أي أن يكون الإملاء من الشيطان قوله تبارك وتعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120]، وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]. ويشهد: لكون هذا الإملاء والإمهال من الله عز وجل قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]، وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه الكفار، فهم في قبضته، وتحت سلطانه، لكنه يستدرجهم ويملي لهم، فيزدادون بذلك اغتراراً، ويتمادون في الكفر والصد عن سبيل الله، فلذلك يستحقون المزيد من العقوبة كما قال هنا: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم:75] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56] أي: إنما هو استدراج، وقد صح في هذا المعنى حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام:44]). فهذا استدراج وليست هذه علامة اختيار واصطفاء كما يزعم بعض الناس، فإنهم يقولون: إن الله يحبنا؛ فقد أعطانا كذا وكذا، وهذه المقاييس تدل على على الاغترار بالله، قال تعالى: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] فهذا اغترار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]، وبعض الناس يتمادى في المعاصي ثم يقول: ربنا كريم، وربنا غفور رحيم، وغير ذلك من التعلق بنصوص الرجاء مع قطعها عن نصوص الوعيد، فتجد المرأة متمادية في التبرج والسفور ثم تقول: هذا بيني وبين ربنا، والمهم القلب، فالقلب أبيض، والقلب صافٍ، فهذا نوع من الاغترار، بل هو استدراج كما يقول هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)، فهو يتمادى في المعاصي والله يعطيه ويزيده وهذا استدراج له، فليتفطن الإنسان لذلك، (ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)) [الأنعام:44])، من الرزق والمال والصحة والبركات والخيرات، {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44]، أي: فرحوا فرحاً لا يحبه الله، وهذا كما قال فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]. قوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، فهذا فيه زيادة حسرة عليهم، أي: إذا أخذوا بغتة وهم في هذا الرغد.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ}. قوله: (ذَلِكَ) أي: ما تقدم من التمهيل والإملاء، أو أن المراد ارتدادهم على أعقابهم. قوله: ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا)) يعني: هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، ((قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ))، قيل: هم المشركون. قوله: ((سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ))، هذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما جاء به. وفي قول آخر في: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ)) أن القائلين هم اليهود، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا))، أي: اليهود ((قالوا للذين كرهوا ما نزل الله)) وهم المنافقون، وقيل المعنى: إن المنافقين قالوا لليهود: ((سنطيعكم في بعض الأمر)) كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معهم إذا خرجوا، والتظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا القول قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11]، فقال الشنقيطي: التحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله، يعني: سواء كانوا من المنافقين أو اليهود أو المشركين، فهي عامة في كل من كره ما أنزل الله سبحانه وتعالى. قوله: {والله يَعْلَم إِسْرَارَهُمْ} قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم: (والله يعلم أسرارهم)، هذه قراءة عامة القراء (والله يعلم أسرارهم) بفتح الهمزة، جمع سر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (إسرارهم) بكسر الهمزة على أنها مصدر أسر كقوله: {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:9] وقد قالوا لهم ذلك سراً، فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون. قال شيخ المفسرين رحمه الله: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمفيدة. قال ابن كثير رحمه الله: والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل، أنه كافر بالله، بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:27 - 28].

الشرك في الحكم كالشرك في العبادة

الشرك في الحكم كالشرك في العبادة هناك بعض التوضيحات التي تتعلق بهذه الآية الكريمة وهي مستقاة من (أضواء البيان)، قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى مبيناً بعض المسائل منها: أن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة، قال الله سبحانه وتعالى في حكمه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] وهذا على أساس أن (لا) هنا نافية، أي: أن الله لا يشرك في حكمه أحد، تأمل استعمال الإشراك في الحكم، ذلك لعلم الله أن هناك شركاً في الحكم كالشرك في العبادة. وفي قراءة ابن عامر من السبعة: (ولا تشرك في حكمه أحداً) يعني: لا تشرك يا نبي الله في حكمه أحداً، أو لا تشرك أيها المخاطب! في حكم الله أحداً. وقال سبحانه في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالأمران سواء، وكلاهما شرك بالله العظيم، فالحلال حلال الله، والحرام حرام الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه. أي: إذا حكم إنسان بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى معتقداً أن شرع المخلوق مثل شرع الله فهو كافر، أو أن شرع المخلوق أفضل من شرع الله فهو -من باب أولى- كافر مشرك، وكل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137]، أي: لما أطاعوهم في قتل الألاد. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فسمى هؤلاء الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء. وذكر تعالى أن الشيطان يقول للذين كانوا يشركون به في الدنيا: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]. إذاً: فهذه هي المسألة الأولى، وهي: أن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة.

ورود الأدلة على أنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى

ورود الأدلة على أنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى المسألة الثانية: الأدلة على أنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى: يقول الله عز وجل: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف:40]، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [يوسف:67]، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وقال عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وقال أيضاً: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، أنه لا يشك في كفرهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.

بيان صفات من يستحق أن يكون الحكم له وحده

بيان صفات من يستحق أن يكون الحكم له وحده المسألة الثالثة: بيان صفات من يستحق أن يكون الحكم له وحده، فنقول: إنه لا حكم إلا لله، وهذا ناشئ عن صفات اختص الله سبحانه وتعالى بها توجب توحيده في الحكم، كما توجب توحيده في العبادة، فعلى كل عاقل أن يتأمل صفات من يستحق أن يكون له الحكم وحده، ويقارنها ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع؟! سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم -ولن تكون- فحينئذ فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية. يقول تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى:10 - 12]. فلنتأمل هذه الصفات، فمن اتصف بها فإنه يستحق أن يكون الحكم له وحده، فمن هو المتصف بهذه الصفات من هؤلاء الذين يشرعون من دون الله، ويحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله عز وجل ويضادون الله في خلقه، أين هم من هذه الصفات، هل هم أربابنا الذين خلقونا ورزقونا؟ هل يستحقون أن نتوكل عليهم، وأن ننيب إليهم؟ هل منهم أحد يتصف بأنه فاطر السماوات والأرض؟ أو أنه هو الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً؟ هل واحد منهم ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير؟ هل فيهم من يدعي أنه له مقاليد السماوات والأرض، وأنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأنه بكل شيء عليم؟ كذلك قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]. هل فيهم أحد ينطبق عليه أنه لا إله إلا هو، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، وأن له الحكم وإليه نرجع؟ كل هذا لا ينطبق إلا على الله سبحانه وتعالى. كذلك قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]. هل فيهم أحد يستحق أن يوصف بأنه هو العلي الكبير؟! وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]. ثم ذكر عز وجل أيضاً من صفاته التي يستحق بها أن يكون له الحكم وحده والعبادة له وحده: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:71 - 73]، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]. كل هذه الصفات الجليلة لا يوصف بها أي من الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، ولا يدعيها أي منهم، فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

الكفر بالشيطان شرط في صحة الإيمان

الكفر بالشيطان شرط في صحة الإيمان ومن هذه المسائل أيضاً: أن الشيطان إله باطني يُعبد من دون الله عز وجل، وأن طاعة الشيطان شرك بالله العظيم، وأن الكفر به شرط في صحة الإيمان، ولما كان التشريع وجميع الأحكام -شرعية كانت أو كونية قدرية- من خصائص الربوبية كما بينا كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً، وأشركه مع الله. ومما يدل على ذلك: المناظرة التي جرت بين حزب الرحمن حزب الشيطان، فقد أوحى الشيطان إلى أوليائه المشركين فقال لهم: سلوا محمداً صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من الذي قتلها؟ فأجابهم بأن الله هو الذي قتلها، إذاً ذبيحة الله، فكيف تقولون: إن ما ذبحه الله حرام مع أنكم تقولون: إن ما ذبحتموه بأيديكم حلال؟! فأنتم إذاً أحسن من الله وأحل ذبيحة!! فأنزل الله -بإجماع من يعتد به من أهل العلم- قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) يعني: الميتة، حتى لو زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب في زعمهم. والضمير في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] عائد إلى الأكل المفهوم من قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُو))، فإنه -أي: الأكل منها- (لَفِسْقٌ)، أي: خروج عن طاعة الله، واتباع لتشريع الشيطان. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فصارت هذه فتوى سماوية لمن خالف الله جل وعلا واتبع تشريع الشيطان بأنه مشرك بالله. وقال تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100]، يعني: فيما يأمر به من الكفر والمعاصي. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس:60] * {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:61]. وقال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]. وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117]، يدعون هنا بمعنى: يعبدون. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41] أي: أنهم كانوا يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي، على أصح التفسيرَيْن. وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة:31] كيف اتخذوهم أرباباً؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: بأنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئاً يعلمون أن الله حرمه، أو حرموا شيئاً يعلمون أن الله أحله، فإنهم بذلك يزدادون كفراً جديداً مع كفرهم الأول، قال تعالى: ((ِإنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا)) إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37]، فهذا يدل على الكفر في الأصل، ثم ما يأتون به من النسيء، وهو تحليل المحرم وتحريم صفر مكانه، فهذا مضاد لشريعة الله، وهو زيادة كفر على كفرهم الأول. ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الكفر بالطاغوت شرط في صحة الإيمان، فلا يصح الإيمان بالله سبحانه وتعالى إلا بالكفر بالطاغوت. فلا يصح الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فلا يقل أحد: أنا أعبد ربنا، ثم تراه يشرك مع الله غيره، ويظن أن عبادته تلك تصح! لا، فإن معنى (يعبدوني) أي: وحدي، وهكذا كل فعل أمر في القرآن، فقوله: (اعبدوا الله) معناها الدائم: اعبدوا الله وحده، ولذلك نقول دائماً في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إذاً: فلا بد من الاثنين معاً، فتجريد التوحيد لله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وحده؛ ولذلك قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهذه أحد أسماء كلمة التوحيد، ومعناها: لا إله حق إلا الله. فيفهم من هذه الآية الكريمة أن من لم يكفر بالطاغوت فإنه لم يتمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يتمسك بها فهو هالك مع الهالكين. ومعنى لا إله إلا الله أُشير إليه في كثير من المواضع في القرآن، كما في سورة الزخرف قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]. فعبر هنا عن كلمة التوحيد بالمعنى، ولذلك قال: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)) يعني: كلمة لا إله إلا الله. فقوله: ((إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)) هذا معنى: لا إله وهو كفر بالطاغوت. وقوله: ((إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)) هو بمعنى: إلا الله، وهو الإثبات. وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] إلى قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى حال الذين يكرهون ما أنزل الله، وبين أيضاً واجب المسلمين نحوهم في قوله عز وجل: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13] أي: شق عليهم وعظم على أنفسهم. وهذا التكبر والاستكبار والاستنكاف عن الانقياد لشرع الله نجده أوضح ما يكون في هذا الزمان، وفي العالم الجديد، وهو عند أولئك وهم الملاحدة الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وأما إذا ذكرت لهم القوانين الدولية، وحقوق الإنسان، والقوانين الوضعية، فإنهم يستبشرون بذلك وتتهلل أساريرهم، فينطبق هذا الوصف تماماً على الملاحدة العلمانيين الزنادقة في هذا الوقت، فإنهم يكرهون ما أنزل الله، ويزهدون في أن يحرفوا الناس عن شرع الله، {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى:13]. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس:71]. وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، فهذا يدل على شدة بغضهم لما يدعوهم إليه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج:72]، وفي يوم من الأيام هاجمت أمينة سعيد العلماء الذين يطالبون بالعودة إلى شرع الله فقالت: كيف نخضع لفقهاء أربعة، ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟! {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، وقال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، فهذا حالهم، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6]. {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية:7 - 8]، وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُ

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم)

تفسير قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} هذه الفاء لترتيب مع بعدها على ما قبلها، و (كيف) في محل رفع خبر مقدم، والتقدير: فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة؟! أو هي في محل نصب لفعل محذوف، والتقدير: فكيف يصنعون إذا توفتهم الملائكة؟! أو أن (كيف) خبر لكان مقدرة، أي: فكيف يكونون إذا توفتهم الملائكة؟! والظرف معلوم للمقدر إذا. وأما جملة (يضربون) فهي في محل نصب حال. وأما القراءات في هذه الآية: فقرأ الجمهور: ((فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ))، وقرأ الأعمش: (فكيف إذا توفاهم الملائكة). قوله: ((يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ)) أي: يضربون وجوههم التي ولوها عن الله إلى أعداء الله؛ لأنهم كانوا يوالون أعداء الله، وكانوا يقولون: ((لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ)). ولوا وجوههم إلى أعداء الله وصرفوها عن الله، فلذلك تأتي الملائكة عند خروج أرواحهم يضربون وجوههم وأدبارهم التي ولوها عن الأعداء إلى الله، وفي الكلام تخويف وتهديد، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فسيكون حالهم هذا، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه. وقيل: لا يتوفى أحد على معصية إلا وتضرب الملائكة في وجهه ودبره، وقيل: ذلك عند القتال؛ نصرة من الملائكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضربون وجوههم عند الطلب، وأدبارهم عند الهرب، فإذا كانت الملائكة تطاردهم وجهاً لوجه فيضربون وجوههم، أما إذا أدركتهم الملائكة وهم يفرون فإنهم يضربون أدبارهم عند الهرب. وقيل: ذلك يوم القيامة عند سوقهم إلى النار، والأول أولى، أي: أنه إذا تأخر عنهم العذاب فعما قريب سيأتيهم الأجل شاءوا أم أبوا، ويشهد لهذا -يعني: يشهد لهذا القول أنه عند الاحتضار- قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93] ((بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ)) أي: بالضرب، {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ)) أي: ذلك التوفي المذكور على الصفة المذكورة، ((بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)) من الكفر والمعاصي، وقيل: كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى الله عليه وسلم، والأول أولى؛ لما في الصيغة من العموم، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ))، وهذه صيغة عموم تعم كل ما يسخط الله، ولا تقتصر على التكذيب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قوله: ((بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ)) أي: كرهوا ما يرضاه من الإيمان والتوحيد والطاعة، والإسخاط: هو استجلاب السخط، وهو الغضب هنا، ((وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ))؛ لأن من أطاع من كره ما أنزل الله فقد كره رضوان الله؛ لأن رضوان الله تعالى ليس إلا في العمل بما نزل، فاستلزم كراهة ما نزل كراهة رضوانه؛ لأن رضوانه فيما نزل، ومن أطاع كارهه فهو ككارهه، ((فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)) أي: أبطلها، والمراد أعمالهم التي صورتها صورة الطاعة، وإلا فلا عمل للكافر، أو أحبط ما عملوه قبل الردة من أعمال الخير.

محمد [28]

تفسير سورة محمد [28]

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]. قوله: (فأحبط أعمالهم) أي: أبطلها، والمراد أعمالهم التي صورتها صورة الطاعة. فنلاحظ هنا في الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أثبت أن للكافرين أعمالاً، وهذه الأعمال في الظاهر هي أعمال صالحة، وقد تكون أعمالاً صالحة عملها قبل الردة، فإنه يحبطها. وهنا نقف وقفة مهمة جداً تتعلق بعمل الكافر.

شروط العمل الصالح المقبول

شروط العمل الصالح المقبول لقد دل القرآن العظيم على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة شروط: الشرط الأول: موافقته لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. وقال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه ولا يقبل. الشرط الثاني: أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [البينة:5]، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات). الشرط الثالث: أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة، وهو المتابعة والاقتداء بالنبي عليه السلام، لابد أن يكون موافقاً للسنة. أما الشرط الثالث فهو: أن يكون مبنياً على أساس العقيدة الصحيحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] إلى آخر الآية، فلا ينال هذا الثواب إلا إذا توفرت صفة الإيمان: ((وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) فقيد ذلك بالإيمان، فمفهوم المخالفة أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح.

الآيات الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة ويجازى به في الدنيا

الآيات الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة ويجازى به في الدنيا قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40]، ومفهوم هذه الآيات أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بالإخلاص فإن ذلك لا ينفعه؛ لفقد شرط القبول وهو الإيمان بالله جل وعلا، فينبغي الالتفات إلى هذا الأمر، وذلك أن اتصاف الإيمان يكون سبباً في حدوث عمل الآخرة، ولذلك شاع عند العلماء عبارة تلخص هذا القضية وهي قولهم: سيئة الموحد خير من حسنة المشرك، فالشخص الموحد يشهد أن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى ويؤدي لوازم ذلك، فمع التوحيد يعمل السيئة، فهذه المعصية أفضل من الحسنة التي يعملها المشرك، فإذا قصر الموحد في شيء معين أو ارتكب سيئة معينة، فهذه السيئة بالنسبة لحسنة المشرك هي أفضل منها، مع أن هذه سيئة وهذه حسنة، لكن هذه صادرة من موحد، فإنه غاية ما في الأمر أنها تنقص إيمانه، أو أنه يعذب من أجلها إن لم يعف الله عنها، أو تكفرها أعمال صالحة أخرى، وأما حسنة المشرك فلا تنفعه مع الشرك؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، والكلام عن هذه المسألة نسبي، فلا نقول: إن السيئة أمر طيب، ولا نقول: يا أيها الموحدون! تمادوا في السيئات، لا، لكننا نذكر موازنة الأعمال السيئة، فمع كونها قبيحة من الموحد لكنها أفضل من حسنة المشرك. وقد أوضح الله سبحانه وتعالى هذا المفهوم في آيات أخر، فقال في هذه الآيات التي ذكرناها: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:124] فالاستدلال هنا على حرية الناس استدلال بالمفهوم على أن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، ومثل قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ} [غافر:40] إلى آخره، فالاستدلال هنا بالمفهوم لا المنطوق، فالمفهوم: أن غير المؤمن إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك؛ لأنه فقد شرط القبول وهو الإيمان، وهذا المفهوم وضحته آيات أخرى، بل صرحت به بدلالة المنطوق آيات أخرى منها: قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فهذا منطوق، وهو أقوى بلا شك. وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]. وقوله تعالى في سورة النور: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، وكذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19]. وقد بين الله سبحانه وتعالى في مواضع أخر أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا، ولا حظ له منه في الآخرة. إذاً: فعمل الكافر في الآخرة يحبط ويبطل، أما في الدنيا فإنه ينفعه إذا شاء الله ذلك، كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].

الأحاديث الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة وأنه يجازى به في الدنيا

الأحاديث الواردة في بيان أن عمل الكافر يحبط في الآخرة وأنه يجازى به في الدنيا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا، جاء في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها)، فالله سبحانه وتعالى لا يظلم العباد شيئاً، فالمؤمن تنفعه الحسنة في الدنيا وفي الآخرة: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته) يعني: أن الأعمال الحسنة والصالحة التي عملها الكافر ابتغاء وجه الله في الدنيا كبر الوالدين، وإغاثة الملهوف، وصدق الحديث، والوفاء بالمواعيد وغير ذلك، فقد توجد في الكافر بعض الأعمال الصالحة وهو يعملها لله، لكنه غير مؤمن، ولم يشهد بشهادتي التوحيد، فهذا يطعم بحسناته التي عملها لله في الدنيا، فيثاب بسعة الرزق، أو بالصحة، أو بالمال، أو بالجميل، بالجاه وهكذا؛ فالدنيا هي جنة الكافر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)، فهذه الحياة الدنيا هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يثاب فيها على أعماله، وأما الآخرة فلا يمكن لغير مؤمن وغير الموحد أن ينفعه أي عمل فيها. ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها). وفي مسلم أيضاً عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طُعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته). وهذا الذي أشرنا إليه من دلالة القرآن والسنة على أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك كله مقيد بمشيئة الله تعالى، كما نص على ذلك قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فهذه الآية تقيد ما ورد من الآيات المطلقة، فهي مقيدة بأن يشاء الله سبحانه وتعالى ذلك، وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق لاسيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كان من أهل النار)، فهذا صريح في أن من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وما أرسل به، وبلغه ذلك على الوجه الذي أنزله الله عليه ثم لم يؤمن به عليه الصلاة والسلام أن مصيره إلى النار، ولا فرق في ذلك بين يهودي أو نصراني أو مجوسي أو لا ديني. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أسلفها)، فهذه نصوص أخرى تضيف قيداً جديداً وهو: أن أعمال الكافر في حياته تظل موقوفة، أي: ينتظر به، فإذا أسلم أثيب على أعماله الصالحة التي عملها حال كفره، فتنفعه إذا أسلم، وإذا لم يسلم أخذ بالأول والآخر كما ستبين هذه الأحاديث. قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها -يعني: حتى قبل إسلامه-، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها، ثم كان بعد ذلك الكتاب: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها)، فهذه حال الكافر إذا أسلم، فأول ما يسلم فإنه يمحى عنه ما أمضى من السيئات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما كان قبله ويمحوه. إذاً: فهذا الحديث يدل على أن حسنات الكافر موقوفة، فإن أسلم قبلت وإلا ردت، وعلى هذا فقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]، وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، وقوله تعالى: (أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19]، ونحوها من الآيات يجب أن تحمل على من مات على الكفر، ولا دليل على خلاف ذلك، وفضل الله سبحانه وتعالى أوسع من هذا وأكثر، فلا استبعاد له. عليه الصلاة والسلام: (الإيمان يجب ما قبله) هل المراد به السيئات فقط، وأما الحسنات فدلت هذه الأحاديث على أن الإيمان لا يحبط الحسنات السابقة. ويترتب على هذا مسألة فقهية، وهي: إذا حج المسلم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام فهل يحبط حجه أم لا يحبط؟ اختلف الفقهاء في هذا، لكن الكلام الذي ذكرناه يرجح أنه لا يحبط، ولا يجب عليه إعادته، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحد قولي الليث بن سعد، واختاره ابن حزم وانتصر له بكلام جيد نفيس. وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية -أتعبد بها في الجاهلية- من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير)، رواه الشيخان وغيرهما، فهذا يدل على أن الإسلام يجب السيئات فقط، وأما الحسنات فتبقى ويثاب عليها رحمة من الله سبحانه وتعالى. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ فقال: لا يا عائشة! إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، رواه مسلم. قوله: (إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) يعني: أنه لم يكن موحداً، بل كان مشركاً. إذاً: هذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على أن الكافر إذا أسلم نفعه عمله الصالح في الجاهلية، بخلاف ما إذا مات على كفره فإنه لا ينفعه، بل يحبط بكفره، وفيه دليل على أن أهل الجاهلية الذين ماتوا قبل البعثة المحمدية ليسوا من أهل الفترة الذين لم تبلغهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو كانوا كذلك لم يستحق ابن جدعان العذاب، ولما حبط عمله الصالح. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (كنت تحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال قولاً حسناً، فقال فيما قال: من أسلم من أهل الكتاب فله أجره مرتين، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا، ومن أسلم من المشركين فله أجره، وله مثل الذي لنا، وعليه مثل الذي علينا)، رواه الروياني، وسنده حسن. وهذا فيه إبطال لحديث شائع على ألسنة الخطباء والوعاظ، وكثير من الناس، وهو: أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أهل الذمة: (لهم ما لنا، وعليهم ما علينا). وهذا الكلام لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصحيح هو هذا الحديث في أنه إنما قال ذلك فيمن أسلم من أهل الكتاب والمشركين.

شبهة مدح اليهود والنصارى بما عندهم من صفات حميدة

شبهة مدح اليهود والنصارى بما عندهم من صفات حميدة وهنا شبهة قد يذكرها بعض الناس، فيقول مثلاً: على المؤمنين من المسلمين والنصارى واليهود أن يجتمعوا ويتكتلوا؛ لمواجهة الملحدين مثلاً، وهذا يشيع للأسف الشديد على ألسنة عمائم كبيرة جداً ضخمة، فيقولون مثل هذا الكلام، وخاصة في مؤتمرات التقارب بين الأديان، فيستعملون مثل هذه العبارة الفظيعة، فيدخلون هؤلاء في وصف الإيمان، وبعضهم مثلاً يصف الكافر الفلاني بأنه مؤمن، ويعني: بأنه يؤمن بأن هناك إلهاً -الإيمان بتوحيد الربوبية-، فبعض الناس الجهلة يسمى هذا إيماناً، على هذا فـ أبو جهل كان مؤمناً، وأبو لهب كان مؤمناً، وكفار قريش كانوا مؤمنين، لأنهم كانوا مؤمنين بتوحيد الربوبية بنص القرآن قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فهؤلاء يجعلون أن الكافر هو الذي ينكر وجود الله، وهذا ليس بصحيح، بل عامة الكفرة حتى فرعون كانوا يؤمنون بأن هناك إلهاً، والدليل على هذا صريح في القرآن كما ذكرنا مراراً، بل لم يحك في القرآن عن طائفة أنها أنكرت وجود الله، بل حتى الدهرية لم ينكروا وجود الله، وإنما أنكروا البعث والنشور. فوصف اليهود أو النصارى بأنهم مؤمنون؛ لأنهم يؤمنون بالله يعتبر هدماً للإسلام من أساسه؛ لأن هذا يضيع الحد الفاصل بين الكفر وبين الإيمان، فالدلالة واضحة من الآيات في القرآن الكريم والسنة على ذلك، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:72]، وكذلك تكفير القرآن الكريم لليهود وأمثالهم. وقد يشتبه هذا الأمر على بعض الناس خاصة إذا فتنوا بما عليه الكفار من بعض السلوكيات التي ضيعها بعض المسلمين للأسف، وهذا يحصل لكثير من الناس الذين يخالطونهم ويعاشرونهم، فيطلق بعضهم لسانه في ذم المسلمين، ويطلق لسانه أيضاً في مدح الكفار قائلاً: وهؤلاء عندهم عدل! هؤلاء عندهم إنصاف!! حتى أن بعض الملوثين الذين ذهبوا إلى عصابة اليهود في فلسطين المغتصبة يرجع ويتكلم بهذا الكلام كما نشر في بعض الجرائد، ويقول: إن اليهود لم يمسوا حقي، ولم يتعرضوا لي إلى آخر هذا الكلام. وبغض النظر عن السر وراء هذه السلوكيات الموجودة عند الكفار خاصة في أوروبا أو أمريكا أو البلاد الغربية، وأنها سلوكيات تجارية في الحقيقة ليست مبنية على مراقبة الله, وفي نفس الوقت يريدون أن يتعاونوا ويريح كل واحد الآخر؛ حتى يستطيع أن يتمتع بالحياة بصورة مستوفاة جيدة، لكن انظر إلى أخلاقهم حينما يأتون إلى بلادنا فكم عذبوا، وكم أحرقوا، وكم قتلوا، وكم نهبوا! وإلى اليوم ونحن نراهم في البوسنة والهرسك على نفس الأخلاق، وتراهم الآن في العراق وفي غيرها وحوشاً كاسرة يدمون قلوب الشعوب، ويستذلونهم استذلالاً لا مثيل له، وليست هذه الآن قضيتنا، لكن كيف نزن الأمور؟ فبعض الناس يقول لك: أنا أشتري من الكافر هذا؛ لأنه أمين، ولأنه كذا وكذا، ويفتن بالكافر ويطلق لسانه في ذم المسلم، فهذا خلل شديد جداً في فهم مثل هذا الإنسان؛ فالمشركون قد يتلبسون ببعض شعب الإيمان، والمسلم قد يأتي ببعض شعب الكفر، أي: أنه من الممكن أن نجد مثلاً بعض الكفار أميناً، وصادقاً، يحترم مواعيده إلى آخره، ومن الممكن أن نجد مسلماً يفعل عكس ذلك، فقد يتلبس المسلم ببعض شعب الكفر لكنه يبقى مسلماً، وقد يتلبس الكافر ببعض شعب الإيمان لكنه يبقى كافراً، فالكفر والإيمان متقابلان، فإذا زال أحدهما خلفه الآخر، والإيمان أصل له شعب متعددة، وأعلى شعبة من شعب الإيمان هي: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ثم بينهما شعب متفاوتة في أهميتها وخطورتها، وهناك بعض الشعب إذا زالت زال الإيمان بالكلية، فمن شعب الإيمان ما يزول بزوالها الإيمان بالكلية، كشعبة لا إله إلا الله، فمثلاً شخص عنده شعب كثيرة من شعب الإيمان، لكن شعبة: لا إله إلا الله ليست موجودة عنده، فكل الذي يعمله حابط في الآخرة ولا ينفعه؛ لأن هذه الشعب بينها علاقة الشرط بالمشروط، فتكون شرطاً في صحة باقي الشعب، ومن شعب الإيمان ما لا يزول الإيمان بزوالها، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر أصل له شعب، والمعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد أن يسمى كافراً، وإن كان ما قام به كفراً، كما أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالماً، ولا من معرفة بعض مسائل الفقه أو الطب أن يسمى فقيهاً وطبيباً، إذ لا يلزم الاسم إلا بغلبة ذلك عليه، وإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من شعب الإيمان فهذا الإيمان ينفعه في عدم الخلود في النار، لكن هل ينفعه في عدم دخول النار؟! لا، فقد يسلم، وقد يدخل النار لكن لا يخلد فيها، إذاً: فالتوحيد ينجي من الخلود في النار لا من دخول النار، وأوضح ذلك حديث الشفاعة، فالشفاعة تكون في أهل الكبائر من أمة النبي عليه الصلاة والسلام. فإذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان وترك شعبة من الإيمان فذلك الإيمان ينفقه، لكن لا نقول ينفعه في عدم دخول النار، ولكن في عدم الخلود في النار، إلا إذا كان الفعل المتروك شرطاً في صحة شعب الإيمان الأخرى، فإذا كان المتروك شرطاً في اعتبار الباقي لم ينفعه، ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنه قد قال: لا إله إلا الله، لكن لم يشهد أن محمداً رسول الله، فلا ينفعه ذلك. لذلك إذا قلنا: إن أعلاها لا إله إلا الله فنضيف معها: وأن محمداً رسول الله، ولا تنفع الصلاة من صلاها عمداً بغير وضوء؛ لأن هناك شعبة قبل شعبة الصلاة هي شرط في صحة الصلاة، وهي شعبة الطهارة والوضوء، فشعبة الطهارة شرط في شعبة الصلاة، فمن صلى دون أن يأتي بهذا الشرط بطل يبطل هذا المشروط. إذاً: شعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق الشرط بمشروطه. وكذلك كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله شرط في صحة باقي شعب الإيمان، فمن الجور والجهل والعدوان أن يفضل الكافر الذي افتقد شعبة لا إله إلا الله على المؤمن العاصي الذي معه لا إله إلا الله، فمن جهل الشخص أن يمدح النصراني؛ لأن كل همه هي الدنيا، فما دام أنه يُعطيه الفلوس ويُريحه في البيع والشراء فإنه يمدحه، ويطلق لسانه بالقصائد في مدح الكفار وذم المسلمين، فقد ترك حق الله ونظر في حق نفسه، فيقول: هؤلاء الكفار عندما أذهب إليهم يعاملوني معاملة فيها عدل، وإنما الظلم موجود عند المسلمين إلى آخره، فيقال له: فهم ليس عندهم أحياناً الظلم الموجود عند المسلمين؟! بل عندهم أكبر وأفظع ظلم في الوجود وهو الشرك، قال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فقد نسي حق الله وبحث عن حق دنياه، فهذا مما نحتاج فيه إلى أن نستعيد الوعي بهويتنا وعقيدتنا وبما أعزنا الله به وشرفنا على العالمين قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فبعض الناس يتعامل مع هؤلاء الكفار على أنهم أناس فوق العالم، فيعظمهم ويبجلهم ويحترمهم أشد الاحترام.

الأشياء التي تحبط أعمال العبد

الأشياء التي تحبط أعمال العبد نعود إلى تفسير قوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، لنبين بعض ما يحبط أعمال المؤمن، حتى نكون على حذر من هذا الخطر العظيم. صح عن أبي عامر الألهاني رضي الله تعالى عنه واسمه عبد الله بن غابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). فعلى الإنسان أن يحذر أن يأتي بهذا الفعل، وهو عدم مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن العبد لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً، أو أبعد مما بين المشرق والمغرب) كما في بعض الروايات. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهراًً وباطناً، ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره -يعني: تكفير السيئات-، ولا مبطل يحبطه من عُجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يمنّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه من يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟! ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحفظ، وليس الشأن في العمل، وإنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه، فقد يعمل الإنسان العمل الصالح ثم يحبطه بعد ذلك، فليس الشأن فقط في أن تعمل العمل الصالح، لكن المهم جداً أن تحفظ هذا العمل مما أحبطه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصى، يقول الله تعالى: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً، قال عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]. وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض، وهذه ليست ردة، وإنما هي معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها، فالآية تنهى الإنسان إذا خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرفع صوته فوق صوت النبي؛ أن رفع الصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام يحبط العمل، فقد يغضب النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فيغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فيحبط عمل من أغضبه. فما الظن بمن قدّم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟ أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟ ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، ومن هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها لـ زيد بن أرقم رضي الله عنه لما باع بالعينة، قالت: (إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) وليس التبايع بالعينة ردة، فغايته أن يكون معصية، فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذر. وهنا نقف وقفة هنا يسيرة مع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، فهذا الحديث استدل به من يقول بتكفير المسلم بالمعصية كالخوارج الوعيدية، وقالوا: هو نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، فقال ابن عبد البر: مفهوم الآية أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله. إذاً: فهناك تعارض بين مفهوم الآية وبين منطوق الحديث، فمفهومها الآية: أن من لم يكفر بالإيمان لم يحبط عمله، أي: أن المؤمن لا يحبط عمله، في حين أن الحديث يقول: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) إذاً: فالتعارض هنا بين مفهوم الآية ومنطوق الحديث، فلابد من تأويل الحديث في هذا الحالة؛ لأن الجمع إذا أمكن كان أولى من الترجيح، وتمسك بظاهر الحديث الحنابلة ومن قال بقولهم من أن تارك الصلاة يكفر، ويرد على ذلك: بأنه لو كان الأمر على ما ذهبوا عليه لما اختصت العصر بذلك، فأما الجمهور فتأولوا الحديث على عدة تأولات: فمنهم من أول الترك في قوله: (من ترك صلاة العصر)، ومنهم من أول الإحباط في قوله: (فقط حبط عمله)، ومنهم من أول العمل، فالذين أولوا ترك صلاة العصر قالوا: من تركها جاحداً، أي: من ترك صلاة العصر جاحداً فقد حبط عمله، فإذا قال رجل: أنا لا أوافق على أن صلاة العصر فريضة، فالفرائض أربع صلوات فيكون قد جحد وجوبها، فهذا لاشك أنه يخرج من الملة فيحبط عمله؛ لأنه داخل فيمن كفر بالإيمان قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]. إذاً: من أول سبب الترك قال: المراد به من تركها جاحداً لوجوبها، أو معترفاً أنها واجبة لكنه مستخف مستهزئ بمن أقامها. وقيل المراد: من تركها متكاسلاً، لكن الوعيد خرج مخرج الزجر الشديد وظاهره غير مراد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وهذا القول رجحه ابن حجر رحمه الله تعالى؛ لأن الترك يطلق أحياناً على الجحود، فقوله: (من ترك صلاة العصر) يعني: من جحد. ويشهد لذلك قوله تعالى في سورة يوسف: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37] أي: إني جحدت. ومن العلماء من أول معنى قوله عليه السلام: (فقد حبط عمله)، فقال: إنه من مجاز التشبيه، أي: من ترك صلاة العصر فقد أشبه من حبط عمله، وقيل: معناه كاد أن يحبط عمله، وقيل: المراد بالحبط نقصان العمل في ذلك الوقت الذي ترفع فيه الأعمال إلى الله، فكأن المراد بالعمل الصلاة خاصة، أي: لا يحصل على أجر من صلى العصر، ولا يرتفع له عملها حينئذ. ومنهم من أول العمل: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) أي: عمل الدنيا الذي بسببه اشتغل وترك صلاة العصر. وقال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إن الحبط في الآية غير الحبط في الحديث، فالآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وإحباط عمل الكافر غير إحباط عمل المسلم، فيقول القاضي أبو بكر بن العربي: إن المراد بالحبط في الآية غير المراد بالحبط في الحديث. قال في شرح الترمذي: الحبط على قسمين: حبط إسقاط وحبط موازنة، فحبط الإسقاط: هو إحباط الكفر بالإيمان وجميع الحسنات، فهذا المقصود بالآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] فيحبط كل عمل ويضيع. وأما حبط الموازنة: فهو إحباط المعاصي للانتفاع بالحسنات عند رجحانها عليها إلى أن تحصل النجاة، فيرجع إليه جزاء حسناته، بمعنى: أن المعصية التي فعلها وهي ترك صلاة العصر تحبط انتفاعه بها لو كان فعلها في وقت هو أشد ما يكون حاجة إلى أجرها؛ وذلك عند ميزان الحسنات والسيئات، فحينئذ سيتعطل ثواب صلاة العصر التي ضيعها في وقت هو أشد حاجة إليها عند ميزان الأعمال، فهذا هو حبط الموازنة. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر. قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: قوله خوف المؤمن من أن يحبط عمله يعني: أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص فيه، وبهذا التقدير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأنه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إن السيئات يبطلن الحسنات، فهناك فرقة ضالة تسمى الإحباطية، يقولون: إن السيئات تبطل الحسنات! فبعض الناس قالوا: إن الإمام البخاري يؤيد هذا المذهب، فقال الإمام الحافظ: لا، فكلامه إذا فهمناه على حقيقته لا يفيد ولا يؤيد مذهب الإحباطية؛ لأن المقصود خوفه من أن يحرم ثواب عمله؛ لأنه لا يثاب إلا على ما أخلص لله سبحانه وتعالى فيه. قال القاضي أبو بكر بن العربي في الرد على الإحباطية: القول الفصل في هذا أن الإحباط إحباطان: أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة، كإحباط الإيمان للكفر والكفر للإيمان، وذلك في الجهتين فيكون إذهاباً حقيقياً. أي: كالكافر إذا أسلم، فإن إسلامه وإيمانه يُحبط الكفر، قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما قبله)، ولو كان مسلماً ثم كفر -والعياذ بالله- وارتد فإن الكفر يحبط إيمانه أيضاً، وهذا الإحباط إذهاب حقيقي في الجهتين. النوع الثاني من الإحباط: إحباط الموازنة، فإذا جُعلت الحسنات في كفة والسيئات في كفة، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وقف في المشيئة، فإما أن يُغفر له، وإما أن يعذب، فالتوقف إلى أن يحكم فيه هذا توقيف وإحباط من نوع معين؛ لأن توقيف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي

الأحوال التي تحبط فيها الأعمال الصالحة

الأحوال التي تحبط فيها الأعمال الصالحة نختم الكلام ببعض العبارات من كتاب الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه المحجة في (سير الدلحة) فلها تعلق بموضوعنا. قال في سبحانه وتعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] هذه الآية كانت تشتد على الخائفين من العارفين، فإنها تقتضي أن من العباد من يبدو له عند لقاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه، معرضاً عنه، غير ملتفت إليه ولا يحتسب له، فإذا كشف الغطاء عاين تلك الأهوال الفظيعة، فبدا له ما لم يكن في حسابه، كما قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: لو أن لي ملك الأرض لافتديت به من هول المطلع، والمطلع: هو مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مُطّلع هذا الجبل في مكان كذا، أي مكانه ومقعده، وفي حديث: (لا تمنوا الموت؛ فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة)، رواه أبو نعيم في الحلية. وقال بعض حكماء السلف: كم من موقف خزي يوم القيامة لم يخطر على بالك قط، ونظير هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] ومعنى حديد: حاد. ثم يبين الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى ما يصير هباءً منثوراً من الأعمال، فيقول: النوع الأول: ويشتمل على ما هو أعم من ذلك، وهو أن يكون لهم أعمال يرجون بها الخير فتصير هباءً منثوراً، وتبدل سيئات، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. وقال الفضيل في هذه الآية: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات. النوع الثاني: أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقره ويستهزئ به، فيكون هو سبب هلاكه، كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، وقال بعض الصحابة: إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، رواه البخاري. النوع الثالث: يقول: وأصعب من هذا من زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]. قال ابن عيينة: لما حضرت محمد بن المنكدر الوفاة جزع فدعو له أبا حازم فجاء، فقال له ابن المنكدر: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فأخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، فجعلا يبكيان جميعاً. وفي بعض الروايات فقال له أهله: دعوناك لتخفف عليه فزدته! فأخبرهم بما قال. وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخبرت عن سليمان التيمي أنه قيل له: أنت أنت ومن مثلك؟ فقال: مه! لا تقول هذا لا أدري ما يبدو لي من الله، سمعت الله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]. النوع الرابع: يقول: وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويل لأهل الرياء من هذه الآية: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، ويل لأهل الرياء من هذه الآية! وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: العالم، والمتصدق، والمجاهد. النوع الخامس: من عمل أعمالاً صالحة وكانت عليه مظالم وعنده حقوق للناس من أموال، أو غيبة ونميمة وغير هذه الأشياء، فهو يظن أن أعماله تنجيه، فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسم الغرماء أعماله حتى تنتهي أعماله ولم يأخذوا كل حقوقهم، فيطرح من سيئاتهم عليه ثم يطرح في النار. النوع السادس: وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم، ففي الحديث: (من نوقش الحساب عذب)، ولو أن الله سبحانه وتعالى عرض على العبد يوم القيامة أعماله فقط فهذا يرجى له أن يستره الله، كما ستره في الدنيا، وأما إذا حصل النقاش فهذه علامة على أنه سوف يعذب، يقول: وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم، وهي: فيقال له: كيف شكرت نعمة الله؟! فتقوم أصغر النعم التي أنعم الله بها عليه فتستوعب أعماله كلها، وتبقى بقية النعم فيطالب بشكرها فيعذب. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (من نوقش الحساب عذب أو هلك). النوع السابع: وقد يكون له سيئات تحبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد، فيدخل النار، ونص الحديث: (فإن من أمتي من يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً) وفيه: (هم قوم من جلدتكم، ويتكلمون بألسنتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها). وعن سالم مولى أبي حذيفة مرفوعاً: (يجاء يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة)، وتهامة: هي كل ما نزل من نجد في بلاد الحجاز، فمكة كلها من تهامة. (يجاء يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة، حتى إذا جيء بهم جعل الله أعمالهم هباء ثم أكبهم في النار)، قال سالم: خشيت أن أكون منهم. قال صلى الله عليه وسلم: (أما إنهم كانوا يصومون ويصلون، ويأخذون هنيهة من الليل، لعلهم كانوا إذا عرض لهم شيء سراً حراماً أخذوه فأدحض الله أعمالهم). وقد يحبط العمل بآفة من رياء خفي، أو عجب به ونحو ذلك ولا يشعر به صاحبه. قال ضيغم العابد رحمه الله تعالى: إن لم تأت الآخرة المؤمن بالسرور لقد اجتمع عليهم أمران: هم الدنيا، وشقاء الآخرة، فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعب في دار الدنيا ويدأب؟ فقال: كيف بالقبول، وكيف بالسلامة؟ ثم قال: كم من رجل يرى أنه قد أصلح عمله فيجمع ذلك كله يوم القيامة ثم يضرب به وجهه، ومن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. وقال ابن عون: لا تثق بكثرة العمل، فإنك لا تدري يقبل منك أم لا؟ ولا تأمن الذنوب، فإنك لا تدري هل كفرت عنك أم لا؟ وبكى النخعي عند الموت وقال: أنتظر رسول ربي ما أدري أيبشرني بالجنة أو بالنار. وجزع غيره عند الموت قيل له تجزع؟ قال: إنما هي ساعة ولا أدري أين يسلك بي. وجزع بعض الصحابة عند موته فسئل عن حاله؟ فقال: إن الله قبض خلقه قبضتين: قبضة للجنة وقبضة للنار ولست أدري في أي القبضتين أنا! ومن تأمل هذا حق التأمل أوجب له القلق، فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة، من الموت والقبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، كالصراط والميزان، وأعظم من ذلك الوقوف بين يدي الله عز وجل، ودخول النار، ويخشى على نفسه الخلود فيها بأن يسلب إيمانه عند الموت، ولم يأمن المؤمن شيئاً من هذه الأمور قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فتحقق هذه الأمور يمنع ابن آدم القرار. رأى بعضهم في النوم قائلاً يقول له: وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل وسئل بعض الموتى وكان عابداً مجتهداً عن حاله فأنشد يقول: وليس يعلم ما في القبر داخله إلا الإله وساكنوا الأجداث وفي هذا يقول بعضهم: أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهو وهاموا ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا نهينا أو أمرنا كأهل الكهف أيقاظ نيام وعن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء رضي الله عنه منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء! ما أنت والنفاق، وما شأنك وشأن النفاق؟ فقال: اللهم! غفراً ثلاثاً، لا يأمن البلاء من يأمن البلاء، والله! إن الرجل ليفتن في ساعة واحدة وينقلب عن دينه. وقال أبو الدرداء: والذي نفسي بيده! ما آمن عبد على إيمانه إلا سلبه أو انتزع منه فيفقده، والذي نفسي بيده! ما الإيمان إلا كالقميص يتقمصه مرة، ويضعه أخرى. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق، وإنه ليأتي عليه أحايين وما في قلبه موضع إبرة من إيمان. وكان عمرو بن الأسود العنسي إذا خرج إلى المسجد قبض بيمينه على شماله فسئل عن ذلك فقال: مخافة أن تنافق يدي. وقال معاوية بن قرة: ألا يكون فيّ نفاق أحب إلي من الدنيا وما فيها، كان عمر رضي الله عنه يخشاه وآمنه أنا؟! يشير إلى جزع عمر، فقد كان حذيفة رضي الله عنه قد أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين، فكان عم

محمد [29 - 32]

تفسير سورة محمد [29 - 32]

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم)

تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29]. يعني: المنافقين المذكورين سابقاً، و (أم) هنا منقطعة فقدره ببل والهمزة، أي: بل أحسب المنافقون الذين في قلوبهم مرض. ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)): وهو مرض نفاق والشك. ((أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ)) أي: إن لن يظهر، و (الأضغان) هي: ما يضمر من المكروه، وهي جمع ضغن، واختلف في معنى أضغانهم: فقال السدي: رجسهم. وقال ابن عباس: حسدهم. وقال قطرب: عداوتهم، وأنشد: قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصدَيق وشيّد الأضغانا وقيل: أضغانهم: أحقادهم، وقال عمرو بن كلثوم: وإن الضغن بعد الضغن يفشو عليك ويخرج الداء الدفينا وقال الجوهري: الضغن والضغينة الحقد، وقد ضغن عليه ضغناً، وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا على الأحقاد، واضطغنت الصبي: إذا أخذته تحت حجرك. وأنشد الأحمر: كأنه مضطغن صبياً. أي: حامله في حجره. وفرس ضاغن: لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب، والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام، أي أن ذلك مما لا يكاد أن يدخل تحت الاحتمال، بل لابد أن يكشفهم الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم)

تفسير قوله تعالى: (ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]. قوله: ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ))، أي: ولو نشاء يا محمد! لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين؛ ستراً منه على خلقه، وحملاً للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، وهو رأي ابن كثير فلو نشاء لأريناكهم جميعاً، فالتعامل في الدنيا بين الناس إنما يكون على ما يظهرون، ولا سبيل إلى الوصول إلى ما يبطنونه، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إني لم أومر أن أنقب عما في قلوب الناس، ولا أن أشق صدورهم)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فأحكام الدنيا تجري على ما يظهره الناس، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يعاملهم على بواطنهم، فينبغي الاكتفاء بستر الله سبحانه وتعالى على خلقه، وعدم التنقيب والتفتيش خاصة فيما يتعلق بالكفر والإيمان، فهؤلاء المنافقون حالهم ما ذكر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك عوملوا في دولة الإسلام بما يظهرون، بمعنى: أنه لو أظهر الزندقة حكم عليه بالزندقة، ولو أظهر الردة حكم عليه بالردة، ولو أظهر الإسلام حكم عليه بما يظهر من الإسلام، وهذا بغض النظر عما يبطنه، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أن ترك الأمور في الدنيا تسير بهذه الطريقة. وكذلك في التعامل بين الناس ينبغي أن يؤخذ على يد النمام؛ لأن النمام -كما وصفه الله تعالى- يحمل الحطب ليحرق الناس، ويثير الفتن، وقد جرى في أمور الدنيا على أن الناس يأخذون من بعض، ويقبلون بعض الظاهر، وأما النمام فإنه يحاول أن ينقل الكلام من طرف إلى طرف؛ ليفسد بين الناس، فيكشف ما خفي من أمرهم وما ستُر. وهذا الكلام الذي نقله النمام يترتب عليه فتن وأحقاد وضغائن، فالنمام يحوِّل ما يبطنه الشخص إلى شيء مشاهد، فهو يكشف ويهتك هذا الستر فيصيره مكشوفاً معايناً، فتشتغل القلوب، وتشتعل الأحقاد في الصدور، فالناس لم يتعايشوا في الدنيا إلا بالستر، وأما لو ظهرت مواقفهم وأمورهم لكانت الحياة عذاباً وجحيماً. فينبغي أن يكتفي الإنسان بما أمره الله به؛ وهو الظاهر، وألا يحرص على التنقيب عما في بواطن الناس، فلو تعامل الناس بما في البواطن لصارت الحياة هماً دائماً وكرباًَ، ولما سعد الناس، ولا أطاق بعضهم بعضاً. فالله سبحانه وتعالى -رحمة منه بنا في هذه الدنيا- أمرنا بالاكتفاء بالظاهر، فالإنسان لا يولع ولا يغرم بالتفتيش عما في قلوب الناس، ولا أن يصغي إذنه للنمام الفاسق الذي يسعى للإفساد بين الناس عن طريق نقل الكلام، ويظن أنه يخبر بالذي وقع، لكن الشرع -حتى لو كان قد حصل بالفعل- سماه نماماً، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام، ولا يدخل الجنة قتات). قال القرطبي: (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) أي: لعرفناكهم. وقال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة براءة، تقول العرب: سأريك ما أصنع، أي: سأعلمك؛ لأن الرؤية: رؤية علمية، ورؤية بصرية، فهذه رؤية علمية، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]، أي: ألم تعلم؟ بدليل أنه ولد في عام الفيل، فحصل حادث الفيل قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام. وقوله: ((لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)) أي: بما أعلمك الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]، وقوله: ((وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) نهي عن مساعدة أهل التهم، ونهي عن الدفاع عن الإنسان المريب الظالم بما يقوله خصمهم من الحجة. وفي هذا -كما يقول القرطبي - دليل على أن النيابة عن المبطل والمستحق للخصومة لا تجوز، فمثلاً يأتي المحامي ليدافع عن قاتل، أو تاجر مخدرات أو نحو هؤلاء، وهو ظالم ومجرم وفاسق ومخرب، ومع ذلك تجد المحامي مستعداً ليدافع عنه، فمثل هذا -شرعاً- لا يجوز أبداً الدفاع عنه وأنت تعرف أنه ظالم ومعتدٍ؛ لتخلصه من هذا، وأظن أن هذا من أقبح ما يتدنس به بعض المحامين الذين لا يبالون بضياع حقوق الناس، فالمهم أن يحظى هو بحظه من الدنيا في النهاية. فالنيابة عن المخطئ والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى عما قريب. قول ابن عباس رضي الله عنهما: وقد عرفه إياهم في سورة براءة، فسورة براءة تسمى: سورة الفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما في سورة التوبة: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: ومنهم ومنهم حتى خفنا ألا تدع أحداً. وتسمى: سورة البحوث؛ لأنها تبحث عن أفراد المنافقين، وتسمى: المبعثرة، قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64]، أي: إن الله مظهر ما تحذرون ظهوراً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنزل الله أسماء المنافقين وكانوا سبعين رجلاً، ثم نسخ تلك الأسماء من القرآن رأفة منه ورحمة؛ لأن أولادهم كانوا مسلمين، والناس يعيِّر بعضهم بعضاً، فعلى هذا قد أنجز الله وعده بإظهار ذلك، إذ قال: ((إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ))، فكشف أسمائهم، ثم ستر ذلك مراعاة لأبنائهم المسلمين كي لا يعيَّروا بهم. وقيل: إن قوله: ((إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ)) أنه عرف نبيه صلى الله عليه وسلم أحوالهم وأسماءهم، لا أنها نزلت أسماؤهم في القرآن، ولقد قال الله تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)). قال شيخ المفسرين ابن جرير: عن ابن عباس في هذه الآية: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ))، قال: هم أهل النفاق، وقد عرفه إياهم في براءة، فشيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى يرى أن الله عرفه بالفعل هؤلاء المنافقين في سورة براءة، فقال عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، وقال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:83]. قوله: ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ))، أي: بعلامتهم الخاصة التي يتميزون بها. قال الزجاج: المعنى: لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة، وهي السيما، فلعرفتهم بتلك العلامة، والفاء لترتيب المعرفة على الإراءة، ((وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ)) أي: ولو أريناكهم لعرفتهم بسيماهم. وقال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين وكان يعرفهم بسيماهم، وتكرير اللام للمبالغة أو للتأكيد. ثم قال تعالى: ((وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)) أي: في فحواه ومعناه، ومنه قول الشاعر: منطق صائب وتلحن أحياناً وخير الكلام ما كان لحناً أي: أحسنه ما كان تعريضاً يفهمه المخاطب ولا يفهمه غيره؛ لفطنته وذكائه، وأصل اللحن إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض، وهو مأخوذ من اللحن في الإعراض، وهو الذهاب عن الصواب. وعن مالك بن دينار قال: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله لحن كله. وعن بعض الزهاد قال: لم نؤت من جهل ولكننا نستر وجه العلم بالجهلِ نكره أن نلحن في قولنا ولا نبالي اللحن في الفعلِ وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)، قال هذا لرجلين أتيا يختصمان في شيء معين، فقال النبي عليه السلام: (إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر) يعني: لا أعلم الغيب ولا أعلم ما في قلوبكم، ولكوني بشراً لن أحكم إلا بما يظهر لي، (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) أي: أنه يستطيع أن يحور الكلام بالفصاحة وغير ذلك، فيظهر حجته أقوى من حجة الآخر، في حين أنه ظالم والآخر هو المظلوم والحق له، لكن من علم صناعة الكلام وقدرته على اللحن في الكلام فإنه يستطيع أن يدلي بحجة، والآخر لأنه عيي لا يفصح ولا يستطيع أن يعبر، فيضيع حقه بسبب ذلك، فيحذِّر النبي عليه الصلاة والسلام من مثل هذا فيقول: (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي لكم على نحو مما أسمع منكم) أي: أني أنا آخذ بالظاهر، وهي الحجة التي يدلي بها هذا الشخص، ومع ذلك وإن كان الذي حكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحكم في الحقيقة باطلاً، أي: أنه حكم للظالم على المظلوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام ليس مسئولاً عن ذلك؛ لأنه يحكم بالظاهر الذي ظهر له، فهذا تحذير للشخص الظالم، وإذا كان هذا في حكم الرسول الله عليه الصلاة والسلام فما بالك بشخص ينال شيئاً ليس من حقه بحكم قانون وضعي! إذا كان حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغير الواقع في نفس الأمر شيئاً مع أنه حكم وهو يحكم بما يظهر له، فكيف بحال هؤلاء!! فإذا كنت تعرف أنك ظالم، وأنه ليس من حقك فلا يصح أن تقول: قد حكم لي؛ لأن هذا ليس من حقك، وهذا ليس من شرعنا ولا موافقاً له، قال صلى الله عليه وسلم: (من عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فيرد هذا الحكم. فحكم الحاكم أو القاضي لا يغير من الحقيقة شيئاً، وستصبح مسئولاً أمام الله عن أن تؤدي الحق إلى صاحبه: (فمن قضيت له من حق أخيه

تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)

تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) قال الله تبارك وتعالى مخاطباً المؤمنين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون: (ولنبلونكم حتى نعلم ونبلو أخباركم). وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها، أي هكذا: (وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلو أخباركم). قال الشوكاني: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ)) أي: لنعاملنكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد، وصبر على دينه، وعلى مشاق ما كلف به. وقال القرطبي: أي: نتعبدكم بالشرائع وإن علمنا عواقب الأمور، وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين. قوله: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ)) أي: عليه. قال ابن عباس: ((حَتَّى نَعْلَمَ)) أي: حتى نميز. وقال علي رضي الله عنه: ((حَتَّى نَعْلَمَ)) أي: حتى نرى. قوله: ((وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) أي: نظهرها ونكشفها امتحاناً لكم؛ ليظهر للناس من أطاع الله فيما أمره، ومن عصى ولم يمتثل، وهذا التفسير في غاية الدقة، وقد تتصورا أنه كلام عادي، لكن هذا الكلام مبني على الأدلة والاستنباط منها. إذاً: فيلون على هذا التفسير ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ))، أي: وحتى يعلم أوليائي وأهل طاعتي من هو من حزب الله، ومن هو من حزب المنافقين. وروى رويس عن يعقوب: إسكان الواو من نبلو، أي: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوْ أَخْبَارَكُمْ} على القطع مما قبله، ونصب الباقون رداً على قوله: ((حَتَّى نَعْلَمَ)). قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا! فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. فالإنسان لا يتمنى البلاء، وإنما يسأل الله سبحانه وتعالى العافية التي اختارها النبي صلى الله عليه وسلم لعمه حين سأله، فعلمه أن يدعو الله سبحانه وتعالى بالعافية، فهذه أعظم نعم الله عز وجل: العافية واليقين. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاثبتوا)، فالإنسان لا يتمنى الشر، وإذا قدر عليه ذلك فليثبت. وقد حكي عن بعض العبّاد: أنه كان يسأل الله سبحانه وتعالى أن يبتليه، فابتلاه فلم يصبر، وكان البلاء شديداً جداً، فكان يمر على الصبية ويقول لهم: ادعوا لعمكم الكذاب. يعني: أنا زعمت أنني إذا ابتليت فسأصبر، فيقول: ادعوا لعمكم الكذاب، لأنه لم يستطع أن يفي بما كان يتمناه. ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجل كأنه جلد على عظم من شدة الضعف والوهن، فقال له: (هل كنت تدعوه أو تسأله شيئاً؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم! إن كنت معاقبي في الآخرة فعجله لي في الدنيا -وهذا عدم فقه لآداب الدعاء- فقال: سبحان الله! لا تطيق)، فدعا له النبي عليه السلام فعافاه الله سبحانه وتعالى، فالشاهد: أن الإنسان ينبغي أن يكون فقيهاً في دعائه، فنفس اللسان الذي تخرج منه كلمة: اللهم! إن كنت ستعاقبني في الآخرة فعجله لي في الدنيا هو نفسه يمكن أن يقول: اللهم! عافني في الدنيا والآخرة: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، ونفس الرب سبحانه وتعالى الذي ستسأله هذه ويجيبك، سوف يجيبك أيضاً إن سألته العافية، فالله سبحانه وتعالى ودود غفور رحيم، فاسأل الله العفو والمغفرة، وسله العافية، فإن رحمته واسعة، بل قد حرضنا على أن نطمع في رحمته، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، ووسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمن عدم الفقه أن يدعو الإنسان بمثل هذه الدعوات، ونحن نعرف وجاء في حديث حذيفة حينما قال له رجل من التابعين: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم وتركتموه يمشي على الأرض؟ لو أدركناه لحملناه فوق رءوسنا؛ فقال له حذيفة مشيراً إلى نفس هذا المعنى، وذكر ما لاقوه من الشدة والبلاء في غزوة الخندق، ثم قال: قد أدركه قوم ودخلوا النار كـ أبي جهل وأبي لهب، فهؤلاء أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام ولكنهم كفروا به وعادوه، فهم أشد الناس عذاباً لعداوتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكفرهم به. وحكى ما حصل لهم يوم الخندق، وأن البرد كان شديداً جداً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة أن يخرج رجلاً منهم فيأتيه بخبر الأعداء، فقال: (من يأتيني بخبر القوم وهو رفيقي في الجنة). فالشاهد أنه كل مرة لا يجيبه أحد، في المرة الأولى، والمرة الثانية، والمرة الثالثة، فبعد ذلك أمر حذيفة أن يخرج ويذهب هو، فلم يجد بداً، وقد عينه النبي عليه السلام بالاسم إلا أن يمتثل لأمره صلى الله عليه وآله وسلم، فامتثل وخرج، يقول: فكان خروجي ورجوعي وكأني كنت في الحمام، وهو عند العرب المكان الدافئ جداً من شدة البخار الساخن. فالشاهد من هذا الكلام: أن الإنسان لا يعرف صبره وثباته، ما يدريك لو أنك كنت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من أي قسم ستكون: من المؤمنين، أم من المنافقين، أم من الكافرين المشركين؟ فالمهم أن ترضى بما قسم الله لك، ولا تتمنى شيئاً ربما لو أدركته لكنت من الهالكين؛ لأن الله هو الذي يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهذا غيب وأنت لا تدري كيف يكون، فالله وحده هو الذي يعلم كيف يكون هذا الغيب.

أقسام علم الله سبحانه وتعالى

أقسام علم الله سبحانه وتعالى قوله تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ))، علم الله سبحانه وتعالى بعباده وخلقه علمان: علم غيب. وعلم شهادة. فعلم الغيب: هو علم الفطرة الأزلية، أي فطرة الله سبحانه وتعالى القديمة الأزلية التي لا بداية لها، فهذه صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهذا هو علم الغيب، وهو موجود قبل التكليف. وعلم الشهادة: وهو الذي يكون بعد التكليف، وهذا هو الذي يترتب عليه الثواب والجزاء، فإذا راعينا هذا التقسيم، وعلمنا الجواب على الشبهة التي يقولها بعض الناس: إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم مسبقاً، وقدر مسبقاً ما يصدر ويجري مني، ومن أي الفريقين أنا، فلماذا يحاسبني بعد ذلك؟ ف A لو كان الله سبحانه وتعالى يحاسبك على علمه فيك فقط لكان لسؤالك وجه، لكنه لا يحاسبك على علمه فيك حتى تعمل به، فعملك هذا هو الذي تحاسب عليه، ولذلك جاء في الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار) إلى آخر الحديث كما تعلمون. إذاً: فالعلم في قوله تعالى هنا في هذه الآية: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ))، وقوله أيضاً في قوله تعالى، مثلاً: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143]، هو شهادة؛ لأنه بعد التكليف، فيريد أن يعلم أولياءه الذين سيطيعونه. وقد يتوهم الجاهل من ظاهر قوله هنا: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ))، أن الله سبحانه وتعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل الله عز وجل عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون، فلا يحدث له علم؛ لأن الله لو حدث له علم فهذا العلم كمال، فالله سبحانه وتعالى لا يتصور أبداً خلوه عن هذا الكمال، فإذا كان العلم الذي هو الكمال حصل له -والعياذ بالله- فيما بعد وطرأ عليه، فمعنى ذلك أنه من قبل ناقصاً؛ لأنه كان خالياً من هذا العلم، فهذا لا يجوز في الله سبحانه وتعالى، والله فنزه عن ذلك! إذاً: فالله سبحانه وتعالى يعلم ما سيعمله الخلق كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32]، وقال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] أي: أنهم إلى الآن لم يعملوها لكن الله يعلمها، وقال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3]. وقد بيَّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه، فقال عز وجل: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154]، وتأملوا نهاية الآية: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، فقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] فيه صفة مستمرة بعد قوله: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ))، وهذا دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار، قال تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ:3]. فقوله: ((وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)) حتى لا يذهب ذاهب ويتخيل أن الابتلاء يفيد الله سبحانه وتعالى علماً جديداً، فختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، فيبتلي ما في صدوركم ليصير علم شهادة، وأما الله فإنه يعلم مسبقاً. وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله سبحانه وتعالى فيها اختباره لخلقه كما سنبينها إن شاء الله تعالى، ومعنى قوله تعالى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ)) أي: نعلم علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، ولا يباهي أنه كان عالماً به قبل ذلك؛ لأن العلم الذي كان عالماً به قبل ذلك علم غيب، وهذا العلم -علم الشهادة- يكون موافقاً لما سبق به قلم القضاء. وفائدة الاختبار ظهور القضاء والقدر، أما عالم السر والنجوى فهو عالم بكل ما سيكون كما لا يخفى. ولذلك قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء؛ لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، وإن كان الله تعالى يعلمهم علم غيب؛ لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أي: نختبرها ونظهرها. انتهى كلام القرطبي. وقال الإمام شيخ المفسرين جعفر بن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ولنبلونكم أيها المؤمنون! بالقتل وجهاد أعداء الله؛ ((حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ)) أي: حتى نعلم علم شهادة إذا امتثلتم أو عصيتم، فيعلم أوليائي وحزبي أهل الجهاد في سبيل الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه؛ فيظهر ذلك لهم، ويعرف ذوي البصائر من أهل الشك والحيرة، وأهل الإيمان من أهل النفاق. قوله: ((وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) أي: فنعرف الصادق منكم من الكاذب. انتهى كلام شيخ المفسرين. وما ذكره شيخ المفسرين من أن المراد بقوله: ((حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ))، حتى يعلم حزبنا وأولياؤنا المجاهدون، فهذا له وجه، وقد يشهد له قوله تعالى: ((وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) أي: نظهرها ونبرزها للناس. ومما يوضح هذا المعنى أن علماء التفسير عندما يضعون هذه العبارات الدقيقة فإنها لا تأتي خالية من الدليل، لكن الاستنباط دقيق من معاني الآيات، وفهم آيات القرآن بعضها مع بعض، ومما يوضح هذا قول الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]، فالشاهد هنا في هذه الآية قول الله تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ))، فيتميز الخبيث من الطيب يكون بظهور ذلك للناس. إذاً: فمعرفة المؤمنين للخبيث من الطيب، والتميز بين الفريقين يمكن أن نعرفه بأكثر من طريقة: إما أن نعرفه بأن يأمر الله سبحانه وتعالى الناس جميعاً بالجهاد مثلاً، فمن استجاب فهو من المؤمنين، ومن نكث فهو من المنافقين مثلاً، فيظهر ذلك للناس. وهناك وسيلة أخرى وهي الاطلاع على الغيب، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ))، بمعنى: أنهما طريقان لا ثالث لهما لكي تعرفوا الناس وتميزوا بينهم، والاطلاع على الغيب ليس إلينا، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ))، فالله تعالى هو عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى، فلا سبيل إلى اطلاعكم على الغيب، إذاً فيتعين الطريق الآخر وهو: أن يقع الاختلاف بين الناس، فيمتاز أهل الإيمان من أهل النفاق؛ لذلك قال تعالى: ((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: من اختلاط الأمور، واختفاء المنافقين في وسطكم، ((حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)). قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)) أي: فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب، ولكن الله عرفكم ذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خُبْث وطِيْب، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] وقال تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وأكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة، والحر والبرد، وسوء العيش، وأنواع الشدائد، وكان الأمر كما قال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]. وقيل: نزلت تسليةً للمهاجرين حين تركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق. ومن الآيات في معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]، فكل هذه الآيات في معنى قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}. وهذه الآية: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]، يقول فيها

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32]. قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)): المقصود بهم هنا المنافقون، وقيل: هم أهل الكتاب، وقيل: المشركون يوم بدر، ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]. وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) الراجح في تفسير الصد هنا أنه منعهم للناس عن الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: ((وَشَاقُّوا الرَّسُولَ))، أي: عادوه وخالفوه مخالفة شديدة. قوله: ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى))، أي: علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبي من عند الله سبحانه وتعالى بما شاهدوا من المعجزات الواضحة، والحجج القاطعة. قوله: ((لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ))، أي: ورسوله صلى الله عليه وسلم، (شَيْئًا) أي: بصرفهم عن الإيمان، وإصرارهم على الكفر، ولن يضروا إلا أنفسهم كما في الحديث: (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً). قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: ثواب ما عملوه، والمقصود أنه يفسدها، والمراد بذلك أعمال الخير: كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن الكفر مانع من قبولها ومن الانتفاع بها في الآخرة. وقيل: المراد بالأعمال في قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: مكائدهم. إذاً: تحمل الأعمال على أحد معنيين: إما الأعمال التي ظاهرها الخير، مع أنها لا تنفعهم في الآخرة؛ لأنها خلت عن شرط الإيمان. وإما أن المراد بالأعمال: مكرهم وكيدهم ومؤامراتهم. قوله: ((وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)) أي: المكائد التي نصبوها لإطفاء دين الله، والغوائل التي كانوا يبغونها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ذكرنا من قبل: أن الراجح في كلمة (صد) هنا أنها متعدية، فهم كفروا في أنفسهم، ومنعوا غيرهم أيضاً من الإيمان والإسلام، وهذا الأمر ما زال مستمراً إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، وآية ذلك ما يحصل الآن ومنذ زمن بعيد من الحرب على الدين التنفير منه، وتحريض الناس على الصد عن سبيل الله، وهذا له أنواع وأساليب كثيرة جداً في زماننا، فقد حاولوا تخليص كثير من الناس من التدين، ومعاقبتهم على التدين، وامتحانهم على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ووصف المتدينين بأنهم متطرفون وعنصريون وإرهابيون وغير ذلك مما يرجف به أعداء الله سبحانه وتعالى. وقلنا من قبل مراراً: إن أعظم حق من حقوق الإنسان هو حق الدين فنحن في عصر يتشبث فيه هؤلاء الكفار بحقوق الإنسان على طريقتهم، فإما أنهم يعتبرون المسلمين ليس لهم حقوق وبالتالي لا يستحقون هذه الحقوق، وإما أنهم يكيلون لا أقول بمكيالين، بل هو كيل واحد للمسلمين لم يتغير، وهو كيل الظلم والجور، ونقض العهود والمواثيق. وأكبر جريمة ترتكب في حق الإنسان أن يحال بينه وبين سعادة الدنيا والآخرة، فتخيل شخصاً يتسبب في حرمان الناس من الخلود في الجنة وما فيها من النعيم، ويوردهم موارد الهلكة، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها). إن أكبر جرم يرتكب في حق الإنسانية هو منع الناس من الدخول في الإسلام، فأعظم حق في الإسلام للإنسان، هو أن يصله نور التوحيد، ومن أجل ذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفتحون البلاد بالسيف، وبعض الناس يقول: هذا إكراه، ولا إكراه في الدين، فتقول: إن غاية ما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يريدونه هو أن يزيحوا الجيوش التي تقف على حدود هذه البلاد بعد دعوتهم للإسلام، فيصرون على مقاتلة المسلمين، ويريدون أن يبلغوا هذه الدعوة ويوصلوها إلى الناس مباشرة، فتقف هذه الجيوش على حدود هذه البلاد ليمنعوا نور الله سبحانه وتعالى من أن ينتشر في الآفاق، ويمنعوا أن تعلوا كلمة الله، وبالتالي يكون ذلك سبباً في حرمان الناس من دخول الجنة، فهم هجروا أوطانهم وديارهم وأبناءهم، وضحوا بالنفس والنفيس في سبيل أن يحملوا هذا النور إلى العالمين كما كلفهم الله مالك هذا الكون كله بذلك. فكل ما كان يفعله الصحابة هو مجاهدة الجيوش التي تحول بينهم وبين ما أمرهم الله به فقط، فكانوا يقاتلون من امتنع، أما من لم يمتنع فيتركونه يدخل في دين الإسلام، ويمضون إلى شأنهم في فتح البلاد، فيزيحون القوى التي تقف أمامهم فقط، وأما عند معاملتهم مع الشعوب فإنهم لم يقهروا أحداً على الدخول في الإسلام، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] إلى آخر الآية، فكان الصحابة رضي الله عنهم لا يُكرهون أحداً على الدخول في هذا الدين، وإنما كان همهم أن يوصلوا هذا النور إلى العالمين، فكل من يقف ليمنع هذا النور سواءً بالتخويف والإرهاب والبطش أو بالفتك والقتل، فإن الإسلام له بالمرصاد، وقد سلط الغرب الكافر سلمان رشدي وأمثاله من الكفرة الملاحدة ليطعنوا في الرسول عليه السلام وفي الإسلام كما هو شأنهم، وكما حذرنا الله سبحانه وتعالى من ذلك من قبل، فوقف لهم أهل الحق بالمرصاد. فأكبر حقوق الإنسان -إذا كانوا فعلاً صادقين- أن يتركوا نور الله يصل إلى هؤلاء الناس، لكننا نرى هؤلاء الناس غارقين في الوحل من الشرك والوثنية في كل أنحاء المعمورة، وسبب حرمانهم من هذا النور هو هذا الصد عن سبيل الله، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، فالصد عن سبيل الله صار وظيفة، فيوجد أناس متفرغون للصد عن سبيل الله. وأنواع الصد كثيرة جداً، والصادون عن سبيل الله كثيرون، وقد حذرنا منهم الله سبحانه وتعالى، وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك يقول بعض السلف: إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر أين أقامك، إن أقامك في خدمة دينه والدعوة إليه فهذا أشرف المقامات؛ لأنها وظيفة الرسل، وإن أقامك في الصد عن سبيل الله، والتنفير من دين الله، ومعاقبة الناس على التدين، وتنفير الناس من دينهم بالأوصاف المنفرة فأنت في مقام سيء، وهذا أسلوب قديم أن يوصف أهل الدين وأهل الطاعة بالأوصاف المنفرة، فيأتي أهل الباطل إلى الحق ويغلفوه بأغلفة منفرة كما يقول الشاعر مشيراً إلى هذا التلاعب بالألفاظ، وما يكون له من أثر نفسي في تنفير الناس من الحق، يقول: تقول هذا جنى النحل تمدحه وإن شئت قلت: ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فمن الممكن أن تأتي إلى عسل النحل وتقول فيه إن أردت أن تمدحه: هذا جنى النحل، هذا محصول النحل، ومن الممكن أن تقول عنه تنفيراً منه: هذا قيء الزنابير، أي: ما تتقيؤه هذه الزنابير التي تلسع مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فنور الله ودين الله يوصف بالتطرف والإرهاب والأصولية، إلى غير ذلك من هذه المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان. فويل لمن يجمع بين الكفر في نفسه والصد عن سبيل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ}، سواء قلنا: أعمالهم التي أتوا بها وهي على صورة القيء، فإنها تحبط ولا تنفعهم الآخرة، أو ((َسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ))، يعني: كيدهم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]. ولو أن أي دعوة واجهت من الحروب والتكفير والتشنيع والإبادة ما واجهه الإسلام والمسلمون لما بقي لها ذكر في التاريخ على الإطلاق، فليس من سبب في حماية وصيانة هذا الدين إلا أنه دين الله وحجته على خلقه. وما من دعوة أو مذهب أو فرقة في خلال مئات قليلة من السنوات إلا وقد حرفت تماماً عن أصلها ما عدا الإسلام، فالأمم كلها من العقلاء والباحثين والعلماء الغربيين وغيرهم فضلاً عن جميع المسلمين تجمع على أن القرآن لم يحرف منه حرف واحد، ولم ينقص منه ولم يزد فيه حرف واحد، فمن الذي حفظه؟ إنه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، حتى تبقى المعجزة، والحجة قائمة على كل من ينتمي إلى أمة الدعوة التي هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي كل من على ظهر الأرض، فكل البشرية هي أمة محمد بعد بعثته، فـ كلينتون من أمة محمد، ونتنياهو وكل الكفار منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هم من أمته، أي: من أمة الدعوة التي بعث إليها محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كان صلى الله عليه وسلم قد لحق بالرفيق الأعلى لكن أمته نائبة عنه في تبليغ شرعه، وإقامة حجته، ومعجزته باقية خالدة على مر الزمان. قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: الظاهر أن (صَدُّوا) في الآية متعدية، والمفعول محذوف، أي: لو كان المفعول ظاهراً لم يبق خلاف في أن الفعل متعدٍ، فلو كانت الآية: (إن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله)، أو: (وصدوا الناس)، لكانت متعدية، لكن لما لم يذكر المفعول اختلفوا، فقال بعضهم: هي للتوكيد. فلكلمة: (صدوا) تأتي لازمة وتأتي متعدية، فاللازمة لا تحتاج إلى مفعول به، مثل كلمة: خرج، ونزل، كأن تقول: فصد عني، وتعني: أعرض عني، أو أشاح بوجهه عني، وكقوله تعالى: {رَأ

محمد [33 - 35]

تفسير سورة محمد [33 - 35]

تفسير قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) قوله الله تعالى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، فهذا الجزء من هذه الآية من آيات الأحكام، حيث يشيع عند علماء التفسير -خاصة المصنفين في أحكام القرآن- الاستدلال بهذه الآية الكريمة في مسألة فقهية، وهي: هل يجوز لمن دخل في قربة نافلة أن يخرج منها قبل إتمامها؟ اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين: القول الأول: قول الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى، قالا: له -إذا شرع في نافلة- أن يخرج منها قبل أن يتمها إلا في نافلة الحج والعمرة، فإنه يجب عليه إتمامهما، ويستدلون على ذلك بقول الله تبارك وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فمن شرع في نافلة حج أو عمرة وجب عليه إتمامها. وأما الصلاة والصوم فإنه يستحب له إتمامهما ولا يجب عليه، وقالوا: إن المتطوع أمير نفسه، كما سيأتي في الأحاديث، فإلزامه إياه بالإتمام مخرج عن وقت التطوع، فالله تبارك وتعالى يقول: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91]، فهذا محسن أي: متطوع قطع ما لا يجب عليه أصلاً، فلا حرج عليه في ذلك. وقالوا: إن لفظ هذه الآية: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، وإن كان عاماً يعم كل الأعمال، سواء كانت نافلة أو فريضة، وسواء كان حجاً أو عمرة أوغير ذلك، إلا أن هذا العموم مخصَّص؛ لأن التطوع يقتضي تخييراً، فهو مخصَّص بالأدلة التي سوف نذكرها إن شاء الله تعالى. ومن الأدلة التي استدل بها الشافعي وأحمد على جواز ذلك: أنه قد ثبتت بعض الأحاديث التي فيها أن الإنسان إذا دعي إلى وليمة نكاح وكان صائماً فينبغي له أن يجيب فإجابة الدعوة أن يذهب إلى مكان الدعوة تقديراً لأخيه، وإدخال السرور عليه، فيجب عليه أن يجيب حتى لو كان صائماً، لكن لا يجب عليه أن يأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع. القول الثاني: قول الإمامين أبي حنيفة ومالك، فقد قالا: ليس له ذلك، فإذا شرع في نافلة فإنه يجب عليه الإتمام، فإذا أبطلها وجب عليه قضاؤها، ودليلهم عموم قوله تعالى: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ))، واستدلوا أيضاً بحديث عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما. وأجاب الإمامان أبو حنيفة ومالك عن أدلة الشافعي وأحمد في قولهما: إن المتطوع أمير نفسه، فقالا: إن المتطوع أمير نفسه لكن ذلك مالم يشرع، فهو: أمير نفسه في أن يبتدئ بالفعل أو لا يبتدئ، وأما إذا شرع فيه فليس أمير نفسه، بل قد ألزم نفسه بالإتمام؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، ولعموم قوله عز وجل هنا: ((وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)). وإذا كان متطوعاً في صيامه فله أن يفطر، خاصة إذا ألحّ عليه الداعي، أو كان قد تكلف له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر). وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا، قال: فإني صائم، ثم مرّ بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حَيْس، فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قالت: يا رسول الله! إنه أهدي لنا حَيْس، فخبأت لك منه، قال: أدنيه، -أي: قربيه - أما إني أصبحت وأنا صائم، فأكل منه، ثم قال: إنما مثَل المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها)، ولم يذكر هنا قضاءً؛ بناء على أنه لا يجب قضاء النفل. وهذا هو الراجح، أي: ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم قال له: أفطر، وصم مكانه يوماً إن شئت) وفي هذا مراعاة للأدب، وهو أنه إذا كان يشق على صاحب الدعوة ألا تأكل من طعامه، وكنت في صيام نافلة، ففي هذه الحالة الأفضل لك أن تفطر؛ إدخالاً للسرور على أخيك المسلم، وهذا في صيام النافلة فقط. وقوله: (إن شئت) يدل على التخيير، وأنه لا يجب عليه قضاء ذلك اليوم. وكذلك حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال: فجاء سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة - أي: لابسة ثياب المهنة، وتاركة لملابس الزينة -، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء؟! قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبو الدرداء فرحب به، وقرب إليه طعامه، فقال له سلمان: اطعم -أي: كُل- قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه - وهذا هو الشاهد، أنه أكل معه -، ثم بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال له: يا أبا الدرداء! إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وأْتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان في وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت، قال: فقاما فتوضأا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أمره سلمان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الدرداء! إن لجسدك عليك حقاً، مثلما قال سلمان، وفي رواية: قال له النبي صلى الله عيله وسلم: صدق سلمان) , فأقر ما قاله سلمان لـ أبي الدرداء. إذاً: فهذا هو الراجح في هذه المسألة، وهو: أن من دخل في قربة فإنه يجوز له بعد الشروع فيها الخروج منها قبل إتمامها، ولا يجب عليه القضاء إلا في نافلة الحج والعمرة؛ للنص على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم)

العبرة بالخواتيم والأدلة على ذلك

العبرة بالخواتيم والأدلة على ذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد:34]. هذه الآية الكريمة سبق أن تعرضنا لصدرها ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، وذكرنا أن الراجح في الصدّ أنه متعدٍّ، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: في أنفسهم، ((وَصَدُّوا)) أي: غيرهم ((عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، وهذا يرجح على قول من قال: إن ((وَصَدُّوا)) بمعنى: أعرضوا اللازمة؛ لأنا إذا قلنا: إن صدوا هنا بمعنى: أعرضوا عن سبيل الله، فسيكون هذا توكيداً، وأما إذا قلنا: إن المعنى: أنهم صدوا غيرهم ((عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، فسيكون تأسيساً، ولا شك أن التأسيس مقدَّم على التوكيد؛ لأنه يبني معنىً جديداً. قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)) فيه بيان لافتراض الخاتمة، وأن الأعمال بالخواتيم، فالعبرة بالحال التي يموت عليها الإنسان، كما قال صلى الله عيه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام رجل يوماً طويلاً شديداً حره، ثم أفطر قبيل غروب الشمس بثوانٍ معدودات فقد حبط صيام هذا اليوم كله، وإذا صلى صلاة طويلة ثم أحدث قبل السلام، فصلاته باطلة كلها. وكذلك العمر، فإذا وفِّق الإنسان إلى خاتمة حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعفو عن كل ما مضى، والعكس أيضاً. إذاً: فهذه الآية الكريمة فيها بيان أن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار، فمجرد أن يكون الإنسان كافراً لا يكفي للحكم عليه بعينه أنه من أهل النار، وإنما لا بد من أن يثبت أنه قد مات على الكفر، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، وهذا يشير إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، فانظر إلى رحمه الله تعالى، فحتى هؤلاء الذين كفروا في أنفسهم، وفتنوا وعذبوا المؤمنين بالنيران في قصة الأخدود الشهيرة، اشترط الله في استحقاقهم هذا الوعيد أن يثبتوا على ذلك حتى الممات، فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا))، فمفهومها أنهم إن تابوا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم، فهذا من رحمة الله الواسعة. وقد قيل: إن المراد بالآية أصحاب قليب بدر، وظاهر الآية العموم في كل من مات على الكفر وإن كان سببها خاصاً. وقد وضح هذه الآية آيات أخرى من كتاب الله تعالى، ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران:91]، فانظر إلى قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)) ففيها إشارة إلى الخاتمة. وروى الشيخان عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك)، كلفتك أن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً وهذا لفظ البخاري. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:161 - 162]. قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ))، الواو في قوله: ((وَهُمْ كُفَّارٌ))، هي واو الحال، أي: ماتوا على حال الكفر. وقال الله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].

حكم لعن الكافر المعين

حكم لعن الكافر المعين يقول القاضي ابن العربي رحمه الله تعالى: قال لي كثير من أشياخي: إن الكافر المعين لا يجوز لعنه؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة الوفاة على الكفر. فاستنبط بعض العلماء من هذه الآية أنه لا يجوز لعن الكافر المعين؛ لأن حاله عند الوفاة لا تعلم، فهو لا يستحق اللعنة حقاً إلا إذا مات على الكفر، كما في الآيات السابقة كلها: ((وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)). فخاتمة الإنسان لا تعلم إلا بنص من الوحي، فلا نقطع بالجنة لأحد إلا لمن قطع له الوحي بذلك، وكذلك لا نقطع بالنار لأحد إلا لمن حكم له الوحي بذلك، كـ أبي جهل وفرعون وأبي لهب وغيرهم من الكافرين الذين قطع الوحي سواء في القرآن أو السنة بكفرهم ولعنهم، لأنهم ماتوا على كفرهم، فهؤلاء يقطع لهم بالنار. وأما من عدا ذلك فيجوز لعن النوع لا العين، كما تقول: لعنة الله على الظالمين! ولعنة الله على الكافرين! أما أن تلقن فلان بن فلان باسمه، فينبغي ألا تتهور في ذلك؛ لأنك لا تعلم خاتمة هذا الإنسان كيف تكون، أو كيف كانت.

حكم لعن الكفار جملة من غير تعيين

حكم لعن الكفار جملة من غير تعيين لا خلاف في جواز لعن الكفار جملة من غير تعيين؛ لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. وهذا أمر ثابت، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا انتصف رمضان يلعنون الكفرة، وكانت الصيغة التي يدعون بها: اللهم! العن كفرة أهل الكتاب إلى آخر الدعاء المعروف، ثم أقر العلماء بعد ذلك أن الصحابة كان عامة من يقاتلونهم أهل الكتاب، وأما بعد ذلك فقد تنوع الأعداء الذين يقاتلونهم ولم يقتصروا على أهل الكتاب، فلذلك استحسن بعض العلماء أن يدعى بـ: اللهم! العن الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون أنبياءك، ويقاتلون أولياءك إلى آخر الدعاء. قال القرطبي: قال علماؤنا: فالدعاء باللعن على الكافرين عموماً، سواء كان لهم ذمة أم ليس لهم ذمة، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن فعله؛ لجحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله. وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كَشُرَّاب الخمر، وأكَلة الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال، ومن الرجال بالنساء إلى غير ذلك مما ورد لعنه في الأحاديث، فتلعن النوع فتقول: لعن الله المتبرجة، لعن الله المغيرات خلق الله!، لعن الله النامصة! لعن الله شارب الخمر! فهذا حكمه الجواز لا الاستحباب؛ فضلاً عن الوجوب، وهذا بخلاف بعض الفرق الضالة الذين يتعبدون باللعن، ويا ليتهم يلعنون من يستحق اللعن! ولكنهم يلعنون خيرة خلق الله بعد الأنبياء وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنرى الرافضة -قبحهم الله- يعدون لعن أبي بكر وعمر -والعياذ بالله- أفضل وأرجى ثواباً من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وفضائحهم في ذلك فظيعة ومستبشعة. فلا ينبغي أبداً أن تلين قلوبنا، أو أن يرى الله سبحانه وتعالى في قلوبنا هوادة في بغض هؤلاء المجرمين أعداء الله وأعداء رسوله، وأعداء أصحابه. وقد أظهر بعضهم أشياء قد تفتن بعض القاصرين، فنجد بعض الناس يقولون: كان الخميني يفعل كذا وكذا من المواقف الفذة في نظرهم، ويتعامون ويتناسون جرائمه الكبرى في مجال التوحيد، وفي تكفير الصحابة ولعنهم وغير ذلك من عدوانه وتطاوله، فهذا لا تغفره هذه المواقف، والشيطان لابد أن يلبس على الإنسان الباطل بشيء من الحق؛ حتى يروّج عليه هذا الضلال، فيشعر أنه هو الذي يعز الإسلام، وأنه هو الذي يدافع عنه، وهو متلبس بطامات كبرى. آخر تلك المواقف موقف يذكرنا بقول عمر رضي الله تعالى عنه: أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة. وقد كان الرجل الرافضي الخبيث المدعو محمد خاتمي سيذهب زيارة أول أمس إلى فرنسا، ثم إنه أُعلن عن إلغاء هذه الزيارة، واتضح أن السبب أنه أثناء ترتيبات الزيارة طلب ألا تقدم خمور على المائدة التي يجلس عليها، فالصليبيون الحاقدون في فرنسا رفضوا ذلك، وقالوا: لا، على الضيف أن يحترم أعراف أصحاب الدعوة، ولا يعترض على شيء مما هو من تقاليدهم أو عادتهم، فكان هذا سبب إلغاء الزيارة. ولا شك أن هذا موقف كنا نود أن يصدر من غيره، ولكن نقل ما حجم هذا الموقف -وإن كان موقفاً حسناً- بجانب الطامات الكبرى، والمصائب التي لا يجبرها شيء، حتى لو فعل أضعاف أضعاف ذلك من المواقف الجيدة؟! فلا بد أن نعطي الأشياء موازينها، فهؤلاء قوم يتعبدون بلعن الصحابة وتكفيرهم، إلا خمسة منهم أو ثلاثة، فضلالهم بيَّن، فينبغي ألا نبهر بمثل هذه المواقف الجزئية، وهي لا تكفي لتغفر لهم جرائمهم في حق الصحابة، فقبحهم الله سبحانه وتعالى، ونكّس راياتهم. فخلاصة الكلام في اللعن: أن اللعن ليس عبادة، وإنما هو جائز ومباح بهذه الشروط التي ذكرناها، فهو ليس بواجب، وإنما مباح لمن فعله، فيجوز أن يُلعن جنس الكفار عموماً؛ لجحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كما ذكرنا. وذكر القاضي ابن العربي: أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقاً، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (أتي بشارب خمر مراراً، فقال بعض من حضره: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم)، فأبقى له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة، والحديث صحيح أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم.

حكم لعن العاصي المعين

حكم لعن العاصي المعين وقد ذكر بعض العلماء خلافاً في لعن العاصي المعين، أي أن يلعن باسمه فيقال: لعن الله فلاناً مثلاً، إن كان عاصياً كشارب الخمر أو غير ذلك. ذكرنا قول القاضي ابن العربي: أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقاً، واستدل على هذا بحديث: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم)، وهذا قاله في حق نعيمان الذي كان يجلد مراراً في شرب الخمر. وأجيب: بأنه قال هذا بعد أن أقيم عليه الحد، ومن أقيم عليه حد الله سبحانه وتعالى فلا ينبغي لعنه؛ لأن الحد يطهره، فلا يجوز أن يعيَّر بالذنب، أو أن يؤاخذ به. وأما من لم يقم عليه الحد فلعنه جائز سواء سمي أو عيِّن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا تتوجه إليه اللعنة، وبيَّن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب). قال بعض العلماء: ما دام أنه قد أقام عليها الحد فلا ينبغي أن يوبخها، ولا يلومها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب؛ لأن الأمر قد انتهى، فما دامت أنها قد أقيم عليها الحد فهو تطهير، وفي نفس الوقت لا يجوز بعد ذلك تقريعها وتوبيخها بسبب هذه الفاحشة. وبعض العلماء فسروا الحديث: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب) أنه: لا يقنع ولا يكتفي في عقوبتها بالتثريب - وهو التوبيخ - بل لا بد أن يضربها الحد. وعلى كل الأحوال: فهذا الحديث يدل على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل إقامة الحد وقبل التوبة، والله تعالى أعلم. قال ابن العربي: وأما لعن العاصي مطلقاً فيجوز إجماعاً، وذلك مثل أن يقول: لعن الله شارب الخمر، ولعن الله السارق، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده). ولعن النامصة والمتنمصة وغير ذلك من أنواع الكبائر والمعاصي من غير تعيين شخص بعينه، وهذا لعن مطلق لا يقصد به شخص معين.

تعريف اللعن والتحذير من التخلق به

تعريف اللعن والتحذير من التخلق به واللعن: هو الدعاء بالإبعاد من رحمة الله. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): أخرج أبو داود عن أبي الدرداء بسند جيد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها). وله شاهد عند أحمد من حديث ابن مسعود بإسناد حسن. فالإنسان إذا لعن أحداً فإن اللعنة تصعد إلى السماء، ثم تغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتأخذ يمنة ويسرة، فإن كان الشخص الذي لعن يستحق هذه اللعنة أصابته، وإن لم يكن يستحقها فإنها ترجع إلى نفس الشخص الذي دعا باللعنة. وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المسلم كقتله)، رواه البخاري؛ لأنه إذا لعن أخاه المسلم فكأنه دعا عليه بالهلاك. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم سبّاباً ولا فاحشاً ولا لعّاناً، كان يقول لأحدنا عند المعتبة: ماله ترب جبينه!) رواه البخاري. وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة أي: فضجرت -ضجرت من الناقة- فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها، فإنها ملعونة، قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس لا يعرض لها أحد)، رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لصدِّيق أن يكون لعّاناً). وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، رواه مسلم. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: فيه الزجر عن اللعن، وأن من تخلق به لا يكون فيه هذه الصفات الجليلة؛ لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله عز وجل، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة فيما بينهم، والتعاون على البر والتقوى، وجعلهم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة -وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى- فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يوده المسلم للكافر ويدعو عليه، يعني: أن الدعاء باللعن أمر في غاية الخطورة، وهو عنوان نهاية وأقصى التدابر والنفور والمقاطعة، فلهذا جاء في الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله)؛ لأن القاتل إذا قتله فإنه يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة، أي: أن اللعن لو استجيب فإنه يكون سبباً للقطع عن نعيم الآخرة، ويبعد عن رحمة الله سبحانه وتعالى. وقيل: إن معنى: (لعن المؤمن كقتله) أي: في الإثم، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، فمعناه: أنهم لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم اللذين استوجبوا النار. وأما قوله: (ولا شهداء) ففيه ثلاثة أقوال، أصحها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات. الثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا، أي: لا تقبل شهادتهم؛ لفسقهم. الثالث: لا يرزقون الشهادة، وهي القتل في سبيل الله تعالى. وحتى لا يتوهم بعضكم التعارض بين أجزاء الكلام الذي ذكرناه في هذا الموضوع، فنلاحظ أن النبي عليه السلام استعمل صيغة المبالغة فقال: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعّاناً)، وهذه صيغة مبالغة، وقال أيضاً: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة)، وهذه صيغة تكثير، فلم يقل: لا ينبغي لصديق أن يكون لاعناً، ولم يقل: إن اللاعنين ليسوا بشفعاء ولا شهداء يوم القيامة؛ لأن هذا الذم في الحديث إنما هو لمن كثر منه اللعن، وكان اللعن عادته، وأما من سُمع منه ذلك مرة أو نحوها فإنه ليس داخلاً في هذه النصوص. وكذلك يخرج من هذه الأحاديث اللعنُ المباح، وهو الذي ورد الشرع به كقول الله تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وقول النبي عليه السلام: (لعن الله اليهود والنصارى)، أو كلعن النبي عليه الصلاة والسلام للواصلة، والواشمة، وشارب الخمر، وآكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، ولعنه للمصورين، ومن انتمى إلى غير أبيه، أو تولى غيّر مواليه، ومن غير منار الأرض، وغير هؤلاء ممن هو مذكور في الأحاديث الصحيحة.

الأسباب المكفرة للذنوب

الأسباب المكفرة للذنوب من المعلوم أن باب التوبة مفتوح، والتوبة لها أجلان، أجل في حق عمر كل إنسان، وأجل في حق عمر الدنيا كلها، ففيما يتعلق بحق كل عبد تقبل توبته ما لم يغرغر؛ لقول النبي عليه الصلاة السلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، يعني: مالم يحضره الموت. وأما بالنسبة لعمر الدنيا فباب التوبة مفتوح مالم تطلع الشمس من مغربها. فهذا الإنسان الذي ارتكب الكفر، أو المعاصي التي تستوجب اللعن هو يستحق بنص هذه الآيات والأحاديث الوعيد المذكور فيها، لكن لا يعيَّن هذا الشخص كما قلنا، فالشخص المعين -وكلامنا الآن في حق المسلم العاصي الذي فعل شيئاً من الكبائر التي تستوجب اللعنة- لا يلعن باسمه، فلا تقل للمرأة التي تنمصت: لعن الله فلانة بنت فلانة باسمها، أو هذه ملعونة؛ لأنها متنمصة مثلاً، لكننا في مقام الزجر وفي مقام الدعوة والخطابة نستعمل النصوص بعمومها فنقول: لعن الله تارك الصلاة، ولعن الله النامصة، ولعن الله المتبرجة، وأما نفس الشخص فلا يحكم عليه باللعن؛ لأنه لا بد له من توفر الأسباب والشروط وانتفاء الموانع، فالشخص المعين الذي ارتكب شيئاً مما توعد عليه باللعن يمكن أن يكون مجتهداً في هذا، فهو قد فعل هذا لكنه غير متعمِّد، فقد اجتهد فأخطأ مثلاً، فيغفر له اجتهاده، وقد يكون ممن لم تبلغه الأدلة أو النصوص التي تحرم هذا الفعل، فيعذر بجهله، وقد يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله سبحانه وتعالى مع قبح الفعل الذي فعل، كما غفر الله سبحانه وتعالى للرجل الذي قال: (إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، فغفر الله له)؛ لخشيته منه، فقد كان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك، ومع ذلك غفر الله له مع شناعة هذا الاعتقاد الكفري. إذاً: فالنسبة لما يتعلق بالآخرة ينبغي أن نتوقف في حق المعين، فأمر الآخرة موكول إلى الله سبحانه وتعالى، لكن هل يمنعنا ذلك من إجراء الأحكام الظاهرة عليه في الدنيا؟ لا، فحتى الكافر إذا قلنا: إننا لا نقطع له بجنة ولا بنار مثلاً فهل معنى ذلك أننا لا نجري عليه أحكام الدنيا؟ لا، فهذا فقط في الآخرة، وأما في الدنيا فيعامل الناس بما يظهرونه، فيعامل معاملة الكافر. وكذلك الرجل المبتدع، فإننا لا ندري حاله مع الله سبحانه وتعالى: هل له حسنات ستكفر عنه إثم هذه البدعة؟ وهل هو جاهل؟ وهل هو مجتهد مخطئ مثلاً؟ فالتوقف في أمر الآخرة لا ينبغي أن يمنعنا من أن نعاقبه في الدنيا؛ لنمنع بدعته وأن نستتيبه، وقد يكون القول في نفسه كفراً، لكن الشخص الذي قاله لا يقطع بتكفيره كما قلنا مراراً، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً. وقد صنف الله سبحانه وتعالى الخلق في كتابه ثلاثة أصناف: كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادة، وصنف هم المؤمنون باطناً وظاهراً، وصنف أقروا ظاهراً لا باطناً، وهم المنافقون والزنادقة. فهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين، فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق. فقد يظهر الشخص الشهادتين ومع ذلك يكون كافراً؛ لأنه يظهر الإسلام في الظاهر وهو يبطن الكفر، فهذا صنف من أصناف الكفار. وقد يقترف الشخص كبيرة تستوجب اللعن، لكن قد يقترن بهذه الكبيرة من الحياء من الله سبحانه وتعالى والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، فهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، فالفعل واحد لكن هناك أحوال قلبية تقترن به هي التي إما أن تصعد به إلى مقام الكبيرة، وإما أن تنزل بالكبيرة إلى مقام الصغيرة، وهذا أيضاً مما لا سبيل إلى الإطلاع إليه. وكذلك قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فالشخص الذي عمل أعمالاً حسنة كثيرة جداً قد يعفى عنه إذا أخطأ أو ارتكب إثماً ما لا يعفى لغيره، ففاعل السيئات قد تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة؛ لذلك نقول: لا تقل: أنتِ ملعونة لأنك متبرجة، لكن يجوز أن يقال لها: لعن الله المتبرجة، بصيغة عامة هكذا؛ لأنك لا تعلم عاقبتها وخاتمتها، ولا تدري حالها مع الله سبحانه وتعالى، ولا تدري ما في قلبها مما يقترن بهذه المعصية من الأحوال القلبية التي أشرنا إليها. فإن الإنسان حتى لو ارتكب السيئة فإنه ظاهراً يستحق عذاب جهنم، لكن لا يشترط في ثبوت الوعيد لمن فعل كذا أن يتحقق هذا الوعيد لذلك الشخص، بل قد توجد أسباب تسقط عنه عقوبة جهنم منها مثلاً: التوبة، فالتوبة قد تكون بينه وبين الله ولا يحس بها الخلق، وكذلك الاستغفار، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. فربما كان يستغفر من هذا الذنب. وكذلك من هذه الأسباب الماحية: الحسنات، أي: أن يعمل أعمالاً صالحة بعد ارتكابه للمعصية، فمجرد الاستقامة تمحو السيئات الماضية، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). وكذلك المصائب الدنيوية، كأن يبتلى هذا الشخص بمصائب تكفر عنه وتحط عنه وزر المعصية التي ارتكبها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه). إذاً: فالمصائب الدنيوية من كفارات الخطايا، إذا صبر عليها. ومن هذه الأسباب أيضاً: أن يعذب الإنسان في القبر بقدر يستوفي ما عليه من هذه المعصية، فلا يعاقب عليها في نار جهنم في الآخرة. ومن هذه الأسباب التي تسقط العقوبة عن العبد حتى وإن استحق جهنم بسبب الذنب: دعاء المؤمنين واستغفارهم له في الحياة وبعد الممات، فقد يستغفر له إخوانه في الله، أو أولاده، أو أقرباؤه، أو الناس الصالحون ويدعون له فيستجاب دعاؤهم، يسقط عنه استحقاق العقوبة، مع أنه داخل تحت هذا الوعيد، لكن عفا الله عنه بسبب استغفار المؤمنين له. وكذلك من هذه الأسباب: ما يُهدى إليه بعد الموت من أعمال صالحة، كأن يتصدق عنه، أو يحج عنه ويعتمر، فهذا يصله ثوابه في القبر، وربما كان سبباً في تكفير ما استحق من العذاب في جهنم. ومن المكفرات أيضاً: معاناة أهوال يوم القيامة وشدائده، فالأهوال التي تكون يوم القيامة هي في حد ذاتها مكفِّرة، فربما أيضاً تسقط عنه العقوبة في جهنم بسبب معاناة مشاق يوم القيامة وشدائده. ومن أسباب سقوط عقوبة جهنم أيضاً: ما ثبت في الصحيحين من أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض في مظالم يبنهم في الدنيا لم تستوف، ففي هذه الحالة بعدما يجوزون على الصراط لا يمكن أن يدخل الجنة أبداً مؤمنان وبينهما ضغينة، فالجنة لا يدخلها أحد أبداً وفي قلبه ضغينة كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، وليس هناك غلّ على الإطلاق، ولذلك جاء في الحديث في وصف أهل الجنة: (قلوبهم على قلب رجل واحد)، فهم إخوة متحابون فلا هناك ضغائن ولا تحاسد ولا أحقاد على الإطلاق، وما كان بينهم من مظالم في الدنيا فإنهم يحبسون بسببها بعد المرور على الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، (فإذا هذبوا ونقّوا أذن لهم في دخول الجنة)، وذلك مصداق قول الله تعالى: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] فـ (طبتم) من التطييب والتطهير، فيقتص منهم أولاً قبل الدخول إلى الجنة؛ حتى يدخلوا مهذبين منقين من كل ما لا يُرتضى. ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)، فهذا الوقوف على هذه القنطرة سبب من أسباب سقوط العقوبة. ومن أسباب سقوط عقوبة جهنم عن العاصي: شفاعة الشافعين من الأنبياء وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو شفاعة الصالحين من المؤمنين، أو شفاعة الملائكة. وكذلك من أعظم أسباب سقوط عذاب جهنم عن العاصي: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، فرحمة الله سبحانه وتعالى هي أعظم أمل للعصاة والمذنبين، فيرحم الله سبحانه وتعالى العبد بمشيئته وفضله تكرماً منه بغير شفاعة ولا سبب من هذه الأسباب التي ذكرنا. إذاً: فهذه جملة من الأشياء تدل على أنه قد يسقط عن فاعل السيئات عقوبة جهنم، وقد عُرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة.

تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)

تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) قال الله تبارك وتعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قال الله لعباده المؤمنين: ((فَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا عن الأعداء، ((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) أي: المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم، وكثرة عددكم وعددكم. إذاًً: فـ ابن كثير رحمه الله تعالى يذهب إلى أن موضع هذه الآية هو حال القوة، ومفهوم هذا أنه يجوز ذلك إذا كنتم في حال تسوغ لكم ذلك، والواو في قوله: ((وأنتم)) حالية، أي: في حال علوكم على عدوكم. يقول ابن كثير: فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك. انتهى كلام الحافظ ابن كثير. وقال الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم: (إلى السَلم) بفتح السين، وأما حمزة وشعبة فقد قرأها: (إلى السِّلم) بكسر السين. وقوله تعالى: ((فَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:146]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:18] أي: مضعف كيدهم. وقول زهير بن أبي سلمى: وأخلفْتك ابنة البكري ما وعدتْ فأصبح الحبل منها واهناً خَلِقا أي: ضعيفاً. وقوله تعالى: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) جملة حالية، أي: فلا تضعفوا عن قتال الكفار حال كونكم عالين عليهم. قوله: ((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) أي: لا تبدءوا بطلب السلم، وهو الصلح والمهادنة، ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) أي: والحال أنكم أنتم الأعلون، أي: الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، فإنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون. وهذا التفسير في قوله: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) هو الصواب، وتدل عليه آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى بعده: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ))، فمن كان الله معه وهو الأعلى الغالب والقاهر والمنصور والموعود بالثواب، فهو جدير بألا يضعف عن مقاومة الكفار، ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة. وكقوله تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173]، وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] * {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15]. ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى: ((وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ))، فقد فسر: الشنقيطي رحمه الله تعالى قوله تعالى: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) بقوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]. وقوله عز وجل: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) أي: من النصر الذي وعدكم الله به، والغلبة، وجزيل الثواب؛ لأنكم مؤمنون. وذلك كقوله هنا: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ))، وقوله: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ)) أي: بالنصر والإعانة والثواب. ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى. أي: أن بعض العلماء ذهب إلى أن هناك تعارضاً بين هذه الآية: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ))، وقوله في سورة الأنفال: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)). فيقول الشنقيطي: ليس هناك تعارض بينهما، حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان. فكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليها الأخرى، فالنهي في آية القتال -أي: هنا في سورة محمد صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) هو نهي عن الابتداء بطلب السلم. وأما الأمر بالجنوح إلى السلم في قوله: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)) فمحله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها كما هو صريح في قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]. يقول: وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن المعنى: لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون، أي: في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد. أي: وأما إذا كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم -أي: الصلح والمهادنة-، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي: السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جُرَعُ قوله تعالى: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ))، ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ)) أي: فلن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، أي: لا ينقصكم من ثوابها شيئاً، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وقوله هنا: ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ))، أصله من الوتر: وهو الفرد، فأصل قوله: ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ)) أي: لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم، بل يوفيكم ثوابها كاملاً.

بعض الآيات التي ذكرت فيها كلمة: (السلم)

بعض الآيات التي ذكرت فيها كلمة: (السلم) وهنا سنلقي الضوء على بعض الآيات المناسبة التي ذكرت فيها كلمة: (السلم) كقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:208 - 209]. قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً))، السلم هنا معناه: الإسلام، فالله سبحانه وتعالى لما بيَّن وميَّز الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق قال: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام، واثبتوا عليه. فالسلم هنا بمعنى الإسلام، كما قاله مجاهد ورواه أبو مالك عن ابن عباس، ومنه قول الشاعر الكندي: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهمُ تولوا مدبرينَ أي: دعوت عشيرتي إلى الإسلام لما ارتدت كندة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسعد بن قيس الكندي. فلم يؤمر المؤمنون قط بالدخول في المسالمة التي هي الصلح، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها، وأما أن يبتدئ بها فلا، وهذا كلام شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تعالى. وقيل: المقصود بالآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) بأفواههم ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) أي: ادخلوا في الإسلام بقلوبكم. وقال طاوس ومجاهد: ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) أي: في أمر الدين. وقال سفيان الثوري: في أنواع البر كلها. وقال ابن كثير: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به المصدقين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا إلى ذلك. فيكون معنى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) أي: في جميع أحكام الإسلام الظاهرة والباطنة. وأما الآية الأخرى فهي قوله في سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، وقد سبق أن بيّنّا أن الجمع بينها وبين الآية في سورة القتال: بأن آية الأنفال تحمل في حالة ما إذا بدأ الكافرون بالجنوح إلى السلم، لكن لا شك أن المسلمين إذا كان لهم مصلحة في الرجوع إلى السلم لنفع يجتنبونه، أو ضر يدفعونه فلا بأس أن يبتدئ به المسلمون إذا احتاجوا إليه، وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم، وصالح الضمريَّ وأكيدر دومة الجندل وأهل نجران، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده، وما زال الخلفاء والصحابة على هذا السبيل سالكون، وبهذا الهدي عاملون. قال القشيري: إذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة، وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا سبيل لمهادنة المشركين أكثر من عشر سنين على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة؛ لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث وإلى غير مدة. وقال المهلب: ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، وهذا مأخوذ من موادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان، ويخذلا قريشاً، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه مراوغة ومخادعة ولم تكن عقداً، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلا ذلك قبل أن يعقد عقداً استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: (يا رسول الله! هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أم شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: بل أمر أصنعه لكم؛ فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! والله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قِرىً، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله! لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنتم وذاك، وقال لـ عيينة والحارث: انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف، وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها).

معنى المعية المذكورة في قوله تعالى: (والله معكم)

معنى المعية المذكورة في قوله تعالى: (والله معكم) قوله: تبارك وتعالى: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ)). والمعية هنا معية خاصة؛ لأن الخطاب هنا للمؤمنين. وقد جاءت النصوص في القرآن الكريم تثبت أن معية الله سبحانه وتعالى لعباده نوعان: النوع الأول: معية الله الخاصة بالمتقين المحسنين، قال عز وجل هنا في هذه الآية: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. وقال تعالى: ((لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)). وقال تعالى: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]. وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) [الأنفال:12]. وقوله عز وجل: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. النوع الثاني: المعية العامة لجميع الخلق، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. وقال عز وجل: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وقال: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، أي: بل نحن معهم. وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61]. إذاً: فهناك آيات فيها إثبات المعية الخاصة، وهناك آيات فيها إثبات المعية العامة، ووجه الجمع بينهما: أن المعية الخاصة تكون بالنصر والتأييد والإعانة، وهذه خاصة بالمتقين المحسنين، كما قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وما سبق من الآيات المذكورة. وأما المعية العامة فهي لجميع الخلق بالإحاطة والعلم، فهو تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ولله المثل الأعلى، وهذه المعية عامة لكل الخلائق، كما دلت عليه الآيات المتقدمة. وقال الله تبارك وتعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، وهذا يدل على أنه تعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على جميع خلقه. وقال أيضاً: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، وليس بين هاتين الآيتين اختلاف ولا تضاد، فالله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه استواءً لائقاً بكماله وجلاله بلا تكييف ولا تشبيه، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل، فهو محيط بجميع الخلائق بالعلم التام، ونفوذ القدرة. إذاً: لا منافاة بين علوه على عرشه، ومعيته لجميع الخلائق، ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل -وهي أصغر الحبوب على الإطلاق- فإنه لا يكون داخلاً في شيء من أجزاء هذه الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها، فالسماوات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، ولله المثل الأعلى، سبحانه وتعالى علواً كبيراً. فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده، مع أنه مستوٍ على عرشه، ولا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.

شبه المنحرفين في تأويل آيات إثبات المعية والرد عليهم

شبه المنحرفين في تأويل آيات إثبات المعية والرد عليهم يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى راداً على من يئولون هذا: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حُمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، يعني: نحن متبعون لا مبتدعون، فلا تسموا هذا تأويلاً، إنما نحن تَبَع للسلف، فما قال السلف قلنا به. فورد عن علماء الصحابة والتابعين أنهم قالوا في مثل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، أما ما يقوله بعض الناس: إن الله موجود في كل الوجود! فهذا حلول، وبعضهم يقول: إن الله موجود في كل مكان، فهو في كل مكان بعلمه، فلا يغيب عنه شيء من خلقه. وأما اعتقاد أهل السنة فهو أن الله سبحانه وتعالى مباين لخلقه، منفصل عنهم لا يمتزج بهم، ولا يحل في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن الآيات التي استدل بها المنحرفون عن عقيدة السلف في هذا: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. فقالوا: هذه تدل على ذلك. ف A أن هذه الآية فيها قولان للناس: أحدهما: أنه قربه بعلمه، ولهذا قرنه بعلمه بوسوسة نفس الإنسان، والدليل على هذا التفسير قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] إذاً: فهو أقرب إليه بالعلم والمراقبة والمشاهدة. وحبل الوريد هو حبل العنق، وهو: عرق بين الحلقوم والودجين -اللذين متى قطعا مات صاحبه- وأجزاء القلب، وهذا الحبل يحجب بعضه بعضاً، وعلم الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء. والقول الثاني: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، أي: قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه، فيكون بذلك أقرب إليه من ذلك العرق. وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول ابن القيم: وسمعته يقول: هذا مثل قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] مع أن الذي كان يقص على النبي عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام. وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، فإن جبريل عليه السلام هو الذي قصه عليه بأمر الله، فنسب تعليمه إليه؛ لأنه بأمر الله، والناس الآن يقولون مثلاً: محافظ الإسكندرية بنى (الكورنيش) مع أنه لم ينبه بنفسه، ولكنه هو الذي أمر. ويقال: فعل الأمير كذا، أو أسس كذا، وليس معناه أنه هو الذي يقوم بذلك لكن هناك أسباباً تلي ذلك، وإنما ينسب ذلك إليه لأنه تم بأمره، ولله المثل الأعلى، فكذلك هنا: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، أي: إذا قرأه رسولنا جبريل عليه السلام فأنصت إلى قراءته، هكذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: فإذا قرأه رسولنا فأنصت إلى قراءته حتى يقضيها. وإن كان أول الآية كما يقول ابن القيم يأبى ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)). قال: وكذلك خلقه للإنسان إنما هو بالأسباب وتخليق الملائكة، كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه في تخليق النطفة، يقول: (فيقول الملك الذي يخلقه: يا رب! ذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك). إذاً: فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، ولا ينافي ذلك استعمال الملائكة بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق، فإن أفعالهم وتخليقهم هو خلق لله سبحانه وتعالى، فما ثَم خالق على الحقيقة غيره سبحانه وتعالى. كما نلاحظ أن عامة الآيات التي فيها إثبات الاستواء على العرش يقترن بها إثبات صفة العلم، وهذا يدل على إحاطة الله سبحانه وتعالى؛ لعلمه بكل شيء، وهذه إشارة إلى أنه مع الخلق بعلمه وإن كان مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله، فيقول الله تبارك وتعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: بعلمه، لأن التي قبلها: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2]، ثم قال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، يعني: بعلمه تبارك وتعالى.

كلام ابن تيمية رحمه الله في المعية الواردة في الآيات

كلام ابن تيمية رحمه الله في المعية الواردة في الآيات يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه. وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره: أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه. وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية). ولفظ المعية جاء في كتاب الله عاماً كما في هاتين الآيتين -يعني: آية الحديد وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، وآية المجادلة التي قوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ))، إلى آخر الآية-، وجاء خاصاً كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقوله: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)). فلو كان المراد: بذاته مع كل شيء إذاً لم يبق له مزية، يعني: إذا كانت المعية بالذات مع كل المخلوقات فلا تكون فيه مواساة كما في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فسيرد عليه أبو بكر بقوله: وهو أيضاً مع غيرنا كما هو معنا!! فلا يستقيم معنى ذلك إلا بحمل الآية على المعية الخاصة، أي: بالنصر والتأييد. يقول ابن تيمية: فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار. وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فخصهم بذلك دون الظالمين والفجار، وأيضاً فلفظ المعية ليست في لغة العرب، ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى. وكلمة (المعية) في لغة العرب وفي القرآن الكريم لا تقتضي الامتزاج، فإنك تقول: سرت مع القمر، مع أنك لم تمتزج بالقمر، وإنما تمشي مسايراً، وترسل لابنك في أطراف الأرض رسالة وتقول له: أنا معك، مع أن ذلك لا يدل على الامتزاج. فلا يراد بالمعية اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]، فلا يفهم من ذلك أنهم امتزجوا معه. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال:75]، ومثل هذا كثير. فامتنع أن يكون قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ)) يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق، فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم. إذاً: فلفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فالمعية العامة تعني إن الله مع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، والمعية الخاصة خُصَّ بعض الخلق بها، ففي هذه الحالة نفهم المعية على أنها معية بالإعانة والنصر والتأييد والتثبيت. وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب (ذم التأويل): فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً. أي: أن الأشاعرة وغيرهم يهاجمون أهل السنة والسلفيين ويقولون لهم: أنتم تحرمون علينا التأويل وتبيحونه لأنفسكم، فها أنتم الآن تئولون هذه الآيات ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) وتقولون يعني: معكم بعلمه. فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ)) أي: بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما يلزمنا. قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه الأخبار على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأذهان منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه. فالمتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني: بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال تعالى فيما أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقال لموسى: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له، فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه ولم يكن تأويلاً، وإنما هو المعنى الراجح من ظاهر الألفاظ، فيحمل في كل موطن على ما يليق به. ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت ثوابهم، ووجب اتباعهم هم الذين تأولوا، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ)): أي: علمه، ثم قد ثبت في كتاب الله والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه. وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7]، ثم قال في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فبدأها بالعلم وختمها به، وسياقها هو لتخويفهم بعلم الله سبحانه وتعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليها، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفقت فيها هذه القرائن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟! وحكى ابن عبد البر كما ذكرنا الاتفاق عليه، ودلت الأخبار أيضاً والقرائن في الآيات على هذا المعنى، فكيف تلحقون بما هذا شأنه ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى. ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يحرَّج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.

محمد [36 - 38]

تفسير سورة محمد [36 - 38]

تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو)

تفسير قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) قال الله تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:36 - 37]. قوله تعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) وقال تعالى أيضاً: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32]، أي: لقصر مدتها، كما قال الشاعر: ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم وقيل: معناه: أن متاع الحياة الدنيا لعب ولهو، فالذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له فهو بمنزلة اللعب واللهو، فمثلاً: ترى الأطفال يجتمعون على اللعب بالرمل أو الدمى أو غيرها، ثم ينفض هذا اللعب وينصرفون عنه كأنه لم يكن، فكذلك الدنيا. وقيل: معنى: (لعب ولهو) أي: باطل وغرور، واللعب ما لا ينتفع به، واللهو ما يلتهى به، وكل ما شغلك فقد ألهاك. وقيل: اللعب: ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها. إلا أنه ينبغي أن يفهم من قوله تعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) أي: ما كان منها متمحضاً للدنيا، فليس من اللعب ولا من اللهو ما كان من أمور الآخرة؛ لأن حقيقة اللعب هو ما لا ينتفع به، ولا يترتب عليه نفع، واللهو هو: ما يلتهى به. أما ما كان مراداً للآخرة فهو خارج عن اللعب واللهو، ولذلك قال الشاعر: لا تتبع الدنيا وأيامها ذماً وإن دارت بك الدائرة من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة فالدنيا هي المزرعة التي يزرع المؤمن فيها ليحصد في الآخرة، فليس كل أمر الدنيا مذموماً، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً ومتعلماً)، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيهم. وروي أيضاً: (من هوان الدنيا على الله: ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). ويقول الشاعر: تسمع من الأيام إن كنت حازماً فإنك منها بين ناهٍ وآمر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر فما رضي الدنيا ثواباً لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاءً لكافر وقال ابن عباس في قوله: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) هذه حياة الكافر؛ لأنه يكون فيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهواً ولا لعباً. يقول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] أي: تغر المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء، وهي فانية. والمتاع: هو ما يتنفع به كالفأس والقدر والقصعة، ثم يزول ولا يبقى ملكه. قال الحسن في قوله: (إلا متاع الغرور) أي: كخضرة النبات، ولعب البنات، لا حاصل له. أي: أن النبات يزدهر فيصير أخضر، ثم يصير في النهاية حطاماً، أو كلعب البنات فإنه لا حاصل له. وقال قتادة: هي متاع توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. قوله: ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))، الغرور هو الشيطان، فهو يغر الناس بالأماني والمواعيد الكاذبة. وقال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول، يقال: هذا من بيع الغرر، وهو: ما كان له ظاهر بيع يغر، وباطن مجهول. وقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، فوصف متاع الدنيا بأنه قليل؛ لأنه لا بقاء له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها). وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38]، وهذا الاستفهام (ما لكم) استفهام توبيخ، وقوله: (من الآخرة) أي: أرضيتم بنعم الدنيا بدلاً من نعيم الآخرة؟!! فـ (من) هنا تتضمن معنى البدل، ((أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ)) أي: بدل الآخرة، وهذا كقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف:60] أي: (لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون). فعاتبهم الله سبحانه وتعالى على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله تعالى عنها وقد فاقت راشدة: (أجرك على قد نصبك)، أي: رواه البخاري على قدر المشقة التي تعانينها.

الآيات الدالة على ذم الدنيا وحقارتها

الآيات الدالة على ذم الدنيا وحقارتها

قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض)

قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8]، وقال عز وجل: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:24 - 25]. ((إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها، (كماء) أي: كمثل ماء، ((أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ)) أي: اختلط بالماء نبات الأرض، فأخرجت ألواناً من النبات، أو اختلط النبات بالمطر، أي: شرب منه، فتندى وحسن واخضر، والاختلاط هو تداخل الشيء بعضه في بعض. ((فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ)) أي: مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، ومما تأكله الأنعام من الكلأ والتبن والشعير. (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) أي: حسنها وزينتها، فالزخرف هو كمال حسن الشيء، ومنه قيل للذهب زخرف. (وظن أهلها) أي: أيقن أهلها (أنهم قادرون عليها)، أي: على حصادها والانتفاع بها. (أتاها أمرنا) أي: عذابنا، أو أمرنا بإهلاكها. (ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً) أي: محصودة مقطوعة لا شيء فيها. (كأن لم تغن بالأمس) أي: كأن لم تكن عامرة، والمغاني في اللغة هي المنازل التي يعمرها الناس. ولما ذكر الله سبحانه وتعالى وصف هذه الدار -وهي دار الدنيا- وصف الدار الآخرة فقال: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي أنه لا يرضى لكم الدنيا التي هذه صفتها وطناً، وإنما يدعوكم إلى دار السلام، فهو سبحانه لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة؛ لتصيروا إلى دار السلام، وهي الجنة. ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: بالدعوة، إظهاراً للحجة وعدلاً منه تبارك وتعالى، فتأملوا هذا، فبعدما ذم الدنيا وبين حقارتها قال سبحانه وتعالى: ((وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: يدعوا كل الخلق، بدليل أنه أغفل ذكر المفعول به، لم يقل: (والله يدعوكم)، وإنما قال: (والله يدعو)، أي: جميع الناس إلى دار السلام، للدخول في الإسلام وطاعة الله سبحانه وتعالى. ثم قال: ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، فخصّ هنا في الهداية من يشاء هدايته، وعم أولاً بالدعوة؛ إظهاراً للحجة، وعدلاً منه سبحانه وتعالى أن الجميع مدعوون إلى الدخول في الإسلام والعمل الصالح؛ لأجل أن يستحقوا دخول الجنة، ثم خص بالهداية؛ استغناءً عن خلقه، ورحمة منه وتفضلاً، وهذه الآية حجة على القدرية الذين قالوا: لقد هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، أما الله سبحانه وتعالى فيقول: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]). وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:69 - 70]، أي: أن هذا أقصى ما ينالونه في الدنيا، فإنهم يتمتعون فيها متاعاً مؤقتاً، ((ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)). وقال عز وجل أيضاً: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد:26] أي: في جانب الآخرة (إلا متاع) أي: متاع من الأمتعة، والمتاع هو الشيء القليل الذاهب، وهو مأخوذ من قولك: متَع النهار، أي: ارتفع، وإذا ارتفع النهار فلابد له من زوال ونهاية. وقال ابن عباس في تفسير: قوله (إلا متاع) أي: زاد كزاد الراعي، وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، والزينة هي كل ما على وجه الأرض، فهو عموم من جهة خلقه وصنعه وإحكامه، فهذه الآية بسط في التسلية في مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لا تهتم يا محمد! للدنيا وأهلها، فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ويوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنّ عليك كفرهم، فإنا سنجازيهم. ومعنى هذه الآية: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قيل: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض) أخرجه مسلم، والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرها كالثمر المستحلى، المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملاً، أي: من يكون أزهد فيها، وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغض ما زينه الله إلا أن يعينهم الله على ذلك، ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري: اللهم! إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فهذا هو المهم، أن يغنيك الله على إنفاق هذا المال في حقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع)، أي: أن المكثر من الدنيا كالذي يشرب من ماء البحر، فكلما شرب ازداد عطشاً، أما القانع الذي يقنع بما قسم الله سبحانه وتعالى له فإنه يبارك له في ذلك. فالمكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها، بل همته جمعها؛ لأنه لم يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفتنة حاصلة معها، وعدم السلامة غالبةعليها، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية: كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]: أحسن العمل: أخْذ بحق، وإنفاق في حق، مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه. قال القرطبي: وهذا قول حسن وجيز في ألفاظه، بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد، وهو قوله لـ سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم. وقال سفيان الثوري: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: أيكم أزهد فيها. وقال العسقلاني: (أحسن عملاً) أي: أترك لها.

قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)

قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]. ((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أي: قس لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين، ((مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ))، فشبه الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، وكذلك الدنيا لا تبقى على حال واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، وكذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى بل يذهب، وكذلك الدنيا تذهب، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، وكذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، كذلك الدنيا، فالفكاك منها ينفع، وقبولها يضر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه). وقال تبارك وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، وذلك أن في المال جمالاً ونفعاً، وفي البنين قوة ودفعاً، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة الدنيا المحتقرة، فلا تتبعوها نفوسكم. إذاً: فهذه الآية في الحقيقة هي رد على من افتخر بالغَناء والترف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فإنه يمر ولا يبقى، كالهشيم حين تذروه الرياح، وإنما يبقى ما كان من زاد القبر وعُدد الآخرة، ولذلك قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] أي: التي عرفتم صفتها، فلا ينبغي لأحد أن يتفاخر بهما. {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46] أي: والباقيات الصالحات أفضل عند ربك ثواباً وخير أملاً، أي: أفضل أملاً من الافتخار بالمال والبنين دون عمل صالح. وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]. وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. وقد جاء اللعب مقدماً على اللهو في أربعة مواضع من القرآن الكريم، وقد نظمت في بيتين وهما: إذا أتى لعب ولهو وكم من موضع هو في القرآن فحرف في الحديث وفي القتال وفي الأنعام منها موضعان

الأحاديث الواردة عن النبي في ذم الدنيا

الأحاديث الواردة عن النبي في ذم الدنيا وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذم الدنيا، ودعا إلى الاعتبار بسرعة زوالها، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أُحبّ المساكين؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم أحيني مسكيناً! وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، والمساكين هم: أهل السكينة والتواضع، وذلك لأن الفقير أرق قلباً، وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والمسكنة مأخوذة من السكون، فهو إذا لم يستطع كسباً، أو لم يجد مالاً فإنه يسكن ويقعد. فقوله: (اللهم! أحيني مسكيناً) ليس فيه دعاء بالفقر؛ لأن الفقر إذا وقع فإنه بلاء، وقد قرنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكفر في أذكار الصباح والمساء فقال: (اللهم! إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، إذاً: فليس هذا الدعاء دعاءً بالفقر وهو بلاء، وإنما هو دعاء بأخلاق المساكين من الخشوع والسكينة والتواضع، (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين). عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزحه وملحه قد علم إلى ما يصير)، فهذا مثل من أمثلة الدنيا، فالطعام الذي يخرج من ابن آدم بعدما يمتص ويهضم يصير فضلات لها شكل قبيح، ورائحة نتنة، فانظر إلى عاقبتها، ولا تغتر بمظهرها، وإن قزحها وملحها ووضع عليها التوابل والمشهيات. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له). فمن كانت الآخرة همه، وجعل الهموم هماً واحداً فإن هذا يترتب عليه هذا الكسب العظيم، فيجمع الله شمله، وتلتئم أموره، وجعل غناه في قلبه، وهذا هو أعلى درجات الغنى: غنى القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس). ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إن الغنى العالي عن الشيء لا به فكل من استغنى بمال فهو فقير إلى هذا المال، وأما أعلى درجات الغنى فهي أن تستغني عن الشيء ولا يستعبدك؛ ولذلك جعل عاقبة من كانت الآخرة همه أن جعل غناه في قلبه؛ لأنه إذا اغتنى قلبه طمع ولم يتطلع إلى الدنيا، ومع ذلك من إيقاع القناعة في قلبه لا يحرم عليه الدنيا، بل تأتيه الدنيا وهي راغمة ذليلة، فهي التي تأتيه وليس هو الذي يجري وراءها، (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)، فهذه هي السعادة التي يبحث عنها الناس، ويضلون الطريق إليها حينما يعرضون عن الذكر والقرآن، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]. (ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)، ولم يأته من الدنيا التي يوغل في الجري واللهف وراءها إلا ما كتب له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله! لو اتخذت فراشاً ألين من هذا، فقال: مالي وللدنيا! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟! والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إذا أزاغه إلا هي، وايم والله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء). وعن محمود بن لبيد مرفوعاً: (اثنان يكرههما ابن آدم، يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب). وقال صلى الله عليه وسلم: (أجملوا في طلب الدنيا، فإن كلاً ميسر لما خلق له). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة). وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخلت عليّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها فبعثت إليَّ بفراش حشوه صوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقلت: فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: يا عائشة! رديه والله! لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة). وقد عرضت عليه صلى الله عليه وسلم مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها، وقال: (بل أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك)، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً). وقال أبو هريرة: (والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام شبعاً من خبز حنطة حتى فارق الدنيا). وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً، ولا شاة سميطاً حتى لحق بربه). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ تباعاً حتى قبض). وعن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم لا يجد دقلاً يملأ بطنه). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (والذي بعث محمداً بالحق! ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه، قال عروة: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار ونعجن الباقي). وفي مسند الحارث عن أبي أسامة عن أنس: (أن فاطمة رضي الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟! قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، فقال: أما إنه أول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاثة أيام). وعن جابر رضي الله عنه قال: (لما حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من الجوع)، قال ابن القيم: وقد أسرف أبو حاتم ابن حبان في تقاسيمه في رد هذا الحديث وبالغ في إنكاره، وقال: إن المصطفى أكرم على ربه من ذلك، أي: أنه رفض الحديث من جهة المعنى، وقال: إن فرد عليه ابن القيم قائلاً: وهذا من وهمه، وليس في هذا ما ينقص مرتبته عند ربه، فذلك رفعة له، وزيادة في كرامته صلى الله عليه وسلم، وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم، وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الأحاديث في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم، وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه، فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه إنه طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك، وسيرته سيرتهم، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونة عند يهودي على طعام أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه بلاد العرب، وجبيت إليه الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً، ولا ديناراً ولا شاة، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة، صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة! -هذا عروة - فعلى أي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين، التمر والماء). وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد)، فقد كان المؤمن الوحيد من هذه الأمة صلى الله عليه وسلم فقط حين بعث، فكان هو فرداً واحداً، قال: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال). وعن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً) يعني: جاء الصحابة يشكون إلى الرسول عليه السلام الجوع، فأتى كل واحد ووقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ورفع ثيابه فإذا به قد شد عن بطنه بحجر، وفائدة شد الحجر على البطن، وكذلك شد الأحزمة على البطون أن ذلك يقاوم الجوع؛ لأن الضغط على المعدة بالحجر يقلل من حجمها، ويقلل من الشعور بالجوع، فكان الصحابة من شدة الجوع يربطون على بطونهم حجراً، وهذه إحدى وسائل إيقاف الوزن الآن، فيضحكون على الناس ويجعلون لهم كتلة تضغط على مكان المعدة بحيث يقل حجم المعدة فلا يشعر الإنسان بالجوع، أو تقلل الإحساس بالجوع، فالمهم أن الصحابة شكوا بلسان الحال لا بلسان المقال، فيقول أبو طلحة: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين). فهذه جملة من الأحاديث التي فيها

الأمثلة المضروبة في ذم الدنيا وحقارتها

الأمثلة المضروبة في ذم الدنيا وحقارتها ومن الأمثلة التي تنبه الإنسان إلى حقيقة الدنيا ما قاله بعضهم، قال: للعبد ثلاثة أحوال: حالة لم يكن فيها شيئاً، وهي ما كان قبل أن يولد، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]. وحالة أخرى: وهي من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي في القبر، ثم البعث، ثم الخلود في إحدى الدارين، وكل واحد منا له تاريخ ميلاد وله تاريخ وفاة، فقبل أن يوجد في هذه الدنيا يحسب ما بقي من حين أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام، أو من حين أن الكون وإلى الآن كم مضى؟ فهذه أول حالة، وقد كنت فيها عدماً، ثم هناك حالة أخرى عند الطرف الآخر من الرحلة وهي: من خروج روحه إلى الحياة البرزخية في القبر، إلى البعث والنشور، ثم الخلود في إحدى الدارين. وهناك حالة متوسطة ما بين هاتين الحالتين وهي: أيام حياته، فانظر إلى مقدار زمانها ونسبتها إلى الحالتين، ولنفرض أن العمر مائة سنة مثلاً فلننظر إلى نسبة زمانها بالنسبة للحالتين، فإنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا، فتمر عليه ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها، وفي شدة وضيق أو في سعة ورفاهية، فالدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. مثال آخر: وهو أن شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت غايتها. كان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم، ودجاجهم، وعسلهم، وسمنهم. يعني: هذه هي النهاية. مثال ثالث: روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة -الصحراء المهلكة- لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءهم هذا إلا من قريب، قال: فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء! على ما أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء، ورياض خضر ما تجعلون لي؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله -أي: أعطوني العهود والمواثيق أنكم لا تعصوني إذا دللتكم على مكان فيه رياض خضراء وماء عذب وكذا وكذا-، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماءً ورياضاً خضراً، قال: فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء! الرحيل، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، ورياض ليست كرياضكم -يعني: هي أجمل وأبهى وأحلى-، قال: فقال جُلُّ القوم -وهم أكثرهم-: والله! ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش هو خير من هذا، قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئاً، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره! فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم، فبادرهم عدوهم فأصبحوا بين أسير وقتيل). فهذا أيضاً مثال من أمثلة الدنيا، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من نصيحة أمته. المثال الرابع: ما رواه المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: (كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشاة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ قالوا: ومِن هوانها ألقوها يا رسول الله! قال: فوالذي نفس محمد بيده! للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها). المثال الخامس: مثل الدنيا مثل إناء مملوء عسلاً، فرآه الذباب فأقبل نحوه، فبعض الذباب صعد على حافة الإناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار، وبعض الذباب الآخر حمله الترف على أن رمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه فلم يدعه الانغماس فيه أن يتهنأ به إلا قليلاً حتى هلك في وسطه. فكذلك الدنيا: إن وقف الإنسان على الحافة وأخذ المقدار الذي يحتاجه في حياته نجا، وأما إذا انغمس فيها فإنه يغرق، ولذلك يكثر إخواننا في جماعة التبليغ من ضرب الأمثلة الطيبة كقولهم: إن السفينة تمشي في الماء، فما دام أن الماء خارجاً عنها فإنها تستطيع أن تمشي وتسلم، وأما إذا دخل الماء فيها فإنها تغرق، فكذلك الدنيا. ومن الأمثلة أيضاً: ما رواه بعضهم أن رجلاً كان يمشي في صحراء، فوجد بئراً على طرفيه حبلان مثبتان، حبل من اليمين وحبل من الشمال، فتعلق بالحبلين ونزل ليشرب من هذا البئر، فلما توسط البئر وجد أمامه كوه أو فجوة في جدار البئر فيها عسل، وإذا به يمكث ليتناول هذا العسل، فإذا بفأرين من أعلى: فأر أبيض وفأر أسود، فأتى كل واحد منهما ليأكل طرف هذا الحبل وكل منهما في جهة، وإذا به ينظر في القاع فيرى وحوشاً وثعابين ونحوها، فهو في هذه الحالة يرى عمره، ويرى الحبل ينقرض في أعلى، ويرى العاقبة وأنه سيقع فريسة هذا التنين أو الوحش، ومع ذلك أخذ يتمادى في تناول هذا العسل، ويتلاهى عن المصير الذي ينتظره عما قريب. فهذا مثل الدنيا، قالوا: فالفأر الأسود هو الليل، والفأر الأبيض هو النهار، فهما يأكلان عمره، وهذا الحبل هو عمره، فالحبل الأيام، والليل والنهار يقربان عمره، فالإنسان في الحقيقة ينقص عمره بمرور السنوات، فقد سبق في المقادير أن هذا الإنسان يعيش فترة مسماه كتبها له، فكلما مر يوم اقترب من القبر أكثر، فالعد في الحقيقة هو تنازلي وليس تصاعدياً، فهو يفقد من عمره كل يوم يمر خلافاً للجهلة الذين يقولون: عقبى مائة سنة، ويهنوا الإنسان، وأنا إلى الآن أعجب: كيف أن الإنسان يحتفل بما يسمى عيد الميلاد؟ فهل هذا عيد يقتضي الفرحة أم يقتضي الحزن والخوف من الله سبحانه وتعالى؟! لقد صرت الآن أقرب إلى القبر، وعمرك محدود لا محالة لا يزيد وإنما ينقص. فكلما مرت سنة صرت أقرب إلى لقاء الله، فهذا اليوم المفروض أن يكون وقت عزاء وحزن وغم وهم إن لم تكن تستدرك هذه الأيام الماضية. فالإنسان يتلهى في الدنيا، وينهمك في تعاطي هذه الشهوات، والعمر يقرض من فوق وينتظره المصير تحت في العذاب، فهذا مثال من الأمثلة. مثال آخر: عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والجنادب يتقاحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها). فالرسول عليه الصلاة والسلام مهمته إنقاذكم من النار، فأنتم كمثل هذا الفراش الذي يجذب ناحية الضوء ولا يدرك أن فيه إحراقاً وهلاكاً، فهو يذب الفراش كي ينجو، والفراش -لقلة عقله- يندفع ويصر على أن يرمي نفسه في النار. فكذلك الناس يتهافتون ويلقون أنفسهم في النار بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن ينقذهم لكنهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم. فهذه هي صفة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فما جاء الشرع ليعكر على الناس حياتهم، ولا ليعقد لهم حياتهم، ولا ليثقل كاهلهم، وإنما أتى رحمة بهم بكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلا يريد الشرع إلا مصلحتنا، ولا يريد إلا نجاتنا وسعادتنا، ومن هلك فإنه هو الذي يصر على هذه الهلكة، ويرفض أن يستجيب لداعي الله عز وجل. فانظر إلى قول الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها)، أي: أنكم أنتم الذين تصرون على أن ترموا أنفسكم في النار، أما أنا فأحاول إنقاذكم وأنتم تتقاحمون، فتخيل منظراً كهذا: شخص يريد أن يرمي نفسه بالنار، وآخر يمنعه وهو يقاومه يقول: لا، اتركني أرمي نفسي، إلى أن يغلبه فعلاً ويقع رغماً عنه. فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يحاول انجاء شخص واحد، وإنما يحاول إنجاء ملايين البشر حين يدعوهم إلى التوحيد، وإلى الإسلام، وإلى النجاة من النار، وهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم. مثال آخر وهو المثال السابع: مثل الإنسان ومثل ماله وعمله وعشيرته، مثل رجل له ثلاثة إخوة، فقضي له سفر بعيد طويل لابد له منه، فدعا إخوته الثلاثة فقال: قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل، وأحوج ما كنت إليكم الآن، يعني: أن السفر طويل وبعيد وشاق فأريد أن تصحبوني في هذا السفر، فقال أحدهم: أنا كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا. فقال له: لن تغني عني شيئاً. فقال الأخ للآخر: ما عندك؟ فقال: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب. فقال له: أنا محتاج إلى مرافقتك في مسيري. فقال: لا سبيل لك إلى ذلك. فقال: لن تغني عني شيئاً. فقال للثالث: ما عندك أنت؟ قال: كنت صاحبك في صحتك ومرضك، وأنا صاحبك الآن، وصاحبك إذا ركبت راحلتك، وصاحبك في مسيرك، فإن سرت سرت معك، وإن نزلت نزلت معك، وإذا وصلت إلى بلدك كنت صاحبك فيها لا أفارقك أبداً. فقال: إن كنت لأهون الأصحاب إليّ، يعني: أنك كنت عندي أرخص من هؤلاء الأصحاب أو الإخوة، إن كنت لأهون الأصحاب إلي، وكنت أوثر عليك صاحبيك، فليتني عرفت حقك وآثرتك عليهما. فالأول: ماله. والثاني: أقاربه وعشيرته وأصحابه. والثالث: عمله. فالأول: ماله، الذي قال له: كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست لك بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا؛ لأن المال بمجرد خروج الروح لم يصبح ملكه، وإنما هو مال الورثة، فانقطعت الصلة. وأما الأخ الثاني الذي قال له: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب، وهذا ما يفعله الأهل والعشيرة عند خروج روح الإنسان وموته، فهم لا يتركونه، لكن يبقون معه فترة مؤقتة كي يسرعوا في التخلص منه، ويبقى أعز الناس عليه وأحبهم إليه يقول: إكرام

زهد السلف في الدنيا وتحذيرهم منها

زهد السلف في الدنيا وتحذيرهم منها قال علي رضي الله تعالى عنه في وصف الدنيا: أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن ساعاها -يعني: سابقها- فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر بها -أي: اعتبر- بصرته. وقال وهب بن منبه: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. وقال بعضهم: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً. ودخل أبو حازم على بشر بن مروان فقال: يا أبا حازم! ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تنظر ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه، قال: ومن يطيق هذا يا أبا حازم؟ قال: فمن أجل ذلك ملئت جهنم من الجنة والناس أجمعين. ودخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئاً يقعدون عليه، فقال: لو كانت الدنيا دار مقام لاتخذنا لها أثاثاً. وقيل لبعض الزهاد: ألا توصي؟ قال: بماذا أوصي؟! والله مالنا شيء، ولا لنا عند الله شيء، ولا لأحد عندنا شيء. وقال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالاً يلوي بيده ثوباً فقال: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكتسبه يوماً بيوم، فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه. وحفر الربيع بن خثيم في داره قبراً فكان إذا وجد في قلبه قسوة جاء فاضطجع في القبر فمكث فيه ما شاء الله، ثم يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، ثم يرد على نفسه فيقول: قد أرجعتك فجدي. وقال بعض السلف في يوم عيد وقد نظر إلى كثرة الناس وزينة لباسهم: هل ترون إلا خرقاً تبلى، أو لحماً يأكله الدود غداً. وقال الحسن: إن الموت قد فضح الدنيا، فلم يدع لذي لب فيها فرحاً. وعن الحسن أيضاً قال: يا ابن آدم! طأ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليل قبرك، وإنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك. لكن ينبغي أن نعرف أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها، أي: أنه ذم للدنيا لا ذم لليل والنهار المتعاقبين إلى يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكوراً. وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى أجزائها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن؛ لأن هذه من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، لما فيها من المنافع، والاعتبار، والاستدلال على وحدانية الصانع عز وجل، وإنما يقع ذم الدنيا على أفعال بني آدم في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، كما قال سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20]. وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر). إذاً: فهذا هو رأس مال الإنسان: الوقت، والزمن، والعمر، فلا يذم الدهر أو الزمن لذاته، وإنما يذم لأنه يشغل عن طلب الآخرة، فيمكن أن يستعمل في الخير، وأن يستعمل في الشر. إذاً: فينبغي أن نعرف ما هو الشيء الذي يتوجه إليه الذم. وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع غرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه. وقال يحيى بن معاذ: كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت، أكتسب بها حياة، وأدرك بها طاعة، وأنال بها الجنة؟! يعني: هل يمكن أن يصل أحد إلى الجنة إلا بالعمل الصالح في الدنيا، وإذاً: فالدنيا مزرعة لا تذم لذاتها وإنما تذم فيها أعمال بني آدم. وسئل أبو صفوان الرعيني: ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد الآخرة فليس منها. أي: ليس من الدنيا المذمومة. وقال الحسن: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها إلى الجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار. وقد قص الله سبحانه وتعالى لنا على لسان أهل العلم والإيمان في قصة قارون حينما نصحوه فقالوا له: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا). فقيل: هو العمل الصالح الذي تخرج به من الدنيا، فهو الذي ينفعك، فنصيب الإنسان من الدنيا في الحقيقة هو عمره وعمله الصالح، كما قال بعض السلف: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً وهذه العبارة المنسوبة إلى الحسن البصري رحمه الله، فقوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، أي: أن يتهالك في خدمة الدنيا وكأنه سوف يعيش إلى الأبد فيستمتع بالدنيا، وليس الأمر كما يفهمه بعض الناس، فلو كان أمامك عملان أحدهما إن فاتك غداً تستدركه بعد غد، أو بعد شهر، أو بعد سنة، أو بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، فهو عندك إلى الأبد ويمكن أن تعوضه، وفي نفس الوقت هناك عمل آخر إن فاتتك مادته فإنها تنتهي، فإنك تقدم العاجل، فأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً فسوّف في الدنيا، وأما في الآخرة فبادر. قوله: واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، يعني: قدم عمل الآخرة على عمل الدنيا، وهذا هو الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا))، أي: الذي ينفعك وهو العمل الصالح. والقول الآخر: إن قوله: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) نوع من الرفق مع الشخص الذي تدعوه؛ حتى تبين له أن الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والدخول في الدين لن يحرمه من الدنيا التي يحبها ما دام في المباح والحلال، فكأنه يقول: لن تحرم من متاع الدنيا ومن الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى، فلا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك. والتفسير الثالث: أن قوله: ((وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) وعظ مستقل، فلا تنس أن هذه الدنيا التي أنت غارق فيها أن الذي ستخرج به منها هو الكفن، كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن، كما قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط وقال آخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن يقول تبارك وتعالى: ((إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ))، قال شيخ المفسرين رحمه الله تبارك وتعالى: يقول تعالى ذكره حاضاً عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به، قاتلوا أيها المؤمنون! أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعوكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه، فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو يضمحل فيذهب، ويندرج فيمر، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه. قوله: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ))، أي: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها فلعب ولهو، فتؤمنوا به، وتتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطل بطول اللهو واللعب، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ)) هذا هو جواب الشرط، (يؤتكم أجوركم) أي: فهذا ليس من اللهو واللعب، بل يترتب عليه الأجر والثواب، فيعوضكم منه ما هو خير لكم منه يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم. قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يسألكم ربكم أموالكم، ولكنه يكلفكم توحيده، وخلع ما سواه من الأنداد، وإفراد الألوهية والطاعة له.

تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم)

تفسير قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) قال الله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]. قوله: (إن يسألكموها) أي: إن يسألكم ربكم أموالكم (فيحفكم) يعني: يذهبكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها منكم، (تبخلوا) أي: تمنعوها إياه ضناً منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها. قوله: (ويخرج أضغانكم) أي: ويخرج جل ثناؤه لو سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم. قال: قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان، أي: أن المال أكثر شيء يكشف ما في داخل الإنسان، والمال هو مادة مهمة جداً من مواد الامتحان، فأي شخصية تريد أن تحكم عليها فلاشك أن موقع المال في قلبه هو من الموازين الحساسة والدقيقة التي تصلح أن يكشف بها على أخلاق الإنسان، ولذلك قالوا: سميت الدنيا دنيا لأنها دنيئة، وسمي المال مالاً لأنه يميل بصاحبه. فهذا بيان لشدة تعلق الإنسان بالمال، ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: أنه هو الذي يعطيكم ولا يطلب منكم شيئاً. {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37]، أي: سيخرج هذا المال أو هذا السؤال أضغانكم وأحقادكم. وقال القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بناءً على أن الإضافة هنا تفيد العموم. قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) فالإضافة من صيغ العموم، ومن صيغ العموم أيضاً أسماء الشرط وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة، والجموع المعرفة تعريف الجنس، والجموع المضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفرد المحلى باللام، ولفظ كل، وجميع، ونحوها مثل: معشر، ومعاشر، وعامة، وكافة، وقاطبة. فالإضافة من صيغ العموم من غير فرق بين كون المضاف جمعاً كما تقول: عبيد زيد، أي: كل عبيد زيد، أو اسم جمع كما تقول: جاءني ركب المدينة، أو اسم جنس كما في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فهذه اسم جنس لكل النعم، أو كما في الحديث: (منعت العراق درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها وصاعها)، إلى آخر الحديث، فهي جاءت بصيغة المفرد؛ لكنها اسم جنس. الشاهد: أن من صيغ العموم الإضافة، فقوله هنا: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) يعني: لا يسألكم جميع أموالكم، هذا هو المنطوق، والمفهوم: وإنما يسألكم بعض أموالكم، ولكن لا يسألكم جميع أموالكم، وهذا البعض هو الزكاة، وعلى هذا الأساس فسر القرطبي قوله تعالى: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض وهو القليل منها فهو غيض من فيض. قول آخر: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، يعني: لا يسألكم أموالكم لنفسه، أو لحاجة منه سبحانه وتعالى إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم، فهو راجع إليكم في الحقيقة. وقيل: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، وإنما يسألكم أمواله؛ لأن هذا المال الذي في أيديكم هو مال الله، وهو الذي خولكم هذا المال، فحينما يكلفكم إنفاق هذا المال فهو ليس مالكم أنتم، وإنما هو مال الله الذي آتاكم، فلا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله؛ لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها. وقيل: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، أي: لا يسألكم محمد صلى الله عليه وسلم أجراً على تبليغ الرسالة كما في قوله تعالى: ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)) [الفرقان:57]. وقال صديق حسن خان: وإن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي (يؤتكم أجوركم) أي: جزاء ذلك في الآخرة، والأجر هو الثواب على الطاعة. وقال القاسمي: قال بعض المفسرين: أي: لا يسألكم جميع أموالكم، بل يقتصر منكم على جزء يسير كربع العشر، وعُشره، إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للعموم، وهو معطوف على الجزاء، والمعنى: إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع، أي: لا يأخذه منكم كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم، ولا يخفى حسن مقابلته لقوله: (يؤتكم أجوركم)، فهناك نوع من حسن المقابلة بين: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ)) أي: يعطكم كل الأجور، ويسألكم بعض المال. وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ))، هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]، إلى غير ذلك من الآيات. قوله: ((وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ))، في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها كما ذكرنا أن المعنى: ولا يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أموالكم أجراً على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ:47]، وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40]. وعقد العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في (أضواء البيان) في موضعين (2/ 17 - 220) و (7/ 189 إلى 192) بحثاً مفصلاً حول بيان أن جميع الرسل لا يأخذون أجراً على التبليغ، وناقش فيه مسألة أخذ الأجر على تعليم القرآن وبين عدم جواز ذلك، والبحث مفصل لكن نكتفي بهذا الذي ذكرنا. قوله: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ)) يعني: يلح عليكم، يقال: أحفى في المسألة، وألحف، وألح بمعنى واحد، والحفي المستقصي بسؤاله، كذلك الإحفاء الاستقصاء بالكلام والمنازعة، ومنه: أحفى شاربه، أي: استقصى في أخذه. قوله: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ)) أي: يضيق عليكم ويلح عليكم فالنتيجة: ((تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)) أي: يخرج البخل أضغانكم، أو: يخرج الله سبحانه وتعالى أضغانكم. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا وتخرج أضغانكم). وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ونخرج أضغانكم). وفي قراءة: (ويخرج أضغانكم)، يعني: على الاستئناف، وليست معطوفة على ما قبلها. والمشهور عن أبي عمرو: (ويخرج) كسائر القراء عطف على ما تقدم. قال صديق حسن خان رحمه الله: أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها، وتمتنعوا عن الامتثال، (ويخرج أضغانكم) يعني: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك، فالمال أكثر ما يكشف خبايا النفس، ولذلك فمن الأمور المهمة التي تستطيع أن تحكم بها على الإنسان أن تعامله معاملة مالية، فالمال هو الذي يكشف حقيقة الأخلاق والطباع، ويظهر شح النفس. قال قتادة: علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان، وهذا من حيث محبة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يخفيها. أي: أن المال محبوب للإنسان جداً، فإذا نوزع فيه طولب بإخراجه بصورة أو بأخرى فحينئذٍ يظهر هذا التعلق الذي كان مطوياً في قلبه للعيان. قال ابن كثير: وصدق قتادة فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. فلا يجود الإنسان ببذل المال إلا إذا كان متأكداً أن هذا الذي يصرف إليه المال أعز عليه من المال سواءً كان أخاً في الله، أو غير ذلك، أو كان ينفقه لوجه الله وهو موقن أن الثواب الذي عند الله أضعاف هذا المال الذي يخرجه.

تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله)

تفسير قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله) قال الله تبارك وتعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38] أي: هاأنتم يا هؤلاء المخاطبون الموصوفون (تدعون)، وهذه جملة مستأنفة مقررة ومؤكدة لما قبلها؛ لاتحاد محصل معناهما، (لتنفقوا في سبيل الله) أي: في الجهاد وفي طرق الخير، (فمنكم من يبخل) أي: بما يطلب منه، ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال فكيف لا يبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟! فإن كان يبخل بالقليل من المال وهو الزكاة مثلاً، أو حقوق الله عز وجل وهي قليلة، فكيف لا يبخل بالكثير؟ ومقابله: ومنكم من يجود، فتأملوا هذا: (فمنكم من يبخل) و (منكم) هنا تبعيضية، ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ))، ومقابله: (ومنكم من يجود)، وهذا المقابل حذف من الكلام؛ لأن المراد في الآية هو الاستدلال على البخل؛ لأنه في الآية التي قبلها قال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}، فأتت الآية التي تليها لتبين حقيقة هذا: ((هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ))، ومفهوم (منكم) أي: بعضكم. ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال: ((وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ))، فهو في الحقيقة إنما يبخل على نفسه؛ لأنه يمنعها الأجر والثواب، ويحرمها ما هو أعظم من المال وهو الأجر والثواب. و (بَخلَ) و (ضَنَّ) يتعديان تارة بـ (على) وبـ (عن) أخرى، فتقول: بخل على نفسه، أو بخل عن نفسه، وهذا الذي استعمل هنا: ((وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ))؛ لأن (عن) تتضمن معنى الإمساك، أي: كأنه أمسك عن نفسه الأجر والثواب. وقيل: المعنى: يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربه، (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي: أن (عن) هنا تشير إلى مصدر البخل، أي: أن البخل ينشأ عن داعي نفسه هو، وأما الله تعالى فلا يدعو أبداً إلى البخل ولا يحب البخل. قوله: ((وَاللَّهُ الْغَنِيُّ)) أي: المطلق والمنزه عن الحاجة إلى أموالكم. قوله: ((وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)) أي: إلى ما عنده من الخير والرحمة، وهذا كما قال عز وجل: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، وقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7]، وقال موسى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8]، وقال عز وجل: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68]، وقال تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]. ثم قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، قوله: (وإن تتولوا) معطوف على الحملة الشرطية المتقدمة وهي قوله: (وإن تؤمنوا وتتقوا) إلى أن قال: (وإن تتولوا) أي: إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى. (يستبدل قوماً غيركم) أي: يستبدل قوماً آخرين يكونون مكانكم، هم أطوع لله منكم. قال ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية قالوا: من هؤلاء الذين يستبدلهم الله بنا؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الفرس، هذا وقومه)، وفي إسناده مسلم الزنجي، وقد تفرد به، وفيه مقال معروف، ولهذا الحديث طرق في الصحيح. وهذا الدرس في الحقيقة عندما درسته كان الدرس رقم (12) من دروس التفسير، بتاريخ الخميس سبعة جماد الأولى، سنة 1399هـ، أي: أنه قبل حوالي (20) سنة تقريباً، وكان في بداية ثورة الخميني عليه من الله ما يستحقه، وقد عانينا كثيراً بسبب سوء فهم أو سوء تطبيق كثير من الناس أيامها، فقد كان الكلام على أشده، وكان الناس يرموننا بالجنون كيف أننا ننتقد الخميني؟! فهذه ذكريات مما عانيناه بسبب سوء فهم تفسير هذه الآية، ولها نضاير أيضاً في القرآن الكريم، فكان بعض الناس الذين اندفعوا بدافع الحماس العاطفي بدون بصيرة، يقحمون أنفسهم في تأييد الخميني بصورة تدل على جهلهم بأصول الإسلام، وهي العقيدة الصحيحة، وكيف نحكم على الآخرين. فكان كثير من الناس يقولون: إن هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى راض عن الخميني، وعن ثورته، وعما عليه الرافضة في إيران، فكانوا دائماً يستدلون بهذا الحديث، وهو حديث ابن عباس: (لما نزلت هذه الآية قالوا: من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الفرس، هذا وقومه). فنقول: صحيح هم الفرس، وهناك أدلة أخرى تبين ذلك، لكن من هم الفرس المعنيون؟ إنهم: أهل السنة والجماعة وليسوا أهل البدعة والضلالة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان رضي الله عنه ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس)، وهذه إشارة إلى خروج علماء عظام من فارس. وفارس كانت إيران والعراق، فلاشك أن فارس خرج منها أئمة كبار في الحديث وفي الفتوى وغيره، وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله تعالى، فهو من فارس. فالحديث ينطبق على أهل السنة من هؤلاء الأئمة، وأما أئمة الضلالة مثل الخميني فهو عدو لدود للإسلام وللسنة ولأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعقيدته الفاسدة في تحريف القرآن الكريم وغير ذلك من الألفاظ البشعة التي قالها، فلا يمكن أبداً أن يقصد بهذه النصوص على الإطلاق. والحديث في هذا الأمر ذو شجون، وأنا مع مرور الأيام التفت إلى أمر مهم جداً وهو: أن الأجيال تتغير، فدائماً أكرر مسائل قد تكلمت فيها قبل وبالتفصيل المريح، لكن أضطر أحياناً من خلال أسئلة الإخوة، ومن خلال بعض الأمور العابرة أن أذكر أموراً أساسية جداً وهي غير معروفة للإخوة، ومن ضمنها الموقف الصحيح من الشيعة؟ وكيف تحكم عليهم؟ وقد تكلمنا من قبل في هذا الموضوع بعنوان: شيعة اليوم أخطر من شيعة الأمس. فالحقيقة أن الشخص يحتاج إلى أن يذكر نفسه بين وقت وآخر أننا لابد أن نعيد الكلام في هذه الأمور الأساسية؛ لأن الأجيال الجديدة للأسف مقصرون في القراءة، وفي نفس الوقت نحن نقصِّر في المادة التي نقدمها وإن كنا أحياناً نكون معذورين، فنحن إن شاء الله نجتهد في أن نستمر، وبعض الناس يسخرون لإطفاء هذا النور، فالله حسيبهم! وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس)، وفي إسناده أيضاً مسلم بن خالد الزنجي تفرد به. وقال عكرمة: هم فارس والروم، وفي سورة الجمعة إشارة إليه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة:2]، ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3]، فهناك أمم أخرى سوف تدخل في الإسلام غير العرب الذين هم أمة أمية، ولم يكن نزل فيهم كتاب. قال عكرمة: هم فارس والروم. وقال الحسن: هم العجم. وقال شريح بن عبيد: هم أهل اليمن، وقيل: الأنصار، وقيل: الملائكة، وقيل: التابعون. وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس. وقال الكلبي: هم كندة والنخع والنقعة من عرب اليمن. وقال المحاسبي: فلا أحد يعد بعد العرب من جميع أجناس الأعاجم أحسن ديناً ولا كانت منهم العلماء إلا الفرس. وحكي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هي أحب إلي من الدنيا)، والله أعلم بحاله، فلينظر في سنده. قوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، في التولي عن الإيمان والتقوى، بل يكونون مطيعين له عز وجل. قال ابن جرير: في البخل بالإنفاق في سبيل الله، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: في الضن والبخل بالإنفاق في سبيل الله عز وجل. وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية الكريمة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] دل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ

ارتباط سورة محمد بما قبلها وما بعدها من السور

ارتباط سورة محمد بما قبلها وما بعدها من السور أخيراً: فيما يتعلق بأسرار ارتباط هذه السورة الكريمة سورة القتال مع السورة التي قبلها وهي سورة الأحقاف، والسورة التي بعدها وهي سورة الفتح، فلا يخفى ارتباط أولها بآخر الأحقاف؛ لأن آخر آية في الأحقاف هي: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، ثم بدأ في سورة القتال بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، فهنا اتصال وتلاحم واضح بين آخر الأحقاف وأول سورة محمد بحيث إنك لو تعمدت إسقاط البسملة لكان ذلك متصلاً اتصالاً واحداً لا تنافر فيه، وكانت كالآية الواحدة يأخذ بعضها بعنق بعض. وأيضاً سورة القتال متممة لموضوع سورة الأحقاف، فالأحقاف فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور، وفيها دعوتهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، وقد استنفذت سورة الأحقاف وسائل الإقناع بالوسائل العقلية، قال تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، إلى آخر السورة، فأثبتت عتو أهل الكفر وجحودهم، فكانت سورة القتال بما فيها من جهاد وقواعد الحرب وتشريعاته متفقة تماماً مع نسخ وسائل الدعوة السلمية بآية السيف. أما مناسبة سورة القتال لما بعدها وهي سورة الفتح: فلا يخفى حسن وضعها؛ لأن الفتح بمعنى النصر قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، والفتح بمعنى النصر إنما يترتب على القتال، وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بسورة الفتح فرحاً شديداً؛ لأنها بينت ما يفعل به وبالمؤمنين، في حين أن سورة الأحقاف جاء فيها قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، والمراد بهذا في الدنيا فقط، ثم بين الله سبحانه وتعالى هنا في سورة الفتح ما سوف يفعله بالنبي عليه الصلاة والسلام وبالمؤمنين، كما هو واضح في السورة. إذاً فسورة الفتح متصلة بصورة الأحقاف من هذه الحيثية أيضاً. وهذا قول ابن عباس، وقد ورواه عنه علي بن أبي طلحة، ولذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إن آية الأحقاف: ((وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ))، منسوخة بآية الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

مقدمة في الفتح

مقدمة في تفسير سورة الفتح

فوائد ومعلومات عن سورة الفتح

فوائد ومعلومات عن سورة الفتح

معاني كلمة (الفتح)

معاني كلمة (الفتح) سورة الفتح سميت بهذا لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق، وهذا كله من معاني الفتح، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة، وإتمام النعمة، والهداية، والنصر العزيز، وكل هذه أمور جليلة. وآيها تسع وعشرون آية، وهي سورة مدنية، أي أنها نزلت بعد الهجرة بغض النظر عن المكان الذي نزلت فيه. فهذه السورة مدنية، فإنها نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة عدة له بالفتح، قال أنس: لما رجعنا من الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، نزلت يعني: هذه السورة. واختلف في المكان الذي نزلت فيه، فوقع عند محمد بن سعد أنها نزلت في مكان اسمه ضجنان، وعند الحاكم في الإكليل بكراع الغميم، وعن أبي معشر: أنها نزلت بالجحفة، والأماكن الثلاثة متقاربة. وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره لـ عمر: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، يعني: سورة الفتح)، وهذا الحديث يدل على أن هذه السورة نزلت في الليل. وأخرج البخاري عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح فرجّع فيها). و (الفتح) يأتي بمعنى: أن يفتح المغلق، وهذا مشهور كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73]. والفتح يأتي بمعنى: النصر، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء:141]، وقال تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52]؛ لأن النصر يفتح الله به أمراً مغلقاً. والفتح يأتي بمعنى: القضاء؛ لأن القضاء فصل للأمور، وفتح لما أشكل منها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة:28 - 29]، يوم الفتح هو يوم القيامة، يعني: يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانهم، فسمي يوم القيامة بيوم الفتح؛ لأنه يقضى فيه بين العباد، ويفصل فيه بينهم، وبعض المفسرين قالوا: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة:29]، أراد به فتح مكة؛ لأنه يوم لا ينفع الذين كفروا إيمانهم؛ لأنهم في هذه الحالة إذا آمنوا بعدما تغلب المسلمون عليهم سيكون إيمانهم خوفاً من السيف، وليس إيماناً نابعاً من قلوبهم. وقال الله عز وجل: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ:26] يعني: يقضي بيننا بالحق {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] أي: خير القضاة. قال أعرابي لآخر ينازعه: بيني وبينك الفتاح يعني: بيني وبينك الحاكم؛ لأنه يقضي ويفصل في الأمور. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] قال: كنت أقرؤها ولا أدري ما هي حتى تزوجت بنت مشرح فقالت: فتح الله بيني وبينك يعني: حكم الله بيني وبينك.

وقت نزول سورة الفتح

وقت نزول سورة الفتح هذه السورة من القرآن الليلي؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا في غاية الدقة في وصف أحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عامة، وما يتعلق بالوحي بصفة خاصة، فمن أنواع علوم القرآن معرفة القرآن المدني والمكي، ومعرفة القرآن الليلي والنهاري، فهذه السورة من القرآن الليلي. قال القرطبي رحمه الله تعالى: نزلت -أي: سورة الفتح- ليلاً بين مكة والمدينة في شأن الحديبية. وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلت أم عمر نذرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك؟!) (ثكلت أم عمر) يعني: دعاء بالفقد، فهو يخاطب نفسه ويقول: (نذرت) يعني: ألححت على النبي عليه السلام، وبالغت في السؤال ثلاث مرات كل ذلك لم يجبك؟! قال عمر: فحركت بعيري، ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل في قرآن)، خاف أن يكون الرسول قد غضب منه فينزل فيه القرآن يدينه بذلك؛ لأنه لم يعرف لماذا لم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: يقول: (فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي، فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] إلى آخر السورة) وهذا لفظ البخاري، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب.

مكان نزول سورة الفتح

مكان نزول سورة الفتح اختلف في مكان نزول هذه السورة، فبعض العلماء قالوا: بضجنان، وبعضهم قال: بكراع الغميم، وبعضهم قال: بالجحفة، وجمع الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بين ذلك بقوله: وهذه الأماكن متقاربة، فلذلك عبر بعض الصحابة بمكان والبعض بمكان آخر؛ لأنها في منطقة متقاربة فلا يضر ذلك. قال القرطبي: إن هذه السورة المباركة سورة مدنية بإجماع المفسرين، ومعنى مدنية: أنها نزلت بعد الهجرة، وإن كان نزولها في غير المدينة. إذاً: تقسيم سور القرآن الكريم إلى مكية ومدنية ليس تقسيماً على أساس المكان، بل على أساس زمن النزول، فما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني؛ وإن نزل خارج المدينة كهذه السورة الكريمة.

منزلة سورة الفتح في قلوب الصحابة

منزلة سورة الفتح في قلوب الصحابة هذه السورة حافلة بالمواقف الرائعة التي فيها مناقب وفضائل وخصائص للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولصحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فهذه السورة لها وضع خاص؛ لأنها من أكثر السور التي وردت فيها آيات تدل على رفعة مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ربه عز وجل، وهذا ما فقهه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن -أي: الصحابة- نعد الفتح صلح الحديبية. لأن صلح الحديبية كان من أعظم الفتوح التي جاءت ببركة عظيمة جداً بالنسبة للمسلمين كما سيأتي، وكان خطاً فاصلاً -كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى- بين ما قبله وما بعده. وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وجاء في الحديث الذي ذكرناه آنفاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس). وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] مرجعه من الحديبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله! لقد بين الله عز وجل ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح:5] حتى بلغ قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5]) وهذا الحديث متفق عليه. وقول الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (هنيئاً مريئاً يا نبي الله! لقد بين الله عز وجل ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟). يشيرون إلى ما سبق الكلام عليه في سورة الأحقاف في قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، يعني في الدنيا، أما في الآخرة فقد بين الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة ما يفعل بنبيه صلى الله عليه وسلم وما يفعل بهم، فلما بينت السورة أولاً ما يفعل الله بالنبي عليه السلام قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (هنيئاً مريئاً يا نبي الله! لقد بين الله عز وجل ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟)، فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الفتح:5]، إلى أن بلغ قوله تعالى: {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5]. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع قال: حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل -اسم (مغفل) أو (حمار) هذه أسماء آباء وأجداد المسلمين في الجاهلية، فلا يمكن تغييرها، فلذلك بقيت، أما الصحابي إذا كان له اسم يكرهه النبي عليه الصلاة والسلام فإنه كان يغير الاسم القبيح، وموضوع الأسماء له أهمية كبيرة في الحقيقة؛ فإن الإنسان غالباً يكون له حظ من اسمه، واسمه ينعكس على نفسيته جداً؛ لهذا نتألم جداً حين نجد بعض الناس في الأرياف ضاقت عليهم الدنيا، واختاروا بعض الأسماء العجيبة بسبب بعض العقائد منها: من أجل أن الولد لا يحسد، فيطلقوا أسماء تنفر، فالشخص الذي يسمع الاسم ينقبض فيتلهى وينشغل عن الحسد بهذه الأشياء، وهذا تفسير رديء، فلا بد من التنبه لمثل هذا، وإن كان ليس له علاقة بموضوعنا، فلذلك ينبغي الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار الأسماء الحسنة، ومن حقوق الطفل على أبيه أن يسميه بأسماء حسنة ليست غريبة -رضي الله تعالى عنه يقول: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجّع فيها) قيل: إن هذا الترجيع هو للتنبيه وهو في المدود بالذات، وقيل: إن هذا لأنه كان راكباً على الناقة، فالإنسان عندما يقرأ المد وهو راكب على شيء يهتز ويتحرك؛ يحصل منه هذا الترجيع. قال الراوي: لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت لكم قراءته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحديث متفق عليه.

الأمارات التي يستدل بها على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم

الأمارات التي يستدل بها على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم هناك علامات وأمارات يستدل بها على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أمهات الأدلة على صدق بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. أول شيء منها: الصفات الخَلقية والخلقية لصاحب الرسالة. الثاني: آثاره في العالم والوجود. الثالث: المعجزات. الرابع: النبوءات. الخامس: البشارات. فهذه أمهات الأدلة التي يستدل بها على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والموضوع كبير، لكن باختصار شديد: أولاً: الصفات الخلقية، فالأنبياء يصطفيهم الله سبحانه وتعالى من أشرف وأكرم وأعلى أنواع البشر في جميع الصفات من الحسب والنسب، وجمال الصورة، وسلامة الأعضاء، والخلو من العاهات أو النقص أو أي شيء منفر، والأخلاق، ففي كل شيء من الصفات البشرية يكون الأنبياء مختصين من بين سائر البشر بصفات لا يشركهم فيها غيرهم، ربما نجد شخصاً يختص بصفة الكرم، أو آخر يختص بالحلم، أو أو أو كذا من الصفات، لكن أن تجتمع الصفات كلها كاملة في شخص غير الأنبياء فلا كما قال الشاعر: فغاية العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم فالرسول عليه الصلاة والسلام اجتمعت فيه الفضائل والكمالات البشرية بصورة لا توجد في غيره من البشر عليه الصلاة والسلام. إذاً: أول دليل هو أن الأنبياء لهم خصائص وصفات لا توجد مجتمعة في أكمل صورة إلا في الأنبياء، فمتى وجدت في شخص فهو نبي من أنبياء الله. الأمر الثاني: موضوع الآثار، فالله سبحانه وتعالى يجعل للأنبياء آثاراً وبصمات يتركونها على البشرية لا يمكن أن تتولد لغيرهم من البشر، فآثار النبي الصادق الحق الذي يبعثه الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تلتبس بآثار رجل من المصلحين أو أهل الخير أو كذا أو كذا وإنما يكون لهم آثار واضحة، ولرسولنا صلى الله عليه وآله وسلم الحظ الأوفر على الإطلاق من هذه الآثار، كيف لا وهو قد بعث رحمة للعالمين، وأرسل للناس كافة صلى الله عليه وسلم؟! فهذا شيء بدهي يقر به حتى الكفار، فهم يقرون أنه لا يوجد أحد في تاريخ البشرية كله ترك بصمات وآثاراً على البشرية مثلما أكرم الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الآثار. وهذه الآثار لا تقتصر على نزول الوحي، وتعليم الشريعة للأمة، وتربية الصحابة الذين هم خير أمة أخرجت للناس. فهذه أوضح الآثار المباشرة التي كانت في حياته صلى الله عليه وسلم، ولكن كل ما يوجد من بعد النبي عليه الصلاة السلام من الخير الذي اقتدي به فيه فهو في ميزان حسنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: أنت كل ما تفعله من أعمال صالحة فسوف ينال نفس الثواب مثلك تماماً الرسول عليه السلام؛ لأنه هو الذي علمك هذا الخير، أي مؤمن إلى أن تقوم الساعة يفعل من الخير اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام الذي أرسله الله رحمة للعالمين أجمعين هو في ميزان حسناته صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما وجد من الخير حتى بعد بعثته فهو من آثار بعثته الشريفة، ولذلك المسيح عليه السلام أخبر أصحابه بأن هناك أنبياء كذبة يدعون النبوة، سوف يأتون من بعده فقال له الحواريون: (كيف نعرفهم يا روح الله؟! قال: من ثمارهم تعرفونهم) يعني: من الآثار التي يتركونها تعرفونهم، والعقل وحده يقطع أنه لا يمكن أن يكون نبياً كاذباً يدعي النبوة ثم يتركه الله سبحانه وتعالى يطبع آثاره على البشرية بهذه الصورة، ويفتح عليه الفتح تلو الفتح، ويؤيده بالمعجزات تلو المعجزات، فلابد أن يكون صادقاً من عند الله سبحانه وتعالى. فالشاهد: أننا نعلم صدق نبوة محمد صلى عليه وسلم بآثاره في كل العباد والمجاهدين والبلاد التي فتحت حتى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة، فكل الخير الذي يوجد بسبب اتباع سنته والاهتداء بهديه هو من آثار بعثته، فعدل القضاة المسلمين في كل التاريخ كعدل عمر بن عبد العزيز أو عدل غيره من الأئمة والخلفاء الراشدين كـ محمود زنكي أو جهاد صلاح الدين وجهاد العلماء والأئمة كـ قطز وبيبرس هو في ميزان رسول الله عليه السلام، وهو أثر من آثار بعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: الفتح أعم من أن يكون الفتح المتعلق بفتح مكة أو بغيره، وإنما يدخل فيه كل ما كان من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الأمر الثالث: البشارات، وهي: النصوص التي توجد في الكتب السابقة من قبلنا التي تبشر ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وتخبر بصفته، وهذا ما ستأتي الإشارة إليه في آخر السورة إن شاء الله تعالى في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] يعني: هكذا بالضبط وصفوا في التوراة قبل أن يخلقوا: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29] إلى آخره، فهذا من البشارات. الأمر الرابع: المعجزات: وهي خوارق العادات التي تقترن بادعاء النبوة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الحظ الأعظم على الإطلاق بين جميع الرسل من هذه المعجزات، وأعظمها على الإطلاق معجزته الخالدة الباقية وهي القرآن الكريم، الذي ما زال حتى الآن ينبض بالحياة وبالأدلة والبراهين على حقائق هذا الدين القويم، ويوم بعد يوم ينضم إلى قافلة الإيمان أناس من الكفار بسبب هداية القرآن الكريم، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (إنه ما من نبي أرسله الله إلا أوتي ما على مثله آمن البشر -معجزة يراها قومه المعاصرون له- وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحي إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) لأن الرسول عليه السلام معجزته لم تكن معجزة حدثت ثم انقضت كعصا موسى، أو إحياء عيسى عليه السلام للموتى بإذن الله، وإنما معجزته هي هذا القرآن الكريم، فهي معجزة باقية. وأقص عليكم قصة عابرة عن إحدى الشخصيات المرموقة التي فتح الله سبحانه وتعالى عليها منذ سنوات بالإسلام، فهذا دكتور جراحة مشهور في فرنسا يدعى مورسي بكاري هذا الجراح الكبير الفرنسي نشأ في عائلة متدينة بالتدين النصراني، وشديدة التمسك به، فلما بدأ يقرأ في الكتب المقدسة عند النصارى -وهي العهد القديم والعهد الجديد- بدأ -بحكم خلفيته العلمية الحديثة- يلاحظ وجود تناقض بين بعض القضايا العلمية أو الجغرافية المذكورة في ثنايا كتابهم المقدس عندهم، فلفت ذلك نظره، وضايقه الأمر كثيراً، فقرر أن يجمع جميع الكتب التي أصلها سماوي ويعمل دراسة مفصلة، ويقارن بين القرآن والتوراة والإنجيل الموجودان الآن المحرفان، فالذي فعله أنه قام بجمع النصوص التي تتعلق بالقضايا العلمية الحديثة مثل كروية الأرض تشريح النبات وغيرها من الأمور التي تتعلق بالعلوم الحديثة، فخرجت له مجموعة بيانات كبيرة جداً جداً من آيات القرآن الكريم، عشرات الآيات استخرجها تنبئ بأنها تتعامل مع حقائق علمية كثيرة جداً، ثم استخرج من العهد القديم والعهد الجديد أشياء كانت قليلة للغاية بالنسبة للقرآن الكريم، ولا تكاد من حيث العدد تذكر، ثم إن الذي فيها أشياء غير مطابقة للواقع على طول الخط، بل متعارضة تماماً مع الحقائق العلمية الحسية! فاستمرت الدراسة في عدد كبير من الآيات ولم يجد أي تعارض على الإطلاق في نص واحد من القرآن الكريم مع أي حقيقة علمية، بل فوجئ بأن القرآن يحوي حقائق علمية مما هو متفق عليه حديثاً. فانتهى إلى نتيجة ومحصلة معينة ولكن قال: إما أن هذا القرآن هو كلام الله حقاً، وإما أن المؤلف -يقصد الرسول عليه السلام- عندما كتبه كان محيطاً إحاطة كاملة وفي غاية الدقة لأحدث ما وصل إليه العلم في العصر الحديث! وهذا التضاد هراء، ولا يمكن أن يقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعلم بشري يأتي بهذه الأخبار، فهذا مستحيل، فلم يبق إلا احتمال واحد وهو أن الذي أوحى إلى النبي عليه السلام هذا الكتاب إنما هو خالق هذا الكون، وخالق هذه البرية؛ لأن قوانين الطبيعة وهذه السنن وجدت منذ أن خلق الله هذا الكون، وبقيت بلايين السنين غير مكتتبة، واكتشف الآن جزء يسير منها، لكن قوانين الله تعمل منذ أن خلق الله هذا الكون، فهم يكتشفون ويفرحون جداً باكتشافهم وبما عندهم من العلم. الشاهد أنه انتهى من عملية المقارنة بإعلان إسلامه، وعائلته النصرانية المتعصبة صدمت صدمة شديدة بإسلامه، وكانت المصيبة الأشد أنه سوف يقوم بدعاية كبيرة جداً للإسلام في كل العالم الغربي؛ لأن مثل هذه الشخصية المرموقة عندهم يكتب هذا الكتاب وهو من عائلة متدينة جداً ومتمسكة بالنصرانية أمر خطير، فانزعجوا جداً من هذا الكتاب الذي كاد أن يفرغ من تأليفه، فماذا فعلوا؟ فعلوا شيئاً عادياً عندهم في الغرب وليس بمشكلة -لا تستغربوا-، كتبوا إعلاناً في إحدى الجرائد عندهم في فرنسا: مطلوب لص محترف لمهمة خاصة، وهذا شيء عادي عندهم، ولا توجد أي مشكلة فيه أبداً: مطلوب لص محترف لمهمة خاصة، بحيث يتصل بهم بطريقة لا يكتشفها ابنهم مورسي بكاري، وهم الذين طلبوا هذا، فالمهم وصلهم لص محترف وقالوا له: إن المطلوب أن هذا الشخص -ابنهم- تذهب إلى أمام بيته في مكان معين وترصد مواعيده وقت خروجه ودخوله، فمتى ما يكون غير موجود في البيت تستطيع أن تدخل من المكان الفلاني، وتكسر الباب الفلاني، وهناك درج معين يترك فيه أشياء، فخذ كل محتويات هذا الدرج، ولم يبينوا له أنهم بالذات يقصدون الكتاب الذي ألفه لكن قالوا: أحضر لنا كل المحتويات في درجه. المهم أفلح اللص في أن يصل إلى الدرج، وأخذ الأشياء ثم قدم لهم كل شيء ما عدا مخطوطة الكتاب، وظن أنه ليس معقولاً أن يكون الكتاب مهماً بالنسبة لهم، وعكف اللص الظريف على قراءة المخطوطة حتى فرغ منها تماماً، ومن شدة إعجابه وانبهاره لما فيها من الحقائق أشهر اللص نفسه إسلامه وأعلنه، وذهب إلى مورسي بكاري نفسه وسلمه المخطوطة، وكان هو قد حزن حزناً ش

تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)

تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فيها أقوال: الأول: فتح مكة. الثاني: فتح الروم وغيرها. الثالث: فتح الحديبية، وهذا أصح الأقوال، فقوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا))، المقصود به فتح الحديبية. الرابع: فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان. الخامس: أن المراد منه الحكم كما قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:89]، وقال تعالى: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [سبأ:26]، ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها مما يصدق عليها الفتح الرباني، فكلها داخلة في معنى الفتح الرباني، وجميعها مما تحقق مصداقه، إلا أن سبب نزول الآية يبين المراد من الفتح بياناً لا خلاف معه، وهو الوجه الثالث المذكور، وهو صلح الحديبية. قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام؛ ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلما نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه الآيات. وتأملوا هذا الموقف، وسوف يأتي -إن شاء الله- ذكر الحديث بالتفصيل، فالصحابة كانوا في غم وهم، كيف يحصل هذا الصلح الذي رأى بعضهم أن فيه نوعاً من الظلم للمسلمين، وأن فيه إلزامية بالنسبة للمسلمين؟! ومع ذلك في هذه اللحظات الشديدة على نفوس الصحابة ينزل القرآن الكريم مبيناً أن هذا فتح من الله: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)). وأنزل الله عز وجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحاً باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. لأن فتح مكة نفسه هو أثر وثمرة من ثمار صلح الحديبية. وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. وروى الإمام أحمد عن مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن، قال: (شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر)، وفي بعض الروايات: (إذا الناس يوجفون الأباعر -يعني: يزجرون الإبل ويدفعونها- فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟! قالوا: أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نرجف -أي: يخافون أن ينزل القرآن يدينهم لما حصل من بعض الصحابة أثناء المفاوضة في موضوع الفتح- فخرجنا مع الناس نرجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته على كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فقال: رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله! أوفتح هو؟! قال صلى الله عليه وسلم: إي والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح) رواه أبو داود في الجهاد. ثم قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: فالمراد بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] أي: بيناً ظاهراً، وهو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتصر العلم النافع والإيمان. ولما وقفت لغة الفيء والحرب المسلمين والمشركين حصل نوع من هبوط الحمية عند المشركين، ونتيجة الهدنة التي بين المسلمين والمشركين تكلم المؤمن مع الكافر يعني: وصلت رسالة الحق، وبدأ إعلان الدعوة، فمن ثم كانت هذه الفترة فترة في غاية الخطورة بالنسبة للدعوة الإسلامية، ويكفي دليلاً على ذلك عدد الجيش الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، والعدد الذي كان معه يوم فتح مكة في سنة ثمان من الهجرة، فصلح الحديبية كان سنة ست، وفتح مكة كان سنة ثمان، فما الذي حصل؟ في الحديبية كان عدد الصحابة الذين مع الرسول عليه السلام ألفاً وأربعمائة صحابي، وفي فتح مكة كانوا عشرة آلاف، فهذه من ثمرات وبركات فتح الحديبية.

ديدن الكفار في تشويه الإسلام

ديدن الكفار في تشويه الإسلام لنتأمل هنا قوله: فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر وانتصر العلم النافع والإيمان. يعني: يستحيل أن الحق الذي هو الإسلام أن يهزم في معركة شريفة مع الباطل، لكن دائماً الذي يحصل هو أن أعداء الإسلام لا يعرفون الشرف، ولا يعرفون احترام مبدأ ولا عهود ولا مواثيق، أما إذا حصلت مواجهة شريفة ليس مهماً تكاثر الباطل، فإن الباطل لا يعد شيئاً، ودائماً الله سبحانه وتعالى يذكر الباطل والظلمات في القرآن الكريم بصيغة الجمع، أما النور والإسلام والحق فهو دائماً يأتي بصيغة المفرد: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]، فالنور مفرد، أما الباطل فإنه لا ينتهي عدده، ولا حصر له، فلو أنه ترك للحق أن يتكلم بدون شغب ولا تشويش أو تشويه، وبدون صد عن سبيل الله ولا إرهاب -وهم الإرهابيون في الحقيقة- واستطاع الناس أن يلتقطوا هذه الرسالة الربانية بدون تشويش على هذا الإرسال فإن الله سبحانه وتعالى يفتح قلوب الناس فيدخلون في دين الله أفواجاً كما حصل من قبل، ولكن لأن أعداء الإسلام يعرفون جيداً أنه لو ترك الناس يستمعون إلي صوت الحق والإسلام وهو غير مشوش ولا مشوه؛ لدخل الناس في دين الله أفواجاً، ورغم كل الحرب القائمة الآن على الإسلام فهو المنتصر، فنحن في حرب عالمية حقيقية، وليست حرباً عالمية مجازية، ولكن الأسلحة الآن حديثة وذكية تتعامل بأسلوب غير الأساليب الماضية للاستعمار القديم عن طريق الاحتلال والقوى العسكرية، فالآن يستخدم الإذلال والهيمنة لتأخذ صورة حديثة -وللأسف الشديد- هي أشد فعالية وأقوى؛ لأنها تعتمد على تسخير التكنولوجيا الحديثة، والعلم، والأساليب المدروسة؛ فلذلك هي حرب قذرة غير شريفة؛ لأن كل الهدف هو الصد عن سبيل الله، فيصدون عن سبيل الله بالمذابح والقتل والإرهاب. وأنتم ترون ما يحصل الآن في كوسوفا أو ما حصل بالأمس القريب في البوسنة والهرسك، ولنأت إلى التاريخ من أجل أن يعرف الناس وحشية الغرب ووحشية الكفار من التاريخ القديم سواء في الحروب الصليبية أو غيرها، أما الآن فنحن في صفحة في الواقع تكشف لنا مصداق قول الله تبارك وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، لا يمكن أن يحترموا عهداً أو ذمة، وإنما كما ترون المذابح والتشريد والوحشية التي يمارسها هؤلاء الصرب، ولا أدري كيف يقبلون أنهم ينتمون إلى المسيح عليه السلام! كيف يصدقون أنفسهم بهذه الوحشية وهذه الهمجية وهذه الجرائم التي يرتكبونها ضد المسلمين على مرأى ومسمع، والمسرحية مفهومة، وكل الناس يتكلمون والجرائد تتحدث، وأنتم ترون هذه الأشياء ولا نكثر من ذكرها، ولكن هذا الذي يحصل من القتل والتدمير والتصفية وما يسمى بالتطهير العرقي هو أحد أساليب الصد عن سبيل الله، ويشوهون الإسلام بأنه دين الإرهاب ودين القتل وسفك الدماء ودين كذا!! ومع ذلك ما زال الناس ومن أعماق ديارهم يدخلون في دين الله أفواجاً يوماً بعد يوم، والقصص لا تنتهي ممن يهديهم الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام! فتخيل لو أن الإسلام في دولة على وجه الأرض تتبناه، كما يوجد للنصرانية دولة تتبناها وهي الفاتيكان، فدولة واحدة للإسلام غير موجودة، أو ينفق عليه من أموال المسلمين بحيث تدعم وتقوى الدعوة للإسلام، وتخيل لو أن الإسلام لم يشوه ولم يحارب بهذه الصورة. فهم يصورون الإسلام في الحقيقة بصورة في غاية الخطورة، فيصورون للناس أننا نعبد الحجر الأسود والكعبة وأنها إلهنا، أو أننا نعبد محمداً عليه السلام كما يعبدون هم عيسى، وأننا نعتقد أنه يوجد ثالوث، وغير ذلك من التشويش الذي يحصل، وكذا أيضاً يستغلون ما يحصل للأسف الشديد من سلوكيات بعض الحمقى من بعض التيارات الإسلامية كما فعل -والله المستعان- المدعو أبو حمزة المصري لما أتى بالتصرفات التي يفعلها على مرأى ومسمع من العالم، فهم يفتحون له الإعلام تماماً؛ ليتحدث في كل قضية تمثل الدين بكلام لا يقوله المجانين، وهو يشوه الإسلام، وينفر الكفار من دين الإسلام؛ لذلك يفتحون له الإعلام على مصراعيه؛ لأنه يتكلم كلاماً لا يقوله إنسان عاقل يقول: إننا سوف ندمر الغرب، ونخترع قنابل تنزل ببالونات تفجر بريطانيا كلها! ويوهمون الناس أن هذا ممثل الإسلام! فهذا الجاهل المعتدي الظالم الصاد عن سبيل الله يظهر على أنه يمثل الإسلام! الشاهد: أن الحرب لو كانت شريفة لا يمكن أبداً أن ينهزم الإسلام، فالمسلمون لا ينهزمون أبداً في مواجهة شريفة، وانظر إلى أي مناظرة جرت في نطاق التاريخ الإسلامي كله بين عالم إسلامي متأهل وبين أعظم فطاحلة علماء اليهود أو النصارى، النتيجة معروفة تماماً وهي الاندحار، وأنهم لا يمكن أن يقووا على الصمود على الإطلاق، والقصص كثيرة جداً في هذا المضمار.

صلح الحديبية مقدمة للفتح ودخول الناس أفواجا في دين الله

صلح الحديبية مقدمة للفتح ودخول الناس أفواجاً في دين الله لنتأمل قوله: وتكلم المؤمن مع الكافر يعني: بدءوا يشغلون العقول، وهذه كانت أعظم ثمرة؛ لأن الإسلام يستفيد جداً من هذا الجو الذي فيه حرية، فالباطل يمارس الباطل بكل حريته، فليتركوا إذاً الحرية للحق أيضاً، ولا يمكن أن يصمد الباطل، وحتى لو تكتل كل أهل الباطل على وجه الكرة الأرضية أمام الإسلام لا يمكن أن يصمدوا فالنتيجة معروفة مسبقاً ومقطوع بها، فأنا كنت أريد تسليط الضوء على هذه العبارة: (وتكلم المؤمن مع الكافر) يعني: الرسالة الإعلامية كانت تصل صحيحة إلى الكافر، فتأمل هذا الكافر لو كان عنده بصيص من نور الفطرة، ثم يسمع عن الإسلام، فإنه ينجذب إليه انجذاباً شديداً جداً؛ كما قال الله تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، نور الفطرة مع نور الوحي، نور الفطرة التي أودعها الله في قلبه وهو الله الذي خلقه، ونور الوحي الذي أنزله الله، الذي: {يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فتأملوا هذه العبارة الرائعة لـ ابن كثير رحمه الله تعالى؛ لأنها تكشف لنا سر وصف صلح الحديبية بأنه فتح، مع أن النظرة الأولية التي أهملت العواقب التي لا يعلمها إلا الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت هي التي جعلت بعض الصحابة يعترضون، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقد اشتد جداً في الاستغراب، وقال: كيف نعطي الدنية في ديننا؟! في حين أن كان الأمر عند الله وعند رسوله فتحاً مبيناً، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، ويلخص الحافظ ابن كثير صفة هذا الفتح وسببه، فيقول: فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ما مثاله: كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلم بعضهم بعضاً، وناظره في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، ولهذا سماه الله فتحاً في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، نزلت في الحديبية، فقال عمر: (يا رسول الله! أوفتح هو؟! قال: نعم) وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحاً قريباً بقوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، وهذا شأنه سبحانه وتعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها. وهي التي نسميها الإرهاصات فهي مقدمات توضح وتمهد لحدوث أمر عظيم وجليل. فصلح الحديبية: عبارة عن إرهاص بين يدي صلح بين يدي الفتح الأعظم الذي هو فتح مكة، ولذلك جاء في أثناء السورة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] أي: سوف يحصل وهو فتح مكة. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا، وخلق الولد له مع كونه كبيراً لا يولد لمثله، فتأمل في سورة آل عمران، وحتى في سورة مريم قدم الله سبحانه وتعالى أولاً قصة زكريا، وكيف أنه دعا ربه، وقبلها أنه كان يدخل على مريم: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، كرامة لمريم عليها السلام، أن يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، فهذه كانت كرامة لـ مريم الصديقة عليها السلام، فـ {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38]، لما رأى خرق العادة لـ مريم علم أن ربه قادر على أن يخرق له العادة أيضاً مع كونه شاب شعر رأسه، وبلغ من الكبر عتياً، وكون امرأته عاقراً لا يولد لها، وقد طعنت أيضاً في السن، وهو حريص على الولد: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5 - 6]، ويستحيل أن يظن من زكريا أنه كان قلقاً على مستقبل أولاده وذريته من أجل المال والعقارات، لا، ((يَرِثُنِي)) يعني: في النبوة؛ لأن الأنبياء لا يورث عنهم مال، وإنما يرثه في العلم والدعوة، فهو كان قلقاً على الإسلام، ولم يكن قلقاً على المال والدنيا ((يَرِثُنِي)) أي: في العلم والنبوة: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:6]. ثم رزقه الله سبحانه وتعالى يحيى عليه السلام كما قص علينا في القرآن، فهذا كله كان مقدمة وتوطئة لما هو أعظم وأخطر آية، وهي خلق المسيح عليه السلام من غير أب، فتجد أن هذا التدرج للتمهيد بين يدي أمر عظيم، وهو خلق المسيح عليه السلام ليجعله آية للناس. وكما قدم بين يدي تحويل القبلة في سورة البقرة مقدمات، فهي أولاً: بدأت بقصة البيت (الكعبة)، وبنائه وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه وتعظيمه قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] إلى قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127] إلى آخر الآيات. فكل هذا التمهيد لأن الهدف النهائي -وهو أمر عظيم جداً- سيحصل، وهو تحويل القبلة، فقبل أن يخبر أن القبلة ستتحول من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بدأت الآيات بذكر قصة بناء البيت الحرام، وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه -وهو إبراهيم عليه السلام- وتعظيمه ومدحه. وقبل ذلك قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ} [البقرة:106] فهذه مقدمة أيضاً؛ وإرهاص وتمهيد قبل حصول هذا الأمر، فبدأ بذكر النسخ، وحكمته المقتضية له، وقدرة الله الشاملة عز وجل على نسخه، فهذه كلها كانت توطئة وتمهيداً بين يدي حدث خطير جداً، وهو تحويل القبلة، ثم قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]. وهكذا أيضاً ما قدمه بين يدي نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف حدث في تاريخ الإنسان كله، ولادة النبي وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فماذا حصل في عام ولادته؟ حصلت أولاً قصة الفيل. أيضاً تكاثرت بشارات الكهان والجن قبل بعثته الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه كلها عبارة عن إرهاصات ومقدمات لهذا الحدث الجليل. كذلك قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)، فهذه عبارة عن تمهيد من الله سبحانه وتعالى لبدء الوحي، فهذه عمليات التمهيد بين يدي الحدث الأعظم، وهو نزول الوحي عليه في اليقظة، فأتاه الوحي أولاً في المنام عن طريق الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، صلى الله عليه وآله وسلم. كذلك الهجرة هي المقدمة بين يدي الأمر بالجهاد، ومن تأمل أسرار الشرع والقدر رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا)

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]: التحقيق الذي عليه الجمهور أن المراد بهذا الفتح صلح الحديبية؛ لأنه فتح عظيم، وإيضاح ذلك أن الصلح المذكور هو السبب الذي تهيأ به للمسلمين أن يجتمعوا بالكفار فيدعوهم إلى الإسلام، وبينوا لهم محاسنه؛ فدخل كثير من قبائل العرب بسبب ذلك في الإسلام، ومما يوضح ذلك أن الذين شهدوا صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عام ست كانوا ألفاً وأربعمائة، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم غزو مكة حين نقض الكفار العهد كان خروجه إلى مكة في رمضان عام ثمان، وكان معه عشرة آلاف مقاتل؛ وذلك يوضح أن الصلح المذكور من أعظم الفتوح في كونه سبباً لقوة المسلمين وكثرة عددهم، وليس المراد بالفتح المذكور فتح مكة، وإن قال بذلك جماعة من أهل العلم؛ وإنما قلنا ذلك لأن أكثر أهل العلم على ما قلنا، ولأن ظاهر القرآن يدل عليه؛ ولأن سورة الفتح هذه نزلت بعد صلح الحديبية في طريقه صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة، ولفظ الماضي في قوله: ((إِنَّا فَتَحْنَا)) يدل على أن ذلك الفتح قد مضى، فهذا هو الظاهر، فقوله ((فَتَحْنَا)) يعني: فرغنا من هذا الفتح، وهو عقد صلح الحديبية، فدعوى أنه فتح مكة، ولم يقع إلا بعد سنتين؛ خلاف الظاهر، والآية التي في فتح مكة دلت على الاستقبال لا على المضي، وهي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، انتهى كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى.

أقوال العلماء في معنى الفتح المبين

أقوال العلماء في معنى الفتح المبين مما قيل في معنى الفتح: أنه جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح. وقيل: هو ما فتح له أو ما فتح له من النبوة والدعوة إلى الإسلام. وقيل: فتح الروم. ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله. قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، وهذا الأمر في غاية الأهمية، وهو اختلاط المشركين بالمسلمين، فإنه يكون بركة على المشركين فضلاً عن المسلمين، ولذلك أنت إذا قارنت بين أحوال الكفار الذين يعيشون مع المسلمين في بلاد المسلمين وبين الكفار في البلاد التي ليس فيها مسلمون، تجد الفرق الكبير؛ لأن بركة المسلمين تشمل هؤلاء، فتجد أن عندهم الحياء والعفة وغير ذلك من الأخلاق الحميدة من بركة معايشة المسلمين، بخلاف الذين يتمحض فيهم الكفر، فموضوع اختلاط المسلمين الصادقين الذين يطبقون الإسلام بالفعل مع الكفار من أعظم أسلحة الدعوة. وتعرفون قصة ثمامة بن أثال رضي الله تعالى عنه، كان ثمامة ممن يحارب الرسول عليه السلام، وأسر في قتال بينه ويبن المسلمين، فماذا فعل به النبي عليه الصلاة والسلام؟ أسره وربطه في سارية المسجد، ثم تركه في المسجد ثلاثة أيام، وهذه حكمة عظيمة من النبي عليه الصلاة والسلام تشير وتنبئ إلى هذا المعنى الذي نذكره الآن من قول بعض العلماء؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين، فسمعوا كلامهم؛ فتمكن الإسلام في قلوبهم، فهذا درس عملي ينبغي أن نقتدي بالرسول عليه السلام فيه، فقد ربطه في المسجد، فما الذي سوف يراه خلال ثلاثة أيام؟ حياة إسلامية مائة بالمائة أخلاق إسلامية عبادة لله توحيد سيسمع أي درس أي حديث فيه توحيد وفيه ذكر لله عز وجل، وبيان مقاصد ومحاسن الإسلام، يرى كيف يتعامل المسلمون بعضهم مع بعض يرى حسن الخلق يرى الأمانة يرى التعبد يرى البكاء من خشية الله يرى الركوع السجود ويرى بعض خيرات وبركات الإسلام. فالذي حصل أنه كان كلما طالت إقامته مع المسلمين يبدأ يلين، فالرسول عليه السلام بعدما قيده في اليوم الأول أتاه فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟! -بدأ بالعدوانية- قال: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن شاكر) يعني: دمي لن يذهب هدراً، دمي له قيمة، ثم في اليوم التالي سأله نفس Q ( ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم)، والعرب كانوا في غاية الدقة في اختيار الألفاظ ومراعاة الأولوية، فهذه المرة الثانية تجد أن اللين بدأ يتسرب إلى قلبه، فمفعول الدواء بدأ ينفع من معاشرة المسلمين في يوم واحد، ففي اليوم الثاني بدأت اللهجة تخف، قال: (إن تعف تعف عن شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم) فتركه مقيداً، وفي اليوم الثالث سأله نفس السؤال وأجاب بنفس الجواب؛ فأطلقه النبي عليه الصلاة والسلام حراً طليقاً، فماذا فعل ثمامة؟ كان قد وصل إلى القرار النهائي، فعمد إلى مكان قريب من المسجد واغتسل فيه، ثم أتى وشهد شهادة التوحيد، ودخل في الإسلام! فالشاهد: أن موضوع اختلاط المسلمين بالمشركين -أعني المسلمين الذين يطبقون الإسلام واقعاً وحقيقة- هو من أعظم ما يغزو قلوب هؤلاء المشركين. وكما ترون أن العلماء يكادون أن يتفقوا على أن المقصود به صلح الحديبية! قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية؛ وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. وقال الشعبي: لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة: غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس؛ ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال الزجاج: كان في فتح الحديبية آية عظيمة؛ وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه في البئر؛ فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس، لم يذكر الزجاج هذا مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان من المتأخرين، لكن أياً كان فهذه المعجزة وردت في أحاديث متواترة، كحديث نبع الماء من بين أصابع يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والملاحظ أنه في كل مرة كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو لهم بالبركة في الطعام يكثر الطعام تحت يده، ويكفي جيشاً بأكمله بعدما كانوا يشكون في أنه يكفي مجموعة قليلة من الناس! فهو كان يقول: ائتوني بإناء فيه شيء من الماء، ثم يضع أصابعه الشريفة، فينبع الماء، وهذا متواتر، وثابت بنفس الطريقة التي ثبت بها القرآن الكريم ثبوتاً قطعياً لا مجال للطعن فيه، فأحاديث كثيرة جداً فيها تكرر هذه المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يضع يده الشريفة في الإناء فيفور الماء من بين أصابعه. والحكمة من الإتيان بماء في الأصل ألا يتوهم الناس أن الرسول عليه الصلاة والسلام يوجده من العدم، وإنما هي البركة التي تنزل من عند الله في ماء خلقه الله أصلاً، فالطعام موجود لكنه يبارك فيه بإذن الله سبحانه وتعالى. والعلماء مختلفون فيما يتعلق بفتح مكة هل فتحت عنوة أم أنها فتحت صلحاً؟ وهذه القضية قد نتعرض لها بعد ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.

الفتح [1]

تفسير سورة الفتح [1]

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم

خصائص النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:8 - 9]. إن إثبات المزايا والخصائص التي ميز الله عز وجل بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، والأخلاق التي زينه بها صلى الله عليه وسلم، واعتقاد اختصاصه بهذه الكمالات؛ واجب شرعاً تتوقف عليه صحة عقيدة المسلمين، كما صرح بذلك العلماء؛ لأن الله تبارك وتعالى تولى بيان هذه المرتبة العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في صراحة ووضوح وجلاء، كما بينته سنة النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة، وكذا إجماع العلماء. إن تبيان أسرار هذه الخصائص العظمى كان أحد المهام التي كلف الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم وخليله محمداً عليه الصلاة والسلام ببيانها، فقال عز وجل مخاطباً إياه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]. أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يحدث أمته بما أنعم الله عليه؛ ليعرفوا قدره ويعتقدوه، ويزدادوا حباً له وتعظيماً، فالتحدث بهذه النعم في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجب؛ لأن الله أمره بذلك، وفي حق غيره من الأمة جائز إذا أمن العجب والرياء. ولا شك أن تتبع ما صح من فضائله وخصائصه صلى الله عليه وآله وسلم من أسباب تعمير القلوب بمحبته، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (أشد أمتي لي حباً قوم يكونون بعدي يود أحدهم لو أعطى أهله وماله وأنه رآني) رواه الإمام أحمد وغيره. (أشد أمتي لي حباً قوم يكونون بعدي) يعني: بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، يبلغ شدة حب أحدهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لو كانت رؤيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تنال بالتضحية بالأهل والأولاد والأموال لسمحت نفسه ببذل أهله وماله وكل ما هو عزيز لديه في سبيل أن يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! ليس هذا فحسب، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبادل هؤلاء المؤمنين الذين يخرجون بعده أو يكونون بعد وفاته إلى قيام الساعة نفس هذه المحبة، ونفس هذا الشعور كما صرح بذلك قوله عليه الصلاة والسلام في شأن الذين يحبونه بالغيب، يقول عليه الصلاة والسلام: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعد، وأنا فرطهم على الحوض) رواه الإمام مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم، المعنى: وأنا أسبقهم إلى الحوض أنتظرهم لأستقبلهم على الحوض. إذاً: من الواجبات التي كلف الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: أن يحدث بنعمة الله عليه، ومن الواجب علينا أن نعتقد بكل ما جاء في الكتاب والسنة وأجمعت الأمة عليه من خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك أفرد بعض العلماء هذا الموضوع بالتفصيل كالإمام السيوطي رحمه الله تعالى في (الخصائص الكبرى)، ومن كتب المتأخرين كتاب (دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين)، تتبع فيه صاحبه جميع هذه المواضع في القرآن الكريم وبين ذلك. من المواضع التي يناسب أن نتحدث فيها عن هذه المزايا وهذه الخصائص الخاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه السورة العظيمة وهي سورة الفتح؛ لأنها اشتملت على الإشارة إلى هذه النعم من أولها إلى آخرها، يقول تعالى في صدرها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3] إلى أن قال تبارك وتعالى أيضاً في هذه السورة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:8 - 9]. فمن أسباب إرساله صلى الله عليه وسلم إلى البشرية أن يعرفوا قدره الشريف عليه الصلاة والسلام، ويعزروه ويوقروه، ويسبحوا الله سبحانه وتعالى بكرة وأصيلاً، فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في قوله: ((وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)) عائد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. إذاً: من مقاصد الرسالة والبعث أن تعرف البشرية قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم ربه له، ليوفوه قدره حق قدره.

من أعظم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إيتاؤه القرآن العظيم

من أعظم خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إيتاؤه القرآن العظيم من أعظم خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإطلاق هي إيتاؤه القرآن العظيم، حيث شرفه بأن أنزل عليه أشرف كتبه بأشرف سفارة وهي سفارة جبريل عليه السلام في أشرف البقاع وهي مكة المكرمة في أشرف شهور السنة وهو رمضان في أشرف لياليه وهي ليلة القدر بأشرف لغة وهي اللغة العربية على أشرف رسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلى أشرف أمة وهي أمة الإسلام. فالله سبحانه وتعالى خص النبي عليه الصلاة والسلام بالقرآن العظيم، وجعله المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل وبما أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وبه ختم النبوة، وسوف تأتي أجيال وأجيال وأجيال بعد وفاته عليه الصلاة والسلام تنتسب إلى ملته وأمته، وتفتقر إلى هديه؛ إذا اقتضت الحجة على البشرية أن جعل الله سبحانه العلماء -الذين هم ورثة الأنبياء- يقومون ببيان الاستدلال بهذا القرآن الذي هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدق نبوته، ولذلك كان من أعظم فضائله إيتاؤه القرآن، فإنه كتاب معجز ومحفوظ من التبديل والتغيير والتحريف على مر الدهور قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. والقرآن جامع لكل شيء، ومستغن عن غيره، ومشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب السابقة والديانات، وهو ميسر للحفظ، ونزل منجماً، ونزل على سبعة أحرف، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42]، وقال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وقال عز وجل: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ} [الإسراء:106] أي: جزأناه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]. وقد روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً) يعني: المعجزات الحسية التي يؤمن البشر إذا رأوها، تقوم مقام كلام الله سبحانه وتعالى المباشر بأن هذا الرسول حق وصدق فآمنوا به واتبعوه، فبدل أن يخاطب الله الناس مباشرة بمثل هذه العبارة أرسل الرسل وأيدهم بما يقوم مقام هذه الشهادة بصدق الرسل، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، كتاب علم كما قال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] يعني: وحياً؛ لأن العلم هنا هو الوحي، وطريق العلم هو الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: (ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) معناه: أن معجزة الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، ومن ذلك خرقه العادة في أسلوبه وبلاغته، وإخباره بالمعنيات فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر عنه أنه سيكون دليلاً على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل أيضاً في معنى هذا الحديث: إن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار: كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصائر، فلا تنقرض بانقراض مشاهدها، بل تبقى ويشاهدها كل من جاء بعد الأول باستمرار، فيكون من يتبعه لأجلها مؤمناً، ولذلك قال: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تبعاً) لماذا؟ لأن معجزتي باقية ودائمة وخالدة. إذاً: تخصيص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإيتائه القرآن العظيم تشريف يفوق ما أوتي النبيون من كتب ومعجزات، إذ كان ما أوتوه عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يعدو أن يكون خارقاً من الخوارق ينتهي بانتهاء زمنه أو تشريعات ووصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، أما القرآن فهو معجزة الدهر، وكتاب الزمن، ودستور الحياة في شتى نواحيها، يعلم الإنسانية ويأخذ بيدها إلى حيث رقيها وسعادتها، يصحح ما أخطأ فيه كبار الفلاسفة والمفكرين من الحقائق الكونية، ويقوم ما انحرف عنه زعماء المتدينين من العقائد الدينية، يساير التقدم العلمي ويدعو إلى تحرير الفكر والعقل من أغلال التقليد وأوهام الجمود، أثبت من النظم والقوانين ما لم يصل إليه فقهاء التشريع في القديم والحديث، وثم مناهج للأخلاق وآداب السلوك قصرت عنها أنظار علماء الاجتماع في أرقى الأمم حضارة في شرق الأرض وغربها. يضاف إلى هذا فصاحة أسلوبه، وسلاسة ألفاظه وترتيله، وروعة تصويره، وأخذه بمجامع القلوب، وامتلاكه للنواصي والألباب. وإنك لتجد البون شاسعاً بينه وبين سائر الكتب المنزلة الخفي منها والجلي، والكتب الأخرى غير القرآن الكريم كالتوراة والإنجيل كتب غير معجزة كما صرح بذلك شيخ إعجاز القرآن الأول من علماء التفسير وهو الزمخشري بلا منازع على بدعته وضلاله، واتباعه لمنهج المعتزلة، لكن مع ذلك فهذا مما لا يتكلم فيه عن جهل، حيث إن الزمخشري من أوفى الناس حظاً من ناحية بيان إعجاز القرآن الكريم البلاغية، فـ الزمخشري صرح أن الكتب الأخرى كالتوراة والإنجيل غير معجزة، إذ الإعجاز خاص بالقرآن من بين سائر الكتب السماوية، على أن الإنجيل عبارة عن مواعظ ووصايا ألقاها عيسى عليه السلام على أتباعه عقب نزولها عليهم من غير أن تدون في كتاب، والأناجيل الموجودة عند النصارى هي من تأليف بعض الحواريين، كتبوا فيها سيرة عيسى بعد رفعه بمدة طويلة، وهذا هو السبب فيما يوجد بين النسخ المختلفة من تناقض واختلاف وغير ذلك من التحريفات. إذاً: اختص القرآن الكريم بكونه الكتاب المعجز دون سائر الكتب التي أنزلت على النبيين، فإذا وازنت التوراة المسماة: بالعهد القديم بأسلوبها وأحكامها وتعاليمها ووصاياها وما فيها من قصص وتواريخ بسورة من سور القرآن أدركت الفارق الكبير بين الكتابين، وكأنك بهذه الموازنة تحيك نور الشهاب من تلك الشهب التي تعترض في الأفق لامعة، ثم تنطفئ لا يكاد يقرأ بها أحد، إلا من كان يرقب حركاتها لغرض من الأغراض، كأنك تقرأ في نور هذا الشهاب بدون الشمس الذي يضيء الدنيا، ويبعث الحرارة في الكون، ويسري مع شعاعه الحياة والنور، ويذهب ظلام الليل وما حواه من ظلمات وأوهام. ومن هنا قال الله سبحانه وتعالى ممتناً على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ) أي: لقد خصصناك بهذا الكتاب وشرفناك به، وذخرناه لك، ولم ننزله على إبراهيم وموسى وعيسى؛ لأنهم -وإن كانوا رسلاً مكرمين- لم يصلوا إلى رتبتك، ولا حاموا حول منزلتك، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]. قال الزمخشري: أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين؛ لأن هذه الآيات من سورة العنكبوت هي أن المشركين اقترحوا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:50] فأتى A (( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ))، لو كانوا فعلاً طالبين للحق فقد جاءتهم الآيات، بل جاءتهم أعظم آيات على الإطلاق: ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ)) آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين، هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان؟! إن في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر لرحمة يعني: لنعمة عظيمة، وتذكرة لقوم يؤمنون. وخص الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم النبيين، وآخرهم بعثاً، وبأن شرعه مؤيد إلى يوم القيامة، وناسخ لجميع الشرائع قبله، وأنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]. (خاتم النبيين) يعني: آخر الأنبياء ختمت به النبوة، ولم يقل: وخاتم المرسلين؛ لأنه يحتمل لو قال: خاتم المرسلين أن يقول قائل: كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فيمكن أن يبعث بعده نبي، لكن عندما يسد الباب بختم النبوة التي هي قنطرة إلى الرسالة؛ فلا شك أن ذلك يتضمن أيضاً ختم الرسالة. وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] فالقرآن مهيمن وحاكم على ما عداه من الكتب، ولذلك استدل بهاتين الآيتين -وهما قوله: ((وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ))، وقو

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أعطي خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أعطي خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أعطي خواتم البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطهن أحد قبله.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل إلى الناس كافة

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل إلى الناس كافة ومنها عموم دعوته للناس كافة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. فهو رسول الله إلى البشر كافة، وهو أكثر الأنبياء تبعاً من حيث كثرة عدد الأتباع، وهو مرسل إلى الإنس والجن بالإجماع، وإلى الملائكة في قول. وأنه أوتي الكتاب وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله عليه وسلم.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب مسيرة شهر

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب مسيرة شهر عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا الحديث فيه تبيان لبعض خصائصه التي لم يشركه فيها نبي آخر: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر) يعني: العدو الذي يكون بعيداً عنه لمسافة تقطع في شهر فإنه إذا وصل إليه خبره -على بعد هذه المسافة- يقذف الله في قلبه الرعب والخوف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وذكر بعض العلماء أن هذا أيضاً متحقق لأمته، وإذا صح هذا القول فلعله يفسِّر كيف أن قوى الكفر والشرك والوثنية من كل أجناس العالم الآن تتكالب وتتوحد ضد المسلمين، مع ما عليه المسلمون وما عليه من الضعف والهوان والانحراف عن دينهم، ومع ذلك ليس لهم حديث إلا عن الإسلام، والتخويف من الإسلام، حتى جعلوا كلمة الإرهاب مرادفة للإسلام، جعل أعداء الله الصادون عن سبيل الله كلمة الإرهاب بديلاً لكلمة الإسلام، فالإرهابيون هم المسلمون، والإسلام هو الإرهاب، وصدقوا فإن الله سبحانه قال: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، وصدقوا فإن الذي ألقى في صدروهم هذه الرهبة وهذا الخوف هو الله الذي نصر رسوله ونصر أمته بإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، فهم يخافون أن ينهض المسلمون من كبوتهم، وحينئذ لا تقوم لهم قائمة، فهذا يعرفونه جيداً لأمر مهم جداً، وهم يهتمون كثيراً بدراسة التاريخ، ويعرفون خصائص هذه الأمة أكثر مما يعرفها أكثر المسلمين ممن يجهلون حقيقة هذه الهوية الكبيرة، وهذا الشرف الذي شرفهم الله به حين جعلهم مسلمين، وجعلهم من أمة خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام. فنحن نرى أقوى دول العالم سواء كانت أمريكا أو غيرها من حيث القوى المادية كيف أن خوفهم من الإسلام جعلهم يخططون بخطط كلها توضع من أجل الإسلام، ويصرحون في كل حين ووقت أن عدوهم الأول هو الإسلام، مع ما فيه المسلمون من الضعف، فما بالك لو توحد المسلمون؟! وما بالك لو اعتز المسلمون بدينهم ورجعوا إلى سابق مجدهم وسابق عهدهم؟! وفي الحقيقة إن هؤلاء القوم يورثون للأجيال الحقد على الإسلام والمسلمين، فالإنسان إذا تتبع جذور هذه الأساليب الوحشية التي يسلكها الكفار مع المسلمين سواء ما حصل من الصرب، أو ما حصل من قبل في الحروب الصليبية من المذابح، وفي الأندلس وغيرها من البلاد إلى يومنا الحاضر؛ يعرف هذا، فلو أدركتم ما كان عليه المسلمون من العزة وما كان عليه الكفار من الذلة والهوان خاصة في العقود الأخيرة أو الفترات المتأخرة كالخلافة العثمانية لوجدتم تحقيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه جعلت له الأرض مسجدا وطهورا

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل) يعني: لا يشترط أن تكون الصلاة في مسجد كالأمم السابقة، من أنه لابد أن يتعبد في المكان المعين، بل حتى الماء إن فقده فيتيمم في المكان الذي يصلي فيه، والأرض كلها طهور، وعند العجز عن الماء أو فقدان الماء فيوجد التراب في كل مكان، فهي شريعة سهلة حنيفية.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) لقد كان المجاهدون من قبل في الأمم السابقة إذا حصلوا على غنائم في القتال يجمعونها في مكان واحد، ثم تنزل نار من السماء فتحرقها، أما هذه الأمة فأحلت لها الغنائم.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إعطاؤه الشفاعة

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إعطاؤه الشفاعة قوله: (وأعطيت الشفاعة). والمقصود هنا: الشفاعة العامة، أي: وأعطيت الشفاعة العامة لإراحة الخلائق من الموقف، ومن أهوال يوم القيامة، أما غيرها من الشفاعات فقد شاركه فيها غيره من الأنبياء، بل والملائكة والصالحون، فهناك شفاعات بعض منها فيه نوع من خصائص الرسول عليه السلام، فيوم القيامة يجتمع الخلق كلهم والبشر أجمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما يمرون على عامة الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا، وتأملوا يوماً طوله خمسون ألف سنة، والشمس تدنو بمقدار ميل، حتى يغرق الناس في عرقهم، والميل هو الميل الذي يوضع به الكحل في العين، أو هو المسافة المعروفة التي هي حوالى كيلو ونصف أو أكثر، وهذا من أجل أن نتخيل كيف تكون شدة هذا الموقف! فالشمس تبعد عن الأرض بمقدار ثلاثة وتسعين مليون ميلاً، فتخيلوا الثلاثة والتسعين ألف ألف ميل، عندما تصير ميلاً واحداً، كيف يكون الحال؟! على أي الأحوال هذه الشفاعة المذكورة هنا: (أعطيت الشفاعة) المقصود بها الشفاعة العامة في الخلائق كلها، كي يبدأ الحساب، وتوضع نهاية لهذا الوقوف الذي يمتد خمسين ألف سنة، أما غيرها من أنواع الشفاعات فهي ثابتة للنبي عليه السلام، ويشاركه فيها غيره من الأنبياء، وهناك شفاعة للملائكة وهناك شفاعة للصالحين وهكذا.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الناس عامة

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الناس عامة قوله: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة). وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)، فالنبي عليه الصلاة والسلام معجزته باقية، وكل بشر يستطيع أن يطلع عليها، وبالتالي يلزم من كونه أكثر الأنبياء تبعاً أن يكون أكثر الأنبياء قدراً وثباتاً؛ لأن كل حسنة يفعلها من اتبعه عليه الصلاة والسلام ومن انتفع بهديه تكون مثلها في ميزان حسنات رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وأنا أو من يقرع باب الجنة) أول من يقرع باب الجنة؛ لأن هناك أوامر من الله سبحانه وتعالى للملائكة على أبوب الجنة، أنها لا يمكن أن تفتح لأحد أبداً قبل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صح في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقال: من؟! فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد)، رجل واحد فقط آمن ببعض الأنبياء!

من خصائصه صلى الله عليه وسلم كونه رحمة للعالمين

من خصائصه صلى الله عليه وسلم كونه رحمة للعالمين من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه رحمة للعالمين، وكلمة (عالمين) تشمل جميع العالمين بما في ذلك الكفار أنفسهم، وتشمل الطيور في الهواء، والأسماك في الماء، والحشرات والحيوانات، وكل شيء تشمله هذه الرحمة، فمن مظاهر كونه رحمة للعالمين حتى الكفار تأخير العذاب، حيث لم يعاجلوا بالعقوبة كسائر الأمم، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! ادع الله على المشركين، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا رحمة مهداة)، فهو هدية من الله سبحانه وتعالى إلى البشرية.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إقسام الله تعالى بحياته

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إقسام الله تعالى بحياته من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم إقسام الله تعالى بحياته، فالله سبحانه وتعالى حلف وأقسم بحياة وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ)) أي: الكفار في سكرتهم يعمهون.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إسلام قرينه من الجن

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إسلام قرينه من الجن من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم إسلام قرينه من الجن؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا ومعه قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)، (فأسلم) يعني: من شره، أو (فأسلم) أي: دخل في دين الإسلام، وهذا هو الواقع الذي عليه يبنى هذا المعنى، وهو إسلام قرينه، وأنه دخل في الإسلام، ولكن الله أعانه عليه فأسلم أي: دخل في الإسلام أو (فأسلم) أي: من شره فلا يأمرني إلا بخير.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم ندائه باسمه على الأمة

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم ندائه باسمه على الأمة قال أبو نعيم: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم ندائه باسمه على الأمة، بخلاف سائر الأنبياء فإن أممهم كانت تخاطبهم بأسمائهم، ويحرم على كل مسلم أن ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، يعني: لا يحل لأحد أن يقول له: يا محمد!، وإنما لابد أن يقول له: يا رسول الله! قال الله تعالى حكاية عن قوم موسى: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وقال تبارك وتعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:112]، وقال تعالى لهذه الأمة: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسأل عنه في قبره

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسأل عنه في قبره من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسأل عنه في قبره؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في أثناء الحديث: (فأما فتنة القبر فبي تفتنون، وعني تسألون، فإن كان الرجل صالحاً غير مبتدع وسع له في قبره، ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: في الإسلام، فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبينات من عند الله عز وجل، ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك منها، ويقال: على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله) إلى آخر الحديث.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم نكاح أزواجه من بعده

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم نكاح أزواجه من بعده ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم نكاح أزواجه من بعده، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، فإن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، فلذلك حرم الله سبحانه وتعالى على أزواجه صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده؛ لأنهن أزواجه في الجنة. ومما قيل في تعليل ذلك: إنهن أمهات المؤمنين، وإن في ذلك غضاضة ينزه عنها عرضة الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما جاء في الحديث أن رجلاً اشترط على امرأته بأنه إن مات فإنها لا تتزوج بعده، قال النبي عليه الصلاة والسلام ما معناه: (إن ذلك لا ينبغي) يعني: لا ينبغي مثل هذا الاشتراط، فإن تحريم نكاح الأزواج بعد موت أزواجهن إنما هو خاص بأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، ولعل الحكمة هي ما ذكرت من أن هذا فيه غضاضة وأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، بجانب أن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا، فلو قدر أنها تتزوج بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فسيكون آخر أزواجها غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم مدافعة الله عنه أعداءه

من خصائصه صلى الله عليه وسلم مدافعة الله عنه أعداءه قال أبو نعيم: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن من تقدمه من الأنبياء كانوا يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم بأنفسهم، كقول نوح: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61]، وقال هود عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67] إلى غير ذلك من الآيات التي تبين أن الأنبياء هم الذين يتولون الرد والدفاع عن أنفسهم، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد تولى الله تبرئته عما ينسبه إليه أعداؤه، ورد عليهم بنفسه عز وجل، ولذلك في كثير من المواضع يقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2]، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، لكن لما عير عدو الله النبي عليه السلام بأنه أبتر لا يعيش له ولد، وليس في ذريته ولد، لم يقل (قل إنا أعطيناك الكوثر)، وإنما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، بدون واسطة، فهذا يدل على أن الله هو الذي يتولى بنفسه الدفاع عن خليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فحينما نتأمل آيات القرآن نجد هذا المعنى، وهو أن الله هو الذي يدافع عنه عليه الصلاة والسلام، يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، ويقول أيضاً: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:2 - 3]، وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] إلى غير ذلك.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إيتاؤه جوامع الكلم ومفاتيح خزائن الأرض

من خصائصه صلى الله عليه وسلم إيتاؤه جوامع الكلم ومفاتيح خزائن الأرض من خصائصه صلى الله عليه وسلم النصر بالرعب مسيرة شهر أمامه، وشهر خلفه، وإيتاؤه جوامع الكلم، ومفاتيح خزائن الأرض، وعلم كل شيء إلا الغيب واللوح، وبين له من أمر الدجال ما لم يبين لنبي قبله. ومنها تسميته أحمد، وهبوط إسرافيل عليه، فعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض -يعني: ملك الأرض-، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهوراً، وجعلت أمتي خير الأمم). وقال ابن كثير في تفسيره في آية الفتح: هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]. وعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبي قبلي)، وهي من قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة). وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، ومكان الزبور المئين) إلى آخر الحديث.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم اقتران اسمه الشريف باسم الله تبارك وتعالى

من خصائصه صلى الله عليه وسلم اقتران اسمه الشريف باسم الله تبارك وتعالى من ذلك أيضاًَ: اقتران اسمه الشريف باسم الله تبارك وتعالى في كثير من المواضع، ومن أشهر هذه المواضع الأذان كما قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد يقول تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24]، ويقول: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء:14]، ويقول: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة:16]، ويقول تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، وقال: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقال: {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، وقال: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة:59]، وقال: {أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:74]، وقال: {كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:90]، وقال: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37].

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله ذكر بعض أعضائه في القرآن

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله ذكر بعض أعضائه في القرآن من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى ذكره في كتابه الكريم عضواً عضواً، ومدحه بذلك، قال تعالى في وجهه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144]، وقال في عينه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه:131]، وقال في لسانه: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم:97]، وقال في يده وعنقه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29]، وفي صدره وظهره: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3]، وفي قلبه: {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97]، وفي خلقه قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وهذا ما لم يحصل لنبي قبله صلى الله عليه وسلم.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم التكني بكنيته

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم التكني بكنيته من خصائصه صلى الله عليه وسلم تحريم التكني بكنيته، ولم يثبت ذلك لأحد من الأنبياء؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين اسمه وكنيته، ويسمى محمداً أبا القاسم) يعني: من كانت كنيته أبا القاسم فلا يكون اسمه محمداً، ومن كان اسمه محمدًا فلا يكنى أبا القاسم، فلا يجوز للرجل أن يكون اسمه أو أبا القاسم محمداً، لكن له واحد من الاثنين، لكن أن يجمع بينهما فهذا من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم لا يشركه فيه أحد. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي).

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل بناته وزوجاته على سائر نساء العالمين

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل بناته وزوجاته على سائر نساء العالمين من ذلك اختصاصه صلى الله عليه وسلم بتفضيل بناته وزوجاته على سائر نساء العالمين، وأن ثواب زوجاته وعقابهن مضاعف لخطر منزلتهن رضي الله تعالى عنهن، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32]، وقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] إلى آخره.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل أصحابه على جميع العالمين سوى الأنبياء

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل أصحابه على جميع العالمين سوى الأنبياء من ذلك أيضاً: اختصاصه صلى الله عليه وسلم بتفضيل أصحابه على جميع العالمين سوى النبيين، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الأمم على الإطلاق، لم يبعث نبي في أمة هي أشرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، بل زكى الله سبحانه وتعالى ما كان عليه الصحابة، زكى إيمانهم وعقيدتهم ومنهاجهم بقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، فعلق هدايتهم على الإيمان بمثل ما آمن به الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم يكتف بقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا} [البقرة:137]، وإنما أراد الله أن يبين شرف أمة محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام بقوله: ((فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا))، وهذا أمر معلوم لثناء الله سبحانه وتعالى عليهم في القرآن، وورود الأحاديث الكثيرة الصحيحة في فضائلهم.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد

من خصائصه صلى الله عليه وسلم تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد من خصائصه صلى الله عليه وسلم: تفضيل بلديه على سائر البلاد، والدجال والطاعون لا يدخلانهما، وتفضيل مسجده على سائر المساجد ما عدا المسجد الحرام، والبقعة التي دفن فيها أفضل من سائر البقاع، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) أي: أنها تضاعف. وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بمكة يقول: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت). بعض الناس يحاولون دائماً أن يوظفوا نصوص القرآن والسنة لإشهار باطلهم وضلالهم، يريدون تثبيت المفهوم القومي الوثني الذي ليس مفهوماً إسلامياً، وإنما هو مفهوم غربي وافد إلى بلاد المسلمين، كموضوع الأرض والتراب والوطن وتقديس الوطن، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يقول مخاطباً وطنه: أدير إليك قبل البيت وجهي إذا هبت رياحك بالتراب يعني: أدير إلى وطني وأستقبلك قبلة قبل أن أستقبل الكعبة! فبعض الناس يحاولون أن يلغوا دلالات الأحاديث الشامخة على لسان المعصوم عليه السلام لتبرير ضلالهم، من أمثلة ذلك: كثرة الاستدلال بهذا الحديث على قضية حب الوطن بالطريقة التي يقصدونها، وهي تصادم العقائد الإسلامية والنصوص الإسلامية، فيقولون: إن الإنسان يحب الوطن، ويعطيه أولوية على سائر الأوطان، بمجرد أنه ولد فيه مثلاً، فهذه الصورة المعروفة التي يقصدونها، وحب الوطن معروف فطرة، وحديث: (حب الوطن من الإيمان) موضوع، لكن على الأقل هو فطرة، فالإنسان يحب المكان الذي نشأ فيه، ويحب أهل بلده ووطنه الذي ولد فيهم، لكن ليس أن الوطن يتحول إلى صنم كبير يعبد في مقام صغير، فهذا بلا شك يتنافى مع أبسط مبادئ ومفاهيم الإسلام، فهؤلاء الناس الضالون الذين هم أخذوا من أوروبا وغيرها مفهوم الوطنية الوثني، والولاء للوطن، وأن الوطنية هذه حاجز بينك وبين إخوانك في العقيدة وكل بلدة تعتز بصنم وطنها؛ حتى يمزقوا المسلمين، فيستدلون بهذا الحديث ويقولون: إن الرسول عليه الصلاة السلام دلل على حب الوطن بقوله: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله)، فهل هذا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد فيها وهي بلده أم لأنها أحب الأرض إلى الله؟ لأنها أحب البقاع إلى الله، وحتى لو كان يحبها رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنها بلده ووطنه فيجب على كل مسلم أن يكون البلد الذي يحبه رسول الله أحب إليه من كل بقعة على ظهر الأرض، فالمسألة ليست متروكة للاختيار، فكل مؤمن لابد أن يستحضر في القلب أن أحب الأوطان إليه هي مكة والمدينة وبيت المقدس، فهذه أحب الأوطان إليك، حتى تكون أحب إليك من أي مكان حتى البلد الذي نشأت فيه، ولا شك في ذلك، كما يقول الشاعر: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني فموضوع الوطنية هذه كانت مؤامرة، فالحدود السياسية صنعها أعداء الله من اليهود والنصارى، وضعها الإنجليز والفرنسيون والإيطاليون وغيرهم من أعداء الإسلام، فهم الذين قسموها هذا التقسيم؛ كي يحولوا بين وحدة المسلمين، وكي يسهل عليهم اقتناص أمة المسلمين واحداً بعد الواحد، وهذا حديث يطول، لكن هذه إشارة عابرة. فتنبهوا فإن هذا الحديث يساء فهمه لتأييد الوطنية بمفهوم الوثنية، والحديث إنما يثبت فضل مكة على سائر البقاع؛ لأن مكة حرم، فهي حرم إبراهيم عليه السلام حرمها إبراهيم، يقول عليه الصلاة والسلام: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله)، وهذه حكمة جعلها الله في مكة، مع أنه ليس فيها جنات مثل جنات أوروبا، أو بلاد الشام مثلاً، وليس فيها الخضرة، ولا الجو اللطيف، وإنما هو الحر والصحراء، وأضف إلى ذلك خشونة سلوك أهل مكة أحياناً، فبعض الناس منهم في معاملته خشونة شديدة، حتى العوام من الجهلة يقولون لك: نحن أخرجنا النبي عليه الصلاة والسلام من هنا والعياذ بالله ثم أدخلناه، وهذا كلام لا يقوله إلا الكفار الذين فعلوا ذلك، وهؤلاء العوام لا يقصدون ذلك. الشاهد: الذين يذهبون إلى أوروبا أو غيرها هي لأجل أنها طيبة وكذا وكذا، فتكون عوامل الجذب: حسن المعاملة، والطبيعة الجميلة، والجو الجميل، والنسيم العليل، فكل هذه تكون عوامل جذب، لكن مكة ليس فيها ما يجذب إلا كونها حرم الله سبحانه وتعالى، كما قال إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ} [إبراهيم:37]، حتى الشخص الذي يذهب إلى هناك ليس من دافع في قلبه إلى أن يبذل المال ويفارق الأهل والأولاد ويتكلف كل هذا إلا التعظيماً لبيت الله الحرام، لا من أجل الخضرة والمناظر الطبيعية؛ ولا من أجل الجو العليل؛ لأن الجو حار وشديد، ومع ذلك هي أحب بلاد الله إلى قلب كل مؤمن، وكل مؤمن أعز شيء عليه أن يشرفه الله سبحانه وتعالى بالحج أو الاعتمار إلى بيته الحرام، حتى تكون النية خالصة لوجه الله عز وجل. أذكر أن بعض المنصرين كانوا في إندونيسيا، وكما تعلمون أن التبشير ليس له سلاح أبداً، لا علم ولا حجة، ولا أي شيء سوى المتاجرة بمعاناة الناس، واستغلال ظروفهم، في إندونيسيا وفي كل بلاد العالم، وهؤلاء يسمونهم زوراً بالمبشرين، وإذا قلنا: مبشرين، فنعني مبشرين بالنار لمن آمن بهم، فهؤلاء اجتهدوا في التنصير مستغلين الثالوث المعروف: الفقر والجهل والمرض، وهذا هو أسلوبهم في دعوة الناس، وكما تعرفون إندونيسيا في غزو شديد من أيام الاستعمار الهولندي إلى اليوم، وهم في محاولة تنصير إندونيسيا وهي ما زالت قائمة على قدم وساق، إلى حد أنه بدأ الآن قتال طائفي في إندونيسيا، بين الإندونيسيين الذين كانوا مسلمين ثم ارتدوا، وبين المسلمين الباقين على الإسلام، في الوقت نفسه نسمع في نشرات الأخبار القتال الذي يحدث في إندونيسيا بين المسلمين والنصارى، المهم أفلحوا نتيجة الحرب والفقر الشديد أن استجاب لهم مجموعة من المسلمين تحت ضغط المرض والفقر المدقع، فدخلوا في ديانة النصرانية ظاهراً، ووافقوا القديس موافقة ظاهرية، فلما أراد القديس أن يكمل معهم طقوس الدخول في الديانة النصرانية وهيأهم للتعميد، قال لهم: لكل واحد منكم أمنية تحقق له، فما هي الأمنية التي تتمنونها وسوف نعملها لكم؟ فكلهم قالوا بصوت واحد: نحج إلى مكة! فكل مسلم يجد في قلبه حب مكة، والذي لا يجد في قلبه حب مكة ليس بمنتمٍ للإسلام، الذي يرى أنه يوجد مكان أعز عليه من مكة أو المدينة وبيت المقدس فهذا ليس منا، من لم تكن هذه الأماكن المشرفة أو البقاع المشرفة ليس لها هذه الأولوية في قلبه فليس هذا من المسلمين، فليبحث عن انتماء آخر، لكن كل مسلم يجد في قلبه مصداق دعوة الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة) وكما هو معلوم فإن على أنقابها وأبوابها حراسة من الملائكة، لا يستطيع أبداً المسيح الدجال أن يدخل مكة والمدينة، فالمدينة سيكون فيها منافقون غير صادقين في إسلامهم، فما الذي يحصل؟ تتزلزل الأرض، وتطرد المنافقين إلى الدجال في الخارج، لكن هو لا يدخل أبداً إلى مكة والمدينة.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله جعل أمته آخر الأمم وخيرها

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله جعل أمته آخر الأمم وخيرها من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله جعل أمته خير الأمم، وآخر الأمم، ويسر لهم حفظ كتابه في صدورهم، واشتق لهم اسمين من أسمائه تبارك وتعالى وهما: المسلمون والمؤمنون، (المسلمون) لأن الله هو السلام، (والمؤمنون) لأن الله من أسمائه المؤمن، وسمى دينهم الإسلام، ولم يوصف بهذا الوصف إلا الأنبياء دون أممهم، قال الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وهذه الخيرية ليست قائمة على أساس العنصرية كما هو الحال في كل المناهج المخالفة للإسلام، حيث تجد دائماً تفرقة عنصرية على أساس اللون البشرة على الأساس القبلي على أساس كذا أو كذا لكن هذه الخيرية بابها مفتوح لكل من شاء أن يلج إليها فيستطيع كل إنسان أن يتشرف بالانتماء إليها بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، وقال سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]. وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]: (إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى).

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله وضع عن أمته الإصر وأحل لهم كثيرا مما حرم على من قبلهم

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله وضع عن أمته الإصر وأحل لهم كثيراً مما حرم على من قبلهم من خصائصه صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله تعالى وضع عن أمته الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، وأحل لهم كثيراً مما حرم على من قبلهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، ورفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحديث النفس، ومن هم منهم بسيئة لم تكتب عليه سيئة بل تكتب له حسنة، يعني: من هم بالسيئة فلم يعملها فهذا الترك يثاب عليه حسنة، ومن هم بحسنة كتبت حسنة بمجرد الهم، فإن عملها كتبت عشراً، ثم يضاعف الله بعد ذلك لمن يشاء. ووضع عنها قتل النفس في التوبة؛ لأنه كما نعلم من القرآن الكريم كانت توبة بني إسرائيل أن يقتل بعضهم بعضاً {اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]. كذلك رفع عنا قرض موضع النجاسة، فقد كان من الأمم السابقة إذا أصاب ثوب أحدهم نجاسة فلا يطهر، وإنما يقرض -يقطع- المكان أو الموضع الذي أصابته النجاسة! ومن التيسير على هذه الأمة أخذ ربع عشر المال في الزكاة، وما دعوا به استجيب لهم، وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية، ونكاح الأربع، ورخص لهم في نكاح غير ملتهم من أهل الكتابين، وفي مخالطة الحائض سوى الوطء، بخلاف اليهود فقد كانت المرأة عندهم تعزل تماماً في حال الحيض، وفي إتيان المرأة على أي شق كان، وحرم عليهم كشف العورة، وشرب المسكر، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وكلمة (من حرج) نكرة في سياق النفي، فهي تعم، ولو قال: (حرجاً) فإنها تعم، لكن قوله: (اخرج) أقوى؛ لأنها نفت أي درجة من درجات الحرج، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال عز وجل معلماً إيانا أن ندعوه ثم استجاب لنا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286]، وقال تعالى في ظل وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وبركاته على العالمين وعلى هذه الأمة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] يعني: كانت على الأمم من قبلنا، قيل: من هذه الآصار والأغلال أن الشخص لو أكره على الكفر فكفر أنه يكفر بذلك، وليس له رخصة في التلفظ بكلمة الكفر إذا أكره على قولها، بل إما أن يكفر إذا قالها، وإما أن يصبر حتى يقتل، واستدلوا على ذلك بقول فتية الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، فنفوا الفلاح الأبدي الذي ترتب على خيار من خيارين ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ))، فوسع عذر الإكراه لأمة محمد عليه السلام، فالخيار ليس محصوراً في القتل أو الرجوع إلى ملة الكفر، فممكن أن يبقى حياً مع التلفظ بلسانه فقط وقلبه مطمئن بالإيمان، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] يعني: هذا هو الذي يكفر حقيقة، ولكن ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، ولا سلطان لأحد عليه، فيمكن أن توجد رخصة، فهذا أيضاً من وضع الآصار، واستدلوا في هذا المقام بحديث طارق بن شهاب الذي رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد: (دخل رجل النار في ذبابة، ودخل رجل الجنة في ذبابة، مرَ رجلان على أناس يعبدون الوثن، فقالوا للرجل الأول: قرب ولو ذباباًَ -يعني: لابد أن تقرب شيئاً لهذا الوثن- فأبى؛ فقتلوه فدخل الجنة -بسبب ترك التقرب بذبابة-، أما الآخر فقيل له: قرب وإلا نقتلك، فقرب ذباباً فخلوا سبيله، فكفر بذلك فدخل النار) أي: بسبب الذبابة، والحديث ضعيف، وإن صح فإنه يصلح شاهداً لهذا المعنى، وهو: أن العذر بالإكراه من خصائص أمتنا المحمدية. وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، وهذه الآية منقبة عظيمة جداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نلاحظ كثيراً من الفتاوى في القرآن الكريم كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة:222]، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، أما هنا فلم يقل (يسألونك عني)، لكنه سبحانه وتعالى هو الذي يضفي هذا الترغيب في الرحمة فيقول مبادراً ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي))، يعني: كأنه لم ينتظر حتى يسأل أحد، ولكن بادر سبحانه وتعالى بأن تقرب إلى عباده بقوله: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي))، ولم يقل: فقل: إني قريب، وإنما قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، فسبحان الله ما أعظم رحمة الله بعبادة المؤمنين!! وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (لما أنزلت هذه الآية: {إنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] دخل في قلوبهم منه شيء لم يدخل من قبل، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية شقت عليهم، فلما قالوا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا، فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فقالوا: سمعنا وأطعنا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة الكريمة). وفي بعض الأحاديث أن الله سبحانه وتعالى قال: (قد فعلت) يعني: قد استجبت هذا الدعاء وقد غفرت لكم. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرني أنه عذاب كان يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، كان له مثل أجر شهيد)، وهذا الحديث يعتبر سبق علمي في غاية الأهمية وفي غاية الخطورة، خاصة عند الأخصائيين بالصحة العامة الذين يهتمون جداً بالوقاية، فلا شك أن هذا الحديث يدل على أعظم درجات الوقاية من مثل هذه الأوبئة؛ لأنه لو سمح للناس الذين يقع الطاعون فيهم بالخروج لنقل هذا الوباء، أو سمح لمن لم يوجد فيه بالدخول فهذا فيه تعرض لهذا البلاء، وكله من قدر الله سبحانه وتعالى، ولذلك لما حصل الطاعون في الهند قبل حوالى خمس سنوات، فالذي حصل أن بعض مرافق الحكومة سمحوا لبعضهم بالفرار إلى أماكن أخرى؛ لأن الإجراءات كانت كلها سليمة؛ فانتشر الطاعون في عامة أرجاء الهند، بسبب أنهم تركوا الناس يفرون خارج المدينة، فانتشر الطاعون جداً، وإلى أيامنا هذه بعض دول الخليج تمنع الطائرات القادمة من الهند؛ خشية أن يأتي هؤلاء الناس معهم، وهذا كله بإذن الله سبحانه وتعالى، ولما حصل زلزال في جبال محيطة بهذه المنطقة في إيران، وكانت هناك أسر تعيش في جحور الجبال؛ فلما فتحت هذه الصدوع انتشر الطاعون عن طريق تأثير الزلزال، وامتد هذا المرض إلى هذه القرى، فكان هذا فعلاً من أقوى الإجراءات الوقائية، أي بلد يدخل فيه الطاعون فالمشروع لمن فيه أن يصبر ويحتسب ولا يخرج، والذي خارجها لا يدخلها، كما قال عمر: أفر من قضاء الله إلى قضاء الله. لما امتنع من الدخول إلى الأرض التي فيها الطاعون.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام سيصلي خلف رجل من أمته

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام سيصلي خلف رجل من أمته من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن من أمته من يصلي بعيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم؟!) قال العلماء: إن إمامهم هو المهدي بناءً على بعض الأحاديث الصحيحة التي فيها أن عيسى عليه السلام حينما ينزل وقد أقيمت صلاة الفجر وإمامهم المهدي يقول له المهدي: تقدم يا روح الله! فصل، فيمتنع المسيح عليه السلام من الصلاة ويقول: إن بعضكم أئمة بعض تكرمة الله هذه الأمة. وأيهما أفضل المهدي أم عيسى عليه السلام؟ عيسى بن مريم بلا شك، فعيسى نبي، ومن اللطائف أنه أيضاً صحابي، لأنه ينطبق عليه تعريف الصحابي في علم الحديث: من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وآمن به ولو وقتاً يسيراً من الزمن، فعيسى لقي النبي عليه الصلاة والسلام في رحلة الإسراء، وهو مؤمن به عليه الصلاة والسلام، وعيسى لم يمت؛ لأنه رفع إلى السماء وسينزل إلى الأرض في آخر الزمان. وفي بداية الأمر سوف يمتنع المسيح عليه السلام عن الصلاة إماماً؛ لأنه إذا صلى إماماً حسبما يقتضيه مقامه الشريف لوقع الناس في تخبط، هل عيسى جاء مشرعاً جديداً؟ وكيف وقد ختمت النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فحتى يزيل هذه الشبهة من البداية يمتنع أولا ًمن الصلاة إماماً؛ كي يصلي مأموماً خلف إمام من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وهو المهدي من أبناء النبي عليه السلام، ومن نسل الحسن رضي الله تعالى عنه، ومن ذرية فاطمة، لكن بعد ذلك الظاهر أن المسيح هو الذي يصلي بالناس، لكن الامتناع فقط عند بداية ظهوره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذكر ابن آدم بين يدي الدجال فقالوا: أي المال خير يومئذ؟! فقال: غلام شديد يسقي أهله الماء، قالوا: فما طعام المؤمنين يومئذ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: التسبيح والتكبير والتهليل)، يعني: أنهم في ذلك الوقت يشبهون الملائكة، قالت عائشة: (فأين العرب يومئذ؟ قال: العرب يومئذ قليل) يعني: قليل بالنسبة إلى غيرهم، والعرب الآن قليل بالنسبة للمسلمين أم لا؟ العرب الآن لا يساوون تسع باقي المسلمين؛ لأن المسلمين دائرة أوسع، ثم يأتي أعداء الله ويفرقون المسلمين بهذه الطريقة، وبالقوميات والوطنيات والوثنيات؛ لأن توحدهم يعتبرونه خطراً شديداً على العالم كافة، لو أن المسلمين العرب توحدوا، ثم انضمت إليهم بعض الدول مثل موريتانيا ودول شرق آسيا، يأتون من هذه المناطق مدداً إلى البلاد العربية، ثم توحدت كل بلاد المسلمين؛ فتخيل كم ستكون القوة والموارد البشرية، والعدد الضخم، والقوى العسكرية، والقنوات، والعلوم، والعقول النابغة وغير ذلك؟! لا شك أن هذا يقضي تماماً على قوة أعداء الإسلام؛ لأن تخلف المسلمين في كثير من المجالات ليس ناشئاً عن قصور، ولكنه ناشئ عن قلة الإمكانات، وتحريم العلوم والتكنولوجيا مع فتح الباب على مصراعيه للأمور الإفسادية، لكن الأمور الحساسة التي تعطي المسلمين قوة حقيقة هم يحولون دون المسلمين ودون ذلك بعقل الاستكبار الذي يسمونه العولمة. فالعرب قليل بالفعل بالنسبة لباقي المسلمين، فما بالك بالعرب إذاًَ بالنسبة للكفار في القتال الذي سيحصل مع الدجال؟!

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أمته أقل أعمالا وأكثر أجرا

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أمته أقل أعمالاً وأكثر أجراً من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أمته أقل أعمالاً من الأمم السابقة وأكثر أجراً؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سبق قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها، حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطاً -الأجر الذي يستحقونه-، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: أي ربنا! أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن كنا أكثر عملاً، قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء). فلا شك أن الحديث واضح في الدلالة جداً على تفضيل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم.

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض، وهو أول من يفيق من الصعقة عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع) صلى الله عليه وسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى الحلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري).

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله أعطاه المقام المحمود وجعل بيده لواء الحمد

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله أعطاه المقام المحمود وجعل بيده لواء الحمد من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى أعطاه المقام المحمود، وجعل بيده لواء الحمد، وأن آدم فمن سواه تحت لوائه، وأنه إمام النبيين يومئذ، وأنه أول شافع وأول مشفع، وأول من ينظر إلى الله تعالى، وأول من يؤمر بالسجود، وأول من يرفع رأسه، ولا يطلب منه شهيد على التبليغ ويطلب من سائر الأنبياء. وأعطاه الشفاعة العظمى في فصل القضاء، وأعطاه الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، والشفاعة فيمن استحق النار من الموحدين ألا يدخلها، والشفاعة في رفع درجات أناس في الجنة، والشفاعة فيمن خلد من الكفار في النار أن يخفف عنهم العذاب، والمقصود بذلك: أبو طالب، قال الله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن كل سبب ونسب منقطع إلا سببه ونسبه

من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن كل سبب ونسب منقطع إلا سببه ونسبه من خصائصه صلى الله عليه وسلم قوله: (ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب إلا سببي ونسبي). ومن ذلك قوله: (يضرب جسر جهنم فأكون أول من يجيز). ويقول عليه الصلاة والسلام: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك). وعن ابن عمرو رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فرفع يديه عليه الصلاة والسلام وقال: أمتي! أمتي! ثم بكى -يعني: رحمة لأمته وشفقة عليها- فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد وقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) (سنرضيك) أي: سنعطيك في شأن أمتك من أنواع الشفاعات وغيرها حتى ترضى؛ كما قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، وفي هذا الحديث أعظم عناية من النبي صلى الله عليه وسلم بأمته.

شبهات لابد من الرد عليها

شبهات لابد من الرد عليها

شبهة أن ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم من التفريق بين الأنبياء

شبهة أن ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم من التفريق بين الأنبياء هذا غيض من فيض فيما يتعلق بخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي شيء يسير سنذكره فيما بعد، لكن نشير في نهاية الكلام هذه الليلة حول وجود بعض الأشياء التي قد تشتبه على بعض الناس فيما يتعلق بأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم على إخوانه الأنبياء، فقد كان بعض الضالين يكذب بهذه الفضائل أو ببعض هذه الأحاديث ويقول: إن هذا من التفريق بين الرسل، والله تعالى يقول: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، ومن هؤلاء الضالين صالح أبو بكر، فكان يكذب بعض الأحاديث في الصحيحين، وفيها إثبات هذه الفضائل، كقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)، فيقول: إن هذا من التفريق بين الأنبياء، وهذا يعارض القرآن، فنحن نرد ذلك للقرآن لقوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، و A أن هذا في الإيمان والتصديق، أما أن يخبر الله سبحانه وتعالى بتفضيل النبي عليه السلام وخصائصه الشريفة فهذا ليس تفريقاً بينهم، الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ذمهم الله بقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء:150]، فالتفريق هو في الإيمان، أما أن يصدق بالأخبار النبوية في جانب الآيات القرآنية التي فيها هذه الخصائص؛ فهذا ليس من التفريق في شيء، وإنما هذا من شبه هؤلاء القوم.

شبهة أن الصلاة الإبراهيمية فيها تفضيل إبراهيم على محمد صلى الله عليهما وسلم

شبهة أن الصلاة الإبراهيمية فيها تفضيل إبراهيم على محمد صلى الله عليهما وسلم بعض الناس اشتبه عليه أننا في التشهد نقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلى آخره)، قالوا: إن قاعدة أهل المعاني أن المشبه به أعلى في الرتبة من المشبه، كما يقول: كما صليت على إبراهيم, فالمعنى أن الصلاة على إبراهيم أفضل وأعلى من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم! و A أولاً: الحديث فيه: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)، وآل إبراهيم يدخل فيهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا في الحقيقة تشريف لإبراهيم عليه السلام، حيث إن من ذريته محمد عليه الصلاة والسلام. ثانياً: أن المقرر في علم المعاني أن الغرض من التشريف إلحاق الأدنى بالأعلى، كما تقول: زيد كالبدر، أو إلحاق متأخر بسابق في معنى من المعاني من غير ملاحظة تفاوت بينهم، فهو إما لغرض إلحاق الأدنى بالأعلى، أو إلحاق متأخر في الرتبة بالسابق في معنى من المعاني دون اعتبار موضوع التفاوت بينهما في هذا المعنى، والصلاة الإبراهيمية من هذه القبيل؛ لأن معناها: اللهم صل على محمد كما حصلت منك الصلاة على إبراهيم, وليس هنا أخفض ولا أعلى؛ لأن الصلاة على إبراهيم منشؤها نبوته وليست أفضليته، نظير ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، فشبه استخلاف الأمة المحمدية باستخلاف اليهود قبلهم من غير نظر إلى التفاوت بين الاستخلافين، مع أن استخلاف الأمة المحمدية -وهي المشبه- أعم وأكمل من استخلاف اليهود المشبه بهم، فهي من نفس الباب. أيضاًَ: التفضيل بين الأنبياء منوط بأمرين: أولاً: خصال الكمال التي يتحلى بها النبي. ثانياً: المزايا التي يهبها الله تبارك وتعالى لهم. فلا شك أن رسولنا عليه السلام اجتمع له الأمران في أعلى صورة من الكمال البشري، فيكفي أن الله سبحانه وتعالى مدحه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وكان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، ولم يثن بهذا على نبي ولا رسول. أيضاً: مما يدل على هذه الأفضلية المزايا الكثيرة التي وهب الله نبيه صلى الله عليه وسلم والتي أشرنا إلى أشياء منها.

شبهة أحاديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء

شبهة أحاديث النهي عن التفضيل بين الأنبياء هناك حديث: (أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، وجاء في حديث آخر: (لا تفضلوني على يونس بن متى، ولا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى)؛ فهذه الأحاديث تنهى عن التفضيل بين الأنبياء. A أن بعض العلماء سلك مسلك الترجيح بأن هذه الأحاديث آحاد، وأفضلية النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة بالقرآن والسنة المتواترة والإجماع، فتكون راجحة بلا نزاع، هذا مسلك. المسلك الآخر: الجمع، وهو من وجهين: الوجه الأول: أن هذه الأحاديث خرجت مخرج التواضع، مع الإشارة إلى حفظ مقام يونس عليه السلام. الوجه الثاني: أنه قالها قبل أن يُعلمه الله بأفضليته عنده، فحين قالها لم يكن أوحي إليه هذه النعم العظمى التي أمره فيما بعد أن يخبر بها، كما في الحديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) يعني: ولا أقصد بذلك الفخر، لكن هذا من الوحي الذي لا ينبغي أن أكتمه؛ لأن من مقاصد الرسالة تعظيم النبي عليه السلام التعظيم اللائق به كما قال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]. إذاً: الوجه الثاني: أنه قالها قبل أن يعلمه الله بأفضليته عنده، وبيان ذلك أن الله تعالى والى إفضاله على نبيه وقتاً بعد وقت، ولحظة بعد لحظة، فكان أول ما قال في الإنذار: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ثم: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92]، ثم بعد ذلك قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، ثم صرف إليه الجن وبعثه إليهم أيضاً، ثم عمم بعثته فقال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]. ثم أسرى به وأراه من آياته ما زاده رفعة وعلواً، ثم لما أمره بالجهاد، أمر الملائكة أن يجاهدوا معه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، أمر الملائكة أن يقاتلوا معه، وأن يكونوا من جنده صلى الله عليه وسلم، وهكذا كلما مرت على النبي صلى الله عليه وسلم لحظة زاد في نفسه فضلاً، ونال من مولاه موهبة، فكلما نزلت عليه آية أو سورة ازداد بها علماً وقربى، فكان علمه بأفضليته متأخراً عن صدور تلك الأحاديث منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعدها: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فكل فضل آتاه الله نبياً من الأنبياء اجتمع هذا الفضل كله في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الله أثنى على إدريس بقوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، فلا يمكن أن يبلغ علو إدريس عليه السلام ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال تبارك وتعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، هل هناك ما هو أعظم من ذلك؟ إذا كان هود عليه السلام نصر بالريح فقد نصر محمد صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الخندق في غزوة الأحزاب. إذا كان يوسف عليه السلام قد أوتي شطر الحسن فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جميع الحسن عليه الصلاة والسلام، حتى كان من جمال صورته الشريفة عليه السلام ما حكاه بعض الصحابة: أنه رأى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي في حلة حمراء، وكان القمر مكتملاً، فجعل الصحابي ينظر مرة إلى القمر ومرة إلى وجه رسول صلى الله عليه وسلم، فرآه أجمل من القمر؛ من شدة الحسن الذي آتاه الله سبحانه وتعالى. إذا كان موسى عليه السلام من معجزاته أنه نبع الماء من الحجر فإن الماء نبع من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة، وهذا بلا شك أقوى وأعظم. إذا كان موسى عليه السلام من معجزاته انقلاب العصا إلى حية، فأيضاً حصلت معجزة حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم، فنفس الجذع كان يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أمر بأن يتخذ له منبراً، وكان هناك جذع في المسجد يعتمد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أثناء الخطبة، ففي أول يوم أتى الرسول عليه الصلاة والسلام ليصعد إلى المنبر، ومر على الجذع ولم يستند إليه كالعادة -وهذا الحديث ثابت قطعاً، وهو متفق عليه-، فعلى مرأى من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن حن الجذع وبكى وارتفع صوته! وهذه آية من آيات الله عز وجل، يحن حنيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبكي بكاءً لفراقه، حتى نزل من على المنبر وأخذ يضمه إليه حتى سكت وله حنين كالطفل الذي يبكي ثم يهدأ ويظل يأتي ببعض الأصوات من شدة البكاء، فهكذا حن الجذع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم!! إذا كان موسى عليه السلام قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، فإن الله هو الذي قال لخليله محمد عليه السلام: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144]، عليه الصلاة والسلام. وتلاحظون أنني دائماً أستعمل كلمة (خليله) بدل (حبيبه) كما يجري على ألسنة الناس أنهم يصفونه بالمحبة، وهو لا شك حبيب الله عز وجل، لكن الأفضل أن تقول: خليل؛ لأن الخلة أعلى درجات المحبة، فقولك: حبيب الله فيه تقصير؛ لأن الله اتخذ محمداً خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، كما صح بذلك الحديث. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال لموسى عليه السلام: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، فإنه قد قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، يعني: اتباعه صلى الله عليه وسلم يجلب للإنسان فضيلة ونعمة ما بعدها نعمة: {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه ُ}، وهذه بلا شك أعظم. وإذا كان داود عليه السلام قد كانت الجبال تسبح معه، فقد سبح الحصى والطعام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا كان سليمان عليه السلام قد أوتي ملكاً عظيماً، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أوتي مفاتيح خزائن الأرض، وامتد ملك أمته حتى شمل معظم الكرة الأرضية. وإذا كانت الريح سخرت لسليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإن البراق سخر له إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى من المنازل العالية. على كل الأحوال: هذه إلمامة عابرة، وبقي كلام يسير متعلق بهذه المسألة، وهي خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نكملها بإذن الله في الدرس القادم.

الفتح [2]

تفسير سورة الفتح [2]

تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك)

تفسير قوله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3]. يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يعني بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، إنا حكمنا لك -يا محمد- حكماً لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر؛ لتشكر ربك، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم، وفتحه ما فتح لك، ولتسبحه وتستغفره، فيغفر لك لفعالك ذلك ربك ما تقدم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح، وما تأخر بعد فتحه لك ذلك ما ذكرته واستغفرته. وبهذا يتبين ما قد يستشكل بعض الناس من العلاقة بين قوله تعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، وبين قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، فما وجه الارتباط بينهما يقول الإمام ابن جرير: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يعني: لتحمد الله سبحانه وتعالى على هذا الفتح، ولتسبحه وتستغفره، فبكل هذا يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك: قبل الفتح، وما تأخر أي: بعد الفتح. يقول الإمام شيخ المفسرين: وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، يعني: بعد الفتح أمره بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، يغفر لك بعد الفتح، ولذلك قال في سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ)) يعني: فتحنا لك فتحاً مبيناً، حتى إذا ما جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره؛ يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. إذاً: لابد أن نفهم هذه الآية في ضوء آية سورة النصر، فهذه السورة تدل على صحة هذا التفسير. يقول الحافظ الإمام ابن جرير: إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنه تواب على من فعل ذلك، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تبارك وتعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) إنما هو خبر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم على توحيده وشكره له على النعمة التي أنعم بها عليه، وإظهاره إياها؛ والله تعالى لا يجازي عباده إلا على أعمالهم دون غيرها؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ))، وهذا كله جزاء، والجزاء والثواب دائماً يكون مبنياً على فعل العبد نفسه وليس على فعل الله، يعني: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ))، فمغفرة الله وإتمام النعمة على النبي عليه الصلاة والسلام تكون جزاء لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، أنه يسبح الله ويحمده، ويستغفره فيغفر له، وقد صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقوم حتى تتورم قدماه، فقيل له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً)، ففي ذلك دلالة واضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول، وأن الله تبارك وتعالى إنما وعد نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة على شكره له على نعمه التي أنعمها عليه، وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة)، ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى لنبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا؛ لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ولا لاستغفار النبي صلى الله عليه وسلم ربه جل وعلا من ذنوبه بعدها معنى يعقل؛ لأن الاستغفار معناه: أن العبد يطلب من الله غفران ذنوبه، فإذا لم يكن له ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى؛ لأنه من المحال أن يقال: اللهم اغفر لي ذنباًَ لم أعمله، وقد تأول ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر إلى الوقت الذي قال فيه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)). وأما الفتح الذي وعد الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليها فإنه فيما ذكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية.

كلام السرخسي في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

كلام السرخسي في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال العلامة السرخسي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها؛ لأن فتح الله لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له! والجواب عن هذا من وجهين: الأول: وهو اختيار ابن جرير لدلالة الكتاب والسنة عليه، أن المعنى: إن فتح الله لنبيه يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح. الدلالة الوضعية للألفاظ إما أن تكون دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام، ودلالة المطابقة هي أن اللفظ يدل على المعنى الذي وضع له، مثل: لفظة (الإنسان) فيها دلالة مطابقة على الحيوان الناطق، فتنطبق تماماً عليه، أما دلالة التضمن فهي تدل على جزء المعنى، أي: دلالة اللفظ على جزء معناه، كما إذا قلت مثلاً: (الإنسان)، فتدل على جزء معنى الإنسان، أما دلالة الالتزام فهي دلالة تدل على لازم المعنى العقلي، يعني: إذا قلنا: أربعة فنفهم من هذا أن ذلك يلزم منه أن الأربعة عبارة عن عدد زوجي، فهذه دلالة الالتزام. فقوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يدل بدلالة الالتزام أنه يلزم من ذلك شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح، فإذا شكر الله على نعمة الفتح كافأه الله بأن يغفر له ذنوبه المتقدمة والمتأخرة بسبب شكره؛ لأنه يشكر الله بأنواع من العبادات يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والجزاء إنما يكون على فعل العبد، لا على فعل الرب سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يقول: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وهذا الفتح في حد ذاته لا يترتب عليه مغفرة الذنوب؛ لأن الذي فتح هو الله، وإنما الذي فعله النبي عليه السلام هو أنه بعدما فتح الله عليه قال بشكر نعمة الفتح، وامتثل ما أمره الله تعالى في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، حينئذ فكان بعد الفتح يكثر من التسبيح والاستغفار، فغفر الله له طبقاً لذلك ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكراً على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه؛ لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، ثم قال: {فَسَبِّحْ} فهذا فيه ترتيب المعلول على علته، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. فهذا من حيث الدلالة من القرآن بتفسير الآية بسورة النصر، وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أزواجه: (أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) يعني: قد غفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فيترتب على ذلك أن أشكر الله سبحانه وتعالى، فبين عليه الصلاة والسلام أن اجتهاده في العمل هو لشكر تلك النعمة، وترقب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به، فـ: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) هذه عاقبة وثمرة اجتهاده في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاستغفار والتسبيح والعبادة. الوجه الثاني في تفسير الآية: أن قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله، بمعنى: بما أنك -يا نبي الله- قد جاهدت في الله حق الجهاد، وترتب على هذا الجهاد الفتح من الله سبحانه وتعالى، فإن جهادك يكون سبباً لغفران ذنوبك المتقدمة والمتأخرة، فيكون المعنى هنا: ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح؛ لأن فتح الله له سبب، والسبب هو الجهاد في سبيل الله، فالمعنى: أنه ترتب على جهادك في سبيل الله سبحانه وتعالى حق الجهاد أن فتح الله عليك، فبسبب جهادك يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، هذا حاصل ما قاله المفسرون في هذه الآية، كذلك قال القاسمي كلاماً قريباً من هذا، وقال: أبو السعود: قوله: (ليغفر لك الله) غاية للفتح من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب. قوله: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أي: جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل صلى الله عليه وسلم.

كلام ابن كثير في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

كلام ابن كثير في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال الحافظ ابن كثير القرشي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: لم تثبت هذه الفضيلة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً في عاشوراء يكفر السنة الماضية، ويوم عرفه صيامه يكفر سنة ماضية وسنة مقبلة، أما أن يقال لعبد من عباد الله: إنه قد غفر الله له على سبيل التحقيق ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذه من تشريف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم، ولما كان أطوع خلق الله لله وأكثرهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: (حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) وقوله: (حبسها حابس الفيل) أي: الذي حبس الفيل عن أن يدمر الكعبة المشرفة، ففيه إشارة إلى أن هذا أمر إلهي من عند الله سبحانه وتعالى، فحينما بركت الناقة -كما سيأتي إن شاء الله في القصة المطولة لصلح الحديبية- فمعنى ذلك أن هذا من عند الله، ثم قال لهم: (والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها)، فهو أطاع الله سبحانه وتعالى في هذا الفعل، وأجاب إلى الصلح الذي حصل مع المشركين، فلما أطاع الله هذه الطاعة، وانقاد لأمره قال الله له: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} * ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) أي: في الدنيا والآخرة ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم، والدين القويم، ثم قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3] أي: بسبب خضوعك لأمر الله، يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله). وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ما عاقبت أحداً عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

المراد من قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر)

المراد من قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قوله تبارك وتعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، هو كقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، وبعض المفسرين قالوا: معناه ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعدها. وقال بعضهم: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) يعني: من ذنب أبويك آدم وحواء، (وَمَا تَأَخَّرَ) أي: من ذنوب أمته، وما أبعد هذا التفسير عن معنى القرآن كما قال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى! فهذا تأويل بعيد جداً عن قواعد علم التفسير. وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا أيضاًً بعيد كالذي قبله. وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين السابقين في البعد عن المدلول، وقوله: ما تقدم من ذنب يوم بدر، هو إشارة إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً)، فقال: هذا هو الذنب المتقدم! لكن هذا يحمل على الوجه الصحيح، حيث لم يكن على الأرض مسلمون غير تلك الفئة؛ فليس فيها أي معنى محذور، وقوله: (وَمَا تَأَخَّرَ) أي: يوم حنين، هو إشارة لما روى أنه لما رمى المشركين بالحصباء قال: (لو لم أرمهم لم ينهزموا؛ فأنزل الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17])، وهذا هو المتأخر، وهذا قول بعيد. وقيل: (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) أي: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأول أولى، فيكون المراد بالذنب الأول هو ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعد الرسالة، والمراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن ذنباًً في حق غيره، فهو من باب: (حسنات الأبرار سيئات المقربين). وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3]، الوضع يكون للحط والتخفيف، ويكون للحمل والتثقيل، فإن عدي بـ (عن) كان للحط كقوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}، وإن عدي بـ (على) كان المعنى الحمل، فوضعت عنك، غير وضعت عليك. والوزر لغة: الثقل قال تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] أي: ثقلها من سلاح ونحوه، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل ثقل أميره وشغله. والوزر شرعاً: هو الذنب، كما في الحديث: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وقد يترادفان في التعبير، كقوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} [النحل:25]، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13]، أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق، ولم يبين ما هو وما نوعه، فلذلك اختلف المفسرون فيه اختلافاً كبيراً كقوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ}، قيل: ما كان فيه من أمر الجاهلية، وحفظه من مشاركته معهم، فلم يلحقه شيء منه، مع أنك كنت بعيداً عن أهل الجاهلية، لكن وضعنا عنك وزرك، أي: حفظناك من أن تفعل ما كان يفعله الجاهليون، وقيل: ثقل تألمه مما كان عليه أمر الناس ولم يستطع تغييره، وشفقته صلى الله عليه وسلم بهم، يعني: أن هذه الآية: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) كقوله تعالى -على هذا التفسير-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، يعني: أسفاً عليهم. وقال أبو حيان: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب، وتطهيره من الأوزار. ومهما يكن من شيء فإن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها؛ لنص القرآن الكريم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ولوجوب التأسي به، وامتناع أن يكون في شيء من ذلك خطأ، فحكمة الله أن جعل الأنبياء معصومين؛ لأننا مأمورون بالاقتداء بهم في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة معصوم من الصغائر والكبائر، أما قبل البعثة فلا شك في العصمة من الكبائر أيضاً؛ لأنه كان في مقام التهيؤ للنبوة منذ صغره، وقد شق صدره الشريف في سن الرضاع، وأخرج منه حظ الشيطان، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته، ولم يذكر من ذلك شيء، فلم يبق إلا القول في الصغائر، فهي دائرة بين الجواز والمنع، فإن كانت بعد البعثة فهو معصوم من الصغائر والكبائر، وقبل البعثة فقطعاً هو معصوم من الكبائر، أما الصغائر فالأمر يدور فيها بين جواز وقوع ذلك أو منعه، وإن كانت جائزة الوقوع فوقعت فإنها لا تمس بمقامه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها وقعت قبل البعثة وقبل التكليف، وقد غفرت وحط عنه ثقلها، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه فهذا هو المطلوب. وقد ساق الألوسي رحمه الله تعالى خبر أن عمه أبا طالب قال لأخيه العباس يوماً: لقد ضممته إلي وما فارقته ليلاً ولا نهاراً، ولا ائتمنت عليه أحداً، وذكر قصة مبيته ومنامه في وسط أولاده أول الليل، ثم نقله إياه محل أحد أبنائه حفاظاً عليه، ثم قال: ولم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون. ومما جاء في كتب التفسير: أنه عليه الصلاة والسلام أراد مرة في شبابه أن يذهب إلى مكان عرس ليرى ما فيه، فلما دنا منه أخذه النوم، ولم يستيقظ إلا على حر الشمس، فصانه الله من رؤية أو سماع شيء من ذلك، ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة، حين سقط منه الرداء ومنع منه وفي الحال استتر، فهذه أدلة أصحاب المذهب الذي يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم حتى من الصغائر قبل البعثة. فما هو الجواب عن قول الله تبارك وتعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]؟ ما هو هذا الوزر؟ ولماذا قال: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]؟ قيل في A إنه تكريم له صلى الله عليه وسلم، فكلمة: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) هذا تكريم له، وكما جاء في أهل بدر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، مع أنهم لم يفعلوا محرماً، ولكنه تكرم منه لهم، ورفع لمنزلتهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب ويستغفر، ويقوم الليل حتى تورمت قدماه فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان كل ذلك منه شكراً لله تعالى ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال في أحد أصحابه -وهو صهيب رضي الله عنه-: (نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه)، وصهيب حسنة من حسنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء يقول: (غفرانك)، فبالنسبة لمقامه الشريف هو يرى أنه توقف لسانه عن الذكر، وبلا شك أنه كان يذكر الله بقلبه حتى في حال التخلي، لكن كان يضطر إيقاف لسانه عن ذكر الله في هذه الفترة التي لا يليق فيها ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان، ويقتصر على ذكر الله بالقلب، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا منه ذنب وتقصير، حيث حرم من ذكر الله باللسان، فكان إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك)، يعني: لإمساك لساني عن ذكرك في هذه الحال، فهو سأل الله المغفرة مع أنه لم يأت في الحقيقة بموجب للاستغفار، وإنما شعوره بترك الذكر في تلك الحالة هو الذي استوجب منه الاستغفار، وقد استحسن العلماء قول الجنيد: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، فالمسألة نسبية بالنسبة لمقام العبد عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا في حق أمهات المؤمنين: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، إلى آخر الآية، وقال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:30 - 31]، وهذا لعظم مقامهن، فإذا صدر من أي أم من أمهات المؤمنين ذنب فإنه يضاعف لها العذاب؛ لشرف وعلو مقامها عند الله سبحانه وتعالى في الجهتين، فما بالك بالنبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم؟! أو أن المراد بمثل هذه الآيات: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:55]، هو ما جاء في القرآن الكريم من بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة، فما ظن أنه ذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو وصفه ربه على أنه ذنب فهو في الحقيقة واحد من اثنين: إما أنه من باب ترك الأولى، وهو ذنب بالنسبة لمقامه الشريف، أو أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد وظن أن في هذا الأمر الذي فعله رضوان الله، فبعد ما فعله أعلم أن رضاء الله كان في الاجتهاد الآخر؛ فعد ذنباً في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، أما أن يتعمد معصية فلا وألف لا، ومثال

عصمة الأنبياء

عصمة الأنبياء قول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، واجتهاده في إيمان عمه، فقد كان حريصاً جداً أشد الحرص على إيمان عمه حتى قال الله له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} [القصص:56] ونحو ذلك، فتحمل الآية: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) على معنى الوزر اللغوي، {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] يعني: الثقل الذي كنت تتحمله من أعباء الدعوة، وتبليغ الرسالة، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت وعرفت أن الناس مكذبي)، يعني الناس سوف يكذبوني، وكيف يصدقون خبر الإسراء؟! قال: (فقعدت معتزلاً حزيناً فمر بي أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وقص عليه الإسراء) ففيه التصريح بأنه فظع، والفظاعة هنا: ثقل وحزن، فلا شك أن الحزن ثقل، ولا شك أن توقع تكذيب قومه إياه أثقل على نفسه من كل شيء، فهذا الثقل هو المقصود من قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] أي: رفعنا عنك هذا العبء وهذا الثقل. ومن ضمن الآيات التي فيها ذكر الاستغفار أو الإشارة إلى ذنب قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3]، قال البعض: إن الاستغفار إنما يكون عن ذنب فما هو هذا الذنب؟ وتقدمت الإشارة بإيجاز عن عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن التوبة دعوة الرسل، ولو بدأنا من قصة آدم عليه السلام قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، ومعلوم موجب تلك التوبة، وهو ما وقع من آدم عليه السلام، ثم نوح عليه السلام قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28]، وإبراهيم عليه السلام قال: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، وقال أيضاً: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] فبناء على هذا قال بعض العلماء: إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح، يعني: التوبة هي دعوة الأنبياء، فحتى الاستغفار نفسه هو عبادة في حد ذاته كالتسبيح، ولا يلزم من الاستغفار وجود ذنب. وقيل: ((وَاسْتَغْفِرْهُ)) هذا تعليم لأمته صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: ((وَاسْتَغْفِرْهُ)) هذا تكريم له ورفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، فيكون الاستغفار والتوبة عبارة عن الاستكثار من الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. وحاصل كلام الأصوليين في مسألة عصمة الأنبياء أو ما قاله العلماء في هذه المسألة هو: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثابتة من الكفر، وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة أو تطفيف حبة، فهذه أشياء متفق عليها بين الأصوليين، ولا شك أن كل الأنبياء معصومون من الكفر، وليس في هذا جدال، والحوار الذي قصه الله علينا في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] إلى آخر الآيات، إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظراً ولم يكن ناظراً، وناظراً معناه: مفكراً لنفسه، يبحث عن الحق والتوحيد، فلما رأى الشمس قال: هذا ربي، وقال: هذا القمر أو هذا الكوكب ربي لا، هذا لا يمكن أبداً، فإبراهيم عليه السلام نبي، وإبراهيم معصوم مما هو أدنى من هذا بكثير، فكيف يوصف إبراهيم -والعياذ بالله- بالشرك والحيرة في أمر الله؟! هذا مستحيل! وإنما كان يناظر قومه ويستدرجهم حتى يصل بهم في النهاية إلى الإقرار بالتوحيد، كنوع من الإلزام في أسلوب الحوار، لكن لا يمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام ناظراً لنفسه، فإن الأنبياء قطعاً معصومون من الشرك. إذاًَ: الأصوليون يتفقون على عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام من الكفر، وعن كل ما يتعلق بالتبليغ، فكل ما يتعلق بتبليغ الرسالة هم معصومون فيه، ومعصومون من الكبائر، ومعصومون من صغائر الخسة، وصغائر الخسة هي التي تدل على دناءة النفس وخستها، كسرقة لقمة أو تطفيف حبة عند الميزان مثلاً، فالحرص على هذه من صغائر الخسة، وتدل على دناءة النفس، فلا شك أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من ذلك، وأكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر -غير صغائر الخسة- منهم، ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك -وإن جاز عقلاً- لم يقع فعلاً، وقالوا: ما جاء في الكتاب والسنة من ذلك إنما فعلوه بتأويل أو نسيان أو سهو أو نحو ذلك.

كلام الشنقيطي في مسألة عصمة الأنبياء

كلام الشنقيطي في مسألة عصمة الأنبياء قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراكزهم العلية، ومناصبهم السامية، ولا يستوجب خطأً منهم، ولا نقصاً فيهم صلوات الله وسلامه عليهم، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب، فإنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة والإخلاص وصدق الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات. حتى ما وقع منهم من هذه الأشياء اليسيرة لو فرض أنها وقعت فالأنبياء لا يقرون على ذلك ولا يصرون عليه، وإنما لابد أن ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه توبة ترفع درجاتهم، بحيث إن النبي لم يكن يصل إلى الدرجة العليا لولا هذه التوبة. إذاً: يقول الشنقيطي: ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب؛ فإنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة، والإخلاص وصدق الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ينالوا بذلك أعلى الدرجات، فتكون بذلك درجاتهم أعلى درجة ممن لم يرتكب شيئاً من ذلك، ومما يوضح هذا قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121 - 122]، فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه واجتبائه -أي: اصطفائه- إياه وهدايته له! ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة، والعلم عند الله تبارك وتعالى. وقد قال بعض العلماء: رب معصية أوجبت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً. ولذلك قال النبي عليه السلام: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب العجب!) وقيل أيضاً: لأن يبيت الرجل نائماً ويصبح نادماً، خير له من أن يبيت قائماً ويصبح معجباً مغتراً بعمله.

كلام ابن حزم في عصمة الأنبياء

كلام ابن حزم في عصمة الأنبياء ما زلنا في بيان معنى قوله تبارك وتعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}، الحقيقة الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الفصل سرد تقريباً كل ما يظن البعض أنه ذنوب وقعت للأنبياء نص عليها في القرآن الكريم، ثم ظل يبين أن هذه الآيات لا تخرج عما ذكرناه، فالذنب إما أن يكون من باب ترك الأولى، أو أنه ذنب بالنسبة لمناصبهم الجليلة أو الرفيعة عند الله سبحانه وتعالى، أو أنه اجتهاد أرادوا فيه إرضاء الله، فبان بعد ذلك أنه خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، ولكنه لا يقر إذا أخطأ في اجتهاده، بل يأتي الوحي مصححاً له هذا الأمر، فتكلم في قصة آدم، ونوح، وإبراهيم، ولوط، وإخوة يوسف، وموسى وأمه، ويونس، وداود، وسليمان، وهذا في كتاب الفصل، وهو فصل كبير في هذه المسألة، وهو من أوسع الأبواب في ذلك. لكن سنقتصر على ما ذكره هو وغيره متعلقاً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار أننا نفسر هذه الآية: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، قالوا: فإن لم يكن له ذنب عليه الصلاة والسلام فماذا غفر له وبأي شيء امتن الله عليه في ذلك؟! يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: قد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان لا بتعمد نسيان أو بقصد ما يظنونه خيراً مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم. فهذان هما الوجهان اللذان غفرهما الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، ما حصل منه على سبيل النسيان، أو ما فعله يقصد فيه الخير فلا يوافق رضوان الله سبحانه وتعالى، من ذلك مثلاً قول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، ما هو الذي أخذوه؟ الفداء من الأسارى، قال ابن حزم: إنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذه الآية لا يفهم منها أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي ارتكب هذا الذنب، وإنما الخطاب للمؤمنين: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ)) يعني أيها المسلمون ((عَذَابٌ عَظِيمٌ))، وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين، يبين ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، وقال تعالى في نفس هذه السورة النازلة في هذا المعنى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، وقال تعالى أيضاً قبل ذلك الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال:67]، فهذا نص القرآن، وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المذكورة يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68]، فيه أنه لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ)) يعني: حكم سبق في قضاء الله أنه لا يمكن أن يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون، أي: حتى تقوم عليهم الحجة الرسالية أولاً. واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال كما في قوله تعالى: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ))، وأصح هذه الأقوال أنه ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا، فلما كان يوم بدر أسرع الناس إلى الغنائم، فأنزل الله عز وجل: ((لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ)) أي: بتحليل الغنائم، ((لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الغنائم لا تحل لأحد سود الرءوس غيركم، وكان النبي وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها) رواه أبو داود الطيالسي والترمذي وقال: حسن صحيح. فكان فيما مضى النبي إذا جاهد مع قومه يجمعون الغنائم في مكان واحد، ثم تنزل النار من السماء فتلتهم هذه الغنائم، ولم تكن تحل لهم الغنائم، ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أنه أحلت له الغنائم ولأمته، فأنزل الله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال:68 - 69]. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معيناً، والعموم أصح؛ لقول الرسول السلام لـ عمر في أهل بدر: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) أخرجه مسلم، هل معنى ذلك أنهم يصبحون معصومين؟ لا، بل معناه: أن أهل بدر إذا عاشوا بعد نزول هذه الآية، فمن يرتكب منهم معصية فإنه يأخذ لإزالة هذه المعصية بالتوبة، كلما ارتكب خطأً أو ذنباً فإنه يوفق إلى التوبة. وقيل: الكتاب السابق: هو ألا يعذب أحداً بذنب أتاه جاهلاً حتى يتقدم إليه. وقالت فرقة: الكتاب السابق هو ما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر.

عدم دلالة أول سورة عبس على وقوع المعاصي من الأنبياء

عدم دلالة أول سورة عبس على وقوع المعاصي من الأنبياء أما قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] إلى آخره، فبعض الناس يستدل بهذا على وقوع المعصية من الأنبياء، حتى إن الله عاتب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال ابن حزم رحمه الله: فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه، وعلم صلى الله عليه وسلم أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، وأظهر الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم اجتهد فرأى أن جواب هذا الأعمى ابن أم مكتوم لا يفوت، فهو موجود معه، فممكن أن يؤجل الإجابة قليلاً حتى يستدرك بعد ذلك، بخلاف ما لو فاته دعوة هذا الرجل وإسلامه، فاشتغل عنه صلى الله عليه وسلم لِما خاف فوته من عظيم الخير مما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فلو واحد منا في هذا العصر فعل ذلك الفعل لحمد على ذلك حمداً عظيماً، لكن في هذه المسألة بالذات اجتهاد النبي عليه السلام ونظره لمصلحة الدعوة رغم ما فيه من المعاني العظيمة لم توافق رضا الله سبحانه وتعالى، يقول: وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فعاتبه الله عز وجل على ذلك، إذ كان الأولى عند الله أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه. وكما سها صلى الله عليه وسلم من اثنتين ومن ثلاث، وقام من اثنتين، ولا سبيل إلى أنه يفعل من ذلك شيئاً تعمداً أصلاً يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم سها من اثنتين ومن ثلاث في الصلاة، فهذا يعني من نفس الباب. قال القرطبي: قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب، ولكنه لم يكن عالماً بأن النبي عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره. يحتمل أن ابن أم مكتوم لم يحس بذلك؛ لأنه لم يكن يرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلام هؤلاء، ولكن الله تبارك وتعالى عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى، وهو أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً نوع من المصلحة، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال في الحديث: (إني لأصل الرجل -يعني: أعطيه- وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه)، كذلك أنزل الله سبحانه وتعالى في حق ابن أم مكتوم على نبيه صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، وتأملوا أيضاً غاية الرق والحب والتعظيم من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل له: عبست وتوليت، بصيغة الخطاب، لكن ترفقاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وشفقة عليه، قال تبارك وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] بلفظ الخبر عن الغائب تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: عبست وتوليت، ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأليفاً له؛ لأن الاستمرار بخطابه بصيغة الغائب فيها إعراض، فقال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، ثم التفت إليه تأليفاً له حتى لا يستوحش من صيغة الغائب، قال له: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] تأليفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يدريك: يعني: ما يعلمك لعله يزكى؟ يعني: بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين؛ بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في (لعل) للكافر يعني: إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن؟ هذا تفسير آخر، يعني: وما أعلمك أن هناك أملاً في هذا الكافر أنه سوف يتزكى إذا التفت إليه وانصرفت عن الأعمال. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: عبر تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه بلقب يكرهه الناس، مع أنه تعالى قال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11] والجواب ما نبه عليه بعض العلماء من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه. فهذا هو السر الذي وصفه الله تعالى لأجله؛ لأنه متى ما كان هناك مندوحة وسعة في أن تعبر عن أخيك المسلم إذا أردت تعريفه بصفة لا ذم فيها تعين عليك ذلك، ولا يجوز أن تذكره بصفة يكرهها كالأعرج أو الأعمى أو كذا أو كذا من الصفات، إلا إذا لم تجد وسيلة لتعريفه إلا هذه الوسيلة، ويجب ألا تقصد بذلك التنقص أو السخرية أو الازدراء. والله سبحانه وتعالى -مع أنه قال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]- استعمل هنا لفظ الأعمى، فقال: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}، حتى يفهم قارئ القرآن أو مستمع القرآن أن هذا الرجل الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه لم يكن سيئ الأدب، بحيث إنه أقدم على قطع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يراه يخاطب غيره، وإنما كان معذوراً بسبب هذا العمى؛ لأنه لم يبصر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب غيره، فمن ثم أقدم على المقاطعة في قطع كلامه وسؤاله عما سأل من أمر الدين. وقال الفخر الرازي: إنه وإن كان أعمى لا يرى فإنه يسمع، وبسماعه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكباً معصية، فكيف يعاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه إنما عاتبه لعدم رفقه به، ومراعاة حال عماه، فعليه يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، يعني: أنه وصف بكونه (الأعمى)، والمقصود أنه في الحقيقة ليس أعمى؛ لأنه مبصر بقلبه بنور الإيمان، أما الأعمى الحقيقي فهو أنتم أيها الكفار كما قال الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فعليه: يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}، فهذا كفيف البصر، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن، وجاء مع عماه يسعى طلباً للمزيد، وأنتم تغلقت قلوبكم، وعميت بصائركم، فلم تدركوا الحقيقة، ولم تبصروا نور الإيمان، كما في الآية الكريمة: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. وسورة عبس فيها كثير من آداب طالب العلم كما تلاحظون قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] يعني: أن طالب العلم هو الذي سعى إلى الشيخ وإلى من يتعلم منه؛ لأن الآية بعدها: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى} [عبس:8 - 9] هذا من شدة حرصه على طلب العلم. وقد حث الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام على الصبر مع المؤمنين فقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] إلى آخر الآية، فمن ثم عاتبه لما أعرض عن الأعمى. وقال عز وجل: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:52] من رزقهم من شيء، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، ثم قال بعد ذلك: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] إلى آخر الآية. وقال نوح عليه السلام لما قال له قومه: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، يعيرون نوحاً عليه السلام بأن أتباعه هم الضعفاء والفقراء، يعني: من ضمن الأشياء التي نفرتهم من الحق أن قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}، الفقراء والمساكين {بَادِيَ الرَّأْيِ} يعني: مجرد أن دعوتهم اتبعوك، وهذا ليس عيباً في الإنسان أبداً، بل الإنسان يمدح للانقياد إلى الحق بمجرد ظهوره، فإذا ظهر الحق فالإنسان لا عذر له في التأخير للانقياد له، بل يمدح الإنسان بانقياد له كما مدح سحرة فرعون، حيث آمنوا في لحظات! قال فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71] فمدحوا في القرآن الكريم بسبب أنهم عندما ظهر لهم الحق انقادوا في الحال، ولم يؤخروا الانقياد، فيا عجباً ممن يتضح له حكم الشرع في كثير من القضايا فلا ينقاد! كالمرأة المتبرجة

دحض ما نسبه المستشرقون إلى النبي من الكذب

دحض ما نسبه المستشرقون إلى النبي من الكذب توجد أشياء تنسب زوراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثل ما يذكره بعضهم في تفسير سورة النجم من أن الرسول عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- ألقى الشيطان على لسانه وهو يقرأ الآية: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)، فهذا بلا شك كذب موضوع؛ لأنه لم يصح قط من طريق النقل، ولا معنى للاشتغال به، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد، وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52 - 54]، وقد ناقشنا بالتفصيل الشديد الكلام في هذا الآية، والرد على هذه الضلالة، وهناك رسالة للعلامة الألباني اسمها: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق. وهذا ليس ذنباً فقط، بل هذا شرك، والرسول عليه الصلاة والسلام معصوم من أدنى من هذا، فكيف يظن أنه سجد وسجد المشركون معه؟! هذا شيء صعب، وقد صح أنه سجد وسجد المشركون معه في نهاية سورة النجم، لكن هذا الكلام لم يصح على الإطلاق.

عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) على وقوع المعاصي من الأنبياء

عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) على وقوع المعاصي من الأنبياء بعض من جوز الصغائر على الأنبياء احتجوا بقول: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24]، قال العلماء: عاتب الله نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين: (غداً أخبركم بجواب أسئلتكم) ولم يستثن في ذاك يعني لم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً حتى شق ذلك عليه، وأرجف الكفار؛ فنزلت عليه هذه السورة مفرجة. فكيف نرد على الذين يستدلون بهذه الآية على أن النبي عليه الصلاة والسلام ارتكب معصية؟ نرد عليهم بكلمة واحدة موجودة في الآية: ((نَسِيتَ))، وبهذا يعلم نسيانه، فلم يكن عمداً، قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24]، فقد كفى الله سبحانه وتعالى الكلام في ذلك، لبيانه في آخر الآية أن ذلك كان نسياناً فعوتب عليه السلام في ذلك.

عدم دلالة قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) على وقوع المعاصي من الأنبياء

عدم دلالة قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) على وقوع المعاصي من الأنبياء واحتجوا كذلك بقوله تعالى في حق النبي عليه السلام: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول، ومن أمثلة ذلك هذه الآية: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ))، (ما) مجملة يعني: الذي أبداه الله، فأبهم الله سبحانه وتعالى هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة رضي الله عنه؛ لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)). هذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرآن، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم، أما ما تزخر به كتب الجهلة والمستشرقين من الطعن في النبي عليه الصلاة والسلام بكلام سخيف لا يصدر إلا من الكذابين، أنه ذهب -أستغفر الله- الرسول يزور زيد بن حارثة فتحرك الستر من على الباب فرأى بنت عمته زينب بنت جحش، فرآها جميلة، فقال: سبحان مقلب القلوب ثم عشقها، وأمر زيد بن حارثة أن يطلقها ليتزوجها! فهذا من كذبهم وافترائهم وعدوانهم على مقام النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم يستدلون بقوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى تكفل بأن يبدي هذا الشيء الذي أخفاه الرسول عليه السلام في نفسه، فهل فيما أبداه الله وفيما أوحاه الله للنبي عليه السلام أنه عشق بنت عمته؟ وكيف وهو لم يرها من قبل؟ وأنه أول ما رآها قال: سبحان مقلب القلوب إلى آخر هذا الكلام الظالم المعتدي المفترى؛ فلما تأملنا الذي أبداه الله رأينا التفاصيل التي نذكرها، ولم نجد فيه أنه عشقها وكتم ذلك في نفسه، فدل على كذب هذا؛ لأنه لو كان مما أخفاه في نفسه لكان الله سبحانه وتعالى قد أبداه. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: فإنه قد أبهم هذا الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة، فزواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا))، فمن الذي تولى عقد زواج زينب بنت جحش؟ الله سبحانه وتعالى! ولذلك كانت زينب بنت جحش تفاخر سائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني ربي من فوق سبع سماوات؛ لأن نون الضمير هنا في (زوجناكها) نون العظمة. فهذا هو اللائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم. وعليه فاعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه صلى الله عليه وسلم وأبداه الله وقوع محبة زينب في قلبه، ومحبته لها وهي تحت زيد، وأنها سمعته يقول: سبحان مقلب القلوب إلى آخر القصة؛ فهذا كله لا صحة له، والدليل عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئاً مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي رحمه الله تعالى: واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة بن دعامة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره: إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان زينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، إلى أن قال: وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، يعني في قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]؛ لأنها كانت تترفع عليه، ويحصل منها خصومات، فكان يذهب يشتكي للرسول عليه الصلاة والسلام فيقول له: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، ولا شك أن هذا القول غير صحيح، وأنه غير لائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم. ونقل القرطبي أن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيداً سيطلق زينب، وأن الله يزوجها رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن علم هذا بالوحي قال لـ زيد: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ))، مع أنه كان يعلم بالوحي أنه سيطلقها، وأن الرسول هو الذي سوف يتزوجها لحكمة عظيمة كما سنبين إن شاء الله تعالى. فبعد أن علم هذا بالوحي قال لـ زيد: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) فالعتاب على كلمة: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، وأن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سيزوجه زينب رضي الله عنها. ثم قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كـ الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم إلى أن قال: فأما ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هوى زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض المجان لفظ العشق، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا أو مستخف بحرمته صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها إلى آخر كلامه. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة هو ما ذكرنا أن القرآن دل عليه؛ وهو أن الله أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأن زيداً يطلق زينب، وأن الله يزوجها إياه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد، فلما شكاها زيد إليه صلى الله عليه وسلم قال له: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)) فعاتبه الله على قوله: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) بعد علمه أنها ستصير زوجته صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أن يقولوا: يريد تزوج زوجة ابنه -بالتبني- في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد. يقول تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]، كلما كان يأتي يشتكي له يقول: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، مع أنه قد نزل عليه الوحي يخبره أنه سيطلقها، وأن الله سيجوز الرسول عليه الصلاة والسلام من زينب رضي الله تعالى عنها، فهذا هو الذي عاتبه الله تعالى عليه، أنه كان يقول: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) مع أنه يعلم أنه سيطلقها وأنه سيتزوجها عليها الصلاة والسلام. ((وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) خشي مقالة الناس لو قال لهم ما أوحاه الله إليه من أنه سوف يطلقها وسوف يزوجها إياه، فالناس سيقولون: إنه يريد التزوج من زوجة ابنه في الوقت الذي هي مازالت في عصمة زيد، والدليل على هذا أمران: الأول: ما قدمنا أن الله عز وجل قال: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ))، وهذا الذي أبداه الله جل وعلا هو زواجه إياها في قوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا))، ولم يبد جل وعلا شيئاً مما زعموه أنه أحبها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى كما ترى. الأمر الثاني: أن الله جل وعلا صرح بأنه هو الذي زوجه إياها: ((زَوَّجْنَاكَهَا))، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء، في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}، فقوله تعالى: ((لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)) تعليل صريح لتزويجه إياها فيما ذكرنا، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سبباً في طلاق زيد كما زعموا، ويوضح هذا قوله تعالى: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا))؛ لأن الآية تدل على أن زيداً قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فمعناه أنه طلقها باختياره المحض، ولم يبق له عندها حاجة فطلقها، فإنما طلقها باختياره، والله تبارك وتعالى أعلم. قال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وهو أنه أخفى ذلك في نفسه.

عدم دلالة قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) الآية على وقوع المعاصي من الأنبياء

عدم دلالة قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) الآية على وقوع المعاصي من الأنبياء كذلك من الآيات التي قد يظن منها صدور المعصية عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، وأخبره الله بالعفو قبل الذنب؛ لئلا يطير قلبه فرقاً صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: هذا افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك حصل كذا وكذا. وقيل: المعنى: عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أنك أذنت لهم، ما هو هذا الإذن؟ قيل: هو الإذن لهم في الخروج معه، وفي خروجهم بلا عدة ونية صادقة. وقيل: المعنى: لم أذنت لهم في القعود لما اعتلوا بالأعذار؟

عدم دلالة قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) على وقوع المعاصي من الأنبياء

عدم دلالة قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) على وقوع المعاصي من الأنبياء كذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]، ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير) والمغافير: صمغ متغير الرائحة، يكون فيه حلاوة، واحدها مغفور، وطعمه مثل العسل، فتواطأت حفصة وعائشة أنه كلما أتى إليهما النبي عليه السلام ذكرتا له ذلك؛ لأنه أكل عند زينب عسلاً، كان يأتيها فيمكث ويشرب عندها عسلاً، تقول: (فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا ما دخل عليها رسول الله فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزل قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ))، إلى قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4] أي: عائشة وحفصة {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]). قال القرطبي: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) يعني: هو العسل المحرم بقوله: (لن أعود له)، ((تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ)) أي: تفعل ذلك طلباً لرضاهن: ((وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور مما أوجب المعاتبة، رحيم برفع المؤاخذة، وقد قيل: إن ذلك كان ذنباً من الصغائر، والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه عليه الصلاة والسلام لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.

عدم دلالة قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) على وقوع المعاصي من الأنبياء

عدم دلالة قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) على وقوع المعاصي من الأنبياء كذلك قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، ثبت في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج رأسه؛ فجعل يمسح الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟! فأنزل الله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ)) [آل عمران:128])، يعني: لا تقل: كيف يفلحون، {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}. قال القرطبي: قال علماؤنا: قوله عليه السلام: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم)، فيه استبعاد لتوفيق من فعل ذلك به، فيستبعد كيف يفلح أمثال هؤلاء الذين عاملوا نبيهم هذه المعاملة، وقوله تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ))، تقريب لما استبعده، وإقناع في إسلامهم، ولما أقنع في ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، وقد آمن منهم فعلاً كثير مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وها نحن نترضى عنهم إلى آخر الزمان، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في صلاة الفجر ورفع رأسه من الركوع: اللهم ربنا ولك الحمد في الركعة الأخيرة ثم قال: اللهم العن فلاناً وفلاناً،، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}).

عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) على وقوع المعاصي من الأنبياء

عدم دلالة قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره) على وقوع المعاصي من الأنبياء كذلك قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، هذه الآية نزلت في صلاته عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبي، وقد صلى عليه بناءً على الظاهر من تلفظه بالإسلام وإظهاره له، ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه، وإنما أراد الإحسان إلى ابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي، وفي نفس الوقت اكتفى بظاهر انتساب أبيه إلى الإسلام.

الرد على من يطعن في النبي عليه الصلاة والسلام من الملاحدة والحذر من مكرهم

الرد على من يطعن في النبي عليه الصلاة والسلام من الملاحدة والحذر من مكرهم كذلك فيما يتعلق بحادثة السحر هل هي تنال من العصمة؟ موضوع السحر للنبي عليه الصلاة والسلام قطعاً لم يمس قضية تبليغ الرسالة من قريب ولا من بعيد على الإطلاق، وسنبين إن شاء الله تعالى أن هناك أشياء لا يعصم منها الأنبياء، فالأنبياء يمكن أن يشكوا من مرض، بل إن النبي عليه السلام كان يمرض مرضاً شديداً وقال: (إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم)، وقال (إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر). فعلى أي الأحول: كما ترون هذه الآيات التي استدل بها بعض الذين ينفون عصمة الأنبياء أو ينسبون الذنوب حقيقة إلى الأنبياء، وكلها أجاب عنها العلماء بما ترون، فموضوع التجرؤ على مثل هذا فيه اعتداء على جناب النبي عليه السلام، وهو من هو عند الله سبحانه وتعالى، وعند ملائكته، وعند المؤمنين كما فصلنا ذلك، فعملية القدح في الأنبياء عن طريق القدح في صفاتهم هذا من قبل الكائدين لهذا الدين. وبعض الناس يندفعون في الحكم على أشياء توصف بأنها إسلامية، كما حصل منذ أسبوعين في جريدة الشعب، ففيها عنوان لمكان معين في الإنترنت، هذا الموقع يمدح بأنه موقع إسلامي، وفيه كثير من الموضوعات يتكلم عن النبوة، وعن وعن موقع لا يوجد مثله، ويمدح الكاتب فيه مدحاً عظيماً جداً جداً بنحو هذا الكلام، واكتفى فقط بذكر العناوين: النبوات، القرآن، الملائكة، الشهادة، الصلاة، الزكاة، صلاة الجماعة، الأسرة، هذه عناوين كلها عن مكتبة إسلامية رائعة، وذكر أنها بشتى اللغات بما فيها الصينية والماليزية وغيرها، فما بالك باللغات الأكثر شيوعاً، مع أن صاحب هذا الموقع هو رشاد خليفة مسيلمة مدينة توكسان في ولاية أرزونا في أمريكا قرب المكسيك، وهذا الرجل رشاد خليفة مصري خريج كلية الزراعة من القاهرة، وقد ادعى النبوة! وقد سلك مسلك التدرج في هذا الأمر، ففي أول الأمر ظهر على المسلمين بحكاية معجزة الرقم: (19)، وكالعادة نحن نغفل عن أصول هذه الأشياء، فمثلاً يوم (21) مارس هذه عيد من أعياد البهائية، فيعملون فيه عيد الأم ليشاركوا احتفال البهائيين بعيد مقدس عندهم! فرقم (19) الذي دوى في الدنيا كلها، هو قام بنوع من الدجل، فقد شغل الكمبيوتر ليعطيه بيانات، ويعمل عمليات معينة، فلو أعطيت مثلاً رقم (13) فسيخرج لك علاقات مبنية على رقم (13)، ورقم (19) مقدس جداً عند البهائيين، ودينهم يدور عليه، فالشاهد أن هذا الرجل يهدم دعوة الإسلام هدماً لا يستطيعه اليهود ولا النصارى لو اجتمعوا، وعدوانه على مقام النبي عليه الصلاة والسلام عدوان صارخ، فيقول: إنه اكتشف كتاباً مذهلاً ومدهشاً والأمة بقيت غافلة عنه من ساعة وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، أمر خطير جداً! المسلمون أجمعوا على هذا الأمر منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهو اكتشف حقيقة مذهلة على حد تعبيره، وهي: أن السنة النبوية بكل أقسامها الفعلية والقولية والتقريرية هي من عمل الشيطان، ويصف جميع علماء الحديث بالمجرمين، ويستدل بقوله تبارك وتعالى: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، يصف بهذا المحدثين! ويزعم أن الإمام البخاري هو المقصود بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]. إلحاد ما بعده إلحاد! ومع ذلك نجد أننا نتساهل في تقبل مثل هذه الأشياء التي ينبغي الحذر الشديد منها، فالمصائب كثيرة، وأنا كنت في مدينة توكسان مرة، ثم مريت على مسجد هذا الملحد، وكان هناك إخوة يريدونني أن أدخل هذا المكان الملعون الذي هو أشد خطراً من مسجد الضرار. الشاهد أنه لا ينبغي أن نتعامل بسذاجة وبساطة في تزكية أمثال هذه الأشياء دون أن نأخذ منها الحذر الكافي. فعلى الإخوة التنبيه والتحذير من الانخداع بمثل هذه الأشياء، ولابد أن نرجع إلى العلماء، ونفحص هذه الأشياء قبل أن نزكيها أو أن ندل الناس عليها. ومن العجائب التي سمعتها من الإخوة الذين كانوا يعيشون معه في نفس المدينة أن عنده صلاة الجماعة تكون بين الرجال والنساء جميعاً، ومع هذا نجد من يجازف ويتهور ويقول: هو موقع إسلامي ليس له مثيل، وهو متميز! فهذا هو رشاد خليفة مسيلمة الكذاب في مدينة توكسان، ودجال هذا العصر، ورغم أن الله سبحانه وتعالى أهلكه منذ سنوات، لكن ما زال هناك من يصفون خلفه، ويبثون دعوته بكل اللغات في شتى أنحاء الأرض! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفي المسلمين شرهم أجمعين.

تابع الفتح [2]

تابع تفسير سورة الفتح [2]

تفسير قوله تعالى: (ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما)

تفسير قوله تعالى: (ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً) قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2]. وصف الله سبحانه وتعالى نعمته على نبيه التي أسبغها عليه صلى الله عليه وسلم بالتمام، إيذاناً منه بدوام هذه النعمة واتصالها، فقوله: ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) يدل على أن نعمة الله سبحانه وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم هي نعمة دائمة متصلة لا يمكن أن يسلبها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطاه الله إياها، بل يتمها له صلى الله عليه وسلم بالدوام في هذه الدار وفي دار القرار. وما أحسن اقتران التمام بالنعمة، وإضافة النعم إليه، فقال سبحانه: ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ))، في حين أنه سبحانه وتعالى قال في الذنب: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، فالنعمة وصفها بالتمام، وأضاف نعمته إلى نفسه عز وجل، أما الذنب فأضافه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما جاء في سيد الاستغفار: (أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا ينسب إليه الشر، فليس في أفعاله شر على الإطلاق، وإنما أفعاله عز وجل خير كلها، وهذا المعنى أوضحناه في مناسبات عدة، ومنها هذا الموضع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: العارف يسير إلى الله تعالى بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل. يعني: هذان ركنا العبودية، مشاهدة منة الله سبحانه وتعالى على العبد، ومطالعة عيب النفس والعمل، فإن مشاهدة منة الله سبحانه وتعالى على العبد توجب له عز وجل المحبة والحمد، والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار والتوبة في كل وقت، وأنه لا يرى نفسه إلا مفلساً، وأقرب باب دخل منه العبد على الله سبحانه وتعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباًً يتعلق به، ولا وسيلة منه يمن بها، فالعباد لم يدخلوا على الله تعالى إلا من باب الافتقار الصرف، والإفلاس المحض، دخول من قد كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع، وملكته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه عز وجل، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر، إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته، ولا طريق إلى الله تبارك وتعالى أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوة، والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام، هذا معنى العبودية، فلابد في العبودية من هذين الركنين، حب كامل وذل تام، فإذا وجد الحب بدون ذل وطاعة وانقياد فليست هذه العبودية، وإذا وجد انقياد بدون الحب فهذه أيضاً ليست عبودية، فربما انقاد الإنسان إلى من هو أعلى منه رتبة كالجندي مثلاً مع قائده وهو لا يحبه، لكن في الظاهر هناك انقياد، لكن لما لم يقترن به الحب والحمد له لا تسمى هذه عبودية. أما العبودية الصحيحة فلها جناحان هما: غاية الحب مع غاية الذل، غاية الحب الذي ينشأ عن أمرين: الأول: التفكر في نعم الله سبحانه وتعالى على هذا العبد وإحسانه إليه؛ لأن ذلك لا شك مما يوجب المحبة، فإن الفطرة توجب على القلب حب من أحسن إلى الإنسان. الثاني: التفكر في صفات الله سبحانه وتعالى، صفات الجلال والجمال والكمال التي توجب له المدح والحمد والثناء الحسن، وإن لم يصل منه إلى العبد شيء، فإنك لا شك إذا سمعت -ولله المثل الأعلى- عن أوصاف شخص كريم وسخي وصادق ووفي وكذا وكذا من الصفات الجميلة فإنك تحبه، حتى ولو لم يكن أحسن إليك أو لم تتعد هذه النعم إليك، لكنك تجد قلبك منجذباً إليه محباً له. فالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- أنعم على عباده غاية الإنعام والإحسان: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ثم إنه سبحانه وتعالى متصف بأعظم وأجمل وأجل صفات الكمال والجمال والجلال، فهذان أمران يوجبان محبة الله سبحانه وتعالى والحمد له. الجناح الثاني للعبودية: الذل التام، فالعبودية هي غاية الحب وغاية الذل، فالحب ينشأ عن التفكر في نعم الله، والتفكر في صفات الله التي تستوجب له المدح والحب، والذل التام ينشأ عن معرفة العبد نفسه وما فيها من الآفات والتقصير. فمنشأ الحب الكامل والذل التام عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة كما في قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6]، ومطالعة عيب النفس والعمل المأخوذ من قوله: ((مِنْ ذَنْبِكَ))، وهي التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله سبحانه وتعالى على هذين الأصلين لم يظفر به عدوه إلا على غرة وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله سبحانه وتعالى ويجبره ويتداركه برحمته، وتأمل إتمام النعمة، بحرف (على) في قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6]، فحرف (على) يؤذن بالاستعلاء والاكتمال والإحاطة. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: ((وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) لإظهاره إياك على عدوك، ورفعه ذكرك في الدنيا، وغفرانه ذنوبك في الآخرة. وقال القرطبي: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6] قال ابن عباس: في الجنة، وقيل: بالنبوة والحكمة، وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر، وقيل: بخضوع من استكبر وطاعة من تجبر. وقال الشوكاني: لإظهار دينك على الدين كله، وقيل: بالجنة، وقيل: بالنبوة والحكمة، وقيل: بفتح مكة والطائف وخيبر، والأولى أن يكون المعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى نعمته على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الضحى حين قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحدث أمته بما أنعم عليه ليعرفوه ويعتقدوه، ويزدادوا حباً له وتعظيماً، فالتحدث بالنعمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم واجب، وفي حق غيره من أفراد الأمة جائز إذا أمن العجب والرياء، فأوجب الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته بعظم مقامه عند الله، وتمام نعمة الله عليه ويفصل لهم ذلك، لماذا؟ لما سيأتي في نفس هذه السورة: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] يعني: كي تعرفوا قدر هذا النبي العظيم عند الله سبحانه وتعالى؛ فتعزروه وتوقروه وتؤدوا حقه عليكم.

مظاهر نعمة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم

مظاهر نعمة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من مظاهر نعمة الله على نبيه ما جاء في قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وقد روي في السيرة ما يشهد لهذا المعنى، ويثبت دوام موالاة الله سبحانه وتعالى لحبيبه، وعنايته به صلى الله عليه وسلم، وحفظه له، فقد كان يكلؤه عمه، وقال له في ذلك: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فسخر له عمه مع عدم موافقته له على الإيمان والإسلام، لكن بما في قلبه من المحبة الطبيعية وليست المحبة الشرعية التي اقتضت مناصرته والدفاع عنه. ومن ذلك أيضاً ما نصره به من أصحابه خاصة أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كما فعل الهجرة وهما في طريقهما، حيث كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه تارة يمشي أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يلبث أن يمشي خلفه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (أذكر الرصد -العدو الذي يأتي من الأمام- فأكون أمامك، وأذكر الطلب -العدو حين يأتي من خلف- فأكون وراءك). ومن هذه النعم قول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن عصمة الله لرسوله حفظه له من أهل مكة، وصناديدها وحسادها، ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغض، ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً، لما يخلقه الله سبحانه وتعالى من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيساً كبيراً مطاعاً في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبين كفار قريش -بين أبي طالب وبين كفار قريش- قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذىً يسيراً، ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم (المدينة) فلما صار إليها حموه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، فلما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواءً لذلك الداء، ولما سم اليهود ذراع تلك الشاه بخيبر أعلمه الله به وحماه منه، ولهذا أسباب كثيرة جداً يطول ذكرها.

النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الضحى

النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الضحى من هذا قول الله سبحانه وتعالى مشيراً إلى تمام النعمة على نبيه عليه الصلاة والسلام ودوامها واتصالها، وأنه لا يسلبه إياها بعد أن أعطاه إياها: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4]، نعمة الله عليه في الآخرة أفضل وأعظم وخير من نعمته عليه في الدنيا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:5 - 6] يعني: منذ ولادته ونشأته تعهده الله سبحانه وتعالى من صغره فصانه صلى الله عليه وسلم عن دنس الشرك، وطهره وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه. أما قوله تبارك وتعالى: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) قال بعض العلماء: يعطيه في الدنيا من إتمام الدين، وإعلاء كلمة الله، والنصر على الأعداء، والجمهور على أنه في الآخرة: ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ)) يعني: في الآخرة، وفصلته مواضع أخر منها هذا العطاء وهذه النعمة التي سوف يعطيه الله إياها في الآخرة، وهو الذي وعده الله بقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وجاءت السنة ببيان أن هذا المقام المحمود -وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون- هو الشفاعة العظمى حين يتخلى ويعتزل كل نبي، ويقول كل نبي: نفسي نفسي! حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها! أنا لها!)، وقد قال صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر). ومن النعم التي سوف يعطيه الله إياها الحوض المورود، وما خصت به أمته من مجيئهم غراً محجلين يردون عليه الحوض. ومنها الوسيلة، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد، كما جاء في الحديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو). ومنها الشفاعة في دخول الجنة، كما في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أول من تفتح له الجنة، كما جاء في الحديث: (آتي باب الجنة فأستفتح؛ فيقال لي: من؟ فأقول: محمد، فيقول خازن الجنة: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) صلى الله عليه وآله وسلم. ومنها الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار صلى الله عليه وآله وسلم، وجاء الحديث الذي فيه: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر ما دعا إبراهيم لقومه حين قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقال المسيح عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، ثم بكى النبي صلى الله عليه وسلم) يعني: تذكر إحسان هؤلاء الأنبياء إلى قومهم، فبكى متأثراً، كأنه يقول لله عز وجل: فماذا لي؟ وماذا لأمتي؟ (فبكى ثم قال الله سبحانه وتعالى: ما يبكيك يا محمد؟ -عن طريق جبريل عليه السلام- فقال: يا رب! أمتي أمتي! أمتي أمتي! فأمر الله سبحانه وتعالى جبريل أن يقول له: يا محمد! إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فربط بعض المفسرين بين هذا الحديث الصحيح وبين قوله هنا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فقال: أي: سنظل نعطيك ونحسن إلى أمتك إلى أن ترضى، ((وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)) ولذلك بالغ بعض الناس في تأويل هذه الآية حتى خرجوا عن حد الاعتدال فقال شاعر منهم: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضي ربه، ومما يرضي ربه عز وجل ظهور آثار صفات رحمته وصفات عدله أيضاً، فكما أن الله يحب أن يغفر الذنوب للعاصين، كذلك من صفات الجلال والكمال والجبروت أن يعذب من تمرد وعصاه فقول الشاعر هنا: أترضى حبيبي أن تكون منعماً ونحن في جمر اللظى نتقلب ألم يرضك الرحمن في سورة الضحى وكيف ترضى وفينا معذب وقول الآخر: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبنا ذاك العطاء وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساء فهذا الكلام فيه نظر؛ لأن الأمر لو كان بمجرد التعطف لما ذبح عصفور، ولا تألم طفل، وإنما هي سنن الله الماضية التي تظهر وتجلي آثار صفاته وأسمائه جل وعز. من هذه النعم شهادته على الرسل وشهادة أمته على الأمم، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام يشهد على الرسل أنهم قد أبلغوا رسالة ربهم، كذلك أمته تشهد على الأمم كما قال الله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78]، أما هو صلى الله عليه وسلم فلا يحتاج إلى من يشهد له، وأما قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فقيل: غافلاً عما تعلمه الآن من الشرائع يعني: قبل نزول الوحي عليك، وفيه أسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما بالتلقين عن طريق الوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك، فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب عن العلم، ويدل لهذا قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وقال عز وجل: {وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ} [يوسف:3] أي: من قبل القرآن: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3]، وقال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]. وقيل: ((وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)) وجد رهطك ضالين فهداهم بك، كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] يعني: واسأل أهل القرية. وقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8] أي: فقيراً فأغناك بمال عمك، ثم ببذل خديجة رضي الله تعالى عنها، ثم بمواساة الأنصار رضي الله عنهم، ثم جاءت غنائم حنين فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر، وتوفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في أصوع من شعير. وكان غناه قبل كل شيء هو غنى النفس والاستغناء عن الناس، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وأغناه الله سبحانه وتعالى بما لا غنى بعده، أغناه أعظم غنى على الإطلاق كما أشار بذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر:87] الفاتحة، {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، وهذه إشارة إلى أنه قد أغناه أعظم وأشرف وأكبر غنى في الوجود، وذلك بالقرآن الكريم، هذا هو الغنى العالي الذي لا يصل إلى رتبته غنى، ثم قال: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، إشارة إلى الاستغناء بالقرآن عن النظر إلى ما متع الآخرون من متاع الدنيا؛ لأن القرآن يغني صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)، وهذه الحديث له تفسيرات عدة، والذي يناسب المقام هنا أنه من لم يستغن بالقرآن عن النظر إلى الدنيا، والسعي الحثيث وراء الدنيا؛ فليس منا، هذا معنى: (من لم يتغن بالقرآن)، وشاهد ذلك من الشعر قول الشاعر: كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا يعني: استغناء. وقال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] قيل: المراد بها المذكورات، والتحدث بها شكرها عملياً من إيواء اليتيم كما آواه الله قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، فهذا هو الشكر العملي لهذه النعم، فكما أنعم الله عليك تنعم أنت على غيرك تأسياً بفعل الله معك، وقيل: التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية أو حديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، وأعظم النعم وأولاها وأظهرها نعمة الوحي، ولذلك سورة النحل تسمى سورة النعم، وقد ابتدأت بأعظم نعمة وهي نعمة الوحي، كما قال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقال في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2]، وقال: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ففي هذه الآية قال: (نعمتي)، وفي هذه الآية في سورة الضحى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [الضحى:11]، ولا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر مائة ناقة في حجة الوداع لما أنزل الله عليه هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فنحر في حجة الوداع لما نزلت هذه الآية مائة ناقة شكراً لله على إتمام النعمة وإكمال الدين.

النعم التي امتن الله بها على نبيه في سورة الشرح

النعم التي امتن الله بها على نبيه في سورة الشرح عدد الله على نبيه نعمه العظمى في سورة الشرح، فقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] قيل: هو شق صدره الشريف وغسله وملئه حكمة وإيماناً، وقيل: هو توسيعه للمعرفة والإيمان، وجعل قلبه وعاء للحكمة، وفي البخاري عن ابن عباس قال: شرح الله صدره للإسلام، وقال ابن كثير في تفسير قوله: ((أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)): نورناه وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً، كقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22]، وقال جل وعلا: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]. ثم قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] اختلف في تفسير هذه الآية، فمن قائل: إنه رفع حسي، أي: إن ذكرك واسمك الشريف يذكر في الأماكن العالية على المنابر في الخطب، وفي الأذان، وفي الإقامة، وافتتاحيات الكلام في الأمور الهامة، واستدلوا لذلك بالواقع فعلاً حيث إن الله سبحانه وتعالى رفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رفعاً حسياً، واستشهدوا على ذلك بقول حسان رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد ومن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم ذكر صفته واسمه في كتب الأنبياء قبله، حتى عرف للأمم الماضية قبل مجيئه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك جعله تعالى الوحي ذكراً له، قال الله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:43 - 44]، فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم إنما هو عن طريق الوحي، فقوله: ((وَإِنَّهُ)) أي: القرآن ((لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)) يعني: رفعة ومجد، وعلو شأن لك ولقومك إن اتبعوا هذا القرآن، فبين الله سبحانه وتعالى أن الله يرفع ذكر النبي عليه السلام بالقرآن، لذا تأملوا الآية: ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، ((وَإِنَّهُ)) أي: هذا الوحي الذي هو القرآن ((لَذِكْرٌ لَكَ)) لرفعة شأن لك ((وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ))، فهذا بيان أن الله رفع ذكره صلى الله عليه وسلم بالوحي سواء كان الوحي نصوصاً توجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، ففي الوحي توجد أنواع من المخاطبة للرسول صلى الله عليه وسلم كلها تدل على رفع ذكره وشأنه عند الله بالوحي؛ كقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، ولم يخاطبه باسمه قط، فلا توجد آية واحدة في القرآن فيها خطاب من الله سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام باسمه، وإنما يخاطبه بأوصافه، بخلاف الخطاب مع جميع الأنبياء قبله كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى. فأما في مقام إثبات الرسالة والشهادة له بأنه رسول فقد صرح باسمه بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] يعني: الله هو الذي يخبر بصدقه في هذه الرسالة، أو رفع ذكره في الوحي عن طريق الوحي، والوحي يعم القرآن والسنة، فكلاهما وحي، ورفع ذكره في فروع الشريعة -كما ذكرنا- في الأذان وفي الإقامة، وفي التشهد، وفي الخطب، وفي الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم، والكافر إذا أتى بكل شعب الإيمان، ولكنه لم يشهد أن محمداً رسول الله، فهو باق على كفره، وهو من أهل جهنم الخالدين فيها؛ لأنه لم يشهد له صلى الله عليه وسلم بالرسالة.

النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الكوثر

النعم التي أمتن الله بها على نبيه في سورة الكوثر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] قيل: الكوثر علم اسم على شيء معين، وقيل: الكوثر صفة على وزن فوعل على العلمية، قالوا: إن الكوثر علم على نهر في الجنة، وعلى الوصفية فقالوا: هو الخير الكثير، ومما استدل به على العلمية وأن الكوثر اسم أو علم على نهر في الجنة ما ثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء قال: أتيت نهراً حافتاه قباب لؤلؤ مجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر) يعني: نهر الكوثر الذي أعطاه الله إياه. وبسنده أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: (سئلت عن قوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) فقالت: هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليهما در مجوف، آنيته كعدد النجوم). وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب، والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل) رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حسن صحيح. وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه، ولما سئل سعيد بن جبير أن الناس يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. إذاً: الكوثر هو الخير الكثير أو الحوض، والحوض والنهر هو من جملة الكوثر الذي أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من النعم التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما أوجده الله عز وجل لنبينا على القلب واللسان والجوارح من حقوق زائدة على مجرد التصديق بنبوته، فليس حق النبي علينا يقتصر على الاعتراف بنبوته، وإنما هناك حقوق زائدة على هذا، كما أوجب الله سبحانه وتعالى على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أموراً زائدة على مجرد التصديق به سبحانه وتعالى، وحرم الله سبحانه وتعالى لحرمة نبيه صلى الله عليه وسلم أشياء مما يباح أن تفعل مع غيره، غير مجرد التكذيب بنبوته، يعني: يحرم تكذيب نبوته، وإلى جانب ذلك حرمت أشياء زائدة على مجرد التكذيب على أمته، مع أن هذه الأشياء تباح أن تفعل مع غيره، فمن ذلك أنه أمر بالصلاة عليه والتسليم صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر أن الله وملائكته يصلون عليه صلى الله عليه وسلم، وجعل الصلاة والسلام عليه قربة وعبادة، وهذا أمر لم ينله غيره من الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وجمعت صيغة الصلاة والسلام عليه جميع الخيرات، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً حضاً للناس على ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (من ذكرت عنده فلم يصل علي خطئ طريق الجنة). وقال عليه الصلاة والسلام: (البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)، ولا شك أن في قوله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] التشريف الذي شرف الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية، وهو أجمع وأتم من تشريف آدم عليه السلام بسجود الملائكة له؛ لأن تشريف آدم بسجود الملائكة تشريف بفعل الملائكة، أما هنا فالتشريف هو بفعل الله سبحانه وتعالى، فتشريف يصدر عن الله عز وجل أبلغ من تشريف تختص به الملائكة من غير أن يكون الله تعالى معهم في هذا التشريف، فهنا جمع له تشريفاً تقوم به الملائكة كما حصل لآدم، لكن زاد عليه أن الله مع الملائكة، فالفارق كبير جداً كالفارق بين الخالق والمخلوق، قال هنا: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)) فبدأ بنفسه عز وجل، ثم ثنى بملائكته، وإذا استحضرنا أن الملائكة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى لعرفنا مدى تعظيم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام والصلاة عليه على لسان الملائكة! ثم إن هذا مستمر، أما السجود فكان حادثة مؤقتة ثم انقضت، والصيغة هنا أتت بصيغة المضارعة؛ لتدل على الاستمرار إلى هذه اللحظة، فالملائكة مازالت تصلي -إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى- على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الله؛ لأن الآية: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ))، ولم يقل: صلوا على النبي، لا، وإنما: ((يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)) لتفيد الاستمرار في هذا التشريف.

من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته

من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته

من حقوقه صلى الله عليه وسلم أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم

من حقوقه صلى الله عليه وسلم أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم من حقوق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على كل مسلم ومؤمن أن يعتقد أن الرسول عليه السلام أولى بروحه وبنفسه وبحياته منه، بمعنى: أنك تقدم كل شيء أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تكون جازماً قاطعاً بأنك لن تتردد في أن تبذل له كل غال، فلو قدر أنه يوجد ماء لا يكفي إلا لك أو للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب عليك أن تقدمه له فيشربه هو ولو مت أنت، فتفديه بنفسك بناءً على اعتقاد حتمي أوجبه الله علينا، وهو أن نرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بأرواحنا وأنفسنا منا، وهذا الأمر طبقه الصحابة في مواقف كثيرة وعظيمة، قال تعالى: {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120]، وقال تبارك وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] يعني: أولى بحياتك وبروحك منك أنت بهذه النفس، فهذا هو حقه عند الله سبحانه وتعالى كأي تعظيم وأي تشريف. ومن حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحب وأن يؤثره العطشان بالماء والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يوقى بالأنفس والأموال كما قال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120]، فرغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب النبي صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام، ولذلك قال حسان رضي الله تعالى عنه: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء والنماذج كثيرة جداً في الصحابة رضي الله تعالى عنهم من التطبيق العملي لهذه الآية: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ))، وخاصة في الغزوات كغزوة أحد وغيرها، فقد كانوا يفدونه صلى الله عليه وسلم بالغالي والنفيس رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده

من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده ومن حقه أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] وقد جاء بيان ذلك في الأحاديث الصحيحة المشهورة كما في الصحيح من قول عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: فأنت والله الآن يا رسول الله! أحب إلي من نفسي. قال: الآن يا عمر). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشد أمتي لي حباً قوماً يأتون من بعدي؛ يود أحدهم لو رآني بنفسه وماله). فالمسلمون الذين يأتون من بعد النبي عليه السلام، ولم يروه، يتمنى كل مؤمن منهم أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه حتى ولو بذل في سبيل ذلك ماله ونفسه وأولاده، يضحي بأهله وماله في سبيل أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

من حقوقه صلى الله عليه وسلم تعزيره وتوقيره

من حقوقه صلى الله عليه وسلم تعزيره وتوقيره كذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن الله أمر في هذا القرآن بتعزيره وتوقيره، فقال عز وجل: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] والضمير -على الراجح- يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والتعزير: اسم جامع لكل ما فيه نصره وتأييده، ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.

من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم مناداته باسمه

من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم مناداته باسمه ومن ذلك أنه خصه في المخاطبة بما يليق به، فقال عز وجل: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] فنهى الله المسلمين أن يقول أحدهم: يا محمد! أو يا أحمد! أو يا أبا القاسم! ولكن يقولون: يا رسول الله يا نبي الله وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى قد أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً من الأنبياء قبله؟! فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:28]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب:45]، {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] خاطبه باسمه، وقال: {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة:33]، وقال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، وقال: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:76]، وقال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، وقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص:26]، وقال: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} [المائدة:110] فدعا الأنبياء بأسمائهم في هذه الآيات.

من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم رفع الصوت والتقدم بين يديه

من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم رفع الصوت والتقدم بين يديه كذلك من حقوقه أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، لا يبدأ أحد بالكلام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأذن له، فاعتبر التقدم بين يديه تقدماً بين يدي الله ورسوله. ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى حرم رفع الصوت فوق صوته، وحرم أن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب لحبوط العمل؛ فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر؛ لأن العمل لا يحبط إلا بالكفر قال تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]. كذلك رفع الله ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي؛ كما قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وكما قال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43]، ثم قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: الوحي، فهذا تفضيل لكون الوحي ذكراً ورفعة لشأن النبي صلى الله عليه وسلم.

من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم إيذائه

من حقوقه صلى الله عليه وسلم عدم إيذائه من حقوقه صلى الله عليه وسلم أنه حرم على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح لهم أن يعامل به بعضهم بعضاً؛ تمييزاً له مثل نكاح أزواجه من بعده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]. وأوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه، وجعلهن أمهاتهم في التحريم والاحترام، فقال عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]. ومن كرامته المتعلقة بالقول أن الله سبحانه وتعالى فرق بين أذاه وأذى المؤمنين، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، فجعل أذاه أعظم من أذية المؤمنين، وهي بلا شك دون ذلك.

من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن الله أوجب ذكره في الأذان والتشهد والخطبة

من حقوقه صلى الله عليه وسلم أن الله أوجب ذكره في الأذان والتشهد والخطبة ومن ذلك أن الله رفع له ذكره، فلا يذكر الله سبحانه وتعالى حتى يذكر معه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله. وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، ولو أن رجلاً أتى بكل شعب الإيمان، وقال: لا إله إلا الله، لكنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ ما نفعه ذلك، ولبقي على الكفر. فأي تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع لذكره فوق هذا التعظيم؟! وقرنه باسمه أيضاً في الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع. ومن نعمه تعالى عليه مدحه له وثناؤه عليه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]. ومن لطفه تعالى به قوله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] علم الله سبحانه وتعالى أنه لو بدأ بالمعاتبة لانشق قلبه صلى الله عليه وسلم؛ من الهيبة أن يكون قد أغضب الله، فطمأنه أولاً ثم عاتبه، طمأنه أولاً: لا تجزع من هذا العتاب فقد غفرت لك، فقال الله تعالى: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ)) ثم قال: ((لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ))، فقدم العفو على هذا العتاب، وهذا في غاية الإكرام والبر، فقد عاتب الله سبحانه وتعالى الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد الأفعال، وعاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه، فقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، وقال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وهذا كله من إتمام نعمته عليه، ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)). وقال تبارك وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] وهذا غاية البر والحب والإكرام للنبي عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) يعني: نعلم أنك في غاية الحزن بسبب أنهم يصفونك بالكذب، وأنك تدعي الوحي، وتدعي أنك رسول، وهذا الوصف شاق على الصادق الأمين مثلك، ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) يشق عليك أن توصف بالكذب -خاصة الكذب على الله سبحانه وتعالى الذي هو أكبر الضلال- فقال: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)) الله سبحانه وتعالى يقول له: أنا خالقهم ومطلع على ما في قلوبهم، فهم يزعمون أنك تكذب بألسنتهم، أما في قلوبهم فهم يعتقدون صدقك، (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) في الحقيقة، وإنما هم يكذبون بإظهار اتهامك بالكذب، وهذا الإخبار يهون الله سبحانه وتعالى به على نبيه صلى الله عليه وسلم العناء الذي كان يلقاه، بسبب أن المشركين يصفونه بالكذب على الله بادعاء الوحي وادعاء النبوة، فطمأنه الله حتى يخفف من جزعه حين يوصف بالكذب. قال تعالى: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) فاطمئن فهم غير صادقين في هذا، ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) فهذا فيه غاية التسلية في أن يرفع الله حزنه باتهامهم له بالكذب، وقد كانوا يسمونه الصادق الأمين، فرفع ذلك الحزن بإخباره أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، وأنهم معترفون بصدقه، ثم جعل الذم لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين، فقال: ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)). إذاً: الجحد: هو الإنكار بعد العلم، ثم واساه وعزاه وآنسه فقال له: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34].

تشريف الله لمقام النبي صلى الله عليه وسلم

تشريف الله لمقام النبي صلى الله عليه وسلم

إقسام الله بمدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم

إقسام الله بمدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من عظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تبارك وتعالى أن الله سبحانه وتعالى أقسم بمدة حياته، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته؛ لأنها آيات من آياته عز وجل، أما نحن فيحرم علينا القسم بغير الله، وفي الحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فخطأ أن يقول شخص لآخر: وحياتك اعمل لي كذا، وحياتك الأمر الفلاني كذا، لكن الله سبحانه وتعالى أقسم بحياة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقال عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] (لعمرك) هي بمعنى قولنا: وحياتك، فالله سبحانه وتعالى يقول له: أنا أحلف بحياتك يا محمد! وبعمرك الشريف، وهذا لم يحصل لأحد قط، فالله سبحانه وتعالى أقسم بحياته فقال: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)) أي: وبقائك أو وعيشك أو وحياتك، وهذه نهاية التعظيم والبر والتكريم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما خلق الله تعالى، وما ذرأ، وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره.

إقسام الله بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم

إقسام الله بكلام نبيه صلى الله عليه وسلم وأقسم الله سبحانه وتعالى بكلام نبيه عليه السلام وقوله في سورة الزخرف فقال تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف:88] (وَقِيلِهِ) أي: قول الرسول صلى الله عليه وسلم بإضمار حرف القسم، فيكون قوله: ((يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ)) جواب القسم، فهو أقسم بقيله: يا رب أو وقيله: يا رب قسمي، {إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:88 - 89].

إقسام الله على تزكية نفس نبيه صلى الله عليه وسلم

إقسام الله على تزكية نفس نبيه صلى الله عليه وسلم وأقسم سبحانه وتعالى على تزكية نفسه صلى الله عليه وسلم وعصمتها من الآثام لمقامه الشريف، فالله سبحانه وتعالى زكى فؤاده ولسانه وجوارحه صلى الله عليه وسلم. فزكى قلبه بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. وزكى لسانه بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وزكى بصره بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]. وقال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] أقسم جل وعلا بما أقسم به من عظيم قسمه على تنزيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بما غمصته الكفرة به. وآنسه بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، وهذه نهاية المبرة في الخطاب. ثم أعلمه بما له عنده من نعيم دائم، وثواب غير منقطع لا يمن به عليه فقال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3]. ثم أثنى عليه صلوات الله وسلامه عليه بما منحه من هبات وهداه إليه، وأكد ذلك تسليماً للتمجيد بحرفي التأكيد فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلى الله عليه وآله وسلم، و (إنك) توكيد بـ (إن)، وتوكيد باللام، فهو لعلى خلق عظيم، وهذا المديح لم يحصل لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: إن خلقك عظيم، وإنما قال: ((وَإِنَّكَ لَعَلى))، فهي تدل على نسبة التمكن والرسوخ في حسن وعظمة هذا الخلق.

شفقة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم

شفقة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ومن شفقته عليه صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، ويقول جل وعلا: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، وقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]. فالله سبحانه وتعالى يقول له هنا: هون عليك! هل أنت مهلك نفسك حسرة وحزناً على هؤلاء الكافرين الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله؟! فالله سبحانه وتعالى يواسيه ويعزيه بأن الهداية هي هداية الله عز وجل، ويقول له: لا تهلك نفسك، أنا ما أنزلت عليك القرآن لتشقى وتتعذب هذا العذاب؛ حسرة على هؤلاء المعرضين عن الحق، وشفقة وخوفاً عليهم من عذاب جهنم، فكان عليه السلام يتألم أشد الألم لإعراض قومه عنه؛ خوفاً عليهم أن يعذبوا ويهلكوا، وهذا صرح به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، فأخذ يذبهن عن النار، يقول صلى الله عليه وسلم: وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنت تفلتون من يدي، تقحمون فيها)، وفي بعض الروايات: (فتغلبوني تتقحمون فيها) أو كما قال عليه الصلاة والسلام تصور كيف هو رحمة للعالمين! وكيف هو رحمة لجميع أمته عليه الصلاة والسلام! فيقول: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً) في ظلمة، فمعلوم أن الفراش لعدم وجود عقل له ينجذب إلى هذا الضوء ولا يدرك أن في انجذابه للضوء إحراقه وهلاكه، وجعل هذا الرجل الذي أضاء هذه النيران يذب الفراش: يطرده حتى لا يحترق، فالفراش يهرب منه ويصر على أن يلقي بنفسه في النار، فيكون هذا نفس مثلي ومثلكم، يقول: أنا واقف على النار وأنتم تنجذبون إليها بالشهوات والشبهات، وأنا أذبكم وأدفعكم وأطردكم حتى لا تهلكوا، وهذا يقصد به أمة الدعوة كلها مسلمين وكفاراً جميعاً، فيقول: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار)، يحاول أن يمسك هذا من ذيله، وهذا من كمه، وهذا من وسطه، وهم أناس كثير وهو واقف يريد أن يذب الذي يريد أن يلقي بنفسه في النار، (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي) أي: تغلبوني وتدفعوني، وتلقون بأنفسكم في النار إصراراً على الهلاك، وهذا هو حال النبي عليه السلام مع الكفار والمعرضين عن هديه صلى الله عليه وآله وسلم، فكان شديد الحسرة على عدم إيمانهم، وشديد الحزن عليهم؛ لأنهم سوف يكونون من أهل النار، ولذلك لما دخل على ذلك الشاب اليهودي الذي كان يحتضر، أمر النبي عليه السلام هذا الشاب اليهودي أن يشهد شهادة الحق، ويدخل في الإسلام، فنظر إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم -عليه الصلاة والسلام- ففعل ذلك الشاب ودخل في الإسلام، ثم مات؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مبتهجاً وفرحاً مسروراً وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار) فهذا هو شعور النبي عليه السلام بأمته، رحمة لأمته عليه والسلام، فكان يحزن حزناً شديداً، ويتحسر ويتألم لإعراض الكفار عنه لما يعلمه من العذاب الذي سوف يصيبهم، فقال الله سبحانه وتعالى مخففاً عليه: ((مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) هل نحن أنزلنا عليك القرآن كي تتعذب وتتألم وتهلك نفسك من الخوف على الكافرين والحسرة عليهم؟ لا، {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:2 - 3] تذكرة لمن يخشى ويتقي الله سبحانه وتعالى. وقال تبارك وتعالى: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ)) هل ستموَّت نفسك أم ماذا؟ هذا المعنى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) أي: هل ستهلك نفسك (عَلَى آثَارِهِمْ)؟ تخيلوا أن شخصاً يودع أحبابه الراكبين في القطار، وهو متحسر لفراق هؤلاء الأحباب، وحزين عليهم، فحتى والقطار يمشي، فهو يجري حتى يعجز عن القطار ويسبقه، وهذا نفس التصوير تقريباً في هذه الآية الكريمة (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) يمشون وهم معرضون عنه، وهو يتبعهم بأقصى استطاعته (عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، فهل ستهلك نفسك أسفاً وحسرة عليهم وهم مصرون على الكفر؟ فبلا شك أن هذا غاية المحبة والإكرام من الله سبحانه وتعالى لنبيه وحبيبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

أخذ الله الميثاق على الأنبياء قبله أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم

أخذ الله الميثاق على الأنبياء قبله أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم من تشريفه له على الأنبياء قوله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، يقول علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لم يبعث الله نبياً من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه، والنبي نفسه يأخذ عهده على قومه: لئن بعث محمد وأنتم أحياء لابد أن تؤمنوا به وتنصروه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الحديث: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، لم تكن له أي رخصة في الاستقلال، بل لابد أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عيسى عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان فإنه ينزل تابعاً لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يستأنف شرعاً جديداً. وفي تفسير قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253] موسى عليه السلام {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253] قيل: هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ومن ذلك أيضاً: قوله تبارك وتعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، لا شك أن هذه الآية تفيد فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء الرسل الذين هم أولو العزم وأصحاب الصلاح، من وجهين: إحداهما: أن الله سبحانه وتعالى عبر في جانبهم بكلمة (وصى) فقال: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا)) وقال: ((وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)) إشارة إلى أن ما أوتيه النبيون قبله عليه الصلاة والسلام لم يعد أن يكون وصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، أما في جانبه صلى الله عليه وآله وسلم فقد قال: ((وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)) فعبر في جانبه بـ (أوحينا) تعظيماً لشأنه، كأنه هو المخصوص بالوحي، إشارة إلى أن تخصيصه صلى الله عليه وسلم بإتيانه القرآن العظيم تشريف يفوق ما أوتي النبيون من معجزات خارقة تنتهي بانتهاء زمنها، وكتب فيها تشريعات ووصايا تختص بقليل من الناس لا تجاوزهم إلى غيرهم، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا أوتي ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) وسبق أن شرحنا معنى هذا الحديث.

رفع العذاب عن أهل مكة لوجود النبي صلى الله عليه وسلم

رفع العذاب عن أهل مكة لوجود النبي صلى الله عليه وسلم ومن كرامته على ربه صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))؛ لأن المشركين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] لم يقولوا: فاهدنا إليه، لكن لجهلهم وجرأتهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، يقول الله سبحانه وتعالى: كيف أستجيب لهم وأنزل عليهم العذاب وأنت موجود معهم في مكة؟! لا يمكن أن أنزل العذاب وأنت فيهم؛ إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإن وجوده فيهم أمان لهم من الهلكة، فمعنى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)) أي: ما دمت بمكة، فلما خرج النبي صلى الله علية وسلم من مكة وبقي فيها من بقي من المؤمنين نزل قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) يعني: وفيهم مؤمنون يخفون إيمانهم ويستغفرون الله، فوجود المؤمنين الذين يستغفرون الله حائل ومانع من نزول العذاب عليهم، وهذا مثل قوله تعالى كما سيأتي في سورة الفتح: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25]، فلما هاجر المؤمنون نزلت: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال:34]. ومما يبين شرف مقام النبي صلى الله عليه آله وسلم قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. إذاً: لابد أن من تأمل القرآن العظيم يدرك كيف رفع الله ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي، قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] بالوحي سواء في القرآن أو في السنة من النصوص التي تدل على رفعة مقامه، كما قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] ثم قال بعدها: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني: هذا الوحي فيه بيان ورفع ذكرك وتشريفك وبيان مقامك العظيم.

تمام نعمة الله على عبده المصطفى عليه الصلاة والسلام

تمام نعمة الله على عبده المصطفى عليه الصلاة والسلام قال جعفر بن محمد وهو يتكلم شارحاً معنى قوله تعالى: ((وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) صلى الله عليه وآله وسلم: من تمام نعمته عليه أن جعله حبيبه، وأقسم بحياته، ونسخ به شرائع غيره، وعرج به إلى المحل الأعلى، وحفظه في المعراج حتى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وبعثه إلى الأحمر والأسود، وأحل له ولأمته الغنائم، وجعله شفيعاً مشفعاً، وسيد ولد آدم، وقرن ذكره بذكره، ورضاه برضاه، وجعله أحد ركني التوحيد، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]. ومن نعمه عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما امتن عليه به في سورة النجم والإسراء والفتح، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] إلى آخر الآية، ومنها قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40]، وما كان من أمر الغار، وسراقة بن مالك. ومن مقام كماله صلى الله عليه وسلم ما جبله الله عليه من كمال خلقته، وجمال صورته، وقوة عقله، وصحة فهمه، وفصاحة لسانه، وقوة حواسه وأعضائه، واعتدال حركاته، وشرف نسبه، وعزة قومه، وكرم بيته صلى الله عليه آله وسلم. وأما خصاله المكتسبة الأخروية فسائر الأخلاق العلية، والآداب الشرعية، من الدين والعلم، والحلم والصبر، والشكر والعدل، والزهد والتواضع، والعفو والعفة، والجود والشجاعة، والحياء والمروءة، والصمت والتؤدة والوقار، والرحمة، وحسن الأدب والمعاشرة وأخواتها التي جماعها حسن الخلق. وإذا كانت خصال الكمال والجلال ما ذكرناه، ورأينا الواحد منا يتشرف بواحدة منها أو اثنتين، إن اتفقت له في كل عصر، إما من نسب، أو جمال، أو قوة، أو علم، أو حلم، أو شجاعة، أو سماحة، حتى يعظم قدره، ويضرب باسمه الأمثال، ويتقرر له بالوصف بذلك في القلوب أثرة وعظمة، وهو منذ عصور خوال رمم بوال، فما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه كل هذه الخصال إلى ما لا يعد ولا يعبر عنه مقال، ولا ينال بكسب ولا حيلة إلا بتخصيص الكبير المتعال من فضيلة النبوة والرسالة، والخلة والشفاعة، والوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود، والبراق والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء، والشهادة بين الأنبياء والأمم، وسيادة ولد آدم، ولواء الحمد، والبشارة والنذارة، والمكانة عند ذي العرش، والأمانة والهداية، ورحمة للعالمين، وإعطاء الرضا والسؤل والكوثر، وسماع القول، وإتمام النعمة والعفو عما تقدم وما تأخر، وشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، وعزة النصر، ونزول السكينة، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة، والسبع المثاني، والقرآن العظيم، وتزكية الأمة، والدعاء إلى الله، وصلاة الله تعالى والملائكة، والحكم بين الناس بما أراه الله، ووضع الإصر والأغلال عنهم، والقسم باسمه، وإجابة دعوته، وتكليم الجمادات والعجم، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل، وانشقاق القمر، ورد الشمس، وقلب الأعيان، والنصر بالرعب، وظل الغمام، وتسبيح الحصى، وإبراء الآلام، والعصمة من الناس إلى ما لا يحويه محتفل، ولا يحيط بعلمه إلا مانحه ذلك سبحانه، ومفضله به لا إله غيره، إلى ما أعد له في الدار الآخرة من منازل الكرامة، ودرجات الخلد، ومراتب السعادة، والحسنى والزيادة التي تقف دونها العقول، ويحار دون إدراكها الوهم.

الشر لا ينسب إلى الله

الشر لا ينسب إلى الله قال الله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح:2] فأضاف الذنب إليه، وقال في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7] الخطاب لله تعالى، فأضاف الإنعام إلى الله لأنه خير، أما الغضب والضلال فأتى منسوباً إلى من قام به، أو أتي به مبنياً لاسم المفعول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]. ومن ذلك أيضاً قوله عليه السلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك)، وقالت الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] يعني نقدسك وننزهك عما لا يليق بك. كذلك الله سبحانه وتعالى من أسمائه (السلام)، يعني: الذي سلم من العيوب والنقائص، وأيضاً الذي يسلم خلقه من ظلمه لهم؛ لأنه منزه عن الظلم، وأيضاً سلامته سبحانه من إرادة الظلم والشر، ومن التسمية به، ومن فعله، ومن نسبته إليه، فالله عز وجل سالم من كل ذلك، لذلك من أسمائه السلام عز وجل. وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] فأضاف الشر إلى المخلوقات، يعني: شر الذي خلق أو من شر المخلوقات، فالشر لا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى. وقالت الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10] ذكروا الشر مبنياً للمجهول: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فالرشد والخير نسب إلى الله. وقال إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي} [الشعراء:77 - 78] انظروا نسبته إلى الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78 - 79]، ثم قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] فالمرض لأنه شر أضافه إلى نفسه فقال: ((وإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) عز وجل، ثم قال: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81]، ثم قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] فنسب الخطيئة والشر إلى نفسه. وقال الخضر: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]؛ لأن كونه يخلع لوحاً من السفينة هذا فيه نوع من الشر والإفساد، لذلك أدباً مع الله سبحانه وتعالى نسبها إلى نفسه مع أنه قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، فقد كان بوحي، لكن انظر إلى الدقة في العبارة! قال في السفينة: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، كذلك في الغلام الذي قتله قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]، أما في الجدار الذي أراد أن يميل فقام في إصلاحه لميل الجدار حتى يظل الكنز مدفوناً ومحفوظاً للغلامين اليتيمين فقال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، ثم قال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:82]؛ لأن فيه إصلاحاً وخيراً: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]. من ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] لكن في الشيء غير المحبوب قال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14]. ونستطيع أن نستنبط من هذا قاعدة وهي: أن إيتاء الكتاب أو إيراث الكتاب إذا أتى منسوباً إلى الله فهو سياق مدح لمن آتاهم الله الكتاب، وإذا أتى بصيغة اسم المفعول أو المبني للمجهول فهو في سياق ذم، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121] هذا مدح لمن آتاهم الله الكتاب، والآية غالباً تتكلم عن أناس صالحين {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:121]، لكن قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة:101]، أو {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]؛ نسبت إلى المجهول فهي سياق ذم. إذاً: لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، هذا ما تيسر في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف:6].

الأسئلة

الأسئلة

حكم إنكار أحاديث الشفاعة

حكم إنكار أحاديث الشفاعة Q جاء في بعض الجرائد أن الدكتور مصطفى محمود أنكر أحاديث الشفاعة، وقال: إن أحاديث الشفاعة غير صحيحة! فما قولكم؟ A الجواب عن مثل هذا إذا صح أنه فعلاً قال هذا، أن نتذكر حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه سلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله)، وهذا هو الشاهد الذي أتمثل به، وإن كان المقصود به طاعة أولي الأمر، لكن سأتمثل هذا وأجتزئ بهذا الشاهد: (وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)، هل هناك أحد يعجز عن الدعوى؟ هل أحد يعجز بلسانه أن يتكلم ويقول أي كلام يريد أن يقوله؟ لكن العبرة هل الذي يتكلم هو من أهل العلم أم ليس من أهل العلم؟ فما دام إنساناً ليس من أهل العلم لا ينبغي له أن يتطفل على مائدة العلماء، وهل كل من يتكلم يستحق أن يرد عليه؟ يقول بعض العلماء: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف، فالمفروض أن نقول كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: ما خان أمين قط، ولكن اؤتمن غير أمين فخان. فبنفس المعنى نستطيع أن نعمم ونقول: ما ابتدع عالم قط، ولكن استفتي غير عالم فأضل الناس. فالضلال والانحراف لا يأتي أبداً من عالم متحقق بعلمه الذي يجمع بين العلم والخوف من الله سبحانه وتعالى، ولا يوجد أحد أبداً إذا كان ابنه الطفل الصغير مريضاً أنه يذهب به عند السمكري، لا يوجد أحد أبداً يريد أن يصلح مثلاً جهازاً كهربائياً ويأتي به للدكتور الجراح، لا، فنحن نحترم الثقافة جداً، ولو أحد أحب أن يأتي لابنه بمدرس خصوصي فإنه ينتقي أحسن مدرس، ويتحرى ويسأل عن كذا وكذا لكن لماذا الدين بالذات هان علينا، وكل واحد منا يعتبر نفسه شيخ الإسلام؟! إذا فتحت قضية الدين أمام أستاذ في كلية الهندسة أو في كذا من التخصصات، أو شخص يبيع خضاراً وبطاطس وطماطم، أو شخص قاعد على شرب القهوة أو كذا أو كذا ممن لا حظ لهم على الإطلاق في العلم؛ فإنه يعطي نفسه الحق في أن يتكلم ويفتي ويجادل ويناقش ويخطئ العلماء أيضاً ويسفههم! هذه مسألة مبدأ: هل هذا من أهل العلم؟ هذا ليس من أهل العلم على الإطلاق، فنحن لا نريد أن نخوض في الكلام على هؤلاء الناس، لكن نقول: من أنت؟ كما قال الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائزٍ فمن أنتم حتى يكون لكم عند يقول لك: أنا عندي وفي رأيي وأنا أرى كذا وكذا فمن أنتم حتى يكون لكم عند؟! فيأتي رجل في هذا الزمان المتأخر وينكر أحاديث الشفاعة، من أنت أصلاً حتى تنكر أحاديث الشفاعة؟! أحاديث الشفاعة متواترة يعني: ثابتة بنفس الطريقة التي ثبت بها القرآن الكريم، فأحاديث الشفاعة متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسواء تكلم فلان أو علان فنحن لا نأبه بمثل هذا، ولا نتكلف الرد عليه؛ لأننا لابد أن نرسي هذا المبدأ، من الذي يتكلم؟ هل هو إنسان مشهود له بالعلم؟ والعبرة بأن يكون مشهوداً له بالعلم بين العلماء، وليس بين عوام الناس الذين لا يحسنون ميزان الأشخاص، فلا نبالي سواء أنكر الأحاديث الواردة في الشفاعة أو غيرها، وإنكارها من صفات الخوارج والمعتزلة، فهم الذين أنكروا أحاديث الشفاعة، وهكذا شخص آخر ينكر رؤية الله في الآخرة وآخر ينكر أحاديث المعراج وآخر ينكر انشقاق القمر!! هذه فوضى، ولا يحسم هذه الفوضى إلا أن يكون هناك عالم وجاهل، هناك صغير وكبير، وأنا استمعت اليوم في نشرة الأخبار إلى شيء لفت نظري جداً، وفيه علاقة ضعيفة بما نتكلم فيه، يقولون: إن آخر أسلوب لجأ إليه الوحوش الصرب في كوسوفو أنهم يدخلون القرية أو المدينة فيلاقون وجهاء الناس الكبراء من أعمدة الاقتصاد أعمدة الطب مدراء المستشفيات الأطباء المثقفين وكذا وكذا، فيأخذونهم ويرحلونهم إلى الحدود، فيصيرون لاجئين، فإذا أراد قوم تشتيت قوم وإذهاب شوكتهم يفعلون هكذا، قال الشاعر الجاهلي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا لأنه إذا غاب هؤلاء الكبار سيصبح الناس في فوضى، وهذا أسلوب من أساليب القتل المعنوي، إضافة إلى المذابح الدموية التي يفعلونها. فتغييب العقول الواعية من أهل العلم والتخصص يجعل الأمر نهباً لكل من أراد أن يفتي في الدين، وينكر ما ينكر، ويكذب بما شاء أن يكذب، فتتحول الأمور فوضى، فهذه صورة من صور القتل المعنوي، أننا نستفتي أناساً ليسوا من أهل العلم، لنا أن ندخلهم تحت مصطلح: المثقفين طلبة علم سمهم بما شئت، لكن أن يصدر هؤلاء على أنهم علماء فهذا لا ينبغي أبداً.

الفتح [3 - 6]

تفسير سورة الفتح [3 - 6]

تفسير قوله تعالى: (وينصرك الله نصرا عزيزا)

تفسير قوله تعالى: (وينصرك الله نصراً عزيزاً) قال تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:3]. قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: وينصرك على سائر أعدائك ومن ناوأك نصراً لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، بالبأس الذي يؤيدك الله به وبالظفر الذي يؤيدك به؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينصرك، وهو الذي يعلي بك. وقال القرطبي: ((نَصْرًا عَزِيزًا)) أي: غالباً منيعاً لا يتبعه ذل، وعن ابن جريج في قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} يريد بذلك فتح مكة وخيبر والطائف. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} أي: بسبب خضوعك لأمر الله يرفعك وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) يعني: لأن النبي عليه السلام خضع لأمر الله، وحقق أعلى مراتب العبودية التي لم يصل إليها بشر قبله صلى الله عليه وسلم، فكافأه الله سبحانه وتعالى بأن رفعه على العالمين.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح:4]. قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) هذا يدل على أن المقصود بالسكينة في هذه الآية الكريمة السكينة التي يهبها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، أما مكانها فهو في قلوب المؤمنين، يقول ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي: جعل الطمأنينة، وهذا قاله ابن عباس، وعنه: السكنية: الرحمة، وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله، وانقادوا لحكم الله ورسوله، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم. وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب، يعني: بقوله تعالى: ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ))، فهذه الآية من أدلة القرآن الكريم على أن الإيمان يزيد، وبالتالي ينقص؛ لأن ما كان قابلاً للزيادة يكون قابلاً للنقصان، وهذه عقيدة أهل السنة، ومسألة من أمهات المسائل في الإيمان، فعند أهل السنة: أن الإيمان تصديق بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، وأنه قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وقال القرطبي رحمه الله تعالى: السكينة: السكون والطمأنينة، وقال ابن عباس: كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في البقرة. يشير بذلك إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248]، فما عدا هذا الموضع في سورة البقرة فإن السكنية تعني السكون والطمأنينة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة، فلما صدقوه زادهم الزكاة، فلما صدقوه زادهم الصيام، فلما صدقوه زادهم الحج، ثم أكمل لهم دينهم فذلك قوله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) يعني: بما يصدقون به من شعب الإيمان المتجددة باستمرار، والتي كانت تضاف إلى الدين بين وقت وآخر عن طريق الوحي، فهم بذلك يزدادون إيماناً مع السابق، فإيماناً يعني: تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان، وقال الربيع بن أنس: (ليزدادوا إيماناً) خشية مع خشيتهم، وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم، وقال الخشني: السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن، وهو من مبادئ عين اليقين، يعني: أن مرتبة السكينة أعلى من مرتبة علم اليقين، ومن أوائل درجات مرتبة عين اليقين بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقيني معه لذة وسرور. وقال الشوكاني: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي: السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم. (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) (ليزدادوا) هذا ضمير يعود إلى أهل الحديبية رضي الله تعالى عنهم أي: ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل. قال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم يعني: كما أن المؤمن كلما آمن وتعلم شيئاً جديداً أو عمل بشيء جديد يزداد إيماناً مع إيمانه الأصلي السابق، كذلك الكافر أيضاً على الجهة الأخرى كلما كذب بشيء من الحق فإنه يزداد كفراً؛ لذلك قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير هذه الآية قال: إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق بها المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، فأكمل لهم دينهم فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]). وعنه أيضاً قال: فأوثق إيمان أهل السماء وأهل الأرض وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلا الله.

كلام ابن القيم حول السكينة وأنواعها وآثارها وأسبابها

كلام ابن القيم حول السكينة وأنواعها وآثارها وأسبابها تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاماً موسعاً عن معاني السكينة في مصنفين: الأول مدارج السالكين، والثاني: إعلام الموقعين عن رب العالمين، فتكلم في إعلام الموقعين أثناء شرحه لقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيما يشترط في المسلم، وهو أن يكون له حلم ووقار وسكينة، يقول: فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالجبل العاري من اللباس، وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم، والناس هاهنا أربعة أقسام: فخيارهم من أوتي الحلم والعلم -والحلم هي السكينة والوقار-، وشرارهم من عدمهما لا حلم ولا علم، الثالث: من أوتي علماً بلا حلم، والرابع: عكسه، يعني: من يؤتى حلماً، لكن لا علم له، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله، وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات، فالحليم لا يستفزه البداوات أي: بداءات الأمور، لا يستفزه المبتدأ بل ينظر إلى الخبر كما قال الشاعر: مبتدأ حلو لمن ذاقه ولكن انظر خبر المبتدأ فالحليم دائماً ينظر فيما بعد ولا ينظر إلى بداءات الأمور: فلا تخدع بأول ما تراه فأول طالع فجر كذوب فلابد أن يتحلم الإنسان ويتصبر، يقول: فالحليم لا يستفزه البداوات، ولا يستفزه الذين لا يعلمون، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة، يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه، ولا تملكه أوائلها، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة، فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير، فيؤثره ويصبر عليه، وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده، والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيراً بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً على المشاق لا بصيرة له رأيته، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيراً صابراً لم تكد، وإذا رأيته فقد رأيت إمام هدى فاستمسك بغرزه، والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته. يقول: ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان، والناس في زمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكل زمان دولة ورجال. فالسكينة فعِيْلة من السكون، وهو طمأنينة القلب واستقراره، وأصلها في القلب، ويظهر أثرها على الجوارح، وهي عامة وخاصة، فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها يعني: أعلى درجات السكينة حازها الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. يقول: فالسكينة حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى الله لما أضرم له أعداء الله من النار، فلله تلك السكنية التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وتعبير السفر هنا هو تعبير مجازي؛ لأن السفر معروف معناه في اللغة، وهنا إبراهيم عليه السلام ما أدخلوه من الباب، لا، بل بنوا له بنياناً مغلقاً عالياً، وأضرموا فيه النيران، ثم وضعوه على المنجنيق -وهو شيء مثل المدفع-، ثم رموه في الهواء حتى يسقط في هذه النار، بحيث لا يستطيع الفرار من مثل هذا البناء المحكم فإبراهيم عليه السلام في أشد لحظات الابتلاء وهو في هذه المرحلة العصيبة التي قطعها من ساعة انطلاقه بالمنجنيق إلى أن دخل في هذه النيران يطلق عليه الإمام ابن القيم اسم المسافر، أي: السفر من المنجنيق إلى النار، فإبراهيم عليه السلام في هذه اللحظات كان في أعلى درجات السكينة والطمأنينة والوقار والثقة بالله عز وجل، فما كان له من قول إلا أن قال: حسبي الله ونعم الوكيل! حسبي الله ونعم الوكيل! ففوض أمره إلى الله، وتوكل على الله، وتحمل في سبيل الله هذا العمل وهذا العذاب، وقد صح في الحديث أن هذه الكلمة (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها المؤمنون حين قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. ويروى في بعض الآثار عند تفسير قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] أن إبراهيم عليه السلام في تلك اللحظة وهو في هذا السفر الذي استغرق ثواني معدودات عرض له جبريل عليه السلام فقال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا -يعني: لأنك مخلوق-، وإنما حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: حسبي الله -يعني وحده- ونعم الوكيل. والتوكل لا يكون إلا على الله وحده، فإن بعض الناس يخطئون حيث يظنون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أن معناها: حسبك وكافيك الله والمؤمنون معه يكفونك، لا، هذا التفسير غير مقبول على الإطلاق، وإنما: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه) الله كافيك وكافي المؤمنين، فهو حسبك وحسب المؤمنين أيضاً، وليس المعنى: حسبك الله والمؤمنون أيضاً حسبك؛ لأن الحسب -الذي هو بمعنى التوكل والتفويض إلى الله- عبادة كالسجود والركوع، ولا يجوز أن تقول لشخص: توكلت على الله ثم عليك، حتى لو قلت (ثم)؛ لأنها بالضبط كأنك تقول: سجدت لله ثم لك! فالتوكل لا يكون إلا على الله وحده سبحانه وتعالى، فتقول: توكلت على الله وحده، أما توكلت على الله ثم عليك حتى لو استعملت (ثم) فليس هذا موضعها؛ لأن التوكل عبادة مثل السجود والركوع، والتعبد إنما يكون لوجه الله سبحانه وتعالى. الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام أنزل الله في قلبه في هذا الوقت العصيب أعلى درجات السكنية، يقول: فالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافراً إلى ما أضرم له أعداء الله من النار فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد أدركه فرعون وجنوده من ورائهم، والبحر أمامهم، وقد ناداه بنو إسرائيل: يا موسى! أين تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا! قال الله: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، فأجاب موسى بكل ثقة وبكل طمأنينة ووقار وسكينة: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]؛ لأنه واثق بوعد الله سبحانه وتعالى أن يجعل له مخرجاً، وأن ينصره ويمكنه وينجيه من فرعون وجنوده، فتأملوا هذا الموقف! فرعون بجنوده وعساكره يطاردهم، ثم هم يجرون حتى انتهى بهم الأمر عند البحر: فـ ((قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)) وإن هنا للتوكيد، وأيضاً التوكيد باللام: ((إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))، والجواب من موسى عليه السلام: ((قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ))، فهذا بلا شك غاية الطمأنينة والوقار. والثقة بالله سبحانه وتعالى. وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكريم الله له نداء ونجاءً، كلاماً سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعباناً مبيناً. وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} [طه:67]، وهذا الخوف ليس بخوف مذموم، فهو الخوف الجبلي الموجود في البشر، كما يخاف الإنسان من الأسد إذا رآه أو من النار أن تحرقه، وغير ذلك من الخوف الفطري الجبلي الذي لا يخلو منه بشر، وقيل: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] خاف أن يفتن الناس قبل أن يلقي هو عصاه، وقيل: ألقى: ((فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)) خاف حين أبطأ عليه الوحي كإبطاء العصا أن يفترق الناس قبل المعجزة. وكذلك السكينة التي حصلت لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار، فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما! وللمناسبة فإن قصة العنكبوت والحمامة والبيض ونحو هذا الكلام لم يثبت وهذا يصدم عواطف كثير من الناس، ويعز عليهم جداً أن يعرفوا أن هذه القصة غير صحيحة وضعيفة السند، ولكن لا شك أن عدم وجودها هو أقوى لوجود هذه السكينة؛ لأن عدم وجود هذه الأشياء يكون أدعى أنهم دخلوا يستخفون، ولكن مع ذلك صدقهم الله سبحانه وتعالى، وبعض الناس تصطدم عواطفهم إذا علموا بذلك، لكن نقول: ليس بأمانيكم ولا أماني الوضاعين، وإنما الحكم هنا لأهل الحديث وعلماء الحديث. يقول: كما قال تبارك وتعالى: ((إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)) قال بعض السلف: هذه الآية فيها عتاب لكل الأمة إلا أبي بكر رضي الله عنه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40] قال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40] إلى آخر الآية. وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم عند أرباب البصائر، فإن الكذاب ولاسيما الذي يكذب على الله سبحانه وتعالى أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطراباً في مثل هذه المواقف، فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم. فالرسل لهم أعلى مراتب السكينة وأخصها على الإطلاق، وهي مرتبة سكينة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما الخاصة التي هي دونها فهي تكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم، وهي سفينة الإيمان، فهي

معنى قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض)

معنى قوله تعالى: (ولله جنود السماوات والأرض) قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [الفتح:4] يقول شيخ المفسرين رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ((وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وجنود السماوات والأرض موضوع مستقل لوحده، ولا نريد أن نخرج مع كل كلمة عن سياق التفسير، ولكن جنود الله عز وجل كثيرة في السماوات والأرض، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] وهي لا تعد ولا تحصى، ولا ينبغي أن نحصر جنود الله فقط في الملائكة، فالملائكة أحد جنود الله عز وجل، فبجانب الملائكة المؤمنون من البشر كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] فجنود الله تتنوع مثل الرياح الأمطار الأمواج كل هذه الأشياء هي جنود من جند الله عز وجل، تستجيب لأمره، وينزل الله بها بأسه على من يشاء، أو ينصر ويؤيد بها من يشاء، ويرزق بها من يشاء، كلها جنود مسخرة لأمر الله. ومن أعاجيب جنود الله سبحانه وتعالى ما نسمع عنه في هذا الزمان من الأمراض التي تنشأ بسبب الفيروسات، وهي أدق بكثير جداً جداً من البكتيريا التي يمكن أن ترى بالميكروسكوب، لكن الفيروس لا يرى إلا بالميكروسكوبات الألكترونية، التي تكبره ملايين المرات حتى يمكن رؤيته! وهذا عالم بحد ذاته مستقل، وله أخباره العجيبة، فهذه إشارة عابرة نستدل بها على أن جنود الله سبحانه وتعالى كثيرون جداً، يعملون بأمر الله سبحانه وتعالى وينفذونه. يقول: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا))، أي: أن الله تعالى لم يزل عالماً بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملوه، حكيماً في تدبيره. وقال ابن عباس: ((وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس. وقال الشوكاني: يعني: الملائكة والإنس والجن والشياطين، يدبر أمرهم كيف يشاء، ويسلط بعضهم على بعض، ويحوك بعضهم ببعض، ((وكان الله عليماً)) كثير العلم ((حكيماً)) في أفعله وأقواله. وقال القاسمي: أي: أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. وقال ابن كثير: ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، يعني: هذه إشارة إلى نفس الحكمة التي سبق الكلام عنها في سورة القتال في قوله تبارك وتعالى {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] يعني: لابد أن نستخضر هذا الأمر: ((وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ)) يعني: هذا الذي يعادي الله ورسوله، ويحارب دين الله من كفار والمنافقين وغيرهم، وهذا الذي يشكوه المؤمنون من الضعف والاستضعاف والإذلال وغير ذلك من هذا العناء، ينبغي أن نستحضر دائماً أن الله سبحانه وتعالى قادر على إزالته، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فالله سبحانه وتعالى قادر على أنه بكلمة مكونة من حرفين (كن) يصبح جميع من على الأرض على أتقى قلب رجل واحد منهم، وهو قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أليس الله بقادر على ذلك؟ بلى، لو أن الله قال لجميع البشر: كونوا مثل محمد عليه السلام لكانوا، أو لو قال لجميع البشر: كونوا مثل إبليس لعنه الله على أفجر قلب رجل واحد منهم؛ لحصل ذلك، ولا يضر الله شيئاً، لكن هذا ينافي حكمة الخلق والابتلاء، فالناس الذين يقهرون المسلمين ويحاربون دين الله سبحانه وتعالى لو نزل ملك واحد ينفخ فيهم على شكل صيحة -كما صاح جبريل على قوم لوط- لأبادهم جميعاً من صيحة واحدة، فالله تعالى قادر على ذلك، لكن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل؛ لأن هناك أجلاً قد كتبه الله، ولأن الإيمان هنا في هذه الحالة سيكون إيماناً اضطرارياً بالإكراه، ولا إكراه في الدين، فالعبرة بالخضوع والانقياد الناتج عن تفكر وتدبر وإيمان كسبي، أما الاضطرار للإيمان فهذا معناه أنك تتبع ديناً مكرهاً كيوم القيامة؛ بدليل أن جميع الناس يوم القيامة يؤمنون، وجميعهم يكونون على يقين، لكنه يقين غير مكتسب، بسبب أنهم بعثوا ورأوا آيات الله سبحانه وتعالى، قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] لكنه يقين لا ينفع؛ لأن العبرة باليقين في الدنيا حتى يكون هناك إيمان بالغيب: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، أما أن يصير الغيب عياناً، فنرى الملائكة تنزل على الذين يحاربون الدين، فتقصم ظهورهم، أو تمزقهم إرباً، وكل هذا الله قادر عليه، لكنه ينافي حكمة خلق الدنيا للابتلاء؛ لأنه هذا لو حصل فسينتهي التكليف؛ لأن الناس إذا رأوا هذه الخوارق عياناً فكلهم سوف يؤمنون، وتنتهي الحكمة من خلق الدنيا، فإذاً لابد أن نستحضر هذا قال تعالى: ((ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) [محمد:4] حتى يستمر الابتلاء والامتحان، كذلك أشار تعالى هنا بعدما قال: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}، وبعد قوله: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يعني: أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لانتصر من الكافرين؛ لأن لله جنود السماوات والأرض، ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال؛ لما في ذلك من الحكمة البالغة، والبراهين الدامغة، ولهذا قال: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)) مع أن له جنود السماوات والأرض، وهو قادر على إهلاك جميع الكافرين في لحظة واحدة، لكنه مع ذلك عليم حكيم لحكمة يعلمها، وهي استمرار الابتلاء في هذه الدار التي هي دار البلاء في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار)

تفسير قوله تعالى: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) قال تبارك وتعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح:5]. يقول شيخ المفسرين وإمامهم رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) لتذكر ربك وتحمده على ذلك؛ فيغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وليحمد المؤمنون ربهم، فيذكروه على إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم من الفتح الذي فتحه وقضاه بينهم وبين أعدائهم من المشركين لإظهاره عليهم، فيدخلهم بذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها إلى غير نهاية، ويكفر عنهم سيئ أعمالهم بالحسنات التي يعملونها؛ شكراً منهم لربهم على ما قضى وأنعم عليهم به. قوله: ((وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)) يقول تعالى ذكره: وكان ما وعدهم الله به من هذه العدة -وذلك إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وتكفيره سيئاتهم بحسنات أعمالهم التي يعملونها عند الله لهم- ((فوزاً عظيماً)) أي: ظفراً منهم بما كانوا يأملوه ويسعون له، ونجاة مما كانوا يحذرونه من عذاب الله. وهذه الآية نزلت لما تلا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام قول الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] قالوا: هذا لك يا رسول الله فماذا لنا؟ تبييناً من الله لهم ما هو فاعل بهم، فنزل قوله تعالى: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)) [الفتح:5]. قوله: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: يسترها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وقدم الإدخال على التكفير؛ لأن الآية: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ)) ثم قال بعد ذلك: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ))، والأصل أنه يكفر السيئات أولاً ثم بعد ذلك يدخلهم الجنات، لكن هنا ذكر أولاً إدخال الجنات، ثم ذكر بعدها التفكير عن السيئات، فقال: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) أي: يسترها ولا يظهرها، ولا يعذبهم بها، وقدم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس، للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى والمقصد الأسمى، فبدأ بذكر الأهم وهو دخول الجنة؛ لأن هذه هي الغاية العظمى. ((وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)) أي: كان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم عند الله وفي حكمه فوزاً عظيماً أي: ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل غم، وجلباً لكل نفع، ودفعاً لكل ضر. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ)) متعلقة بقوله: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)) لماذا؟ ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ)) وكذا وكذا ثم قال: ((لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)). وقال الألوسي في تفسير هذه الآية: ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ)) يعني: يغطيها ولا يظهرها، والمراد: يمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها. يقول: ويجوز عندي أن يكون التكفير في الجنة، على أن المعنى يدخلهم الجنة، ويغطي سيئاتهم ويسترها عنهم، فلا تمر لهم ببال، ولا يذكرونها أصلاً؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم؛ لأن ذكرها في حال الصفاء جفا، فيسترها عنهم، فلا تمر لهم ببال، ولا يذكرونها أصلاً، فينسيهم سيئاتهم ولا يذكرونها أصلاً؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات)

تفسير قوله تعالى: (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) قال تبارك وتعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]. يقول الألوسي: تقديم المنافقين على المشركين؛ لأنهم أكثر ضرراً على المسلمين، فكان في تقديم تعذيبهم تعجيل المسرة؛ لأن المراد إدخال السرور على المؤمنين بما يبشرهم الله به من إدخال الجنات، وتكفير السيئات، والفوز العظيم، ثم يقول: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ)) يعني: تعجيلاً للخبر بالمسرة، وتبشير المؤمنين بأن المنافقين أشد ضرراً وحرباً على الإسلام من المشركين؛ ولذلك فهم في الدرك الأسفل من النار. يقول شيخ المفسرين: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ))، وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار، ويعذب المنافقين والمنافقات لفتح الله لك يا محمد ما فتح لك، من نصرك على مشركي قريش؛ فيكبتوا بذلك؛ ويحزنوا ويخيب رجاؤهم الذي كانوا يرجونه من رؤيتهم في أهل الإيمان بك من الضعف والوهن، والتولي عنك في عاجل الدنيا. قوله: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ)) يعني: وليعذب كذلك أيضاً المشركين والمشركات. وقال القرطبي: قوله تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ)) أي: بإيصال الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبأن يسلط النبي صلى الله عليه وسلم عليهم قتلاً وأسراً واسترقاقاً. وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم، فقال: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ)) وهو معطوف على (يدخل) أي: يعذبهم في الدنيا لما يصل إليهم من الهموم والغموم. وهذا شيء طبيعي جداً أن نتوقعه من أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، أنهم يسوءهم عزة الإسلام، ونصرة المسلمين، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، وقال: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] إذاً: قوله: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ)) يعذبهم في الدنيا بأن يدخل عليهم الهموم والغموم؛ بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام، وقهر المخالفين له، وبما يصابون من القهر والقتل والأسر، وفي الآخرة بعذاب جهنم، ولذلك قال: ((وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ)). وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشد منهم عذاباً، وأحق منهم بما وعدهم الله به: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6].

معنى ظن السوء في الآية

معنى ظن السوء في الآية قوله تعالى: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) هذه الصفة للفريقين: للمنافقين والمنافقات، وللمشركين والمشركات، فمن صفات أهل النفاق وأهل الشرك أنهم يظنون بالله ظن السوء، وإذا كانت هذه الصفة من خصائص المنافقين والمشركين فالواجب على أهل الإيمان أن يتنزهوا عن هذا الخلق وعن هذا الوصف. يقول شيخ المفسرين رحمه الله: ((الظانين بالله)) أن لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين بك؛ وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. فظن السوء: أن الإسلام يظل دائماً في اندحار، ولن ترتفع كلمة الله سبحانه وتعالى على كلمة الكفر، يقول الله تبارك وتعالى أيضاً في نفس هذا المعنى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] في سورة الحج (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ) الضمير هنا يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يسبق له ذكر في السياق، لكن هذا مفهوم، من كان يظن بالله أنه لن ينصر عبده ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ماذا يعمل؟ يموت نفسه؛ لأنه لن يضر إلا نفسه، فالله معز دينه، وناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، فالذي يظن فعلاً هذا الظن السيئ بالله ليس له إلا أن يكيد نفسه، فإن هذا الظن لن يضر الله ورسوله شيئاً، فإن كلمة الله غالبة، فمعنى الآية: من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء، يدله على طريقة من طرق الانتحار، يربط حبلاً في سقف البيت أو الحجرة، ويقف على شيء مرتفع، ويربط الحبل على رقبته، ومن ثم يزيحه برجليه ويخنق نفسه، هذا هو معنى الآية، ((ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)) هل هذا الكيد يذهب عنه الذي يغيظه من نصرة الله لنبيه عليه السلام؟! لن يكيد إلا نفسه، فهذا معنى الآية. وقال ابن كثير في قوله تعالى: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال: ((عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) قوله: ((وَلَعَنَهُمْ)) يعني: أبعدهم من رحمته. وقال القاسمي: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) أي: ظن الأمر السوء، وهو أن لن ينصر الله تعالى رسوله والمؤمنين. وقال القرطبي: يعني: ظنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع إلى المدينة، ولا أحد من أصحابه حين خرج إلى الحديبية، وأن المشركين يستأصلونهم كما قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]. وقال الشوكاني: ثم وصف الفريقين أي: المنافقين والمشركين، فقال: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله: ((بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا)).

كلام ابن القيم في بيان أن الظن السيء من أخلاق المنافقين والمشركين

كلام ابن القيم في بيان أن الظن السيء من أخلاق المنافقين والمشركين قوله تبارك وتعالى: ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) هذا مما يبين لنا أن هذا الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى من أخلاق المنافقين والمشركين، وقد وضح الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى في أثناء كلامه في كتابه الرائع: (زاد المعاد) هذا المعنى حينما كان يذكر الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد، فيقول: وأنهم -أي: بعض المنافقين- يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، ولم يهمهم أمر دين الله، ولا نبيه، ولا أصحابه، فهؤلاء أهمتهم أنفسهم لا أمر الدين، ولا أمر النبي عليه السلام، ولا أمر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كان من شأنهم أنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يصيبهم القتل، فهذا هو معنى ((يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ))، وقد فسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة والقدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله ويظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]، وإنما كان هذا ظن السوء وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل وظنهم غير الحق، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [آل عمران:154] يعني: غير ظن الحق ظن الجاهلية؛ لأنهم ظنوا غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء؛ لأن هذا سوء الظن بالله، كأن يظن أحد أن الإسلام يظل دائماً في اندحار، وأن المسلمين سيستأصلون تماماً ويقضى على دينهم ودعوتهم، فهذا سوء ظن بالله عز وجل، وفيه نسبة ما لا يليق بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، بخلاف ما يليق بحكمه، وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، ولكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن أنه لا ينصر رسوله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد حزبه، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء! تأملوا الكلام هنا على من يظن هذا الظن، ظن أن الإسلام يقضى عليه تماماً إلى الأبد، ولا ترتفع له كلمة؛ هذا من ظن السوء بالله، وهو الظن اللائق بالمنافقين والمشركين وأعداء الدين، أما المؤمنون فلا يمكن أن ينسبوا إلى الله ما لا يليق به، لكن لا يعكر على هذا أن الأيام دول كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، يوم لك ويوم عليك، الصراع بين الحق والباطل من سنن الله سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، أما أن يظن أن الباطل يتمكن ويقهر الإسلام إلى الأبد، بحيث يضمحل الإسلام، ويقضى على الدعوة تماماً؛ فهذا سوء ظن بالله عز وجل، ونسبة ما لا يليق به إليه. يقول: وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة مستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه، ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله. وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته. وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدر من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]. وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص به، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء. فهذه بعض من صور الظن السيئ بالله سبحانه وتعالى، والقنوط واليأس من روح الله عز وجل كما سنبين ذلك تفصيلاً. يقول: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أن يترك خلقه سدىً معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لن يجمع عبده بعد موته للثواب والعقاب، في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويتبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، من لم يعتقد بذلك كله فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه، ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم يضلون بها عباده، وأنه يحصل منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحكم سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقدر قبح أحدهما وحسن الآخر؛ فقد ظن به ظن السوء. وهذا رد على الأشاعرة وغيرهم في موضوع التحسين والتقبيح العقلي. قال: ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة، وأشار إليه إشارات خفية لم يصرح بها، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير مراده، ويتطلبون له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز. وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان والتصريح بالحق إلى ما يوهم ما يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد؛ فقد ظن بحكمه ورحمته ظن السوء، وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بطريقة دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يقصد من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال -هذا كله رد على من يلحدون في الأسماء والصفات- وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق، فهذا من أسوأ الظن بالله. فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية. ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه؛ فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات ولا عدد السماوات والأرض ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر، ولا علم له ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لم يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه، بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، ومن قال: سبحان ربي الأسفل كمن قال: سبحان ربي الأعلى؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. ومن ظن به أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح؛ فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة والمقربين وأوليائه المصلحين؛ فقد ظن به ظن السوء. الإمام ابن القيم استعرض كل الفرق المنحرفة في باب العقائد في هذا الفصل الرائع من كتابه المبارك: (زاد المعاد)، ونكتفي بهذا الاقتباس من الكتاب، ونختم بقوله: فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله، ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بسوء الظن من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل

حاجة المؤمن إلى الأمل وانتظار الفرج

حاجة المؤمن إلى الأمل وانتظار الفرج نريد أن نلفت النظر إلى حاجتنا الماسة -خاصة في الظروف التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام- إلى الأمل، وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى، وأن يتعلق الإنسان بالرجاء؛ لأن مقتضى الإيمان حسن الظن بالله، وتنزيه الله عن سوء الظن به عز وجل، كما يقول الشاعر: أعلل النفس بالآمال أرشدها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وبدلاً من أن نقول: قال الشاعر، نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فنحن أمرنا بالتبشير، وأن نوقظ في قلوب الناس الأمل وحسن الظن بالله عز وجل، وانتظار الخير والتفاؤل بالمستقبل. وفي الحديث الذي رواه الترمذي -وهو حديث حسن- يقول عليه الصلاة والسلام: (أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا) (أنا أول الناس خروجاً) يعني: من القبور (إذا بعثوا). (وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مذكرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر) صلى الله عليه وآله وسلم. وهذه من خصائص رسولنا عليه السلام: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا)، فهو فعلاً مبشر الأمة إذا أيسوا، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (بشروا ولا تنفروا)، فكان من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائماً بعث الأمل في النفوس؛ لأن هذا أقوى سلاح تهزم به عدوك حتى لو كنت في أقصى درجات الاستضعاف، ولن نذهب بعيداً، لكننا سنأتي بالدليل من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنهتدي بهدي من هديه في هذه المحنة. يقول خباب بن الأَرَت رضي الله تعالى عنه: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له في الأرض، ثم يوضع فيها، ثم يوضع المنشار على رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، لا يصده ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) وفي حديث آخر لـ خباب قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يفتنا) وهذا الحديث له تفسيران: التفسير الأول: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: صلاة الظهر في الحر الشديد (فلم يفتنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يأذن لنا في أن نؤخر صلاة الظهر إلى أن تبرد الأرض ويتكون الظل، وهذا كان أولاً، ثم نسخ بعد ذلك بجواز الإبراد في صلاة الظهر وتأخيرها إلى أن يكون ظل، فهذا الحديث منسوخ على هذا التفسير. التفسير الثاني: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء) يعني: تعذيب المشركين إيانا بحر الرمضاء، (فلم يشكنا) يعني: لم يجز شكوانا، ولم يدع لنا، وإنما فعل كما بينته الرواية الأخرى: عزاهم وواساهم بأن هذه سنة الله في الذين خلوا من قبل، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فهذه سنة الله في الابتلاء، ولابد أنها ماضية، قبل أن يمكن الله هذا الدين لابد أن يدفع لهذا التمكين هذا الثمن، ولذلك قال: (لقد كان من قبلكم) لأنهم يقولون: (ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا؟) لا نجد في الحديث دعاء ولا استنصاراً، وإنما هو تعزية وتسلية بسنة الله التي لا تتبدل من ابتلاء المؤمنين، (لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل) إلى آخر الحديث، ثم قال مذكراً إياهم في أحلك اللحظات -وهذا هو الشاهد من كلامنا: أن المؤمن حتى في أشد اللحظات لا يسيء الظن بالله، بل لابد أن يؤمل رحمة الله عز وجل-: (والذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر) وهذا قاله وهم في أشد حالات الاستضعاف، (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله) وهذا هو الخوف الواجب من الله سبحانه وتعالى، (والذئب على غنمه) وهذا هو الخوف الفطري فقط، لكن لن يخاف من أي شيء سوف يلاقيه، وهذا بشارة تمكين المسلمين، وقد حصل هذا، بل أضعاف هذا كما هو معلوم. إذاً: في لحظات الشدة والمعاناة ينبغي أن يتسلح المسلمون والمؤمنون بالأمل في الله عز وجل، فالمستقبل للإسلام، وليس هذا كذباً على الناس، وإنما هو تذكير لهم لما بشرهم به الصادق المصدوق الذي وصف نفسه بقوله: (وأنا مذكرهم إذا أيسوا) يعني: هو الذي يزيل ظلمة اليأس والقنوط بالبشارة والإخبار بأن المستقبل لهذا الدين. فالأمل والتفاؤل وانتظار الفرج من الله سبحانه وتعالى من خصائص المؤمنين، بخلاف الكافرين كما ذكرنا، وقد روى الترمذي بسند فيه موسى بن محمد وهو منكر الحديث، لكن إذا صح الحديث فإنه يفيدنا الاستشهاد به في هذا الموضع، عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً، ويطيب نفسه) (إذا دخلتم على المريض) يعني: لعيادته (فنفسوا له في أجله) يعني: أذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله، يعني: قد يكون المريض مشرفاً مشفقاً أن يموت، ففي هذه الحال الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر أن من آداب عيادة المريض -إذا صح الحديث- تشجيع العليل بلطيف المقال، وحسن الحال، فأنت قل له: لا بأس طهور إن شاء الله، أو تدعو له بطول العمر أو البركة في العمر، وأن الله سيشفيه ويعافيه، أو تقول له: لا تخف سوف يشفيك الله عز وجل إلى آخره، فتنفس له في أجله يعني: أنك تمنيه وتعطيه الأمل أنه سوف يحيا ويعيش، ولا يجزع من الموت، إلا إذا كان المرض فعلاً خطيراً، وهو على وشك الموت بالفعل، فمن الغش والخيانة أن تخبئ عنه أنه على وشك الموت، كما يذهب بعض الناس إلى إخفاء حقيقة المرض عن المريض، وإخباره به فيه مصلحة له في أن يعرف أنه مقبل على الموت، فلو أن عنده أمانات للناس يردها أو وصية يوصي بها ويستعد بالتوبة وغير ذلك من الخيرات الكثيرة، والشاهد إذا صح الحديث: (ونفسوا له في أجله) إما بهذا المعنى تعطيه أملاً في أنه سوف يشفى ويعافى، أو نفسوا له يعني: وسعوا له في أجله، فيتنفس عنه الكرب؛ لأن التنفيس هو التفريج. فالمقصود: أننا نذكر له كلاماً نبعث له فيه الأمل في طول عمره. يقول: (فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئاً) (فإن ذلك) يعني: ذلك التنفيس كلمة طيبة، ولن ترد شيئاً من قدر الله، إن قدر الله أنه يموت فسوف يموت، سواء بهذا المرض أو بغيره، فهذا التنفيس لن يضر شيئاً من الموت المقدر، ولن يطول عمره، ولكنه يطيب نفسه، ويفرج عنه، وينعشه، ويبعث فيه الأمل، (فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه). فلذلك نجد الأطباء يلجئون لشيء من هذا مع المرضى، لكن أحياناً بطريقة فيها كذب، فبعض الأمراض المستعصية جداً ممكن الدكتور يقول للمريض: هذا دواء يجرب في هذا الوقت فيعالج هذه الحالة، ويكون الدكاترة ما اكتشفوا الدواء بالفعل؛ لأن كل داء له دواء، وهذا من أعظم آداب الإسلام، ومهما حاول الطب لم يستطع أن يصل إلى هذه القمة التي عبر عنها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: (ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء) فما نقول أبداً كما يقول الأطباء الغربيون مثلاً: السرطان ليس له دواء، السكر ليس له دواء يستأصله، لكن نقول: له دواء لكننا لم نكتشفه ولا نعرفه، فيوجد له دواء؛ لأن الصادق المصدوق أخبر أن الله الذي ينزل الداء ينزل معه الدواء: (علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داء واحداً هو الهرم) أي: الشيخوخة والموت. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يراعي هذا الأدب، وتأملوا الحديث الآخر حينما كان عليه الصلاة والسلام يعود مريضاً ماذا كان يقول: (اللهم أذهب الباس، رب الناس) تأملوا كم مرة تكررت مادة (شفا) ومشتقاتها في هذا الدعاء، فهذا فيه بعث التفاؤل في طول الأجل، وأنه سوف يشفى، فالأمل مهم جداً أن يتسلح به الإنسان، والدعاء هو: (أذهب الباس، رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) يعني: الشفاء من المرض الذي لا يكون بعده نكسة؛ لأن كثيراً من الأمراض حتى لو شفي الإنسان بعدما يتعاطى الدواء فممكن من بعد أن الإنسان تحصل له نكسة ويرجع المرض من جديد، لكن انظر إلى حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يدعو له بالشفاء، (لا يغادر سقماً) بحيث لا يعود له المرض أبداً، ولا يحصل له نكسة وانتكاس، فنحن نريد أن نقتبس من هذه الآداب النبوية أن الأمة أيضاً إذا مرضت ننفس لها في الأجل، لا أقول: نكذب كما يكذب بعض الأطباء يريد أن يحسن الحالة النفسية للمريض؛ لأن لها تأثيراً كبيراً على الحالة العضوية، فلا نريد أن نسلك هذا المسلك، لكننا سوف نأتي بكلام من لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن النصر والتمكين والمستقبل لهذا الدين، فينبغي أن نلتزم قول النبي عليه السلام ففي الحديث: (خير الهدي هدي محمد) صلى الله عليه وسلم، فمن هديه وصفاته ما ذكره في هذا الحديث: (وأنا مبشرهم إذا أيسوا) فعلينا أن نبشر الناس إذا أيسوا وإذا ادلهمت الخطوب. وهذا من باب الأمل، وقد فتح الله باب الأمل لأكفر الخلق إجراماً وهم المنافقون، دعاهم الله سبحانه إلى التوبة، ودعا أهل الكتاب من النصارى الذين سبوه وشتموه إلى التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، ودعا الكافرين وفتح لهم باب الأمل في الجنة فقال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، ودعا العصاة المسرفين على أنفسهم بالمعاصي فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَ

الفتح [8]

تفسير سورة الفتح [8]

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) قال الله تبارك تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8]. قوله: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا)) الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، ومن غايات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شاهداً، وقد جاءت آيات كثيرة تبين بعض ما يتعلق بمنصب الشهادة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، منها: قول الله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] فهذه الآية الكريمة من سورة النساء تبين أن كل أمة يأتي شاهد ليشهد عليها، ألا وهو رسولها، روى البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي؟ -يعني: قرآناً- قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم وليس فيه قوله: (حسبك)، وفيه أنه قال: (فرفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جانبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه صلى الله عليه وسلم تسيل) وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لتعظيم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيداً: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} فهذا تعظيم لهذا الموقف العظيم المهول، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون في منصب الشاهد، فإذا كان الشاهد يشفق من هول هذا المطلع، وفظاعة وعظم هذا الموقف، فكيف بالمشهود عليه؟ وإذا كان الشاهد نفسه يبكي تعظيماً لهذا الموقف فلا شك أن غيره أولى أن يتفتت كبده. وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ} يعني: كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خصهم بالذكر؛ لأن العذاب أشد عليهم من غيرهم؛ لأن هؤلاء رأوا المعجزات، ومع ذلك عاندوا، والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة (إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)؟! أمعذبون أم منعمون؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ، وقيل: الإشارة إلى جميع أمته: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ) يعني: على جميع أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أمة الدعوة أو أمة الإجابة. (شَهِيدًا) قال الألوسي: يعني: شهيداً تشهد على صدقهم؛ لعلمك بما أرسلوه، واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأصلوا: ((وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا))؛ لأن بعض الأدلة تدل أيضاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون شاهداً على الأنبياء أنهم بلغوا أممهم حين تنكر الأمم الكافرة ذلك، فيشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومهم قد أبلغوهم. ومن الآيات التي لها تعلق بالشهداء قوله تبارك وتعالى: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر:71 - 70] واختلف العلماء في المراد بهؤلاء الشهداء: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) فقال بعض العلماء: هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمال الناس في الدنيا، واستدل من قال هذا بقول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] أي: شهيد من الملائكة، والجمع شهداء، فقوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) يعني: الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم. وقال بعض العلماء: الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون على الأمم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]. وقيل الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل. والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الشهداء: هم الرسل من البشر ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) يعني: بالنبيين والمرسلين الذين أرسلوا إلى الأمم؛ فالمعلوم أنه لا يقضى بين الأمة حتى يأتي رسولها، كما قال تبارك وتعالى في سورة يونس: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس:47]، فلا يقضى بين الأمة حتى يجاء برسولها، وكما قال تعالى أيضاً: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]. فأيضاً يشير إلى نفس هذا المعنى قول الله عز وجل: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ))، وهو رسولها الذي أرسل إليها، فإذاً: شهيد كل أمة هو رسولها. وقوله: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)) هذا يبين أن الشهيد يكون من نفس هذه الأمة، وهو ليس من الملائكة، فهذا القول يترجح على قول من قال: إن الشهداء في قوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) هم الملائكة، بدليل قوله: ((وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ))، والآية الأخرى بينت أنه لا يكون قضاء حتى يجاء بالنبي شاهداً على أمته. وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [النحل:89] ولا شك أن الرسل من أنفس أممهم، كما قال عز وجل في نبينا صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164].

أمة النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة على كل الأمم

أمة النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة على كل الأمم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب:45]، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: خياراً عدولاً، وسطاً: خياراً عدولاً، ويدل بأن الوسط الخيار العدول قوله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم أي: خيار عدول. وقوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} لم يبين هل هذه الشهادة تكون عليهم في الدنيا أم في الآخرة؟! لكنه بين في موضع آخر أن هذه شهادة على الأمة تكون في الآخرة في قوله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42]. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا): وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً، والقرطبي رحمه الله تعالى أطلق هذه الكلمة أن الكعبة وسط الأرض، وربما لم يخطر بباله ما تنتهي إليه البحوث العلمية مؤخراً من أن مكة بالفعل هي مركز اليابسة وهي أم القرى فعلاً، فمركز اليابسة على سطح الأرض هو مكة المكرمة، فكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، وسطاً في الرتبة ففوقكم الأنبياء، وتحتكم الأمم الأخرى، والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143] قال: عدلاً) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال تبارك وتعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: أعدلهم وخيرهم. وقال زهير: وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقال آخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن بالأمور فرطاً لا تسألن إن سألت شططا وكن من الناس جميعاً وسطاً ووسط الوادي خير موضع فيه، وأكثره كلأً وماء، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، فالنصارى غلو في حق المسيح عليه السلام، حتى عبدوه من دون الله، واليهود جفوا في حق الأنبياء وقصروا حتى شتموا الأنبياء وسبوهم ونسبوا إليهم أقبح الكبائر، وأخس الخصال، كما في كتبهم التي افتروا فيها الكذب على الله سبحانه وتعالى، وجاء في بعض الآثار: (خير الأمور أوسطها). (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يعني: في المحشر تكونون شهداء للأنبياء على أممهم، كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك، فيقال له: هل بلغت؟! فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير)؛ لأن الكفار يوم القيامة يحاولون أي حيلة لعل وعسى أو ليت بتعبير أدق، فيلجئون إلى الكذب حتى إنهم يلجئون إلى اليمين المغلظة، قال تعالى حاكياً عنهم: ((وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) يقولون: الملائكة ظلمتنا، الملائكة تفتري علينا وتدعي علينا أننا كنا نشرك بالله، ويظنون أن هذا اليمين تنفعهم وقد عاينوا يوم القيامة، فلذلك يتذرعون بأي حيلة كالحلف باليمين الغموس الكاذبة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، كذلك الأمم حينما يسأل الله سبحانه وتعالى نوحاً: (هل بلغت؟ -يعني: قومك- فيقول: نعم، فيقال لأمة نوح: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟) يخاطب الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام يقول: (من يشهد لك؟ فيقول نوح عليه السلام: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيداً) فذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] وعند ابن المبارك نفس هذا الحديث بزيادة: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟!) يعني: كيف يقبل الله سبحانه وتعالى شهادة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وهم لم يعاينوا نوحاً حينما بعث إلى قومه؟! (فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا) أي: لأن القرآن الذي أنزلته إلينا، وهو كلامك الصدق والحق؛ هو الذي أخبرنا أن نوحاً أبلغ أمته الرسالة: (فيقول الرب عز وجل: صدقوا).

أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط

أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط قوله عز وجل: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) الوسط: العدول، ((لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) هكذا أثنى الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بالخيرية والوسطية وبالعدالة، فمن مفاخر الإسلام ومحاسنه هذا التوسط في كل باب من الأبواب، فهناك طرفان: طرف قابل للغلو، وطرف آخر قابل للتقصير والجفاء والتفريط، فهذه الأمة في كل الأمور هي أوسط الأمم وخيارها وأعدلها؛ فلذلك يقول شاعر: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الأحداث حتى أصبحت طرفا دائماً في أي شيء يوجد وسط وطرفان، طرف لأقصى اليمين، وطرف لأقصى الشمال فمن حاد عن هذه الوسطية التي هي شريعة الإسلام وأحكام الإسلام إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار فهذا هو الذي أخذ بأطراف الأمور، فهذا هو الذي يطلق عليه المتطرف، فالمتطرف هو الذي يأخذ بأطراف الأمور إما بالغلو وإما بالجفاء، إما بالإفراط وإما بالتفريط، فهذا هو المتطرف، فكل من انحرف عن هدي الإسلام فهو متطرف، وكل من تمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هديه خير الهدي- فهو الوسط والعدل، وهو الخيِّر بشهادة القرآن الكريم وبشهادة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمن اللعب بالألفاظ إطلاق كلمة المتطرف أو المتزمت أو غير ذلك من الألقاب التي يطلقونها بألسنتهم وأقلامهم على أهل الحق والإسلام، وأهل السنة والجماعة، وهذا تجن على الحقائق؛ لأن الخلاف بيننا وبينهم في تحديد الوسط، فممكن يأتي شخص ويعتبر أحد الطرفين هو الوسط، فإذا اعتبر ما هو عليه وسطاً فبلا شك بالنسبة إليه سيكون هو الوسط أو العدل، فالمتطرف: هو الذي يأخذ بأطراف الأمور، فكل من حاد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو المتطرف بشهادة القرآن؛ لأن القرآن يصف الأمة بهذه الصفة، فنحن الذين في الوسط، وكل من يخالفنا فهو المتطرف سواء كان على مستوى الأديان أو على مستوى الفرق داخل دائرة الإسلام، سواء أهل الشهوات أو أهل الشبهات، فبالنسبة لمن عدا أهل الإسلام فكل من ليس مسلماً فهو متطرف، وهم الآن يحاولون غسل أدمغة بعض الناس، يقولون: قام مجموعة من اليهود المتطرفين بفعل كذا وكذا، أو يقول لك: الأحزاب الدينية المتطرفة عند عصابة اليهود، لا، هذا تلفيق وجهل فاحش؛ لأنه لا يوجد شيء اسمه وسط والثاني متطرف، كل يهودي متطرف، وكل نصراني متطرف، وكل وثني بوذي مثلاً أو مجوسي متطرف، وهكذا كل من ليس مسلماً فهو خارج عن دائرة الاعتدال أصلاً، فهذا أحق الناس بوصف التطرف، فكل من يخرج من ملة ودائرة الإسلام فهو متطرف، وداخل دائرة الإسلام كل فرقة متطرفة ما عدا أهل السنة والجماعة، الذين هم على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم. جميع الفرق إما في غلو وإما في جفاء، أخذوا بالأطراف، فالخوارج -مثلاً- على أحد الطرفين من الغلو والجور والإفراط، فيكفرون أهل المعاصي، ويعتقدون بخلودهم في النار، وعلى الجهة المقابلة المرجئة، يقولون: الإيمان هو المعرفة ولا يزيد ولا ينقص ولا نفاق ولا يضر مع الإيمان شيء. كذلك في مسألة القدر القدرية والجبرية على طرفي نقيض، وهكذا في عامة مسائل الدين مثل مسألة الموقف من الصحابة، نجد المبطلة الذين يعبدون الصحابة، ونجد الطرف الآخر الشيعة الذين يسبونهم وهكذا، فكل باب من الأبواب هو قابل للغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، ما عدا أهل السنة والجماعة، فهم أهل الاعتدال والتوسط والاتزان والخيرية. ونخلص من ذلك أن أولى الناس بوصف التطرف هو الكافر، فأي كافر متطرف، ولا يوجد شيء اسمه: يهودي معتدل، ويهودي متطرف، ماذا يعني يهودي معتدل؟ كيف نقول: يهودي معتدل وهو يؤمن بأن محمداً عليه السلام افترى على الله الكذب، وأنه ادعى أن الله أوحى إليه؟ هل هذا ممكن أن يكون معتدلاً؟! هذا لا يمكن أن يوصف بالاعتدال، فكل كافر متطرف وخارج عن دائرة الإسلام والنجاة. كذلك كل مسلم مبتدع متطرف؛ لأنه خارج عن دائرة أهل السنة والجماعة. إذاً: كل من ليس مسلماً من أهل السنة والجماعة فهو متطرف، وما عدا ذلك فهو تلاعب بالألفاظ، فالمتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها حادت عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر المرأة بالحجاب، فهي انحرفت وخرقت أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وخالفت هدي بناته ونسائه والمؤمنات، فلذلك هي متطرفة لأنها متبرجة، وليس التي تستر نفسها تسمى متطرفة. الذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأن هدي محمد عليه السلام خير الهدي، فهذي حيدة وانحراف عن هدية، ومخالفة لأمره. وهكذا كل مخالف للشريعة فهو الأحق بوصف التطرف، وليس أهل الحق أهل السنة والجماعة، وأسلوب التلاعب بالألفاظ، وإلباس المعاني الصحيحة ثياباً منفرة من الألفاظ المبتدعة؛ أسلوب قديم قدم تاريخ البشرية، وإلى الآن أهل الباطل يحاولون أن يأتوا بالباطل، ويلبسونه ثياباً زاهية جميلة، ويأتون بالحق، ويحاولون أن يكسونه بالألفاظ المنفرة التي تنفر من هذا الحق، كما أشار إلى هذا التلاعب بالألفاظ أحد الشعراء بقوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تُعب قلت ذا قيء الزنابيرِ مدحاً وذماً وما فارقت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فنفس العسل الشهي ممكن أن ينفر الناس منه فيقال: هذا القيء الذي تتقيؤه الزنابير! ويأتي آخر فيقول: لا، هذا جنى النحل الشهي الذي فيه دواء للناس وشفاء، والحقيقة واحدة، لكن يمكن أن ينفر عنها باستعمال هذه الألفاظ، وبلا شك أن أعداء الإسلام وأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بمصطلحاتهم المنفرة هذه، وقد نجحوا إلى حد كبير في إقامة الحواجز النفسية، وصد كثير من الناس عن دين الله وعن سبيل الله بسبب هذا الأسلوب الرخيص، وهذه الخصومة التي لا تعرف رائحة الشرف، فقد دأبوا على طعن المسلمين، والتنفير من الدين والمتدينين بوصف التطرف، وما فطن القوم أنهم إنما يريدون أن ينتهوا بهم إلى أن الإسلام نفسه هو التطرف كما صرحوا بذلك في آخر المراحل بعدما فات الأوان، وانطبع في قلوب الناس أن الإسلام هو التطرف، وأن الإسلام هو دين الإرهاب وفيه بذور الإرهاب إلى آخر هذه الأراجيف.

ثناء هذه الأمة على الميت

ثناء هذه الأمة على الميت قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب ثناء الناس على الميت. حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً -يعني: الصحابة- فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض). قال الحافظ: المراد بالوجوب الثبوت، (وجبت) يعني: ثبتت، إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، يعني: لا يفهمن أحد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وجبت) أنكم أنتم أوجبتم على الله هذا، فهذا لا يليق ولا يكون أبداً. ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فلا يجب على الله شيء، وإنما معنى (وجبت) أي: ثبتت له الجنة، فالأصل أنه لا يجب على الله شيء بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل. وقال أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) أي: المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكي أن ذلك مخصوص بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، بخلاف من بعدهم، والصواب أن ذلك خاص بالثقات والمتقين، فالعبرة بشهادة الثقات والمتقين سواء من الصحابة أو من أتى بعدهم ممن يتحلى بهذه الصفات. ولـ أبي داود في هذه القصة: (إن بعضكم على بعض لشهيد) قال النووي: والظاهر أن الذي أثنوا عليه شراً كان من المنافقين؛ لما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم: (لم يصل على الذي أثنوا عليه شراً، وصلى على الآخر) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة قال: وثلاثة. قلنا: واثنان، قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد). يقول الداودي: والمعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، يعني: المعتبر شهادة أهل العلم والفضل والصدق لا الفسقة؛ لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ومن كان بينه وبين الميت عداوة؛ فإنه يثني عليه شراً، وشهادة العدو لا تقبل. وفي هذا الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر. وبعض الناس يتصور أنك لو جازفت بمدح الميت بأشياء لم تكن فيه فإن هذا ينفعه! ويستدلون بهذه الأحاديث، لا، العبرة بأن يكون الثناء على الميت موافقاً لما كان عليه في الواقع، وعلى الأقل في الظاهر، لا بشيء يجازف به الناس في مدح الميت كذباً وزوراً. وعن أنس مرفوعاً: (ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون). ومن الآيات التي لها تعلق بمنصب الشهادة على الناس قول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89] فبين عز وجل أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم، وأنه يأتي بنبينا صلى الله عليه وسلم شاهداً علينا، قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].

هل النبي صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته بعد موته؟!

هل النبي صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته بعد موته؟! النبي صلى الله عليه وسلم يكون شاهداً على أمته يوم القيامة، وهل النبي صلى الله عليه وسلم الآن حي في قبره أم لا؟ هذه قضية مختلفة تماماً عن هذه، وقد روي حديث نصه: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم) وهذا الحديث يقول فيه الشيخ حامد الفقي رحمه الله تعالى: هذا حديث باطل سنداً ومتناً؛ إذ لم يروه إلا الديلمي عن أنس وابن سعد في الطبقات مرسلاً عن بكر بن عبد الله. وروى البزار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم) فهذا أيضاً ضعيف، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)، فهو صحيح، ولكن الكلام في تضعيف قوله: حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، والمحدثون لهم كثير من الكلام في تضعيف هذا الحديث وإثبات بطلانه، فإن الهيثمي قال في المجمع: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وهذا خطأ منه رحمه الله تعالى، فالحديث ضعيف بجميع طرقه. وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه -كما في صحيح البخاري - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حديث: (فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب -وفي بعض الروايات: مثل الربابة- فقيل لي: ذاك منزلك، قلت: فدعاني أدخل منزلي، فقالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك). وهذا الحديث مما يبين بطلان الحديث السابق؛ لأن النبي صلى عليه السلام إذا استكمل عمره فإنه ينتقل إلى منزله الذي أريه في هذا الحديث. وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيا الآن حياة برزخية، ينعم فيها أيما نعيم، وقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة حق التبليغ، وجاهد بنفسه وماله حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والنبي صلى الله عليه وسلم لو أنه يطلع على ما عليه الأمة الآن من الإذلال والبدع والضلالات والشركيات والإعراض عن شرع الله عز وجل، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا شك أنه لو اطلع على ذلك لتنغص وتألم أشد التنغيص والألم، ولغلب عليه بمقتضى هذا الخبر الضعيف الحزن والأسف؛ نظراً لكثرة المعاصي والشرور، وقلة الطاعات والخيرات في أمته صلى الله عليه وسلم، خاصة في زمننا هذا، فلا شك أن هذا يتنافى مع وجوده في هذا النعيم؛ لأن الحزن والحسرة والنصب يتنافى مع النعيم والثواب. والصحابة رضي الله عنهم قد حزنوا حزناً شديداً لوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقف الموقف الذي تعرفونه، فكيف يكون موته خيراً لهم؟ ولو كان مماته خيراً لهم لما حزنوا على ذلك، فكيف يكون موته خيراً لهم وقد كان في حياته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، ويحسم أمرهم، ويقطع الله به أسباب الخلاف. أيضاً قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، فهذه الآية تدل على أن المغفرة منوطة بالإيمان والعمل الصالح، فكيف يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الذين حادوا الله ورسوله، وانحرفوا عن هديه، والله تعالى يقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119]، وقال تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] يعني: في الدنيا، وإن كان يعلم أنه هو نفسه عليه الصلاة والسلام في الجنة?! وقال صلى الله عليه وسلم لابنته ولذوي رحمه: (اعملوا فلن أغني عنكم من الله شيئاً)، والحديث السابق من شأنه أن يقوي ويدعم روح التواكل والتواني عند الغافلين المفرطين، الذين يحسبون أنهم قد ضمنوا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إن أشد الناس انغماساً في البدع والضلالات يستعملون عبارة شائعة خاصة عند الصوفية الذين يقولون: (يا بختنا بالنبي) ويقولون: نحن نغبط أنفسنا على أننا منتمون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهم مغترون؛ لأنهم على بدع وضلالات وانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمثال هؤلاء المبتدعة أو المنحرفين إذا أتوا يوم القيامة بأوزارهم يقولون: يا رسول الله! اشفع لنا. فيقول لهم جميعاً: (قد بلغت لا أملك لكم من الله شيئاً)، وهذا لا يتعارض مع ما ذكرناه بالنسبة للشفاعة؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن ارتضاه الله، ولا تكون أيضاً إلا بإذن من الله سبحانه وتعالى، فالأمر في الحقيقة كله لله. ومن أقوى الوجوه الذي يبطل بها هذا الحديث ما رواه الشيخان بسنديهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) يعني: أنا الذي أتقدمكم وأسبقكم إلى الحوض، قال: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم)، أي: من الحوض؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يتصدر الحوض ويسقي ويعطي المسلمين المتبعين له، يقول: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني) (اختلجوا دوني) يعني: أبعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أي رب! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!) لا شك أن هذا نص واضح جداً يبطل الحديث الأول؛ لأنه إذا صح قوله: (تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت) إلى آخره؛ فإنه يكون كان عالماً بما حصل من بعده، لكن هذا الحديث المتفق عليه دليل واضح وصريح بأنه لا يدري ما أحدثوا بعده، ففيه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:117 - 118] قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم). وهذا الحديث واضح الدلالة جداً على هذه المسألة؛ لأن فيه: (وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي -يعني: يقول ذلك على حسب علمه بهم- فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فيستشهد النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقول المسيح عليه السلام: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة:117] أي: حاضراً معهم ومشاهداً لأفعالهم ما دمت فيهم، فقوله: (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) (ما) معناها وقت دوامه فيهم، ((وكنت عليهم شهيداً)) وقت دوامي وبقائي فيهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} فخصص الرقابة والشهادة بعد وفاته لله سبحانه وتعالى ((وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقباهم). قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال) يعني: إلى جهة النار. وفي البخاري: (فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم -يعني: تعالوا- فقلت: إلى أين؟! قال: إلى النار). وفي حديث سهل: (ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم يوم القيامة). قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب! أصيحابي) بالتصغير هذا خبر مبتدأ محذوف تقديره: أي: هؤلاء أصيحابي. ولـ أحمد والطبراني من حديث أبي بكرة مرفوعاً: (ليردن علي الحوض رجال ممن صحبني ورآني) وهذا سنده حسن كما قال الحافظ. وقال الحافظ أيضاً: قال الفربري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر. فالمقصودون بهذا الحديث هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقاتلهم أبو بكر فقتلوا أو ماتوا على الكفر، قال الخطابي رحمه الله تعالى: لم يرتد من الصحابة أحد، يعني: الذين ارتدوا ليسوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين؛ وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (أصيحابي) بالتصغير؛ لأن التصغير هنا يد

التحذير من الغلو في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم

التحذير من الغلو في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيه تحذيراً شديداً، وكثير من الناس الذين يسلمون برسالته مع بشريته، تبقى عندهم نقطة ضعف يريدون دائماً أن يرفعوا صفة البشرية عنه، فيقولون: هو خلق من نور، إلى آخره. ويقولون: أنتم تقولون: حدثنا فلان عن فلان عن فلان. فأين فلان؟ قلتم: مات، فكلامكم كله ميت عن ميت، أما كلامنا نحن فنأخذه مباشرة عن الحي الذي لا يموت! فعندهم الكثير من الضلالات والانحرافات لأنهم يزدرون العلماء. الله سبحانه وتعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] يعني: الموت، فلم يجعل الله لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، أما هم فقد خالفوا الآية وجعلوا لها أجلاً وهو الوصول إلى بعض هذه المقامات! وهم يزعمون أنهم بغلوهم في الرسول صلى الله عليه وسلم وبمدحه أنه أول خلق الله، وأنه نور عرش الله! وأنه كذا وكذا من هذه الفضائل المزعومة التي يخترعونها؛ أنهم بذلك يرفعون قدر النبي صلى الله عليه وسلم! من أراد أن يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فليمدحه بما مدحه به ربه، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي علمنا بقوله: (من تواضع لله رفعه الله) فإذا أردت أن تمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فامدحه في دعوته واجتهاده إلى أقصى مدى في العبودية لله سبحانه وتعالى، التي معناها: غاية الحب مع غاية الذل والانقياد والقبول، فيمدح الرسول عليه السلام بالعبودية لله عز وجل، ولا يصح أن ننفي عنه صفة العبودية، ونرفعه إلى رتبة الألوهية كي نمدحه أو نشرفه، فالذي يشرفه هو أن تمدحه بالعبودية، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من تواضع لله رفعه الله) هذا منطوق الحديث، ومفهوم الحديث دلت عليه آية في سورة الأعراف: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف:13] اهبط لأنك تكبرت، فالذي يتكبر يضعه ويذله الله، ويهينه الله، أما الذي يتواضع فإن الله يرفعه، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد رفع على جميع العالمين فما رفع إلا لأنه بلغ أعلى مقامات الذل والحب لله سبحانه وتعالى، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يمدحه بالعبودية في أشرف المقامات: ففي مقام الدعوة يقول: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، وفي مقام الإسراء يقول سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] إلى آخره، وفي مقام التحدي يقول تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]. إذاً: عبودية الرسول عليه الصلاة والسلام شرف ورفعة له، فسبب هذا المقام العظيم الذي تبوءه عند الله أنه وصل إلى مقام لا يبلغه غيره في الخضوع والتذلل والانقياد لشرع الله سبحانه وتعالى. وما هذا الذي يمارسه الصوفية وأشياعهم من الغلو في شخص رسول الله عليه السلام والمبالغة في تصور محاسنه: يا أحمر الخدين! يا أكحل العينين! إلا حيدة ومحاولة للتعويض عن التقصير في الانقياد والاتباع، والحب الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى لما رأى الناس كلهم يدعون محبة رسوله صلى الله عليه وسلم امتحنهم امتحاناً فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]؛ لأنه ليس الشأن في أن تحب أنت الله سبحانه وتعالى؛ لأنه شيء لازم أن تحب الله لاتصافه بصفات الكمال والجمال والجلال، ولما أسدى إليك من النعم، فبالضرورة أنك تحبه، لكن الشأن في أن يحبك الله ويكافئك على اتباع رسوله، فهذا هو الشأن، وهذا هو الشيء العظيم أن يحبك الله، لكن هناك علامة على هذه المحبة قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فالاتباع هو علامة المحبة الحقيقية، وليس بالتغزل في صورة النبي عليه السلام كما يفعل هؤلاء الناس، ليس الموضوع مجرد عاطفة غير رشيدة، وإنما بالاتزان والوسطية والاعتدال، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) فحينما تصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية ليس هذا انتقاصاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما أشرف ما يمدح به رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تصفه بالعبودية لله، لا تشرك به مع الله، وكما نجد للأسف اليمين المصرية الشائعة في كل البلاد المصرية (والنبي)! فكلمة (والنبي) هذه قد نهانا عنها النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، أما أنك تحلف بالنبي، وبعض الناس يبلغ في الغلو أنه إذا أراد أن يقوم يقول: يا رسول الله! يطلب المدد من الرسول عليه السلام! هل يفرح بك رسول الله إذا علم أنك تستغيث به من دون الله، وتطلب منه المدد دون الله سبحانه وتعالى؟! فبعضهم يقوم وجسمه ضعيف مثلاً أو ثقيل فيقول: يا رسول الله! ويظن أنه هكذا يعظم الرسول عليه الصلاة والسلام! الرسول صلى الله عليه وسلم يبرأ من هذا الفعل؛ لأن هذا شرك، فلا يطلب الإنسان المدد من غير الله سبحانه وتعالى، كذلك الحلف شرك كأن يقول: ورسول الله كذا وكذا ويظن أنه معظم لرسول الله، كل هذه السلوكيات انحراف عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فرسول الله عليه الصلاة والسلام لما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت. غضب، هذا ليس احتراماً للرسول، بل هذا خدش للرسالة التي جاء بها في التوحيد، لما قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، والأحاديث في ذلك كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائماً يرد الناس إلى الصواب، فيجب مدحه بالعبودية لله، ومن أراد أن يعبر عن حب النبي عليه السلام فليتبعه في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين أن يختار الحاج إذا أراد رمي الجمرات الحصيات الكبيرة، وأمر أن تكون الحصى مثل حصى الخذف يعني: ما بين حبة الحمص وحبة الفول، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: هات! القط لي -يعني الجمرات- قال: فلقطت له نحو حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال: مثل هؤلاء! (ثلاث مرات) وإياكم والغلو في الدين! فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) وهذا الذي حذرنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم نحن نشاهده الآن في منى، فبعض الناس يأتي بالأحذية ويضرب بها الشيطان! ونرى الحجارة الكبيرة وغيرها من الأشياء ملقاة في الجمرات، وتسمع الشتائم التي تلقى، فتأتي المرأة وتشتم الشيطان وتقول له: أنت الذي تحرض علي زوجي، وأنت الذي تفعل كذا وكأنها ترى الشيطان، ونفس هؤلاء الناس هم الذين يرجعون إلى التلفاز والفيديو، وقد تعود النساء متبرجات كما كن في سيرتهن الأولى ولم يغير الحج من أخلاقهن شيئاً! والرسول عليه الصلاة والسلام جعل رمي الجمار مسألة رمزية، الغرض منها نبذ الشيطان ومحاربته، وليست حقيقة يراد بها قتله وإماتته، فعلى المسلم تحقيق الأمر، ومنابذة الشيطان عدو الإنسان اللدود بالعداء ليس غير.

صاحب البردة وغلوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم

صاحب البردة وغلوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلو في الدين والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم أمر وقع المسلمون فيه مع الأسف، واتبعوا سنن أهل الكتاب، فقال قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم هذا كلام البوصيري في قصيدته المشهورة المشحونة ببعض الشركيات الشنيعة، فهو يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فهل يرضى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجل من أمته ويقول له: مالي من ألوذ به سواك؟! هل أنت تقرأ: قل أعوذ برسول الله! من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، أم تتعوذ بالله وحده؟! فهذا يتعوذ بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: لا يوجد أحد غيره أعوذ به. فالرسول عليه الصلاة السلام لا يرضى بأقل من هذا، فكيف بهذا الضلال المبين؟! ويقول أيضاً: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم يعني: لولا الرسول عليه الصلاة والسلام لم تخلق الدنيا، فكأن الآية عندهم: وما خلقت الجن والإنس إلا من أجل محمد عليه الصلاة والسلام! ما هذا الغلو؟! {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أيضاً يقول البوصيري: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم يعني: من جود الرسول عليه الصلاة والسلام الدنيا وضرتها التي هي الآخرة، فهما من كرمه وجوده! وعلم اللوح والقلم من علومه! وأيضاً يقول البوصيري معتمداً على فهم مغلوط لهذا الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله): دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم ففهم أن الحديث ينهى عن أن نقول: محمد ابن الله أو ثالث ثلاثة، فيقول: دع هذه، وقل بعد ذلك ما شئت، وامدحه بأي شيء، ففهم الحديث فهماً عجيباً جداً، فكان المفهوم عنده: اطروني بما شئتم ما عدا قولكم: محمد ثالث ثلاثة أو محمد ابن الله ونحو ذلك، وهذا الشاعر يعظمه كثير من المسلمين، وقصيدة البردة للأسف الشديد أعرف من يحفظها ولا يحفظ شيئاً من القرآن، وهذه لها وضع مميز عند الصوفية، وكأنها شيء من الوحي، فهم يحفظونها ويهتمون بها اهتماماً شديداً جداً، ويتبركون بها، وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم، ويعدون ذلك قربة إلى الله عز وجل، ودليلاً على محبتهم النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الشاعر قد ظن النهي الوارد في الحديث منصباً على الادعاء بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ابن الله، فنهى عن هذه المقولة، ودعا إلى قول أي شيء آخر مهما كان، ولا شك أن هذا غلط بالغ، وضلال مبين؛ ذلك لأن الإطراء المنهي عنه في الحديث له معنيان اثنان: الأول: (لا تطروني) هذا نهي عن مطلق المدح، يعني: لا تمدحوني أبداً؛ لأنكم لن تقووا على مدحي بأعظم مما مدحني به الله عز وجل، من أني رسول الله، وأني على خلق عظيم وغير ذلك مما امتدحه الله سبحانه وتعالى به. الاحتمال الثاني: النهي عن مجاوزة الحق في المدح، والمراد المدح بالصور الموجودة الآن، فهي صناعة لم تكن معروفة عند السلف؛ لأن السلف رحمهم الله كانوا مشغولين بالاجتهاد في اتباع رسول الله عليه السلام، وإحياء سنته، وتجديد دينه، ولم يشتغلوا كما اشتغل هؤلاء بهذه المدائح. إذاً: يمكن أن يكون المراد من الحديث النهي عن مدحه صلى الله عليه وسلم مطلقاً من باب سد الذريعة، واكتفاء باصطفاء الله تعالى له نبياً ورسولاً وحبيباً وخليلاً، وبما أثنى سبحانه وتعالى عليه في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا؟! وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه؟! وإن أعظم مدح له صلى الله عليه وسلم أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، فهذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم. والصوفية يغضبون جداً إلا لم تقل: (سيدنا رسول الله)، ويعتقدون أنك مقصر، والمفروض عندهم أن تقول: سيدنا محمد! فنقول: هل قول القائل: (سيدنا محمد) مثل قوله: (محمد رسول الله أو نبي الله؟ فـ (سيد) تطلق على أناس من البشر، لكن رسول الله لا تطلق إلا على من اصطفاه الله لذلك؛ لكن بعضهم يتشبث بها، ويرى أن من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولها حتى داخل الصلاة، ونسمع بعض العوام في الصلاة يقول: اللهم صل على سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم إلى آخره، فنقول لهذا: هل ينفع أن تقرأ القرآن وتقول مثلاً: (وآمنوا بما نزل على سيدنا محمد)؟ الله يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، فهل يجعلها: (وما سيدنا محمد إلا رسول)؟ بلا شك الرسول صلى الله عليه وسلم له هذه السيادة على البشر أجمعين؛ لأنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) لا شك في ذلك، فنحن لا نتشدد كثيراً في ذلك، لكن الأذكار المأثورة ينبغي أن نحافظ عليها، ولكنهم يعتبرون التنازل عن هذا تنازل عن تشريف كبير جداً للرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما التشريف للرسول عليه الصلاة والسلام أن تمدحه بالرسالة فتقول: (رسول الله) عليه الصلاة والسلام، و (نبي الله)، فأعظم مدح للرسول عليه السلام أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، هذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم، وليس فيها إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى وهو في أعلى درجات وأرفع تكريم من الله تعالى له بصفة العبودية، فقال في المعراج والإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] وأيضاً قال ذلك في مقام التحدي ومقام الدعوة كما سبق ذكره. ويمكن أن يكون المراد من الحديث: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، وعلى هذا يفتح الباب في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا تبالغوا في مدحي فتصفوني بأكثر مما أستحقه من بعض خصائص الله تبارك وتعالى، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، وهو أن هذا نهي عن مطلق المدح الخارج عما مدحه الله سبحانه وتعالى، بدليل تمام الحديث: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، يعني: اكتفوا بما وصفني به الله عز وجل من جعلي عبداً له ورسولاً صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام الترمذي ذكر هذا الحديث تحت ترجمة باب: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق، وهذا هو الذي ينسجم مع معنى التواضع، وعن أنس قال: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم) رواه مسلم، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآخر: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)؛ لأنه بلا شك حتى في هذه الجزئيات قد قطع الوحي، وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء على الإطلاق، وأنه خير الأنبياء وسيد ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

الفتح [8 - 10]

تفسير سورة الفتح [8 - 10]

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله) قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8]. قوله تبارك وتعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) التبشير: هو الإخبار بما يظهر أثره على البشرة، والبشرة هي ظاهر الجلد؛ لأنها تتغير بأول خبر يرد عليها، والغالب أنه يستعمل في السرور مقيداً للخير المبشر به، وغير مقيد أيضاً، ولا يستعمل في الغم والشر إلا مقيداً منصوصاً على الشر المبشر به، ففي الخير إما أن يأتي مقيداً وإما أن يأتي بدون قيد، لكن التبشير بالغم والشر لا يأتي إلا مقيداً بالشر المنصوص عليه، كما قال سبحانه وتعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21] َ. يقال: بشرته، وبشرته بشارة، وبشر يبشر إذا فرح. والبَشارة بفتح الباء، والبُشرى: ما يعطاه المبشر، وتباشير الشيء أوله، قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، والبشارة هي: الخبر بما يسر، وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء كما ذكرنا قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7]، ومنه قول الشاعر: وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر وقال الآخر: يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير إذاً: البِشارة، أو البَشارة قد تطلق على الإخبار بما يسوء، وهذا الأسلوب من أساليب اللغة العربية. قوله: ((وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) الإنذار: هو الإبلاغ والإعلان، ولا يكاد يستعمل إلا في تخويف يتسع زمانه للاحتراز والاحتياط عن هذا الشيء الذي يأتيك الإنذار به، فإن لم يتسع زمنه للاحتراز كان إشعاراً ولم يكن إنذاراً، قال الشاعر: أنذرت عمراً وهو في مهل قبل الصباح فقد عصى أمر ويقال: تناذر بنو فلان هذا الأمر، إذا خوف بعضهم بعضاً. قال الله تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، يعني: بعد هذا الإنذار، ولم يبين هنا هذه الحجة التي كادت تكون للناس عليه، وبين هذه الحجة في قوله سبحانه وتعالى في سورة طه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، وقال أيضاً في سورة القصص: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]، وقال عز وجل: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2]. فالمقصود: أن من وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار، وقوله في هذه الآية: ((لِتُنذِرَ بِهِ))، هذا الفعل يتعدى إلى مفعولين اثنين، وإن كان المفعولان لم يذكرا، والتقدير: لتنذر به الكافرين عذاباً أليماً. وهذا الإنذار بينه الله في قوله عز وجل: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وقال أيضاً: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس:6]، وهذا بيان للمفعول الأول المحذوف. أما المفعول الثاني فبينه قوله تعالى: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2] وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14] وقوله: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ:40]، ونحوها من الآيات. وقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى فقال: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2] فيفهم من هذا أن الإنذار هنا للكفار: ((لِتُنذِرَ بِهِ)) يعني: الكفار، فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وهنا في آية الفتح قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8]، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فهذا أيضاً يشير إلى قوله: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2]. وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]؛ لكن جاءت آيات فيها قصر الإنذار على المؤمنين والكافرين، وهذا لا يتنافى مع ما ذكرناه، يعني: إن كانت الآيات السابقة استعملت لفظ الذكرى أو التذكير في حق المؤمنين والإنذار للكافرين؛ لكن لا ينافي أن يكون الإنذار للكفار والذكرى للمؤمنين أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم، في آيات أخرى كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11]؛ لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم صار الإنذار كأنه مقصور عليهم؛ لأن ما لا نفع فيه كالعدم، يعني: الكافر إذا أنذر ولم ينتفع بالإنذار فكأنه لم ينذر. إذاً: خلاصة الكلام أن الإنذار يطلق في القرآن على إطلاقين: الأول: إنذار عام لجميع الناس، كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، وقال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، للعالمين مؤمنين وكافرين، فهذا الإنذار العام هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله: ((إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ))؛ لأن المؤمنين هم المنتفعون بهذا الإنذار دون غيرهم. الثاني: إنذار خاص بالكافرين؛ لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين، كقوله تعالى: ((لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا))، وقال في آية الأعراف: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:2]، والإنذار في لغة العرب: الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.

تفسير قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه)

تفسير قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9]، بعض القراء قرأ: (ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقره ويسبحوه بكرة وأصيلاً). قال الألوسي رحمه الله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، كقوله سبحانه: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، كذلك هذه الآية الخطاب بدأ بالنبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) فالخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، ثم دخل فيه المؤمنون بقوله: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) إلى آخره، تماماً كقوله عز وجل: ((يا أيها النَّبِيُّ))، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، فهذا من باب التغليب، غلب فيه المخاطب على الغيب، ونظيره قوله سبحانه وتعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]، ثم قال: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} [الإنسان:22]، وقال عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22]. إذاً: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، والمعنى: له وللمؤمنين، قال القرطبي: وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: ((يا أيها النَّبِيُّ))، فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له، قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فاللفظ والمعنى هنا يقصد به النبي وحده، فلذلك ينص على لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام، أما إذا أراد الخطاب بالمؤمنين قال: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى آخره. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بلا شك بالإيمان بالرسالة كقوله تعالى: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)) يعني: يا أيها النبي! أو يا أيها الرسول! ((شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا)) (لِتُؤْمِنُوا) أي: أنت -أيها النبي- مكلف بهذا الإيمان، وكذلك المؤمنون مكلفون به، فهو مخاطب بالإيمان بالرسالة كالأمة. وقيل: الخطاب في (أَرْسَلْنَاكَ) للنبي عليه الصلاة والسلام، وفي (لِتُؤْمِنُوا) لأمته صلى الله عليه وآله وسلم.

معنى التعزير في قوله: (وتعزروه)

معنى التعزير في قوله: (وتعزروه) قوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) التعزير هو: النصرة مع التعظيم، قال تبارك وتعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة:12]. والتعزير: ضرب دون الحد، وذلك يرجع إلى الأول فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة ما، لكن الأول نصره بقمع ما يضره عنه، والثاني: نصره بقمعه عما يبغضه، والتأديب الذي هو النصرة مع التعظيم هو المطلوب في حق النبي وكل الأنبياء، فهي نصره بقمع ما يضره عنه، أما التعزير الذي هو دون الحد فهو: نصره بقمعه عما يضره من المعاصي التي يرتكبها وسيعزر من أجلها، فمن قمعته عما يضره فقد نصرته، وفي الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم)، فهذه نصرة المؤمن. قال ابن كثير: (وَتُعَزِّرُوهُ)، قال ابن عباس وغير واحد: تعظموه. وقال القرطبي: (وَتُعَزِّرُوهُ) أي: تعظموه وتفخموه. والتعزير: التعظيم والتوقير، وقال قتادة: تنصروه وتمنعوه ومنه التعزير في الحد؛ لأنه مانع. قال القطامي: ألا بترت ميٌ بغير سفاهة تعاتب والمولود ينفعه العذر وقال ابن عباس وعكرمة: (وَتُعَزِّرُوهُ) تقاتلون معه بالسيف، وقال بعض أهل اللغة: تطيعوه، وقال الألوسي: وتعزروه أي: تنصروه، كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعاً، وأخرجه جماعة عن قتادة. والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ)، إما أن المقصود تعزروا الله سبحانه وتعالى، أو تعزروا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تنصروه مع تعظيمه، وهذا هو الأقرب.

معنى التوقير في قوله: (وتوقروه)

معنى التوقير في قوله: (وتوقروه) قوله تعالى: (وَتُوَقِّرُوهُ)، هذا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فلا جدال أنها في حق الله سبحانه وتعالى. والوقار: هو السكون والحلم، قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، الرجاء هنا بمعنى: الخوف، أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أخذكم للعقوبة؟ وعن مجاهد والضحاك قالا: ما لكم لا تبالون لله عظمة؟ وقيل: الوقار، الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أي: اثبتن، ومعناه: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى، وأنه إلهكم لا إله لكم سواه؟! وقال ابن كثير: (ويوقروه) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام. وقال القرطبي: (وتوقروه) أي تتوجوه، وقيل: تعظموه، والتوقير التعظيم، ((وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ))، الهاء هنا عائدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهنا وقف تام، ثم تبتدئ: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: تسبحوا الله بكرة وأصيلاً أي: عشياً. قول آخر: إن الضمائر كلها لله تبارك وتعالى، فيكون معنى: ((وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)) أي: تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك، واختار هذا القول القشيري. وبعض المفسرين قال: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) يعني: تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية. وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في (تعزروه) للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى، كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ) لله عز وجل. فعلى أي الأحوال هناك خلاف بين المفسرين في هذه الضمائر إلى من تعود، وفي هذين الفعلين بالذات: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) فمن قائل: إنها للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن قائل: إنها لله عز وجل.

معنى التسبيح في قوله: (وتسبحوه)

معنى التسبيح في قوله: (وتسبحوه) قوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) السبح: هو المرور السريع في الماء، يقال: سبح سبحاً وسباحة، وأطلق على مر النجوم في الفلك، نحو قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، وأطلق أيضاً على جري الفرس، فجري الفرس يطلق عليه سباحة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات:3]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7]. والتسبيح: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وأصله: المر السريع في عبادة الله تعالى، وجعل ذلك في فعل الخير، كما جعل الإبعاد في الشر، فقيل: أبعده الله، وجعل التسبيح عاماً في العبادات قولاً كان أو فعلاً أو نية، قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143]، والمقصود بالتسبيح هنا: الصلاة، يعني: أنه كان من المصلين، ويستعمل التسبيح بمعنى التنفل، فقد روى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعلكم ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها، فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها الذي تعرفون، ثم صلوا معهم واجعلوها سبحة)، وهذا حديث صحيح. (فصلوا معهم) يعني: صلوا الفرائض أولاً لوقتها، ثم إذا خرج هؤلاء الأمراء الذين يؤخرون الصلاة فصلوها معهم سبحة يعني: انووا بها النافلة، فصلاة النافلة يطلق عليها تسبيح، وكما في حديث رواه مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه في الحج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً)، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) والحديث رواه مسلم عن حفص بن عاصم قال: (صحبت ابن عمر رضي الله عنهما في طريق مكة فصلى بنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله، وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى - أي: نحو جهة المكان الذي صلى فيه- فرأى ناساً قياماً صلوا معه، فقال: ما يصنع هؤلاء؟! قلت: يسبحون، قال: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) أي: لو أني كنت أزيد فسأزيد في الفريضة، فهو أفضل، ثم قال: (يا ابن أخي! إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]). إذاً: الأقرب -والله تعالى أعلم- أن المسافر يصلي الفريضة فقط، وله أنه يصلي ركعتي الفجر والوتر، ويمكن أن يصلي صلاة الضحى إلى ثمان ركعات. ومن الأجوبة الحسنة للعلامة ابن عثيمين حفظه الله تعالى أنه أتاه في من -وكنت في هذا المجلس- رجل كأنه بدوي ثائراً هائجاً مائجاً يصيح ويهاجم الإخوة، فأخذ الشيخ يتلطف معه وقال له: ما لك؟ أو ما الذي أغضبك؟ فقال: تنفلت في السفر وإذا بهم ينهونني عن الصلاة وعن التنفل؟! فقال له: من قال لك: لا تتنفل؟ لك أن تصلي الوتر من ركعة إلى إحدى عشرة ركعة، فالوتر أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة، كلها تكون وتراً، وقال له: لك أن تصلي الضحى من ركعتين إلى ثمان، وتصلي ركعتي الفجر. والحقيقة أن الشيخ ما خالف المذهب الراجح، وهو أنه لا يتنفل في السفر إلا ما ذكرنا؛ لكنه أقنعه بالعدد الكبير الذي هو أقصى ما يمكن أن يتنفل به، وهذا الجواب من محاسن الأجوبة. وروى مسلم أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح على الراحلة -يسبح يعني: يتنفل- قبل أي وجه توجه، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة)، فيمكن للإنسان في السفر أن يتنفل وهو راكب الراحلة، سواء كانت جملاً أو سيارة أو طائرة أو قطاراً، فيمكن أن يتنفل، إذ الأمر في النافلة أسهل من الفريضة. إذاً: قلنا: السبح في اللغة: المر السريع في الماء، مثل السباحة، ويطلق على مر النجوم في السماء، كما قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، ويطلق على جري الفرس: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات:3]، ويطلق على سرعة الذهاب في العمل: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7]، ويطلق على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، ويكون في هذه الحالة كأنه المر السريع أيضاً في عبادة الله تعالى، المر السريع يفهم منه: المسارعة إلى الطاعات والمنافسة فيها، والاجتهاد فيها، وليس المقصود بالمر السريع أن يدرك الصلاة بسرعة ويصلي صلاة ليس فيها خشوع، لا، المقصود: الإسراع إلى عبادة الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]. وقلنا: إنه يطلق على العبادات قولاً أو فعلاً أو نية: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143] يعني: المصلين، وأشرنا على أنها تطلق على النوافل كذلك. ويقول تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44]، ولا شك أن هذا -والله تعالى أعلم- تسبيح على الحقيقة، من غير أن نفقهه، خلافاً لمن زعم أن التسبيح يراد به أن من رآه قال: سبحان الله، لا، بل هو تسبيح على الحقيقة؛ لكننا لا نفهم هذا التسبيح، ودليله قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]، فلو كان معنى (التسبيح) أنه من رآها قال: سبحان من خلقك مثلاً؛ لما كان بالعشي والإشراق، لكن المعنى أن الجبال كانت تحافظ مع داود على أذكار الصباح والمساء ((بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)) وكانت تنطق وترفع صوتها بذكر الله سبحانه وتعالى، فهذه آية من آيات الله عز وجل لداود عليه السلام. وقال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44]، و (سبحان) مصدر، مثل غفران، قال الله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17]، وقالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32]. قال القرطبي: في قوله تعالى: (وتسبحوه) وجهان: أحدهما: تسبيحه بالتنزيه له سبحانه من كل قبيح، فمعنى قوله: (سبحان الله) يعني: أنزه الله عن كل قبيح، وأنفي عنه كل نقص، وكثيراً ما يقترن التسبيح بالتحميد؛ لأنه إذا كان التسبيح تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل نقص، فإن الحمد هو إثبات كل كمال له، فهو المستحق للمدح والثناء جل جلاله؛ فلذلك كثيراً ما يقترن التسبيح بالحمد كقولك: سبحان الله وبحمده. الوجه الثاني في قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ) هو فعل الصلاة التي فيها تسبيح، (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، قال الشاعر: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأجلس في أفيائه للأصائل جمع أصيل. وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42] أي: أشغلوا ألسنتكم في معظم أحوالكم بالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير. قال مجاهد: وهذه كلمات يقولهن الطاهر والمحدث والجنب، كل هؤلاء يجوز لهم أن يسبحوا الله سبحانه وتعالى، ويذكروه بهذه الأذكار: لا إله إلا الله، الحمد لله، والله أكبر، سبحان الله وهكذا. وقيل: (وسبحوه) يعني: ادعوه، قال جرير: فلا تنس تسبيح الضحى إن يوسفاً دعا ربه فاختاره حين سبحا يعني: حين دعاه. وقيل المراد: صلوا لله بكرة وأصيلاً، والصلاة: تسمى تسبيحاً، (وَالآصَالِ) العشايا كما ذكرنا، قال تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]، والآصال: هي العشيات. قوله: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي: غدوة وعشياً، والمراد: ظاهرهما، يعني: الأمر بالتسبيح في هذين الوقتين بالذات لما لهما من الفضيلة؛ لأنهما أشرف أوقات الذكر في النهار كله، وقت الغدو والعشي. قول آخر: المراد بقوله تعالى: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) جميع النهار؛ لأنه يكنى عن جميع الشيء بطرفيه، كما تقول: جزت المدينة شرقاً وغرباً، لا تقصد أنك فقط أتيت إلى الطرف الشرقي والطرف الغربي؛ لكن أردت أن تقول كلها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)) صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر. وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، فالأمر بذكر الله سبحانه وتعالى بين كيفيته في آيات أخر، كما في قوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمر

العبادة التي أمر الله بها في كل الأوقات

العبادة التي أمر الله بها في كل الأوقات كل عبادة ربطت بوقت، فالصلاة كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، حتى النافلة نمنع عنها في أوقات الكراهة، والحج له وقت، والصيام له وقت، حتى الصيام توجد أيام يحرم علينا أن نصومها، وهكذا كل عبادة لها وقت محدود، أما الذكر فهو العبادة الوحيدة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها في كل الأوقات والأحوال والأحيان قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء:103]، فمعناها: فاذكروا الله في كل أحوالكم؛ لأن الإنسان إما قائم، وإما قاعد، وإما مضطجع، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تشمت بي عدواً حاسداً). فاذكر هذا يعم جميع أحوال الإنسان، وقد أمر الله بالإكثار من الذكر بقدر المستطاع كما قال الله: ((اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا))، قال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] وهكذا. فالذكر والفكر ينبغي أن يكونا في جميع الأوقات أو أكثرها؛ لأن النفس إذا تركت إلى طبعها فإنها بطبعها مائلة إلى ملاذ الدنيا، فإن صرف العبد شطر أوقاته في تدبير الدنيا وشهواتها المباحة مثلاً، والشطر الآخر إلى العبادات، فإن الطبع يرجح جانب الميل إلى الدنيا؛ لأن هذا يوافق الطبع والهوى، فإذا كان الوقت متساوياً، للدنيا نصف الوقت، وللدين أو ذكر الله النصف الآخر، فيأتي الهوى ويرجح خدمة الدنيا، فإذا كان الوقت متساوياً فأنى يتقاومان والطبع يرجح أحدهما؟! إذ الظاهر والباطن يتساعدان على أمور الدنيا، ويصفو في طلبها القلب ويتجرد، فهذه كلها ترجح جانب الميل، ونحن قلنا: إن الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر، فالنصف الذي للدنيا هو الذي سيغلب؛ لأن الطبع يميل للدنيا، وظاهر الإنسان وباطنه يتعاونان معاً في تحصيل أمور الدنيا، والقلب إذا طلب أمور الدنيا يصفو بطلبها ويتجرد لها، أما رد النفس إلى العبادات والذكر فلا يكون إلا بتكلف ومجاهدة، ولا يسلم إخلاص القلب فيه وحضوره إلا في بعض الأوقات، حتى الصلاة نفسها التي هي من النصف الآخر الديني، فكم من الناس من يدخل في الصلاة الدنيا، ويسبح في أودية الدنيا داخل الصلاة! حتى إن بعض الناس -وهذا من تلبيس إبليس- تتراكم عليه كل مشاكل الدنيا إذا دخل في الصلاة، من بداية تكبيرة الإحرام ولا تنتهي إلا مع التسليم، فهذا مما يدل على أن هذه وظيفة متخصصة للشيطان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يوجد شيطان متخصص للوسوسة في الصلاة، فإذا دخلت في الصلاة يظل يذكرك بكل شيء نسيته، حتى تنصرف عن التفكر والتدبر في ذكر الله سبحانه وتعالى، والخشوع في الصلاة، فهذا واضح جداً أن هذا من الشيطان؛ أولاً: لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام. ثانياً: لأنه مجرد ما تسلم تنتهي المشاكل كلها، فلماذا الوسوسة في الصلاة بالذات؟! إذاً: هذا من كيد الشيطان للإنسان، فحتى العبادات لا تخلو من الوسوسة. بالمناسبة أذكر أحد الإخوة من الأطباء الكبار في الأمراض النفسية يعمل في المدينة، فكان يتكلم على أن من ضمن أساليب العلاج الخاص بالناس الذين يعانون الوسوسة: أن يربط كل ركعة بشيء معين، فمثلاً نقول له: الركعة الأولى تربطها بحاجة، الركعة الثانية تربطها بشيء، بحيث تذكر الجلسة فلا تسهو في الصلاة، فالمهم يقول: كنت في أحد المساجد في المدينة النبوية الطيبة، فالناس صلوا العشاء أو غيرها من الصلوات الرباعية فاختلفوا مع الإمام، هل صلى أربعاً أو صلى خمساً، بعدما انصرفوا من الصلاة اختلفوا، فأحد المصلين حلف أنهم صلوا أربعاً، قالوا له: كيف عرفت؟ قال: لأن عندي أربعة دكاكين، وأراجع حساب كل دكان في ركعة، فأنا راجعت حساب الدكاكين الأربعة في الصلاة! فهو مخصص كل ركعة في محل من أجل أن يراجع الحسابات، والله المستعان! فالشاهد: أن الإنسان عندما يطلب الدنيا قلبه يصفو لها تماماً، وعندما يطلب الآخرة تعتدي الدنيا عليه حتى في الوقت المخصص للآخرة، هذا إذا سلمت من الآفات كالرياء والبدعة وغير ذلك من الشوارد، فإذا قسمنا الوقت نصف للدنيا ونصف للذكر فإنه سيتغلب جانب الدنيا؛ لأن الهوى والطبع وشح الأنفس يجلب الإنسان دائماً إلى الدنيا، فالكفة ستأتي من ناحية الدنيا. أما العبادات فالإنسان لا يستقيم عليها إلا بتكلف ومجاهدة، وحتى إخلاص القلب لا يسلم إلا في بعض الأوقات دون البعض، فمن أراد أن يدخل الجنة بغير حساب فليستغرق أوقاته في طاعة الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته، فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته. نحن لا نقول: يضيع واجباته الدنيوية؛ لكن نقول: الذكر عبادة يمكن أن تستصحب في كل الأحوال، وفي الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) أي: في كل الأحوال، فالمؤمن يذكر الله حتى وهو يشتغل شغلاً ميكانيكياً بآلة أو بيده، فما أسهل أن يشتغل لسانه بذكر الله، حتى إن عجز عن لسانه كما يكون مثلاً في حالة الخلاء فإنه يشتغل بالذكر بقلبه، كان جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إذا دخل الخلاء جعل الكتاب في يد أحد أبنائه، ويقول له: قف عند الباب واقرأ بصوت عال، حتى يغتنم الوقت الذي يقضيه في الخلاء في الاستفادة، فهو يمتنع من القراءة؛ لكن حفيده يقف عند الباب ويقرأ عليه بصوت عال! إذاً: لا بد أن يترجح وقت الذكر على أوقات الدنيا، حتى الإنسان إن كان مشتغلاً في الدنيا فهو يستطيع أن يشغل لسانه دائماً بذكر الله سبحانه وتعالى، وهو يمشي في الطريق، وهو يركب المواصلات؛ حتى يترجح جانب الدين على الدنيا. والدنيا هي سعي في طلب الرزق، والرزق مضمون؛ لكن الآخرة غير مضمونة، الجنة غير مضمونة، أما الزرق فالله سبحانه وتعالى قال فيه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه، لأدركه رزقه كما يدركه أجله) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فالرزق مضمون تماماً، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وقال: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها). فالرزق مكتوب ومضمون، ولا يمكن أبداً أن ينقص رزقك شيئاً، فنحن نشتغل بالمضمون عن غير المضمون، فالله قال في الآخرة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41]، فنحن نجتهد بما هو مضمون عما ليس بمضمون، فمن أراد أن تترجح كفة حسناته، وتثقل موازين خيراته؛ فليستوعب في طاعة الله أكثر أوقاته، فإن لم تكن من أهل البصيرة فانظر إلى خطاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، واقتبسه بنور الإيمان، فقد قال تعالى لأقرب عباده إليه، وأرفعهم درجة لديه: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:7 - 8]، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26]. وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39 - 40]. وقال عز وجل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49]. وقال تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]. وقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. ثم انظر كيف وصف الله سبحانه وتعالى الفائزين من عباده، وبماذا وصفهم؟! قال عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]. وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، وقال عز وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. وقال سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] يعني: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون. وقال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]. إذاً: الطريق إلى الله سبحانه وتعالى هو مراقبة الأوقات، وعمارتها بالأوراد على سبيل الدوام، فالذكر المقصود منه تغيير الصفات وترقيق القلب، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل)، وهذا التأثير لا يتأتى بأن يأتي الإنسان بذكر ثم ينقطع، ولا يحدث تأثيراً في القلب إلا بالمدوامة ولو بالقليل؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى أدومه وإن قل)، فالذكر القليل مع الدوام يؤثر، وعند الان

من فضائل الذكر

من فضائل الذكر القلب لا يحصل التأثير فيه إلا بالمداومة على الذكر، فعمل قليل تداوم عليه أفضل من عمل كثير لا تداوم عليه؛ لأن هذا هو الذي يعالج أمراض القلوب، وقد ثبت للتسبيح فضائل جمة، منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) فهذا يدل على أنه يستحب أن تقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحان الله العظيم وبحمده- في الرواية الأخرى- مائة مرة، في أذكار الصباح وأذكار المساء. ويستحب أنك تزيد على المائة مرة، فالزيادة هنا مرغب فيها، بدليل قوله: (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه). وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، ولا شك أن هذا فضل عظيم جداً، لكننا لانهماكنا في الدنيا نغفل عن هذه الفضائل العظيمة التي سوف ننفصل عنها بالموت، ولو أن رجلاً بشر بقصر في الدنيا، أو شقة أو حتى غرفة، كم تكون سعادته وحرصه على ذلك! لكن انظر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة)، فكم نغفل عن هذا! لا شك أن السكوت فقط هو نوع من الخسران؛ لأنه لا يوجد فيه طاعة؛ ولذلك الخسارة عند التاجر درجات، فلو أنه اتجر في المال وربح مثلاً 30% فهذا مكسب؛ لكن لو كان ينفق 50% فإنه يعتبر خسر 20%، ولو أنه قصر وبسبب تقصيره وصل الربح مثلاً إلى 20% فهذه يعتبرها خسارة مع أنه ربح، وأعمال الخير نفسها تتفاضل، فالإنسان المفروض أنه لا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وينظر دائماً إلى الأعلى ثواباً. وهناك أشياء ثوابها عظيم جداً، والجهد الذي يبذل فيها قليل جداً، ومنها: ترك السلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (وأبخل الناس من بخل بالسلام)، فالسلام فيه الثواب العظيم، لكنه ثقيل على بعض الناس، فهذا بخيل جداً على نفسه بالسلام، وعلى إخوانه بالإحسان إليهم بالسلام. كذلك العاجز الذي يعجز عن الدعاء، مهما كانت مطالبك وطموحاتك فإنك تحصل عليها بالدعاء، المهم أن يكون في الدعاء صدق وإخلاص لله عز وجل. الإنسان رأس ماله هو الوقت، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]. (وَالْعَصْرِ) هذا قسم بالعصر الذي هو الدهر أو الزمن أو الوقت، يحلف الله به لأنه من آياته العظمى، فالدهر لا يذم لذاته أبداً؛ لأن الدهر والزمن مجرد ظرف، فمن الناس من يستثمره بالأعمال الصالحة، ومنهم من يكون بعكس ذلك، فالعصر أو الدهر أو الزمن ليس له ذنب إنما هو ظرف لأفعال العباد، كما يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا فأقسم الله بالعصر ليلفت نظر الناس إلى شرف الزمن والوقت. قوله: (إِنَّ الإِنسَانَ) يعني: كل الإنسان، (لَفِي خُسْرٍ)، ثم استثنى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). قال بعض السلف: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج، لم يكن في الزمن الماضي ثلاجات يوضع فيها الثلج، لكن كانت تصنع قوالب للثلج، فالناس في يوم من الأيام لم يشتروا منه الثلج، وهذا الثلج إذا لم يبعه سينصهر ويصير ماء كأي ماء، فقارب وقت العصر بعدما انفض السوق أو كاد وما أحد اشترى منه، فظل يجول في الطرقات وهو يحمل الثلج ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله! يعني: اشتروا مني الثلج قبل أن يذوب، فهذا رأس مالي، وهذه أعظم الخسارة، فالخسارة في المال هي خسارة الربح، فلو أن تاجراً باع بالجهد العظيم الذي بذله في التجارة، وعاد إليه فقط رأس المال، فهذا نوع من الخسارة؛ لأنه كان يمكن أن يكسب ربحاً؛ لكن هذا لا له ولا عليه، لأنه بتعبير آخر: خسر جهده. فلو أن شخصاً خسر فوصلت خسارته إلى رأس المال، فهذه خسارة، وأعظم منها: شخص خسر كل رأس ماله، فرأس مال الإنسان هو الوقت والزمن والعمر، فهذا هو رأس المال. فهذا الوقت يمر ويجري، فهو دوماً في نقصان؛ لأن كل لحظة لا يمكن أن تسترجعها ولو فعلت ما فعلت لا تستطيع أن تعيد مثلاً ساعة من الآن، هل تستطيع أن تأتي بالشمس من جديد وتعيد اليوم الذي مضى؟! لا يمكن أن يعود أبداً مستحيل! كذلك العمر يمضي، فأنت عمرك يمضي، والساعة تمر. دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان فالدقات هي عبارة عن إنذار ينذرك: احترز وانتبه واستكمل هذا الوقت، وقد عبر العلامة الشيخ محمد القاضي حسين رحمه الله تعالى عن هذا المعنى في بيتين من الشعر، حينما أتاه صبي صغير بالساعة القديمة (البندول)، وهي غير الساعة الرقمية، فلما أعطاه إياها، قال له: ما فيها؟ وصوت البندول معروف، فأنشد شيئاً من الشعر قال: وغلام قرب الساعة من أذنيه يسمع منها الصرخات قال ما بداخلها قلت كوزة تقرض أيام حياتي العالم الذي قال: تعلمت تفسير هذه السورة من بائع ثلج، كان يحمل الثلج على كتفه ويجري في الأسواق والشوارع ويقول: ارحموا من يذوب رأسه ماله، فكم تكون الشفقة على شخص كل رأس ماله هو هذا الثلج، وإذا ذاب الثلج ذهب كل رأس ماله وتبخر؟! فيريد هذا العالم أن يقول: إن السورة تشير إلى أن رأس مال الإنسان هو الوقت، والوقت دوماً في نقصان مثل الثلج الذي ينصهر رويداً رويداً. فالوقت في نقصان وذهاب، فحتى تجبر هذا النقصان لا بد أن تستدرك بأن تستثمر الوقت في طاعة الله سبحانه وتعالى، فما بالك بمن يستثمره في المباح؟! ثم ما بالك بمن يستثمره في المعاصي؟! فلا شك أنه يكون حاله أو خسارته أعظم! والذكر من الأمور السهلة جداً جداً على الإنسان، وإذا أراد الله له به الخير يسره عليه، فالذكر يحتاج أولاً إلى المجاهدة، ثم بعد ذلك يحاول أن يغلب عليه ذكر الله سبحانه وتعالى، فكم يندم الإنسان بعد ذلك إذا مات ولم يستثمر هذه الأوقات، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فإن قالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه، وإن قالها في مجلس لغو كانت كفارة له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] خبر (إن) قوله تعالى: ((إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)). قال الألوسي: إن الذين يبايعونك يوم الحديبية على الموت في نصرتك، كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره، أو على ألا يفروا من قريش، كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله عنه، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}، والمبايعة مفاعلة من البيع يقال: بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له لما ربط له، وكثيراً ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم، وإن لم يكن ربط. (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ) يعني: يبذلون لك ما بذلوه من التضحيات بالغالي والنفيس في سبيل نصرتك، مقابل أن الله سبحانه وتعالى يشتري منهم أنفسهم بأن لهم الجنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، هذه هي المبايعة، وهذا هو العقد: (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ)، وقد يأتي ملحد إلى هذه الآية ويستنبط منها أن هذا معناه حلول الله في شخص الرسول عليه الصلاة والسلام والعياذ بالله! فهذا كفر مبين؛ لكن المقصود من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أن بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الرسول وطاعة الله عز وجل وامتثال أوامره؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ومن بايع الرسول فقد بايع الله؛ لأن المقصود هو التقرب إلى الله بهذه المبايعة، فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه وتعالى، وهذا يطلق عليه علماء البلاغة: المشاكلة، فتشابه لفظة المبايعة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} مشاكلة، والمشاكلة: هي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً. قولهم: تحقيقاً كما في قوله سبحانه وتعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وكقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54]، وقوله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] واستدلال البلاغيين بقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] فيه نظر؛ لأننا نثبت صفة النفس لله سبحانه وتعالى كسائر الصفات، وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] هذه مشاكلة؛ لأن معاقبة الظالم حسنة، وهي عدل من الله سبحانه وتعالى، فقوله: ((وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ)) يعني: من أساء إليك فقابله وجازيه بالمثل، وهذا عدل، لكن أطلق عليها لفظ سيئة لأجل المشاكلة، وذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته؛ لأنه مجرد المجاورة والصحبة جعل أطلق على الاثنين سيئة، فهذه هي المشاكلة، لكن في الحقيقة هي ليست سيئة، بل هي عدل ومجازاة بالمثل. ومثل ذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]، هل مقابلة العدوان يسمى عدواناً؟ لا، إنما أطلق عليه لفظ العدوان للمشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً. ومثل ذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، قال تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] وهكذا. وقولهم: تقديراً مثاله: {صِبْغَةَ اللَّهِ}، يعني: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النفوس، والأصل فيه: أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إنه تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة، والكلام في إبطال ما هم عليه من الصبغة، ويظنون أنه يطهر هؤلاء الأولاد، فكانوا يفعلون ذلك بالطفل مكان الختان؛ لأن الختان تطهير، فرد الله عليهم بقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة:138]، فسمى الدين صبغة من حيث أنه تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. قال بعض شعراء ملوك همدان: وكل أناس لهم صبغة وصبغة همدان خير الصبغ صبغنا على ذاك أبناءنا فأكرم بصبغتنا في الصبغ وقيل: إن قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ}، بدل من قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135]، فصبغة بدل من ملة. وقيل: (صِبْغَةَ اللَّهِ) المقصود به: غسل الإسلام للمشرك أو الكافر الذي يدخل في الإسلام، (صبغة الله) يعني: هذا الغسل الذي يغتسل به، ويودع به أدران الجاهلية والكفر السابق. إذاً: بعض المفسرين قالوا: إن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، من المشاكلة وهي: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً، فهناك مجرد ذكر البيعة في حق الرسول عليه الصلاة والسلام، فأيضاً جاءت البيعة لله سبحانه وتعالى بنفس هذا السياق.

تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)

تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) يقول ابن كثير: ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفاً له وتعظيماً وتكريماً: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] أي: هو حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم كقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111]. قوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى) من الذي اشترى؟ الله؛ لكن بواسطة رسوله عليه الصلاة والسلام في هذه المبايعة أو في أمثالها؛ لأن من بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنما بايع الله سبحانه وتعالى، ثم استدل ابن كثير بحديث نصه: (من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله)؛ لكن هذا الحديث ضعيف. أيضاً: ذكر ابن كثير حديثاً آخر فيه هذه المناسبة، وهو حديث: (إن الحجر الأسود يمين الله في الأرض، من استلمه فقد صافح الله عز وجل)، وهذا الحديث ضعيف، قال ابن الجوزي: لا يصح، وقال ابن العربي: هذا حديث باطل لا يلتفت إليه، ونحوه حديث: (الحجر يمين الله، فمن مسحه فقد بايع الله ألا يعصيه)، وهذا الحديث موضوع. وقد ثبت أنه لا يوجد شيء على وجه الأرض من الجنة غير الحجر الأسود، وهذا حديث صحيح: (إن هذا الحجر كان أبيض من الثلج، ثم سودته خطايا أهل الشرك)، كما صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً قوله: (إن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بخير). وبعض الناس ليس عندهم خبرة في التعامل مع كتب التفسير، بالذات التفسير السلفي الرائع تفسير القرآن العظيم لـ ابن كثير، فيقول: انظر ابن كثير أتى بأحاديث ضعيفة! فينبغي أن نترك هذا التفسير! هذه النغمة يرددها بعض الجهلة الظالمين بين وقت وآخر، نحن نلاحظ أن ابن كثير يسوق هذه الأحاديث مقرونة بالأسانيد، فمتى ما ساق العالم أو الإمام الحديث بإسناده فقد برئت عهدته منه؛ لأنه قرن الحديث بالوسيلة التي تعين قارئ الكتاب على الوصول إلى درجته من الصحة أو الضعف، وسبق أن تكلمنا بالتفصيل عن سبب تدوين العلماء لكتب الحديث دون تحقيق إلا من محض كتبه بالصحيح، لكن عامة المحدثين دونوها بأسانيدها لأسباب تكلمنا عليها بالتفصيل من قبل. إذاً: الذي ينزعج من هذا هو الجاهل أو القاصر الذي لا يعرف كيف يصل إلى درجة الحديث، لكن العالم لا يتهم ابن كثير بالتقصير لأنه أورد أحاديث ضعيفة. أمر آخر وهو أن ابن كثير بين في مقدمة تفسيره منهجه في التفسير، فهو يقول: أنا أسرد جميع ما أمكن وما جاء في تفسير الآية؛ لأبطل الباطل وأحق الحق، وبدأ منهجه على أساس المنهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الكهف، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22]، فحكى القولين الباطلين، وبين أن هذا عبارة عن رجم بالغيب، وادعاء بدون علم وبينة، وهذان القولان غير صحيحين، وفي هذا فائدة، وهي أن الإنسان يتعلم الأشياء الضعيفة حتى يتقيها، أما القول الصحيح في عددهم فهو الأخير، قال عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] ولم يبطل هذا القول الأخير، فبنى ابن كثير منهجه في التفسير على هذا، فهو يأتي بالأقوال التي رويت ووردت في تفسير الآية، ثم يبطل الباطل صراحة أو ضمناً، فصراحة: بأن يبين أن هذا موضوع أو ضعيف، أو ضمناً: بأن يأتي بالحديث بأسانيده ومعه الوسيلة التي توصل المحقق إلى درجة هذا الحديث، فما قصر رحمه الله تعالى. ملاحظة أخرى: نلاحظ أن ابن كثير في تفسير قوله تبارك وتعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قال: أي: هو حاضر معهم يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم. فبعض الناس يقول: إذاً ابن كثير مؤول؛ لأنه لم يثبت هنا صفة اليد! نقول: لا، حتى لو جدلاً قلنا: إن ابن كثير هنا أول هذه الآية بهذا المعنى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يعني: الله حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، فلا يعني هذا نسبة الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى إلى التأويل مطلقاً؛ لأن الإمام إذا أخذ أو فهم منه التأويل في موضع فننظر في أقواله في المواضع الأخرى، ومعروف أن ابن كثير سلفي قوي السلفية رحمه الله تعالى، فهو ما كان يحيد أبداً عن منهج السلف الصالح، وهو تلميذ من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وشعاع من نور ابن تيمية، ويكفي أنه كان قد أوصى أن يدفن مع شيخ الإسلام ابن تيمية ودفن معه، فهو شيخه وإمامه، وهو أحد الأشعة التي انطلقت من نور شيخ الإسلام، فكيف يكون تلميذاً لـ ابن تيمية ثم ينسب إليه التأويل؟! لكن بعض المواضع من حيث اللغة قد تحتمل بعض هذه التأويلات، كما في قصة بلقيس في سورة النمل، في قوله تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل:44]، فبعض المفسرين يقول: هذه عبارة عن نزول الشدة، فيؤولون بها قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] بأنه كناية عن الشدة، فربما يقع بعض المفسرين السلفيين في تأويل آية سورة القلم التي هي قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]؛ لأن له سنداً من اللغة وشواهد لغوية تدل على أن هذا التعبير يستعمل فعلاً في الشدة، لكن لا يعني ذلك أنه يؤول الحديث الذي أتى في تفسير هذه الآية من أحاديث الصفات، كذلك كلام ابن كثير هنا إن كان يفهم منه التأويل هنا، وإن لم يكن صريحاً في ذلك، لكن في المواضع الأخرى لا شك أن ابن كثير سلفي يثبت الصفات ولا يؤول.

الإنصاف في الرد على المخالف

الإنصاف في الرد على المخالف بعض الإخوة أتاني الليلة بكتاب كنا قد تكلمنا عنه بصورة عابرة في درس الوداع في مسجد البكري، واسمه: البحث عن الصواب في شرعية النقاب، وقد كنت رددت رداً سريعاً عابراً على الكتاب، ثم أتاني أحد الإخوة وقال: إنه يوزع بالمجان، وأنا كنت حريصاً على أن أعرف من مؤلف هذا الكتاب؟ وسألت أحد الإخوة: صف لي أين يصلي هذا المؤلف، فذكر لي بعض علاماته، وقال أخ آخر في المسجد: إن مؤلف الكتاب توفي رحمه الله منذ شهر، وبعدما انصرفت عن الإخوة قعدت أحاول أتذكر أنه قبل شهر جاء خبر وفاة رجل فاضل جداً اسمه الأستاذ: فهمي رحمه الله تعالى. فمكثت أتحرى وأتذكر، فكل القرائن كانت تدل على أنه هو، فكنت أتمنى ألا يكون هو، حتى اتصلت بأحد الإخوة القريبين جداً من الأستاذ فهمي، ففعلاً أخبرني أنه هو الذي توفي منذ شهر، وهو فعلاً مؤلف هذا الكتاب! فالحقيقة استصعبت جداً عليه أن يؤلف هذا الكتاب، خاصة أن النبرة حادة وشديدة في الكتاب، ومستوى الكتاب ضعيف جداً من الناحية العلمية، لكن في الحقيقة كما نصحت الإخوة من قبل مراراً: أن الإنسان قبل أن ينتقد أحداً ينبغي أن يعرف قدر هذا الشخص أولاً، فإذا كان الأصل فيه الخير والصلاح، ثم زل زلة فالإنسان لا يأتي يقيمه بالزلة هذه فقط، وعليه أن يزن الأمور، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث). ويقول الشاعر: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع وهذا الرجل أنا أعرفه منذ سنة (1978م)، وهو من الناس الذين من عرفهم أحبهم في الله تبارك وتعالى، وله ارتباط كامل بالدعوة منذ عهد بعيد من أيام نشاط الإخوان المسلمين، وقد كان عابداً ناسكاً، وكان في سنة 1970م يندر جداً أن يعتكف أحد في المسجد، لأن ظاهرة الاعتكاف انتشرت من آخر السبعينات، لكن أنا أعرفه منذ سنة سبعين إلى آخر عمره وهو لا يضيع الاعتكاف على الإطلاق، وأخبرني الأخ القريب منه أنه داوم عليه حتى آخر سنة، فطول عمره ما قصر في سنة الاعتكاف أبداً، وكان الأستاذ فهمي رحمه الله تعالى من أشد الناس محافظة على صلاة الجماعة، لا يكاد يعلم له نظير في ذلك، وكان يحافظ على صلاة الفجر والعشاء وجماعة مع شدة مرضه رحمه الله تعالى، وأخ يحكي لي أنه رآه قبل أن يموت وهو يمشي في الطريق يترنح من الإعياء والمرض الذي كان فيه، بل إنه أخبرني أن أهله أشاروا عليه -وقد نزل لصلاة المغرب- فقالوا له: أنت معذور، فصل في البيت؛ من شدة المرض الذي ألم به، فأبى أن يضيع صلاة الجماعة في المسجد مع شدة المرض، فنزل وصلى بالناس صلاة المغرب، ثم شرع في صلاة السنة البعدية للمغرب ففاضت روحه وهو ساجد رحمه الله تعالى! فهو في الحقيقة كان رجلاً عاقلاً حكيماً، وتكفي هذه العلامة من علامات حسن الخاتمة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبله في الصالحين. أما بالنسبة لكتابه فأعتقد أنها قد تكون زلة والله أعلم، وهو كان يريد الخير بلا شك، فهو إن شاء الله رجل من الصالحين وعابد وناسك، وأنا لا أعرف عنه زلة على الإطلاق إلا ما فوجئت به في هذا الكتيب، ولا يعني هذا أن أسكت عن الرد عليه؛ لكن أقول: الرد كله كامل موجود في كتاب تعرفونه جميعاً في مسألة النقاب، فهو رد كامل، والمشكلة: أن عامة من ينتقدون لا يقرءون الكتب التي ينتقدونها، والمفروض أن الإنسان قبل أن ينتقد كتاباً يقرؤه أولاً، فيعطي المؤلف حقه وقدره مع شيء من الرد إذا وجد خطأ، فإذا لم يقرأ الكتاب أولاً فهذا تقصير. وجميع الشبهات التي أوردها المؤلف رحمه الله الرد عليها موجود، فأنا أحيل الإخوة الذين ألحوا علي بالرد عليها، وأقول: إذا كنا سنرد على كل شيء فسنضيع الوقت في الردود، ولكننا نضطر للرد عندما يكون الأمر شائعاً كالذي حصل من مصطفى محمود، وكأنه -سامحه الله- لا يريد أن ينتهي، فهو ما بين الفترة والأخرى يورد مقالة تولد مقالة ثانية، والظاهر أنه يتشبث بـ الطهطاوي وبالشيخ محمد عبده، ولا أحد يكفر مصطفى محمود ولكنا اضطررنا للرد عليه، لأن مثل هذا لا يسكت عليه، ومستواه العلمي ضعيف جداً جداً. والحقيقة أن الكتاب المذكور فيه أشياء تصدم بها صدمة شديدة، ويعز علي أن أنتقد الأستاذ فهمي؛ لأنه أستاذي وقدوتي، ورجل أنا أعرف عنه كل خير، وقد صدمت لما عرفت أنه هو المؤلف وتأكدت من ذلك، ولكن هي زلة، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ويعفو عنه، وأحسبه كان يريد وجه الله سبحانه وتعالى؛ لأنه في عامة أعماله رجل صالح جداً، فلعله بذل جهده في هذه المسألة حسبما يستطيع، فالأمل في رحمة الله خاصة مع هذه القرينة الطيبة جداً، فإن شاء الله أن الله توفاه وهو تائب، ونتمنى أن يرزقنا الله سبحانه وتعالى هذه الخاتمة بالأعمال الصالحة. معظم الشبهات التي كتبها المؤلف مردود عليها، أما ما عدا ذلك من الكلام الشديد الصعب فالحقيقة أنا سأتجاوز عنه، ولن أرد عليه؛ لأنه أفضى إلى ما قدم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، فندعو الإخوة جميعاً إلى أن يجتهدوا في الدعاء أن يغفر الله سبحانه وتعالى له، ويرحمه ويجزيه خيراً على نيته، وإن شاء الله أن يكون قد أراد الخير، ونيته حسنة. أما من الناحية العملية فالرد موجود وسنكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته. ومن أراد أن يحسن إلى المؤلف فعليه أن يكف عن طباعة هذا الكتاب، فمن أراد بالفعل أن يحسن إلى الأستاذ فهمي رحمه الله تعالى فليكف عن طبع هذا الكتاب، وإلا فسنضطر إلى الرد عليه لو انتشر الكتاب وذاع بطريقة أكثر، فمن أراد أن يحسن إليه فليكف عن طباعة هذا الكتاب؛ لأنه ضعيف في الحقيقة من الناحية العلمية، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الأستاذ فهمي رحمه الله تعالى بواسع رحمته، وأن يتجاوز عنه، وأن يتقبله في الصالحين.

الفتح [10]

تفسير سورة الفتح [10]

فوائد وعبر من حديث صلح الحديبية

فوائد وعبر من حديث صلح الحديبية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فلما كان صلح الحديبية فتح الفتوح، وكان خطاً فاصلاً بين مرحلتين مصيريتين من مراحل الدعوة الإسلامية، كان لا بد لنا من هذه الوقفة مع قصة صلح الحديبية؛ لشدة ارتباطها بتفسير سورة الفتح. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الشروط: [باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين؛ فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت، فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه)].

أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالشورى

أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالشورى نشرح هذا الحديث في قصة الحديبية. قوله: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية). إما أن نقول: الحديبيَّة أو الحديْبِية: وهي بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت، وسمي المكان بها، وقال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم. وعند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الإثنين لهلال ذي القعدة، وفي بعض الروايات: (في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عيناً له من خزاعة). يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين). هذا الموضع اختصره الإمام البخاري وفي كتاب المغازي ذكره بشيء من التفصيل عن الزهري قال: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط -جمع شط- وهو جانب الوادي- أتاه عينه - يعني: الجاسوس الذي يتحسس الأخبار- فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك! فقال: أشيروا عليّ أيها الناس! أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟! فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، قال أبو بكر: يا رسول الله! خرجت عامداً لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله). وقال الزهري: وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: (ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذلك كان امتثالاً منه لأمر الله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وامتدح المؤمنين فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فمع أنه كان مؤيداً بالوحي، ومع أنه هو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، لكن مع ذلك أراد أن يسن فيهم سنة الشورى. إن الشورى لها كثير جداً من الفوائد حيث فيها ضم عقل إلى عقل، وتجربة إلى تجربة، فتكون المحصلة غالباً خيراً للمسلمين، أما إذا استبد أحد بالأمر، خاصة في الأمور الجامعة العظيمة، وأمضى رأيه دون مشاورة الباقين، وحصلت أي مصيبة أو أية أضرار فإنه هو الملوم وحده، أما إذا شاور فإنه لا يتعرض لنفس القدر من اللوم، بل يكون هذا من تقدير الله عز وجل والمشاورة سنة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام، وينبغي مشاورة العقلاء والحكماء والعلماء. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟!) هؤلاء الذين تحالفوا مع قريش وعاونوهم وأتوا ليصدوا المسلمين عن البيت، فشاورهم فقال: (هل نميل إلى هؤلاء ونقتل ذراريهم ونصيبهم في أهليهم؛ لأنهم غدروا وأعانوا قريشاً، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين، وإن يجيئوا تكن عنقاً قطعها الله سبحانه وتعالى؟!) المراد: أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه هل يخالف الذين نصروا قريشاً إلى مواضعهم، ويتجه إلى بيوتهم وخيامهم، فيسبي أهلهم، فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش، هذا هو المراد بقوله: (تكن عنقاً قطعها الله) فأشار عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة، حتى يكون بدء القتال منهم، فرجع إلى رأي أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أحمد: (فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم يا نبي الله! إنما جئنا معتمرين) إلى آخر ما ذكرناه.

جواز الاستتار عن المشركين ومفاجأتهم غرة

جواز الاستتار عن المشركين ومفاجأتهم غرة قال الزهري: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش) واحدها أحبوش، وهم بنو الهول بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، كانوا قد تحالفوا مع قريش، وكان التحالف بين هذه القبائل وبين قريش تحت جبل يقال له: الحبشي أسفل مكة؛ فسموا الأحباش؛ نسبة إلى هذا المكان الذي تحالفوا عنده. وقيل: سموا بذلك لأنهم تجمعوا؛ فمعنى التحبش: التجمع، فسموا بذلك لتحبشهم أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع، والحباشة: الجماعة. وعن عبد العزيز بن أبي ثابت: أن ابتداء حلفهم مع قريش كان على يد قصي بن كلاب. ووقع عند ابن سعد: وبلغ المشركين خروجهم -يعني: إلى العمرة- فأجمع رأيهم على صده عن مكة، وعسكروا ببلدح، وبلدح: موضع خارج مكة. قوله: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة)، وفي رواية: (فقال له عينه هذا خالد بن الوليد بالغميم)، ويقال: الغُميم، يقول المحب الطبري: يظهر أن المراد كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، وقال ابن حبيب: الغميم قريب من مكة بين غابر والجحفة. وبين ابن سعد أن خالداً كان في مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل، والطليعة: مقدمة الجيش. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فخذوا ذات اليمين) أي: خذوا الطريق التي فيها خالد وأصحابه. قوله: (حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً). قترة: المقصود بها الغبار الأسود. يقول: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش)، لما رآهم خالد انطلق يركض مسرعاً ينذر قريشاً بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته). الثنية: هي طريق في الجبل تشرف على الحديبية. قوله: (حتى إذا كان بالثنية التي كان يهبط عليهم منها بركت به راحلته: فقال الناس: حل حل) وهي كلمة تقال للناقة إذا توقفت عن السير، فإنهم ينادونها بهذه العبارة: حل حل، حثاً لها لمواصلة السير والحركة، فقال الصحابة رضي الله تعالى عنهم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم لما بركت: (حل حل). قال الخطابي: إن قلت: (حلْ) واحدة بالسكون، وإن أعدتها (حلٍ حلْ) تنون في الأولى وتسكن في الثانية كـ (بخٍ بخ)، وحكى غيره السكون فيهما، يقال: حلحلت فلاناً إذا أزعجته عن موضعه، حتى تحركه من موضعه. (فقال الناس: حل حل، فألحت) يعني: تمادت وأصرت على عدم القيام، وهو من الإلحاح، رغم قولهم لها: (حل حل) (فقالوا: خلأت القصواء). الخلأ للإبل كالحران للخيل، ولا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة. والقصواء: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان طرف أذنها مقطوعاً، والقصو: قطع طرف الأذن، يقال: بعير أقصى وناقة قصواء، وزعم الداودي أن هذه الناقة كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء؛ لأنها بلغت من السبق أقصاه. قوله: (فلما قال الناس: خلأت القصواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل). (وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس هذا من عادتها أن تتمرد وتمتنع عن المشي؛ ولكن حبسها حابس الفيل، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى. نلاحظ هنا: كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -تجاوزاً- رد غيبة هذه الناقة، استصحاباً للأصل، فإذا كان الشخص معروفاً بالخير والاستقامة ثم بدر منه شيء، فالأصل أن تذب عنه، وتحسن الظن به، وتحمل أحواله على أحسن ما يكون، ففي حق دابة قال: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق)، فهذه إشارة إلى أهمية استصحاب الخلق الأصلي، والطباع الأصلية للشخص، وينظر إلى ما بدر على أنه زلة ليست صفة راسخة فيه، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)، فالأناس ذوي الهيئة والاستقامة، والمعروفون بالعلم والورع والتقوى، إذا وقع أحدهم في عثرة أو خطأ فلا ينبغي أن تشهر وتضخم، وإنما يعفى عنه فيها إلا إذا أصاب حداً من حدود الله تبارك وتعالى. قال ابن بطال وغيره: في هذا الفصل جواز الاستتار عن أعين المشركين، ومفاجأتهم بالجيش طلباً لغرتهم -يعني: إشارة إلى المفاجأة في القتال-، وجواز السفر وحده للحاجة، وجواز التنكب عن الطريق السهلة إلى الوعرة للمصلحة. لأن الدين يسر، ونحن لا ينبغي أن نتعذب بتكلف المشقة إذا كان هناك طريقان -مثلاً- إلى المسجد: طريق ممهد وسهل، وطريق آخر وعر فيه الهوام وأشياء ضارة مما يؤذي ويشق على الناس، فلا تسلك الطريق الوعرة طلباً للمشقة، والإسلام لا يرضى أن الإنسان يتكلف المشقة، بل متى ما خير بين أمرين يختار أيسرهما، فنحن لا نتعبد بتحري المشقة، وإنما نختار الأيسر والأسهل، إلا إذا كان لمصلحة كما في هذا الحديث، حيث اختار الطريق الوعرة لأجل المصلحة الراجحة التي استدعت ذلك. وفي هذا الفصل أيضاً جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ويعذر من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، يعني: إذا نسبه إليها من لم يعرف الأصل في هذا الشخص، فإنه يعذر؛ لأنه لا يعرفه بالحقيقة، أما الذي يعرفه ويعرف أن الأصل أن يستصحب استقامته وأحواله؛ ففي هذه الحالة يحكم عليه بما عرف من عادته؛ لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة -وهو أنه حبسها حابس الفيل- لكان ما ظنه الصحابة بها صحيحاً من كونها خلأت، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم. وفيه جواز التصرف في ملك الغير للمصلحة بغير إذنه الصريح، إذا كان سبق منه ما يدل على الرضا بذلك؛ لأنهم قالوا: (حل حل)، فزجروها بغير إذنه، ولم يعاتبهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) وزاد ابن إسحاق (عن مكة) فقال: (حبسها حابس الفيل عن مكة) إشارة إلى ما وقع في قصة الفيل حينما أتى أبرهة بجيشه يقصد هدم الكعبة، فلما أراد أن يقترب من مكة حبس الفيل دون ذلك، وأرسلت عليه الطير الأبابيل، فمعنى (حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها: أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدتهم قريش عن ذلك؛ لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين -في حادثة الفيل، وفي الحديبية- أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم أناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في زمن الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يعني: كانوا يستترون بإيمانهم، أو يظهرون إيمانهم ويعذبون ويستضعفون، فلو ترك الصحابة ليدخلوا مكة لما أمن أن يصاب أناس منهم بغير عمد، يعني: إذا دخلوا مكة وحصل قتال وهم لا يعرفون إخوانهم الذين يستترون بإيمانهم ولا يجهرون به، فربما قتلوا إخوانهم دون أن يشعروا، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا في سورة الفتح بقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] لو تميزوا لنزل العذاب على الكفار، لكن منعهم الله عن دخولها، وحبسها حابس الفيل حتى لا يحصل قتال، فتقتلوا إخوانكم المؤمنين في مكة الذين هم مستضعفون وأنتم لا تشعرون؛ فتصيبكم منهم معرة بغير علم، لكن لو كانوا متميزين عنهم: ((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا))، لكن بوجود هؤلاء المستضعفين حبس الله الناقة عن الاستمرار في السير والدخول إلى مكة؛ حتى لا يقع هذا القتال. ووقع للمهلب تحرج في جواز إطلاق (حابس الفيل) على الله سبحانه وتعالى، فقال: المراد حبسها أمر الله عز وجل، فهو استبعد جواز هذه الكلمة، والراجح جواز إطلاق ذلك في حق الله، فيقال: (حبسها الله حابس الفيل)، وإنما يمنع تسميته سبحانه وتعالى (حابس الفيل) ونحوه، وكذا أجاب ابن المنير، وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء الحسنى توقيفية، بمعنى: أن أمر الإخبار عن الله سبحانه وتعالى وعن أفعاله أوسع من إطلاق الأسماء الحسنى على الله، فالأسماء الحسنى توقيفية، لكن عند الإخبار عن أفعال الله فيمكن أن يحصل توسع بأن يقال: حابس الفيل وغير ذلك من الأفعال أو الصفات، فمثلاً قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ليس من أسماء الله الحسنى الباني، فعند الإخبار عن أفعال الله الأمر فيه سعة، كما في هذه الآية ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ))، ومن أجاز الاشتقاق في الأسماء الحسنى اشترط فيه ألا يشعر بالنقص كالوافي مثلاً.

تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى

تعظيم حرمات الله سبحانه وتعالى في هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة، لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاز التشبيه من جهة إرادة الله تعالى منع الحرم مطلقاً، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره، وهو كيلا يحصل قتال يؤدي إلى قتل المؤمنين المستخفين بإيمانهم. وفيه ضرب المثل، واعتبار من بقي بمن مضى، قال الخطابي: معنى تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم؛ لأن الرسول عليه السلام أقسم وقال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فتعظيم حرمات الله يعني: ترك القتال في الحرم، والجنوح إلى المسالمة، والكف عن إراقة الدماء. واستدل بعضهم بهذه القصة لمن قال من الصوفية: علامة الإذن التيسير وعكسه، وفيه نظر، يعني: علامة إذن الله في الشيء أن ييسره لك، وعلامة عدم إذن الله فيه ألا ييسره لك، يقول الحافظ: وفيه نظر؛ لأن الإنسان يأخذ بأقصى طاقته عند الشروع في الأعمال، فإذا سد باب حول إلى باب آخر، ولا يستسلم ويقول: علامة الإذن التيسير وعكسه.

استعمال النبي صلى الله عليه وسلم الحلف لتأكيد القول

استعمال النبي صلى الله عليه وسلم الحلف لتأكيد القول قوله: (والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت). قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده) فيه استعمال اليمين لتأكيد القول، فيكون أدعى إلى القبول، وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً، بعدة صيغ منها هذه الصيغة: (والذي نفسي بيده)، والحلف يكون بالله سبحانه وتعالى، أو بأفعال الله عز وجل، أو أسمائه وصفاته، فالحلف عبادة من العبادات القولية، فلا ينبغي أن يحلف إلا بالله؛ لأن الحلف عبادة، والحلف بالله عز وجل يتضمن إخباراً لأمور عدة، يتضمن إخباراً بأن الله سبحانه وتعالى الذي تحلف باسمه هو المطلع على ما في قلبك، والعالم بصدقك، وهو الذي يثيبك إن كنت صادقاً، ويعاقبك إن كنت كاذباً في هذا اليمين، فهذه الصفات كلها ليست من شأن البشر، وإنما هي لله سبحانه وتعالى، فلذلك لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (من قال: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله)، فكفارة اليمين بغير الله أن يقول الإنسان مباشرة بعدها: لا إله إلا الله، فلا يجوز الحلف بغير الله حتى ولو كان من الملائكة أو من الرسل أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمين المصريين المشهورة: (والنبي)، وهذا لا يجوز ولا يرضاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحلف بغير الله شرك، فضلاً عمن يحلف بتربة أمه وتربة أبيه، وشرفه وأولاده وحياته إلى آخر هذه الأيمان، كل هذا مما لا يجوز. قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) فالحلف لا ينبغي أن يكون إلا في الأمور العظيمة التي تليق باسم الله عز وجل، وليس في كل شيء يحلف فيه الإنسان، فإنما الحلف في الأمور العظيمة الجليلة؛ لأن بعض الناس يتمادون في الحلف بطريقة شديدة جداً، وبعض الناس كما هو حال النصارى بالعكس تماماً يتحرجون جداً من الحلف، ويقول لك: صدقني! صدقني! لأنهم ينظرون إلى أن الحلف شيء غير رجولي! لا، الحلف عبادة، ففيها تعظيم لله عز وجل مادامت في موضعها، ومادامت في الأمور الجليلة والعظيمة، فلا حرج على الإطلاق من الحلف إذا كان في موضعه، وفيه تعظيم لله، ولا تحلف في الأمور التافهة أو الحقيرة، فهذا من تعظيم اسم الله عز وجل ألا يحلف به إلا في الأمور الجليلة. ويعفى عما كان لغواً وهو الذي لا يقصده ولم يعقد عليه القلب، كقولك للرجل: لا والله، تعال والله، نعم والله إلى آخره. (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة) أي: خصلة (يعظمون بها حرمات الله) أي: من ترك القتال في الحرم، وفي رواية ابن إسحاق: (لا يسألونني بها صلة الرحم) ولا شك أن الرحم من جملة حرمات الله، وقيل: المراد بالحرمات حرمة الحرم؛ لأنهم كانوا داخل حدود الحرم، وفي حرمة الشهر الحرام؛ فهم خرجوا في ذي القعدة، وكانوا في حالة إحرام، وفي الشهر الحرام، وفي البلد الحرام. وهذا القول الأخير فيه نظر، وهو: أن المقصود بالحرمات حرمة الحرم، وحرمة الشهر، وحرمة الإحرام؛ لأن المشركين لو عظموا الإحرام لما صدوه عن دخول البيت، فهو قال (لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالضمير يعود على المشركين، فالرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن أي خطة يعرضوها عليه فيها تعظيم لحرمات الله أجابهم إليها، فلو كان هذا القول راجحاً، فما الذي يعظمه المشركون؟! فدل هذا على أنه ليس هذا هو المقصود.

من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية

من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية قوله: (إلا أعطيتهم إياها) يعني: إلا أجبتهم إليها. (ثم زجرها فوثبت) يعني: زجر الرسول عليه الصلاة والسلام الناقة (فوثبت) يعني: قامت، (فعدل عنهم) وفي رواية ابن سعد (فولى راجعاً) وفي رواية ابن إسحاق (فقال للناس: انزلوا، قالوا: يا رسول الله! ما بالوادي من ماء ننزل عليه)؛ لأن المشركين كانوا قد سبقوا إلى المياه دون المسلمين. قوله: (فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً) (على ثمد) أي: حفيرة فيها ماء مثمود أي: ماء قليل، وقد قيل: إن الثمد في لغة بعض العرب: الماء الكثير، فأضاف قوله: على (ثمد قليل الماء) ليدفع توهم لغة من يقول: إن الثمد هو الماء الكثير. (يتبرضه الناس تبرضاً) التبرض: الأخذ قليلاً قليلاً، والبرض اليسير من العطاء، وقيل: هو جمع الماء بالكفين، يعني: من قلة الماء يجمعونه بالكفين. وذكر أبو الأسود عن عروة قال: (وسبقت قريش إلى الماء، فنزلوا عليه، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية في حر كبير وليس بها إلا بئر واحدة). يقول: (فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه) يعني: لم يتركوه يلبث أي: يقيم، فانتهى هذا الماء بسرعة؛ لأن العدد كبير والماء قليل فنزحوه. (وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش؛ فانتزع سهماً من كنانته) يعني: أخرج سهماً من جعبته. (ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يجعلوه فيه) أي: يضعوه في هذه البئر. (فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه) فسال الماء في هذا البئر، وعظم جداً، وظل يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: في قصة الحديبية في حديث البراء بن عازب في البخاري أيضاً: (أنه عليه السلام جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض، ودعا الله، ثم صبه فيها، ثم قال: دعوها ساعة، ثم إنهم ارتووا بعد ذلك)، فيمكن أن يكون الأمران وقعا معاً، وروى الواقدي من طريق أوس: (أنه صلى الله عليه وسلم توضأ في الدلو، ثم أفرغه فيها، وانتزع السهم ووضعه فيها)، وفي رواية أخرى: (أنه تمضمض في دلو وصبه في البئر، ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا الله)، وفي حديث جابر: (عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة، فتوضأ منها فوضع يده فيها، فجعل الماء يفور من بين أصابعه)، وكأن ذلك كان قبل قصة البئر. والله تعالى أعلم. وفي هذا اللفظ معجزات ظاهرة، وهذه بلا شك من آيات النبوة، وقد تواتر فوران الماء من أصابع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أكثر من مناسبة. أيضاً في هذا الحديث بركة سلاحه وما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم. قوله (يجيش) أي: يفور، (بالرِي أو بالرَي حتى صدروا عنه) أي: رجعوا رواء بعد وردهم يعنى: لما وردوا الماء رجعوا عنه بعدما ارتووا وذهب عطشهم، وزاد ابن كعب: (حتى غرفوا بآنيتهم جلوساً على شفير البئر) أي: كانوا يجلسون على شفير البئر، واغترفوا بالآنية من شدة ارتفاع الماء، ولم يكن الماء في قاع البئر كما كان في الأول، وإنما ارتفع الماء جداً، فجلسوا على شفير البئر بالآنية يأخذون المياه من سطحها.

جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة

جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة قوله: (فبينما هم كذلك) هذا فصل آخر من قصه الحديبية. (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول). قول الراوي: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل) (فبينا هم) وفي رواية أخرى: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل) وبديل هذا صحابي مشهور، (في نفر من قومه، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) العيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها. والمقصود: أنهم كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنهم كانوا موضع النصح له والأمانة على سره، وكأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب؛ لأن موضع إيداع الأسرار هو الصدر، فشبه موضع استيداع السر الذي هو الصدور من الإنسان بالعيبة التي هي موضع حفظ الثياب، فهذا معنى: (وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: يأتمنهم على أسراره، وكانوا ينصحون له، وهم من أهل تهامة. وزاد ابن إسحاق في رواية: (وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة). إذاً: كان هناك حلف مع خزاعة بمؤمنيها وكافريها، كلاهما كان ناصحاً لرسول الله عليه السلام، فمعنى هذا الكلام أن خزاعة المؤمنون منهم كانوا عيبة نصحه، وأيضاً المشركون كانوا في حالة حلف مع النبي عليه السلام، وكانوا موالين له مع كونهم مشركين. ووقع عند الواقدي: أن بديلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر، فقال له بديل: أنا لا أتهم ولاء قومي)، وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني هاشم في الجاهلية تحالفوا مع خزاعة، فاستمر هذا الحلف حتى بعد الإسلام؛ لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام من بني هاشم، وهذا يؤخذ منه حكم شرعي، وهو جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة، فيمكن أن يستنصح المعاهد أو الذمي إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة إيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ولو كانوا من أهل دينهم. ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو استظهاراً على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار ولا مودة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق، فالاستعانة هنا بالرأي فقط والمشورة والاستنصاح، بشرط أن تدل القرائن على نصحهم، وأن تشهد التجارب بأنهم يميلون ويفضلون أهل الإسلام على غيرهم من الكفار حتى ولو كانوا من أهل ملتهم. يقول: (فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) اقتصر على ذكر هذين (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي) لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إلى هذين الشخصين، فيقول: (إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية) الأعداد: جمع عد، وهو الماء الذي لا انقطاع له، فهم سبقوا إلى الأماكن التي فيها الآبار والمياه الجوفية التي لا تنقطع، فهذا يشعر بأن الحديبية كان فيها مياه كثيرة، وأن قريشاً سبقوا إلى النزول عليها، فلهذا عطش المسلمون حين نزلوا على الثمد المذكور. قوله: (ومعهم العوذ المطافيل) وفي بعض الروايات: (وجمعوا لك الأحابيش) قلنا: التحبيش هو: التجمع، والعوذ: جمع عائذ، وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، والإنسان يسر جداً إذا قرأ الأحاديث الطويلة، فهذه الأحاديث الطويلة تجد فيها متعة الفصاحة، وحلاوة اللغة العربية، ومن هذه الأحاديث الطويلة حديث الإفك، وحديث سمرة بن جندب في عذاب القبر، وحديث أم زرع وهكذا، فتجد فيها طعم اللغة العربية التي نحن محرومون منها الآن في وسط هذا الركام الهائل من الركاكة والعجز والجهل في العربية والعدوان عليها، ففعلاً نحن نحب تذوق اللغة العربية عندما تطول هذه النصوص الرائعة، ونحس أننا نكاد نكون أعاجم حينما نضطر كثيراً لشرح الغريب لتقصيرنا في حق لغة القرآن! فقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) العوذ كما قلنا: هي النوق ذوات اللبن، والمطافيل: الأمهات التي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، فمعنى: (معهم العوذ المطافيل) أنهم أتوا إلى الحديبية ومعهم النوق ذوات اللبن، حتى يشربوا من ألبانها إذا طالت مدة الإقامة هناك، وهذا فيه كناية على إصرارهم، وعلى عدم السماح له الصلاة والسلام بالدخول إلى مكة، وأنهم لن يرجعوا حتى يمنعوه، أو أن المقصود بقوله: (ومعهم العوذ المطافيل) أنه كنى بذلك على النساء ومعهن الأطفال، والمراد: أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقامة، وليكون أدعى إلى عدم الفرار، ويحتمل إرادة المعنى الأعم، ويؤيده أن في بعض الروايات: (معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان).

قوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم

قوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول) انظروا إلى حلاوة فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته، فيقول: (إن قريشاً قد نهكتهم الحرب) أي: أبلغت فيهم حتى أضعفتهم، إما أضعفت قوتهم أو أضعفت أموالهم، (فإن شاءوا ماددتهم) يعني: جعلت بيني وبينهم مدة، فيترك الحرب بيننا وبينهم خلال هذه المدة، هذا معنى (فإن شاءوا ماددتهم) أي: اتفقت معهم على مدة تتوقف فيها الحرب (ويخلوا بيني وبين الناس) أي: من كفار العرب وغيرهم، وهذا هو سر تسمية صلح الحديبية فتحاً كما سنبين إن شاء الله تعالى، وقد كان فتحاً عظيماً جداً بكل معنى الكلمة، والسر هو في هذه الجملة بالذات، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويخلوا بيني وبين الناس) يعني: لما توقفت الحروب بدأت الحمية تهدأ عند أهل الشرك، وبدأ الكافر يستمع إلى المؤمن، ويعرض عليه الإسلام ومحاسنه، فكان هذا سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجاً. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أعظم فتح للإسلام أن يخلى بين المسلمين الدعاة وبين الناس، ولا تكون هناك حواجز وموانع، وتشويش وتشنيع، إذا حصل ذلك فإن الناس سيدخلون في دين الله أفواجاً، فهذا نصر بكل معنى الكلمة، والإسلام في أي مكان وفي أي زمان إذا سمح بأن يتكلم أهله بحرية حقيقية، ولم تشن عليهم الحملات الشيطانية من وصفهم بإرهابيين ومتطرفين، ونحو هذه الاصطلاحات الغريبة التي تصد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى، وكان المتكلمون باسم الإسلام أناساً على وعي وعلم وبصيرة؛ فالغالب أن العمي المقلدين الجهلة من الناس ينقادون -وأيضاً علماؤهم وعقلاؤهم- ويدخلون في دين الله أفواجاً، لكن الذي يحصل -وهو أقوى سلاح من أسلحة الباطل- التشويه الظالم، وعدم معرفة شرف الخصومة، وإلا فلا يمكن للإسلام أن ينهزم أبداً في معركة شريفة، سواء كانت معركة قتالية أو معركة فكرية، ففي المعركة القتالية المسلم في كل حال لا يهزم، ولا تنسب له هزيمة أبداً إذا قتل في سبيل الله، وهذا هو الذي دلنا عليه القرآن الكريم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74] لم يقل: ويهزم أو يُغلب، بل قال: (فيقتل أو يغلب) هذان الخياران هما اللذان سماهما الله سبحانه وتعالى إحدى الحسنيين في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ َ} [التوبة:52] الحسنى مؤنث أحسن وليس مؤنث حسن، يعني: أن كلاً منهما أحسن من الآخر، فهي نصر أو شهادة، فالشهيد في الحقيقة لا يسقط وإنما يرتفع، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]؛ ولهذا يرتعد أعداء الإسلام دائماً من كلمة الجهاد، وإذا ذكر فإنهم يرتعشون ويرتعدون؛ لأنهم عرفوا خلال قرون طويلة ما معنى هذا الكلمة وتأثيرها عند المسلمين الذين يحبون الموت والقتل في سبيل الله كما يحبون هم الحياة ويعبدونها، فالمؤمن لا تنسب إليه هزيمة: (فيقتل أو يغلب) يقتل في سبيل الله أو يغلب وهي عزة الدنيا، أما الهزيمة فلا يهزم أبداً. كذلك أيضاً في المناظرات العلمية والفكرية إذا تصدر للنقاش والمناظرة من هو من أهل العلم والحق والبصيرة فلا يمكن أن ينهزم لضعف حجة أبداً، ولا يمكن أن يقف الباطل على الإطلاق أمام عالم مسلم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويحاج الناس بالأدلة، والشيء الوحيد الذي يحصل فيه غير ذلك هو التشويه المتعمد، وتنفير الناس وصدهم عن سبيل الله سبحانه وتعالى بالحيل الشيطانية أو بالقهر أو غيره من الأساليب الغير الشريفة كما قلنا. فلذلك هذه العبارة في الحقيقة هي في غاية الأهمية فلا تمرن عليكم مرور الكرام، (فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس) أي: يستمعون دعوتي بدون تشويه وبدون حمية جاهلية تصد عن سبيل الله، هذا هو جوهر الفتح في صلح الحديبية. قال: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا) يا للفصاحة! يا لفصاحة خير من نطق بالضاد صلى الله عليه وآله وسلم! يقول لهم: (فإن أظهر فإن شاءوا) هذا شرط بعد شرط، (فإن أظهر) شرط (وإن شاءوا) شرط يعني: جاء بعد أداة الشرط الأولى جواب مقدر، والتقدير: فإن ظهر غيرهم علي كفاهم المؤنة، فإن أحد من المشركين غير هؤلاء القرشيين الذين يعاهدونني في هذا الصلح أتى وغلبني وقضى علي، فقد كفاهم المؤنة وأراحهم مني، (وإن أظهر) أنا على غيرهم فإن شاءوا أطاعوني، وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا يعني: قد استراحوا، وفي رواية ابن إسحاق: (وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة) سيكونون واستراحوا في هذه المدة، وتلاحظون هنا اللباقة والكياسة، انظر كيفية إقناعهم بأن يقبلوا الصلح، وغرض النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك هو كما صدر في بداية الكلام: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) الهدف: هو تعظيم حرمات الله، وعدم حصول قتال في الحرم، وفي حالة الإحرام، وفي الشهر الحرام.

مسألة التنزل مع الخصم وضابطها

مسألة التنزل مع الخصم وضابطها قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا) يلاحظ هنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام ردد الأمر، وجعل فيه احتمالين: إذا حصل صلح إما أن يغلبه غيرهم، وإما أن يظهر هو فيكونون قد استفادوا من هذه الهدنة بأن يقووا ويستريحوا من القتال، خاصة بعد قوله: (قد نهكتهم الحرب)، وإنما ردد -الأمر مع أنه صلى الله عليه وسلم جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره؛ لوعد الله تعالى له بذلك- على طريق التنزل مع الخصم، وترك الأمر على ما زعم الخصم، فهذا نوع من التنزل في النقاش ولا يضر صاحب الحق، فيجوز للإنسان في أثناء المناظرة أو المناقشة أن يفعل هذا النوع من التلطف والتنزل؛ لأن هدفك ليس إفحام الخصم، وإنما هدفك أن تهديه إلى الحق، فيجوز للإنسان في أثناء النقاش أن يفعل نوعاً من التنزل وتحويل العبارة بحيث يحصل به جذب لهذا الشخص إلى الحق. قوله عليه السلام: (فإن أظهر فإن شاءوا) قلنا: هذا ردده الرسول عليه الصلاة والسلام -مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره بوعده تعالى له- على طريق التنزل مع الخصم وجعل الأمر على ما زعم الخصم، وبهذه النكتة حدث القسم الأول، وهو التصريح بظهور غيره عليه، يعني: فإن ظهر غيري علي فقد استراحوا مني، وإن أظهر أنا فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس، وإن وقد وقع التصريح بهذا في رواية ابن إسحاق ولفظه: (فإن أصابني كان الذي أرادوا)، وفي رواية أخرى: (فإن ظهر الناس علي فذلك الذي يبتغون)، فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدباً، فيقول الحافظ: الظاهر أن بعض الرواة حذف منها هذه الجملة التي فيها: إن يغلب النبي عليه الصلاة والسلام أو يظهر عليه أحد؛ تأدباً، فإن بعض الروايات ذكرت هذا، فحذفها تأدباً، واقتصر على قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس). وذكرنا أنه قد يحتاج الإنسان إلى هذا الأسلوب من التنزل في المحاورة والمناقشة، وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم من هذا النوع، كما في سورة سبأ قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24]، ركز الأمر على سبيل الاحتمال إما أننا نحن على الحق أو أنتم على الحق: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وذكر السورة لهذه الطريقة المحتملة هل يضر الحق شيئاً؟ لا يضر، لكن هي فيها استدراج للخصم لكي يكون أقرب إلى الانقياد للحق. كذلك الشاهد في قصة يوسف بدأ بالشيء الذي هو أقرب إلى هواهم، لكن هل يضر هذا يوسف شيئاً؟ لا يضره شيئاً، ما دام أنه مع الحق، قال الله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27]، فهذا نوع آخر من التنزل لإثبات النزاهة لمن يدافع عنه، مع أنك تجادل في الحق على صورة محتملة فيها نوع من الاستدراج واستنزال الخصم، حتى يعي ما تقول وينقاد إلى الحق. كذلك قول مؤمن آل فرعون كما قال تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] فهذه دعوة إلى التدبر في أمر موسى عليه السلام، والتعامل مع دعوته بالعقل والمنطق: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا) فالكذب لا يضر أحداً إلا هو (فعليه كذبه)، يعني: افترضوا أنه صادق فيما يهددكم به من عذاب الله، فخذوا الأمر بجدية (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، فهذا من التنزل مع أن موسى عليه السلام حاشاه الكذب. أيضاً قول المؤمن: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا} [غافر:29] يعني: كلنا {مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29]. أيضاً في قصة يوسف قال تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيِه} [يوسف:76] دفعاً للتهمة عن نفسه.

قوة جزم النبي صلى الله عليه وسلم في نصرة الله لدينه

قوة جزم النبي صلى الله عليه وسلم في نصرة الله لدينه قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا) أي: إن شاءوا أن يدخلوا في الإسلام فعلوا (وإلا فقد جموا) أي: إن أصروا على قتالي يكونون قد استراحوا واستردوا قوتهم، ويستطيعون القتال بعد ذلك، (وإن هم أبوا) أي: فإن هم أبوا هذه العروض كلها، (فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) قوله: (حتى تنفرد سالفتي) هي صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه، وقال الداودي: المراد بقوله: (حتى تنفرد سالفتي) الموت أي: لأقاتلنهم حتى أموت وأبقى منفرداً في قبري، ويحتمل أن يكون أراد أن يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم، يعني: أقاتلهم حتى لو لم يبق أحد يقاتلهم غيري، فسوف أقاتلهم ولو كنت وحيداً، وقال ابن المنير: لعله صلى الله عليه وسلم نبه بالأدنى على الأعلى أي: أن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أقاتل عن دينه ولو انفردت وكنت وحيداً منفرداً ليس معي أصحاب ولا أنصار، فكيف لا أقاتل في سبيل إعزاز الدين مع وجود المسلمين، وكثرتهم، ونفاذ بصائرهم في نصرة دين الله تعالى؟ يعني: لو كنت وحدي فإني سأقاتلهم فما بالكم لو لم أكن وحدي ومعي أتباع وأنصار سوف يبذلون أرواحهم في سبيل الله عز وجل. (وليمكنن الله أمره) أي: ليمضين الله أمره في نصرة دينه، نلاحظ هنا الجزم بعد التردد في العبارة الأولى، (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس) إلى آخره، فذكره بصورة التردد للحكمة التي أشرنا إليها، أما في هذه الحالة فقال عليه الصلاة والسلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده) انظروا إلى الجزم والقطع (لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) يعني: لينصرن الله دينه يقول الحافظ: وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض يعني: أن التردد الذي وقع أولاً ما كان إلا على سبيل الفرض، أما اعتقاده الحقيقي فهو جازم بأن الله سوف ينفذ أمره، وينصر دينه عز وجل. أضف إلى هذا أن النبي عليه السلام في أثناء هذه المفاوضات أرسل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى مكة برسالة إلى المستضعفين من المؤمنين داخل مكة، فأرسله يبشرهم بفتح الله وبنصر الإسلام، فهذا معناه أن الله أخبره أنه سوف يعز الإسلام وينصره ويفتح عليه، فهذا ينضم إلى قوله: (ولينفذن الله أمره) يعني: أنه كان جازماً من تحقق وعد الله بنصره، وأن هذا التردد كان على سبيل التنزل ومجرد الافتراض فقط في أول الأمر. وفي هذا الفصل الندب إلى صلة الرحم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نوى وعزم على أن يجيبهم إلى أي خطة فيها تعظيم لحرمات الله التي منها صلة الرحم، والإبقاء على من كان من أهلها، وبذل النصيحة للقرابة. وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله وتبليغ أمره، ولا شك أن هذا التعبير يستحق أن يكون درساً مستقلاً تستخرج منه العبر، وهو قول النبي عليه السلام: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) وهذه الجملة أقوى بكثير -والله تعالى أعلم- مما يروى أنه قال في الحديث الضعيف: (يا عم! والله! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) فالتعبير هنا أقوى، وهذا الحديث في صحيح البخاري، وهو قوله: (والذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول) يعني: أذن له في الذهاب ليبلغهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.

إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان سفيرا إلى قريش

إرسال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان سفيراً إلى قريش قال: (فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا)، (فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء) بادر بالجواب سفهاؤهم الذين لا عقل لهم، وما يحسنوا إلا الحمية الجاهلية، يعني: لا نريد أن نسمع، (لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه قالوا: ائته فأتاه). قوله: (فقال سفهاؤهم) سمى الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل والحكم بن أبي العاص فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول: كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد ابن إسحاق: (فقال لهم بديل: إنكم تعجلون على محمد) أي: تستعجلون في الحكم، (إنكم تعجلون على محمد! إنه لم يأت لقتال، إنما جاء معتمراً؛ فاتهموه) يعني: اتهموا بديلاً؛ لأنهم كانوا يعرفون ميله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، (فقالوا: إن كان كما تقول فلا يدخلها علينا عنوة)، يعني: إن كان الأمر كما تقول في هذه الرسالة التي حملك إياها، فلا يدخلها علينا عنوة. قوله: (فقام عروة بن مسعود) وفي بعض الروايات قالوا: (لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية أحب أن يبعث رجلاً من أصحابه إلى قريش يعلمهم بأنه إنما قدم معتمراً، فدعا عمر فاعتذر؛ لأنه لا عشيرة له بمكة، فدعا عثمان فأرسله بذلك، وأمره أن يعلم من بمكة من المؤمنين بأن الفرج قريب). إذاً: بعث عثمان بهذه الرسالة؛ ليبلغ قريشاً أنه ما أتى لقتال، وإنما أتى للعمرة، وفي نفس الوقت ليعلم المستضعفين من المؤمنين في مكة بأن الفرج قريب، فهذا يعني أنه كان جازماً بنصر الله سبحانه وتعالى. (فأعلمهم عثمان بذلك، فحمله أبان بن سعيد بن العاص على فرسه إلى أن قال: فقال: المسلمون هنيئاً لـ عثمان) لما ذهب عثمان إلى مكة المسلمون (هنيئاً لـ عثمان! خلص إلى البيت فطاف به دوننا)، أي: استطاع أن يدخل إلى مكة كرسول أو مبعوث، فسيذهب ويستمتع بالطواف حول الكعبة، أما نحن فقد حرمنا من ذلك، فقالوا: (هنيئاً لـ عثمان خلص إلى البيت فطاف به دوننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ظني به ألا يطوف حتى نطوف معه)، استبعد النبي صلى الله عليه وسلم من عثمان أن يفعل هذا، وقال: ظني به أنه لا يمكن أن يطوف قبل أن أطوف أنا، (فكان كذلك، ثم جاء عروة بن مسعود).

إرسال قريش لعروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

إرسال قريش لعروة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم) وهذا الأمر كان لما رآهم سمعوا رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام مع بديل بن ورقاء، (فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى)، وفي بعض الروايات: (ألستم بالولد وألست بالوالد؟ قالوا: بلى)، وبعض الروايات بالعكس: (ألستم بالوالد وألست بالولد؟) وهذا هو الصواب، والمقصود من هذا: أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، فأراد بقوله: (ألستم بالوالد) يعني: أنكم حي قد ولدوني في الجملة؛ لكون أمي منكم، وعلى رواية: (ألستم بالولد) يعني: أأنتم عندي في الشفقة والنصح بمنزلة الولد؟! ولعله كان يخاطب بذلك قوماً هو أسن منهم، يعني: يشير إلى أنه مخلص لهم، سواء على أنه ابن أو والد، ففي كلا الحالتين يكون ناصحاً ومخلصاً لمن ينصحه ويجتهد في نصحه، فهو يريد أن يستنزلهم ويقنعهم -قبل أن ينصح- بأنه جدير بأن يثقوا في نصيحته ولا يتهموه، فإذا كانوا اتهموا بديلاً فهو أراد أن يقول: أنا غير متهم، وأراد أن يقررهم أولاً بذلك كما حصل ذلك من النبي عليه السلام في مواضع معينه معروفة. فقال: (فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ) يعني: دعوتهم إلى نصركم، (فلما بلحوا علي) يعني: فلما امتنعوا من الإجابة؛ لأن التبلح هو التمنع، وبلح الغريم إذا امتنع من أداء ما عليه، وزاد ابن إسحاق: (فقالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ كي يجيئوا وينصروكم، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ -يعني: لأنصركم- قالوا؟ بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته)، (قد عرض عليكم خطة رشداً) يعني: خصلة خير وصلاح وإنصاف، وبين ابن إسحاق أن سبب تقديم عروة لهذا الكلام عند قريش ما رآه من ردهم العنيف على من يجيء من عند المسلمين، فقد كانوا يردون بعنف وشدة؛ فلذلك احتاج أن يستدرجهم في الكلام بهذه الطريقة، قوله: (ودعوني آته) يعني: أجيء إليه، (قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل، فقال عروة)، وفي رواية ابن إسحاق: (وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً).

جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لمن بدا منه ما يستحق ذلك

جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لمن بدا منه ما يستحق ذلك قوله: (فقال عروة عند ذلك) أي: عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي) قال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك! هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك). لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم نفس الكلام الذي قاله لـ بديل وهو قوله: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره، قال له: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك) أي: لو نجحت في أن تستأصل قومك قريشاً، (هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟) يعني: أهلك أصله بالكلية، وحذف الجزاء من قوله: (وإن تكن الأخرى) تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلاً. فهو ذكر هذين الاحتمالين: يقول: (أي محمد! أرأيت أن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى) يعني: إن تكن الغلبة لقريش، وهذا من فصاحة العرب ودقتهم في التعبير، دائماً التعبير يكون في جانب الهزيمة يكون بقولهم: وإن تكن الأخرى؛ تجنباً للفظ الهزيمة، وأن يغلب الإنسان، فقال: (وإن تكن الأخرى) يعني: معناها إن غلبتك قريش، وكان لابد من القتال، (فإني والله لأرى وجوهاً) فهو ينظر باحتقار إلى الصحابة، ويريد أن يذم الصحابة الذين كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام، (وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، فقوله: (فإني والله لأرى وجوهاًً) كالتعليل لهذا القدر المحذوف. والحاصل: أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، وهو هلاك قومه إن غلب، وذهاب أصحابه إن غُلب، فهو لأنه لم يكن مسلماً فالاحتمالان عنده غير مستحسنين، فيريد أن يقنع النبي عليه السلام بأن كلا الأمرين غير مستحسن، وهذا من وجهة نظره هو، يقول الحافظ: لكن كل من الأمرين مستحسن شرعاً، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]. قوله: (وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً)، وفي بعض الروايات: (أوشواباً) والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش: الأخلاط من السفلة، فالأوباش أخص من الأشواب، (خليقاً) يعني: حقيقاً وجديراً (أن يفروا ويدعوك) يعني: يتركوه، وفي بعض الروايات: (وكأني بهم لو قد لقيت قريشاً قد أسلموك، فتؤخذ أسيراً، فأي شيء أشد عليك من هذا؟). وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار في العادة. والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، لكن شرعاً هما مستحسنان، لقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ). أيضاً: لأنه لم يكن تشرف بنور الإسلام؛ احتقر الصحابة، فسماهم أوباشاً سفلة من الناس أو أخلاطاً، هذا رومي! وهذا حبشي! وهذا قرشي! وهذا كذا فهم عبارة عن أخلاط، فيقول الحافظ: وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة من الخليط لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة؛ لأن أصحاب القبيلة الواحدة يأنفون ويستمسكون عن الفرار -لأن هذا يعيبهم، ويكون عاراً في حقهم- وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة؛ لأنه لم يكن مسلماً، فمودة الإسلام التي تربط بين هؤلاء الصحابة أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون لقنوه درساً لا ينساه بالقول والعمل، بالقول حين رد عليه أبو بكر رضي الله عنه مباشرة بقول شديد شنيع، وكما رد أيضاً المغيرة بن شعبة كما سيأتي، وبالعمل حينما بالغوا في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمام هذا الكافر؛ ليدرك أنهم ليسوا كما ظن بهم، وإنما هم أشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قال: (وإني لأرى وجوهاً وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك قال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! -لأنه عمه- ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). قول أبي بكر له: (امصص بظر اللات)، اللات هي الآلهة التي كان يعبدها عروة، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك، وقال ابن المنير: في قول أبي بكر تخسيس للعدو، وتكذيبه، وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنت الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنها لو كانت بنتاً كان لها ما يكون للإناث. قوله: (أنحن نفر وندعه؟) هذا استفهام إنكار، (قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر)، وفي رواية: فقال: (من هذا يا محمد؟ فقال: هذا ابن أبي قحافة) رضي الله عنه، ثم قال له: (أما) وهذا حرف استفتاح، (والذي نفسي بيده)، وهذا يدل على أن القسم بهذا كان من عادة العرب، (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) لولا يد أي: نعمة، وهو إحسان كان أحسن إليه أبو بكر فيما مضى، وهو لم يرد له هذا الإحسان أو هذا الجميل، (لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها، (لأجبتك) لكن هذه بها، فسأتوقف وأمتنع من الرد عليك عن هذه الكلمة الشنيعة التي قلتها مقابل النعمة أو الجميل الذي فعلته في، ففي الجاهلية كان يوجد أخلاق، أما الآن كما يقول بعض الناس: أصبحنا في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوو المروءة! فقال: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها لأجبتك، وذكر بعضهم أن هذه اليد المذكورة: أن عروة كان تحمل دية، فأعانه أبو بكر بعون حسن، وفي رواية الواقدي: أعانه بعشر قلائص.

الغدر مذموم في الجاهلية والإسلام إلا في الحرب

الغدر مذموم في الجاهلية والإسلام إلا في الحرب قال: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته) أمسك بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم. (والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف)، وهذا فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف لقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس؛ لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر، أما هذا فبقصد الحراسة، وإرهاب الأعداء. وفي رواية: (فكلما كلمه أخذ بلحيته)، وفي رواية: (فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة بن شعبة قائم)، وفي رواية أخرى: (أن المغيرة لما رأى عروة بن مسعود مقبلاً لبس لأمته، وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه)؛ لأن عروة عمه، فـ المغيرة كان حريصاً على ألا يعرفه من هو، فغطى وجهه، ولبس لباس الحرب واللأمة والمغفر، بحيث لا تظهر ملامح وجهه. يقول: (وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف)، وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، (وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم) أخر: فعل أمر من التأخير، وفي رواية ابن إسحاق: (كلما أخذ بلحية الرسول عليه الصلاة والسلام يضربه بنعل السيف، ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك) يعني: قبل أن أقطع لك هذه اليد التي تمتد وتمسك بلحية رسول الله صلى الله عليه وسلم! وزاد عروة بن الزبير في رواية أخرى أنه كان يقول له: (أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك، فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه)، وفي رواية ابن إسحاق: فيقول عروة يرد عليه: (ويحك! ما أفظك وأغلظك!) وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه لاسيما عند الملاطفة، وفي الغالب لا يصنع ذلك إلا النظير بالنظير، فالنظراء يفعلون هذا بعضهم مع بعض، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لـ عروة عن ذلك، يعني: لم يمنعه من ذلك استمالة له وتأليفاً، لكن المغيرة لم يتجاوز عن ذلك، فالرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام كان يغضي ولا يعنفه على إمساكه بلحيته، مع أنه ليس نظيره، وإنما استمالة لقلبه وتأليفاً له، والمغيرة كان يمنعه إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له. (فقال: من هذا؟) أي: من هذا الذي كل وقت يضرب يدي بالسيف، ويقول هذا الكلام الفظ الغليظ؟ (فقال من هذا؟ قال: المغيرة)، وفي رواية لـ أبي الأسود عن عروة: (فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب) أي: من كثرة الضرب على يده غضب، (وقال: ليت شعري) يعني: ليتني أعلم، (ليت شعري من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك؟! والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة)، وفي رواية ابن إسحاق: (فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد؟! قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة). فقال له عمه عروة: (أي غدر)، يعني: عرفتك يا غادر! (أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟)؛ (أي غدر) صيغة مبالغة في صفة الغدر، ألست أسعى في غدرتك أي: ألست أسعى في دفع شر غدرتك، وفي مغازي عروة قال له: (والله! ما غسلت يدي من غدرتك، لقد أورثتنا العداوة في ثقيف)، وفي رواية ابن إسحاق: (وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس)، قال ابن هشام في السيرة: أفاد عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه؛ وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفراً من ثقيف من بني مالك، فغدر بهم وقتلهم، وأخذ أموالهم، فتهايج الفريقان بنو مالك ورهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفساً واصطلحوا. وحاصل القصة عند ابن الكلبي والواقدي: أنهم كانوا خرجوا زائرين المقوقس بمصر، فأحسن أليهم وأعطاهم، وقصر بـ المغيرة، فحصلت له غيرة منهم، فلما كانوا في الطريق شربوا الخمر، فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم، ولحق بالمدينة فأسلم، لذلك يقول هنا في رواية البخاري: (فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة قال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). قوله: (أما الإسلام فأقبل) يعني: أقبله منك (وأما المال فلست منه في شيء) أي: لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، فالغدر لا يحل حتى مع الكافر إلا في حالة الحرب، لكن في الحالة التي يكون آمناً فيها لا ينبغي للمسلم أن يغدر أبداً. يقول الحافظ: ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً؛ لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة، والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلماً كان أو كافراً يعني: ينبغي أن يكون خلق المسلم الأمانة مع كل أحد، حتى لو كان كافراً، قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)، فأموال الكفار تحل بالمحاربة والمغالبة، كغنيمة في حالة حرب، أما في الحالة التي أعطاك فيها الأمان أو يوجد نوع من الأمان بينك وبينه، فالتعرض له من الغدر، ومعلوم وعيد الغادر يوم القيامة. وهذا الأدب وهذا الخلق يحتاج إليه كثير ممن يزعمون الالتزام والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من بعض الجماعات في بلاد الكفار، وحتى في باقي بلاد المسلمين، حيث يقع كثير من الغدر والخيانة في موضوع الأموال بالنصب والسرقة، وهذا موجود كثير جداً للأسف الشديد، وهو في أمريكا بصورة أكبر، وكان للأسف الشديد جداً في أول الأمر يوجد عندهم نوع من التسامح الشديد في المعاملات، حتى بدأت تشيع الخيانة والكذب والغدر ممن ينتسبون إلى الإسلام، فكانت تزيد التعقيدات بمرور الوقت، وبالذات في موضوع المكالمات الهاتفية ونحوها، فأصبحوا الآن -وللأسف الشديد- يقارنون أصحاب البلاد ببعضهم البعض، ففي أمريكا أي مكالمة خارج البلاد يكون فيها إجراءات استثنائية كمصر وباكستان وإسرائيل عصابة اليهود، فإذا تريد أن تتصل فلابد أن يتأكدوا أولاً من الهوية، تحرزاً من سرقة كروت الاتصالات، فتخيل أن شخصاً يستخدم مكالمة من وراء البحار لمدة ساعة ونصف ويكون صاحبه أو قريبه هنا يشغل له التلفاز ليتابع المباراة، وهو مستمر في فتح خط الهاتف؛ لأنه لص لا يدفع المال من جيبه؛ لأنه ليس من الممكن أن يبذل هذا المبلغ الضخم الذي سيدفع مقابل هذه الساعة والنصف من جيبه، فهو يسرق. وقد حصل في يوم من الأيام أن شخصاً من هؤلاء اللصوص اتضح له أن الكرت الذي يتصل به ملك لشخص مسلم! يعني: آذى مسلماً بهذه السرقة وهذه اللصوصية، فهذه لصوصية ولا يمكن أبداً أن تسمى بغير ذلك، فينبغي للإنسان أن يتنزه عن هذه الأشياء، فبعض الناس يتحايل بصورة دنيئة جداً وقبيحة وكريهة في السرق والنصب، بحجة أن هؤلاء كفار! والحديث في هذا يطول. فهذا ليس من خلق المسلم، والإسلام بريء من أخلاق هؤلاء الناس، لأن أقل ما في هذا الموضوع هو صد الناس عن سبيل الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:94] فهذه الآية مهمة جداً لنا جميعاً، وبالذات لهؤلاء الناس الذين يفعلون أشياء من الخيانة والغدر واللصوصية، ويزينونها لأنفسهم بأهوائهم، ففي هذه الآية ينهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عندما يتعاملون مع الكفار أو مع غيرهم أن يؤكدوا العهد والميثاق أو الاتفاق الذي يتفقون عليه بأن يقسموا بالله سبحانه وتعالى، فإذا أقسموا بالله فإن الطرف الآخر يصدقه؛ لأنه لا يتصور أن يحلف بالله كاذباً، فهؤلاء مؤمنون ومسلمون ولا يمكن أن يكذبوا، قال تعالى: ((وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ))، فجاءت الآية تحذر المؤمن من أن يستعمل الحلف باسم الله سبحانه وتعالى وسيلة لخداع الناس وغشهم: (َلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) أي: لا تستعملوا اسم الله والحلف بالله للإفساد بين الناس وأخذ حقوقهم، فإذا فعلتم ذلك ووقعتم في هذه الورطة فإنه يترتب على ذلك شران: الأول: (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) بعدما كنتم موصوفين بوصف الأمانة صرتم خونة، وبعد التقوى صرتم فجاراً، وهكذا (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) عن الطريق المستقيم، فهذا انحراف وانحياز عن الطريق المستقيم، فهذا هو الوعيد الأول، قال تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11]. الوعيد الثاني: قوله: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ الله) يعني: إن هذا السلوك منكم من الخيانة والغدر والكذب يترتب عليه أن الناس يصدقونكم، فإذا خنتم وغدرتم فسيقولون: لو كان في دينهم خير لما سرقوا ونصبوا، ولما حلفوا كاذبين، لو كان في دينهم خير لما فعلوا ذلك! وهذا الاتهام غير صحيح؛ لأنهم بشر غير معصومين، ولكن أنتم تعطونهم الذري

حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له

حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له الموقف الأخير الذي نتعرض له في هذه القصة قول الراوي: (ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -أي: يلاحظ تصرفاتهم بعينيه- فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً صلى الله عليه وسلم، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده! وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها). قوله: (فجعل يرمق) يعني: يلحظ، (أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه)، وكأن الصحابة أرادوا أن يلقنوه الدرس الثاني بعد ما لقنه أبو بكر الدرس الأول لما قال: (وإني لأرى حولك أوباشاً أو أشواباً خليقاً أن يفروا ويدعوك) فرد عليه أبو بكر بهذه الكلمة الشديدة، ثم رد المغيرة أيضاً بضربه على يده، وما حصل بينهم من الحوار، ثم عملياً جعل عروة يرمق سلوك الصحابة رضي الله عنهم بعينيه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول: (فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده) وهذا تبركاً بآثار أو فضلات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتبرك بما ينفصل عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو أجزائه كشعره وغير ذلك جائز شرعاً. زاد ابن إسحاق: (ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه). قوله: (وإذا أمرهم ابتدروا أمره) إذا أمرهم بأمر تسابقوا أيهم يكون الأول امتثالاً لهذا الأمر، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه. وهذا الحديث فيه دليل على طهارة النخامة، وطهارة الشعر المنفصل، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك؛ إشارة منهم إلى الرد على ما خفي عليه منهم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة، ويعظمه هذا التعظيم؛ كيف يظن به أن يفر عنه ويسلمه لعدو؟! بل هم أشد ارتباطاً به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ، فهم أرادوا أن يوصلوا له هذه الرسالة عن طريق هذه الوسائل، فإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه الذي يتناثر من أعضائه عند الوضوء، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له، وهكذا كان أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعدم إحداد النظر، هو أدب أصلاً مع كل كبير، حتى مع الوالدين أو غيرهم ممن يعظم، لا ينبغي للإنسان أن يحد النظر في أبيه أو في شيخه أو في مدرسه أو أستاذه، بخلاف هذه الأشياء التي نسمع فيها العجب الآن من طلاب المدارس وما يصنعونه مع مدرسيهم، فمن الأدب أنه لا يحد النظر بهذه الطريقة مع الوالدين وغيرهما ممن يعظم، وقد ذكر عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أنه قبل أن يسلم ما كان أحد أبغض إليه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما بعد أن أسلم فيقول: فلم يكن أحد أحب إلي منه، ولم أكن -يعني: مع صحبته للرسول عليه الصلاة والسلام- أطيق النظر إليه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت! يعني: لو قال له أحد: صف لي صفة الرسول صلى الله عليه وسلم وملامحه، لما استطاع ذلك! قال: لأني لم أكن أحد النظر إليه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم أو كما قال رضي الله تعالى عنه، فـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه كان إذا جلس الرسول عليه الصلاة والسلام لا يملأ عينيه منه إجلالاً له، وتعظيماً واستحياء منه عليه الصلاة والسلام، حتى أنه لو سئل أن يصفه لما أطاق ولما استطاع أن يصف ملامح النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: (فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر) هذا من إطلاق الخاص بعد العام؛ لأن قيصر وكسرى والنجاشي من الملوك، وذكر الثلاثة لأنهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان. وفي بعض الروايات: (فقال عروة: أي قوم! إني قد رأيت الملوك ما رأيت مثل محمد صلى الله عليه وسلم وما هو بملك، ولكن رأيت الهدي معكوفاً وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة) أي: لأنكم إذا تعرضتم لهؤلاء الناس الذين قصدوا البيت محرمين فلابد أن يعاقبكم الله؛ فتصيبكم قارعة إذا منعتموهم من دخول الحرم، فانطلق هو ومن اتبعه إلى الطائف خشية أن ينزل العذاب وهو قريب من قريش. وفي قصة عروة بن مسعود من الفوائد ما يدل على جودة عقله ويقظته، وما كان عليه الصحابة من المبالغة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، ومراعاة أموره، وردع من جفا عليه بقول أو فعل. والتبرك بآثاره. ولنذكر الجزء الذي شرحناه من هذا الحديث الطويل: يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش؛ فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين, إن قريشاً قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإنهم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذووا الرأي منهم: هات ما سمعته، قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟! قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟! وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بك لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شي. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن؛ فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فم

تابع الفتح [10]

تابع تفسير سورة الفتح [10]

شرح حديث صلح الحديبية

شرح حديث صلح الحديبية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فقد قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الشروط: [باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط. حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى كانوا ببعض الطريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة؛ فخذوا ذات اليمين)، فوالله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها، بركت به راحلته، فقال الناس: حل! حل! فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله! مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره)، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً، قال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرونا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم! ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لـ بديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس، خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة يده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! ألست أسعى في غدرتك، وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فوالله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له! وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر)، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو. قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سهل لكم من أمركم). قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي؟ ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)، فقال سهيل: والله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله)، قال الزهري: وذلك لقوله: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها). فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به)، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب].

إتيان صاحب بني كنانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

إتيان صاحب بني كنانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم انتهينا في شرح هذا الحديث عند قول عروة لما رجع إلى أصحابه وقال: أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك إلى قوله: وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته. قوله: (فقال رجل من بني كنانة) وفي رواية: فقام الحليف، وقيل: إنه من رءوس الأحابيش، وقال: أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، فقام رجل من بني كنانة فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن - يعني: الجمال- فابعثوها له) يعني: أثيروها دفعة واحدة. وزاد ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: سلك هذه الطريقة ليبين لهذا المبعوث أنهم ما أتوا لقتال وإنما أتوا معتمرين، وآية ذلك أن الرسول عليه السلام أمرهم أن يدفعوا البدن دفعة واحدة حتى يراها، ثم إن البدن كانت مقلدة ومشعرة، وهذا يؤكد أنهم ما أتوا لقتال؛ فلذلك لم يصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يقترب منه حتى عاد إليهم ليحذرهم. وفي مغازي عروة عند الحاكم: فقام الحليف -يعني: لما رأى الجمال بهذه الهيئة- فقال: هلكت قريش ورب الكعبة، إن القوم إنما أتوا عماراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك)، وهذا لا يتعارض مع قوله: ولم يصل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني: لعله يحتمل أن يكون الرسول خاطبه من بعد لما قال: هلكت قريش ورب الكعبة! إن القوم إنما أتوا عماراً أي: استعظم كيف يأتون محرمين بهذه الهيئة ثم يصدون عن البيت! وكانوا يعرفون في الجاهلية أن هذا سبب من أسباب الهلكة، فقال: (هلكت قريش ورب الكعبة)؛ لأنهم يصدون من قصد هذا البيت للعمرة، فلذلك قال له النبي عليه السلام: (أجل يا أخا بني كنانة! فأعلمهم بذلك). يقول: فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له)، واستقبله الناس يلبون -حتى يشعروه بأنهم ما أتوا إلا للاعتمار- فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! لا ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت! فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. والتقليد في هذا السياق هو التقليد للبدن يعني: أن يعلق في عنق الهدي قطعة من جلد وغيره يكون علامة على أنه هدي، وأما الإشعار فهو أن يطعن صفحة سنام الإبل اليمنى، وهي مستقبلة القبلة، ويلطخها؛ بالدم ليعلم أنها هدي، والتقليد والإشعار من تعظيم وإظهار شعائر الله، وربما أحياناً يضع بعض الناس على الجمال نوعاً من القماش الأبيض إشارة أيضاً إلى أنها هدي، والإشعار أيضاً علامة على أن هذا الهدي مسوق إلى بيت الله عز وجل، فهذه من أمارات إظهار شعائر الله سبحانه وتعالى. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. وزاد ابن إسحاق: وغضب وقال: يا معشر قريش! ما على هذا عاقدناكم! أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟! فقالوا: كف عنا -يا حليف - حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى. ويؤخذ من هذا أن كثيراً من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم، وكانوا ينكرون على من يصد عن ذلك، وهذه من بقايا دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

إرسال قريش مكرز بن حفص إلى رسول الله

إرسال قريش مكرز بن حفص إلى رسول الله قال: فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا مكرز وهو رجل فاجر). قيل: إن وصفه بالفجور له أكثر من سبب منها: أنه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلاً، فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس، وانفلت منهم مكرز، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك. فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا). فحين بعثت قريش سهيل بن عمرو فهذه أمارة على أنهم وافقوا على عقد معاهدة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إرسال قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح

إرسال قريش سهيل بن عمرو لعقد الصلح وفي حديث سلمة بن الأكوع قال: (بعثت قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رأى النبي سهيلاً قال: (قد سهل لكم من أمركم) يعني: تفاؤلاً باسمه، فأتى سهيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم -يقول الزهري في حديثه- فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً يعني: هلم نعقد عقد المصالحة هذا؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب). قوله: (فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتاباً) وفي راوية ابن اسحاق: (فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهم القول -التصالح- حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم هذا). وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقيل: لا تجاوز عشر سنين، استدلالاً بهذا الحديث، وهو قول الشافعي والجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثاً، وقيل: سنتين، والأول هو الراجح والله تعالى أعلم، وهو مذهب الجمهور ومنهم الشافعي أن المدة لا تزيد عن عشر سنوات، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب -والكاتب هو علي رضي الله تعالى عنه- فقال له: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)، يملي على علي أن يكتب نص عقد الصلح، فأملاه: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولذلك قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وهذا الكفر باسم الرحمن كان عناداً منهم، وإلا ففي أشعارهم ما يدل على أنهم يعرفون أن من أسماء الله عز وجل الرحمن. فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي! ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال: (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) (قاضى) بوزن فاعل من قضيت الشيء، أي: فصلت الحكم فيه، وفيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والرد على من منعه معتلاً بخشية أن يظن أنها نافية، نبه عليها الخطابي أي: أن بعض الناس كره استعمال كلمة: (هذا ما قاضى)؛ لأنه يمكن أن يفسرها أحد الطرفين بالنفي فيكون معناها: الذي لم يقاض عليه، لكن (ما) هنا ليست نافية، بل موصولة، (هذا ما قاضى) يعني: هذا الذي قاضى عليه، فهذا الحديث دليل على جواز استعمال عبارة: هذا ما قاضى عليه كذا وكذا. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني)، هذا لن يغير في الحقيقة شيئاً، فبعد شهادة الله عز وجل لرسوله عليه السلام بالرسالة وبالشهادة وبالصدق، فهو مستغن عن شهادة غيره، فقال: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله). قال الزهري: وذلك لقوله، يعني: تساهل معهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه منذ البداية تعهد وأقسم: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، وما المقصود بحرمات الله؟ قلنا: يحتمل أن تكون حرمة الإحرام، وحرمة الشهر، وحرمة البدن، وقلنا: إن هذا القول مرجوح، والمقصود بالحرمات هنا صلة الرحم وحقن الدماء، وإلا فجميع العلماء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أقسم وقال: (والله لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله) فالواو هنا بمعنى الفاعل، والمراد: المشركين، لو كانوا يعظمون الإحرام أو الحرم أو الشهر ما كانوا صدوهم من الأصل، ولكن المقصود بالحرمات هنا: صلة الرحم والقرابة بينهم وبين المسلمين. وبسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أقسم وقال: (لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها) فلأجل ذلك تساهل معهم، وتجاوز عن كتابة البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، وتجاوز عن إثبات (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله). فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) يعني: من شروط الاتفاق: أن تتركونا ولا تحولوا بيننا وبين الطواف في البيت وأداء العمرة، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة. هذه هي حمية الجاهلية، يعني: كيف يشيع في العرب أنكم أتيتم وأكرهتمونا على أن تأتوا وتعتمروا، لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة أي: قهراً، وفي رواية ابن إسحاق: أنه دخل علينا عنوة. قال: ولكن ذلك من العام المقبل، يعني: العام المقبل تأتونا، ونسمح لكم بدخول مكة لأداء العمرة، فكتب. فقال سهيل - وهذه مادة أخرى من مواد الاتفاق-: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. أي: من شروط المعاهدة أن أي رجل من قريش يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى لو كان مسلماً فتتعهد أن ترده إلينا. وفي رواية ابن إسحاق: على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه. وفي الظاهر هذا فيه غاية الإجحاف بالنسبة للمسلمين، يعني: أنهم اشترطوا عليه: أنه لو أتاك رجل من مكة إلى المدينة مهاجراً مسلماً فلا بد أن ترده إلينا، ومن أتانا من عندك لا نرده إليك؛ فقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟! كيف نوافق على هذا البند المجحف؟ كيف نرد رجلاً أتانا من المسلمين إلى المشركين وقد جاءنا مسلماً؟! يقول الحافظ رحمه الله تعالى: زاد ابن إسحاق في قصة الصلح بهذا الإسناد: (وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة) يعني: أمراً مطوياً في صدور سليمة، فتترك المؤاخذة لما تقدم بينهم من أسباب الحروب وغيرها، كأنه قال: عفا الله عما سلف لما حصل بيننا من الحروب والاحتكاكات، ونحافظ على العهد الذي وقع بيننا. قال: (وأنه لا إسلال ولا إغلال) يعني: لا سرقة ولا خيانة، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سراً وجهراً. وقال ابن إسحاق في حديثه: (وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه) يعني: من القبائل التي تريد أن تتحالف مع الرسول عليه السلام أو مع قريش. فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. قال: (وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها في أصحابك فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيره). قال ابن إسحاق: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل، وقد قال سهيل: على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وقال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو: يعني: ابن سهيل بن عمرو نفسه، وكان قد حبسه في مكة، وكان يعذبه عذاباً شديداً لأنه أسلم، فبينما هم يتباحثون هذه المباحثات إذا بـ أبي جندل بن سهيل بن عمرو قد هرب من المحبس الذي حبسه فيه، وجاء يركض في أغلاله، وهي أغلال ثقيلة كانت عليه، وهو يمشي ببطء حتى ألقى نفسه أمام النبي عليه السلام وأمام الصحابة. يقول: فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يركض في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل أبوه: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد) قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: (ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به). قال عمر: (فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه، فوالله! إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً. أي: هذا الموقف كان عمر يندم عليه؛ لأنه راجع الرسول عليه السلام هذه المراجعة ولم يسلم وينقاد لحكمه من أول وهلة، فاعتبر هذه معصية، فأخذ يكثر من الأعمال الصالحة حتى تكفر عنه ما فعله في هذا الم

رد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل أثناء الصلح

رد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل أثناء الصلح قوله: (فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل) جندل على وزن جعفر، وكان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، وهذه سنة، فالأسماء المنفرة أو القبيحة من السنة أن تغير إلى اسم أفضل، فهذا الرجل أبو جندل كان اسمه العاصي فغيره عندما أسلم، ولزمته هذه الكنية: أبو جندل، وله أخ اسمه عبد الله أسلم قديماً، وحضر مع المشركين بدراً ففر منهم، وانضم إلى جيش المسلمين في بدر، ثم كان معهم بالحديبية، واستشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، وأما أبو جندل فكان حبس بمكة ومنع من الهجرة وعذب بسبب الإسلام. وفي رواية: (فإن الصحيفة لتكتب إذ طلع أبو جندل بن سهيل وكان أبوه حبسه فأسلم). وفي رواية عن عروة: (وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم، فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين، ففرح به المسلمون وتلقوه، فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فإنه ثقيل، فهذا معنى (يرسف) يعني: يمشي مشياً بطيئاً بسبب القيد، فقال سهيل: هذا -يا محمد- أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي، وفي رواية ابن إسحاق: فقام سهيل بن عمرو إلى أبي جندل -ابنه- فضرب وجهه وأخذ يلببه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد)، قال: فوالله إذاً لا أصالحك على شيء أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي)، من الإجازة يعني: استثنيه أو سامح في هذا، وفي بعض الروايات: (فأجره لي). وفيه: أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، فالعبرة باللفظ حتى لو تأخرت الكتابة عن الكلام والإشهاد، ولأجل ذلك أمضى النبي صلى الله عليه وسلم لـ سهيل الأمر في رد ابنه إليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تلطف معه بقوله: (لم نقض الكتاب بعد) رجاء أن يجيبه لذلك، ولا ينكره بقية قريش لكونه ولده، فلما أصر على الامتناع تركه له؛ لأنهم كانوا قد اتفقوا على هذا البند. قال: (فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل)، هذا نوع من التلطف به والإلحاح (بلى فافعل) قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بلى قد أجزناه لك، ومكرز كان شريكاً له في الوفد المفاوض، وليس معنى قوله: (أجزناه لك) أن نتركه عندك، لا، فالمعنى: نأخذه لكن لا نعذبه، فالتزموا على أنهم لا يعذبوه، فهو أراد أن يظهر أنه ليس متصفاً بالصفة التي أخبر عنه النبي عليه السلام بقوله: (وهو رجل فاجر)، فهو يريد أن يقول أنه ليس بفاجر، وأنه موافق على أن يجيبه. قال أبو جندل: (أي معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله). زاد ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً). يعني: ما دمنا عقدنا عقداً فلا بد أن نلتزم به؛ لأن الرسول عليه السلام لم يوافق على أنه إذا جاءه مسلم يقهره على أن يعود إلى الكفر، لكن هو فقط لا يقبله التزاماً بهذا العقد، ووفاءً بالقسم الذي أقسمه أنهم لا يدعونه إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله إلا أجابهم إليها، فقال: (يا أبا جندل! اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً). وفي رواية أبي المليح: (فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، عمر اقترب منه وأخذ يقول له: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، ويدني بقائم السيف منه؛ يحرضه ليأخذ السيف ويضرب به أباه، فانظر إلى هذا الفعل من عمر! فـ عمر كان لا يستطيع أن يصرح له بقلته احتراماً للعهد، وحتى لا يغدر، فهو يعرض له بطريقة غير صريحة، حتى لا يكون ذلك طعناً في العقد. قال: (فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر فإنما هم مشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب قال: ويدني قائم السيف منه، قال عمر: رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه؛ فضن الرجل بأبيه) يعني: بخل بأبيه، وعز عليه أن يقتل أباه. قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم تمكنه التورية، يعني: السبب أن الرسول عليه السلام رده إليهم أن له سعة ورخصة في أن يتقيهم كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فيستطيع أن يستعمل التقية أو التعريض والتورية بحيث يوهم أنه ما زال مثلهم؛ حتى لا يصيبه الأذى الذي يصيبه، يعني: له سعة ورخصة في أن يكف عنه الأذى عن طريق التورية والتعريض، فلم يكن رده إليهم تسليماً لـ أبي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية. الوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، وغالب الظن أن أباه لا يبلغ به الهلاك، ومهما عذبه فلن يبلغ به إلى حد أن يهلكه. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به عباده المؤمنين، واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلماً من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم لما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وأن الذي وقع في قصة الحديبية منسوخ، وأن ناسخه حديث: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين ظهراني المشركين)، هذا قول الحنفية، وعند الشافعية تفصيل: فالعاقل يرد، والمجنون والصبي لا يردان، وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب، والله تعالى أعلم.

مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر

مراجعة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى) وزاد الواقدي من حديث أبي سعيد قال عمر: (لقد دخلني أمر عظيم، وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط)، وفي حديث سهل بن حنيف فقال عمر: (ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟! فقال: (يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولن يضيعني الله)، فرجع عمر متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر، وظل يردد نفس العبارات لـ أبي بكر، والعجيب أن أبا بكر رد بنفس الأجوبة مع أنه لم يكن حاضراً الموقف! وهذا التوافق في هذه الردود من أمارات شدة المحبة. قوله: (فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر) وفي رواية أخرى: فقال عمر: (اتهموا الرأي على الدين) يعني: يحذر المسلمين من أن يقابلوا أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام وخبر الله وخبر رسوله بالتكذيب، فيجب على المسلم أن يسلم لأمر الله ورسوله عليه السلام، ولا يكون له الخيرة في أمره إذا قضى الله ورسوله أمراً، فيقول للصحابة: خذوا درساً وعبرة من موقفي هذا! وفي رواية ابن إسحاق: كان الصحابة لا يشكون في الفتح؛ لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في آخر سورة الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27]، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وعند الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت، فلما رأوا أن ذلك في السنة المقبلة شق عليهم ذلك. ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، فيجوز للإنسان أن يسأل ويناقش إلى أن يتضح له المعنى؛ بدلالة هذا الحوار بين النبي عليه السلام وبين عمر، وبين عمر وأبي بكر رضي الله تعالى عنهما وعن الصحابة أجمعين. ويستفاد منه: أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد. وهذا مأخوذ من قوله: (أأخبرتك أنك آتيه العام) يعني: أأخبرتك أنك تأتيه هذا العام؟ لكن هذا وعد، وهل هو موعد في وقت معين؟ لا، يعني: أنا أخبرتك أنك سوف تأتي البيت وتطوف به، لكن هل ذكرت لك الوقت الذي سوف تدخله؟ قال: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به)، فهذا دليل على أن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى تظهر إرادة التخصيص والتقييد، وإذا لم يرد مخصص ولا مقيد فالكلام على عمومه. وفيه: أن من حلف على فعل شيء ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته.

ثبات أبي بكر وموقفه الراسخ في صلح الحديبية

ثبات أبي بكر وموقفه الراسخ في صلح الحديبية قوله: (فأتيت أبا بكر): لم يذكر عمر أنه راجع أحداً في ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ وذلك لجلالة قدره، وسعة علمه عنده، ومثل هذه المواقف تثبت فعلاً أن أبا بكر هو الرجل الثاني في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتجد في سيرة أبي بكر العقل والثبات مع ما لـ عمر رضي الله عنه من الفضائل، لكن عمر بعد أبي بكر في الترتيب. ومن ذلك أيضاً موقف عمر عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حين تقارن بين موقف أبي بكر وموقف عمر رضي الله تعالى عنهما، وموقفهما عند قتال أهل الردة؛ هذه المواقف بلا شك تبين فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على عمر. وجواب أبي بكر لـ عمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء، دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى. ومواقف أبي بكر في هذا كثيرة جداً منها: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قبيل وفاته صعد المنبر وقال: (إن عبداً قد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله)، فبكى أبو بكر في الحال، فتعجب الصحابة لبكائه! فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (هناك عبد خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله) فلماذا يبكي أبو بكر؟! A لأن أبا بكر كان أفهم الصحابة وأعلمهم، وأحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكملهم، ففهم أبو بكر من ذلك أن هذا العبد هو الرسول عليه السلام، وأنه على وشك أن يفارقهم، وأن الرسول كان ينعي نفسه إلى الصحابة رضي عنهم، لكن لم يفقه هذا إلا أبو بكر؛ لأنه أعرف الناس بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى. والمسلمون استنكروا الصلح المذكور، وقاموا على رأي عمر في ذلك، وسيأتي في حادثة الحلق وفي بقية القصة أن عامة المسلمين كانوا على موقف عمر فقد كانوا مبهوتين ومذهولين من هذا الموقف، واختص أبو بكر رضي الله تعالى عنه بهذا الموقف الثابت الحكيم الرائع، واستنكر المسلمون الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك. وظهر من هذا الفصل أن الصديق رضي الله عنه لم يكن في ذلك موافقاً له بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواءً، والدليل في هذا التطابق في العبارات، والردود التي وجهها النبي عليه السلام لـ عمر حين راجعه هي نفسها سواءً بسواء الردود التي ذكرها أبو بكر معه ويعني أبو بكر لم يكن حاضراً ذلك، وهذا يذكرنا بحادثة ابن الدغنة الذي وصف أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بنظير ما وصفت به خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تمام الموافقة من علامة المحبة، فالمحبة هي التوافق في كل شيء، فتجد المتحابين بينهما التوافق الغريب والعجيب، فـ خديجة لما وصفت الرسول عليه السلام قالت: (والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) وكذلك ابن الدغنة لما أراد أبو بكر أن يخرج من مكة أبى ذلك وقال له: إنك يا أبا بكر لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل إلى آخره، نفس العبارات التي قالتها خديجة رضي الله تعالى عنها، فاتفقت الصفات المتناسبة تماماً، وهكذا شأن المحبين التوافق في الصفات! يقول: (فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟! قال: أيها الرجل! إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق) والغرز للإبل بمنزلة الركب للفرس، والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركب الفارس لا يفارقه. قال عمر (أليس كان يحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به). قال الزهري: قال عمر: (فعملت لذلك أعمالاً) يعني: من الذهاب والمجيء والسؤال والجواب، وفي قول في تفسير (فعملت لذلك أعمالاً): أنه كان في حالة اضطراب شديد بسبب مراجعته في هذا الموقف، ولم يكن ذلك شكاً من عمر، بل حثاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الدين. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعدما حكى هذا القول عن بعض القراء: وتفسير الأعمال بما ذكر مردود -يعني التفسير بالذهاب والمجيء والسؤال والجواب إلى آخره- يقول: بل المراد به: الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداءً. وقد ورد عن عمر التصريح بمراده بقوله: (أعمالاً)، ففي رواية ابن إسحاق: وكان عمر يقول: (ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ) يعني امتثالاً لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: (لقد أعتقت بسبب ذلك رقاباً وصمت دهراً). إذاً: المقصود من قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فعملت لذلك أعمالاً) لا يمكن أن يكون المراد بالأعمال أنه استمر يذهب ويجيء ويسأل ويحاور على سبيل الشك، وإنما على سبيل طلب الحكمة في هذا الأمر، ورفع الالتباس، وهذا القول مردود بدليل أن عمر صرح بمراده بهذه الأعمال، وهو أيضاً لم يذهب ولم يراجع إلا أبا بكر بعد الرسول عليه السلام؛ لأنه يعلم أن أبا أبكر أعقل الناس وأعلمهم وأفقههم، ولم يرجع بعد ذلك إلى أن يسأل أيضاً، فلم يتردد على أحدٍ من الصحابة بعد أبي بكر، والله تعالى أعلم. والراجح أن نقاش عمر رضي الله تعالى عنه لا يمكن أن يكون شكاً في النبوة؛ لأن رواية ابن إسحاق فيها: أن أبا بكر لما قال له: (الزم غرزه، فإنه رسول الله) قال عمر: (وأنا أشهد أنه رسول الله)، وأيضاً الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إني رسول الله ولست أعصيه)، إيماءً إلى أن هذا الفعل إنما فعله عن وحي يوحى. يقول الحافظ: والذي يظهر أنه توقف ليقف على الحكمة في القصة، وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره في قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي وإن كان في الأولى لم يطابق اجتهاده الحكم، بخلاف الثانية، فلعل عمر طمع في أن يوافقه الوحي كما وافقه في أكثر من مناسبة، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه، بل هو مأجور؛ لأنه رضي الله عنه مجتهد فيه.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنحر والحلق في الحديبية

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنحر والحلق في الحديبية يقول: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله! ما قام منهم رجل. كانوا في حالة من الغم والاكتئاب والحزن؛ بسبب ما شعروا أن الصلح هضم للمسلمين وإجحاف بهم. قال: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً). قوله: فلما فرغ من قضية الكتاب، وزاد ابن إسحاق: فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين، ومنهم: أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهم ومكرز بن حفص وهو مشرك. قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وهم في حالة إحرام، وقد أحصروا عن البيت، وحال العدو بينهم وبين البيت، ومن أحكام الإحصار التحلل، فكان يجب أن يتحللوا ويحلقوا، فهم تباطئوا لشدة الغم والحزن من هذا الموقف، كيف بعد هذه المدة من الحرمان من البيت والكعبة أن يحال بينهم وبين الطواف؟! وقد كان عندهم أمل عظيم، وهم مستعدون أن يقاتلوا في سبيل أن يصلوا إلى الكعبة ويعتمروا فيها، فهذا كان سبب الصدمة الشديدة التي عانوا منها، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام بعدما فرغ من العقد والكتاب: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون يعني: إلى جهة الحرم، وكان يمكن أن يرسلوا الهدي إلى الحرم ويواعدوا شخصاً يأخذه وينحره في وقت معين. يقول: فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون -يعني إلى جهة الحرم- حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]، فمنعوا هذا الهدي أن يبلغ محله وهو داخل الحرم، فالمشركون منعوه من ذلك؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بالنحر في نفس المكان الذي هم فيه؛ حتى يتحللوا من الإحرام. قوله: (فوالله ما قام منهم رجل) قيل: كأنهم توقفوا عن الامتثال لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو تباطئوا رجاء نزول الوحي لإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك؛ لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن يكونوا ألهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة. يعني: كانوا في حالة من الاندهاش والاستغراق في التفكير فيما ألم بهم، خاصة أنهم قادرون على أن يقاتلوا المشركين، وأن يصلوا إلى الكعبة بعد هذا الحرمان لسنوت طويلة، وحيل بينهم وبين العمرة أو الحج، فلذلك كانوا في غاية الغم والحزن والشعور بالذل، مع ظهور قوتهم واعتقادهم أنهم قادرون على أن يغلبوهم ويقهروهم، ويدخلوا إلى البيت الحرام أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور كما سيأتي من كلام أم سلمة، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب؛ لما يتطرق القصة من الاحتمال، والدليل إذا قارنه الاحتمال سقط به الاستدلال. فالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما قال لهم ذلك ثلاث مرات ولم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، وفي رواية ابن إسحاق فقال لها: (ألا ترين إلى الناس! إني آمرهم بالأمر فلا يفعلونه!)، وفي رواية: (فاشتد ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا!)، قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـ أم سلمة: انكشف العذاب عنهم والإهلاك برأي أم سلمة الرأي الصائب والحكيم هو الذي رفع عنهم هذا الحرج، وهذا الضيق والهلاك الذي أوشك أن ينزل بهم. قال: فجلى الله عنهم يومئذ بـ أم سلمة رضي الله عنها، فلما شكا إلى أم سلمة ما وجده من الناس، قالت أم سلمة: (يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم) زاد ابن إسحاق: قالت أم سلمة: (يا رسول الله! لا تكلمهم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح) يعني: هم في حالة إحباط شديد مستغرقين ومدهوشين مما يحصل، فـ أم سلمة التمست العذر للصحابة رضي الله تعالى عنهم، قالت: (يا رسول الله! لا تكلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح) ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، ويحتمل أنها فهمت أن الصحابة فهموا أن الرسول عليه السلام لما بقي على حالة الإحرام وهم محرمون أيضاً، فلما أمرهم أن يحلوا هم، رأوا أن الرسول عليه السلام لم يتحلل، وهم سوف يتحللون، ولذلك جاءت نصيحتها صائبة تماماً حتى تذهب هذا الوهم، فلما حل من إحرامه كأنه قال: حتى أنا سأتحلل وسيجري عليكم ما سيجري علي، فربما كانوا فهموا قبل نصيحة أم سلمة رضي الله عنها أنهم هم الذين سيتحللون أما الرسول فسيبقى على إحرامه. يقول الحافظ: ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، وأنه هو سيستمر على الإحرام أخذاً بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر. وفيه فضل المشورة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شاور أم سلمة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقاً أبلغ من القول، لكن الفعل إذا انضم إلى القول يكون أقوى من القول المجرد. وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة، خلافاً لأحاديث كثيرة موضوعة في هذا الأمر، مثل حديث: (شاوروهن وخالفوهن، فإن في مخالفتهن البركة)، ولا شك أن بعضهن كذلك، ولكن قد تكون المرأة عاقلة كـ أم سلمة، وممكن أن المرأة تتفوق على مئات من الرجال: فلو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال عموماً هذا موقف عظيم رواه البخاري، فالرسول عليه السلام أخذ بمشورة أم سلمة، ومن سيرتها يعلم أنها امرأة عاقلة وحكيمة، وآتاها الله سبحانه وتعالى رجاحة العقل، ونحن نعرف أن كثيراً من النساء تقاس بمئات من الرجال؛ لرجاحة عقولهن وقوة رأيهن، لكن إن كن بخلاف ذلك فينبغي الحذر. وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة وفضل أم سلمة ورجاحة عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة! وهذه مبالغة من إمام الحرمين، وإلا فنحن نستطيع أن نأتي بأدلة من القرآن والسنة والسيرة والتاريخ بخلاف ذلك، فمن ذلك: بلقيس كانت امرأة عاقلة في غاية الرجاحة، وانتهى بها عقلها إلى أن أسلمت مع سليمان لله رب العالمين. كذلك ابنة شعيب في قصة موسى ما كان أعقلها في قولها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فهذه من المشورة الصائبة، وأي شرف أعظم من أن يصاهر الرجل نبي الله وكليمه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟! كذلك امرأة فرعون لما قالت له: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد). أيضاً في العصر المتأخر من النساء اللاتي رجح عقلهن زوجة الإمام محمد بن سعود أمير الدرعية واسمها موضي بنت وهطان، فعندما أوى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إلى الأمير محمد بن سعود في الدرعية يستنصره ويطلبه بأن يساند هذه الدعوة بقوته وبأسه؛ كانت امرأته عاقلة جداً، ومن نوادر النساء، فقد انفردت بزوجها وشجعته، وكان من إخوته من هم تلامذة لشيخ الإسلام، فأتى أخواه وكلما زوجته أن الأمير محمد بن سعود لو أيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سيكون ذلك فتحاً كبيراً، ونصراً عظيماً للإسلام، فرغبت هي زوجها وشجعته على أن يؤوي شيخ الإسلام رحمه الله ويحميه، وبسبب ذلك وقعت هذه الحركة التجديدية التي لم يأت مثلها حتى اليوم وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى. ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمر

دخول الناس في الإسلام بعد صلح الحديبية

دخول الناس في الإسلام بعد صلح الحديبية في رواية الزهري: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح، قال الزهري: فما فتح في الإسلام قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس؛ كلم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه. فهذا هو معنى كون صلح الحديبية فتحاً حقاً وصدقاً؛ لأن السيوف توقفت، وبالتالي بدأ إعمال العقول، وبدأ التفكير، وانطفأت حمية الجاهلية، يقول الإمام الزهري: فما في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس، كلم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه. يعني: ما وجهت الدعوة في خلال تلك الفترة لأحد عنده شيء من العقل حتى لو كان عقله ضعيفاً، لكن عنده شيء من العقل إلا استجاب، فما بالك بمن عنده عقل وافر؟! يقول: لم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. يعني: تضاعف عدد المسلمين في خلال سنتين، فصلح الحديبية كان سنة من الهجرة، فهو يقصد بتينك السنتين: مدة الصلح، فقد كانت سنتين فقط؛ لأن المشركين نقضوه بعد مرور سنتين، وهم اتفقوا على مدة عشر سنين، لكن حصل أنهم نقضوا العهد، فبالتالي حصل فتح مكة بعد سنتين في سنة 8 من الهجرة، فالإشارة إلى أن الواقع أن هذا الصلح استمر سنتين فقط؛ لأن المشركين نقضوا العهد وغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأحلافه، هذا هو المقصود. يقول هنا: ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. يعني: من صناديد قريش. ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجاً، وكانت الهدنة مفتاحاً لذلك، ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحاً -كما سيأتي في المغازي-؛ فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقاً حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، يعني: هذا الصلح كان في الظاهر شراً لكنه في الحقيقة كان خيراً عند النظر للعاقبة. قال: وكان في الصورة الظاهرة ضيماً للمسلمين، وفي الصورة الباطنة عزاً لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة!

هجرة النسوة المؤمنات حال الصلح

هجرة النسوة المؤمنات حال الصلح يقول: ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] حتى بلغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية.

هروب أبي بصير من مكة إلى المدينة

هروب أبي بصير من مكة إلى المدينة قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير -رجل من قريش- وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين -وهو غير أبي جندل، هرب من مكة إلى المدينة- فأتوا النبي عليه السلام فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فمن بنود المعاهدة: أن من أتاك من عندنا ولو كان على دينك فلابد أن ترده إلينا، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، يعني: سلمه لهما النبي صلى الله عليه وسلم، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة. قوله: (ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير وهو رجل من قريش) عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة. فمعنى قوله: (رجل من قريش) يعني: من الحرم؛ لأن بني زهرة من قريش. (فأرسلوا في طلبه رجلين) وفي بعض الروايات: فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، فقالا للنبي عليه الصلاة والسلام: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، وفي رواية ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بصير! إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك فقال: أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني ويعذبونني؟! قال: اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً). وفي رواية أبي مليح: (فقال له عمر -وهذه قصة عمر مرة أخرى-: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف) وهذا أوضح في التعريض لقتله، واستدل بعض الشافعية بهذه القصة على جواز دفع المطلوب لمن ليس من عشيرته إذا كان لا يخشى عليه منهم؛ لكونه صلى الله عليه وسلم دفع أبا بصير للعامري ورفيقه، ولم يكونا من عشيرته ولا من رهطه، لكنه أمن عليه منهما؛ لعلمه بأنه كان أقوى منهما، ولهذا آل الأمر إلى أنه قتل أحدهما وأراد قتل الآخر. وفيما استدل به لذلك نظر؛ لأن العامري ورفيقه كانا رسولين من قريش، ولو كان فيهما ريبة لما أرسلهما من هو من عشيرته. وأيضاً وقع في رواية أبي مليح: جاء أبو بصير مسلماً وجاء وليه خلفه فقال: يا محمد! رده علي، فرده. المهم أنه دفعه لهذين الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله! إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت به، ثم جربت به! فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: (لقد رأى هذا ذعراً)، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم) يعني: أوفى الله ذمتك فأنت لم تغدر فقد سلمتني لهم، لكن هأنذا الآن عائد إليك مرة ثانية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر. قوله: (فنزلوا يأكلون من تمر لهم) وفي رواية الواقدي: (فلما كانوا بذي الحليفة دخل أبو بصير المسجد فصلى ركعتين وجلس يتغدى ودعاهما فقدم سفرة لهما فأكلوا جميعاً). قوله: (فقال أبو بصير لأحد الرجلين) وقوله: (فاستله الآخر) يعني: صاحب السيف أخرجه من غمده، قوله: (فأمكنه منه) أي: بيده، قوله: (فضربه حتى برد) أي: حتى خمدت حواسه، وهذا كناية عن الموت؛ لأن الذي يموت يبرد جسمه، لأن الميت تسكن حركته، وأصل البرد السكون، وفي رواية ابن إسحاق (فعلاه حتى قتله). قوله: (وفر الآخر) وفي رواية أخرى: (وخرج المولى يشتد) أي: هرب. قول النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه: (لقد رأى هذا ذعراً) أي: خوفاً، وفي رواية: (فزعاً)، فقال: قتل والله صاحبي، وفي رواية أخرى: (قتل صاحبكم صاحبي وإني لمقتول) يعني: إن لم تردوه عني، وعند الواقدي: (وقد أفلت منه ولم أكد). وفي رواية: فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما فأوثقاه حتى إذا كان ببعض الطريق ناما، فتناول السيف بفيه فأمره على الوثاق فقطعه، وضرب أحدهما بالسيف، وطلب الآخر فهرب، والأول أصح، يعني: الرواية التي ذكرناها آنفاً هي الأصح. وعند ابن عائذ في المغازي: وهرب الآخر وأتبعه أبو بصير، فبالتالي هو يجري وأبو بصير وراءه حتى وصل إلى المدينة، حتى دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف عورته، والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه وأبو بصير يتبعه. فجاء أبو بصير فقال: (يا نبي الله! قد والله أوفى الله ذمتك) يعني: ليس عليك منهم عقاب فيما صنعته أنا، وفي رواية: فقال أبو بصير: (يا رسول الله! عرفت أني إن قدمت إليهم فتنوني عن ديني؛ ففعلت ما فعل، وليس بيني وبينهم عهد ولا عقد). وفيه أن للمسلم الذي يجيء من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله العامري، ولا أمر فيه بقود ولا دية. وكما قلنا: يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، يعني: حينما يكون التفسير للمجموع لا شك أن المعادلة تختلف، وتحتاج إلى موازنات واعتبارات بخلاف ما لو كان الشخص مسئولاً عن نفسه، وبخلاف ما لو كان هو يتصدر باسمه نفسه وحده، ففي هذه الحالة يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، وهذه الحادثة دليل واضح على هذه القاعدة المهمة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مسعر حرب! لو كان له أحد)، (ويل أمه)، هذه كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم، يعني: ظاهرها هي فيها ذم (ويل أمه) ولكن أحياناً يستعملونها في المدح؛ لأن الويل هو الهلاك، فهو كقولهم: لأمه الويل. قال بديع الزمان في رسالة له: والعرب تطلق (تربت يمينه) في الأمر إذا أهم، ويقولون: (ويل أمه) ولا يقصدون الذم، والويل: يطلق على العذاب والحرب والزجر، وفي حديث أن الرسول قال للأعرابي: (ويلك)، وأصل قولهم: (ويل فلان) يعني: وي لفلان، فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت ويل، وهي أصلاً: وي لفلان، فلما كثر استعمالها ألحقوا اللام بالياء فصارت (ويل)، وقيل: إن (وي) كلمة تعجب، وهي من أسماء الأفعال، واللام بعدها مكسورة، ويجوز ضمها اتباعاً للهمزة وحذفت الهمزة تخفيفاً، والله تعالى أعلم. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه مِسعر حرب)، قال الخطابي: يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها. (ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد) يعني: لو كان له أحد ينصره ويعاضده ويناصره، والمراد: هذا الرجل لو انضم إليه رجل مثله فسيشعلونها ناراً وحرباً، وفي رواية الأوزاعي: (لو كان له رجال)، فلقنها أبو بصير أي: التقط هذه الكلمة، (فانطلق وهرب)، ففيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، فهذه إشارة إليه بأنك إن بقيت هنا سنسلمك، وإن كنت تستطيع أن تفر ففر، وأيضاً لو انضممت لأحد سيكون ما يكون، فكأنه أشار عليه بالفرار دون أن يصرح بذلك، لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، فإن المسلمين على هذه الظروف سيأتون من مكة إلى المدينة، فلذلك عليهم أن يتجمعوا مع بعض، ولن نكون مسئولين عنهم، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم: يجوز التعريض بذلك لا التصريح، كما في هذه القصة، والله أعلم. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، أي: ساحل البحر، وعين ابن إسحاق المكان الذي نزل فيه فقال: وكان طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل وهو قريب من بلاد بني سليم، قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بـ أبي بصير وكان مأسوراً في مكة، فلما هرب أبو بصير استطاع أن يهرب أيضاً، فلحق بـ أبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بـ أبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم: يعني عملوا جميعاً حرب عصابات، كلما تأتي قافلة من قريش ذاهبة إلى الشام بالتجارة يقطعون عليها الطريق، ويأخذون ما معهم، ويقتلون المشركين. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه سلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، أي: من يأتيك إلى المدينة يكون آمناً، ولا ترده إلينا، فتراجعوا عن هذا الشرط! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]، حتى بلغ {الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26]) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. (فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم) يعني: أرسل إلى هذه العصابة من الصحابة، وفي بعض الروايات: (فبعث إليهم فقدموا عليه) وعند الزهري: فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير فقدم كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه إلى أن قال: وقدم أبو جندل ومن معه إلى المدينة فلم يزل بها إلى أن خرج إلى الش

من فوائد الحديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر

من فوائد الحديث التي ذكرها الحافظ ابن حجر شرح الإمام البخاري بعض الألفاظ الغريبة في الحديث، فقال: قال أبو عبد الله: معرة العر: الجرب. تزيلوا: تميزوا. وحميت القوم: منعتهم حماية، وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل. وأحميت الرجل إذا أغضبته. وهذا سوف يأتي إن شاء الله تفسيره في نهاية الكلام على سورة الفتح. ثم قال الحافظ خاتماً فوائد هذا الحديث -دون ما تقدم أثناء شرح الحديث-: أن ذا الحليفة ميقات أهل المدينة للحاج والمعتمر. وأن تقليد الهدي وسوقه سنة للحاج والمعتمر فرضاً كان أو سنة. وأن الإشعار سنة لا مثلة، والإشعار: هو جرح جانب السنام الأيمن، فهذا ليس من المثلة وإنما هو سنة. وأن الحلق أفضل من التقصير، وأنه نسك في حق المعتمر محصوراً كان أو غير محصور. وأن المحصر ينحر هديه حيث أحصر، ولو لم يصل إلى الحرم، ويقاتل من صده عن البيت، وأن الأولى في حقه ترك المقاتلة إذا وجد إلى المسالمة طريقاً. وفي هذا الحديث أشياء تتعلق بالجهاد منها: جواز سبي ذراري الكفار إذا انفردوا عن المقاتلة ولو كان قبل القتال. وفيه: الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش لطلب غرتهم، وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الطريق الوعر لدفع المفسدة وتحصيل المصلحة، واستحباب تقديم الطلائع والعيون بين يدي الجيوش، والأخذ بالحزم في أمر العدو لئلا ينالوا غرة المسلمين، وجواز الخداع في الحرب، والتعريض بذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان من خصائصه أنه منهي عن خائنة الأعين. وفيه: فضل الاستشارة من استقراء الرأي واستطابة قلوب الأتباع، وجواز بعض المسامحة في أمر الدين، واحتمال الضيم فيه ما لم يكن قادحاً في أصله، إذا تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال، والصلاح في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم. وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرف بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة ولاسيما مع من هو مؤيد بالوحي. وفيه: جواز الاعتماد على خبر الكافر إذا قامت القرينة على صدقه، قاله الخطابي مستدلاً بأن الخزاعي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عيناً له ليأتيه بخبر قريش كان حينئذ كافراً، قال: وإنما اختاره لذلك مع كفره ليكون أمكن له في الدخول فيهم، والاختلاط بهم، والاطلاع على أسرارهم، قال: ويستفاد من ذلك جواز قبول قول الطبيب الكافر. يعني: إذا علم منه الصدق في النصيحة. قلت: ويحتمل أن يكون الخزاعي المذكور كان قد أسلم ولم يشتهر إسلامه، وحينئذ فليس ما قاله دليلاً على ما ادعاه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

الفتح [11 - 16]

تفسير سورة الفتح [11 - 16]

تفسير قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا)

تفسير قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا) قال الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح:11]: قال الألوسي: قال مجاهد وغيره: المخلفون من الأعراب: هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم، والمقصود: أن هذه القبائل استنفرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً لتخرج معه؛ لأنه توقع أن تعرض له قريش بحرب أو أن يصدوه عن المسجد الحرام، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي؛ ليعلن للمشركين أنه لا يريد حرباً، ورأى أولئك الأعراب المخلفون أنه صلى الله عليه وسلم يستقبل عدداً عظيماً من: قريش، وثقيف، وكنانة، والقبائل المجاورة لمكة وهم: الأحابيش، ولم يكن الإيمان تمكن في قلوب هؤلاء الأعراب؛ فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا، وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوهم في عقر دارهم بالمدينة، وقتلوا أصحابه فنقاتلهم! إذا كان هؤلاء قد غزوه في عقر داره -يقصدون بذلك غزوة أحد وقد كانت في السنة الثالثة من الهجرة والحديبية كانت بعد ذلك بثلاث سنين في السنة السادسة من الهجرة- فلن يرجع محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من هذه السفرة، سيذهبون إلى مكة وسوف يستأصلهم المشركون استئصالاً بحيث لا يبقى منهم أحد، فهذا هو ظن السوء الذي ظنوه كما بين الله تبارك وتعالى، ففضحهم الله تعالى في هذه الآية: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا)، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، يعني: قبل أن يعود إليهم ويقابلهم أوحى الله سبحانه وتعالى إليه بما قالوه وبما سوف يقولونه؛ ولذلك جاءت الآية: (سيقول) في المستقبل (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) فلما وصلوا إليه كان الأمر كذلك، ووقع فعلاً ما أخبر به الله سبحانه وتعالى. والمخلفون: جمع مخلف، وهو: المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، مأخوذ من الخلف وضده: المقدم، فالمقدم يكون من الأمام، والمخلف: الذي يترك في المكان خلف الخارجين من البلد. والأعراب هم: سكان البادية من العرب لا واحد له، أي: سيقول لك المتروكون الغير خارجين معك معتذرين إليك: شغلتنا -عن الذهاب معك- أموالنا وأهلونا، إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ الأموال والأهل ويحميها عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ لأنه لا شك أن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال، فهذا ترقي من الأدنى إلى الأعلى: (شغلتنا أموالنا وأهلونا). (فاستغفر لنا) يعني: استغفر لنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك، حيث لم يكن لنا بد في طاعتك، وإنما كان ذلك الداعي وهو أننا خفنا على أموالنا وأهلينا. يقول الله سبحانه وتعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) وهذا هو النفاق المحض: أن يتغاير اللسان والقلب، فكلامهم خارج من طرف لسانهم، غير مطابق لما في القلوب والجنان، وهذا الكذب والإفك المشار إليه في قوله تعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) فهذا الكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم أنه لضرورة، فهذا كان كذباً منهم أنهم تخلفوا لأجل ضرورة داعية إلى التخلف، وهي القيام بمصالحهم التي لابد منها، وعدم وجود من يقوم بها لو ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين استنفرهم. كذلك (فاستغفر لنا) يتضمن اعترافهم بأنهم مذنبون، وأن دعاءه لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، والكذب هو أن حالهم لا يطابق الواقع بحسب الاعتقاد. قال ابن كثير: (فاستغفر لنا) ذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد، يعني: ليس على سبيل أنهم فعلاً راغبون في استغفار النبي عليه الصلاة والسلام لهم، حتى يعود عليهم بالعفو والمغفرة من الله سبحانه وتعالى، وإنما هو تقية ومصانعة، فهم في الحقيقة لا يقولون ذلك على سبيل الاعتقاد. قال القاسمي: قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:11] تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس الذي يقولون. إذاً: هذا الاعتذار الذي يدعونه هم كاذبون فيه، والذي خلفهم ليس هو قولهم: (شغلتنا أموالنا وأهلونا)، وإنما الذي خلفهم هو الشك في الله والنفاق. كذلك أيضاً طلبهم الاستغفار: (فاستغفر لنا) ليس صادراً عن حقيقة؛ لأنه صادر بألسنتهم بغير توبة منهم ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف، وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به ما لم يكن مترجماً عن الاعتقاد الحق. قال تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس، وهو العليم بسرائركم وضمائركم وإن صانعتمونا وتابعتمونا، ولهذا قال: (بل كان الله بما تعملون خبيراً). قال القاسمي: أي: لا أحد يمنعه تعالى من ذلك؛ لأنه لا يغالبه غالب؛ إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم؛ ولذا هددهم بقوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أي: فيجازيكم عليه. قوله تعالى: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) قيل: ضراً يعني: أمراً يضركم كهزيمة أو غير ذلك، أو أراد بكم نفعاً أي: نصراً وغنيمة، وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع. ((قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) يقول الألوسي: وحاصل معنى الآية: قل لهم: لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك ينفع الضر إن أراد الله عز وجل، ولا مواجهة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً. يعني: هذا الجواب جامع؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: (قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً) يعني: إذا بقيتم في أموالكم وأهليكم خشية ضياعها، فهل هذا التخلف يجلب لكم نفعاً؟ كلا، بل لو أراد الله أن ينزل بكم الضر وبأهليكم وبأموالكم وأنتم في وسطهم لما رد قضاء الله سبحانه وتعالى راد. كذلك أنتم تظنون أن الخروج مع النبي عليه الصلاة والسلام يضركم بهزيمة أو بقتل أو بنحو ذلك، فلو شاء الله سبحانه وتعالى أن يقدر نصراً وغنيمة فلا راد لقضائه، مع أنكم تحسبون أنه خروج إلى هلكة، فهذا هو المعنى: فلا أحد يدفع ضر الله ولا نفعه، فليس الشغل بالأهل والمال عذراً، فلا ذاك يدفع الضر إن أراده الله عز وجل، ولا موافقة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً، وهذا كلام جامع في الجواب، وفيه تعريض بغيرهم من المبطلين. ثم ترقى سبحانه وتعالى إلى ما يتضمن تهديداً في قوله: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) يعني: بكل ما تعملون خبيراً، فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه، ويجازيكم على ذلك.

اللف والنشر الموجود في الآية

اللف والنشر الموجود في الآية هذه الآية الكريمة فيها فن معروف عند علماء البيان يسمى: اللف والنشر، واللف والنشر هو: أن يذكر أشياء إما تفصيلاً: بالنص على كل واحد، أو إجمالاً: بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد منها يرجع إلى واحد من المتقدم، ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به؛ لأنه يكمل اللف. اللف والنشر الإجمالي مثاله: قول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران، وهل معنى ذلك أن أهل الكتاب اتفقوا مع بعض وتوحدوا وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً أو نصرانياً؟ لا، لم يتفقوا والدليل على ذلك الآية التي يقول الله تعالى فيها: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، ونحن نقول لهم: كلاكما محق، يعني: فهؤلاء صادقون وهؤلاء صادقون، اليهود عندما قالوا: (ليست النصارى على شيء) نقول لهم: أنتم صادقون ونطقتم بالحق، فليست النصارى على شيء، والنصارى لما قالوا: (ليست اليهود على شيء) نقول لهم: صدقتم، فليست اليهود أيضاً على شيء، وكلاكما ليس على شيء. فهم رأيهم في بعضهم البعض صواب، فقوله: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) فهنا إجمال في اللف في قوله: (وقالوا) والإجمال في حرف الواو، من الذي قال؟ كل فئة، (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) لكن حينما نريد أن نذكر ما لفته الواو ونفرد الكلام ونفصله فنقول: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى، وإنما سوغ الإجمال في اللف ظهور العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقر أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة، والدليل الآية التي بعدها، وهي قوله سبحانه وتعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) وكما قلنا: كلاهما في قوله هذا محق. إذاً: الإجمال هنا في الواو جائز وسائغ؛ لأن اللف مأمون، فالإنسان العاقل الذي يعي الكلام عندما يقرأ القرآن الكريم يفهم أن قوله: (وقالوا) مجمل، ويستطيع أن يرد كل قول إلى فريقه، فلا يتصور أن احداً يقرأ الآيات، ويظن أن اليهود والنصارى اتفقوا على هذا القول، لا؛ لأن اليهود قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، فهذا أنموذج من نماذج الإجمال في اللف. وقد يكون الإجمال في النشر لا في اللف، كأن يؤتى بمتعدد ثم بلفظ يشتمل على متعدد يصلح لهما، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] فهذا نشر، ثم أتى اللف في قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] وهذا على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به: الفجر الكاذب لا الليل، أي: حتى يتبين لكم الفجر الصادق من الفجر الكاذب، فالفجر الكاذب هو الخيط الأسود، فتكون (من) فيها لف في كلمة: (من الفجر)، وقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) يعني: الفجر الصادق من الفجر الكاذب، يعني: كلاهما فجر، هذا ما يتعلق بالإجمال. أما في حالة التفصيل فهو قسمان: أحدهما: أن يكون على ترتيب اللف كقوله سبحانه وتعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] أي: جعل لكم الليل، ثم النهار، ثم قال: (لتسكنوا فيه) وقال: (ولتبتغوا من فضله) فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار، فهنا الإجمال أتى على (جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضله). وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، فاللوم راجع إلى البخل: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) والإحسار راجع إلى الإفراط، ومعنى (محسوراً) أي: منقطعاً لا شيء عندك. كذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11]. فقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر) راجع إلى قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى). وقوله: (وأما السائل فلا تنهر) راجع إلى قوله: (ووجدك ضالاً فهدى). ولعله بادر إلى عقولكم أن السائل المقصود به: الذي يسأل المال، لكن المراد به هنا السائل عن العلم؛ لأنه يقابل قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى) ضالاً معناه: غافلاً عما أوحاه الله إليك من الهدى والفرقان، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فإذاً: (ضالاً) يعني: عما أوحى إليك من النور والفرقان والشرائع، وعلى هذا فقوله: (وأما السائل فلا تنهر) قال مجاهد: يعني: السائل عن العلم، فإن للسائل حقاً، والسائل قد يدخل فيه أهل الكتاب الذين يأتون ليجادلوه عليه السلام ويسألوه أو الأعراب، أو كما جاء في سورة: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] في قصة الأعمى. إذاً: قوله: (ألم يجدك يتيماً فآوى) يرجع إليها قوله: (فأما اليتيم فلا تقهر)، فكما آواك الله فعامل اليتيم بالمثل. (وأما السائل فلا تنهر) كما أن الله امتن عليك بهذا العلم وهذا النور وهذا الوحي؛ فلا تنهر من أتاك يسألك هذا العلم. (وأما بنعمة ربك فحدث) هذا راجع إلى قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى). وقد يكون اللف والنشر التفصيلي على عكس التدقيق الذي ذكرناه هنا مع موافقة التركيب: (جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) وكذلك في سورة الضحى، أما عكس الترتيب فكقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:106]، ثم قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:107] فقوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أتي بعدها بعكس الترتيب لأنه بدأ بعكس الترتيب في الجزء الأول فقال: (فأما الذين اسودت) ثم قال: (وأما الذين ابيضت وجوههم). وجعل منه جماعة من العلماء قول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فبعض العلماء جعلوا هذا من اللف والنشر التفصيلي مع عكس الترتيب، (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)، فيكون (متى نصر الله) قول الذين آمنوا، و (ألا إن نصر الله قريب) قول الرسول، فيكون التقدير: حتى يقول الذين آمنوا معه: متى نصر الله، ويقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فهذا يكون على عكس الترتيب. على أي الأحوال المقصود من هذه الآية الكريمة: ((قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا)) أي: فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً؟ ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعاً؟ ففي هذه الآية الكريمة أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة: (فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعاً) أي: لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم، ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به، فلا نافع إلا هو، ولا ضار إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده، ولا منع نفع أراده، وهذا وضحه قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17]، وقال في آخر يونس: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107].

تفسير قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا)

تفسير قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) قال تبارك وتعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح:12]. (بل ظننتم) يعني: في الحقيقة ليس الأمر كما زعمتم بأنكم شغلتكم أموالكم وأهلوكم، ولكن الحقيقة أشد من ذلك: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً) والظن اسم لما يحصل عن الوهم، ومتى قوي أدى إلى العلم، ومتى ضعف جداً لم يتجاوز حد التوهم، فكلمة الظن تستعمل في أكثر من استعمال، أحياناً تستعمل بمعنى: اليقين، قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46] أي: يوقنون، وقال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} [البقرة:249] إلى آخر الآية، فهذه بمعنى اليقين. وقال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4]؛ لأن المعنى: ألا يكون منهم ظن لذلك؟ تنبيهاً على أن أمارات البعث ظاهرة، وفي هذا ذم لهم. كذلك قال تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] أي: إني أيقنت، وقوله: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] هذا أيضاً يقين، وقال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد يعني: أيقنوا. وقوله تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] يعني: أيقن أنه الفراق، أي: فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق إذاً: أصل الظن وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد الأمرين، وقد يقع موقع اليقين كما في الآيات التي ذكرناها. قوله تبارك وتعالى: ((بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا)) أي: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاقل أو مؤمن كسول كالثلاثة المخلفين في غزوة تبوك، لا، (بل ظننتم) يعني: لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، وإنما هو تخلف نفاق، وهذا أشد من المعصية إذ اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم، وتستباح خضراؤهم، ولا يرجع منهم مفلت. وقال القرطبي: وذلك أنهم قالوا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون. وقولهم (أكلة رأس) كناية عن القلة، أي: أنهم يكفيهم رأس واحد، لو اجتمعوا ليأكلوا فسيأكلون شاة واحدة، وهذا كناية عن قلة العدد، فهؤلاء خرجوا ليقابلوا الأحابيش في قريش وثقيف وكذا وكذا، فسوف يستأصلونهم ويقضوا عليهم قضاءً، ولا يبقى أحد منهم ليخبر عنهم، وهذا سوء ظن بالله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا لا يمكن أن يقع أبداً، ولا يمكن أبداً أن يتصور أن المؤمنين يستأصلون بحيث لا يبقى للإيمان ولا للإسلام أحد، فهذا لا يقع أبداً أبداً، فهذا هو ظن السوء الذي عيرهم الله سبحانه وتعالى به، فهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس لا يرجعون، يعني: هم قليل يشبعهم رأس واحد.

أهمية تعلم اللغة العربية

أهمية تعلم اللغة العربية ذهب الألوسي إلى أن الإبهام الذي في قوله تعالى: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) أوضح في الآية التي تليها ما هو هذا الذي كانوا يعملونه؟ وما هو الذي كان الله به خبيراً؟ فقال: ((بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا)). أي: لن يرجع من ذلك السفر. قوله: (الرسول والمؤمنون إلى أهليهم) أي: لن يرجعوا إلى عشائرهم وأقربائهم أبداً؛ لأنه سيستأصله المشركون بالمرة، أي: أفحسبتم أنكم إن كنتم معهم فسيصيبكم ما يصيبهم؛ فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة. والأهلون: جمع أهل، وهو ملحق بجمع المذكر السالم؛ لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل، والشاهد من الألفية: وارفع بواو وبيا اجرر وانصب سالم جمع عامر ومذنب وشبه ذين وبه عشرونا وبابه ألحق والأهلونا فهو ملحق بجمع المذكر السالم. وهنا فرصة لأن نتكلم عن أهمية اللغة العربية، فاللغة العربية في خطر شديد، والاهتمام باللغة العربية أمر واجب مقدس؛ لأنه لا إسلام بدون اللغة العربية، ولا عربية بلا إسلام. فالذي نريد أن نقوله: إن الفهم للغة العربية مهم جداً، إذا قرأ الإنسان في كتب أهل العلم فإذا صار ينصب الفاعل أو يجر المفعول فإنه يفقد الثقة، وأنا عن نفسي الثقة تهتز عندي تماماً، فأقول: لو أن طالب العلم يستطيع أن يضبط الفعل والفاعل والجار والمجرور فسيستطيع أن يضبط الأحكام الشرعية، ويفهم النصوص حق فهمها، خاصة أن الإنسان إذا كان يسيء تطبيق قواعد اللغة العربية، فبالتالي سيسيء فهم الكلام؛ لأن الإعراب له أهمية قصوى في فهم كلام الناس، فقد يقع في ظلم بسبب عدم الفهم، وأنا أذكر لكم مثالاً لهذا الظلم: أحد إخواننا الأفاضل السلفيين ألف كتاباً اسمه: الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة، فهذا الأخ الفاضل لما أتى يتكلم على الجماعات تكلم على الإخوان، وذكر الشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى فقال هذه العبارة: وقد تنكر -يعني: صاحب الظلال- لعقيدة أهل السنة عندما فسر قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فقال: إذاً فقد كان ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم من أهل السنة والمتكلمين حول حقيقة النظر والرؤية في مثل ذلك المقام. فأنا أسأله الآن -وانتبهوا-: من الذين يذمهم الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى هنا في هذا السياق؟ هل هو يذم المعتزلة فقط أم أنه يذم المعتزلة وأهل السنة أيضاً؟ هو يذم المعتزلة، فهذا خلاصة الكلام، وليست الجناية أنه قد أخطأ في فهم كلام الأستاذ سيد قطب رحمه الله، الجناية أنك عندما تعرض سياق ظلال القرآن تجد أن السياق ليس فيه نفي للرؤية أبداً، بل إنه يثبت الرؤية، ولكن الإنسان عندما يتعصب يغلط الناس: فرصاص من أحببته ذهب وذهب من لم ترض عنه رصاص فقد يدخل الهوى الإنسان الذي يتعصب في حكمه على الشخص، ويتمنى له الغلط كما يقولون، فهنا انظر هو يقول: فقد كان ضائعاً ذلك الجدل الطويل المديد الذي شغل به المعتزلة أنفسهم ومعارضيهم، فهو هنا يذم المعتزلة فقط، ولا يهاجم أهل السنة، بل يقول: إن المعتزلة فتحوا باباً للجدل شغلوا به أنفسهم عن العلم النافع، وشغلوا أيضاً معارضيهم من أهل السنة الذين اضطروا أن يعارضوهم ويردوا عليهم ويبطلوا مذهبهم. فهذا الأخ -سامحه الله- يرد على هذه الفقرة ويقول: من هذا القول يتضح أن سيد قطب لا يعتقد في هذه المسألة. وهذا لحن آخر، يعني: أنت لا تعرف كيف تضبط الفاعل والمفعول وتهاجم الناس على نواياك وفهمك! فأنت لا تهاجم الناس إلا وأنت متقن على الأقل لأساسيات اللغة العربية، فهو يقول: من هذا القول يتضح لنا أن سيد قطب لا يعتقد في هذه المسألة عقيدة أهل السنة فضلاً عن المعتزلة، يعني: فهو في منزلة بين المنزلتين، فهذا سوء فهم منك أنت، فلا شك أن هذا ظلم واضح بين، فلو أنك راجعت الظلال الجزء 8 صفحة 382 لاتضح لك تماماً أنه رحمه الله تعالى يثبت الرؤية، ويعتقد فيها عقيدة السلف الصالح. فهذا المنتقد بسبب قلة علمه بأولويات قواعد النحو قد وقع في ظلم هذا الرجل، ويريد أن يلتقط منه هذا الكلام الطلبة الصغار فيظللوا غيرهم، ومنهم من يكفر، أو يبدع أو يشتم وغير ذلك من الأشياء التي نراها. فهذه وقفة عابرة استطرادية لبيان أهمية إتقان اللغة العربية جيداً؛ لأن من لحن في مثل هذه الأمور البسيطة فإنه تفقد الثقة في كلامه؛ لأنه إذا كان لا يعرف بدهيات اللغة العربية وأولويات النحو؛ فلا يجوز له أن يتكلم في الشرع؛ لأنه سوف يفتري على الله الكذب حين يفهم الآيات والأحاديث فهماً معوجاً؛ لأن النحو تفسير في غاية الخطورة على فهم النصوص، وهذا موضوع طويل لا نطيل فيه أكثر من هذا.

الاستدلال بالآية على إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى

الاستدلال بالآية على إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح:12] بعض الأذكياء من الناس يقول: إن هذه الآية تعتبر دليلاً لأهل السنة في إثبات الرؤية! فالاستدلال هنا أن كلمة: (لن) تفيد النفي في المستقبل، لكن هل تفيد التأبيد أم لا تفيد التأبيد؟ هذه الآية ظاهره في أن (لن) ليست للتأبيد؛ لأن (لن) لو كانت تفيد التأبيد لما قال: (أبداً)، فلما قال: (أبداً) دل على أن النفي بـ (لن) لا يفيد التأبيد، والشاهد من كلام ابن مالك في هذه المسألة: ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا يعني: ارفض هذا المذهب وتمسك بالمذهب الآخر. يقول تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]: قال (لن تراني) فالمعتزلة يستدلون بهذه الآية على أن (لن) تفيد النفي المؤبد، فيفسرون (لن تراني) يعني: يستحيل أن يراني أحد. أهل السنة يقولون: لا، هو لم يقل: (لن تراني أبداً)، وإنما قال: (لن تراني) بمعنى: لن تراني في الدنيا، وهذا لا يتنافى مع الأحاديث المتواترة -بل والآيات- التي أثبتت رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فالشاهد أن الآية هنا: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) ظاهرة بأن (لن) ليست للتأبيد، ومن زعم أنها تفيد التأبيد جعل (أبداً) توكيداً. والدليل أيضاً على الذي ذكرناه قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95]، فلو كانت تفيد التأبيد لوحدها لما ذكر معها (أبداً)، هذا مع أنه سبحانه وتعالى قال: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فهذا تمن للموت. وكذلك لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:80]، فثبت أن (لن) لا تقتضي النفي المؤبد، فهي تنفي في المستقبل لكن ليس نفياً مؤبداً.

ظن السوء الذي تمكن في قلوب المنافقين

ظن السوء الذي تمكن في قلوب المنافقين قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12] أي: حسن ذلك الظن المفهوم من (ظننتم) في قلوبكم، فلم تسعوا في إزالته؛ فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. (وزين ذلك في قلوبكم) أي: زين ذلك الظن، فالإشارة هنا إلى غير مذكور، ولكنه مأخوذ من قوله: (بل ظننتم) يعني: وزين ذلك الظن في قلوبكم، فبالتالي لم تسعوا إلى إزالة هذا الظن ولا معالجته، فتمكن من هذه القلوب حتى اشتغلتم بأنفسكم، غير مبالين بما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه رضي الله تعالى عنهم. قال القاسمي: أي: حسن الشيطان ذلك وصححه، حتى حبب لكم التخلف، (وظننتم ظن السوء) يعني: أن الله لا ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي: هلكى، وقيل: لا يصلحون لشيء من الخير، وقال الجوهري: البور: الرجل الفاسد الهالك، وقال عبد الله بن الزبعرى السهمي: يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور وبور: جمع بائر، مثل: حائل وحول، وعائذ وعوذ، وباذل وبذل، وقد بار فلان أي: هلك، وأباره الله أي: أهلكه، وقيل: بوراً أي: أسراباً، أي: وكنتم في علم الله تعالى الأزلي (قوماً بوراً) أي: هالكين؛ لفساد عقيدتكم، وسوء نيتكم، فاستوجبتم سخط الله تعالى وعقابه جل شأنه.

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا)

تفسير قوله تعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً) قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13] هذا وعيد لهم، وبيان أنهم كفروا بهذا النفاق، قال ابن كثير: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله) أي: من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله فإن الله تعالى سيعذبه في السعير، وإن أظهر للناس خلاف ما هو عليه في نفس الأمر. (فإنا أعتدنا) أي: هيأنا، (للكافرين سعيراً) ناراً مسعورة موقدة ملتهبة، وكان الظاهر أن يقول: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا لهم سعيراً، لكن عدل عن الضمير بإظهار الكافرين؛ ليبين أن من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وأنه مستوجب للسعير بكفره، لمكان التعليق بالمشتق، و (سعيراً) للتهويل، لما فيه من الإشارة إلى أنه لا يمكن معرفتها، وعبر عنه بـ (سعيراً)، فالتنكير هنا لتهويل شأنها. وقيل: لأنها نار مخصوصة، فالتنكير للتنويع.

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض) قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:14] أي: أن الله سبحانه وتعالى غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى. (وكان الله غفوراً رحيماً) وفي تقديم المغفرة والتذييل لكونه تعالى غفوراً في صيغة المبالغة، وضم رحيماً إليه الدال على المبالغة أيضاً دون التذييل بما يفيد كونه سبحانه معذباً، مما يدل على سبق الرحمة للعذاب والغضب. كذلك قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض) بدأ بالمغفرة؛ لأن المغفرة أحب إلى الله سبحانه وتعالى: (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء). ولم يقل: وكان الله عزيزاً حكيماً أو: من الكافرين منتقماً وإنما ختم بقوله: (وكان الله غفوراً رحيماً) إيماءً إلى ما ثبت في الحديث من أن رحمة الله تسبق غضبه عز وجل. وفي الحديث: (كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: رحمتي سبقت غضبي). قال الألوسي: والآية على ما قال أبو حيان: لترجية أولئك المنافقين بعض الترجية إذا آمنوا حقيقة. يعني: هذا يفتح لهم باب الرجاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح:13 - 14]، فهذا فتح لباب الرجاء ليصححوا إيمانهم حتى يغفر الله سبحانه وتعالى لهم. وقيل: بل الآية لحسم أطماعهم الفارغة في استغفاره صلى الله عليه وآله وسلم لهم.

تفسير قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها)

تفسير قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) قال تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح:15]. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر ليفتحوها -لأن فتح خيبر كان بعد صلح الحديبية مباشرة- أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها): فهذه المرة لأنها مغانم، وسوف ينالون حظاً من الدنيا؛ كانوا حريصين على الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أنهم رغبوا بأنفسهم عنه وعن أصحابه حينما كانت هناك معركة فيها إزهاق للنفس، وحين ظنوا بالله ظن السوء أن الرسول عليه السلام والصحابة لن يعودوا أبداً، بل ستستأصلهم قريش والأحابيش. فقوله: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) أي: إذا انطلقتم إلى أماكن المغانم، وهي خيبر، ومثاله في سورة النساء قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] جاء في تفسيرها: (لا تقربوا الصلاة) يعني: المساجد، والمراد: لا تقربوا أماكن الصلاة التي هي المساجد، والدليل من الآية: (إلا عابري سبيل) وهذا لا يمكن أن يكون داخل الصلاة، وإنما عابر السبيل يعبر المكان الذي هو المسجد، فكذلك هنا: (إذا انطلقتم إلى مغانم) إلى أماكن المغانم. يقول ابن كثير: يقول تعالى مخبراً عن الأعراب الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر يفتحونها، أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يأذن لهم في ذلك، معاقبة لهم من جنس ذنبهم، فإن الله تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لأن الله سبحانه وتعالى كافأ الصحابة في غزوة الحديبية بمغانم خيبر يحوزونها وحدهم؛ لصمودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ما وعد الله سبحانه وتعالى شرعاً وقدراً، ولهذا قال: ((يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ))، هل كلام الله يبدل؟ لا يمكن أن يبدل كلام الله الشرعي والقدري، ومغانم خيبر كتب الله عز وجل في القدر السابق أنها من حق الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فلا يقع غير ما قدر الله كوناً ولا قدراً. وبعض المفسرين قال: المقصود بقوله تبارك وتعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أنه قوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة:83]، فيفسرون هذه بتلك، يعني: يريدون أن يبدلوا كلام الله الذي قاله في هذه الآية، ولكن هذا فيه نظر؛ فإن سورة الفتح نزلت في غزوة الحديبية سنة 6 من الهجرة، وغزة تبوك كانت في سنة 9 في شهر رجب، فكيف تفسر هذه الآية بآية التوبة! يقول القرطبي: قوله تعالى: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها) يعني: مغانم خيبر؛ لأن الله عز وجل وعد أهل الحديبية بفتح خيبر، وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر، ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: إن أهل الحديبية هم الذين يستحقون غنائم خيبر ولا يشركهم فيها أحد، حتى لو كان هناك رجل من أهل الحديبية لم يحضر فتح خيبر فإنه يضرب له سهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه. (سيقول المخلفون) اللام هنا عهدية يعني: المخلفين الذين تعهدونهم، وسياق الكلام فيهم (إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا) أي: دعونا نتبعكم فنقاتل معكم، (يريدون أن يبدلوا كلام الله) يعني: بعدما ظهر كذبهم في الاعتذار وطلب الاستغفار (يريدون أن يبدلوا كلام الله)، قال القرطبي: يعني: يغيروا. وقوله في هذه الآية: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ) المقصود أنها ظرف لما قبلها أي: أنهم سيقولون وقت خروجهم: إذا انطلقتم إلى مواطن الغنائم. يقول الألوسي: والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين، ولم نقف على خلاف في ذلك، وأزيد بأن السين تدل على القرب. يعني: لا يعرف خلاف في تفسير المغانم هنا بأنها مغانم خيبر، ومما يؤيد هذا المذهب التعبير بالسين: (سيقول المخلفون) فالسين تدل على القرب، وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية، فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم عن مغانم مكة خيبر، إذا أطاعوا النبي عليه الصلاة والسلام ورجعوا موادعين، ففي هذه الحالة سيعوضهم الله سبحانه وتعالى مغانم خيبر، وخص سبحانه ذلك بهم. فمعنى الآية: سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها، طمعاً في عرض الدنيا، وبما أنهم يرون ضعف العدو هذه المرة، فاليهود في حالة ضعف في خيبر، ويتحققون النصرة لأن المسلمين أقوياء، قالوا: (ذرونا نتبعكم) أي: إلى خيبر، ونشهد معكم قتال أهلها، يريدون أن يبدلوا كلام الله بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية، ويريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى. (قل لن تتبعونا) قال القاسمي: أي: إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم، فهذا نفي في معنى النهي، (قل لن تتبعونا) أي: لا تتبعونا، قال الشهاب: فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي وهو أبلغ. وقال الألوسي: (قل) إقناطاً لهم يعني: تيئيساً لهم، (لن تتبعونا) أي: لا تتبعونا، فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة، والمراد نهيهم عن الاتباع فيما أرادوا الاتباع فيه في قولهم: (ذرونا نتبعكم) وهو الانطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة. من هو هذا الملقب بمحيي السنة؟ الذي اختص بهذا اللقب هو الإمام البغوي، فالإمام البغوي هو محيي السنة رحمه الله تعالى. وقيل: المراد (قل لن تتبعونا) يعني: لا تتبعونا ما دمتم مرضى القلوب، (كذلكم قال الله من قبل) قال ابن جرير أي: من قبل مرجعنا إليكم إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، كذلك حكم الله من قبل أن نعود من الحديبية إلى المدينة، وقبل أن نقابلكم وتعتذروا؛ قد حكم الله سبحانه وتعالى وقال: إن غنيمة خيبر فقط لمن شهد الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر؛ لأن غنيمتها لغيركم. وقال ابن كثير في تفسير قوله: (كذلكم قال الله من قبل) أي: وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم. (فسيقولون بل تحسدوننا) قال القاسمي: أي: أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنماً إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم، قال الشهاب: وهو إضراب عن كون الحكم لله، يعني: إضراب عن قول المسلمين لهم: ((كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ))، فكأنهم يقولون: ربنا لم يقل هذا، لكن هذا ناتج من أنكم تحسدوننا، وتريدون أن تستأثروا بالغنائم، فالإضراب هنا عن كون هذا حكم الله، أي: فإنما ذلك من عند أنفسكم حسداً (فسيقولون بل تحسدوننا) و A بل كانوا لا يفقهون عن الله تعالى ما لهم وعليهم من أمر الدين، (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: إلا فهماً قليلاً وهو ما كان في أمور الدنيا، كقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، والعلم في الحياة الدنيا دون الآخرة ليس بعلم في الحقيقة؛ لأن الآية في سورة الروم تقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] فأبدل من قوله: (لا يعلمون) قوله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]؛ لأن هذا الظاهر لما كان لا يفيدهم في الإيمان واليقين شيئاً فكأنه لا علم لهم، ولا يساوي هذا العلم شيئاً، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة). (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) أي: بأمور الدنيا، كما فسرها قوله: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وقال ابن كثير: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا) أي: أن نشرككم في المغانم، (بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) ليس الأمر كما زعموا ولكن لا سهم لهم. فقوله: (بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً) رد لقولهم الباطل في المؤمنين، فهذا دفاع عن المؤمنين باتهامهم إياهم أنهم يمنعونهم من أجل الحسد، ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم، وهو الجهل المفرط، وسوء الفهم في أمور الدين، وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى، وإثباتهم الحسد لأولئك السادة بسبب الجهل وقلة التفكر، وهذا أقوى دليل على أنهم لا يفقهون، ولو كانوا يفقهون شيئاً نافعاً لفهموا أن الجزاء من جنس العمل، وأن حالهم بعكس حال الصحابة، الصحابة كانوا كما وصفوا يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع،

تفسير قوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد)

تفسير قوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16]. : انظر إلى التشنيع عليهم بذكر هذه الوصمة التي وصموا بها وهي: (المخلفين)، فهي كلمة في غاية الإيجاع والإيلام لمن كان عنده إحساس، وإذا راجعنا حديث الثلاثة المخلفين لرأينا كيف كانوا يتألمون حينما رجع أحدهم إلى المدينة ووجد نفسه لا يرى إلا معذوراً، يرى النساء والصبيان والشيوخ الطاعنين في السن، أو يرى منافقاً انغمس في النفاق، فكان هذا سبب عذابه النفسي الشديد بسبب التخلف عن النبي عليه الصلاة والسلام. (قل للمخلفين) ذكرهم بهذا اللفظ مبالغة في الذم، وإشعاراً بشناعة التخلف، (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) فيما بعد ستأتيكم فرصة جديدة إن أردتم أن تفتحوا صفحة جديدة، فإننا سوف نتيح لكم فرصة غير هذه الفرصة. وقد اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين سيدعون إليهم وهم أولوا بأس شديد على أقوال: أحدها: أنهم هوازن، وهذه غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: ثقيف وهذه أيضاً غزاها عليه الصلاة والسلام. وقيل: بنو حنيفة وهم أهل اليمامة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب، وقد غزاهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وقيل: إنهم أهل فارس. وقال كعب الأحبار: هم الروم الذين خرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم عام تبوك، وإليهم بعث سرية مؤتة. وقيل: هم فارس والروم، وهؤلاء غزاهم عمر رضي الله تعالى عنه. وقال مجاهد: هم أهل الأوثان. وعن مجاهد: هم رجال أولوا بأس شديد ولم يعين فرقة، وهذا اختيار ابن جرير. وعن الزهري في قوله: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال: لم يأت أولئك بعد، لكن ظاهر الآية يرد هذا؛ لأن الآية تخاطب نفس المخلفين أنهم سيدعون إلى أناس أولي بأس شديد، فبعيد جداً أن نقول: إن هذا يكون في آخر الزمان أو أنهم قوم لم يأتوا بعد. قال القاسمي رحمه الله تعالى: ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة، ولو عد من الأوجه كفار مكة لم يبعد، بل عندي هو الأقرب؛ لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، مذ صرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وعلى إثرها كانت غزوة الفتح الأعظم التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو ليسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً، والله تعالى أعلم. فـ القاسمي يميل إلى أن هؤلاء هم مشركو مكة. (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال الألوسي: ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري: هم بنو حنيفة: مسيلمة وقومه من أهل اليمامة، وعليه جماعة. وفي رواية عنه زيادة: هم أهل الردة. لماذا مسيلمة بالذات ألصق الله به لقب الكذاب وكلهم كذابون؟ لأن هذا الخبيث شارك الله سبحانه وتعالى في اسم يختص به، وسمى نفسه: رحمان اليمامة، وهذا الجرم لم يفعله أحد غيره، حيث سمى نفسه باسم يختص به الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إطلاقه على غير الله أبداً بحال من الأحوال؛ فعوقب بأن ألصق الله اسمه بلقب الكذاب، مع أن كل المتنبئين كذابون. عن رافع بن خديج قال: إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، والآية هي: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون). قال الألوسي: وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.

خلاف العلماء في معنى قوله: (أولي بأس شديد)

خلاف العلماء في معنى قوله: (أولي بأس شديد) (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد): اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين سيدعون إليهم، هم أولوا بأس شديد على أقوال أحدها: أنهم هوازن، وهذه غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقيل: ثقيف وأيضاً غزاها عليه الصلاة والسلام، وقيل: بنو حنيفة وهم أهل اليمامة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب من الذي غزاهم؟ أبو بكر رضي الله تعالى عنه. القول الرابع: إنهم أهل فارس، وقال كعب الأحبار: هم الروم الذين خرج إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم عام تبوك وإليهم بعث سرية مؤتة. وقيل: هم فارس والروم، وهؤلاء غزاهم عمر رضي الله تعالى عنه، وقال مجاهد: هم أهل الأوثان، وعن مجاهد: هم رجال أولوا بأس شديد ولم يعين فرقة، وهذا اختيار ابن جرير، وعن الزهري في قوله: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال: لم يأت أولئك بعد، لكن ظاهر الآية يرد هذا، لأن الآية تخاطب نفس المخلفين ستدعون إلى أناس يكونون في آخر الزمان قل للمخلفين من الأعراب اللذين كانوا موجودين، (ستدعون) أنتم إلى قوم أولي بأس شديد، فبعيد جداً أن نقول: إن هذا يكون في آخر الزمان أو أنهم قوم لم يأتوا بعد. قال القاسمي رحمه الله تعالى: ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة، ولو عد من الأوجه كفار مكة لم يبعد، بل عندي هو الأقرب؛ لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، مذ صرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وعلى إثرها كانت غزوة الفتح الأعظم التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال قريش أو ليسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعاً أو كرهاً والله تعالى أعلم. فـ القاسمي يميل إلى أن هؤلاء هم مشركو مكة. (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) قال الألوسي: ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري: هم بنو حنيفة: مسيلمة وقومه من أهل اليمامة وعليه جماعة. وفي رواية عنه زيادة: هم أهل الردة. لماذا مسيلمة بالذات ألصق الله به لقب الكذاب؟ أليسوا كلهم كذابون؟ لأنه هذا الخبيث شارك الله سبحانه وتعالى في اسم يختص به وسمى نفسه: رحمان اليمامة، وهذا الجرم لم يفعله أحد غيره، أن يسمي نفسه باسم يختص به الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إطلاقه على غير الله أبداً بحال من الأحوال؛ فعوقب بأن ألصق اسمه بلقب الكذاب، وإن كان كل المتنبئين كذابون. عن رافع بن خديج قال: (إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها) والآية هي: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون). قال الألوسي: وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.

استدلال العلماء بهذه الآية على الرد على الرافضة

استدلال العلماء بهذه الآية على الرد على الرافضة هذه الآية يرد بها على الرافضة الشيعة في قضية معينة مهمة، فعلى أن هؤلاء القوم بنو حنفية، فإن هذه الآية تدل على صحة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ لقوله تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون) أي: في المستقبل (إلى قوم أولي بأس شديد): وهم بنو حنيفة (تقاتلونهم أو يسلمون) أي: تقاتلونهم أو يسلمون، وهل يمكن أن يكون هؤلاء هم الروم أو الفرس؟ هذا التخيير هل يمكن أن يحمل على الروم أو الفرس؟ قوله: (تقاتلونهم أو يسلمون) هذا حكم من لا يقبل منهم الجزية، أما أهل الكتاب فتؤخذ منهم الجزية، فإذاً هذه عارضة، وقوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تُطِيعُوا} [الفتح:16] يعني: الإمام الذي يدعوكم إلى قتال هؤلاء القوم الذين هم بنو حنيفة. {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16] فهذه الآية تحرض على طاعة الخليفة الذي يأمرهم بقتال هؤلاء القوم، وتبين أن خلافته عند الله خلافة صحيحة، وبهذه الآية يرد على الرافضة -قبحهم الله- في طعنهم في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ فإن قتال المرتدين من بني حنيفة وغيرهم كان تحت راية أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولو كان قتال أبي بكر لهم غير شرعي لكان ما يترتب عليه باطل، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه تسرى بامرأة من سبي بني حنيفة في هذا القتال، وولدت له محمد بن الحنفية، وهو محمد بن علي بن أبي طالب لكن اشتهرت نسبته إلى أمه، فكون علي أمير المؤمنين نفسه يستفيد من نتائج قتال بني حنيفة ويعتبره شرعياً، ويبني عليه أن هذا السبي وقع صحيحاً، ويتسرى بهذه المرأة الحنفية؛ فهو دليل آخر يبطل ضلال الشيعة وعدوانهم على أبي بكر رضي الله تعالى عنه. (تقاتلونهم أو يسلمون) وفي بعض القراءات: تقاتلونهم أو يسلموا، يعني: (أو) ستكون في هذه القراءة بمعنى: حتى يسلموا، قال القرطبي رحمه الله تعالى: تقاتلونهم أو يسلمون هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية وهو معطوف على تقاتلونهم أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة، وإما الإسلام، لا ثالث لهما. وفي حرف أبي أو يسلموا بمعنى: حتى يسلموا، كما تقول: كل أو تشبع، يعني: كل حتى تشبع، وقال امرؤ القيس: فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذر قال الزجاج: قوله تعالى: (أو يسلمون) لأن المعنى: أو هم يسلمون من غير قتال، وهذا في قتال المشركين لا في أهل الكتاب. قال الإمام القرطبي رحمه الله تبارك وتعالى: في هذه الآيات دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وهي كآية سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، فالخطاب كان للمؤمنين الحاضرين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وقت النبوة، ولم يقع هذا الاستخلاف إلا في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم. وأيضاً: تأملوا قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فهذا كله مدح لمن يقاتل المرتدين، وأول من قاتل المرتدين أبو بكر رضي الله تعالى عنه والصحابة. يقول القرطبي: في هذه الآية دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم؛ لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم، وأما قول عكرمة وقتادة: إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين فلا؛ لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا} [التوبة:83]، فدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم، فيبعد أن نقول: هم غطفان وهوازن يوم حنين؛ لأن هؤلاء المخلفين حرموا من شرف مصاحبة النبي عليه السلام في القتال طول حياتهم، لكن فتحت لهم فرصة بعد ذلك مع أبي بكر وعمر، فهذا مما يرجح القول بأن الذي سيدعوهم إلى القتال ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه قال: ((فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا))، وهذه نكرة في سياق النفي تفيد العموم، وهذا يدل على أن المراد بالداعي غير النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم للقتال بعد النبي عليه السلام إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. قال الزمخشري: فإن صح ذلك عن قتادة فالمعنى لن تخرجوا معي أبداً ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين، أو على قول مجاهد: كان الموعد أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم، يعني: قوله (لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) في تفسير مجاهد يعني: إلا متطوعين ولا يكون لكم نصيب في الغنيمة. إذاً: هذه الآية من الآيات التي يستفاد منها في الرد على الشيعة قبحهم الله سبحانه وتعالى! ومما يؤسف له أننا نسمع كلاماً بين الوقت والآخر موجعاً وأليماً، حينما نرى أناساً ليسوا من العوام لكنهم من الخواص، ومع ذلك ما زالوا حتى الآن يمجدون الشيعة، وأعرف بعض الصحفيين المشهورين جداً في إحدى جرائد المعارضة ما زال بين وقت وآخر يمدح الشيعة والحكومة الإسلامية في إيران، مع أنه نفسه يقر أن الشيعة فيهم كذا وكذا وكذا؛ لأنه ذهب إلى هناك ورأى بعدهم عن الإسلام وإلحادهم في دين الله سبحانه وتعالى، فيكفي جهلاً أننا حتى الآن لا نعرف عدونا الحقيقي، ولا نعرف أن هؤلاء الشيعة من أخطر الناس على الإسلام والمسلمين، حتى الآن ما اكتشفتم ذلك؟! قد صدرت مئات الكتب تفضح الشيعة، وتبين خبثهم وعداءهم للدين وللإسلام، وأنهم عقبة أمام الإسلام ودعوة الإسلام، وأنهم منحرفون عن الدين، ليسوا على ديننا، هم على دين آخر، فالشيعة منحرفون انحرافاً كاملاً عن الدين، وليسوا كما يقول الخداعون المضللون الذين يخدعون الشباب فيقولون: إن مذهب هؤلاء مثل المذهب الحنبلي والشافعي والمالكي، هم أبعد من المعتزلة والأشاعرة وغيرهما من الفرق الضالة، فالذي يقول: هم مثل أي مالكي أو حنبلي أو حنفي، فقد كذب على الله سبحانه وتعالى في هذا الكلام، ولا يعفيهم من هذا الافتراء إلا أن يكونوا جهلة غارقين في الجهل، فحينئذ نرجو لهم العفو والمغفرة إن كان أحدهم جاهلاً، أما أن يكون عالماً ويقول هذا الكلام فهذا في الحقيقة عدوان على أنصع وأهم وأخطر حقائق الإسلام. فالشيعة يطعنون في القرآن، والشيعة يكفرون الصحابة إلا ثلاثة، كل الصحابة عندهم مرتدون! وموقفهم من الشيخين معروف، فدينهم كله قائم على اللعن والسباب والشتم، وبعض الناس من شدة الاستغراق العاطفي والحماس الوجداني -عندهم حاجة يسمونها في علم النفس الإنكار- غير مصدق؛ لأن عنده نوعاً من الهروب من مواجهة الوضع، كما تأتي لرجل وتقول له مثلاً: أبوك مات، فيقول لك: أنت كذاب، لا يتحمل الخبر لقوة الصدمة، فيقابل الخبر بالإنكار كنوع من الحيل الدفاعية، ويخفف على نفسه بهذا قبل أن يفيق، ويتعامل مع الواقع، لكن نحن طولنا جداً في موضوع الإنكار، مثل المريض عندما يأتي إلى الدكتور فيقول له: يا عم! أنت عندك أعراض مرض السكر، اذهب اعمل تحليلاً، فهو لا يعمل التحليل ويتمادى ويتأخر فيه، لأنه يخاف أن يكون عنده سكر! فكذلك بعض الناس يخاف أن يبحث المسألة فيجد أن الشيعة -لأنه أصبح متعلقاً بهم- مجرمون ملحدون منحرفون عن الدين، فهو لا يحب أن يتعب نفسه ويبحث. الثورة الخمينية كانت سنة 1379 تقريباً، وإلى الآن إلى عام (1420) مازلنا في حالة الإنكار، ولا نريد أن نعرف حقيقة القوم، وأنهم ضالون منحرفون عن الدين مع أن العلماء مازالوا يحذرون منهم، والواقع قد كشفهم وكشف عداءهم للإسلام وطعنهم في الدين، فهذا شيء غريب جداً! فبعض الناس يفتتن بأشياء تلمع، فهم يحبون أن يفتخروا بـ الخميني في موقفه من سلمان رشدي، فنقول لهم: وموقفه من أبي بكر وعمر وعائشة والمهاجرين والأنصار؟! وما موقفه من القرآن الكريم؟! وهو يرى أن دعاء الحجر أو الشجر عملاً باطلاً لكن لا يحرم! هل هذا الخميني ليس بمشرك وهو يجيز أن تسأل أو تدعو وتعلق قلبك بحجر أو شجر؟! أين موقفك من الخميني وهو يقول: إن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا -الاثني عشر- مقام معلوم، ومنزلة سامية، لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل؟! هذا في كتابه: الحكومة الإسلامية، وبعض الإخوة السذج عندما كنا نقول لهم هذا الكلام يقول: الطبعة هذه مزورة، يعني: طبعة كتاب الحكومة الإسلامية مزورة، يقول هذا الكلام ويستميت في الدفاع عن الخميني! فالشاهد أننا ما زلنا في حالة إنكار للواقع، ونحاول أن نهرب من موا

موقف الشيعة من أبي بكر وعمر

موقف الشيعة من أبي بكر وعمر ما هو موقف الشيعة من الشيخين رضي الله تعالى عنهما؟ هم يصنعون من العجينة شكل إنسان، ويملئون جوفه دبساً أو عسلاً، فيكون مثل (المشبك)، يملئونه عسلاً وسمناً ويسمونه: تمثال عمر، ثم يمثلون حادثة قتل عمر رضي الله تعالى عنه، ويرمون ما فيه من عسل، ويزعمون أنه دم عمر رضي الله تعالى عنه، ويتشاءمون من يوم الإثنين؛ لأن يوم الإثنين يذكرهم بقوله تعالى: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ))، وكل منقبة للصحابة حولوها إلى مثلبة، فمثلاً هذه الآية: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] هي من أعظم مناقب أبي بكر، ومن أعظم ما يمدح به أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفاه للصحبة في هذه الرحلة المباركة رحلة الهجرة، لكن الشيعة يفسرونها على غير تفسيرها أذلهم الله وأخزاهم! يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم خاف أن أبا بكر لو تركه في مكة فسيدل عليه قريشاً، فكان أحسن إجراء وقائي أن يأخذه معه! ويعتقدون أن أبا بكر لقي كاهناً في الجاهلية فقال له: إنه سيبعث نبي ويخرج عليكم، ويمكن أن تقرب منه وتظهر الإيمان حتى تكون خليفة له، فكل المواقف كانت تمثيلاً من أبي بكر لأجل أن يمسك الزعامة السياسية، وكل مناقبه يفسرونها على أنها نفاق من أبي بكر والعياذ بالله، وكذلك عمر، وعندهم دعاء يسمونه دعاء صمني قريش، وقع عليه الخميني، وفيه: اللهم العن -أستغفر الله- صنمي قريش أبا بكر وعمر، وابنتيهما حفصة وعائشة، ومن والاهما، ومن أحبهما، ومن ترضى عنهما إلى آخره! ونحن في نظر الشيعة كفار، وهؤلاء الذين ما زالوا ينكرون الحقيقة لا يريدون أن يكتشفوا الحقيقة إلى الآن؛ لكيلا يصبح الأمر صحيحاً، نحن في نظرهم كفار؛ لأننا لا نؤمن بالأئمة الاثني عشر، والإيمان بهم قطب رحى الدين عندهم! وحزب الله في لبنان شيعي. والشيعة لهم مواقف جيدة عديدة مع أنهم ضلال تصدر منهم مثل هذه المواقف، فهذا خاتمي قبل شهر تقريباً كان المفروض أن يذهب زيارة إلى فرنسا في أمر مهم، وكانت المشكلة أنه أثناء مناقشة بروتوكول الزيارة قال: في حفلة الاستقبال ممنوع أن يوضع خمراً في هذه الحفلة أبداً، وقال: نحن في تقاليدنا وعاداتنا لا ينبغي أن نشرب الخمر، وهو حرام، وغير هذه الزيارة بسبب هذا الرفض، وكان الأولى أن يقف هذا الموقف من ينتمون لأهل السنة والجماعة فالله المستعان. أيضاً في الآية السابقة: ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) يفسرون الآية بأن أبا بكر كان في شدة الجزع والخوف، فيصفونه بالجبن والخذلان، مع أنه ما جزع إلا على الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل خوفه كان على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن هكذا يصفه هؤلاء الشيعة، فهم لا يرون إلا ما تراه قلوبهم المنكوسة. ويا ويل الذي اسمه عمر! وهذه حقيقة، لو أن أحداً اسمه عمر وتعامل مع الشيعة؛ فإنه يضطهد اضطهاداً كبيراً، ونقول: اسألوا عن أخبار وأحوال أهل السنة في إيران، وماذا يفعل بهم، أهل السنة في إيران يضطهدون أشد من اضطهاد الفلسطينيين على يد اليهود! أهل السنة في إيران يضطهدون اضطهاداً شديداً، يكفي أن طهران حتى الآن ممنوع أن يقام فيها مسجد واحد لأهل السنة، رغم أن السنيين فيهم أكثر من ثلث السكان، لكن في طهران يمنعون حتى من إقامة مسجد واحد، ومع ذلك توجد فيها عدة كنائس ومعابد لليهود، ومعابد للأرثوذكس، ولعبدة الأوثان، لكن أن يوجد مسجد في طهران لأهل السنة فهنا ممنوع. ويصفى زعماء أهل السنة تصفية شديدة، كل وقت يقتل رجل من زعماء السنة، وممنوع إقامة مدارس لهم، وهذه قصة مأساة ما أحد يكاد يحس بها، فكم يحصل لإخواننا الآن في إيران من اضطهاد لأنهم أهل السنة، وما أكثر العذاب الذي يتعرضون له، ونحن ما زلنا نهتف بـ الخميني وثورته التي تسمى بالإسلامية، وهي أحلام يقظة ولا حقيقة لها. وذكرنا أنهم يتشاءمون من يوم الإثنين؛ لأنه يذكرهم بالآية: ((ثَانِيَ اثْنَيْنِ))، ويتشاءمون من العدد أربعة؛ لئلا يذهب الوهم إلى عدد الخلفاء الأربعة الراشدين، ويفضلون لعن عمر وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذكر الله وسائر العبادات! وفي كتبهم أن لعن الشيخين في كل صباح ومساء موجب لسبعين حسنة، ولهم كتاب اسمه: مفتاح الجنان، مثل: دلائل الخيرات عند الصوفية، فيه ذكر درجات كثيرة لمن لعنهما، وعندهم دعاء يسمونه: دعاء صنمي قريش، يريدون بهما أبا بكر وعمر، وينسبون زوراً إلى أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه أنه قال في هذا الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، والعن صنمي قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما إلى آخره. ويقولون: إن أبا بكر وعمر وعثمان منافقون. ويقولون: إن الآيات المشعرة بمدح الصحابة من المهاجرين والأنصار وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كل هذه الآيات متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله، جميع الآيات التي فيها مدح للمهاجرين والصحابة وعائشة وأبي بكر وعمر عندهم آيات متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله. ويقول شيخ مشايخهم: محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد: إن أهل السنة شر من اليهود والنصارى، وأهل السنة عندهم أنجس من اليهود والنصارى، حتى لو أصاب أبدانهم شيء منهم غسلوه، مع أن المتلطخ بالغائط والعذرة عندهم ليس بنجس، لكن لو أصاب بدنه شيء من أهل السنة يغسله. وعندهم أن الابتداء بلعن أبي بكر وعمر بدل التسمية في كل أمر ذي بال أحب وأولى. ويقولون: كل طعام لعن عليه الشيخان سبعين مرة كان فيه زيادة البركة. ويقولون: إن الله أمر الكرام الكاتبين يوم قتل عمر أن يرفعوا الأقلام ثلاثة أيام عن جميع الخلائق، حتى المشرك وشارب الخمر وكذا وكذا، هؤلاء كلهم لهم ثلاثة أيام مكافأة للبشرية أنه تم قتل عمر، فرفعت الأقلام ثلاثة أيام، فلا تكتب الملائكة ذنباً على أحد. والقمي منهم ابتدع: عيد بابا شجاع الدين في تسعة ربيع الأول، وعندهم أن بابا شجاع الدين كنية أبي لؤلؤة المجوسي قاتل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه. ويقولون: إنما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام أبا بكر معه حين هاجر من مكة لئلا يعلم كفار قريش بخروجه وطريق ذهابه. فهذه وقفة عارضة فيما يتعلق بمواقفهم، والذي قادني إليها أن هذه الآية مما يؤكد صحة خلافة أبي بكر وعمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى مدح هؤلاء ووعدهم الأجر الحسن إذا أطاعوا الخليفة الذي يأمرهم بقتال بني حنيفة، فقال تعالى: ((قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا)) الذي يأمركم. ((يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) لتضاعف جرمكم، لكن إن تتولوا: ((كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ)) يعني: زمن الحديبية ((يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) يعني: لتضاعف جرمكم، وهذا التعليل يحتمل أن يكون في الدنيا، ويحتمل أن يكون في الآخرة.

الفتح [17 - 25]

تفسير سورة الفتح [17 - 25]

تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج)

تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج) قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:16] قول الله سبحانه وتعالى في هذا الوعيد: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) هذا وعيد لمن يتولى عن الجهاد، وخص الله من هذا الوعيد واستثنى أصحاب الأعذار وإن حدثت أعذارهم بعد التخلف الأول، فقال عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:17]. بعد أن ساق الله سبحانه وتعالى الوعيد في حق المخلفين ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد. يقول ابن كثير: ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد، فمنها: لازم -عذر لازم- كالعمى والعرج المستمر، وعارض -يعني: من الأعذار ما يكون عارضاً يطرأ ثم يزول- كالمرض الذي يطرأ أياماً ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ. ثم قال تعالى مرغباً في الجهاد وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش: ((يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)) في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار. قال الرازي: اعلم أن طاعة كل واحد منهما طاعة للآخر، طاعة الله هي طاعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وطاعة الرسول هي طاعة الله كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فجمع بينهما هنا بياناً لطاعة الله تبارك وتعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، فإن الله سبحانه وتعالى لو قال: ومن يطع الله يدخله جنات لكان لبعض الناس أن يقول: نحن لا نرى الله، ولا نسمع كلامه، فمن أين نعلم أمره حتى نطيعه؟ فقال: طاعته في طاعة رسوله، وكلامه يسمع من رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: ((وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: بقلبه. ثم لما بين حال المكلفين بعد قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10] عاد إلى بيان حالهم وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال ابن عباس: (لما نزلت: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) قال أهل الزمانة -يعني: الأمراض المزمنة المستمرة-: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت: ((لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ))) أي: لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد؛ لعماهم وزمانتهم وضعفهم. وقال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم، يعني: من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل، هؤلاء يمكن أن يسيروا معكم إلى خيبر بخلاف المخلفين. وقال أبو حيان: هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو، ومع ارتفاع الحرج فدائم لهم الغزو، يعني: هم معذورون عند الله، ومع ذلك يجوز أن يخرجوا في الغزو وأجرهم فيه مضاعف، والأعرج أحرى بالصبر وألا يفر؛ لأن الذي يستطيع الجري قد يفر بسهولة؛ لأنه يستطيع الجري، أما الأعرج فإنه أحرى أن يصبر ويثبت لعرجه. وقد غزا ابن أم مكتوم رضي الله عنه وكان أعمى في القادسية، وكان رضي الله عنه يمسك الراية، فلو حضر المسلمون فالغرض متوجه بحسب الوسع في الغزو. ثم يقول الله تبارك وتعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) يعني: فيما ذكر من الأوامر والنواهي ((يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ)) أي: عن الطاعة ((يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)) لا يغادر قدره. والمعني بالوعد والوعيد هنا أعم من المعني بهما فيما سبق، كما ينبئ عن ذلك التعبير بـ (من) هنا، وبضمير الخطاب هناك في الآية الأخرى: ((وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)). فهذه الآية مخاطب بها طائفة معينة، فالصيغة عامة قال تعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)).

تفسير قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ويهديكم صراطا مستقيما)

تفسير قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك ويهديكم صراطاً مستقيماً) لما ذكر الله سبحانه وتعالى حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه صلى الله عليه وسلم، فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: يخبر تعالى بفضله ورحمته برضاه عن المؤمنين، إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة. وهذه البيعة يقال لها: بيعة الرضوان؛ سميت بيعة الرضوان لرضا الله عن المؤمنين فيها، ويقال لها أحياناً: بيعة أهل الشجرة. قال: وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دار الكلام بينه وبين المشركين يوم الحديبية في شأن مجيئه، وأنه لم يجئ لقتال أحد، وإنما جاء زائراً هذا البيت معظماً له، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة في ذلك، فجاء خبر غير صادق أن عثمان قتل، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من معه من المؤمنين وكانوا نحواً من ألف وخمسمائة فبايعوه تحت شجرة على قتال المشركين. وعثمان كان رسولاً مبعوثاً من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام ليخبر قريشاً أنه ما جاء لقتال، وإنما جاء معظماً البيت ومريداً للعمرة، فلما بلغه نبأ مقتل عثمان جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم نحو ألف وخمسمائة تحت شجرة فبايعوه على قتال المشركين، وألا يفروا حتى يموتوا. فأخبر الله تعالى أنه رضي عن المؤمنين في تلك الحال التي هي من أكبر الطاعات وأجل القربات، قال تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) يعني: من الإيمان ((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)) شكراً لهم على ما في قلوبهم، وزادهم هدى، وعلم ما في قلوبهم من الجزع من تلك الشروط التي شرطها المشركون على رسوله، فأنزل عليهم السكينة تثبتهم وتطمئن بها قلوبهم. ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) يعني: كافأهم الله سبحانه وتعالى بأن أثابهم فتحاً قريباً، وهو فتح خيبر، لم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها جزاء لهم وشكراً على ما فعلوه من طاعة الله تعالى والالتزام بمرضاته. قوله: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19] أي: له العزة والقدرة التي قهر بها الأشياء، فلو شاء لانتصر من الكفار في كل وقعة تكون بينهم وبين المؤمنين، ولكنه حكيم يبتلي بعضهم ببعض، ويمتحن المؤمن بالكافر. قوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح:20] هذا يشمل كل غنيمة غنمها المسلمون إلى يوم القيامة. والمعنى وعدكم الله -أيها المؤمنون- مغانم كثيرة تأخذونها، فيدخل في هذه الغنيمة كل غنيمة غنمها المؤمنون من تلك اللحظة في فتح خيبر إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فهذا داخل في هذا الوعد. قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) الإشارة إلى مغانم خيبر، فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول للصحابة: لا تحسبوها وحدها، بل ثم شيء كثير من الغنائم سيتبعها، والدليل على ذلك قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) فحين تقول: عجلت لك هذا فمعناه: إلى أن يأتي المؤجل بعد، فهذا التعبير يتضمن بشرى بمغانم أخرى ستأتي فيما بعد. ((وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) يعني: واحمدوا الله إذ كف أيدي الناس القادرين على قتالكم الحريصين عليه، فهي نعمة وتخفيف عنكم. ((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني: ولتكون هذه الغنيمة آية للمؤمنين يستدلون بها على خبر الله الصادق، ووعده الحق، وثوابه للمؤمنين، وأن الذي قدرها سيقدر غيرها. ((وَيَهْدِيَكُمْ)) بما يقيض لكم من الأسباب ((صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) من العلم والإيمان والعمل. ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)) أي: وعدكم الله أيضاً غنيمة أخرى لم تقدروا عليها وقت هذا الخطاب. ((قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) أي: هو قادر عليها، وهي تحت تدبيره وملكه وقد وعدكموها فلابد من وقوع ما وعد به لكمال اقتدار الله تعالى، ولهذا قال: ((وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)). يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) أي: من الصدق والوفاء والسمع والطاعة. ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19].

خفاء الشجرة التي بايع تحتها الصحابة والحكمة من ذلك

خفاء الشجرة التي بايع تحتها الصحابة والحكمة من ذلك عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: (بينما نحن قائلون -والقيلولة: هي الاستراحة وسط النهار- إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! البيعة البيعة، نزل روح القدس، قال: فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) فبايع لـ عثمان بإحدى يديه على الأخرى -لأن عثمان جاء الخبر أنه قتل فبايع نيابة عن عثمان بإحدى يديه على الأخرى-، فقال الناس: هنيئاً لـ ابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف). قال القاسمي: وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد، ففي الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فانطلقنا من قابل حاجين، فخفي علينا مكانها، وإن كان بينت لكم فأنتم أعلم. وفيهما أيضاً عن سفيان أنه قال: إنهم اختلفوا في موضعها. وروى ابن جرير عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: كان جدي يقال له: حزن، وكان ممن بايع تحت الشجرة، قال: فأتيناها من قابل فعميت علينا. يعني: لم يستطيعوا أن يهتدوا لمكانها. ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول: هاهنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا؛ هذا التكلف. أي: هذا مما لا يعنيكم ولا يفيدكم، فذهبت الشجرة وكانت سمرة إما ذهب بها سيل وإما شيء سوى ذلك. انتهى كلام ابن جرير. وقال الحافظ في الفتح: روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، وهذا صححه الحافظ ابن حجر عن نافع أن عمر بلغه أن قوماً يأتون الشجرة فيصلون عندها؛ فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت، ولا ينافي ما تقدم لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها أو توهموها فاتخذوها مسجداً ومكاناً مقدساً فقطعها عمر عندئذ؛ صوناً لعقيدتهم من الشرك؛ لأن دوام العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها وإجلال أمثال أصحابها. وقال في الفتح أيضاً في شرح حديث ابن عمر: وقوله: رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. يعني: اختلف الصحابة اختلافاً شديداً في مكان الشجرة، فيقول: كانت رحمة من الله أنها عميت، وما كاد اثنان من الصحابة يتفقان على مكانها. يقول: وقد وافق المسيب بن حزن والد سعيد ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة، والحكمة في ذلك ألا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهداً في ما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة من الله. أي: كان خفاؤها عليهم بعد ذلك رحمة من الله تبارك وتعالى، فإذا كان هذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في هذه الشجرة التي ذكرت في القرآن: ((إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، ومع ذلك الصحابة سدوا ذرائع الافتتان، فأولى ثم أولى ما يفترى ويزعم الآن من وجود آثار للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه موجود فيما يسمونه كذباً وزوراً وافتراء على الله الحرم الأحمدي، وحرم إبراهيم الدسوقي وأحمد البدوي، يزعمون أنه موجود في أحد الأماكن هناك! وهذا من الكذب على الله أن يدعى أي مكان في الأرض سوى مكة والمدينة حرماً، لا يوجد إلا حرمان فقط، حتى المسجد الأقصى لا يسمى حرماً، وسبق أن درسنا في دروس الفقه ما معنى كلمة (حرم)، فليست كلمة تطلق هكذا بالطريقة التي نستعملها الآن: الحرم الجامعي، وحرم السكة الحديد، وحرم كذا فهذا لا يجوز، فضلاً عن الحرم الإبراهيمي والحرم الدسوقي إلى آخره، وهذه الأماكن توجد في بعضها أثر يزعمون أنه أثره صلى الله عليه وسلم، أو أن قدمه مطبوع على حجر، وهذا كله كذب وزور، وحتى جدلاً لو كان ذلك لكان أولى أن يفعل به ما فعل مع هذه الشجرة، فيطمس حتى لا يحصل به هذا الافتتان، حيث يتمسحون بها ويفعلون هذه الأشياء. فهذا يشير إلى قاعدة مهمة جداً في حماية جناب التوحيد، وهي قاعدة: سد ذرائع الشرك والفتنة، وهي من القواعد المهمة جداً، والتي يؤسس عليها المنهج السلفي، فالمنهج السلفي له أصول، والأصول يرجع إليها لبناء قواعد هذا المنهج: القرآن، السنة، إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومنها أيضاً: قاعدة سد الذرائع، فهي من أصول المنهج السلفي التي امتاز بها هذا المنهج، وقد ناقشنا من قبل بالتفصيل عند مدارسة كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى فصلاً مهماً جداً، وكنا أوصينا الإخوة بحفظه ومذاكرته جيداً، وعنوانه: احتياطات الشريعة لحماية توحيد الألوهية، ومع أن الفصل في صفحات قليلة جداً لكنه في غاية الأهمية. ومن الاحتياطات التي اتخذتها الشريعة لحماية توحيد الألوهية حتى لا يشرك الناس بالله: 1 - تحريم التصوير والتماثيل؛ لأنها تكون ذريعة للافتتان بأصحابها. 2 - النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة. 3 - تحريم الذبح في مكان كان فيه عيد من أعياد الجاهلية أو كان فيه صنم يذبح له. 5 - تحريم بناء المساجد على القبور. 6 - تحريم الغلو في الصالحين؛ لأنه يفضي إلى الشرك، وحتى الغلو في مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هذا كان فصلاً في غاية الأهمية، وما زلنا نوصي الإخوة بهذا الكتاب، كتاب: دعوة التوحيد للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله تعالى، فمن هذه الاحتياطات هذا المسلك الذي فعله الصحابة مع هذه الشجرة، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية. لأن من لم يعرف الجاهلية يسهل عليه أن يتورط في شيء من أفعال الجاهلية؛ لأنه لا يعرف أفعال الجاهلية، لكن من رأى ضلال الجاهلية ونور الإسلام أمكنه أن يميز بينهما، فمن ثم كثير من الناس يزعمون أنهم على الإسلام الصحيح أو على الفهم الصحيح للإسلام، بينما هم واقعون في بعض الشركيات كدعاء الموتى من دون الله، والاستغاثة بهم، والطواف بقبورهم وغير ذلك من هذه الشركيات؛ لأنهم ما عرفوا الجاهلية، ولو عرفوا الجاهلية لأدركوا أن هذه من خصال أهل الجاهلية، ومن أفعال أهل الجاهلية، ولذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له رسالة مهمة جداً في هذا الباب، اسمها: (مسائل الجاهلية) فهذا كتاب ينبغي أن يكون مشهوراً، عدد فيه خصائص الجاهلية التي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطهر المسلمين منها، وقد شرح هذا الكتاب العلامة محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى. ونحن معشر المصريين عموماً نميل جداً إلى الغلو في هذه الأشياء، فالخبر يخرج شبراً ويعود ذراعاً، ونضع عليه التوابل والبهارات حتى نثير إعجاب الناس بما ننقله من حكايات، وأي موضوع يتداول فغالباً إذا تتبعت سلسلة الخبر تنتهي بك إلى مجاهيل أو إلى مجروحين أو إلى آخره، فنحن نعاني من آفة النقل. وما آفة الأخبار إلا رواتها فما بالك بمجتمع العوام الذين لا يعرفون شيئاً عن وجوب التحري؟! فالأمية عندهم هي التي تدفعهم إلى المغالاة والغلو وزيادة الثقة، وهذه الأخبار غالباً مفتراة، ونحن نعرف طبيعة بني جلدتنا، عندنا ميل إلى الغلو في هذه الأشياء، وربما يكون هذا الغلو بسبب ما يحصل من الإيحاء النفسي أن توجد حالة نفسية تعالج بالإيحاء، فينبغي أن نحترم عقولنا، ونحن لا نقول: إن هذا غير ممكن في حكم العقل، يعني: خرق العادة شيء ممكن خاصة لأولياء الله الصالحين، فلذلك نحن نقول: خرق العادة في حد ذاته لا ينبغي أن يفتننا أبداً، ولا يهزنا ولا يؤثر فينا إلا بشروط، وأوضح دليل حتى نسكت الجميع قضية المسيح الدجال؛ لأن كثيراً من الناس لاسيما النصارى الشيطان يلبس عليهم جداً في هذا الباب، تكلمهم في التوحيد والدخول في الإسلام، فيقول لك: عندي دليل على أن ديني دين صحيح، فهذه المعجزات التي حصلت لي أو التي رأيتها بعيني تدل على ذلك، فالشيطان يلبس عليهم بهذه الأشياء، وخرق العادة لا يدل على أن الذي جرى على يديه خرق العادة هو رجل صالح أبداً، بدليل الدجال الأعور الذي يأتي بأشياء تدهش العقول حتى يفتن الناس به ويعبدونه من دون الله، فـ المسيح الدجال كل اليهود والنصارى يتهيئون لاستقباله، فالنصارى يزعمون عودة المسيح للمرة الثانية على أنه -والعياذ بالله- إله، واليهود يزعمون أن المسيح الذي بشروا به لم يأت، والذي أتى كان هو المسيح الدجال. فالشاهد من هذا: أن المسيح الدجال الذي سوف يدعي الألوهية هو نفسه سيأتي بخوارق، ومع ذلك هو الدجال، فمجرد خرق العادة لا يكفي، وإنما ينبغي أن ننظر في الخارقة نفسها هل هي موافقة للشرع أم مخالفة؟ ننظر في سلوك الشخص صاحب خرق العادة هل هو متبع للسنة موحد مسلم ومتبع للسنة والجماعة أم هو من أهل البدع والضلالة؛ لأن الشيطان يمكن أن يعينه على إنجاز هذه الخوارق بقدرة الله سبحانه وتعالى وحكمه الكوني القدري؛ فتنة واختباراً وابتلاء للناس كما سيحصل مع الدجال، فالخو

ضوابط التداوي بالقرآن الكريم

ضوابط التداوي بالقرآن الكريم القرآن وقاية وعلاج وشفاء لما في الصدور، ولا حرج على الإطلاق في التداوي به، بل الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرقي نفسه يومياً قبل أن ينام بالمعوذات كما هو معلوم وثابت في السنة. فنحن لا نناقش أبداً أن القرآن شفاء وعلاج، ولكن في نفس الوقت نقول: ليس هناك أي تصادم على الإطلاق بأن تأخذ بكل ما يتاح لك من الأسباب لجلب النفع أو دفع الضر، مادامت الأسباب شرعية، وأعظم هذه الأسباب هو الدعاء والرقية والثقة بالله سبحانه وتعالى، والتداوي بزمزم، والتداوي بالدعاء لا يتنافى مع الأخذ بالأسباب التي خلق الله سبحانه وتعالى لمدافعة هذه الأمراض، وكما خلق الله العطش خلق لنا الماء الذي ندفع به العطش. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داء إلا أنزل له دواء) فلا يوجد مرض في الدنيا ليس له علاج إلا مرض واحد، وهو الهرم والشيخوخة فقط، وما عدا ذلك من كل الأمراض التي في العالم لها علاج، حتى الذي يقول الأطباء: ليس له علاج، نحن نقول: لا، تأدبوا مع الله ومع رسول الله، وهذبوا ألفاظكم، لا يوجد مرض ليس له علاج إلا الشيخوخة، وإنما نقول: لا نعلم علاجه، أو لم يكتشف علاجه. إذاً: ما يسره الله سبحانه وتعالى من أسباب العلاج والتداوي ينبغي أن نأخذ به؛ لأن الصحة رأس مال الإنسان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) فالصحة نعمة، وإذا حافظنا عليها فهي رأس مالنا في هذه الدنيا حتى نستطيع عبادة ربنا وأداء واجباتنا. وينبغي أن نتأكد: هل هذه المرأة المشهورة بالمعالجة تعالج فقط بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهل تدعو دعاء ليس فيه شرك، وليس فيه أي مخالفة شرعية؟ هل تستعمل لغة أجنبية أو شيئاً غير مفهوم؟ فإذا حصل شيء من ذلك فهذا بلا شك يكون علامة خطيرة على أنها ربما تستعين بالشياطين فيعينونها على ذلك. أنا لا أقطع بهذا، لكن أقول: ينبغي التثبت من كل هذا، هل هي ملتزمة بالشرع مؤمنة موحدة؟ هل هي تعالج بالقرآن فقط أم أنها تستعمل ألفاظاً غير عربية وغير مفهومة؟ فإن كان كذلك فيمكن أن يكون فيها شرك بالله سبحانه وتعالى، فينهى عنها في مثل هذه الحالة. سنفترض أحسن الاحتمالات، لنفترض أنه ثبت لدينا أن هذه المرأة صحيحة العقيدة مستقيمة السيرة، مقيمة للصلاة، تقية صالحة، ثم إنها تعالج بالقرآن الكريم، وليس فيها أي شيء من أفعال السحرة أو تصرفات السحرة أو المنجمين والعرافين والكهنة إلى آخره، وأنها أيضاً تعمل عمليات بالطريقة الغامضة التي لا نعرف كنهها إلى الآن إلى آخره، يعني: كل شيء منها لا يخالف الشريعة، ولكن يخشى من افتتان الناس بها، فيعتقدون أنها هي التي تشفي، وليس الشفاء من الله سبحانه وتعالى، وهذا شرك صراح لو وصل الأمر إلى خشية افتتان الناس، والظاهر أمامنا الآن أنه توجد فتنة بها بلا شك. فالذي نريد أن نقوله: لو افترضنا سلامتها من كل هذه الأشياء، وخشي منها على عقيدة العوام؛ فينبغي أن يؤخذ على يديها ويحال بينها وبين الناس، وفي أنموذج الشجرة التي ذكرت في القرآن دليل لنا على ذلك. وإذا أدخلت بيتها، وحجرت عن الاختلاط بالناس، فما يضرها؟ لكن ما هو ردة فعل الجماهير لو أنه حيل بينهم وبين هذه المرأة؟! الغضب الشديد، والمظاهرات، أليست هذه علامة خطر؟! فهذه علامة خطيرة تدل على شدة تعلق قلوبهم بهذه المرأة، ولو أنها ماتت هذه المرأة أو حبست أو حجر عليها حتى لا تفسد عقائد الناس؛ فردة فعل الناس تعطينا مؤشر لمدى خطورة التمادي في هذا الأمر، ومدى خطورته على عقيدة الناس؛ لأنهم سيجزعون، بل قد جزعوا بالفعل، فقد: أتوا في الجريدة بصورة الناس فيها جلوس ينتظرون متى تطلع، ويدعونها، ويدعون على من قبضوا عليها إلى آخره، وهي خرجت كما هو معلوم، لكن الشاهد: أن هذا الجزع في حد ذاته مؤشر دقيق يقيس لنا مدى خطورته على افتتان الناس بها، فالمسلك الشرعي في مثل هذه الأشياء هو إزالتها، كما فعل من قبل حيث كان هناك شجرة قبل عدة سنوات في إحدى المحافظات، كل ورقة كان عليها اسم نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى، مكتوب عليها ذلك بقدرة الله! ثم ذهبوا ونزعوها، وأياً كانت نية الذين أخفوا هذه الشجرة فإنهم قد صادفوا مقصد الشرع؛ لأن شجرة مثل هذه الشجرة ماذا سيفعل بها المصريون؟! المصريون عندهم قابلية للغلو في هذه الأشياء، فلو أن الشجرة هذه بقيت فإنها كانت ستعبد من دون الله ولا حول قوة إلا بالله! ونحن نرى عبادة غير الله عند قبر البدوي والدسوقي، وكلها قبور وهمية، وتكلمنا من قبل عن موضوع المزارات كقبر السيدة زينب، وليس هناك قبر السيدة زينب، وكذلك قبر أبي الدرداء، وأبو الدرداء لم يدفن في الإسكندرية، كذلك جابر بن عبد الله الأنصاري لم يدفن في مصر، فأغلبها قبور وهمية، ومع ذلك يفعل بها ما يفعل مع الله سبحانه وتعالى من الاستغاثة والذبح والنذر والطواف بها والتمسح إلى آخر هذه الشركيات. فالشاهد من هذا كله: أن مسلك دفن هذه الشجرة أو إخفائها كان مسلكاً صحيحاً، وتخيلوا لو بقيت هذه الشجرة إلى اليوم ماذا كان سيفعل بها؟! كذلك بالنسبة لهذه المرأة -والله تعالى أعلم- إذا ثبت أن بقاءها بهذه الصورة فيه إخلال بعقيدة الناس، وخدش لعقيدة التوحيد؛ ولذا الناس سيتصورون أن المرأة هذه لو ماتت أو حجزت دونهم انسد أمامهم باب الشفاء، وهذا مؤشر يوحي أنهم لا يلجئون إلى الله، وإنما تعلقت قلوبهم بها، وقد صح في الحديث: (إن الله هو الطبيب إنما أنت رفيق) قالها لمن يعالج بالطب، فالله في الحقيقة هو الطبيب المعالج سبحانه وتعالى، وهو الشافي، وفي الحديث: (اللهم اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً) فالله سبحانه وتعالى هو الذي يكتب الشفاء، ونحن نأخذ بالأسباب الطبيعية في التداوي، والذهاب إلى أهل الاختصاص، وأهل الذكر في علم الطب، أما أن نتجافى مع الطب، ونهجر الأسباب التي أمر الشرع بها من أسباب التداوي، فكما يقول علماؤنا عند دراسة قضية القضاء والقدر: يجب أن نأخذ بالأسباب ولا نتعلق بها، وهذا هو التوكل على الله سبحانه وتعالى، فتعطيل الأسباب قدح في الشريعة، والتوكل على الأسباب قدح في التوحيد. فالذي نشعر به ونخشاه أن هناك قدحاً في توحيد هؤلاء العوام الذين يتهافتون بهذه الصورة الغريبة على هذه المرأة المعالجة، فأنا أقول: حتى لو فرض أن أحسن أحوالها أن كل الشروط موجودة ومتوافرة فيها، ولكن يخشى منها على عقيدة الناس؛ فسداً للذريعة ينبغي أن تحجب عن الناس، ويحال بينها وبين الناس، ولا يساء إليها ولا تظلم، لكن تحجب، وأسوتنا في ذلك سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، لما كان خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه يمن الله عليه بالنصر بعد النصر مع أنه كان يقابل جيوشاً جرارة رضي الله تعالى عنه، وكان الناس يتسابقون في الخروج إلى الجيش الذي فيه خالد من شدة انبهارهم بالإنجازات العظيمة التي أنجزها سيف الله المسلول على المشركين خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فعزل عمر خالداً وهو في قمة انتصاراته، وفي أوج مجده، بمجرد أن ولي عمر رضي الله تعالى عنه الخلافة عزله، فمن أوائل ما فعل عمر في خلافته أن عزل خالد بن الوليد، وبين أنه ما عزله لعلة فيه، بل عزله لأنه رأى الناس تعلقت قلوبهم بـ خالد، وكأن خالداً هو الذي يأتي بالنصر، ولاشك أنه يحتمل أن أحداً من الناس في عهد عمر رضي الله تعالى عنه ربما يعتقد أن خالداً هو الذي يأتي بالنصر، وقس هذا الاحتمال بالنسبة للاحتمالات التي يقولها الناس الآن عن هذه المرأة: هي التي تأتي بالشفاء، كم بين أمة وأمة! كم بين جيل وجيل من البعد في فهم الإسلام وحقائق التوحيد! فإذا خشي على الصحابة وعلى المسلمين في ذلك الصدر الأول الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس أن يقول بعضهم: إن النصر يأتي من خالد فكيف بحال أبناء هذا الزمان؟! لاشك أن الاحتمال أقرب وأقوى، والله تعالى أعلم.

الرضا التام من الله عن أهل الشجرة

الرضا التام من الله عن أهل الشجرة يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) قال ابن جرير: عوضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة بقتالهم أهلها فتحاً قريباً، وذلك فيما قيل: فتح خيبر. ((وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا)) هي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة. وقيل: مغانم فارس والروم. قوله سبحانه وتعالى: ((إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) (تحت الشجرة) متعلق بـ (يبايعونك) أو متعلق بمحذوف حال من مفعوله. وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة، وأنها لم تكن عن خوف منه صلى الله عليه وسلم؛ ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء، ويستتبع ما لا يكاد يقدر على ذلك، ويكفي فيما ترتب على ذلك من بركات هذه المبايعة ما أخرجه أحمد عن جابر ومسلم عن أم بشر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة). وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك عند حفصة فقالت: (بلى يا رسول الله! فانتهرها. فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فقال عليه الصلاة والسلام: قد قال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]). وفي بعض الروايات الأخرى: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة إلا تحلة القسم)، وهو القسم الذي أقسمه الله تعالى في قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، تحلة القسم فقط لكنهم يجدونها برداً وسلاماً؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]. وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أنتم خير أهل الأرض)، فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم، وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وهذا أمر في غاية الأهمية، فهذه الآية من الآيات التي تخزي الشيعة الرافضة قبحهم الله؛ لما في قلوبهم من بغض وسخط على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن فيهم أهل هذه الشجرة، فالله يقول: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ))، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة، ثم هؤلاء الحمقى الحاقدون يلعنون الصحابة، ويسبونهم ويكفرونهم، ويتبرءون منهم! ولو سخط على الصحابة جميع من في الأرض هل هذا يضر الصحابة؟! لا، فقد أخبر الله أنه رضي عنهم، وعثمان منهم، بل كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم له رضي الله عنه -كما قال أنس - خيراً من أيديهم لأنفسهم. قوله: ((فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)) أي: من الصدق والإخلاص في مبايعتهم. وقيل: من الإيمان وصحته، وحب الدين والحرص عليه. وقيل: من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم. وقال مقاتل: فعلم الله ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلى الله عليه وسلم على الموت، فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا. وتفسر السكينة بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها. وهذا كلام مرفوض؛ لأنه فسر الآية بأنه علم في قلوبهم أنهم كانوا يكرهون البيعة خشية القتال. ((فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ)) يعني: جعلهم يقبلون. يقول الألوسي رحمه الله تعالى: ولعمري أن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم، وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره. قوله: ((وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) قيل: هو فتح خيبر، وكان عقب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن: فتح هجر، والمراد هجر البحرين، وكان فتحاً في زمانه صلى الله عليه وسلم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات. وفي صحيح البخاري: (أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر) وقيل: هو فتح مكة. والقرب أمر نسبي، وقرأ الحسن وغيره: (وأتاهم) أي: أعطاهم. قوله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح:19] هي: مغانم خيبر كما قال غير واحد، وقسمها عليه الصلاة والسلام فأعطى للفارس سهمين -وكانوا ثلاثمائة فارس- وللراجل سهماً. وفي قراءة: (تَأْخُذُونَهَا) بالتاء الفوقية، والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الامتنان. ((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) غالباً (حكيماً) مراعياً لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه. ((وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ)) وهي ما يفيء الله على المؤمنين إلى يوم القيامة ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) يعني: مغانم خيبر ((وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) يعني: أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح. (ولتكون) هذه الكفة (آية للمؤمنين) وعبرة يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه تعالى ضامن نصرهم والفتح عليهم. قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله: وقيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة في منامه، ورؤيا الأنبياء حق، فتأخر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل الله سبحانه وتعالى فتح خيبر علامة وعنواناً لفتح مكة، فيكون الضمير في قوله: ((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) علامة للمؤمنين وهي فتح خيبر، فيكون قوله: (ولتكون) عائدة على قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) وهي مغانم خيبر. ويستأنس لهذا بما سبق أن تكلمنا عنه مراراً من أن شأن الله سبحانه وتعالى أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها، المنبئة لها وعليها، وهي التي تسمى الإرهاصات، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب قصة زكريا، حيث رزقه الولد وهو كبير لا يولد لمثله، قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38]. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة قصة البيت وبنائه وتعظيمه، والتنويه به، وذكر بانيه وتعظيمه ومدحه، ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وكما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة الفيل وبشارات الكهان به وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكذلك الهجرة كانت مقدمة بين الأمر بالجهاد، وكذلك كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة لهذا الفتح المبين، وأمن الناس به، وكلم بعضهم بعضاً، وتناظروا في الإسلام، وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام. إذاً: هذه إشارة على جعل فتح خيبر علامة وعنواناً لما هو أعظم وهو فتح مكة، وهذا الذي وقع بالفعل.

أقوال العلماء في المغانم الموعود بها في قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها)

أقوال العلماء في المغانم الموعود بها في قوله: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها) في المغانم الموعود بها أقوال أصحها: أن الله وعد بمغانم كثيرة من غير تعيين، وكل ما غنموه كان منها، والله كان عالماً بها، وهذا كما يقول ابن مالك: تقول لمن يخدمك: لك مني على ما فعلته الجزاء إن شاء الله، ولا يريد شيئاً بعينه، ثم كل ما يأتي به ويؤتيه يكون داخلاً تحت ذلك الوعد، ولله المثل الأعلى. قوله تعالى: ((وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ)) لإتمام المنة كأنه قال: رزقتكم غنيمة باردة من غير مس حر القتال، ولو تعبتم فيه لقلتم: هذا جزاء تعبنا، لكن الله كف أيدي الناس عنكم بدون تسبب منكم. ((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني: لينفعكم الله بها وليجعلها لمن بعدكم آية تدلهم على أن ما وعدهم الله يصل إليهم كما وصل إليكم، يعني: الذين يأتون بعد الصحابة إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى فإنها تكون آية لهم، حيث إن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين الغنيمة وقد حصلوها، ووعد من يأتي بعد من المسلمين غنائم أخرى سوف يأخذونها، فيستدلون بما رأوا من إعطاء الله الصحابة رضي الله تعالى عنهم الغنيمة المعجلة على أن وعد الله سبحانه وتعالى آت، وهي نفس الغنيمة الموعودة بها. ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: أو: ((وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ)) يعني: تنفعكم في الظاهر، ويزداد يقينكم إن رأيتم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. قوله: ((مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) ذكر الجلبي أنه إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر، فلا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية. إذاً: هذا الجزء من السورة نزل بعد فتح خيبر، وكل السورة نزلت مرجع النبي عليه الصلاة والسلام من صلح الحديبية قبل خيبر، فعبر بالماضي لتحقق الوقوع، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] فهل هذا قد حصل بالفعل؟ لا، لكن يعبر عما يحصل في المستقبل بالماضي لإفادة تحقق وقوعه، فكأنه وقع بالفعل وصار ماضياً يخبر عنه بصيغة الماضي، فهذه من أساليب اللغة العربية، لكن هنا قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ))، هي في خيبر، فهذا من باب الإخبار عن الغيب. ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) (هذه) إشارة لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة، والتعبير بالمضي للتحقق.

تفسير قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها)

تفسير قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها) قال تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح:21] كأن الله سبحانه وتعالى قال: وعدكم الله مغانم تأخذونها ومغانم لا تأخذونها، ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين، فمفهومهم الآية أنه ستكون مغانم أخرى لا يأخذها الصحابة، وإنما هي مدخرة لمن يأتي بعدهم من المؤمنين، ولا يقدرون هم عليها، بل يأخذها من يجيء بعدهم من المؤمنين. وقد فسر الفراء قوله تعالى: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) تفسيراً جميلاً حيث قال: ((قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) أي: حفظها الله للمؤمنين، لا يجري عليها هلاك إلى أن يأخذها المسلمون، كإحاطة الحراس بالقبائل، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)) يعني: الله سبحانه وتعالى ادخرها للمؤمنين وحفظها لهم فلا تهلك، ويحفظها إلى أن يغزو المسلمون تلك البلاد، ويأخذوا ما كتب لهم من هذه الغنائم، فهذا مما قيل في تفسيرها. وقيل في قوله تعالى: (وأخرى لم تقدروا عليها): الواو هي واو رب، كقول الشاعر: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله. وهذه الواو كثيرة في الشعر، والتقدير: ورب ليل، كذلك هنا بعض المفسرين قال: هذه الواو واو رب، يعني: (ورب أخرى لم تقدروا عليها)، أي: كم من غنيمة أخرى مما لم تأخذوها! ولأنكم غير قادرين عليه ((قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا))، فالله سبحانه وتعالى يدخرها الآن للأجيال القادمة من المسلمين سوف يفوزون بها. قال ابن كثير: أي: وغنيمة أخرى وفتح آخر معيناً لم تكونوا تقدرون عليها قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون. قيل: قوله: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)) يعني: خيبر، ونحن قلنا: إن قوله: ((فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ)) هي صلح الحديبية إذاً: يكون قوله هنا: ((وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا)) فتح خيبر، وقيل: هي مكة، واختاره ابن جرير، وقيل: هي فارس والروم، وقال مجاهد: هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة، وكذا عن ابن عباس قال: هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.

تفسير قوله تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار)

تفسير قوله تعالى: (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:22 - 23]. يقول ابن كثير: يقول تعالى مبشراً لعباده المؤمنين بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم، ولانهزم جيش الكفار فاراً مدبراً لا يجدون ولياً ولا نصيراً؛ لأنهم محاربون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولحزبه المؤمنين. ثم قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:23] أي: هذه سنة الله وعادته في خلقه، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر، ورفع الحق، ووضع الباطل كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين، نصرهم على أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعددهم، وكثرة المشركين وعددهم. وسنة الله هي الطريقة والسيرة، كما يقول الشاعر: فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها ((ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)) دفع الضر عن الشخص إما أن يكون بولي ينفع بالنصح، أو بنصير يدفع بالعنف، إما بولي أو بالنصير، وليس للذين كفروا شيء من ذلك، لا ولي ولا نصير، لا ولي يدفع بالنصح، ولا نصير يدفع بالعنف، والتنكير للتعميم، أي: لا يجدون فرداً ما من الأولياء. وقوله عز وجل: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الفتح:22] في قوله تعالى: (ثم) لطيفة، وهي: أن من يولي دبره يطلب الخلاص من القتل بالالتحاق بما ينجيه، فيقول تعالى: وليس إذا ولوا الأدبار يتخلصون، بل بعد التولي الهلاك لاحق بهم.

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم)

تفسير قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم) قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:24]. قيل: أراد بكف اليد أنه شرط الكتاب: أن من جاءنا منهم فهو مردود عليهم، فخرج أقوام من مكة مسلمون وخافوا أن يردهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين، فلحقوا بالساحل ومنهم أبو بصير، وجعلوا يغيرون على الكفار ويأخذون عيرهم، حتى جاء كبار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: اضممهم إليك حتى نأمن، ففعل. فهذا معنى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} يعني: عن طريق صلح الحديبية، فقد كان أحد الشروط أن من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم مسلماً يرده إلى الكفار، فقدر الله سبحانه وتعالى أن تحصل قصة أبي بصير المعروفة، حيث شكل حرب عصابات على ساحل البحر، فكانوا يتعرضون لكل قافلة تأتي من قريش؛ حتى صرخ المشركون وفزعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يطلبون التراجع عن هذا الشرط، فهذا كحكم كوني قدري هو كف من الله. {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ}. وقوله: (ببطن مكة) فيه قولان: أحدهما: يريد به الله مكة نفسها. القول الثاني: إنها الحديبية؛ لأن بعض مكة مضاف إلى الحرم، وحتى لو لم يسلم هذا فالقرب التام كاف؛ لأن الحديبية قريبة جداً من مكة، ويكون إطلاق بطن مكة عليها مبالغة، ((وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: بالحديبية. قوله: ((مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)) يعني: بفتح مكة، وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً؛ لقول الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ)) يقول القرطبي: والصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، حسب ما قدمناه عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وروى الترمذي بسنده عن ثابت عن أنس: (أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح، وهم يريدون أن يقتلوه، فأخذوا أخذاً، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ))). وأما فتح مكة فالأدلة تدل على أن مكة فتحت عنوة وليس صلحاً. ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: إشارة إلى أمر كان هناك يقتضي عدم الكف، ومع ذلك وجد كف الأيدي، ذلك الأمر هو دخول المسلمين ببطن مكة، فإن ذلك يقتضي أن يصبر المكفوف على القتال لكون العدو داخل دارهم طالبين ثأرهم، وذلك مما يوجب اجتهاد البليد في الذب عن الحريم. يعني: كنتم في بطن مكة في عقر دار المشركين، فلاشك أن الخوف يكون أكثر؛ لأنهم أقوى وأكثر عدداً وعدة، ثم إن بطن مكة فيها حريمهم ونساؤهم وأولادهم، فتكون الحمية في الدفع والقتال أشد، والحرص على الفتك بالمسلمين أشد، ومع ذلك فإن الكف وجد بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لذلك نسبه إلى فعله عز وجل فقال: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ)) يعني: مع أنكم كنتم في بطن مكة، على أرضهم، وبين بنيهم ونسائهم، وكل هذه دوافع إلى شدة الحمية في قتال المسلمين، ومع ذلك امتن الله عليهم بأن كف أيديهم عنكم.

تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام)

تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) قال تبارك وتعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]. (هم الذين كفروا) إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم؛ لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا، وكل ذلك يقتضي قتالهم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهما خلاف، واصطلحوا ولم يبق بينهما نزاع، بل الخلاف باق، والنزاع مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم وصدوا الهدى أيضاً، وازدادوا كفراً وعداوة. والخطاب للرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، فمن الذي كف أيديهم عنكم؟ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح:24] يعني: كان الله يرى فيه المصلحة، وإن كنتم لا ترون ذلك. ثم بين هذه المصلحة فقال: إن الكفار ما زالوا كفاراً بل زادوا كفراً؛ لأنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأحصروكم عن دخول المسجد الحرام، فهذه إشارة إلى أن من الحكم العظيمة في أن كف الله أيديهم عنكم وأيديكم عنهم حماية للمؤمنين المستضعفين الذين كانوا يخفون إسلامهم بمكة؛ لأنكم إذا دخلتم وقاتلتموهم، ولا تعرفون إخوانكم الذين يخفون إسلامهم؛ كنتم سوف تقتلونهم، فهذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى كف أيديهم ليس لأنهم يستحقون النجاة والسلامة من القتل، كما قال الشاعر: داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين ألف عين تكرم فبين الله سبحانه وتعالى أن هناك كفاراً لم يكف الله أيدي المؤمنين عنهم وأيديهم عن المؤمنين؛ إكراماً لهم؛ لأنهم حتى مع وقوع الصلح والهدنة ما زالوا متصفين بصفة الكفر، وما زالوا يصدون الناس عن دين الله، فالاختلاف باق، والنزاع قائم، وهم ما زالوا كفاراً، بل لا كفار غيرهم. ثم قال تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25] فكان هذا إحدى الحكم من هذا الكف؛ لأنه لو قدر أن يكون قتال كان سيؤدي إلى هلاك المؤمنين المقيمين داخل مكة، الذين يخفون إسلامهم وإيمانهم؛ لأن الصحابة كانوا سيقتلونهم دون أن يعرفوهم؛ ولذلك قال تعالى: ((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ)) فهذا كله كان إكراماً لهؤلاء المؤمنين. ((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ)) أي: أنتم لا تعرفونهم، فهم مستخفون في مكة لا يظهرون إسلامهم، ففي الظاهر أنهم مع المشركين، فلو حصل قتال سيخرجهم المشركون معهم ويجبرونهم على القتال، وبالتالي المسلمون سوف يقتلون إخوانهم دون أن يعرفوا أنهم مسلمون. ((وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا)) لو انفصل معسكر المؤمنين في مكة والمؤمنات عن الكفار حينئذٍ لنزل العذاب على الكفار. ((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا))، لكن كانت هذه هي الحكمة من أن كف الله سبحانه وتعالى أيدي الفريقين، كان الكف محافظة على من في مكة من المسلمين ليخرجوا منها، ويدخلوها على وجه لا يكون فيه إيذاء من فيها من المؤمنين والمؤمنات. قوله: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الهدي: ما يهديه الحاج أو المعتمر إلى مكة من النعم من غير سبب موجب، والمراد بالموجب هنا: ما وجب على الحاج أو المعتمر بسبب ترك واجب أو فعل محظور في الإحرام أو الإحصار أو التمتع. ((وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)) قال ابن جرير: أي: محل نحره، وذلك داخل الحرم، وهو الموضع الذي إذا صار إليه حل نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك سبعين بدنة. وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي هو الحرم، وقد قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] إلى قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]. ما هو محل الهدي للمحصر؟ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: المحل اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، أما أبو حنيفة فهو يقول: المحل: هو اسم للمكان الذي يحصل فيه التحلل، ويظهر منشأ الخلاف بين الشافعية وأبي حنيفة: أن الشافعي يرى أن المحل اسم الزمان الذي يحصل فيه التحلل، وأبا حنيفة: يرى أنه اسم للمكان الذي يحصل فيه التحلل. فجمهور العلماء الإمام الشافعي ومالك وأحمد قالوا: إن محل الهدي للمحصر هو موضع الحصر حلاً كان أو حرماً، سواء كان داخل الحرم أو في الحل خارج الحرم. وقال أبو حنيفة: لا ينحره إلا في الحرم؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، وقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وكلام أبي حنيفة أدلته قوية، فبماذا يجيب عنه الجمهور؟ أبو حنيفة يقول: لا ينحر الشخص الذي أحصر الهدي إلا داخل الحرم حتى لو أحصر؛ لأن الله قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} إشارة إلى أنه لابد أن يكون في الحرم، وقال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وهذا كلام جيد، فبم يرد عليه الجمهور؟ الرد الأساسي هو: أن هذا في الشخص الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن شخص أحصر ومعه الهدي، والعدو هو الذي منعه، فكيف سينحره في الحرم وهو محصر؟! فالآية في الآمن الذي سيكون محل هدية البيت العتيق أو في الحرم؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه أن يبعثه إلى الحرم، وإن لم يستطع ذلك ينحره في محل الإحصار. إذاً: الشافعي يرى أن المحل اسم للزمان الذي يحصل فيه التحلل، وعلى هذا حمل قوله تعالى: ((وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ))، وأبو حنيفة يرى أنه اسم للمكان كما بينا.

التعجل في ذبح الهدي قبل وقته بسبب الجهل

التعجل في ذبح الهدي قبل وقته بسبب الجهل هنا موضوع مهم: وهو أن بعض الحجاج -نتيجة قلة العلم، وعدم التحقيق في المسائل، ووجود من يفتي بغير علم- يكونون جائعين ويريدون أن يأكلوا من لحم الهدي، فيقولون: بدل ما ننتظر ثم نشرع في مناسك الحج ثم نذبح، فنحن نتعجل الآن فنذبح الهدي! فيجيز لهم بعض الجهلة الذبح قبل يوم النحر، والراجح أن المتمتع والقارن لا يجوز لهما الذبح قبل يوم النحر، وهذا هو قول الجمهور خلافاً للشافعية، فإنهم يجيزون الذبح قبل يوم النحر. والأدلة على أنه لا يجوز أبداً أن يذبح المتمتع أو القارن قبل يوم النحر كثيرة منها: أولاً: قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] وقد ثبت أن الحلق لا يجوز قبل يوم النحر، فدل على أن الهدي لم يبلغ محله إلا يوم النحر. ثانياً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعاً، وعليه جرى عمل الخلفاء الراشدين، والمهاجرين والأنصار، وعامة المسلمين، ولم يثبت عنهم خلاف ذلك ألبتة. ثالثاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، فالفعل المبين يكون واجباً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) يعني: الله سبحانه وتعالى قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ولم يخصص، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لتأخذوا عني مناسككم) كما قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فيجب الاقتداء به في هذا الفعل في نوعه وزمانه ومكانه، ما لم يكن هناك قول من الرسول صلى الله عليه وسلم أعم من الفعل، فحينئذ فهذا أمر آخر، لكن إذا كان فعل الرسول عليه الصلاة والسلام أتى بياناً لنص فهو محمول على الوجوب، فمادام الفعل المبين واجب، فما يبين مناسك الحج واجبة، فالفعل الذي يبين هذه المناسك يكون أيضاً واجباً، فيجب أن نقتدي بفعل النبي عليه الصلاة والسلام في نوعه وزمانه ومكانه، إلا إذا أتى قول من النبي عليه الصلاة والسلام أعم من الفعل، فمثلاً النبي صلى الله عليه وسلم وقف على جبل الرحمة عند الصخرات، وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف)، فلو أنه لم يقل ذلك لكان فعله بياناً للواجب الذي هو الوقوف، بل هو ركن الحج الأعظم، ولو لم يقل ذلك لوقعت المشقة العظيمة على الأمة! لكنه قال: (وقفت هنا) يعني: هذا فعل مني وبيان للوقوف بعرفة أنه يكون هنا، ثم قال: (وعرفة كلها موقف) وهذا بيان عام بالقول أعم من الفعل، ففي هذه الحالة لا يكون الوقوف في هذا المكان بالذات واجباً، وإنما يجزئ أن يقف الحاج في أي مكان في عرفة. ومثله أيضاً قوله: (مزدلفة كلها موقف) مع أنه وقف عند المشعر الحرام، ثم بين أن مزدلفة كلها موقف توسعة على الأمة. كذلك قول النبي عليه السلام: (نحرت ههنا، ومنى كلها منحر، وكل فجاج مكة وطرقها منحر) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فلو لم يقل ذلك لوجب أن ننحر في نفس المكان الذي نحر فيه؛ لأن فعله أتى بياناً لعبادة واجبة في الحج وهي النحر. فينبغي أن نقتدي به في الفعل، وإذا كان بياناً لنص فهو محمول على الوجوب إذا كان الفعل المبين واجباً، فالمبين تابع للمبين في حكمه، فيجب الاقتداء به في الفعل في نوعه وزمانه ومكانه، إلا إذا أتى قول أعم من الفعل فحينئذ لا يكون ذلك واجباً، كما في قوله: (نحرت ههنا ومنى كلها منحر)، ففي هذه الحالة لا نتقيد بالمكان الذي نحر فيه، فلا يختص حينئذ الحكم بنفس محل موقفه أو نحره، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. رابعاً: قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] ومن التفث: الحلق والتقصير؛ لأن التفث هو: الوسخ والقذر، فإزالة التفث بقص الأظفار والتنظف والحلق والتقصير، وفي الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك). إذاً: وقت الذبح مخصص بأيام معلومات دون غيرها؛ لأن الله قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، فوقت الذبح مطلق لكنه مخصص بأيام معلومات دون غيرها، وذلك أنهم يتقربون إلى الله بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات، وهذا أظهر في الهدايا لا الضحايا التي لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين؛ ليأتوا رجالاً وركباناً ويذبحوا ضحاياهم، فيقول عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، وقال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]. ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا لم يتحلل من عمرته؟! قال: (إني لبدت رأسي) يعني: ألصق شعر رأسه بعضه ببعض بمادة صمغية مثل العسل بحيث لا ينتتف أثناء الإحرام. (إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) متفق عليه من حديث حفصة، فلو جاز النحر قبل ذلك لأحل بعمرة ونحر، مع أنه تمنى أن يعتمر ويحل منها، ثم يحرم بالحج كما أمر أصحابه بذلك. إذاً: فعل النبي عليه الصلاة والسلام كالتفسير لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، وخلاصة الكلام: لا يجوز ولا يجزئ أن ينحر الإنسان أو يذبح قبل يوم النحر كما يفعله بعض الناس في الأيام التي هي قبل اليوم العاشر من ذي الحجة، تلبية لنداء بطونهم!

الفتح [25 - 29]

تفسير سورة الفتح [25 - 29]

تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام)

تفسير قوله تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:25]. قوله تعالى: ((هم الذين كفروا)) إشارة إلى أن كف الله الأيدي عنهم لم يكن لأمر فيهم؛ لأنهم كفروا وصدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وهذا يقتضي قتالهم، فلا يقع ظن لأحد أن الفريقين اتفقوا ولم يبق بينهم اختلاف أو اصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع، فالاختلاف باق مع كف أيدي الفريقين بعضهم عن بعض، فهم ما زالوا كافرين، فالاختلاف باق، والنزاع مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا الهدي فازدادوا كفراً وعداوة، والسبب والعلة في الكف ليس لأنهم زال عنهم وصف الكفر، ولكن لعلة أخرى وهي: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) هذه كانت حكمة الكف، كف الله الفريقين عن القتال؛ كي لا يقتل المؤمنون الذين يخفون إيمانهم بمكة إذا أخرجوا معهم مضطرين، فهذه هي العلة، وليست العلة زوال وصف الكفر عنهم، بل الاختلاف بينكم وبينهم باق، وهم يستحقون أن يقاتلوا وأن يؤدبوا، ولكن سبب الكف هو ما ذكره الله في قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. قوله تعالى: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) أي: موجودون بمكة مع الكفار، ((لم تعلموهم)) يعني: لم تعلموهم بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم. ((أن تطئوهم)) أي: أن تقتلوهم مع الكفار، لو أن الله سبحانه وتعالى قدر لكم أن تقتلوهم في تلك الغزوة -غزوة الحديبية- وتفتحوا مكة؛ لقتل المؤمنون المذكورون. قال بعض المفسرين: ((أن تطئوهم)) يجوز أن تكون بدلاً من رجال ونساء غير معلومين، ويجوز أن يكون بدل المفعول ((لم تعلموهم))، فالتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين، وتقدير الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر محذوف تقديره: ولولا رجال ونساء موجودون أو بالحضرة.

معنى المعرة

معنى المعرّة قوله تعالى: ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) أي: معرة إثم وغرامة من عره إذا عراه ما يكرهه، ((فتصيبكم منهم معرة بغير علم)) يعني: تطئوهم غير عالمين بهم، والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة؛ لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتلين لهم. ((لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) يعني: لو تميز الكفار عن المؤمنين الذين بين أظهرهم لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً يعني: لسلطناكم عليهم فقتلتموهم قتلاً ذريعاً، وعن جنيد بن سبع قال: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت: ((ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات)) قال: كنا تسعة نفر: سبعة رجال، وامرأتين. ((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) يعني: بقتل المؤمنين إياهم. وفسر ابن إسحاق المعرة: بالدية، فتصيبكم منهم معرة يعني: دية، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من الدية، وهو مذهب الشافعي، وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من الدية، وقال ابن جرير: المعرة: هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين، قال ابن جرير: وإنما اخترت هذا القول دون الذي قاله ابن إسحاق لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، ولم يوجب على قاتله خطأً ديته؛ فلذلك قلنا: معنى المعرة في هذا الموضع: الكفارة. ((لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)): كأنه قال: لكن كفها عنكم ولم يأذن لكم في مقاتلتهم ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وهناك تفسير آخر لقوله: ((ليدخل الله في رحمته من يشاء))، وهو: أن هذه الآية فيمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر شيخ المفسرين ابن جرير أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها. ((لو تزيلوا)) أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم ((لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً)) من قتل أو أسر أو نوع آخر من العذاب الآجل. قال الكياالهراسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى بعض المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار تترسوا بهم، وهذا مذهب من يرى أن الترس لا يقتلون، يعني: لو أن الكفار أسروا من المسلمين وتترسوا بهم بما يسمى الآن بالدرع البشري، أخذوا بعض الأسرى من المسلمين ووضعوهم كدرع بشري بحيث إذا ضربهم المسلمون يصيبون المسلمين، وهذا بحث يستحق التفصيل، ولكن نقول باختصار: لا يجوز ذلك إلا إذا كان لمصلحة ضرورية كلية قطعية، وبين ذلك الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية، وفصل الكلام فيما يتعلق بمسألة التترس بالمسلمين.

تفسير قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)

تفسير قوله تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية) قال الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح:26]. ((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) وذلك حين جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية التي جعلته يمتنع من أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين: بسم الله الرحمن الرحيم، فحمية الجاهلية منعته أن يقر باسم الرحمن سبحانه وتعالى، وأن يكتب فيه أيضاً محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامه ذلك، والحمية هي: الأنفة والاستكبار. ((إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)): هذا عطف على منوي، يعني: ((إذ جعل الذي كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية)) فهم المسلمون أن يأبوا ذلك ويقاتلوا، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، فقوله: ((فأنزل الله سكينته)) عطف على شيء مفهوم وإن لم يكن مذكوراً في الآية، لكن نزول السكينة كان لكف المؤمنين عن أن يقاتلوهم لما منعوهم بسبب حمية الجاهلية، وحينما أصروا على أن يكتب: باسمك اللهم، وأن يكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بدلاً من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون هموا أن يأبوا الانقياد لهذه الحمية الجاهلية، وأن يقاتلوا على ذلك ((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)) يعني: الوقار والتثبت حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم ذكره. ((فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى)) أي: اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها، وهي كلمة التوحيد، ((وكانوا أحق بها)) يعني: متصفين بمزيد استحقاق لها، وكانوا أحق بها من الكفار. وقوله: ((وأهلها)) يعني: كانوا مستأهلين لها، ((وكان الله بكل شيء عليماً)) يعلم حق كل شيء فيسوقه إلى مستحقه.

تفسير قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)

تفسير قوله تعالى: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق) قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:27]. قال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله: أي: لقد صدق الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصراً بعضهم رأسه ومحلقاً بعضهم. ثم روى عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين يعني: الرسول عليه السلام أري هذه الرؤيا وهو في الحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه محلقين، ورؤيا الأنبياء حق، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟! وعن ابن زيد: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رءوسكم ومقصرين) ولم يقل: ذلك العام، فلما نزل بالحديبية طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياك؟! فهذه الرواية تذكر أن المنافقين هم الذين قالوا: أين رؤياك؟ فقال الله تعالى: ((لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ)) يعني: كأن الله سبحانه وتعالى يرد على هؤلاء الذين قالوا: أين رؤياك؟ بهذه الآية: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) يعني: إني لم أر أنكم تدخلونها هذا العام، فهو رأى في المنام أنه وأصحابه يدخلون مكة بالصفة المذكورة في الآية، ولكن لم ينص على السنة التي يدخلون فيها مكة، ولم يقل: إنه يدخلها هذا العام أو في هذه الغزوة غزوة الحديبية. ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا)) الرؤيا: منصوب بنزع الخافض، أي: صدقه في رؤياه، أي: حقق صدقها عنده كما هو عادة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام.

الاستثناء بقول: إن شاء الله

الاستثناء بقول: إن شاء الله قوله تعالى: ((لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)) هذا حال من الرؤيا، أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام، ((لتدخلن)) هذا جواب قسم محذوف، يعني: والله لتدخلن ((المسجد الحرام إن شاء الله آمنين))، إن شاء الله تعليق واستثناء بالمشيئة؛ لتعليم العباد أنهم إذا أرادوا أن يتكلموا عن شيء مما يقع في المستقبل فمن الأدب أنهم يستثنون، فيقول أحدهم: إن شاء الله، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، وسبب نزولها الأسئلة المعروفة التي وجهت للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح والفتية وذي القرنين. وفي حديث يأجوج ومأجوج: (إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم، وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس؛ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه؛ فيحفرونه ويخرجون على الناس). ويقول الله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18] حلفوا أنهم يصرمون الثمر مصبحين ولا يستثنون أي: ولم يقولوا: إن شاء الله، فعوقبوا بما عوقبوا به. وفي حديث سليمان عليه السلام أنه قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله فلم يقل -يعني: أنه نسي أن يقول: إن شاء الله- فلم تحمل منهن إلا امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمد بيده! لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون).

خطأ بعض الناس في الاستثناء

خطأ بعض الناس في الاستثناء بعض الناس يسيء استعمال أدب الاستثناء أو يخطئ فيه، مثلاً يسأل عن شيء هو حقيقة مثل: ما اسمك؟ فيقول: إن شاء الله أخوك فلان! وهذا ليس موضعه. وبعض الناس يستعملونها كشماعة يعلقون عليها التعريض والمراوغة في الكلام، والمعنى الصحيح للاستثناء هو تعليق الأمور المستقبلة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فبعض الناس يستعملونها في المراوغة والتعريض واللف والدوران في الكلام كالثعالب، ويعلق ذلك بكلمة: إن شاء الله، وما ينوي بها إلا خداع من يكلمه. ينبغي استعمال الاستثناء في الموضع اللائق به، فإذا قيل مثلاً: أين ذهبت بالأمس؟ لا تقل: إن شاء الله ذهبت إلى المكان الفلاني، فهذا فعل ماض وقع، فليس للاستثناء هنا موضع، والله جل وعلا ذكر الاستثناء هنا: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27]، مع أنه تعالى قال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27]، تأكيداً لما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قال: (إن شاء الله)، فهذا تعليم من الله سبحانه وتعالى، فإنه أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر أنه صدقه في هذه الرؤيا، وأقسم أنهم لابد داخلون في المستقبل؛ ومع ذلك يقول الله تعالى: (إن شاء الله)، وإذا كان الله قال ذلك فنحن أولى أن نتعلم هذا الأدب، وأن نعلق العمل بالمشيئة. أيضاً قال: (إن شاء الله) للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، ربما بعضهم يكون قد مات حينما يأتي موعد تحقيق هذا الوعد، أو يتخلف لعذر من الأعذار أو غير ذلك، فليس كل المؤمنين الحاضرين في الحديبية سوف يدخلون. إذاً: إما إنها لتعليم العباد، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: لتدخلنه من شاء الله دخوله منكم، أو أنه حكاية لما قاله له الملك الذي أراه الرؤيا في المنام، فقال له نفس العبارة: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) أو حكاية لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ لأنهم لما يكونوا قد دخلوا بعد، فلما حكى لهم الرؤيا قال لهم: إن شاء الله.

معنى قوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين)

معنى قوله تعالى: (محلقين رءوسكم ومقصرين) قوله تعالى: (محلقين): حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، يعني: هل يحلقون ويقصرون وقت دخولهم مكة أم يدخلون محرمين؟ يدخلون محرمين، (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين) فمحلقين حال مقدرة؛ لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، وفي الكلام نسبة ما للجزء إلى الكل: (محلقين رءوسكم ومقصرين) يعني: محلقاً بعضكم ومقصراً بعضكم، والقرينة عليه: أن الحلق والتقصير لا يجتمعان، فالمحرم إما أن يحلق وإما أن يقصر، ولا يجتمعان؛ فلذلك لابد من نسبة كل منهما لبعض منهم، فالبعض يحلق والبعض يقصر، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟! قال صلى الله عليه وآله وسلم: والمقصرين!).

معاني المسجد الحرام

معاني المسجد الحرام المسجد الحرام يطلق في القرآن الكريم ويراد به أربعة معان: الأول: الكعبة المشرفة كما قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:149] يعني: جهة الكعبة المشرفة، وقال تبارك وتعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:97]. الثاني: يطلق المسجد الحرام على المسجد كله، يقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). الثالث: يطلق المسجد الحرام على مكة المكرمة كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وكان الإسراء من بيت أم هانئ من مكة وليس من المسجد نفسه. الرابع: يطلق المسجد الحرام على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من الحرم؛ لأن حدود الحرم أوسع من حدود مدينة مكة، وحدود الحرم تبدأ من العلامات المنصوبة التي تفصل بين الحل والحرم، فالمسجد الحرام قد يطلق على الحرم كله، يعني: مكة وما حولها من حدود الحرم، والدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] والمراد منعهم من دخول الحرم نفسه.

الحلق أفضل من التقصير في النسك

الحلق أفضل من التقصير في النسك أخر النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء للمقصرين، وكرر الدعاء ثلاثاً للمحلقين، وهذا يدل على أن التقصير مفضول لكنه يجزئ بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تبارك وتعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] فهذا يدل على أنه يجزئ التحلل بمجرد التقصير. وقد روى الشيخان وغيرهما التقصير عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فمن الخطأ أن بعض الإخوة ينظر بنظرة الازدراء أو الاحتقار لمن يحج أو يعتمر ثم يقصر شعر رأسه، مع أن هذا ليس منكراً، نعم بلا شك أن الحلق أفضل، ولكن التقصير يجزئ، وبعض الناس لسبب أو لآخر لا يحلق عند التحلل، فلا ينبغي أبداً لمن يحلق أن ينظر إلى أخيه الذي يقصر على أنه مقصر، مقصر شعره ومقصر في طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا ينظر إليه نظرة ازدراء. وأيضاً بعض الأخوات تزدري من تلبس جلباباً أو حجاباً يستوفي شروط الحجاب الشرعي لكنه بغير اللون الأسود، ومن قال: إننا نتعبد بالألوان؟ والتعبد بالألوان شيء من بدع الأخوات، وقد يقلن: هذه التزامها فيه ضعف؛ لأنها تلبس حجاباً بغير اللون الأسود! هذا من تنطع بعض الأخوات، وهذا من عندهن وليس من الشرع.

ليس على النساء حلق

ليس على النساء حلق قولنا: الحلق أفضل من التقصير، هذا خاص بالرجال، أما النساء فليس عليهن حلق، وإنما عليهن التقصير فقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير)، يعني تجمع شعرها كله ثم تقص منه قدر الأنملة.

حكم حلق الشعر في غير النسك

حكم حلق الشعر في غير النسك ما حكم حلق شعر الرأس في غير النسك؟ حلق الرأس في الحج والعمرة مما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحلق الرأس لحاجة مثل التداوي جائز، فيجوز أن يحلق الإنسان رأسه للتداوي من بعض الأمراض الجلدية أو من بعض الحشرات كالقمل مثلاً، وهذه الأشياء قد تعالج بأن يزيل شعر رأسه تماماً، فهذا جائز للحاجة. أما حلق شعر الرأس على وجه التعبد والتدين والزهد فهذا بدعة لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. إذً: يحلق الإنسان رأسه في الحج والعمرة، وهذا مما أمر به الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويحلق رأسه للحاجة كالتداوي، وهذا جائز، أما أن يحلق رأسه في غير النسك لغير حاجة، يعني: من غير حج ولا عمرة ولا مرض فهذا فيه قولان: الأول: أنه مكروه، وهو مذهب مالك وغيره؛ لأنه شعار أهل البدعة من الخوارج الذين كانوا يحلقون رءوسهم. الثاني: أنه مباح، وهو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة والشافعي، فله أن يحلقه بلا تعبد في الحج والعمرة، ولا لحاجة كمرض، فلا بأس أن يحلق، لكن لو نوى به التعبد فهذا بدعة لم يأمر الله سبحانه وتعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وليست واجبة ولا مستحبة عند أحد من الفقهاء؛ لأن التعبد بحلق الرأس من سيما الخوارج، وهذه علامة من خصائص الخوارج كما في الحديث: (سيماهم التحليق).

معنى قوله تعالى: (لا تخافون)

معنى قوله تعالى: (لا تخافون) يقول القاسمي رحمه الله تبارك وتعالى: قوله تعالى: {آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] لا تخافون: هذه حال مؤكدة لقوله: آمنين، أي: لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين لا تخافون، فهذه حال مؤكدة لقوله تعالى: (آمنين)، أو مؤكدة لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، آمنين يعني: في الحال، لا تخافون يعني: في المستقبل، فيكون قد أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.

خبر عمرة القضاء

خبر عمرة القضاء قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة كما هو مقرر في موضعه، ثم رجع إلى المدينة فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبى وسار وأصحابه يلبون، فلما كان قريباً من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم -وهي العلامات التي توضع تحدد حدود للحرم- بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟!) قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح، فقال صلى الله عليه وسلم: (لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج) فقال: بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرج رءوس الكفار من مكة -أي: من شدة الحقد والغيظ خرجوا من مكة- لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول: باسم الذي لا دين إلا دينه باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله بأن خير القتل في سبيله يا رب إني مؤمن بقيله وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول: ما يتباعثون من العجف -أي: من الهزال والضعف الذي نزل بهم- فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، فأصبحنا غداً حين ندخل على القوم وبنا جمامة -يعني: نتقوى بها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم)، فجمعوا له وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحِجْر، فاضطبع رسول صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: (لا يرى القوم فيكم غميزة)، فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي، أما إنهم لينقزون نقز الظباء، ففعل ذلك ثلاثة أشواط؛ فكانت سنة، والمقصود بذلك الرمل، وقد كان المشركون جلسوا في الجهة الشمالية التي تقابل الحِجْر يراقبون الصحابة وهم يطوفون، فالصحابة رملوا الثلاثة الأشواط الأولى؛ ليظهروا الجلد والقوة لئلا يشمت بهم الكفار، وقد كان الصحابة متعبين، فكانوا يرملون في الجهات الثلاث، ثم في الجهة الرابعة التي هي الجهة اليمانية، كانوا يستترون بالكعبة، فمن ثم كانوا بين الركنين يمشون ليستريحوا من هذه الهرولة، حتى لا يشمت بهم المشركون، فصارت سنة بعد ذلك، فهذا هو سبب هذه السنة، وهذا مثل سبب مشروعية السعي حينما سعت هاجر. وروى الإمام أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب -أي: أضعفتهم- ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال: فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون). وفي رواية: (ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) يعني: كانوا يمشون في المنطقة اليمانية؛ لأنه لو أمرهم أن يرملوا الأشواط كلها لكان في ذلك مشقة شديدة عليهم، ولم يستطيعوا أن يكملوا، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.

معنى قوله تعالى: (فعلم ما لم تعلموا)

معنى قوله تعالى: (فعلم ما لم تعلموا) قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أي: من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم عليها عامكم ذلك، يعني: علم ما لم تعلموا حينما تم صلح الحديبية، ثم قدر وقضى أن تعودوا، وذلك لما علمه الله من الخير الكثير في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها في عامكم ذلك. قال ابن جرير: (فعلم ما لم تعلموا) وذلك علمه تعالى ذكره بما في مكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك، وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه.

معنى قوله تعالى: (فجعل من دون ذلك فتحا قريبا)

معنى قوله تعالى: (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) قوله تعالى: ((فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)): فجعل من دون ذلك -يعني: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم- فتحاً قريباً، وهو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش. أو (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً) وهو فتح خيبر، (من دون ذلك) يعني: قبل تحقق الرؤيا، ففتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود، وإلى الأول ذهب الزهري فقال: يعني صلح الحديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، أمن الناس بعضهم بعضاً، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد من الناس يعقل شيئاً إلا دخل فيه، فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر، ووافقه مجاهد، وقال ابن جرير: والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما -يعني: فتح خيبر وأيضاً صلح الحديبية- ما ترتب عليه من الخيرات العظيمة.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]. (بالهدى) أي: البيان الواضح، (ودين الحق) أي: دين الإسلام، وقال المهايمي: (بالهدى) أي: الدلائل القطعية، (ودين الحق) أي: الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة. وقال ابن كثير: (بالهدى): بالعلم النافع، (ودين الحق): العمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل، فالعلم الشرعي صحيح، والعمل الشرعي مقبول، فإخباراتها حق وإنشاءاتها عدل. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) يعني: ليعليه على الدين كله أي: ليبطل به الملل كلها حتى لا يكون دين سواه، وذلك حين ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها غير دين الله الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قد أظهره الله تعالى علماً وحجة وبياناً على كل دين، كما أظهره قوة ونصراً وتأييداً، وقد امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله كما زال ملك اليهود وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض وأوسطها، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. (وكفى بالله شهيداً) أي: على أن ما وعدهم من إظهار دينه على جميع الأديان أو ما وعدهم من الفتح أو المغانم كائن، قال الحسن: شهد الله على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله وكفى بالله شهيداً. قال ابن جرير: وهذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه: أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان مسليهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن بانصرافهم عن مكة قبل دخولها وقبل طوافهم بالبيت.

معنى قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله)

معنى قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) نقف وقفة مع هذه الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] أكثر المفسرين على أن الهاء في قوله: (ليظهره) راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: ليظهر رسوله عليه الصلاة والسلام، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق، يعني: يظهر دين الحق على الدين كله، أي: أرسل الرسول بالدين الحق ليظهر الدين الحق على كل الأديان، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للإظهار هو الله سبحانه وتعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره يعني: ليظهر الله هذا الدين، أو ليظهر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الدين، وجوز غير واحد -وهو الذي استظهره الآلوسي رحمه الله تعالى- أن يكون المعنى: ليظهر الله الإسلام على الدين كله في تسليط المسلمين على جميع أهل الأديان، وقالوا: ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكرنا زماناً معتداً به كما لا يخفى على المطلعين على كتب التاريخ والوقائع، وقيل: إن تمام هذا الإعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي حيث لا يبقى حينئذ سوى دين الإسلام. ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر إلا لنحو ما سمعت، وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء. وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح، وتوطيد لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم البلاد، ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة، فيظهره على الدين كله، فكلمة (كله) بشارة لما هو أعظم وأكبر من فتح مكة؛ لأن مكة مدينة واحدة، لكن الآية فيها إشارة إلى أن البلاد كلها سوف تفتح بالإسلام. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة وسورة الصف، وزاد فيهما أنه فاعل ذلك ولو كان المشركون يكرهونه، فقال في الموضعين: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9]، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وأشراف قريش قد اجتمعوا بالحجر وقالوا: ما رأينا مثل صبرنا على هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فلما مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول، فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، وفعلوا به ذلك ثلاث مرات فوقف فقال: (أتسمعون يا معشر قريش؟! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح) يعني: بالسيف، فأخذت القوم كلمته حتى ما فيهم رجل إلا كأنما على رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف -يا أبا القاسم- راشداً، فوالله! ما كنت جهولاً. وقال محمد بن كعب: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل يقول: إنكم إن بايعتموه عشتم ملوكاً، فإذا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن، وإنكم إن خالفتموه كان لكم منه الذبح، ثم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم نار تعذبون فيها، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قوله فقال: (وأنا أقول ذلك: إن لهم مني لذبحاً، وإنه لآخذهم). فالإخبار بظهور الإسلام وعلوه على العالمين كان في ذلك الوقت مستقبلاً، يعني: حينما نزلت هذه الآية ونحوها من الآيات، وحينما نطق النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث التي سنشير إليها، كان هذا إخباراً عن المستقبل، والمستقبل مجهول للإنسان، فإذا تصوره كان تصوره مجرد توقعات قد تعتمد على مقدمات تؤدي إلى نتائج، ومهما أوتي الإنسان من صدق الحدس وقوة الإدراك، فإنها لا تزيد على كونها مجرد توقعات، وأما في حالة عدم وجود مقدمات، كان توقع حصول النتائج مجرد عبث وتخرص وتوهم، ووقوعه في هذه الحالة هو من قبيل ما يسميه البعض بالمصادفات وعدم وقوعها هو الأصل. أحد العلماء من باكستان ألف كتاباً جرده لذكر مئات الأخبار عن النبي عليه السلام بأمور مستقبلية كلها أو معظمها وقع تماماً كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا ما تحدث إنسان عن المستقبل بتفاصيل مسهبة ولم يخرمها المستقبل حتى ولا في جزء من أجزائها، مع كثرة أعدائه المتربصين الحريصين على الطعن في صدقه، إذاً لابد من استبعاد التوقعات والتكهنات والنبوءات الكاذبة، واستبعاد ما كان مبيتاً، واستبعاد ما تحقق بعضه وكذب بعضه، واستبعاد ما كان عن منام وقع أو كرامة صالح، ولكن صدق الإخبار عن المستقبل المجهول الذي يتحقق تحققاً تاماً فهذا بلا شك نبوة لا شك فيها، وهو الوحي الذي يصل عالم الغيب بعالم السماء، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]؛ فلذلك كان الإخبار بالبشارات التي تتعلق بظهور دين الإسلام في وقت كان المسلمون فيه في أشد مراحل الضعف، وكان النبي عليه السلام مع ذلك يجزم ويقطع بالتمكين لهذا الدين؛ دليل من دلائل النبوة.

علامات صدق النبوة

علامات صدق النبوة ما هي العلامات الخمس التي تدل على صدق النبوة؟ لو أن كافراً قال لك: أثبت لي صدق محمد، وما هي الأدلة والصفات الشخصية لصاحب الرسالة؟ فنقول: الثمرات، والمعجزات، والبشارات وهي التي تبشر بظهور النبي في الكتب السابقة، والنبوءات، والصفات الشخصية، فإن للأنبياء صفات لا تشتبه أبداً بصفات غيرهم حتى لو كانوا من الصديقين والشهداء والصالحين، لا يمكن أن تشتبه خصائص النبي بخصائص غيره من البشر، فللأنبياء صفات مميزة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يصطفيهم من أعلى الدرجات، ومن قمة البشر، سواء في حسبهم ونسبهم أو كمال أجسادهم وقوتهم وجمالهم وأخلاقهم، وغير ذلك من الصفات، فالأنبياء يمثلون قمة متميزة في صفاتهم الشخصية الحسية والنفسية، ولا يشاركهم فيها أحد. فمن هذه العلامات: الثمرات؛ لأن للأنبياء انطباعات وثمرات في الوجود وفي العالم لا تشتبه بغيرهم ممن يسمونه المصلحين أو الدعاة أو نحو ذلك، فالأنبياء لهم ثمرات يتركونها في واقع البشرية لا تشتبه بثمرات غيرهم، وليس لنبينا صلى الله عليه وسلم في هذا كله نظير على الإطلاق، فهو أعظمهم ثمرة وأثراً. ومنها: النبوءات، وهي نبوءات كثيرة عما يحصل في المستقبل. ومنها: البشارات، أي: بشارة النبي السابق بالنبي اللاحق، كما يوجد في التوراة والإنجيل من بشارات كثيرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومنها: المعجزات، وهي الخوارق التي تقترن بادعاء النبوة، وهذه أيضاً من خصائص الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. قال الله تبارك وتعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، الحق في لغة العرب هو الثابت الذي ليس بزائل ولا مضمحل، أما الباطل فمعناه: الذاهب المضمحل. والمراد بالحق في قوله تعالى: (وقل جاء الحق) هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من الدين الإسلامي، والمراد بالباطل الزاهق: الشرك بالله والمعاصي المخالفة لدين الإسلام. (إن الباطل كان زهوقاً) يقال: زهقت نفسه إذا خرجت وزالت من جسده، (إن الباطل كان زهوقاً) كان هي صيغة للماضي، لكن كان هنا تفيد الاستمرار والثبات، يعني: إن الباطل كان زهوقاً في كل وقت، وقد ذكر الله تعالى أن الحق يزيل الباطل ويذهبه في قوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:48 - 49]، وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: ((جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)) [الإسراء:81]، ((جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ)) [سبأ:49]) متفق عليه.

المستقبل لهذا الدين

المستقبل لهذا الدين قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] هذه الآية من البشارات للتمكين للمسلمين، وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] (الزبور) هنا: جنس الكتاب، أي: في التوراة والإنجيل وزبور داود وغير ذلك، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر) يعني: أم الكتاب، فالمقصود: كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، بعد أن كنا قد كتبنا ذلك في أم الكتاب. قيل في العباد الصالحين: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النصارى الذين أسلموا قالوا: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] وهم قطعاً أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله عز وجل: (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قيل: هي الجنة كما قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:74]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]، فمعنى الإيراث: الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكبر نعيم وسرور، وقال تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]. وقيل: إن الأرض أرض العدو، يورثها الله المؤمنين في الدنيا كما قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27]، وقال تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137]، وقال عز وجل: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم:13 - 14].

بشارات نبوية بالتمكين لهذا الدين

بشارات نبوية بالتمكين لهذا الدين روى مسلم بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] أن ذلك تاماً قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة تقبض كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم). وروى مسلم أيضاً بسنده عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها -أو قال- بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) أي: أن ربنا سيحفظهم من أن يسلط عليهم عدواً يستبيح بيضتهم حتى لو اجتمع عليهم كل الناس في الأرض، وهذا الوعد مستمر حتى يبدءوا هم في انتهاك حرمات بعضهم بعضاً، فإذا تقاتل المسلمون، واستباح بعضهم حرمات بعض؛ حينئذ يزول هذا الضمان وهذا الأمان. والمراد بالكنزين: الذهب والفضة، والمراد كنز كسرى وقيصر ملكي العراق والشام. وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب لقوله: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها) فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى أن ملك هذه الأمة يبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وهذا هو الواقع كما نلاحظ، فإن البلاد الإسلامية الآن ممتدة الأفق في جهة الشرق والغرب، أما في جهة الجنوب والشمال فامتدادها قليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب. وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة). وقال عليه الصلاة والسلام: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر). وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: (يا عدي بن حاتم! إن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد؟ - ولتفتحن كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفيه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد، قال عدي: قد رأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى ولئن طالت بكم حياة سترون الثالثة)، قال البيهقي: قد وقع ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز. وعن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً، والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يطرح حتى يرجع بذلك، فيتذكر من يضعه فيه، فلا يجده، فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس رحمه الله تعالى. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عدي! أسلم تسلم، فقلت: إني من أهل دين، قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست من الركوسية؟ وأنت تأكل مرباع قومك؟ قال: قلت: بلى، قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك، قال: فلم يعد أن قالها فتواضعت لها، قال: أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام؟ تقول: إنما تبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوالذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده! لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها). وروى مسلم عن نافع بن عتبة رضي الله عنه أنه حفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع كلمات أعدهن في يدي، قال: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)، فقال نافع: يا جابر! لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم.

حديث: (وعدتم من حيث بدأتم)

حديث: (وعدتم من حيث بدأتم) روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم)، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه. قال الرسول عليه السلام هذا الحديث أمام أبي هريرة، (منعت العراق درهما وقفيزها) القفيز: مكيال معروف لأهل العراق، (ومنعت الشام مديها ودينارها) المدي: مكيال معروف لأهل الشام، (ومنعت مصر إردبها ودينارها) الإردب: مكيال معروف لأهل مصر. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وفي معنى قوله: منعت العراق وغيرها قولان مشهوران: أحدهما: لإسلامهم، أي: أن هؤلاء يسلمون فتسقط عنهم الجزية، وهذا قد وجد، بعدما كانوا يرسلون الجزية ثم أسلموا فامتنع مجيء هذه الأشياء. القول الثاني -وهو الأشهر-: أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، يعني بعدما كانت هذه البلاد تجبى منها الجزية والخراج إلى دار الخلافة، سوف تعود هذه البلاد إلى الوضع الذي تمنع فيه أداء الجزية والخراج، وهذا هو الواقع الآن، وفي ضمن هذا الحديث أن هذه البلاد سوف تفتح حتى تبذل الجزية والخراج. وروى مسلم عن جابر: (يوشك ألا يجيء إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك)، وذكر منع الروم لذلك في الشام، وهذا قد وجد في زماننا في العراق، وقيل: لأنهم يرتدون في آخر الزمان فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها، وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان فيمتنعون مما كانوا يؤدونه. وقوله: (وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم) هذه أشارة إلى عودة غربة الإسلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، فهذا معنى (وعدتم من حيث بدأتم)، وفيه الإخبار بغربة الإسلام من جديد.

فتح القسطنطينية ورومية

فتح القسطنطينية ورومية عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ -رومية هي روما عاصمة إيطاليا- فدعا عبد الله بصندوق له حلق فأخرج منه كتاباً، فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدينة هرقل تفتح أولاً)، يعني: قسطنطينية، وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني بعد أكثر من ثمانمائة سنة من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]. فنحن ليس بيننا خلاف بأن هذا سوف يقع، لكن المشكلة أننا لا نفكر بهذه الأمور دائماً، ونظن أن السنن تحابينا، فيوجد ربط غير طبيعي عند بعض الناس، يقول بعضهم مثلاً: لعل أمريكا تنهار الأرض بهم، وكذا وكذا، وعند ذلك ينتصر المسلمون! يعني ننتظر مجرد انهيارهم، لا، هذا لا يكفي حتى يظهر المسلمون، لابد للمسلمين أيضاً أن يشتغلوا بالبناء، وأن يأخذوا بأسباب القوة، أما أن نبقى نقول: إن أمريكا سيحدث فيها كذا وكذا، وإنها سوف تنهار، وبعضهم يتوقع خراب العالم، وأنه ستحصل حرب نووية تدمر البشرية! لماذا نحن المسلمين نكون هكذا؟! لابد من المواجهة، والعمل بالأسباب الحقيقية التي ينبغي على المسلمين أن يأخذوا بها، فالسنن لا تحابي أحداً، الكافر إذا أراد أن يزرع الأرض، فحرثها ونقاها وسقاها بالماء ووضع فيها البذور السليمة وتعاهدها إلى أن نبتت؛ هل الأرض تقول له: أنت كافر، ولن أنبت لك؟! لا، وهل المؤمن ستقول له الأرض: لأنك مؤمن سوف أكرمك وأوتيك الثمار بدون أسباب؟ لا، هذا خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالربط بين انهيار الغرب وبين تحقق وعود المسلمين خطأ، فلابد من الأخذ بالأسباب كالآخرين.

من دلائل النبوة

من دلائل النبوة روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه وهي من خالاته من الرضاعة، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة) فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: ما يضحكك يا رسول الله؟! قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما قال في المرة الأولى، قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم قال: (أنت من الأولين)، ثم غزا معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما قبرص في سنة ثمان وعشرين هجرية، ومعه من كبار الصحابة أبو ذر وأبو الدرداء وعبادة بن الصامت، وكانت مع عبادة زوجه أم حرام بنت ملحان. وأخرج مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً)، وهذه بشارة بفتح مصر، والمقصود بالرحم أنهم أخوال إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأقباط أخواله؛ لأن مارية القبطية أمه، فالمقصود أرض مصر، والآثار في الأسفار عن مدح مصر كثيرة. وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] الأميون هم: العرب كلهم، ثم قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] يعني: وبعث في آخرين من الأميين أو يعلمهم ويعلم آخرين من المؤمنين لما يحلقوا بهم، أي: لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم، قال ابن عمر وسعيد بن جبير: هم العجم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟! فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: (لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). وفي رواية: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس -أو قال- من أبناء فارس حتى يتناوله) وهذا لفظ مسلم. وليس المقصود بهذا الرافضة الخبثاء الضالون، إنما المقصود بفارس علماء المسلمين من أهل السنة الذين دخلوا في الإسلام وكانوا من أهل فارس. وأخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله! ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). وهذه إشارة إلى موعود الله سبحانه وتعالى الذي وعد به في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من التمكين لهذا الدين.

تفسير قوله تعالى: (محمد رسول الله)

تفسير قوله تعالى: (محمد رسول الله) قال الله تبارك وتعالى في الآية الأخيرة من سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]. (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) عليه الصلاة والسلام، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي: أصحابه رضي الله عنهم، (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي: لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم الصادين عن سبيل الله وعندهم تراحم فيما بينهم كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وجوز في قوله عز وجل: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ): أن يكون مبتدأً وخبراً، يعني: إن هذه شهادة من الله بأن محمداً هو رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن يكون (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) صفة أو عطف بيان أو بدلاً، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف عليه، وخبرهما: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) وهذا تكليف، ولو لم يذكر الله قوله تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ربما توهم متوهم أنهم باعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال، وعلى كل أحد، وأن هذه الصفة صارت ذاتية لهم في كل حال، ومع كل أحد، فلما قال تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) اندفع ذلك التوهم، فعندهم تكريم واحترام للمؤمنين، ولما قال في الآية الأخرى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر، ومفهوم القيد هو (على المؤمنين) فربما توهم أنهم موصوفون بالذلة دائماً لكل أحد، وأن الذل صفة لازمة لهم على كل حال لكل الناس، فدفع الله هذا الوهم بقوله تعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]. ((أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) فهو كقوله: حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب قال المهايمي: تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية بتبعية اعتدال الفكرة، إذ هم أشداء على الكفار لرسوخهم في صحة الاعتقاد، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده. (رحماء بينهم): لعدم ميلهم إلى الشهوات، هذا باعتبار الأخلاق، فهم من حيث أخلاقهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وأما باعتبار الأعمال فأنت: ((تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)). قال ابن كثير: وصفهم بكثرة العمل: (ركعاً سجداً) ووصفهم بكثرة الصلاة التي هي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، فالآية تمدح ظاهرهم وتمدح باطنهم، تمدح ظاهرهم لقوله: (تراهم ركعاً سجداً)، وتمدح باطنهم؛ لأنهم ما يريدون من العبادة إلا وجه الله عز وجل: (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً)، فوصفهم بالإخلاص لله عز وجل، والاحتساب عند الله تعالى، فلهم جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله سبحانه وتعالى، وعلى سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].

معنى قوله تعالى: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)

معنى قوله تعالى: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) قوله تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ): هذا مبتدأ وخبر يعني: علامتهم كائنة فيهم رضي الله تعالى عنهم، (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) هذا بيان للسيما كأنه قيل: سيماهم التي هي أثر السجود أو حال من المستكن في وجوههم، كأن المقصود هي من أثر السجود. قال ابن عباس: سيماهم في وجوههم يعني: السمت الحسن، وقال مجاهد وغير واحد: يعني الخشوع والتواضع، وقال منصور لـ مجاهد: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، يعني العلامة التي تكون في الوجه فقال مجاهد: ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون، يعني: ربما كان هذا الأثر الذي يكون في الوجه علامة الصلاة بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون. وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وقد رفعه شريك والصحيح أنه موقوف، وتوجد قصة فيها سبب الوهم الذي حصل في رواية هذا الحديث. وقال بعضهم: إن للحسنة نوراً في القلب، وضياءً في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه. وروى الطبراني مرفوعاً: (ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر)، وإسناده واهٍ؛ لأن فيه العذراني وهو متروك. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: (إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة) رواه أبو داود. التأويل الثاني في الآية: أن فيهم آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الصخور، وروي ذلك عن ابن الزبير وعكرمة، وقد كان ذلك في العهد النبوي حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباءه، (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) يعني: تراب كان يعلق بالجبهة، وهذا كان موجوداً في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن المسجد كان يفرش بتراب وحصباء؛ فلذلك كان يعلق التراب في جباههم، أما الآن فالمساجد تفرش بالفرش، فالسيما هي علامة السجود المعروفة أو أنها التراب الذي كان يعلق في جباههم أو أنها السمت الحسن والخشوع، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

شدة الصحابة على الكافرين ورحمتهم بالمؤمنين

شدة الصحابة على الكافرين ورحمتهم بالمؤمنين قوله عز وجل: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار) قوله هنا: (والذين معه) يعني: جميعهم، فجميعهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم)؛ لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وأما في حق النبي عليه الصلاة والسلام فكما في قوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، في حين قال عنه في حق المؤمنين: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وآله وسلم. ومن الطرق التي تستطيع أن تميز بها مذهب مؤلف كتاب، وأردت أن تعرف هل هو شيعي أو غير شيعي، فانظر في المقدمة، هل ترضى عن الصحابة أم لا، تجد الشيعة لا يترضون عنهم، وبعضهم لا يعمل مقدمة، بل يدخل في موضوعه مباشرة تجنباً لذكر الصحابة حتى لا يترضى عنهم، وإما أن يترضى على آل البيت فقط، وأهل السنة في مقدمة الكتب يقولون: ورضي الله عن أصحابه أجمعين، لماذا؟ حتى لا يظن أحد أنه ترضى عن بعض أصحابه، فنجد علماء السنة في المقدمات يقولون: ورضي الله عن أصحابه أجمعين، ومنهم من يزيد ويقول: ورضي الله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والمهاجرين والأنصار، فهذا كله من أجل ما زرعه الشيعة -قبحهم الله- من الأحقاد والسباب للصحابة رضي الله عنهم أجمعين. روي عن الحسن أنه قد بلغ من شدتهم على الكفار أنهم كانوا يتحرجون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقة، والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء، لكن المعانقة تشرع عند القفول من السفر، قال بعض المفسرين: وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الله، والرحمة على المؤمنين. وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا). وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي). ولا بأس بالبر والإحسان إلى عدو الدين إذا تضمن ذلك مصلحة شرعية، كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فلتراجع.

معنى قوله تعالى: (ذلك مثلهم في التوراة)

معنى قوله تعالى: (ذلك مثلهم في التوراة) قوله تبارك وتعالى: (ذلك مثلهم في التوراة) أي: ذلك الوصف مثلهم -رضي الله تعالى عنهم- في التوراة، أي: صفتهم العجيبة فيها، ومعنى ذلك أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدحوا قبل أن يخلقوا، وذلك في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل، فهذه الآية تشير إلى نصين في التوراة والإنجيل كلاهما في مدح صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف يمدحهم الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقوا ثم يكون فيهم ما افتراه الأفاكون الضالون الرافضة -لعنهم الله- من أن الصحابة ارتدوا جميعاً ما عدا ثلاثة. والذي يقول هذا كفر بقوله تعالى للصحابة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وكفر بقوله تبارك وتعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فمن رضي الله عنه لا يسخط عليه أبداً. (ذلك) أي: الوصف (مثلهم في التوراة) أي: صفتهم العجيبة فيها، فالصحابة موصوفون في التوراة بأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ).

معنى قوله تعالى: (ومثلهم في الإنجيل كزرع)

معنى قوله تعالى: (ومثلهم في الإنجيل كزرع) قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي: فراخه أو سنبله أو نباته {فَآزَرَهُ} يعني: قواه، {فَاسْتَغْلَظَ} يعني: غلظ الزرع واشتد، فالسين للمبالغة في الغلظ أو صار من الدقة إلى الغلظ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} أي: استقام على قصبه، والسوق جمع ساق {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي: هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحسن نباته وبلوغه وانتهائه يعجب الذين زرعوه {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة، كأنه قيل: إنما قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار، ومن ثم ذهب الإمام مالك إلى تكفير الرافضة. يقول الزمخشري: هذا مثل ضربه الله لبدأ أمر الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله بمن آمن معه، كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع. وهذا هو ما قاله البغوي أي: أن الزرع محمد عليه الصلاة والسلام، وأما الشطء الذي زاد عن هذا الزرع فهم أصحابه والمؤمنون، فجعل التمثيل للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط، فـ الزمخشري والبغوي قالا: إن الزرع نفسه هو مثال للنبي عليه الصلاة والسلام، أما الشط فهم أصحابه والمؤمنون الذي قووا دينه وجاهدوا في سبيله، فهذا تمثيل للنبي وأمته، وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط، وعبارته: وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة، كانوا قلة، في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس. ولكل وجهة.

هل يكفر الرافضة لغيظهم على الصحابة؟

هل يكفر الرافضة لغيظهم على الصحابة؟ قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم -إذا رأوا الصحابة يغتاظون، وتغلي عروقهم من الحقد على الصحابة -ومن غاظه الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. انتهى كلام ابن كثير. يقول الإمام العلامة القاسمي: ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة كما بسط في كتب العقائد، وأوضحه النووي في مقدمة مسلم، وقبله الإمام الغزالي في كتاب فيصل التفرقة، وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء في التكفير والزندقة، وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ. على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما اجتهد كان مأجوراً غير مأزور، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل جامع الجوامع، نعم إن التطرف والغلو في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين، وإذا اشتد البياض صار برصاً. على أي الأحوال فمسألة تكفير الرافضة فيها تفصيل، والشيعة كلمة لها عدة معان على درجات أو دركات، فالشيعة بالمعنى الصحيح هم أهل السنة الذين تشيعوا لأهل البيت، فنحن نحبهم وننزلهم منزلهم اللائق بهم، فالشيعة بمعنى الأنصار كما قال الله: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ} [الصافات:83]، فنحن الشيعة أنصار أهل البيت، ونحن نحبهم دون أن نعبدهم مع الله أو نغلو فيهم، فالشيعة في الحقيقة هم أهل السنة؛ لأنهم هم الذين يتشيعون لأهل البيت بحق وبعدل وبإنصاف، لكن بعد ذلك يطلق لفظ الشيعة على الاعتقاد في تفضيل علي على من سبقه من الخلفاء، واعتقاد أنه أحق بالإمامة من أبي بكر وعمر، فهذا تشيع. وهناك تشيع الزيدية وهي درجة أخف، وهناك تشيع الرافضة الإمامية الجعفرية الاثني عشرية، وهم من أهل الضلال، وهناك تشيع السبئية الذين زعموا أن علياً إله، وعبدوه من دون الله. فالشيعة لا يصح لإنسان أن يصدر حكماً عاماً على كل شيعي، حتى رافضة إيران اليوم لا يصلح التعميم في الحكم عليهم؛ لأن المسألة تحتاج إلى تفصيل، وأن تسأل الشيعي: ماذا يعتقد؟ فالبدعة قد تكون مكفرة وقد تكون غير مكفرة، مكفرة مثل أن يعتقد أن القرآن الموجود قرآن ناقص، وأن القرآن الحقيقي هو ثلاثة أضعاف هذا القرآن، وأنه مخبوء مع إمامهم المهدي المزعوم، وغير ذلك من الخرافات، فهذا طعن في القرآن الكريم، وهو كفر، هكذا نفصل، ولا ينبغي التعميم، والعوام ليسوا كالخواص، فالعامي الجاهل الذي نشأ على الرفض، وظن أن هذا هو الإسلام، ليس كالخواص. ولا شك أنه حتى مع تكفيرهم لن يكونوا كالكفار الأصليين؛ لأن من اعتقد أن محمداً رسول الله، وأنه صادق ومرسل من عند الله؛ لا يستوي مع من لم يعتقد ذلك، فالمسألة فيها تفصيل، ولابد من معرفة ضوابط التبديع أو التفسيق أو التكفير، وهذا قد فصلناه في محاضرة بعنوان (ضوابط التبديع).

معنى قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما)

معنى قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) قوله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا الله ورسوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} أي: عفواً عما مضى من ذنوبهم وسيئ أعمالهم {وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] أي: ثواباً جزيلاً وهو الجنة، و (منهم) هنا بيانية وليست تبعيضية، (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم) هذه بيان لجميع الصحابة، وليست لبعض منهم، والله تعالى أعلم.

الحجرات [1 - 5]

تفسير سورة الحجرات [1 - 5]

المناسبة بين سورة الحجرات وما قبلها من السور

المناسبة بين سورة الحجرات وما قبلها من السور نشرع في تفسير سورة الحجرات: لما نوه الله سبحانه وتعالى في سورة القتال بذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصرح في ابتدائها باسمه الشريف، وسمى السورة به، وملأ سورة الفتح بتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وختمها باسمه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، عليه الصلاة والسلام، ومدح أتباعه لأجله، افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل؛ للعد من حزبه، والفوز بقربه، ومدار ذلك على معاني الأخلاق. وهذه السورة تسمى سورة الآداب، وتسمى سورة الحجرات. يقول المهايمي: سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام، وهو من أعظم مقاصد القرآن. فمن لم يعظم الرسول عليه الصلاة والسلام أقصى التعظيم، ويحترمه غاية الاحترام، فإنه لا يستحق أن يعد من بني البشر أو أن ينسب إلى الإنسان العاقل كما سيأتي ذلك إن شاء الله تبارك وتعالى.

إثبات مدنية سورة الحجرات وطريقة معرفة المكي والمدني

إثبات مدنية سورة الحجرات وطريقة معرفة المكي والمدني وهذه السورة سورة مدنية بإجماع المفسرين، وآيها ثماني عشرة، وقيل: هي مدنية إلا آية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، ولعل من استثنى هذه الآية استند إلى قول عبد الله بن مسعود: ما كان فيه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فإنه نزل بالمدينة، وما كان فيه ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) فإنه نزل بمكة. وفي الحقيقة هذا ليس بمطرد. يعني: أن عبد الله بن مسعود إن كان صح هذا عنه فلابد أنه كان يستثني؛ لأن هذه القاعدة ليست مطردة، لكن حقيقة الأمر أن السور المكية يغلب عليها النداء بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كما في سورة يونس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس:104]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:108]، هذا في يونس، وفي سورة لقمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33]. كذلك السور المدنية يغلب عليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، لأن غالب الخطاب كان موجهاً إلى المؤمنين بالفعل في مجتمع المدينة، فيغلب على السور المدنية الخطاب: بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما في سورة البقرة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وسورة البقرة مدنية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]. إذاً: الغالب أن السور المكية يغلب فيها النداء: بـ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، والسور المدنية يغلب فيها النداء بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن لا توجد آية مكية فيها صيغة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لكن يوجد سور مدنية وفيها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، كآيات سورة الحجرات هذه في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى)) وفي سورة البقرة وهي سورة مدنية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]، وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة:168]. وفي سورة النساء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:170] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء:174]. كذلك سورة الحج سورة مدنية وفيها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5]. وما ذهب إليه البعض من استثناء هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ} [الحجرات:13] إلى آخره اعتماد على النداء: بـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) في أن هذه الآية بالذات في السورة تعتبر مكية، فهذا قول غير صحيح.

حث سورة الحجرات على التأدب في الخطاب

حث سورة الحجرات على التأدب في الخطاب انفردت هذه السورة بآداب جليلة أدب الله سبحانه وتعالى بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من التوقير والتبجيل، قال بعض العلماء: كانت العرب في جفاء وسوء أدب عند خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فالسورة فيها الأمر بمكارم الأخلاق، ورعاية الآداب. ولما كان إيمانهم إيماناً علياً عظيماً طولبوا بآداب تتناسب مع هذا الإيمان العالي، وإن اغتفر بعضه لغيرهم ممن ليس في درجتهم، يعني: قد يتسامح في ترك بعض هذه الآداب ممن هو دونهم في المرتبة والإيمان؛ لأنه ليس في درجة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فكأنه قد قيل لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل كما في الآيات الأخيرة في سورة الفتح، وبداية هذه السور متناسقة مع خاتمة الفتح ففيها بيان أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد مدحهم الله في كتابه، ونصت الكتب السابقة على الفضل والثناء؛ وبسبب استماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وبسبب معيتهم له عليه الصلاة والسلام كما في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29]، فهذا ثناء الله عليهم قبل أن يخلقوا في التوراة، كذلك قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح:29] إلى آخر السورة الكريمة، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل، فإنه درجة لم ينلها غيركم من الأمم، فقابلوا هذا التشريف وهذا التعظيم بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب، أو سوء خطب في الجواب، وصادقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وليكن علنكم منبئاً بسليم سرائركم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: أي: لا تقولوا خلاف السنة.

تفسير ابن جرير لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

تفسير ابن جرير لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) وقال ابن جرير: أي: يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم! لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، محكي عن العرب فلان يقدم بين يدي الإمام بمعنى: يعجل الأمر والنهي دونه. و (تقدموا) إما متعد حذف مفعوله لأنه أريد به العموم، أي: ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم فيه كل مذهب، والمعنى: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله. أو أنه فعل متعد لكن نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع، فأنت تريد أن تصفه بأنه يعطي ويمنع فقط، ولا تريد أن تعين ما تنتقد يعطي وما يمنع. وفي هذه الجملة تجوزان: أحدهما: في قوله: ((بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) فإن حقيقته ما بين العضوين (اليدين) فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال له: (بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال ابن كثير إنه جيد. لكنه في الحقيقة حديث منكر، فهو ضعيف ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام كما حقق ذلك كثير من الأئمة، لكن الشاهد هنا بفرض صحته أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: (لا تُقَدِّمُوا) بضم التاء هذه قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها، وقد حكي عن العرب: قدمت في كذا وتقدمت في كذا.

تفسير القرطبي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

تفسير القرطبي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية أيضاً: قوله تعالى: ((لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، أصل في ترك الاعتراض على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لإنسان أن يعترض أو يضع رأيه في طريق السنة أبداً، كما قال سفيان: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي. فهذه الآية أصل أصيل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإيجاب اتباعه والاقتداء به، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لـ حفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف -يعني: سريع البكاء والحزن لرقة قلبه- وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، فقال صلى الله عليه وسلم: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس). الخطاب هنا (إنكن) في صيغة جمع، لكن المراد به عائشة فقط، قال القرطبي رحمه الله تعالى: والمقصود من قوله: (إنكن لأنتن صواحب يوسف)، أي: مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن، فإن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن الصديق لكونه لا يسمع المؤمنين القراءة من بكائه؛ لكن مرادها أمر زائد على ذلك في الحقيقة، وهو ألا يتشاءم الناس به، ولذا قالت: (خشيت لو أن أبا بكر خلف الرسول عليه السلام في الإمامة فإنه سوف يتشاءم الناس أنه أول رجل حل محل الرسول عليه السلام في الصلاة) فأرادت أن تصرف عنه هذه الإمامة. وهذا مثل زليخا امرأة العزيز استدعت النسوة، وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:30] * {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) [يوسف:31] ففي الظاهر أنها دعتهن لأجل الإكرام والضيافة، لكن غرضها في الحقيقة خلاف ما أظهرته، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام، ويعذرنها في محبته، فهذا هو وجه الشبه في إظهار خلاف ما يبطن، فعبر بالجمع في قوله: (إنكن) والمراد: عائشة فقط، كذلك أيضاً: (صواحب يوسف) جمع لكن المقصود به زليخا امرأة العزيز. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]. قوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))، أي: في التقديم أو في مخالفة الحكم، والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا وتحفظ مما يلصق العار بك، فتنهاه أولاً عن عين ما قارفه، ثم تعم وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه لم يرتكب تلك الفعلة، وكل ما يكون في طريقها ويتعلق بسببها. ((إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) أي: فحقيق أن يتقى ويراقب.

لا دليل لأهل الظاهر في نفي القياس بالآية

لا دليل لأهل الظاهر في نفي القياس بالآية وفي الإكليل: قال الكيا الهراسي: قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية يدل على النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه، ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء، وربما احتج بها نفاة القياس، وهو باطل منهم. يعني: هذه الآية يحتج بها الظاهرية الذين ينكرون القياس كأصل من أصول الشريعة؛ لأن الله قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، ولم يترك دليلاً آخر خلاف الكتاب والسنة، فهذا باطل من هؤلاء القوم، فإن القياس قامت دلالته، فليس في فعله تقديم بين يدي الكتاب والسنة؛ إذ قد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس هذا تقدماً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير الشنقيطي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)

تفسير الشنقيطي لآية: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((لا تُقَدِّمُوا)) فيه لعلماء التفسير ثلاثة أوجه: الوجه الأول منها وهو أصحها: أنه مضارع (قدم) اللازمة بمعنى: (تقدم) كما تقول: وجه وتوجه، وبين وتبين، ومنه مقدمة الجيش وهي خلاف ساقته، ومقدمة الكتاب، و (مقدمة) اسم فاعل قدم بمعنى: تقدم، والعرب تقول: لا تقدم بين يدي الأبي، يعني: لا تعجل بالأمر والنهي دونه، ويدل على هذا الوجه قراءة يعقوب من الثلاثة الذين هم تمام العشرة: (لا تَقَدَّموا) وأصلها لا تتقدموا بحذف إحدى التاءين، هذا هو أصح الوجوه. الوجه الثاني: أنه مضارع (قدم) المتعدي، والمفعول محذوف لإرادة التعميم، أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله ورسوله، بل أمسكوا عن ذلك حتى تصدروا فيه عن أمر الله ورسوله. الوجه الثالث: أنه مضارع (قدم) المتعدية، ولكنها أجريت مجرى اللازم، وقطع النظر عن وقوعه على مفعولها؛ لأن المراد هو أصل الفعل دون وقوعه على مفعوله كقولهم: فلان يعطي ويمنع، ونظير ذلك في القرآن الكريم قوله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [غافر:68]، (يحيي) فعل فهو متعد، يحيى الموتى أو يحيى البشر وهكذا، لكن لما كان المقصود في هذه الآية إثبات اختصاص الله سبحانه وتعالى بالإحياء والإماتة، ولا يراد في ذلك وقوعهما على مفعول، فيقطع النظر عن المفعول. وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، (يعلم) فعل متعد، أي: يعلم الفقه ويعلم التفسير ويعلم الطب، لكن لما أريد مجرد وصف القوم بالعلم، وأنهم لا يستوون مع غير المتصفين بالعلم أجري الفعل المتعدي مجرى اللازم، كذلك (لا تُقَدِّمُوا) يعني: لا تكونوا من المتصفين بالتقديم بقطع النظر عن وقوعه على مفعوله.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)) أي: إذا نطق ونطقتم فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته؛ ليكون عالياً على كلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا نهي عن أن تكون نبرة صوت أحد المؤمنين أعلى من صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قال لقمان لابنه وهو يعظه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فتهذيب الأصوات وغضها من الآداب التي تكاد تكون مهجورة، فقد ذم الشرع رفع الصوت بغير عذر شرعي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (صخاب في الأسواق) بالسين وبالصاد؟ من الصخب والجلد كالباعة الذين يرفعون الأصوات في الأسواق، فرفع الأصوات بهذه الطريقة المنكرة مما تنفر عنه الشريعة، فضلاً عن أن بعض الناس يقف يعلن عن بعض الكتب، ويرفعون الأصوات على أبواب المساجد، فهذا أيضاً مناف للآداب الشرعية.

إهمال الناس لأدب خفض الصوت في المساجد

إهمال الناس لأدب خفض الصوت في المساجد وقول الله عز وجل على لسان لقمان: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فيه تنفير شديد لرفع الصوت وأن هذا من شأن الحمير، وأنا سمعت من سنوات بعيدة أن أحد علماء الموسيقى في لبنان أسلم بسبب هذه الآية، قال: لأن هذه الآية لا يمكن أن ينطق بها إلا خالق الأصوات، فقوله: إن أشد الأصوات نشازاً هو النهيق الذي يصدر من الحمير، هذه حقيقة علمية في غاية الدقة، فأسلم بسبب هذه الآية! وكان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة كما ثبت في بعض الآثار: (محمد عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق). أيضاً: مما يناسب هذا مراعاة موضوع الآداب في السوق وفي المسجد، فهذا الأدب يكاد يكون مهجوراً، فلابد من مراعاة الأدب في المسجد بخفض الصوت فيه، فبعد الصلاة يحصل لغط وتشويش، وربما بعض الناس يريد أن يصلي أو يقرأ فيجد الأصوات مرتفعة وكأنه في ناد، ولا أحد يبالي بأدب المسجد. فالمسجد له احترامه وأدبه، ولا بد من غض الصوت في المسجد احتراماً أو مراعاة لحرمة بيت الله عز وجل، فضلاً عما يحصل من بعض الناس من السلوك فتجده يرفع صوته ويتملكه الغضب، ويصرخ في المسجد بطريقة لا تليق أبداً مع آداب المسجد. كذلك من الأشياء التي ينبغي الالتفات إليها ضبط السماعات، فأحياناً يكون القائمون على هذا الأمر غير متخصصين ولا يعرفون ضبط السماعات، فيكون الصوت مرتفعاً جداً، وأنا أحياناً أتواجد في بعض المساجد فأضطر أن أضع أصبعي في أذني؛ لأن هذا خطر على أعصاب الأذن، فالصوت العالي يؤثر على حاسة السمع، فلا ينبغي أن نهمل هذا الأمر؛ لأن هذا من أذية المسلمين وأحياناً يكون الإهمال في ضبط السماعات بحيث تصدر أثناء الصلاة صفارات تشوش على الناس الصلاة. إذاً: هذا أيضاً مما يدخل في الأدب في التعامل مع الناس والأدب مع المساجد، فليبلغ السامع الغائب في أي مسجد، فالمكبرات تؤدي خدمة جليلة في توصيل الخطب خاصة عند ازدحام الناس في صلاة الجمعة أو العيدين، لكن أن تكون السماعات مرتفعة الصوت بهذه الطريقة فهذا يشبه ما يفعله الجهلة الذين يريدون أن يعملوا أفراحاً بأصوات مؤذية، فيؤذون الجيران، فضلاً عن أنها معاص كالأغاني وغيرها، ويسهرون حتى الفجر، ويتعبون جيرانهم، ولا يستطيع أحد أن ينام، ولا يستطيعون أن يفرحوا إلا بهذه الطريقة الفوضوية والغوغائية، كيف يكون هذا فرحاً؟ إن كان لا بد من فساد فاحصره في دارك. كذلك الذي يتصدق على جيرانه بمزامير الشيطان، ويرفع الصوت فيسمعهم، وبعض الناس يحاول أن يواجه هذا بأن يرفع صوت القرآن، ويذهب الآخر فيرفع الأغاني أكثر، فتحدث عملية عناد بطريقة غير مرضية، فمن الذي أجاز رفع الصوت في القرآن بهذه الطريقة التي تحصل في المساجد؟ سواء كان في المقرئ الذي يأتون به يوم الجمعة أو بعد صلاة العصر، وهذه بدعة، فإذا أراد أحد أن يصلي السنة أو أن يقرأ سورة الكهف لم يستطع. من قال: لا تقرأ القرآن؟ اقرأ القرآن فهو أفضل ذكر، لكن كل شخص يقرأ وحده دون أن يشوش على الآخرين فالتشويش على جميع المصلين بهذه الطريقة إهدار لحقهم في أن يصلوا صلاة خاشعة، فإذا أراد أحد أن يتنفل إلى أن يخرج الإمام يوم الجمعة فدعه يتنفل، لماذا تشوش عليه بالصوت العالي بالقرآن؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس يجهر بعضهم على بعض أمرهم أن يخفضوا أصواتهم، فقال: (ألا كلكم مناج ربه، فلا يجهر أحدكم بصوته على أخيه)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يذهب الشخص إلى بعض المساجد فيندم أنه لم يحضر معه سدادات الأذن، لأن الصوت يكون مؤذياً إلى أقصى مدى، في حين يمكن أن تسمع الخطبة وتفهمها جداً عندما يكون الصوت هادئاً، وليس فيه هذه النبرة. فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وعندنا عناء كثير بسبب هذا الأمر، وبسبب عدم الوعي بآداب الإسلام؛ ولذلك نقول دائماً: نحن لسنا متخلفين عن الكفار في اهتمامهم بحقوق الآخرين، لكننا متخلفون عن الإسلام الذي علم الدنيا كلها هذه الآداب قبل قرون عديدة ومديدة، فهذه الآداب هي في الحقيقة نابعة من ديننا ومن سنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

رفع الصوت عند النبي من الكبائر

رفع الصوت عند النبي من الكبائر قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)). أي: بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس الذي يضاد الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم. وروي عن مجاهد تفسيره بندائه، يعني: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً: يا محمد! يا محمد! بل تنادوه: يا نبي الله! يا رسول الله! وقد قال تبارك وتعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]. ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) يعني: مخافة أن تحبط أعمالكم لرفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم. ((وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها. استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة، ولا فرق بينها وبين غيرها، وعمموا الأمر فقالوا: ما دام أن هذه كبيرة محبطة فكل كبيرة محبطة. ولما كان المحبط للأعمال عند أهل السنة هو الكفر خاصة، تأول علماء أهل السنة هذه الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض للمنافقين القاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعاً لأنه يقصد به الاستهانة بمقامه الشريف، فهي ليست في حق المؤمنين إلا إن قلنا: إنها للتغليظ والتخويف، كوصف المعاصي مثلاً بالكفر. وقال الناصر: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكمة النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا هو حكم الله في التحذير من أن يقع إيذاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

يجوز رفع الصوت عند الحرب

يجوز رفع الصوت عند الحرب وهناك حالات للجهر لا يتناولها النهي باتفاق العلماء، مثل أن يكونوا في حرب، أو في مجادلة معاند، أو في إرهاب عدو، أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ واستهانة، قال صلى الله عليه وسلم للعباس لما ولى المسلمون يوم حنين: (ناد أصحاب السمرة)، وكان العباس جهوري الصوت، فنادى بأعلى صوته، مع أنه كان في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هل هذا يدخل في قوله: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))؟ لا، لأن هذه حالة جهاد وقتال، ومطلوب فيها رفع الصوت من أجل تجميع الجيش الذي تبدد وتفرق. والسمرة هي الشجرة التي بايعوا تحتها، وكان رجلاً صيتاً، يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس: يا صباحاه! فأسقطت الحوامل من شدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعد: زجر أبي عروة السباع إذا أشفق أن يختلطن بالغنم أبو عروة كنية العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه زعمت الرواة أن العباس كان يزجر السباع عن الغنم فتنفجر مرارة السبع في جوفه من قوة صوت العباس رضي الله تعالى عنه، لكن كيف لا تفتق مرارة الغنم؟ قيل: لأنها ألفت صوته، لأنه مع الغنم دائماً فتعودت على الصوت، أما السباع فكان يحصل ذلك لها فجأة، والله أعلم من صحة ذلك. المقصود: أن رفع الصوت هو من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة، حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه، فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام! ثانياً: نقول: إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر، وهذا أمر ثابت قد نص عليه الأئمة، وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر. والله عز وجل الموفق.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]: سبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال، فقال له أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ)) إلى آخر الآية. وهذا ذكره البخاري في صحيحه، وجاء في بعض الروايات: (كاد الخيران أن يهلكا) والخيران أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

دلالة الآية على توقير النبي صلى الله عليه وسلم

دلالة الآية على توقير النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي صلى الله عليه وسلم ويحترموه ويوقروه، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض أي: ينادوه باسمه: يا محمد! يا أحمد! كما ينادي بعضهم بعضاً، وإنما أمروا أن يخاطبوه خطاباً يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض، كأن يقولوا: يا نبي الله! أو يا رسول الله! ونحو ذلك. ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) أي: لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم. ((وأنتم لا تشعرون)) أي: لا تعلمون بذلك. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واحترامه جاء مبيناً في مواضع أخر، كقوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9]، هذا على القول بأن الضمير في (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف:157]. وقوله هنا: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))، أي: لا تنادوه باسمه يعني: لا تقولوا له: يا محمد! وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله سبحانه وتعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه، وهذه من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تدل على تفضيله على جميع الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى كان يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير، ولا توجد آية في القرآن فيها: يا محمد أو يا أحمد، وإنما: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ} [البقرة:35]، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104]، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48]، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144]، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران:55]، {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} [ص:26]. أما محمد صلى الله عليه وسلم فلا ينادى بالاسم لكن جاء اسمه في قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]. وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد:2]. وقال أيضاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]. وقد بين تبارك وتعالى أن توقيره واحترامه صلى الله عليه وسلم بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى أي: أخلصها لها، وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3]. وقال بعض العلماء في قوله: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ))، أي: لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض. وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر، وقد قال القرطبي: إنه ليحبط عمله بغير شعوره. لأن قوله: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) يدل على أنه يمكن أن يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر. وقال ابن كثير: قوله عز وجل: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) أي: إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك؛ فيغضب الله تعالى لغضبه، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري. ومعلوم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط، وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً لا يجوز، ولا يليق إقرارهم على ما هم عليه من المنكر، وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً.

كفر المستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم

كفر المستهزئ بالنبي صلى الله عليه وسلم ثم يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى مسألتين فيقول: الأولى: اعلم أن عدم احترام النبي صلى الله عليه وسلم المشعر بالغض منه، أو تنقيصه صلى الله عليه وسلم والاستخفاف به أو الاستهزاء به، ردة عن الإسلام وكفر بالله، وقد قال الله تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم: وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].

وجوب التمييز بين حقوق الله وحقوق النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب التمييز بين حقوق الله وحقوق النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذكر المسألة الثانية ويقول: وهي من أهم المسائل: اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره، وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليضع كل شيء في موضعه على ضوء ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله سبحانه وتعالى، فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب، ودهمته الدواهي، لا يجوز إلا لله وحده؛ لأنه من خصائص الربوبية، فصرف ذلك الحق لله، وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده جل وعلا. فبعض الناس تسول له نفسه أن يغالي ويفرط في تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام إلى حد يوقعه في الشرك، ويظنون أن حبهم للنبي عليه الصلاة والسلام وإرادة تعظيمه تشفع لهم في ذلك، فالرسول عليه الصلاة والسلام من أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية؛ لأن سر ارتفاع مقام النبي عليه الصلاة والسلام عن العالمين أجمعين ما هو إلا إمعانه في تحقيق العبودية، والعبودية هي غاية الحب مع غاية الذل، فما ارتفع عند الله إلا لأنه بلغ غاية الذل وغاية الحب لله عز وجل التي لا يصل إليها أحد على الإطلاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من تواضع لله رفعه الله)، فهو كان أشد الناس تواضعاً لله، وهذا هو سر رفعة النبي عليه الصلاة والسلام. فبعض الناس قد يظن لجهله أنه إذا مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمديح فيه غلو أنه تشفع له هذه المحبة، حتى لو كان هذا الأمر مما لا يجوز أن يصرف إلا لله، انظر مثلاً إلى قول البوصيري في البردة: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم وقول بعضهم: محمد زينة الدنيا وبهجتها محمد كاشف الغمات والظلم هل هذا حق؟ كلا، هذه من خصائص الربوبية التي لا تُصرف إلا لله عز وجل. والرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا سمع بعض الناس يخطئ في بعض العبارات يغضب غضباً شديداً، كقول الرجل مثلاً: ما شاء الله وشئت، فغضب وقال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده).

براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن يغالون فيه

براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن يغالون فيه والرسول يبرأ إلى الله من هؤلاء الذين يغالون في تعظيمه من إفراط في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم، فقد مدحه الله بالعبودية في أشرف المقامات كما قلنا في مقام الدعوة، وفي مقام الإسراء، وفي مقام التحدي، فلا بد أن نميز بين ما هو حق خالص لله، وبين ما هو حق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلا شك أن المضطر لا يجوز له أن يفزع إلا إلى الله سبحانه وتعالى، لكن تجد بعض العوام -للأسف- يقوم وهو ثقيل الجسم، ويريد أن يقف فيقول: يا رسول الله! المدد يا رسول الله! وهذا شرك! لأن المدد لا يطلب إلا من الله عز وجل، والرسول كان يطلب المدد من الله. فالدعاء من التوحيد، وصرفه لغير الله شرك حتى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يشرك مع الله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، يقول سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] يعني: إجابة المضطرين الداعين، وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية كخلق السماوات الأرض، وإنزال الماء، وإنبات النبات، والحجز بين البحرين، فهذه الآيات تبين كل الخصائص، كما في آيات سورة النمل قال تعالى: ((أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) يعني: أئله مع الله فعل ذلك؟ {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63]، وقال تبارك وتعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وللأسف نهج شوقي نهج البوصيري في قصيدة البردة، وإذا به يختمها بقوله: أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحابا سألت الله في أبناء ديني فإن تكن الوسيلة لي أجابا وما للمسلمين سواك حصن إذا ما الضر مسهم ونابا ترى لو كان النبي عليه الصلاة والسلام يسمع هذا الكلام هل كان يقر هذا الشاعر على هذا الشرك؟! لا يمكن.

بعض من ينتسب إلى الإسلام أسوأ حالا من المشركين في الشرك

بعض من ينتسب إلى الإسلام أسوأ حالاً من المشركين في الشرك سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه: أنه لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة خرج فاراً منه إلى بلاد الحبشة، فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة، فجاءتهم ريح عاصف؛ فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم، فلأجدنه رءوفاً رحيماً! فخرجوا من البحر فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه. وللأسف أنه يوجد بعض المتسمين باسم الإسلام وهم أسوأ حالاً من هؤلاء الكفار المذكورين؛ لأنهم في وقت الشدائد يلجئون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله عز وجل، كما يفعلون عند قبور الأنبياء ومن يعتقدون فيهم الصلاح، وهذا معروف ومجرب، وهناك أخبار كثيرة منقولة منها: أن الشخص يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً لا يبالي، لكن إذا قلت له: احلف بشيخك، أو احلف بـ البدوي أو بـ الحسين أو بكذا، يتلعثم ويتردد ثم يقر بالحق! فهذا لا شك أنه من تلبيس إبليس على هؤلاء الناس الذين يصرفون خصائص الربوبية لغير الله. ويقول تبارك وتعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]، بل الذي كان يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ما يأمره الله بالأمر به، فإن الله أمر في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

المغالي في تعظيم النبي عدو لله وإن ادعى المحبة

المغالي في تعظيم النبي عدو لله وإن ادعى المحبة يقول الشنقيطي: واعلم أن كل عاقل رأى رجلاً متديناً في زعمه، مدعياً حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وهو يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل الماء من السماء، وأنبت به الحدائق ذات البهجة، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها أنهاراً، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزاً، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله، المتعدين لحدود الله. فلا فرق بين إجابة المضطرين وبين كشف السوء عن المكروبين، فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل، وأن نعظم ربنا بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وإخلاص العبادة له، وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله، والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به. وأثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه وأصحابه لالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9]. ثم يقول الشنقيطي: اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات، فيخلص تقربه بذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يصرف شيئاً منها لغير الله كائناً ما كان، والظاهر أن ذلك يشمل هيآت العبادة. يعني: كما أن العبادة لا تصرف إلا إلى الله، كذلك هيآت العبادة، فبعض الناس يذهب إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام القبر، ويضع يده اليمنى على اليسرى كما يفعل داخل الصلاة، وهذه هيئة من هيآت الصلاة، فينبغي أن تكون خالصة لله، كما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيآتها لله تبارك وتعالى وحده. والعبادة أنواع فمنها: عبادات قلبية، وبدنية، ومالية، وقولية: فمثال القلبية: الحب والرجاء، والتوكل، والإنابة، واليقين ونحوها. وهناك عبادات قولية مثل: الذكر والحلف والنذر وقراءة القرآن وهكذا. والعبادات المالية كالزكاة والصدقة والنذر والحج ونحو ذلك. والعبادات البدنية كالصيام والصلاة والجهاد ونحو ذلك، فكل هذه العبادات لا ينبغي أن توجه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يحلف إنسان إلا بالله، فإذا حلف بغير الله فقد وجه العبادة إلى غير مستحقها حتى لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3]. ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ)) أي: يبالغون في خفضها ((عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)). قال ابن جرير: أي: اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني: لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار فيخلص جيدها، ويبطل خبثها. ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: ثواب جزيل وهو الجنة، وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مخلصين.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]. ((إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ)) أي: يدعونك ((مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ)) أي: خارج الحجرات يعني: خلفها أو قدامها على أن (وراء) من المواراة والاستتار، أي: فما استتر عنك فهو وراء خلفاً كان أو قداماً إذا لم تره. وقيل: هي من الأضداد، فهي مشترك لفظي. قيل: ((الذين ينادونك)) يدعونك ((من وراء)) أي: خارج الحجرات عند كونك فيها؛ استعجالاً لخروجك إليهم، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال. ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) إذ لا يفعله محتكم، فلا يراعون حرمة أنفسهم ولا حرمتك، ونسب إلى الأكثر؛ لأنه ليس المقصود أن جميعهم فعل ذلك، لكن قد يتبع شخص عاقل جماعة من الجهال موافقة لهم، فيسلك في نظامهم، فلذلك نسبه إليهم مع أن قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، يفهم أن فيهم من يعقلون، لكن هؤلاء تبعوا جماعة الجهال. وقال القرطبي: ثم يحتمل أن يكون المنادي بعضاً من الجملة، فلهذا قال: ((أكثرهم لا يعقلون)) أي: إن الذين ينادونك من جملة قوم الغالب عليهم الجهل.

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم)

تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم) قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:5]. يعني: لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه صلى الله عليه وسلم، وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة مع اتصافهم بالصبر ورعاية الحرمة لنبيهم ولأنفسهم. ((والله غفور رحيم)) أي: لمن تاب من معصية الله، وراجع أمر الله فيه وفي غيره.

سبب نزول الآية

سبب نزول الآية قال ابن كثير: قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي فيما أورده غير واحد، فقد روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس: (أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد يا محمد، وفي رواية: يا رسول الله! فلم يجبه، فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل) يعني الأقرع أنا الذي إذا مدحت أحداً وأثنيت عليه زانه ذلك، وإذا ذممت أحداً شانه ذلك، ولحق به العار، فأقحمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبطل دعواه واغتراره بنفسه، بأن قال: ذاك الله عز وجل أي: الله وحده هو الذي حمده زين وذمه شين. وروى ابن إسحاق في ذكر سنة تسع -وهي المسماة سنة الوفود- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد؛ فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم، ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولاً، ثم قال: وفيهم نزل من القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.

كلام الزمخشري في الآية

كلام الزمخشري في الآية والحجرات بضمتين أو بفتح الجيم أو سكونها -قرئ بهن جميعاً- جمع حجرة، وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، كفعلة بمعنى: مفعولة كالغرفة والقبة والظلمة، فأصل كلمة الحجرة من الحجر والحجر المنع، وكل ما منعت أن يوصل إليه فقد حجرت عليه. قال الزمخشري: المراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، أو أنهم قد أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو أنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفعل وإن كان مسنداًً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعاً. قال الزمخشري: ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله؛ منها: مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به بالسفه والجهل؛ لما أقدموا عليه ((أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)). ومنها: لفظ الحجرات وإيقاعها كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه. ومنها: المرور على نظمها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم. ومنها: التعريف باللام دون الإضافة. فلم يقل: بحجرات رسول الله، وإنما قال: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ).

صفات الحجرات النبوية

صفات الحجرات النبوية عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل، مغشى من خارج بمسوح الشعر. وعن الحسن قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكى الناس لذلك. وقال سعيد بن المسيب يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى عليه وسلم في حياته؛ فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها. ومن الأمور التي تبين تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الآية أنه شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له. لأنه عندما يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، كأن الله سبحانه وتعالى يذكر له أن هؤلاء القوم جهلة، فهذه تسلية له ومواساة لتخفيف هذا الأذى وهذا الخطب، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم، وسوء أدبهم.

بيان تعظيم النبي في سياق سورة الحجرات

بيان تعظيم النبي في سياق سورة الحجرات والسياق من أول السورة إلى آخر هذه الآية وارد في التأديب، فانظر كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير حصر ولا تقييد: ((لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، في أي أمر من الأمور. ثم أردف ذلك النهي ما هو من جنس التقديم؛ من رفع الصوت والجهر بالقول، كأن الأول بساط للثاني فقال: ((وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)). ثم ذكر ما هو ثناء على الذين يتجنبون رفع الصوت: ((إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى)). ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدراً، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه؛ لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول حتى خاطبه جلة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً، ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد -ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت باباً على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.

كراهة رفع الصوت عند القبر النبوي الشريف

كراهة رفع الصوت عند القبر النبوي الشريف قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حياً وفي قبره صلى الله عليه وسلم، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما -رماهما بالحصباء- ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً). وقال سليمان بن حرب: ضحك إنسان عند حماد بن زيد وهو يحدث بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فغضب حماد وقال: إني أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ميت كرفع الصوت عنده وهو حي. وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم. فكيف لو رأى ما يحصل الآن من بعض الجهلة الأجلاف! تناقشه ثم تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيظل يرفع صوته ويجادل، وكان الأدب يقتضي أنك متى سمعته يقول: قال رسول الله لا بد أن تتأدب وتسكت إلى أن يتم كلامه، هذا من الأدب عند تلاوة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

تعدد أسباب النزول وبيان وجه ذلك

تعدد أسباب النزول وبيان وجه ذلك روى البخاري عن عبد الله بن الزبير: (أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك؛ فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما؛ فنزل في ذلك: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) حتى انقضت الآية). وفي رواية: (فأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]) (قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه) يعني: كان يبالغ في خفض الصوت، حتى إن الرسول عليه السلام كان يستفهمه يقول: ماذا تقول؟ لشدة خفضه لصوته عند النبي بعد نزول هذه الآية. وهذا الحديث رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك، قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب. قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما هو في التأمير، في أول السورة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، لكن لما اتصل بها قوله: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ)، تمسك عمر منها بخفض الصوت، وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم. فهذا الاستشكال الجواب عنه: تعدد سبب النزول، وهذا كما قلنا مرارًا: إن قول العلماء أو السلف: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، ويشمله حكمها، لا أنه سبب لنزولها بالفعل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. انتهى كلام شيخ الإسلام. يقول القاسمي: وبه يجاب عما يرويه الكثير من تعدد سبب النزول فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله، ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاري، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات يجعل بعضها لسبب وبعضها لآخر في قصة واحدة، وبالله التوفيق.

الحجرات [6 - 10]

تفسير سورة الحجرات [6 - 10]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) من التبيين، وقرأها حمزة والكسائي: (فتثبتوا) من التثبت. ومعنى قوله تعالى: (فتثبتوا) أو (فتبينوا) أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر. يعني: عن طريق البحث أو عن طريق آخر ووسيلة أخرى للتثبت مما جاءكم به من الخبر، ولا تقتصروا على خبره كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة، هذا هو نسق التفسير: كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة. والجهالة هنا هي: أن يجهل حال القوم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] كذلك هنا: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) أي: قوماً برآء مما قذفوا به؛ بغية أذيتهم بجهالة منكم لعدم استحقاقهم إياها. فمعنى قوله تعالى: (أن تصيبوا): لئلا تصيبوا، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:176] يعني: يبين الله لكم لئلا تضلوا. فإذا قذفتم هؤلاء القوم البرآء مما هم برآء منه بغية أذيتهم بجهالة، على أساس أنكم تفعلون ذلك لاعتقادكم أنهم يستحقون ذلك طبقاً لخبر الفاسق، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم، فهذه الإصابة وهذه الأذية تجعلكم تُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ يعني: على ما فعلتم من العجلة وترك التأني. أي: ستندمون على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.

ذكر ما روي في سبب نزول الآية

ذكر ما روي في سبب نزول الآية وهنا تنبيهات: الأول: يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا عيسى بن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة؛ فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان -أي: الأجل- الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا بسروات قومه -يعني: بأشرافهم- فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -يعني: خاف- فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا رآني، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]). هذا الحديث رغم شهرته إلا أنه لا يصح، وإنما تلوناه بطوله كي تنتبهوا إلى هذا، فإن هذا الحديث ضعيف، ورواه أيضاً الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف، فالحديث ضعيف وإن كان مشهوراً على ألسنة الخطباء. وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك. وزاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التثبت من الله، والعجلة من الشيطان) وهذا حديث صحيح. وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم: ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل وغيره في هذه الآية: أنها نزلت في الوليد بن عقبة والله تعالى أعلم. وقال ابن قتيبة في المعارف: الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، وأمه أروى بنت شريح، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم متصدقاً إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة. وكان كاذباً؛ فأنزل الله هذه الآية. وولاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر وهو سكران أربعاً، وقال: أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحدَّه، ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية ومات بناحية الرقة.

من فوائد الآية رد خبر الفاسق

من فوائد الآية رد خبر الفاسق التنبيه الثاني فيما يتعلق بهذه الآية الكريمة: أن في الآية رد خبر الفاسق، وأنه يشترط العدالة في المخبر، فلا يقبل الخبر إلا من عدل، راوياً كان أو شاهداً أو مفتياً. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل؛ لأن منطوق الآية رد خبر الفاسق، فيفهم من ذلك أنه إذا كان عدلاً قبل خبره. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون؛ لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.

تحريم سوء الظن

تحريم سوء الظن ولا شك أن هذه الآية مما يستدل به على تحريم سوء الظن وإن كان في باقي الآيات إن شاء الله تعالى فيما يأتي النهي عن هذا الظن السيء وعدم تحقيق الظن، إلا أنه يؤخذ من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) التنبيه إلى تحريم الغيبة بالقلب؛ لأن الغيبة بالقلب هي سوء الظن، بأن يسيئ ظنه بأخيه في نفسه دون أن يتكلم بذلك، والذي يحمله عليها قبول خبر أفسق الفساق وهو إبليس لعنه الله، فهو أولى من يصدق عليه قول الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا). (أن تصيبوا) أي: كراهة أن تصيبوا (قوماً بجهالة) فهذا مما يستدل به على تحريم سوء الظن بالمسلم. (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) لأن قبول خبر الفاسق يؤدي إلى الرغبة في الانتقام من هذا الفاعل أو معاقبته أو أذيته، فإذا بادرت وعاقبته وتعجلت بناءً على هذا الخبر من الفاسق، فربما يتبين لك بعد ذلك أنه كان مظلوماً، فيملؤك الندم على ما فعلت من ترك التثبت، وعدم الحيطة، وقبول خبر الفاسق.

الحذر من تناقل الكلام قبل التثبت وإيذاء الناس بذلك

الحذر من تناقل الكلام قبل التثبت وإيذاء الناس بذلك ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أكذب الكذب أن يتلقى الإنسان الأخبار دون تحر ويشيعها في الناس، كما جاء في الحديث: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع). وبعض الناس يسوغ لنفسه الخوض في الباطل والظلم ونحو ذلك، بحجة أنه ليس عليه وزر إنما هو ناقل، فيظن أنه قد برئت ذمته من الإثم، وأن العهدة على من سبقه في السلسلة؛ لكن الحديث المذكور يبين أن الإنسان لا يعذر لكونه ناقلاً فحسب، وإنما هو مطالب بالتثبت فيما ينقله، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذباً) يعني: لا كذب أكثر من ذلك (أن يحدث بكل ما يسمع)، ففي هذا وجوب التثبت قبل تناقل الكلام وتداوله. وفي هذا الجزء من الآية: ((فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) تقرير التحذير وتأكيده، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال: ((أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)) فبين الله سبحانه وتعالى أن ذلك ليس مما لا يلتفت إليه، أي: لا تستهينوا بهذا الأمر ولا تحتقروه، بل إنكم قد تحسبونه هيناً ويكون عند الله عظيماً. فقد يقول قائل: هب أني أصبت قوماً فماذا علي؟ فيأتي A ( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فلا تقل: فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم، ومثل هذا الشيء يجب الاحتراز منه، فشيء يترتب عليه ظلم الآخرين وأذيتهم بدون حق ليس بالأمر الهين، بل يستحق العقوبة، ويستوجب الندم والغم والهم الدائم والحزن المقيم. قال تعالى: ((فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)) ولم يقل: (فتندمون)، كأنها تظل صفة أساسية مستمرة على هذا الذنب.

عظم ندم المؤمن على المعصية بخلاف المنافق

عظم ندم المؤمن على المعصية بخلاف المنافق وبجانب إفادة الآية تقرير التحذير في تلقي الأخبار وتأكيده، فإنها من جهة أخرى تفيد مدح المؤمنين قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) أي: فأنتم أيها المؤمنون لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها، صحيح أن المؤمن غير معصوم ولا منزه عن الخطأ، لكن شأن المؤمن أنه إذا ذُكِّر ذَكَر، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن خلق مُفَتَّناً تواباً نسياً، إذا ذُكِّر ذكر) أي: انتفع بالتذكرة واستفاد منها، كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، وبين في الآية الأخرى من الذين ينتفعون بالذكرى في قوله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. ولم يمدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنهم لا يفعلون سيئة، وإنما قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (ويل لأقماع القوم الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالأقماع؛ لأن القمع إذا أدخلت فيه سائلاً من أعلاه ينساب من أسفله فلا يستقر فيه، كذلك هذا تأتيه التذكرة وتنفذ إلى أذنه لكنها لا تستقر، بل تخرج من الأذن الأخرى، أو لا تدخل أصلاً. هؤلاء هم أقماع القوم، بخلاف المؤمن، فالمؤمن إذا فعل سيئة ليس هو ممن لا يبالي بها، كما جاء في الأثر: أن المؤمن يرى ذنبه كأنه جبل واقع على رأسه من الهم والحزن، (أما المنافق فيرى الذنب كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا). فالمؤمن يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى الذي خالف أمره، فيرى ذنبه كأنه جبل على رأسه يحمله، وهذا ما نفهمه من معنى قوله تعالى: ((فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))؛ لأن المؤمن إذا وقع في هذا المحظور المنهي عنه وهو ظلم الناس أو أذية الناس بسبب تناقل الأخبار يندم على ذلك، وليس كالمنافق الذي لا يبالي ويقول: وماذا علي؟ فكان ماذا؟ أما المؤمن فإذا حصل منه ذلك فإنه يشفق على ما فعل نادماً، وهذا من أركان التوبة، بل هو أهم أركانها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة!).

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم عليم حكيم)

تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم عليم حكيم) ثم يقول تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8] يقول شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله! أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره. أي: فوجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينكم ليس بالأمر الهين، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل أو تفتروا الكذب، فإن الله يوحي إليه ويخبره بأخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره. ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)). يقول الطبري: أي لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم؛ لنالكم عنت يعني: شدة ومشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم؛ لأنه كان يخطئ في أفعاله لو أنه بنى أفعاله وتصرفاته على كلامكم، لأنكم غير معصومين، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق -يعني: إذا صح هذا الحديث- أنهم قد ارتدوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم ما لا يحل لكم وله أخذه من أموال قوم مسلمين؛ فنالكم من الله بذلك عنت، والعنت: المشقة أو الهلاك أو الإثم أو الفساد. وقيل: إن قوله تعالى: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) مستأنف، ورد ذلك الزمخشري بأن قال: يمتنع هذا الاحتمال لأدائه إلى تنافر النظم. يعني أنه لو اعتبر (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ) كلاماً مستأنفاً لم يأخذ الكلام بحجز بعض؛ لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إذا قطع عما بعده. وأجيب عن كلام الزمخشري بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم. أي فنقرأ: (واعلموا أن فيكم رسول الله) ونقف عليها، وذلك على القول بأن ما بعده مستأنف، وهو قوله: (لو يطيعكم). وعلى التفسير الثاني: يكون المقصود بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إعلامهم بقدرة وجلالة محله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه مادام فيهم، ولا يتبعوا آراءهم حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، وبهذا يتبين جواز الاستئناف والوقف على رسول الله. إذاً يجوز وصل: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)) ويجوز الوقف فتقول: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ)) ثم تبدأ فتقول: ((لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)). قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي: فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأتموا به، فيقيكم الله بذلك من العنت الذي كان سيقع عليكم فيما لو استتبعتم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيكم. (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) أي كره إليكم الكفر بالله، والفسوق: الكذب، والعصيان: مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع ما أمر الله به. (أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: أولئك هم الموصوفون بمحبة الإيمان وكراهة غيره. والمعنى أن هؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: السالكون طريق الحق. والراشدون: من الرشد، والرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، يعني: شدة تمسك به، والرشاد الصخرة. قوله: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي: إحساناً منه ونعمة أنعمها عليكم. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: ذو علم بالمحسن والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه وتصريفهم فيما شاءه من القضاء.

تفسير قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)

تفسير قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9]. (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) أي: تقاتلوا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا). قال ابن جرير: أي: أصلحوا بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل. (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى). أي: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها وعليها، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أي: ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه. قوله: (فَإِنْ فَاءَتْ) أي: رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله في كتابه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) أي: بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: سيجازيهم أحسن الجزاء. وقول الله تبارك وتعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) يقال: قسط، إذا جار وظلم، والفعل هنا (وَأَقْسِطُوا) من (أقسط) إذا أزال الجور والظلم، يقال: إذا جاء القِسط زال القَسط. (إذا جاء القِسط) يعني: العدل، (زال القسَط) يعني: الجور. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فيجازيهم أحسن الجزاء. قال القاشاني: الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية، والإصلاح إنما يكون من نزول العدالة في النفس التي هي ظل المحبة والوحدة، فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما، والقتال مع المظلومة على تقدير بغي إحداهما حتى ترجع، لكون الباغية مضادة للحق دافعة له. وقوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الطائفة: تطلق على الواحد فأكثر.

المعاصي لا تذهب الإيمان بالكلية

المعاصي لا تذهب الإيمان بالكلية وهذه الآية يستدل بها في مسألة مهمة متعلقة بقضايا الإيمان، وهي: أن المعاصي لا تذهب الإيمان ولا تستأصله وإنما تنقصه. فلا نقول كالمرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وإنما نقول: الذنب يضر. وكذلك لا نقول كما قالت الخوارج في الطرف الآخر: إن المعصية كفر وخروج من الملة. لكننا أهل السنة وسط بين الإفراط والتفريط في هذه المسألة وغيرها من المسائل، فالسنة بين الغلو والجفاء، فإذا قال الخوارج: إن المعصية تخرج من الملة. ويكفر صاحبها، وقال المرجئة في الطرف الآخر: إن المعصية لا تضر على الإطلاق بناءً على أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فأهل السنة يقولون: كلا، لا هذا ولا ذاك، وأهل السنة مع الحق الموجود في كل من الطائفتين، وفي نفس الوقت بريئون من ضلالهما، فنحن نقول: إن المعصية تضر، لكن ضررها لا يذهب بأصل الإيمان، ولا يقتلع شجرة الإيمان، وإنما تنقص كمال الإيمان. فهذه الآية مما يستدل به على أن الكفر كفران: كفر أكبر، وكفر أصغر، فالكفر الأكبر: هو الذي يخرج صاحبه من الملة، وأما الكفر الأصغر فهو الكفر العملي الذي ينقص الإيمان. وقد ورد وصف قتال المؤمن بالكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد ورد ما يدل على أن القتل ليس خروجاً من الملة إلا بالاستحلال، يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] فالمخاطبون بهذه الآية موصوفون بالإيمان، مع أن فيهم من قتل أخاً له؛ لأن القصاص يكون في القتلى. ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فأثبت له أخوة الإيمان مع وقوع القتل، فدل على أنه لم يكفر بالقتل، ولم يخرج به من الملة، وإنما يستحق بذلك الوعيد والعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) يعني: هذا هو الوعيد، ومعلوم أن الوعيد لا يتحقق إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع. هنا أيضاً قال تبارك وتعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) فوصفهم بالإيمان وأمر بالإصلاح بينهما، وقال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] فأثبت أخوة الإسلام مع وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل بالكفر، فهذا كله مما يدل على أنه كفر دون كفر، وكل معصية من شعب الكفر يطلق عليها كفر، وكل طاعة من شعب الإيمان يطلق عليها إيمان كما سبق أن بينا ذلك بالتفصيل.

سبب نزول الآية وذكر المقصود بالاقتتال

سبب نزول الآية وذكر المقصود بالاقتتال قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح. وروي ذلك من طرق عديدة مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقياً. ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى: الكفر، والقتال بمعنى: الدفع مجازاً، قال فيما رواه الطبري عنه: كانت تكون الخصومة بين الحيين فيدعوهم إلى الحكم فيأبون أن يجيبوا؛ فأنزل الله: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)) أي: تخاصموا. ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)). قوله: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع. وقال اللغويون: ليس كل قتال قتلاً، وقال الشافعي رحمه الله: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.

ذكر السيوف التي بعث الله بها رسوله

ذكر السيوف التي بعث الله بها رسوله وهذه الآية هي أحد السيوف التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قد بعث بعدة سيوف. السيف الأول: سيف على المشركين حتى يسلموا أو يقتلوا، والدليل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس -أي: المشركين- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، فهذا السيف الأول سيف على المشركين حتى يسلموا، ودليله الأوضح من القرآن الكريم آية السيف قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]. السيف الثاني: سيف على أهل الكتاب حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ودليله أيضاً في سورة براءة. السيف الثالث: سيف على أهل الإسلام، والمقصود بهم البغاة من أهل القبلة، وهم الفئة الممتنعة ذات القوة والعدد الذي تخرج بتأويل سائغ، وهذا النوع من السيوف لم يعمل به في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كان أول من علم الأمة فقه قتال البغاة هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وحتى إذا قلنا: إن المقصود بالقتال الخصام على أساس القول المجازي في اللغة، فيمكن أن يحمل على أن الخصام يفضي إلى القتال أو إلى القتل، فلا مانع من أن يراد بالآية ما هو أعم لتكون الفائدة أشمل.

من أحكام قتال البغاة

من أحكام قتال البغاة يقول الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله. يعني: هو في حد ذاته بصفته مسلماً معصوم الدم، لكن لما خرج على الإمام بقوة مسلحة على الخليفة في جماعة وعصابة استحق أن يقاتل لا بغرض قتله، وإنما بقصد تعجيزه عن التمرد على الخليفة، فالمقصود من قتال البغاة أن يعجزوا عن رفع السيف على الخليفة، وليس المراد استحلال دمائهم. ولذلك نلاحظ فروقاً كثيرة بين قتال البغاة وقتال الكفار، ففي البغاة المقصود هو تعجيزهم لا استحلال دمائهم، فمثلاً الفار من ساحة القتال لا يتبع بخلاف حالة الكفار، والجريح لا يجهز عليه؛ لأنه بجرحه قد تحقق تعجيزه عن الخروج على الإمام، ولا تسبى نساؤهم لأنهم مسلمون، وغير ذلك من الأحكام، يقول الإمام الشافعي: ليس القتال من القتل بسبيل قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله، كحال الباغي فإنه يحل قتاله إلى أن يعجز، لكن لا يحل قتله لأنه مسلم معصوم الدم. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في الإكليل: في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وأن من رجع من أهل البغي وأدبر لا يقاتل، لقوله: (حَتَّى تَفِيءَ) فمن أدبر وهرب من ساحة القتال كان ذلك نوعاً من الفيء والرجوع عن التمادي في التمرد. وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لـ علي يوم الجمل: لا يقتل مدبر، ولا يجهز على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن! لأن هؤلاء كانوا بغاة وليسوا كفاراً، فصرخ صارخ لـ علي يوم الجمل: (لا يقتل مدبر) اي أن من يفر من الساحة لا يقتل ولا يتتبع، (ولا يجهز على جريح) فمن جرح وفقد القدرة على الاستمرار في القتال لا يجهز عليه، بخلاف جريح الكفار، (ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن). وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية؛ لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم، وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم، ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، ومن قتل من أهل البغي غسل وكفن وصلي عليه، فإن قتل العادل كان شهيداً، يعني: إن كان القتيل من أهل العدل ومن الفئة التي هي مع الإمام الحق ففي هذه الحال يكون شهيداً، فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار. هذا الكلام كله لم يعجب الخوارج؛ لأن الخوارج يأخذون بأقصى طرف في هذه المسألة، فلذلك نقموا على علي رضي الله تعالى عنه هذا المسلك مع البغاة، فكان مما أخذوه على علي رضي الله تعالى عنه أنه لا يسبي نساءهم ولا يغنم أموالهم، بناءً على أنهم كفروا عند الخوارج؟! أما ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلما بعث من قبل علي كي يناظرهم فقد قال لهم: أتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها؟! وإن أظهر قوم رأي الخوارج ومذهبهم المنحرف، كاعتقادهم تكفير من ارتكب كبيرة، أو ترك الجماعة -خرج على الجماعة- واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم ما داموا لم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم، لكن يتعرض لهم بإقامة الحجة والجدال بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الأساليب السلمية، لكن لا ينصب لهم القتال إلا إذا اجتمعوا للحرب، وإن جنوا جناية وأتوا حداً يقيمه عليهم الإمام. وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان؛ لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلفت على الأخرى.

من فوائد الآية

من فوائد الآية وفي الآية فوائد منها: أن البغاة لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان، فهم مازالوا من أهل القبلة، ولهم أحكام أهل القبلة، فوقوع ذنب القتال مع البغي لا يخرجهم من الإيمان كما بينا وذكرنا الأدلة على ذلك. وفي الآية أن الله سبحانه وتعالى أوجب قتالهم؛ لأن هناك أمراً بالقتال: ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)) وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم. وفيها أيضاً قتال كل من منع حقاً عليه، والأحاديث بذلك مشهورة، منها ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله) والحديث متفق عليه. وأجمع الصحابة على قتال البغاة، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، والحقيقة نحن نستفيد في فقه قتال البغاة مما حصل في قتال علي رضي الله تعالى عنه مع الفئة الباغية، أما أول من قاتل البغاة فهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد قاتل طائفة من أهل القبلة وهم مانعو الزكاة، لكن لما اختلط الأمر كان الذين يقاتلهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه منهم من منع الزكاة بتأويل، ومنهم من ارتد عن الإسلام، إلا أنه غلب على تلك الحروب اسم حروب الردة، فهذا الإطلاق هو على سبيل التغليب؛ لأن منهم من منع الزكاة متاولاً قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] قالوا: أما بعد النبي عليه الصلاة والسلام فليس للإمام أن يأخذ منا الصدقة؛ لأنه ليست دعوته وتزكيته كفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا تأويل اجتمعوا عليه وقاتلوا من أجله في منع الزكاة، ولم يرتدوا عن الإسلام. فإذاً: أبو بكر يعتبر أول من قاتل البغاة؛ لكن لم يتمحض قتاله للبغاة، وإنما اختلط بقتال أهل الردة، وكان ذلك الغالب، فأطلق عليها إجمالاً حروب الردة، أما علي رضي الله تعالى عنه فقد قاتل أهل الجمل وأهل صفين.

أحداث العراق والكويت ومغبة التحاكم إلى غير الشرع

أحداث العراق والكويت ومغبة التحاكم إلى غير الشرع وتدل الآية أيضاً على وجوب معاونة من بغي عليه، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: ((فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)). ولا شك أننا بعد أحداث الخليج وما حصل من غزو الكويت كنا أحوج ما نكون إلى تطبيق هذه الآية، ولكن من الذي يعتبر نفسه مخاطباً بوصف الإيمان حتى يفعل ذلك؟ أعني أن حادثة العراق والكويت مما يؤرخ له، وقد اختلف ما بعدها تماماً عما قبلها كحادثة الفيل وغيرها من الأحداث العظيمة، ولا يخفى الشر الذي حصل، وكأنه والله أعلم هو المقصود من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ويل للعرب من شر قد اقترب)، فبمجرد حصول هذه الفتنة وعدم الإصغاء إلى حكم الله سبحانه وتعالى ذاقت الأمة على جميع المستويات الويل من تلك اللحظة، فما من أحد إلا ودفع الثمن، لا أقول العمال الذين فقدوا مرتباتهم، فهذه أبسط الأشياء، ولكن هذه الأمة التي طحنت وأهينت ومزقت شر ممزق، وإلى الآن لا نزال نسمع صراخ مندوبي العراق في كل المنتديات الدولية: ارفعوا العقوبات! ارفعوا العقوبات! وذلك بعد أن دمر كل ما عندهم من السلاح، وهلك الأطفال من الجوع، وحصل التشرد وغيره من البلاء الذي وقع بالأمة. فانظر كيف ندفع ثمن حماقة الحمقى من هؤلاء الظالمين، بسبب تغلب رأيهم وعنادهم أو لغير ذلك من الأسباب، فهذا أنموذج من نماذج حرمان الأمة من هدي القرآن الكريم، ومن تحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى فيما بينها، ولو قدر أنه حصل تحكيم فعلي للشرع -على ما هم فيه من الانحراف عن الإسلام- وحسم الأمر بطريقة شرعية كما هو المندوب إليه في هذه الآية، لما حصل ما حصل الآن. لكن جاءت الجيوش الغربية بقضها وقضيضها، وملأت الجزيرة العربية بحجة حماية البترول، ثم بعد ذلك بقيت كل هذه الجيوش المجيشة عند عصابة اليهود في فلسطين وديعة من حق اليهود أن يستعملوها عند الحاجة، فهي باقية راسخة، ولا يستطيع أحد أن يزحزحها، فكل هذا الشر إنما أتى من شؤم مخالفة أمر الله عز وجل الذي توضحه هذه الآية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). وقول الله تبارك وتعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، هذا ليس على إطلاقه، حتى يبدأ المؤمنون بظلم بعضهم البعض، ويبغي بعضهم على بعض، ويستحل بعضهم بيضة بعض، فحينئذ يعاقبون بتسليط الكافرين عليهم. فهذا كله من شؤم الانحراف عن هدي كتاب الله، فنحن جميعاً ندفع الثمن، لا يوجد أحد على الإطلاق لم يدفع الثمن سواء في العراق أو في غيرها، فالناس في كل البلاد الإسلامية يدفعون الثمن، ويتحملون ما هم فيه من ذل وهوان واستضعاف من قوى الكفر، حتى وصلوا إلى تجريد الأمم الإسلامية من أسلحتها وتدميرها، وإضعاف اقتصادها، إلى غير ذلك من الشؤم والنحس الذي جره على المسلمين هؤلاء الطواغيت، فإلى الله سبحانه وتعالى المشتكى! فهذه لفتة لبيان بركة تحكيم كتاب الله على الأمة كلها، وشؤم النفور والاستكبار والانقياد لحكم الله سبحانه وتعالى، والذي أدى إلى الاستغاثة بالكفار، كي يمنعوا ظلم هذا الطاغية، فالله المستعان.

وجوب النصح وإصلاح ذات البين

وجوب النصح وإصلاح ذات البين فهذه الآية تدل أيضاً على وجوب تقديم النصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، وقال عز وجل أيضاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فساد ذات البين هي الحالقة، وقال: (لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين). فالآية تفيد وجوب تقديم النصح: ((فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر في قوله: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)) يعني: ليس بمجرد الكلام والاقتراح، ولكن بالسعي الدءوب والعملي إلى الإصلاح، حتى لو وصل إلى قتال الفئة الباغية، فإذاً: هذا يدل على أن النصح ليس نصحاً مجرداً، وإنما معه إجراءات عملية. وهنا الآية بدأت بمثنى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فوجه الجمع في (اقتتلوا) هو الحمل على المعنى دون اللفظ؛ لأن الطائفتين بمعنى القوم والناس، والنكتة في اعتبار المعنى أولاً واللفظ ثانياً عكس المشهور في الاستعمال -فالمشهور في الاستعمال اعتبار اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً- والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولاً في حال انقسامهم مختلفون مجتمعون، فلذا جمع أولاً ضميرهم، وفي حال الصلح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا). ثم قال: (فأصلحوا بينهما) فثنى على أساس أنهم في ساحة القتال يكون كل واحد منحازاً، فهم طائفتان متمايزتان. وناسب قرن الإصلاح الثاني بالعدل دون الأول، لأن الإصلاح الثاني وقع بعد المقاتلة ففيه مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم. أي: قد يقول القائد أو الإمام الذي قاتل الباغية حتى استسلمت للصلح: إنه اضطر إلى قتال هذه الفئة التي لم تنصت لنداء النصيحة والإصلاح بالمعروف، فماداموا قاتلونا، فهم يستحقون أن نجور عليهم، وأن ننتقم منهم، فأكد الشرع الشريف على وجوب لزوم العدل حتى وإن حصل منهم قتال؛ فلذلك قال: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وقدم أولاً: (فأصلحوا بينهما) بدون ذكر العدل؛ لأن ذلك قبل مقاتلة الباغية فليس الأمر مستدعياً للحيف. قول الله تبارك وتعالى: (وأقسطوا) من أقسط الرباعي، وهمزته للسلب، يعني: مثل بعض الأفعال في اللغة الإنجليزية عندما تنفيها تقدم عليها حرفاً في الأول مثل حرف [ E] فكذلك الهمزة هنا جاءت للسلب كما بينا ذلك من قبل، يقال: أقسط إذا أزال القسط الذي هو الجور، كما تقول: شكوته فلم يشكني، أي: فلم يجب شكواي، وشكى إلي فأشكيته، يعني: أزلت شكواه، فهذه الهمزة هي لسلب القسط الذي هو الجور، فالمقصود (وَأَقْسِطُوا) أي: أزيلوا الجور واعدلوا، بخلاف (قسط) الثلاثي فمعناه: جار، قال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]، وهذا هو المشهور خلافاً للزجاج، في جعلهما سواء؛ أفاده الكرخي.

كلام القرطبي في تفسير الآية

كلام القرطبي في تفسير الآية يقول الإمام القرطبي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما: إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً أو لا. فإن كان الأول فكلاهما باغية، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكأفاة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة؛ فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة، والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين، والله أعلم. يقول أيضاً: في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قتال المؤمن كفر)، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك. قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) حصل القتال، وأثبت لهما مع ذلك وصف الإيمان، ثم قال بعدها مباشرة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فأثبت أخوة الإيمان مع وجود الاقتتال، فدل على أنه قد يقاتل المسلمون والمؤمنون إذا كانوا بغاة، فأما من احتج بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قتال المؤمن كفر) ومنع قتال المؤمن مطلقاً فنقول: هذا غير صحيح، وإلا لو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر تعالى الله عن ذلك؛ لأن الله قال: ((فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ))، وقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه من تمسك بالإسلام، وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم؛ بخلاف معاملة الكفار.

التنبيه على التكفير الطائش وابتغاء الفرد إقامة الحدود

التنبيه على التكفير الطائش وابتغاء الفرد إقامة الحدود بعض الناس كان يتكلم على أساس أنه ينقل كلاماً لـ شيخ الإسلام في حكم من امتنع من شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، وهذه مشكلة كبيرة، وهي أننا بين وقت وآخر نجد من يأخذ النصوص من الكتب دون ربطها بالواقع أو الالتفات إلى اختلاف الواقع الذي كتبت فيه هذه النصوص عن الواقع الذي نعيشه، فنحن نقرأ في كتب الفقه كثيراً أن تارك الصلاة يقتل، وأن من فعل كذا يقتل، وأن من شرب الخمر يحد، وأن السارق تقطع يده، وهكذا، فبعض الناس في وقت من الأوقات ذهبوا إلى التأثم والشعور بأنهم آثمون إن لم يقاتلوا الطائفة التي امتنعت عن شرائع الإسلام. ومعلوم أن أي نص في كتب الفقه فيه أن من فعل كذا قتل، فهذا ليس لآحاد الرعية بإجماع العلماء، فالحدود لا يقيمها آحاد الرعية أبداً، وإنما يقيمها الإمام الخليفة، أما أن كل واحد سواء كان عالماً أو داعية أو غير ذلك يظن أنه مسئول ومحاسب إذا لم يقم الحدود، فهذا بلا شك أمر في غاية الخطورة؛ لأن موضوع إقامة الحدود يسبقه إجراءات يجريها القضاء الشرعي من التثبت والتحري والتحقيق، وفي يده سلطة تجبر الناس على تنفيذ هذه الأشياء، أما بخلاف ذلك فلا ينبغي أن يقدم بعض الناس على إيقاد نيران الفتن والبلايا على الدعوة بسبب هذه الاجتهادات. وأعرف بعض الإخوة في أمريكا، حيث كان الإخوة الأمريكان الأفارقة يدخلون في الإسلام بحماس قوي؛ لكن مع جهل قوي جداً، فمجرد أنه يعرف أحدهم أن شارب الخمر يجلد يريد تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى، فكان بعضهم يدخل إلى الحانات، وأماكن فيها بعض المسلمين المفرطين ممن يشرب الخمر، فيدخل كي يعمل اختباراً ويتأكد أنه مسلم فيقول: السلام عليكم يا أخي! هو يتكلم إنجليزي لكن هذه يقولها بالعربي، فلو رد عليه فإنه يتأكد أنه مسلم، فيقول له: أنا أريدك فقط في كلمتين في الخارج، فيخرج معه فيوسعه ضرباً على أساس أنه يقيم الحد! وموضوع إقامة الحد قد سبق أن ناقشته في محاضرة مفصلة أو محاضرتين، فالحدود من شأن الحاكم وولي الأمر! وكان بعض الإخوة للأسف الشديد يأتون في أثناء النقاش بنصوص من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في قتال البغاة، فنقول: نعم؛ لكن الذي يقاتل هو الإمام لأنه ذو سلطة وقوة حتى تنتظم الأمور، وإلا لو أن كل واحد أقام الحد على الثاني بمجرد الدعاوى والشائعات، وبالجهل وعدم التثبت، ولم يوجد قضاء ولا تحقيق؛ إذاً لادعى أناس دماء أناس وأموالهم، فتصير الأمور فوضى. فهذه فائدة عابرة: وهو أنه يقاتل من امتنع عن شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، حتى الأذان أو ركعتي الفجر، فلو اتفق أهل القرية على الامتناع من هذه الشعائر الظاهرة فإنهم يقاتلون، لكن من الذي يقاتلهم؟ الإمام أو الخليفة، فهو الذي يقاتلهم ويجبرهم على الرجوع إلى الجادة، أما آحاد الناس أو مجموعات صغيرة فهذا مما لا يكون، وسبق أن تكلمنا مراراً أن الجهاد إنما هو وظيفة أمة وليس وظيفة آحاد قليلة من الناس لا تحسن وزن الأمور. الشاهد: أن الفئة الباغية تقاتل، لكن الذي يقاتلها هو الإمام الحق. وبعض الناس أصلاً هو زرع في قناعته أنه لابد من أن يقاتل هو، ثم يبحث عن مبرر، فكنت أناقش أحدهم في موضوع الكفر أو عدم الكفر لهؤلاء الناس الذين يقاتلونهم، فقلت له: كيف تحكم بكفرهم؟ قال: إن لم نحكم بكفرهم لم يجز أن نقاتلهم، فلابد أن أكفرهم لكي يحل لي أن أقاتلهم! هذا هو الأسلوب العجيب في التكفير، هو يفرض على نفسه قناعة ثم يبحث عن المسوغات، وغاب عنه أنه يمكن أن تكون طائفة مؤمنة ومع ذلك يحل قتالها، وليس بشرط أن يكفرهم لكي يقاتلهم، ولكن مع ذلك حتى لو حل قتالهم فالذي يقاتل هو الإمام وليس آحاد الرعية، وقد قاتل الصديق رضي الله عنه من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، فلم تحل أموالهم بخلاف الواجب في الكفار.

ذم السلبية والتقاعس عن الواجبات الشرعية

ذم السلبية والتقاعس عن الواجبات الشرعية وقال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المؤمنين، وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لما جاء في الأثر: (خذوا على أيدي سفهائكم). فمسألة الاحتجاج بأن الإنسان يعتزل الفتنة ولا يقاتل لا مع هذا ولا مع ذاك، وأن له ألا ينحاز إلى الإمام الحق لا تجوز؛ لأنه لو عمم هذا الأمر وتحرج جميع المسلمين من قتال الفئة الباغية لأنهم مسلمون، وأن قتال المسلم كفر، فسوف تعلو كلمة أهل الفساد، ويكون الفساد العريض، وهذه التربية رأينا نماذج لها، وهي أسوأ ما تكون في أوضاعنا المعاصرة الآن، هي السلبية والهروب من مواجهة المحن بالمنهج الشرعي الصحيح والسليم. ونجد في تراجم العلماء والصالحين والأئمة شيئاً يمكن أن يوصف بالسلبية، لكن هو في الحقيقة ليس سلبية، فمثلاً عمر بن عبد العزيز كان يخطب على المنبر فكأنه داخله شيء في نيته أو خشي على نيته وإخلاصه، فمزق الكتاب وقطع الخطبة ونزل، فممكن أن شخصاً إذاً يقول: أنا هذا الوقت لا أقدر أن ألقي دروساً ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر؛ لأنه قد يكون في نيتي شيء. يأتون بكلام في تراجم عشرات من الأئمة أنهم كانوا يكرهون على القضاء، والإمام مالك، جلد، والإمام أبو حنيفة جلد لكي يقبل القضاء، فأبى وهرب من القضاء إلى آخره، ومن راجع مقدمة كتاب الخراج لـ أبي يوسف رأى أنه أثبت رسالة طويلة جداً من سفيان الثوري إلى صديقه القديم هارون الرشيد قبل أن يلي الخلافة، لكنه قاطعه وخاصمه عندما قبل تولي الخلافة؛ لأنه بذلك سوف يقع في شيء من الانحراف عن المنهج السابق، وانحياز إلى الحكام وكذا. وفي الحقيقة هذا كلام مستساغ في زمانهم؛ لأن الأمة كأمة هي موجودة ومتظافرة، وإذا تقاعس أو انحاز أو انسحب شخص فهناك عشرات بل مئات بل آلاف في امتداد رقعة العالم الإسلامي يخلفونه في هذه الوظيفة، ويؤدى بها فروض الكفايات، فلا يحصل خلل في المسيرة العامة للأمة، أما الآن فلا يصح لأحد أن يحتج بهذه المواقف التي يمكن أن توصف تجاوزاً بأنها سلبية؛ لأن الفقهاء كانوا أعقل وأعلم وأورع من أن يتواطئوا على ترك الخلافة من أجل الإعراض عن الدنيا، وترك القضاء والهروب من المناصب الشرعية. إذاً: من يقيم الشرع في الناس؟ فيعلو أهل الفسق ويغلب الكفار المسلمين، ويغزونهم في ديارهم، ففي ذلك الوقت لم تكن هذه الخطورة قائمة، أما العلماء فما من أحد منهم إلا ونعلم أنه لو كان قد تعين عليه شيء لما تركه، لكن قد يترك أحدهم منصباً لأن هناك مئات وآلاف العلماء والقضاة والمجتهدين في كل بقاع العالم الإسلامي، فهو مطمئن إلى أن فرض الكفاية سوف تسد ثغرته، وهو يرى نفسه أضعف من أن يلي هذا الأمر، ويخشى الحساب يوم القيامة، للأحاديث التي جاءت في الترهيب من ولاية القضاء مثلاً، وليس معنى ذلك أن ينسحب المسلمون عن بكرة أبيهم ليكونوا سلبيين. ونحن قد رأينا في آخر دعوة تجديدية في القرن الثاني عشر كيف كان الأمر عندما ضم التحالف عنصراً سياسياً مع عنصر العلم الشرعي، ولكن لما انفصل الاثنان حصل بمرور الزمن الافتراق والفجوة بينهما، بل وهناك فئة جذبت الأخرى معها؛ لأنه كان أتباع الإمام المجدد في ذلك الوقت يتحرجون من الولايات الشرعية، فكانوا يقولون: نحن نجاهد وندعو ونضحي لكن لا نريد الدنيا، فتركت في أيدي الساسة، فآل الأمر إلى ما آل إليه بسبب هذا الانفصال. فالسلبية الآن لا محل لها، لأن الأمة في أوضاع يرثى لها، فكل من يستطيع البلاغ فليبلغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فلا يحقرن أحد نفسه في أي دور يستطيع أن يقوم به بصورة إيجابية في الدعوة والتعليم، فلا يتقاعس بحجة أن نيته فاسدة، فيقول: أخاف ألا أكون مخلصاً، ولم أتأهل، وحينئذ يكون الثمن غالياً! فهذا تنبيه عابر لمناسبة موضوع السلبية في الفتن، وممكن أن يكون الإنسان في الفتن سلبياً تماماً ما لم يبن له الحق مع أحد الطرفين، خاصة في أواخر الزمان، والفتن التي يتخذ الإنسان فيها سيفاً من خشب أو كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون كابن آدم المقتول ظلماً، وهو هابيل: (كن كخير ابني آدم ولا تقاوم) هي أمر آخر، وهذه أوضاع خاصة، لكن القاعدة: أن الإنسان لا يكون سلبياً إزاء الواجبات الشرعية، ويظن أنه بهذا التورع الكاذب معفي من المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى. قال الطبري رحمه الله: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم. وذلك أن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم. وممكن أن يكون البغاة مسلمين، لكنهم فسقة وظلمة وفجار ينتهكون الأعراض، ويسفكون الدماء، ويفسدون في الأرض، فلو كف عنهم أهل الخير والصلاح وانسحبوا وهربوا وقالوا: نعتزل الفتن، لكان ذلك تقوية لشوكة أهل الفساد، فيعلون على المسلمين وهم فسقة، وإذا حكم الفاسق فقد حكم الفسق؛ ولابد أنه في منهجه سيكون مروجاً للفسق، فأين ذلك من الأمر بالأخذ على أيدي السفهاء؟!

كلام ابن العربي على قتال علي لمن بغوا عليه

كلام ابن العربي على قتال علي لمن بغوا عليه قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة رضي الله عنهم، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (تقتل عماراً الفئة الباغية). فلا شك أنه بمقتل عمار يكون قد حسم الأمر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وصف الفئة التي تقتل عماراً بأنها هي الفئة الباغية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في فعل الخوارج: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق) واضح جداً في أن كلا الطائفتين على حق، لأن أفعل التفضيل تقتضي المشاركة في أصل الصفة، ولكن هناك فئة أولى بالحق من غيرها، وهي فئة علي رضي الله تعالى عنه، وكان الذي قتل الخوارج علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن علياً رضي الله عنه كان إماماً حقاً، وأن كل من خرج عليه باغ، وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عنه قتل، والصحابة برآء من دمه؛ لأنه منع من قتال من ثار عليه، وقال: لا أكون أول من خلف رسول صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة، وفدى بنفسه الأمة رضي الله تعالى عنه. ثم لم يمكن ترك الناس سدى، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى وتدافعوها، وكان علي رضي الله عنه أحق بها وأهلها، وقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل، فربما تغير الدين، وانقض عمود الإسلام، فلما بويع له طلب أهل الشام في ترك البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه، فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباح مساء. فكان علي في ذلك أسد رأياً وأقرب قيلاً؛ لأن علياً لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حرباً ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر، وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة، وكذلك جرى لـ طلحة والزبير فإنهما ما خلعا علياً من ولاية، ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى.

وقعة الجمل دبرها قتلة عثمان

وقعة الجمل دبرها قتلة عثمان وقال جملة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم جرت على غير عزيمة منهم على الحرب، بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم؛ لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به؛ لأن الأمر كان قد انتظم بينهم على الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف الضربات بينهم، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي: غدر طلحة والزبير، والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه، ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى، إذا وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل، وهذا هو الصحيح المذكور. الحقيقة أن هذا حديث ذو شجون، وبقي تنبيهات قليلة تتعلق بموضوع ما وقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأنه انتشرت الآن أشرطة للدكتور طارق السويدان فيها كلام مفصل في موضوع ما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومحاولة إنهاء الأمر. والحقيقة أن بعض العلماء كان له بعض التحفظات على إشاعة الكلام عما حصل بين الصحابة بهذه الطريقة، فبعض العلماء ألف في ذلك وبين أن ما نص عليه العلماء هو أنه ينبغي الإمساك عن ذلك وعدم الخوض فيه، ومنهم الإمام النووي رحمه الله تعالى حيث قال: واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد -أي: في حديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) - ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، إنما اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله، وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه. هذا فيما يتعلق بموقف أهل السنة من قتال الصحابة؛ ربما يكون الدكتور طارق السويدان له رأي في هذه المسألة، ويمكن أيضاً أن يكون له وجه من النظر، بل هو يقول: أنا أضطر للكلام والتفصيل؛ لأن عامة كتب التاريخ التي تدرس في أغلب بقاع العالم الإسلامي فيها تاريخ مزور، فالناس قد تلوثوا بالباطل، فلزم إذهاب هذا الباطل وهذا التزوير في التاريخ الإسلامي، ببيان حقيقة ما أشيع. والله أعلم.

الحجرات [11 - 13]

تفسير سورة الحجرات [11 - 13]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يستخف ولا يستهزئ بهم، والعرب تقول: سخر منه يسخر على القياس، إذا استهزأ به. وقد نهى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس، مبيناً أن المسخور منه قد يكون خيراً من الساخر. ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأقرب الأفضل واستهزاؤه به، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله سبحانه وتعالى في غير هذا الموضع، كقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]، فبين أن من سخر من الناس سخر الله سبحانه وتعالى منه وله عذاب أليم. وبين الله سبحانه وتعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من دعاة المؤمنين في دار الدنيا، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة، كما قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29 - 36]. فلا ينبغي لمن رأى مسلماً في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه؛ لهذه الآيات التي ذكرنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، فالقوم هنا بمعنى: الرجال، كما قال الشاعر: ولا أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء يعني: أرجال هم أم نساء؟ فهنا قوم: بمعنى رجال، ((لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال فيروا أنفسهم خيراً من المسخور منه. ((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ))، أي: يكن المسخور منهن أفضل عند الله سبحانه وتعالى من الساخرات.

الإشارة في الآية إلى عدم الاختلاط بين الرجال والنساء

الإشارة في الآية إلى عدم الاختلاط بين الرجال والنساء ولم يقل الله سبحانه وتعالى: لا يسخر قوم من نساء، ولا نساء من قوم، ولم يقل: لا يسخر رجل من امرأة ولا امرأة من رجل؛ للإشعار بأن مجالسة الرجل المرأة الأجنبية مستقبح شرعاً؛ ولأن الإنسان إنما يسخر ممن يجالسه غالباً، والهيئة الاجتماعية في المجتمع المسلم مبنية على حظر الاختلاط بين الرجال والنساء. فلا يرد على هذا الأساس احتمال كبير أن تحصل سخرية رجل من امرأة أو امرأة من رجل، وقد رأينا في هذا الزمان كيف أزيل نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء حتى صار الرجل يتعامل مع المرأة، والمرأة تتعامل مع الرجل كأنه أخوها أو أبوها بلا حواجز ولا حدود ولا حياء، كما نرى الموظفات في المكاتب والشوارع وفي الطرقات وفي كل مكان، وربما صرخت المرأة في محل عام مثلاً تتعارك مع الرجل كأنها رجل، وتثبت أمامهم في غاية الجسارة وقلة الحياء.

شمول النهي لكل معاني السخرية

شمول النهي لكل معاني السخرية فلذلك قصر الله سبحانه وتعالى بين الرجال والنساء فقال: ((لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، أي: لا يهزأ رجال من رجال، ((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ)). فإن مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي يدور أمر السخرية عليها غالباً، فأمر السخرية غالباً لا يدور على أمور ظاهرة، وإنما يدور على شكل الإنسان أو على ملابسه أو على هيئته أو على طريقته في الكلام أو على وظيفته وعمله أو غير ذلك، هذا غالباً يكون مناط السخرية في الأمور الظاهرة، وبالذات أمور الدنيا. بين الله سبحانه وتعالى أن مناط الخيرية ليس في الأمور والأشكال الظاهرة التي تدور حولها السخرية غالباً، بل مناط الخيرية إنما هو للأمور الكائنة في القلوب: ((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ))، يعني: في القلوب وفي الباطن عند الله. فالذي ينظر إليه الله القلوب والأعمال وليس الصور والأشكال، فالمناط إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله سبحانه وتعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله سبحانه وتعالى، ويستهين بمن عظمه الله عز وجل. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغني للفقير، وآخرون خصوا السخرية بما يحصل على أحد زلة أو هفوة فيسخر به من أجلها. قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: والصواب أن يقال: إن الله عم بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض في جميع معاني السخرية، فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره ولا لذنب ركبه ولا لغير ذلك.

كلام الغزالي في تحريم السخرية والاستهزاء

كلام الغزالي في تحريم السخرية والاستهزاء وقد عد الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء السخرية من آفات النساء، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه، وينقل القاسمي هذا الكلام عن الغزالي، ونحن نتحرز من كتاب الإحياء، لأن الإحياء كتاب فيه نظر شديد، وفيه صدام صريح للشريعة سواء في العقيدة أو في الفروع أو في ضلالات الصوفية التي حشا بها هذا الكتاب، وهي ضلالات مهلكة ومحرقة. فينبغي الحذر من كتاب الإحياء، مع ما تضمنه من الخير الكبير الذي انتفع به كثير من الخلق، لكنه كتاب لا يعد مرجعاً معتبراً ومحترماً عند أهل السنة وأهل الحديث، ولذلك ما كان يقتنيه بعض طلاب العلم إلا من أجل تحقيقات الإمام العراقي رحمه الله تعالى في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الآثار. فليحذر من كتاب الإحياء، لما فيه من الضلالات والطامات المصادمة للشريعة، وحشوه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الضعيفة والباطلة والموضوعة، والبدع التي يزخر بها هذا الكتاب من الاعتقادات والأعمال. وهو كما قلنا لا يخلو من خير، ولذلك لا يغوص فيه إلا من يحسن السباحة كي لا يغرق، يقول الغزالي رحمه الله تعالى: الآفة الحادية عشرة: السخرية والاستهزاء. وهذا محرم مهما كان مؤذياً، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ))، فإذا كانت هذه السخرية تؤدي إلى أذية أخيه المسلم فهي حرام، ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يبحث منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة بالفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، فأي وسيلة استعملت لأجل الاستهزاء والسخرية وإظهار النقائص والتنبيه عليها، سواء كان بالكلام أو بغمزة العين أو بإخراج لسانه أو بمحاكاته في الحركة؛ فكل هذا سخرية. فإذا كان بحضرة المستهزأ به لا يسمى ذلك غيبة وإن كان فيه معنى الغيبة، لكن ما دام هو موجوداً لا يسمى ذلك غيبة. وقد نبهنا من قبل أن بعض الناس تقول له: يحرم عليك أن تغتابه يقول: أنا أستطيع أن أقول هذا في وجهه. نقول: نعم إذا قلته في غيبته فهو غيبة، وإن قلته في وجهه فهو أذية للمسلم ومواجهة له بما يكره، كحال الاستهزاء واللمز والسخرية. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا)، يعني: لو قال لي: خذ مبلغاً من المال مكافأة لك على أن تقوم بمحاكاة فلان، ما أحب أن أفعل هذا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، قال ابن عباس: إن الصغيرة التبسم للاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك. يعني: لو كان يستهزئ من المؤمن فتبسم فهذه هي الصغيرة، أما إذا أراد أن يسخر منه فقهقه بذلك وصدر منه كثرة الضحك والقهقهة فهي الكبيرة. وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر. وقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله)، وإن كان في صحة هذا الحديث كلام، لكن معناه صحيح؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية صحيحة، وهي من عدل الله سبحانه وتعالى أن يجازي الإنسان من نفس جنس عمله، جزاء بما كنتم تعملون. فمن عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله، فلابد أن تدور الأيام ويبتلى بنفس الذنب الذي سخر من أخيه بسببه، وبالذات إذا كان قد تاب منه، فلا ينبغي أن يعان الشيطان عليه بتعييره والسخرية منه. وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له، وعليه نبه سبحانه وتعالى: ((عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ))، أي: لا تستحقره استصغاراً، فلعله خير منك، وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به.

حكم سخرية ممثلي الكوميديا ونحوهم

حكم سخرية ممثلي الكوميديا ونحوهم أما من جعل نفسه مسخرة كممثل الكوميديا ونحوه، فهو يفرح أن يضحك الناس عليه، ويرى أنه إنسان ناجح جداً، وأنه جنى المجد العظيم حين يقف ويأتي بحركات وبروفات تضحك الناس؛ فهذا لا يدخل في هذه الآية، لأنه سعيد وفخور بأنه مسخرة، ولذلك لا يتشبث بهذه الوظيفة أو هذا العمل إلا من كان أحقر الناس وأعدمهم مروءة، ولا يمكن لإنسان محترم أو عنده مروءة أن يقبل هذا. وإنما يكون سفلة الناس ورعاعهم وأحطهم هم الذين يقبلون مثل هذه الأعمال؛ فضلاً عن أن يسخروا بها. وإنما يحرم الاستهزاء في حق من يتأذى به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا ارتبك فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب. فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها.

حكمة تخصيص النهي عن السخرية بلفظ الجمع (قوم)

حكمة تخصيص النهي عن السخرية بلفظ الجمع (قوم) يقول أبو السعود رحمه الله تعالى: القوم مختص بالرجال؛ لأنهم القوام على النساء. وهو في الأصل إما جمع فاعل كقوم وزور في جمع قائم وزائر، أو مصدرٌ نُعِتَ به فشاع في الجمع، وأما تعميمه للفريقين الرجال والنساء في مثل: قوم عاد، قوم فرعون، فإما للتغليب -تغليب الرجال على النساء- أو لأن النساء توابع للرجال. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع، يعني: لم يرد النهي بصيغة المفرد: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة، وإنما جاء بصيغة الجمع: ((لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ))، لغلبة وقوع السخرية في المجامع، لأن فيها القابلية للضحك، والتفاعل معه في مثل هذه المجامع يكون أسهل، تجد الواحد إذا كان في وسط مجموعة من الأصدقاء أو شلة من الشباب مثلاً، فإنه يضحكهم، ويكون هناك استعداد أكثر لأن يسخر من أحد ويستحقره. فاختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع؛ ولأنه غالباً يقصد فيه أن يضع من غيره ويرفع من نفسه، وهذا غالباً ما يقع أمام جمع من الناس، ولا يكون في حالة الانفراد. ((لا يَسْخَرْ قَومٌ))، هذا التنكير إما للتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن السخرية من بعض، بما أنه مما يجري بين بعض وبعض.

النهي عن اللمز

النهي عن اللمز قوله: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا يعب بعضكم على بعض ولا يطعن فيه، وهذه عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم. وهذا ما نبهنا عليه مراراً: أن الله سبحانه وتعالى يعبر عن الإخوة في الله بلفظ النفس، فإخوانك المؤمنون حتى وإن كانوا غير موجودين معك الآن فإنه يطلق عليهم لفظ (أنفسهم). فهذا له نظائر كثيرة في القرآن، منها: قول الله سبحانه وتعالى: {رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128]، أي: منكم، وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، يعني: إخوانكم، كذلك هنا: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: إخوانكم، وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: بإخوانهم، فهذا مما يعبر به عن رابطة الأخوة في الله. فقيل: إن معنى الآية: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)) لا تلمزوا إخوانكم المؤمنين، أو يكون المعنى: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به الذم فقد لمز نفسه، والمراد: لا ترتكبوا أمراً تعابون به، وانتقد هذا الرأي بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله تعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))؛ لأن التنابز يكون من مجموعة لمجموعة أو شخص لشخص، فنسق الخطاب واحد، فأتت هذه الآية. أي: ذكر الله تبارك وتعالى: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، والأنسب للسياق أن يكون المعنى: لا تلمزوا إخوانكم ولا تنابزوا أيضاً فيما بينكم بالألقاب. وقد يكون معنى قوله تعالى: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم، كما يقول بعض الناس: (من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة)، وكما في الحديث: (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه)، فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إذا شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضاً. فالمقصود على هذا من قوله: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا تلمزوا الناس فيلمزوكم فتكونوا في حكم من لمز نفسه؛ لأنكم الذين سلكتم هذا اللمز. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ))، أي: لا يلمز أحدكم أخاه، وقد توعد الله جل وعلا الذين يلمزون الناس في قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، والهمزة: كثير الهمز للناس، واللمزة: كثير اللمز. قال بعض العلماء: الهمز يكون بالفعل، كالغمز بالعين احتقاراً وازدراءً، واللمز يكون باللسان فتدخل فيه الغيبة، وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله عز وجل: ((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا))، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه.

النهي عن التنابز بالألقاب

النهي عن التنابز بالألقاب قوله تبارك وتعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)): واللقب: ما سمي به الإنسان بعد اسمه من لفظ يدل على المدح أو الذم لمعنى فيه، فهذا معنى اللقب، أنه ما سمي به الإنسان بعد اسمه؛ لأن اللقب يكون لمعنى في الإنسان من مدح أو ذم. فقوله تعالى هنا: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، أي: لا تتداعوا بالألقاب التي يكرهها الملقب، وقد روي أنه عني بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها، وهذا رواه الإمام أحمد وأبو داود. لذلك من حق المسلم على أخيه أن يدعوه بالاسم الذي يحبه. أي فإذا عرفت أنه يكره اسماً معيناً أو لقباً معيناً فينبغي أن تجتنبه، فلا تناديه إلا بالاسم الذي يحبه، فهذا من الآداب الإسلامية. وفسر بعض السلف هذه الآية بقول الرجل للرجل: يا فاسق يا منافق! وبعضهم فسرها بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، كرجل أسلم فيوصف بالفسوق مع أنه قد تاب، بمعنى: أنه يعيره بذنب قد تاب منه أو يعيره بالكفر بعدما أسلم، وربما يدخل نصراني في الإسلام فينتقصونه ويعيرونه بأنه كان نصرانياً مع أنه دخل في الإسلام. فالمقصود: أن الإسلام يجب ما كان قبله، ألم يكن عمر رضي الله تعالى عنه وغيره من الصحابة على غير الإسلام قبل أن يدخلوا فيه؟! فلا يضر ذلك شيئاً؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فلا ينبغي أن يعير مسلم بماض قد تاب إلى الله سبحانه وتعالى منه من كفر أو ذنب أو فسوق. يقول ابن جرير: إن الآية تشمل ذلك كله. يعني: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.

تفسير قوله: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان)

تفسير قوله: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) قوله: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، والاسم هنا معناه: الذكر، أي: بئس الذكر الفسوق بعد الإيمان. فالشاهد اللغوي على أن الاسم يطلق ويراد به الذكر قول العربي: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته، وحقيقته: ما سما ذكره وارتفع بين الناس، ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره، كأنه قيل بالآية: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق. في قوله تعالى: ((بَعْدَ الإِيمَانِ)) ثلاثة أوجه: أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة، يعني: لا يليق بمن كبر وتاب أن يفعل هذه الأفعال، على حد قول الشاعر: إذا دببت على المنساة من كبر فقد تباعد عنك اللهو والغزل فالوجه الأول هو استقباح الجمع بين صفة الإيمان وصفة الفسق؛ لأن الإيمان يحرم الفسق ويزجر عنه، فالمعنى: بئس الشأن بالنسبة للمؤمن أن يقع في هذا الفسوق. الوجه الثاني في الآية: أنه كان يقال لمن أسلم من اليهود: يا يهودي! فنهوا عن ذلك وقيل لهم: بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه. والجملة على هذا التأويل متعلقة بالنهي عن التنابز. أي أنه على التفسير الأول جاء: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)) وانتهى الكلام، ثم استؤنف معنى جديد: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يعني: يستقبح من المؤمن أن يجمع بين الإيمان وبين الوقوع في الفسق؛ لأن الإيمان يأبى الفسق ويحرمه؛ فلا علاقة بين الجملتين إلا من وجه معين، وهو أن التنابز في حد ذاته نوع من الفسق والمعصية. وعلى الوجه الثاني وهو أن معنى: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)): بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق أو باليهودية بعد إيمانه وإسلامه، تكون الجملة متعلقة بقوله تعالى: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)). الوجه الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن. أي: فيكون قوله: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)) كما تقول لمتحول من التجارة إلى الفلاحة: بئس الحرفة الفلاحة بعد التجارة، فكذلك هنا: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يعني: بئس أن يجعل من فسق غير مؤمن. واختار ابن جرير الوجه الثالث، لا ذهاباً لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن كما أنه غير كافر فهو في منزلة بين المنزلتين، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد. وهنا إشارة إلى معنى معين في الوجه الثالث، وهو أن المعتزلة يذهبون إلى أن الفاسق غير مؤمن ولا كافر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، مع أنهم يحكمون عليه في الآخرة بالخلود في النار، لكن هذا في الدنيا قريب من مذهب الواقفة الذين يتوقفون في بعض المسائل. فاختيار الإمام ابن جرير للمذهب الثالث ليس موافقة للمعتزلة في ضلالهم ورأيهم، بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية الكريمة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، فاقتضى الكلام ختم الآية بالوعيد؛ لأن الآية ذكرت هذه المناهي، فإن التلقيب بما يكرهه الناس أمر مذموم، يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وقدم على معصيتنا بعد إيمانه فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن بالألقاب فهو فاسق: ((بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ))، يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقاً. ثم ضعف الإمام ابن جرير الوجه الثاني قال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه أو بقبيح ركوبه ما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عما كان ركب قبل التوبة من القبيح فيختم آخرها بالوعيد. ((وَمَنْ لَمْ يَتُبْ))، أي: من نبز أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو سخر منه: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، أي: الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن) يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].

النهي عن الظن السيئ

النهي عن الظن السيئ قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ))، أي: كونوا على جانب منه، وذلك بألا تظنوا بالناس سوءاً، فإن الظن غير محقق، فما دام الإنسان يظن فالظن ليس شيئاً محققاً، فلذلك ينبغي أن نجتنب كثيراً من الظن. وأبهم (كثيراً) لإيجاد الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجس؛ إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن، قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]. نعم من أظهر فسقه وهتك ستره فقد أباح عرضه للناس، ومنه ما روي: (من ألقى غربال الحياء فلا غيبة له)، ولذا قال الزمخشري: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنباها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر؛ فظن الفساد والنسيان به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. ((إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ))، وهو ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير، أما أن تظن بأخيك خيراً فليس منهياً عنه، بل من حق المؤمن أن تظن به الخير. (إثم) أي: مكسب للعقاب؛ لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه. قال الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء في بيان تحريم الغيبة بالقلب: والغيبة بالقلب هي تعبير عن سوء الظن؛ لأنه هناك غيبة باللسان، وهناك غيبة بالقلب، وهي هذه الهواجس التي تطرأ في فكر الإنسان وفي عقله تجاه أخيه. يقول رحمه الله: اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك وتسيء الظن بأخيك. قال: ولست أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن، وذلك بأن يعقد قلبه على هذا الظن السيئ، ويحكم على أخيه بسوء الظن. فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه، بل الشك أيضاً معفو عنه، لكن الذي يحرم على الإنسان هو أن يعقد قلبه على ظن السوء بأخيه، ويحكم على أخيه بسبب هذا الظن. ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، فقد قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ))، قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب. فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك ألا تعتقد إلا ما علمت وشاهدت بنفسك، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك، فإنما يلقيه إليك الشيطان. وللأسف الشديد هذا شائع في مجتمعنا، أعني: سهولة تداول الطعن في الأعراض في المجالس، فما أن تقع خطوبة بين طرفين أو يفتح الكلام على ذلك ولو لم يتحقق، حتى تجد من يقبل هذا الكلام، وربما حققه وقطع به، وبنى عليه أحكامه، ثم يشيعها في الناس، هذا شائع وموجود! فهذا من الظلم، وهذا مما يخالف هذا التوجيه القرآني. ومن الناس من يتلقى الخبر من الجرائد ومن المشاهدة للإعلام فيظل يروج بكلام كثير جداً، فينبغي أن يتحرى المؤمن هذا الذي ينقله أو يبني عليه أحياناً، ولابد من تجنب الظنون السيئة ما لم يشاهد بعينه ولم يسمع بأذنه. وتجد من الناس من يتساهل في الكلام فيحكي كلاماً هو إثارة للريبة في بعض الناس، ولا نريد أن نذكر أمثلة لأنها مؤذية، لكن يكفي أن نتسلح بهذا الفهم، فعلى الإنسان أن لا يتكلم إلا إذا كان له بينة شرعية. يقول: فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف بعيان لا يقبل التأويل، لأننا نحن البشر بل كل الخلق لا يستطيع أحد منهم أن يطلع على أسرار القلوب، فأسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، أما البشر فليس لهم إلا الظاهر، فإذا ظهر من شخص شيء وبان لك عياناً ببينة، فهنا يحق لك أن تظن ما يليق بهذا الذي ظهر منه، أما إذا لم يظهر منه شيء ولا أمارة صحيحة على ذلك فليس من حقك أن تظن به، وإلا فقد ظلمته واستحققت عقاب الله تبارك وتعالى. فما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق. وهذه إشارة إلى قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]. فالظن الذي يلقيه الشيطان في قلبك عن أخيك، وليس لك عليه بينة ولم تشاهد بعينك ولم تسمع بأذنك فاعلم أن الذي يلقيه ينصه في قلبك هو الشيطان، فيجب عليك أن تكذب الشيطان، لأنه أفسق الفساق، إذ هو أحق الخلق بقول الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا))، كراهية ((أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))، لأن المؤمن إذا أذنب ندم. إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة أو ببينة عادلة. انتهى كلام الغزالي رحمه الله.

النهي عن التجسس

النهي عن التجسس قوله: (ولا تجسسوا)، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس؛ لأنه إذا ألقي في القلب ظن سوء، فهذا الظن السيئ يدفع من ظنه إلى أن يتجسس ويتتبع عورات أخيه، فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، فلذلك قال سبحانه وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا))؛ لأن الظن يقود إلى التجسس. وقد ذكر سبحانه وتعالى النهي عنه إثر سوء الظن لهذه العلة، فقال تعالى: ((وَلا تَجَسَّسُوا))، قال ابن جرير رحمه الله: أي: لا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره فاحمدوا أو ذموا على ما تعلمونه من الظواهر. ولذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل أحكام الدنيا تجري على ما يظهره الناس، وإلا لفسدت الحياة وما أطاق الناس بعضهم بعضاً؛ لأن الناس يحتاجون كثيراً في معاملاتهم إلى نوع من المداراة، فالمداراة مباحة، لكن المداهنة ليست من خلق المؤمن.

خطورة النميمة وتسجيل كلام الغير بغير علمه

خطورة النميمة وتسجيل كلام الغير بغير علمه من رحمة الله أن جعل الحياة تمشي على ما يظهره الناس، وهذا فيه خطورة النمام الذي يجري بالحطب بين الناس، حيث ينقل الكلام من فلان إلى فلان ليشعل الفتن ويفسد بين الناس. والنمام لا يخترع كلاماً، بل إنه ينقل كلاماً ممن سمعه بحيث إنه لو نقل فإنه يزيد الفتن بين الناس ويشعل نيران العداوة، فهذا الكلام حصل بالفعل، لكن الإثم هنا ليس إثم البهتان وإنما هو إثم النقل بقصد الإفساد، وهذا أيضاً كثير في المجتمع. فبعض الناس يتقن وظيفة النميمة، بل بعضهم يصل به الحد إلى أن يسجل خفية كلام بعض الناس ممن تكون بينهم خصومات، وبعدما تدور الأيام إذا به يظهر هذا الكلام، فهذا إتقان للنميمة؛ لأنه ممكن أن ينقل بلسانه بعض الكلام الذي سمعه وينسى كلمة مهمة ويخطئ في أخرى؛ لكن التسجيل إتقان للنميمة والإفساد بين الناس. وينبغي أن يعلم أنه ليس من حقه أن يسجل لأخيه دون أن يخبره بذلك، ولذلك انتشر في وقت من الأوقات ما يسمى حرب الأشرطة، شخص يتصل بأحد العلماء، ويقول له: ما قولك يا شيخ فيمن يقول كذا وكذا وكذا؟! والشيخ سليم النية، فيأتي بالجواب مطابقاً للسؤال، فيأخذ الرجل الجواب بعد تسجيله ويطير به في الناس. والحمد لله أنها حرب خمدت إلى حد كبير؛ لكن حصل بسببها تقهقر شديد في الدعوة في بعض البلاد، والسبب هو حمالو الحطب الذين ينقلون الرد من هذا إلى ذاك، والعكس، وقد سمعت من هذا ما فيه العجب في الحقيقة. فليس من حقك أن تسجل لشخص دون أن يعرف، وهذه تعتبر خيانة وغدراً؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما المجالس بالأمانة). فينبغي أن تحترم أمانة المجلس، وإذا أردت أن تنقل فأخبره أنك سوف تنقل هذا الكلام، أو استأذنه في التسجيل وبعض الناس أحياناً يفعل ذلك في المكالمات الهاتفية؛ فينبغي الحذر من مثل هذا. أذكر أنني قبل ثلاثين سنة تقريباً كنت صبياً، وسمعت تمثيلية كان اسمها: نظارة الحقيقة، خلاصتها أن شخصاً اخترع نظارة معينة، بحيث إذا سلطها على شخص في النظر إليه فإنه يتحول في كلامه ويخرج الذي في قلبه، فدار بها وأفسد بين كل الناس بسبب هذه النظارة. وفي النهاية مر على شخص يتحدث مع زوجته وهو يمدحها ويجللها، فسلط عليه النظارة، فقال لها: يا فاعلة! وأخذ يتكلم بما يكتم في نفسه بعدما كان يثني عليها، فقاموا يتعاركون بعد ذلك. وهذه كذبة غير حقيقية لأنها تمثيلية. فمن رحمة الله أن جعل الناس يتعاملون على ما يظهرون، فالنمام يكشف ستر الله على الناس، ويصر على أن يعامل الناس بعضهم بما يقوله الشخص بعيداً عن الشخص الآخر وخفية منه، فنقل الكلام من طرف إلى آخر يحصل به فساد عظيم! ولذلك من حكمة الله سبحانه وتعالى أن وصف النمام بأنه حمال الحطب: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4]، ولا يدخل الجنة قتات، وليس هذا من خلق المؤمن.

وجوب الستر ومعاملة الناس على الظاهر

وجوب الستر ومعاملة الناس على الظاهر يقول القاسمي: لكن لما كان من ثمرة سوء الظن التجسس فإن القلب لايقنع بالظن ويطلب التحقيق، فيشتغل بالتجسس، فلذلك ذكر سبحانه النهي عنه إثر سوء الظن، فقال تعالى: ((وَلا تَجَسَّسُوا))، أي: لا يتبع بعضكم بعضاً، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا معشر من أسلم بلسانه ولما يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته). فالله يحب الستر، وكل صور الستر يحبها الله سبحانه وتعالى، سواء ستر الإنسان على نفسه فلا يتحدث بما ألم به من القبائح، أو ستره على غيره، بل يستر على نفسه وإلا عوقب، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون). وكذلك ستره على إخوانه: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وغير ذلك من أنواع الستر، ومن أسماء الله سبحانه وتعالى (الستير)، وليس (الستار) كما هو شائع عند الناس، حتى إنهم يسمون الولد عبد الستار، والمأثور في الأسماء الحسنى (الستير). ومن طرائف الإمام المجدد الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله رحمة واسعة: أنه صدمه رجل بسيارة فوقع الشيخ على الأرض مجروحاً، فاجتمع عليه الناس، وهم يدعون ويقولون: يا ساتر! يا رب! يا ساتر! فالشيخ كان في شدة الألم وهو يقول لهم: لا تقولوا: يا ساتر، وقولوا: يا ستير! فهو يصحح لهم العبارة والخطأ وهو في هذه الحالة. ومعاملة الإنسان بما يخفيه من خصائص الرب سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يعلم على التحقيق ما في قلوبهم، وهذه من آفات جماعات التكفير؛ خاصة جماعة التوقف والتبين، وهذا فيه هذه المنازعة لصفة من صفات الله تعالى وهي الربوبية، وينبغي أن يتذكر الناس كلمة المسيح عليه السلام التي رواها أنس بن مالك كما في الموطأ: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد). فخصلة الربوبية: هي إرادة أن يتعامل مع الناس على ما في قلوبهم، فيريد أن يمتحنه ويتلصص على ما في قلبه كي يعلله به، فنقول: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قبل من المنافقين ظاهرهم فكانوا يصلون معه ويصومون، ويتناكحون مع المسلمين، ويتوارثون، ويدفنون في مقابر المسلمين؛ كل هذا إجراء للأحكام الظاهرة. فينبغي أن يعامل الناس على ظاهرهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، أما محاولة التتبع والتنقيب والتفتيش عما في قلوب الناس فهذا مما لا يكلف الإنسان به، حتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك لما استأذن خالد بن الوليد رضي الله عنه في قتل رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه لعله أن يكون يصلي، قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ قال: إني لم أومر أن أفتش في قلوب الناس، ولا أن أنقب في قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فلم يكلف النبي نفسه وهو خير من وطئ الحصى صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس على ما في أنفسهم وسرائرهم، فينبغي أن نقبل الظاهر ولا نتجسس لنطلع على ما يستره أي إنسان من عيوبه، ولا يجوز أن يتتبع المرء عورة أخيه؛ لكن يقنع بما ظهر له من أمره، وعلى أساس هذا الظاهر يحكم على الإنسان حمداً أو ذماً لا على ما يعلم من سريرته. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا عيرك رجل بما لا يعلمه فيك فلا تعيره بما تعلمه فيه)، بمعنى: أنه لا يحصل هنا مقابلة الإساءة بالمثل، إذا كان فيها كشف أستار، فإذا عيرك بما لا يعلمه فيك فلا يجوز لك أن تعيره أنت بما تعلمه فيه؛ لأن هذا من الظلم والعدوان.

معنى التجسس وأدلة تحريمه

معنى التجسس وأدلة تحريمه يقول القاسمي: يقال: تجسس في الأمر إذا تطلبه وبحث عنه، مثل تلمس، والجس كاللمس فيه معنى الطلب؛ لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه، فأريد به ما يلزمه، والتجسس من التفعل للمبالغة فيه. قال الغزالي: ومعنى التجسس: ألا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف ما لو كان مستوراً عنه لكان أسلم لقلبه ودينه. يعني: يكون قريباً من معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]، فهو أسلم لقلبه ولنفسه ودينه. وقد روي في معنى الآيات أحاديث كثيرة، منها حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن)، والعواتق: الفتيات أو الشابات في الخدور، والخدر: ستر يكون في أقصى البيت فيقول عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين، فإنه من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته). وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً). ومعلوم أيضاً أن من شروط المنكر الذي يستحق أن ينكر على فاعله أن يكون ظاهراً بغير تجسس، لكن لو أنكر إنسان على إنسان شيئاً عن طريق التجسس فالمتجسس هو المخطئ، لأنه لا يحق له أن ينكر حتى يستوفي المنكر الذي ينكر على فاعله شروطه، ومن ذلك أن يكون ظاهراً بغير تجسس. وروى أبو داود: (أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أتي برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به)، لا تتبع شيئاً مستوراً، لكن إن ظهرت لك علامة واضحة كرائحة الخمر من فمه أو الزجاجة في يده أو غير ذلك، فخذه بهذا الظاهر.

التجسس من المسئول يفسد الرعية

التجسس من المسئول يفسد الرعية وروى أبو داود عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله بها! وهذه الملامح تعتبر سياسة شرعية حكيمة، وفي معناها حديث آخر: (إن الإمام إذا ابتغى الريبة في الرعية أفسدهم)، يعني: لا ينبغي أن تعامل من تعامله مثل معاملة هذا الإمام لرعيته، سواء الرجل مع أبنائه، أو مع زوجته، أو الزوجة مع زوجها، فينبغي أن يكون هناك زرع للثقة في التعامل، لكن إن كان التعامل مبنياً على الظن السيئ والتجسس، فربما عوقب الإنسان بما يكرهه. فلو أن رجلاً يتعامل مع ابنه على أساس سوء الظن، فيتتبعه في الطرقات، ويتجسس عليه، ويفتش أوراقه، فهذه الأشياء كلها إن كان يفعلها على سبيل أنه لا يثق فيه وأنه يشك فيه ويرتاب؛ فهذا يزرع عند هذا الشاب عدم الهيبة والتوقير له. ولكن كلما كانت النصيحة غير مباشرة كانت أوقع، فبعض الناس قد يقول: كيف تقول: ينصحه نصيحة غير مباشرة؟ وأقول: هذا هو أدب النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان إذا أراد أن يوبخ أحداً على شيء لا يخاطبه باسمه، وإنما كان يصعد على المنبر ويقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟!)، ولا يسمي بالأسماء؛ لأنه يريد النصيحة لا الإفساد. فكذلك كلما كانت النصيحة غير مباشرة كان ذلك أعون على تقبلها. وكذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام الرجل إذا كان مسافراً ولا يعلم موعد رجوعه من السفر أن يطرق أهله ليلاً؛ لأن ذلك تجسس وشك، فالرسول عليه الصلاة والسلام سد هذه الذرائع المؤدية إلى إساءة الظن، وأمر أن تبنى العلاقات على الثقة، وإذا خالف الإنسان هذا الأدب وهذه السياسة الشرعية فسيعاقب بأن يرى ما يسوءه كما في الأحاديث. معاوية من أعظم الناس سيادة، وكان سياسياً حاسماً إلى أعلى الدرجات. فهو رضي الله عنه كان من أسود العرب وكان حكيماً جداً في سياسته وفي حكمه رضي الله تعالى عنه؛ ولذلك استفاد من هذا الحديث. وروى الإمام أحمد عن جديل كاتب عقبة قال: قلت لـ عقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم، قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم، قال: ففعل فلم ينتهوا، قال: فجاءه جديل فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم، فقال له عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها). وروى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الأمير إذا ابتغى ريبة في الناس أفسدهم).

من التجسس استماع حديث قوم وهم يكرهون ذلك

من التجسس استماع حديث قوم وهم يكرهون ذلك قال الأوزاعي: ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون، يقول صلى الله عليه وسلم: (من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة) والآنك: الرصاص المذاب. فإذا علم الإنسان أنك ستتكلف بأمر خاص، فلا ينبغي أن يتطفل ويحاول أن يتصنت أو يستمع فهذا من التجسس، وهذا من الفضول القبيح ومن التطفل على الناس، وهذا داخل في التجسس: ((وَلا تَجَسَّسُوا)). ومن الأدب أيضاً أن الإنسان إذا لاحظ مثلاً أن شخصاً يستفتي من يستفتيه من أهل العلم، ويريد أن يوصل له الكلام دون أن يسمعه أحد، فلينسحب من الوقوف ولا يحضر؛ لأنه ربما يكون هناك كلام خاص أو شخصي، فلا يريد السائل أن يطلع عليه أحد، فمثلاً إذا لاحظت أن السائل يود لو انفرد بالكلام أو وجدته يخفض، فابتعد حتى لا تتنصت وإلا وقعت في التجسس. فمن التجسس: استماع حديث قوم هم له كارهون.

النهي عن الغيبة

النهي عن الغيبة قوله: ((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا))، أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه. يقال: غاب واغتاب كغال واغتال، إذا ذكره بسوء في غيبته. ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، أي: فلو عرض عليكم نفرت عنه نفوسكم وكرهتموه، فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة. ((فَكَرِهْتُمُوهُ))، يعني: لو عرض عليكم نفرت عنه نفوسكم فاكرهوه، فإذا كرهتموه طبعاً فاكرهوه شرعاً لئلا تقعوا في الغيبة.

كلام الزمخشري على قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه)

كلام الزمخشري على قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه) قال الزمخشري: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ)) إلى آخره: تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه. (المغتاب): يأتي اسم فاعل ويأتي اسم مفعول، كمختار. ثم قال: وفيه مبالغات شتى منها: الاستفهام الذي معناه التقرير. والمبالغة هي من حيث إنه لا يقع إلا في كلام مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاءً. ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ))، فيه مبالغة؛ لأن الاستفهام هو للتقرير، ومعنى ذلك أن هذا الكلام كل الناس يعرفونه، ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)). قال: ومنها: جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة، فوصل في الآية: ((أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، بالمحبة، ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ))، وأقبح شيء مكروه أن يأكل لحم أخيه ميتاً. قال: فانظر إلى التضاد بين المحبة وبين أقصى ما يكره. ومن المبالغة إسناد الفعل إلى (أحدكم)؛ للإشعار بأن أحداً من الأحادين لا يحب ذلك، حتى لا يوجد واحد يمكن أن يحب ذلك. ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخاه، لم يقل: أيحب أحدكم أن يأكل لحم إنساناً، وإنما قال: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا)). ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعل ميتاً، وهذا أشد، فشبه الغائب بالميت، وشبه الغيبة بأكل لحم أخيه وهو ميت. وقال ابن الأثير في المثل السائر في بحث الكناية: فمن ذلك قوله تعالى: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتاً، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة.

بيان دلالات الآية على شناعة الغيبة

بيان دلالات الآية على شناعة الغيبة فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابقة للمعنى التي وردت من أجله. فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جداً؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مناسب لأكل الإنسان لحم من يغتاب، وأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة، فاللحم لا يؤكل حتى يمزق؛ والغيبة تمزيق، لكن هذا تمزيق للحم وهذا تمزيق للعرض. وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة؛ لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها، فيأمران بتركها والبعد عنها، ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته، ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه. فهذا القول فيه مبالغة باستكراه الغيبة، وأما جعله ما هو الغاية في الكراهة موصولاً بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها مع العلم بقبحها، وتأملوا إعجاز القرآن وبلاغة القرآن العظيم، وأنه لا ينبغي إلا أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى. فيقول الله سبحانه وتعالى: ((أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))، فجعل ما هو الغاية في الكراهة، وهو أكل لحم الأخ ميتاً، موصولاً بقوله: ((أَيُحِبُّ))، إشارة إلى أن من وقع في الغيبة فقد أحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً. فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهاً؛ لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها وجدتها مناسبة لما صيغت له. قوله تعالى: ((فَكَرِهْتُمُوهُ)) هذه الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر والمعنى: إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، كما في قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19]. وقيل: المعنى: تكرهونه ككراهيتكم لذلك الأكل. قال ابن الفرح: يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي، لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة. ولا يناقش هنا هل هذا جائز أم لا؟ لكن تأملوا كلام العلماء! حيث يذكر أن هذه الآية تصلح دليلاً لمن يستدل بها على ذلك، وإذا ورد في كلام بعض العلماء مثل هذا، فليس يلزم أنه يتبنى هذا المذهب، لأن تحقيق المسائل له موضع آخر. قال ابن الفرح: يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة الآدمي؛ لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة ولم يمثل بميتة سائر الحيوان، فدل على أنه في التحريم فوقها، ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه بالإحياء للغزالي فإنه جمع وأوعى. ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) يعني: خافوا عقوبته، بانتهائكم عما نهاكم عنه من سوء الظن والتجسس والاغتياب، وغير ذلك من المناهي. (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي: يقبل توبة التائبين إليه، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. فبعدما نهى عن الغيبة والسخرية، والتنابز بالألقاب واللمز، واحتقار الناس لبعضهم البعض، نبه إلى أنهم متساوين في البشرية لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى. وما أفظع ما نسمع من بعض الخطباء خاصة في مجالات السياسة ونحوها، حيث يتكلم يقول: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ))، يعني: المواطن الصالح أو نحو ذلك من التعبيرات، يعني: فلا فضل لأحد على أحد إلا بالوطنية! فيجاهرون بمصادمة كلام الله سبحانه وتعالى، ولا ندري كيف يجترئ خطيب على أن يقول: لا فضل لأحد على أحد إلا بالعمل للوطن، أو بالإخلاص للوطنية والقومية! فالمصادمة صريحة لآية من كتاب الله عز وجل، ويستمرون في قول هذه الأشياء، وقد نسمع من يتكلم على نشرات الأخبار، وكأنه ما سمع عن الله ولا عن رسول الله ولا عن الإسلام ولا عن القرآن، بل كأنه جاء من أدغال أفريقيا، وقد تجد من يقول لك: سمعت شخصاً اليوم يقول: يوم السبت ستنزل أمطار، ولا يريد أن يقول: إن شاء الله! تكبر على ذكر الله وتكبر على اسم الله، فكأن هذا الإنسان سوف يخرف لو ذكر اسم الله وقال: إن شاء الله. ولعل الله سبحانه وتعالى يخزيه، ولا تكون هناك أمطار، فيتكلم على درجات الحرارة وعلى الأمطار وكأنه يعلم الغيب، وكأنه ما سمع عن قرآن ولا عن سنة ولا عن الإسلام، فالمسلم لا يذكر شيئاً إلا استثنى فقال: إن شاء الله. فنحن نعجب حقيقة من هؤلاء الذين يجترئون هذه الجرأة، نحن نريد أن يكونوا حتى كالمنافقين؛ لأنهم ما كانوا يجهرون بهذه الأشياء في المجتمع الإسلامي، أما هذا فيصادم عقيدة الناس وعقيدة المسلمين ويقطع أنه ستنزل أمطار يوم السبت وأمطار غداً على الساحل الشمالي. فمن أين لك هذا؟ أما تعرف قدرك؟ ونقول له: اخسأ فلن تعدو قدرك! فهذه الأشياء ليست في أيديهم، هذه بيد الله سبحانه وتعالى، وتصرفها الملائكة بأمر الله عز وجل، ولا يعلم أحد ما يكون غداً، ولعل غداً يأتي ولا يكون هذا الإنسان من الأحياء. فهذه إشارة عابرة في نهاية مجلسنا هذا؛ فبعدما نبه الله سبحانه وتعالى على تحريم الغيبة واحتقار الناس وازدرائهم والتنابز بالألقاب، وأن يلمز بعضهم بعضاً، أشار إلى أن علة ذلك أنهم متساوون في البشرية، فالإسلام دين المساواة، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأبيض على أسود؛ إلا بالتقوى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، هذا هو ميزان الله سبحانه وتعالى. والله أعلم.

الحجرات [13 - 18]

تفسير سورة الحجرات [13 - 18]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]. ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى))، أي: من آدم وحواء، أو من ماء الذكر من الرجال ومن ماء الأنثى من النساء، وفي ذلك إشارة إلى خلق كل بني آدم من ذكر وأنثى، أي أن كل مولود من بني آدم يأتي من أب وأم كما قال سبحانه وتعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:7 - 8]. فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواءً بسواء، وما منكم أحد يقدم على أحد في عنصره أو في أصله، بل كلكم ترجعون إلى آدم، وآدم خلق من تراب. فلا وجه للتفاخر والتفاضل في الأنساب؛ لأن هناك وجه ارتباط بين هذا الخطاب في هذه الآية الكريمة وبين ما قبلها، فإنه سبحانه وتعالى بعدما نهى عن الغيبة وعن احتقار الناس بعضهم لبعض وسخرية بعضهم من بعض، نبه على أنه لا يسوغ لأحد أن يحتقر أخاه أو أن يسخر منه؛ لأنهم متساوون جميعاً في البشرية، فقال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)). فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب؛ لأن النسب ليس إرادياً وليس يملكه الإنسان، وإنما كل يدلي من حيث يدلي به الآخر إلى ذكر وأنثى وإلى آدم وحواء. ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))، قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضاً نسباً بعيداً، وبعضكم يناسب بعضاً نسباً قريباً، ليعرف بعضكم بعضاً في قرب القرابة منه وبعده، لا فضيلة لكم في ذلك وقربة تقربكم إلى الله، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) أي: أشدكم اتقاءً له وخشية، بأداء فريضته واجتناب معاصيه، لا أعظمكم ملكاً ولا أكثركم عشيرة. فلما تساوى البشر كله في البشرية، ذكر الله سبحانه وتعالى أن ناساً إن كان بعضهم يتفاخر على بعض بنسب وحسب، فإن هذا لا اعتبار له عند الله سبحانه وتعالى، وإنما الاعتبار بالعمل الصالح والتقوى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). ((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))، أي: بظواهركم وبواطنكم، وبالأتقى والأكرم وغير ذلك، لا تخفى عليه سبحانه وتعالى خافية.

ذكر التدرج في أسماء القبيلة حسب الكثرة والقلة

ذكر التدرج في أسماء القبيلة حسب الكثرة والقلة حكى الثعالبي في فقه اللغة في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبي عن أبيه: أن الشعب أكبر من القبيلة، ثم يليها العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وعن غيره قال: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العشرة، ثم الأسرة. وقال الشيخ ابن بري: الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة. وقال أبو أسامة: هذه الطبقات على ترتيب خمس الإنسان، فالشعب أعظمها مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من قبيلة الرأس باجتماعها، ثم العمارة وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة وهي الساق. وزاد بعضهم العشيرة، فقال: اقصد الشعب فهو أكثر حي عدداً في احتواء ثم القبيلة ثم يتلوهما العمارة ثم الـ بطن والفخذ بعدها والفصيلة ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرنا قليلة فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت الشعوب لأن القبائل تتفرق منها، والشعوب جمع شعب بفتح الشين. وفي هذه الآية الكريمة الاعتناء بالأنساب، وأنها شرعت للتعارف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرفوا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)، فإذاً: هذه الآية تفيد الاعتناء بالأنساب والاهتمام بمعرفتها؛ لأن الهدف من تنوعها هو التعارف.

دلالة الآية على النهي عن التفاخر بالأنساب

دلالة الآية على النهي عن التفاخر بالأنساب وفي الآية أيضاً ذم التفاخر بها قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، فلا تتفاخروا بنسب التكريم عند الله بالتقوى. ففي الآية ذم التفاخر بالأنساب، وأن التقي غير النسيب يقدم على النسيب غير التقي، فيقدم الأورع في الإمامة على النسيب وغيرهما. وعن ابن وهب قال: سألت مالكاً عن نكاح الموالي العربية؟ فقال: حلال، ثم تلا هذه الآية: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))، فلم يشترط في الكفاءة الحرية. وقال ابن كثير: استدل بالآية من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين. وقد أشرنا مراراً إلى أن أمثال هذه التعبيرات الدقيقة للعلماء ينبغي ألا نتجاوز بها حدها، فقوله: واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفاءة لا تشترط في النكاح، ولا يشترط سوى الدين. يعني: أنها دليل لمن قال ذلك، ولكن تحقيق المسألة له موضع آخر، سواء كان هذا هو الراجح أو غيره، لكن هذه العبارات تأتي بصورة عابرة للإشارة إلى أن هذه قد استدل بها بعض العلماء على مسألة معينة. وقوله تبارك وتعالى: ((وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))، أفاد حصر حكمة جعلهم شعوباً وقبائل فيه، أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً: فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب، لا للتفاخر بالآباء والقبائل؛ فمعرفة الأنساب لها ارتباط وثيق جداً بأحكام الثوارت وغيرها، فجعلها الله كذلك لأجل هذه المنفعة وهذه الحكمة، وليس للتفاخر بالآباء والقبائل. فالحصر هنا مأخوذ من التخصيص بالذكر، فلما خص هذه الحكمة (لتعارفوا) بالذكر، دل ذلك على التخصيص، لأنه سكت عما عداه في معرض البيان، فهذا هو الذي أفاد الحصر في هذه الفائدة. وقال القاشاني: معنى قول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، أي: لا كرامة بالنسب بتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى، والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب، لا للتفاخر فإنه من الرذائل، والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى، ثم كلما كانت التقوى أزيد نسبة كان صاحبها أكرم عند الله تبارك وتعالى، وأجل قدراً. فالمتقي عن المناهي الشرعية التي هي الذنوب في عرف ظاهر الشرع أكرم من الفاجر، وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن أكرم من المجترئ على المعاصي الموصوف بها.

ذكر الأدلة على تحريم التفاخر وأن التقوى ميزان التفاضل

ذكر الأدلة على تحريم التفاخر وأن التقوى ميزان التفاضل روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا: ليس عن هذا نسأل، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسأل، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا). فقد يكون الإنسان غير مسلم لكن استعداداته الشخصية فيها خير، بحيث إذا عرض عليه الحق انقاد إليه ودخل في الإسلام بسبب هذه السمات الشخصية التي كان يتحلى بها في الجاهلية. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله)، فهو يوسف عليه السلام ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومع ذلك لم ينتسب يوسف إلا بما فضله الله سبحانه وتعالى من الأخلاق الكريمة: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، لم يقل: إني أوتيت شطر الحسن ولم يفتخر بنسبه، وإنما زكى نفسه بما ميزه الله سبحانه وتعالى به: ((إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)). وروى مسلم عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فالعبرة عند الله سبحانه وتعالى، والحساب عند الله، والمفاضلة بين الناس لا تكون بالنظر إلى الصور ولا إلى الأعراض والأموال، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله). وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان). يعني: أن البشر جميعاً متساوون في البشرية والانتساب إلى آدم عليه السلام، ومقتضى هذا أنه لا يحق لأحد أن يفخر على أحد بنسب ولا حسب. قوله: (ولينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم)، في بعض الروايات: (لينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم حطب جهنم)، فبعض الناس يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا على الكفر والعياذ بالله، فلا يجوز لمسلم أن يفتخر بآباء أو بأجداد ماتوا على الكفر كما سيأتي في الحديث أيضاً: يقول صلى الله عليه وسلم: (من انتسب إلى تسعة -يعني ممن ماتوا على الكفر- فهو عاشرهم في النار) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله، فلا يجوز للمسلم إذا كرمه الله بالإسلام أن يفتخر بآبائه إذا كانوا مسلمين، فما بالك إذا كانوا كافرين، كما يفتخر بعض الناس بالقدماء المصريين المشركين الوثنيين. وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: (أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بالآباء، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله تعالى، ورجل فاجر هين على الله تعالى، إن الله عز وجل يقول: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا))). فغبية الجاهلية: يعني: افتخارهم بآبائهم، فهذه من سمات وأخلاق الجاهلية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدميه، فقد خطب في حجة الوداع فقال: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، سواء كان حمية الجاهلية أو حكم الجاهلية، أو تبرج الجاهلية، أو ربا الجاهلية، أو ظن الجاهلية، وكل ما ينسب إلى الجاهلية وهو من خصائصها، فانظر كيف وضعهم النبي صلى الله عليه وسلم!

تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]. ذكر الأموال لحرص الإنسان عليها، فإن ماله شقيق روحه، ومعنى قوله: ((وَجَاهَدُوا))، أي: بذلوا الجهد، فجاهدوا العدو أو النفس والهوى. (أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)، أي: الذين صدقوا في ادعاء الإيمان؛ لظهور أثر الصدق على جوارحهم، وتصديق أفعالهم وأقوالهم. وفيه تعريض بكذب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للقطع، أي: هم الصادقون لا أولئك، فإيمانهم إيمان صدق وبر. وفي الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان، وهذا مما لا خلاف فيه بين السلف. وقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ)) فيه إشارة إلى الإيمان المعتبر الحقيقي، وهو اليقين الثابت في القلب، الذي لا ارتياب معه، لا الذي يكون على سبيل الخطر، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم، ونورتها بأنوارها، حتى تأثرت بها الجوارح، فلم يمكنها إلا الجزم بحكمها، والتفاخر بهيئتها، وذلك معنى قوله: ((وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: بعد نفي الارتياب عنهم؛ لأنه لا يمكن أن يبذل الإنسان ماله ونفسه في سبيل شيء وهو يشك فيه؛ لأنه إذا مات سوف يلقى الله، فإذا لم يكن على يقين بأنه على الحق بهذا الإيمان؛ فكيف يخاطر بنفسه وبماله؟! فإذاً: هذه ثمرة هذا اليقين: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا))، فإذا كانوا على هذه الدرجة من اليقين والبراءة من الريبة والشك، فهؤلاء تطاوعهم أنفسهم في أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم)

تفسير قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم) قال تبارك وتعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16]. أي: قل لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم آمنا، ((أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ))، أي: أتخبرونه بقولكم آمنا لطاعتكم إياه؛ لتكونوا مع المؤمنين عنده، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه، وهو علام الغيوب. فهي من التعليم بمعنى الإعلام والإخبار ((قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ)) أي: أتخبرون الله بدينكم، ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)). وهذا فيه تجهيل لهم وتوبيخ؛ لأن قولهم: (آمنا) إن كان إخباراً للخلق فلا دليل على صدقه، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له؛ لأنهم كيف يعلمونه وهو العالم بكل شيء؟! كما قال: ((وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)). فهذا تقديم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم، يقول: الله محيط بكل شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم، فتنالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.

تفسير قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا)

تفسير قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) قال الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. ثم أشار تبارك وتعالى إلى نوع آخر من جفائهم مختوماً بتوعدهم، فقال تبارك وتعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ)، أي: أن انقادوا وكثروا سواد أتباعك. وكلمة (أسلموا) تعني الأعراب، فالمقصود الإسلام الظاهر، وهو الانقياد باللسان والجوارح دون القلب، أي: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنهم انقادوا وكثروا سواد أتباعك. ((قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ)) أي: لا تمنوا علي بإسلامكم، إذ لا ثمرة منه إلي، فإنكم لو أسلمتم فأنا لا أنتفع بهذا، {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [الإسراء:15]، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)، يعني: إن كنتم صادقين في قولكم (آمنا) ففي هذه الحال تكون المنة لله عليكم؛ لأنه هو الذي هداكم للإيمان، لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون لاطلاعه على الغيوب.

تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض)

تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السماوات والأرض) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:18]. أي: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، والداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، والداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السماوات والأرض.

الكلام على سبب نزول الآيات الأخيرة من سورة الحجرات

الكلام على سبب نزول الآيات الأخيرة من سورة الحجرات روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أسلمنا، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم، ونزلت هذه الآية). وقال ابن جرير: هذه الآية نزلت في الأعراب، ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب غير المعنيين بها أولاً، الذين كانوا ينادون الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة. في قوله تعالى: ((بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))، ملاحظة المنة لله عز وجل، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها والاعتراف بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئاً، قالوا: الله ورسوله أمن) اعترافاً بالمنة والفضل لله عز وجل.

نقل كلام لطيف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

نقل كلام لطيف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وما ألطف قول أبي إسحاق الصابئ في طليعة كتاب له بعد الثناء على الله تعالى، يقول: وبعث إليهم رسلاً منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصراً صلى الله عليه وسلم، وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً، وأوضحهم حجة وبرهاناً، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية. محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً، الذي اتخذه صفياً وحبيباً، وأرسله إلى عباده بشيراً ونذيراً، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدود عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدم الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم. أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لما كان وحيداً، وبالعنف لما وجد أنصاراً وجنوداً، لا يرى للكفر أثراً إلا طمسه ومحاه، ولا رسماً إلا أزاله وعفَّاه، ولا حجة منوهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها، حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتوادعت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.

ذكر الإمام الرازي لما في ترتيب سورة الحجرات من معنى

ذكر الإمام الرازي لما في ترتيب سورة الحجرات من معنى يقول الرازي: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي: إما مع الله تعالى أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. يعني: هذه السورة بالذات تسمى سورة الآداب؛ لأنها فيها إرشاداً إلى مكارم الأخلاق، إما مع الله تعالى، وإما مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. قال: وهم على صنفين؛ لأنه إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو مؤمنين لكن خارج الطاعة، والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم. فهذه خمسة أقسام: أحدها يتعلق بجانب الله، والثاني يتعلق بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالث يتعلق بجانب الفساق، والرابع يتعلق بالمؤمن الحاضر، والخامس يتعلق بالمؤمن الغائب. فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة، فقال أولاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، فهذا الجانب يتعلق بجانب الله، وبالأدب مع الله؛ لأن المقصود بكلمة (ورسوله) بيان طاعة الله؛ لأن طاعة الله لا تعلم إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وقال ثانياً فيما يتعلق بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ثالثاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوال الفساق، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبين ذلك عند تفسير قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]. وقال رابعاً فيما يتعلق بالمؤمن الحاضر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، وقال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]، لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم. وقال خامساً فيما يتعلق بالأدب مع المؤمن الغائب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، وقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، وقال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12]، لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى. وهو في غاية الحسن من الترتيب. فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة؟ أي: فما الحكمة أنه أتى بالفاسق بعد الله والرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة؛ فالابتداء بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم بالفاسق؟ قال: نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه، فإنه يذكر كلما كان أشد نفاراًً للصدور. أي: فالقتال والفتنة بين المؤمنين التي تترتب على تصديق خبر الفاسق أشد، فلذلك قدمها قبل ذكر المؤمن الغائب أو الحاضر. وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتال، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال، فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، وما الذي يتسبب في الاقتتال بين المؤمنين؟ أنهم يقبلون خبر الفاسق ويعتمدون عليه، فيحصل بينهم هذا الاقتتال، أما المؤمن الحاضر أو المؤمن الغائب فمهما بلغ من الأذى فإنه لا يصل إلى حد فتنة الاقتتال. والله أعلم.

(ق) [1 - 16]

تفسير سورة (ق) [1 - 16]

تقسيم القرآن الكريم وتحزيبه للتلاوة والصلاة

تقسيم القرآن الكريم وتحزيبه للتلاوة والصلاة

سورة (ق) أول المفصل في القرآن

سورة (ق) أول المفصل في القرآن نشرع إن شاء الله تعالى في تفسير سورة ق. تسمى سورة ق، وتسمى أيضاً سورة الباسقات، وهذه السورة مكية بالإجماع، وآيها خمس وأربعون آية. وسورة ق هي أول الحزب المفصل على الصحيح. وهناك قول آخر: أن الحزب المفصل يبدأ بسورة الحجرات. أما ما يذهب إليه بعض العوام من أن أول حزب المفصل يبدأ من سورة {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] فلا أصل له، ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين بهذا القول فيما نعلم، كما قال القاسمي رحمه الله تعالى. أما الدليل على كون سورة ق أول الحزب المفصل فهو ما رواه أوس بن حذيفة، قال: (سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده). ويبدأ العد من سورة البقرة، لا من الفاتحة.

حكم تحزيب القرآن وتقسيمه

حكم تحزيب القرآن وتقسيمه إن معنى تحزيب القرآن هو تقسيم القرآن إلى أجزاء، وقد كان الصحابة يحزبون القرآن ويقسمونه على سبعة أحزاب، يختمون في كل يوم حزباً من هذه الأحزاب. هذا هو تحزيب الصحابة والسلف للقرآن. وقد وجدت بعد ذلك أنواع أخرى من التحزيب أشهرها ما هو موجود الآن من تقسيم القرآن إلى ثلاثين جزءاً، ثم الجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أرباع، وهذا التحزيب حدث بعد القرون الأولى، وفيه شيء من النظر؛ لأن هذا التحزيب يتوقف أحياناً عند جزء من السورة لم يكن المعنى قد تم عنده. فمثلاً: الربع الذي يبدأ بقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36] قد بدأ بما هو مرتبط بالسياق قبله من حيث المعنى، فلا يحسن الوقوف قبله، ولا ابتداء القراءة به، فهذا التحديد لا يبتني على أساس تحزيب الصحابة، فتحزيب الصحابة كما نلاحظ يبدأ دائماً برأس سورة.

القراءة في الصلاة من المفصل

القراءة في الصلاة من المفصل إن من خصائص حزب المفصل أن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخمس كانت من حزب المفصل. وكان إذا قرأ من خارج المفصل يقرأ السورة كاملة. فمثلاً: قرأ مرة في المغرب بسورة الأعراف كلها، فالأصل فيمن قرأ بسورة أن يتمها، إما على ركعتين، وإما كل سورة في ركعة كاملة. ولكن رغبة في التخفيف على المصلين كان يغلب على النبي عليه الصلاة والسلام القراءة بسور المفصل، وهي ما بين قصار وأوساط وطوال. فكان يقرأ في الفجر مثلاً بطوال المفصل. إذاً: ينبغي أن يغلب في قراءة الإمام في الصلاة من حزب المفصل، وإذا قرأ من خارجه فالمستحب والأفضل أن يقرأ السورة بتمامها كما جاء في بعض الأحاديث: (كان يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات). إلا إذا عرض عارض كما اختصر قراءته عليه الصلاة والسلام لما طرأت عليه سعلة أثناء الصلاة، أو لما دخل في الصلاة ويريد أن يطولها فسمع بكاء الصبي الصغير فاختصر وأوجز، لكن ينبغي أن يكون الغالب قراءة سورة بكاملها، والغالب كما قلنا هو من حزب المفصل.

الاهتمام بتلاوة القرآن

الاهتمام بتلاوة القرآن يمكن لكل إنسان أن يكون له حزب خاص به يحافظ على تلاوته هو حسب ظروفه؛ لأن الارتباط بالقرآن الكريم هذه سمة أساسية لكل مسلم، فينبغي لكل مسلم أن يكون له ورد خاص من القرآن الكريم؛ لكن يحذر المسلم أن يهجر كتاب الله، فيدخل ضمن من سيشتكيهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]. فهذه درجة من درجات الهجر، وهو هجر تلاوة القرآن الكريم، ومنها هجر تدبره، وهجر حفظه، وهجر الحكم والعمل به، ولذلك (لما أتى وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ عن الخروج إليهم، ثم خرج إليهم وقال: إنه كان قد بقي علي شيء من حزبي، فكرهت أن أخرج حتى أتمه). ومن فاته ورده أو حزبه من الليل فله أن يعوضه في النهار كما قال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]. قوله: (خلفة) يعني: يخلف أحدهما الآخر، فكما أن لكل مسلم رقم بطاقة وله اسمه ووظيفته وعنوانه؛ فله ورده من القرآن الكريم.

مقدار ما ينبغي للمرء أن يقرأه من القرآن وضوابط ذلك

مقدار ما ينبغي للمرء أن يقرأه من القرآن وضوابط ذلك إن مقدار ما يقرأ المرء من القرآن في اليوم أمر لا نستطيع أن نضع له حداً ثابتاً يلتزم به كل الناس؛ لاختلاف الأحوال والله سبحانه وتعالى قد أشار إلى هذا المعنى في القرآن كما قال تبارك وتعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20] أي: يبحثون عن الرزق، ثم قال: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20]. فالناس يختلفون فمنهم من يستطيع أن يفعل كما كان الصحابة يفعلون، بأن يحزب القرآن على سبعة أحزاب، ومنهم من يختمه في عشرة أيام، ومنهم من يختمه في ثلاثة، ومنهم من يختم في شهر، وهكذا، المهم ألا يكون هناك هجر للقرآن الكريم، بل كل واحد لا بد أن يكون له حزب خاص به من القرآن الكريم، بحيث يختم فيه القرآن حسب ظروفه؛ لأن هناك طالب العلم، وهناك التاجر، وهناك المجاهد، وهناك المتفرغ، وهناك العابد، فالناس أنواع شتى ولا نستطيع أن نلزم الجميع بقدر ثابت، ولكن كلما حافظ الإنسان على شيء حتى ولو كان قليلاً كان أفضل وأنفع. فالذي يؤثر في إصلاح القلب هو ما داوم عليه الإنسان، لذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا عمل عملاً أثبته)، و (كان عمله ديمة) يعني: كان يحافظ عليه ولا يقطعه. وقال عليه الصلاة والسلام: (خير الأعمال أدومها وإن قل)، فالمداومة والمثابرة والثبات على العمل الصالح أفضل بكثير من أن تأتي الإنسان الشرة والحدة والحمية في أول الأمر ثم بعد ذلك يهدأ تماماً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن لكل عمل شرة). أي: قوة وشجاعة وهمة عالية تكون في أول العمل، ثم بعد ذلك يئول إلى الفترة والتراخي والكسل. فينبغي أن ينظر الإنسان إلى هذا، وأن يراعي الوسطية والتوازن بين الحقوق والواجبات، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأعط كل ذي حق حقه)، فللزوجة حق وللبدن حق وللضيوف حق، ولطلب العلم حق، وللعبادة حق، فأعط كل ذي حق حقه. كذلك على الإنسان ألا يبالغ في الآمال والأحلام، ويقول: أختم القرآن في ثلاثة أيام مثلاً، ثم في الواقع لا يستطيع أن يختم في ثلاثة أيام، فكن واقعياً حتى تستمر، وألزم نفسك بما تستطيع المواظبة عليه، فتحدد لك حداً أدنى كجزء أو جزأين في اليوم على حسب ما تستطيع، ثم واظب على هذا الحد الأدنى الذي تستطيع أن تحافظ عليه فإن زدت فهو خير، وينبغي أن يكون اختيارك للحد الأدنى مبنياً على أن ذلك بالنسبة لظروفك أمر مستطاع. فلابد أن يكون كل يوم حزب من القرآن تقرؤه، ولا بد أن توثق صلتك بقراءة القرآن الكريم، وهذه الوظيفة مختلفة عن وظيفة الحفظ ووظيفة المراجعة، فختم القرآن في حد ذاته وظيفة أساسية كما تأكل وتشرب وتنام، فهي وظيفة يومية. وبعض العلماء لما أرادوا أن يحددوا الحزب قالوا: نبدأ بسورة الفاتحة، لكن لو بدأنا من سورة الفاتحة فسوف يبدأ الحزب المفصل من سورة الحجرات، والدليل واحد، وهو ما ذكرنا عن أوس بن حذيفة لكنهم اختلفوا في تفسيره، والراجح أنهم كانوا يبدءون التحزيب من البقرة وأما من بدأ العد من الفاتحة فسوف يبدأ حزب المفصل بسورة الحجرات. ومن بدأ العد من البقرة، فسيبدأ حزب المفصل بسورة (ق). أما بيان ذلك فهو كما قلنا: ثلاث، خمس، سبع، تسع، إحدى عشرة، ثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده فيكون القرآن كله سبعة أحزاب. فإذا عددت ثمانية وأربعين سورة من البقرة فتكون السورة التي بعدهن هي سورة ق. أما ترتيب سورة ق في المصحف فهي السورة الخمسون. إذاً: سنبدأ العد في هذه الحالة من سورة البقرة. فالثلاث الأولى: البقرة، آل عمران، النساء. ثم الخمس: المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، براءة. ثم السبع: من يونس إلى النحل. ثم التسع: من سورة سبحان الإسراء إلى سورة الفرقان. ثم الإحدى عشرة: من الشعراء إلى يس. ثم الثلاث عشرة: من الصافات إلى الحجرات، ثم بعد ذلك الحزب المفصل. وسمي بالمفصل؛ لأنه يكثر الفصل بين سوره لقصرها بالنسبة لما تقدم من سور القرآن الكريم. فإذاً: يتعين أن أول حزب المفصل هي سورة ق.

فضائل سورة ق

فضائل سورة ق روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي رضي الله عنه: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد، قال: بـ (ق) واقتربت الساعة). فالسنة في صلاة العيد أن يقرأ إما بسبح اسم ربك الأعلى وسورة الغاشية، وإما بسورتي (ق) واقتربت الساعة. وروى مسلم وغيره، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ بها كل جمعة -وفي رواية-: كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس)، ومن كثرة قراءته إياها حفظت أم هشام هذه السورة. فيلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كصلاة العيد كما ذكرنا، وفي خطبة الجمعة؛ لأنها تشتمل على ابتداء الخلق، والبعث والنشور، والمعاد والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.

تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)

تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد) يقول الله تبارك وتعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]. ((ق)) من حروف التهجي التي تفتح بها أوائل بعض السور مثل: (ص) و (ن) و (الم) و (حم) ونحوها. وأشرنا مراراً إلى الاختلاف في المراد بهذه الحروف المقطعة في أوائل السور، فقلنا: إن الأرجح أن يقال: الله أعلم بمراده من ذلك. القول الثاني: أنها إشارة إلى تأَلف القرآن الكريم من نفس حروف اللغة العربية، وكيف أن العرب يعجزون مع بلاغتهم وفصاحتهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو مؤلف من نفس حروفهم، فهي إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم. ويعتقد القاسمي أن الصحيح من الأقوال: أن هذا الحرف علم على السورة، وهو في هذه السورة أمر معروف؛ لأننا نسميها سورة (ق). يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: روي عن بعض السلف أنهم قالوا: (ق) جبل محيط بجميع الأرض. ويشيع مثل هذه الأقوال التي لا أصل لها في بعض كتب التفسير للأسف الشديد، بل هي أقوال خرافية، مثل اعتقاد بعض الناس أن الأرض محمولة على مخلوق ضخم الجثة جداً، وأن له قرنين، وأن الأرض محفوظة ما بين القرنين، وإذا تحرك تحصل الزلازل، هذه كلها أساطير وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان. كذلك قولهم إن (ق) جبل هو والله تعالى أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس؛ لأنهم رأوا جواز الرواية عن بني إسرائيل في القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، لحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).

الإسرائيليات بين القبول والرد وأقسامها

الإسرائيليات بين القبول والرد وأقسامها قال العلماء: إن أخبار الإسرائيليات ثلاثة أقسام: الأول: ما نعلم كذبه قطعاً ومخالفته للشرع، فهذا ينبغي رده قولاً وحداً. الثاني: ما نعرف صدقه قطعاً، فهذا نقبله. الثالث: الذي لا نعرف هل هو صادق أم كاذب، فالاحتياط الإمساك عنه؛ لأنه إذا كان من الوحي الذي أوحاه الله إلى أنبيائهم، فينبغي ألا نكذب به، ويحتمل أنه ليس من الوحي، فإذا صدقنا به نكون قد صدقنا بشيء ليس من الوحي. فعلى أي حال تأول بعض العلماء هذا الحديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) على أن هذا في القسم الذي هو مما لا يصدق ولا يكذب، فيجوز حكايته عنهم وروايته. يقول ابن كثير: وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها، أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم. يعني: نحن أحدث ديناً، أو أحدث رسالة، ومع ذلك افتري على النبي عليه الصلاة والسلام أحاديث، وهذا مع وجود العلماء والحفاظ وحراس السنة. ثم يقول: فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته! وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه؛ فليس من هذا القبيل، والله أعلم. وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكايات عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم، ولله الحمد والمنة. للأسف أن من آفات كتب التفاسير وجود الإسرائيليات الكثيرة في أثنائها، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عن أن نقتبس من هذه الإسرائيليات.

الإسرائيليات المعاصرة ودروها في الحرب النفسية على المسلمين

الإسرائيليات المعاصرة ودروها في الحرب النفسية على المسلمين إن من المناسب أن نعرج تعريجاً سريعاً على الإسرائيليات المعاصرة، فالعلماء دائماً يتكلمون في الإسرائيليات التي تناقلوها عن كتب أهل الكتاب السابقة كالتوراة والإنجيل وغيرهما، وقد أشرنا من قبل إلى أن الإسرائيليات لا تقتصر على الإسرائيليات التي اختلقها بنو إسرائيل من قبل، بل هناك إسرائيليات معاصرة، وهي أكاذيب يفتريها اليهود ومن شايعهم في هذا الزمان، ثم يروجونها في الناس كنوع من الحرب النفسية، فكم قد تكلموا من قبل كمحررين على أساس حساب الأرقام أن الحرب بين المسلمين واليهود ستكون سنة (1997م) وردد الناس ذلك كالبغبغاوات، ثم مرت سنة (1997م) وما حصل شيء. مرة أخرى أشاعوا عن الألفية هذه أنه سوف يحصل فيها انقلاب كامل في نظام الكون. والألفية من كذباتهم فنحن الآن ما دخلنا الألفية، بل ما زلنا في آخر سنة من الألف الثانية الميلادية، أما الألفية الحقيقية فسوف تبدأ إن شاء الله في العام القادم. إذاً: هذه من الإسرائيليات الكاذبة، لغرض أن يظل الناس مشغولين طوال هذه السنة بالنفخ في قضية الألفية، حتى إن المسلمين ابتلعوا هذه الإسرائيليات المعاصرة، وصار عندهم اهتمام غير عادي بهذه الألفية. ما علاقتنا نحن بهذه الألفية؟ نحن لا نعترف أصلاً بالتقويم الميلادي؛ لأنه خاص بالكفار، أما نحن فكان الأولى أن نحتفل إن كان يجوز بدخول الإسلام إلى مصر منذ أربعة عشر قرناً، فهذا هو الذي نسعد ونفرح به. على أي حال فموضوع الألفية قد اكتنفها تضخيم وتهويل ومؤامرات، فنقول: إن هذه العلامات الزمنية سواء ألفية أو غير ألفية هي عبارة عن خطوط وهمية، مثل الخطوط الوهمية في أعلى الخريطة التي تقسم الكرة الأرضية إلى خطوط طول وخطوط عرض، وهذه الأشياء كلها خطوط وهمية، فالأوقات يشبه بعضها بعضاً، والسنوات يشبه بعضها بعضاً، والأيام يشبه بعضها بعضاً، وأنت محاسب عن كل لحظة من الزمان، أما أن نتصور أن تنقلب الأمور رأساً على عقب عند حد معين، فلا. إن اليهود زرعوا في قلوب الناس أن كل شيء سيتغير في الدنيا عند حلول الساعة الثانية عشرة في آخر ليلة من (ديسمبر)، ومرت الأيام ولم يحدث شيء، أو أن اليهود سوف تقود الحرب سنة (2000م) وسيعود المسيح الدجال الذي ينتظرونه إلى آخره. هو قطعاً سيعود، ولكن متى؟ الله أعلم. إذاً: علينا ألا نعتمد على كلام اليهود؛ لأن هذه من الإسرائيليات المعاصرة، وهي كثيرة يبثونها في عقولنا ونحن نبتلعها، أو أن إسرائيل دولة لا تقهر، ويثبون أن الحرب ستقوم في وقت كذا، هذه أيضاً من الإسرائيليات، فينبغي أن نلتفت إلى رفض هذه الإسرائيليات المعاصرة وردها.

توجيه معنى قوله تعالى: (ق)

توجيه معنى قوله تعالى: (ق) رد الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى على قول بعض المفسرين حيث قالوا: إن المقصود بقوله تعالى: (ق) يعني: قضي الأمر والله. على أساس أنه حذف كل هذه العبارة، واقتصر على كلمة (ق) كما يقول الشاعر: (قلت لها قفي فقالت ق) يعني: أنا واقفة. رد ابن كثير هذا القول وقال: وفي هذا التفسير نظر؛ لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه، ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف؟ يعني: مجرد ذكر هذا الحرف لا يكفي؛ لأن هذا الشاهد الذي يستدل به وهو قول الشاعر: (قلت لها قفي فقالت ق)، نقول: إذا صح هذا الشطر من البيت كشاهد، وقبل هذا على أنه شاهد شعري مقبول، ينطبق عليه شروط الشواهد، فنقول: إن السياق الشعري هنا يدل على هذا الحذف. أما في الآية: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] فأين ما يدل على الحذف، وأن (ق) معناها: قضي الأمر والله. فقوله: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) هذا قسم فأين المقسم عليه؟ يفهم أيضاً من السياق، ((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)) يعني: أقسم أن النبي صادق وأن رسالته حق وهكذا. قوله: ((المجيد)) أي: ذي المجد والشرف على غيره من الكتب.

تفسير قوله تعالى: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم)

تفسير قوله تعالى: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) يقول تبارك وتعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2]. ((بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ)) يعني: عجبوا لأنهم جاءهم منذر من جنسهم، لا من جنس الملائكة ولا من جنس الجن مثلاً، وإنما هو من جنسهم بشر مثلهم. أو المقصود منه من جلدتهم، وهذا إضراب عما ينبئ عنه جواب القسم المحذوف، كأنه قيل: ((وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)) أي: أنزلناه إليك لتنذر به الناس. وكأنه قيل بعد ذلك: لم يؤمنوا به، وجعلوا كلاً من المنذر والمنذر به عرضة للنكير والتعجب، مع كونهما أوثق شيء من قضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول. يعني: مم يتعجبون؟! مع أن العقل والقلب السليم يقبل الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالرسالة. فقوله عز وجل: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)) فيه تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب. وفيه إشارة إلى كونه صلى الله عليه وسلم منذراً بالقرآن ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)) يعني: أن يأتي وينذرنا بالقرآن ((هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)). فأضمرهم أولاً في قوله: ((بَلْ عَجِبُوا)) ثم أظهرهم فقال: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ)). وإضمارهم أولاً لإشعاره بتعينهم بما أسند إليهم، والسياق فيه إشارة إلى تعجبهم بغض النظر عن أنهم هم الكافرون. وإظهارهم ثانياً للتدليل عليهم بالكفر بموجبه، لأنهم رفضوا القرآن فصاروا كافرين، فلذلك قال: ((فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)). وهذا تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار.

تفسير قوله تعالى: (أئذا متنا وكنا ترابا كتاب حفيظ)

تفسير قوله تعالى: (أئذا متنا وكنا تراباً كتاب حفيظ) قال تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:3 - 4]. ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا)) هذا تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار، يعنون: حين نموت ونصير تراباً نرجع كما نطق به النذير والمنذر به، مع كمال التباين والفرق بين الموت والحياة؟ ومع ذلك قالوا: ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا)) أي: سنبعث وننشر ونعود إلى الحياة؟! ثم قالوا: ((ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)) أي: عن الأوهام أو العادة أو الإمكان. قوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) أي: ما تأكل من أجساهم بعد مماتهم. والله سبحانه وتعالى لا يغيب عن علمه شيء، ومما لا يغيب عن علم الله سبحانه وتعالى أنه حتى أجزاء وذرات جثثهم التي تبلى وتفنى يعلمها أين تذهب وأين مصيرها. فقوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) هذا رد لاستبعادهم البعث والنشور، فإن من عم علمه ولطف حتى انتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى، وتأكل من لحومهم وعظامهم، كيف يستبعد أن يرجعهم أحياء كما كانوا! وقيل قوله: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ)) يعني: ما يموت فيدفن في الأرض منهم. ((وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ)) أي: حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، فالإشارة هنا إلى اللوح المحفوظ. فـ (حفيظ) بمعنى محفوظ من التغير، فإن المراد تمثيل علم الله سبحانه وتعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من كان عنده كتاب محيط يتلقى منه كل شيء، أو تأكيد لعلمه تعالى بها لثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.

تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم)

تفسير قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم) قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5]. قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ)) وهو القرآن. قوله: ((لَمَّا جَاءَهُمْ)) أي: أنهم بادروا بالتكذيب دون أن يتمعنوا ويتفكروا ويتأملوا. قوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)) هذا الإضراب الثاني أتبع الإضراب الأول الذي مضى، للدلالة على أنهم أتوا بشيء هو أفظع من التعدي. فقوله: ((بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)) هذا الإضراب الأول، لكن هناك أشد من هذا العجب وهو: ((بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) فقد أتوا بما هو أفظع من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات من أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وكونه أفظع للتصريح بالتكذيب من غير تدبر بعد التعجب منه، ولأن التعجب أخف، أما التكذيب فهو أشد. وأيضاً: كذبوا بالحق ولم يكلفوا أنفسهم عناء التأمل والتدبر والتفكر، وإنما رفضوا الحق لأول وهلة بادئ الرأي. قوله: ((فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) أي: مضطرب، والاضطراب هنا هو اختلاف مقالتهم في الحكم على القرآن، تارة يدعون أنه شعر وأخرى أنه سحر، وثالثة أنه كهانة أو غير ذلك؛ تعنتاً وتكبراً.

تفسير قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها)

تفسير قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها) قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]. قوله تعالى: ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا)) يعني: هؤلاء المكذبون بالبعث المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد فنائهم ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)). ((كَيْفَ بَنَيْنَاهَا)) أي: رفعناها بغير عمد، وكما جاء في الآيات الأخرى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] ومن ثم ذهب بعض المعاصرين ممن يعتمدون التفسير العلمي لبعض آيات القرآن الكريم أن هناك أعمدة بين هذه الكواكب وبين البنيان الذي في السماء، ولكنها غير مرئية، فكأنه استدل بمفهوم قوله تعالى: ((بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)) يعني: بعمد لا ترونها، وذهب إلى أنها هي قوى التجاذب وهذه الأشياء المعروفة. ((وَزَيَّنَّاهَا)) أي: زيناها بالنجوم. ((وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ)) يعني: ما لها من صدوع وشقوق، ولا نجد فيها تجاويف أو فراغات كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4] أي: وهو كليل عن أن ترى عيباً أو نقصاً.

تفسير قوله تعالى: (والأرض مددناها لكل عبد منيب)

تفسير قوله تعالى: (والأرض مددناها لكل عبد منيب) {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:7 - 8]. ((مَدَدْنَاهَا)) بسطناها. ((وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ)) أي: جبالاً ثوابت حفظاً لها من الاضطراب لقوة الجيشان في جوفها. ((وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ)) أي: من كل صنف. ((بَهِيجٍ)) أي: حسن المنظر يبتهج به لحسنه. ((تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)) هذا مفعول لأجله، يعني: لتبصر وتذكر كل عبد منيب راجع إلى ربه، متفكر في بدائع صنعه.

تفسير قوله تعالى: (ونزلنا من السماء ماء مباركا)

تفسير قوله تعالى: (ونزلنا من السماء ماءً مباركاً) قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9] ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ)) المقصود بالسماء هنا المزن، وذلك لقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69]. المزن هو السحاب. ((ماءً مباركاً)) أي: كثير المنافع. ((فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ)) أي: أشجاراً ذوات أثمار. ((وَحَبَّ الْحَصِيدِ)) أي: الزرع المحصود من البر والشعير وسائر أنواع الحبوب. وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات، مع أن النبات ينبت نباتاً متكاملاً وليس الحب فقط، ولكن هنا التركيز على المقصود من هذا النبات: الحبوب، فلذلك خصها بالذكر؛ لأن المقصود من الزرع هو الحصول على هذه الحبوب.

تفسير قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد)

تفسير قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد) يقول عز وجل: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10]. أي: وأنبتنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النخل. وقوله: ((بَاسِقَاتٍ)) يعني: طوالاً أو حوامل، من أبسقت الشاة إذا حملت، فيكون من أفعل فهو فاعل، والفعل إذا أتى على وزن (أفعل) فاسم الفاعل منه على وزن (مفعل) كقولك: أركب فهو مركب، وأظهر فهو مظهر، هذا هو الأصل والقياس، وما جاء على خلاف هذا فهو من النوادر، كالصوائخ واللواقح في أخوات لها شاذة. فمثلاً: الفعل الرباعي أصاخ الأصل أن يكون الفاعل على وزن (مفعل) مصيخ، لكنها جاءت على وزن (فاعل) (صائخ) شذوذاً. كذلك الفعل الرباعي ألقح، المفروض أن يكون على وزن (مفعل) ملقح، لكنه جاء على (فاعل) لاقح: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] جمع لاقح. كذلك قوله: (باسقات) أصلها أبسق، فالمفروض أن تكون على وزن (مفعل) لكنها جاءت على (فاعل) (باسق). نلاحظ هنا في هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى أفرد النخل بالذكر: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) مع دخولها في جنات، لبيان فضلها لكثرة منافعها؛ لأن النخلة شجرة مباركة مثمرة. فكل شيء في النخل مفيد، وأصحاب النخل والزروع يعرفون أنه لا يوجد شيء في النخل يستغنى عنه، وإنما هي شجرة مباركة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]. ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل الصحابة سؤالاً، وكان ابن عمر موجوداً مع كبار القوم، فقال: (إن من الشجر شجرة تعرفونها هي مثل المؤمن؟ فخاض الناس في أنوع الشجر، لكن عبد الله بن عمر مع صغر سنه عرف أنها النخلة، فاستحيا أن يتكلم وفي المجلس من هم أكبر منه سناً)، والحديث رواه البخاري. فالشاهد أن النخل له من البركة والخيرات خصائص معروفة لدى الجميع، ولذا أفردها بالذكر بعد الجنات مع أنها نوع منها. قوله: ((لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ)) الجملة في محل نصب. (لها) شبه جملة في محل رفع خبر مقدم. و (طلع) مبتدأ مؤخر مرفوع بالضم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب صفة لباسقات. ((نضيد)) يعني: متراكب بعضه فوق بعض.

تفسير قوله تعالى: (رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج)

تفسير قوله تعالى: (رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج) يقول الله تبارك وتعالى: {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق:11]، أي لأجل أن يرزق العباد منها. قال أبو السعود: هذه علة لقوله تعالى: ((فَأَنْبَتْنَا)) في قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْل َ)) [ق:9 - 10]. أي: بعد تعليل قوله: (فأَنْبَتْنَا) بالتبصرة والتذكير؛ ليتأمل الإنسان ويتفكر في آيات الله سبحانه وتعالى، جاء التعليل الثاني لقوله: (فَأَنْبَتْنَا) بأنه رزق للعباد، وهذا تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستذكار أهم من تمتعه به من حيث الرزق. ويقول الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة في جملة من الآيات: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73]. أي: تذكرة أولاً ومتاعاً ثانياً. فإذاً: الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بهذه المخلوقات والنعم أساساً من حيث التذكر والاستبصار، فيتأمل في إبداع الله عز وجل في خلقه، وكيف أن هذه الآيات تدل على رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، وعلى قدرته وعلمه وحكمته، فالانتفاع بهذه الأشياء من حيث التذكر والاستبصار ينبغي أن يكون أهم من تمتعك بها من حيث الزرق والقوت والطعام، فلذلك قدم في الأولى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:7 - 8]. ثم قال: ((رِزْقًا لِلْعِبَادِ)). ((وَأَحْيَيْنَا بِهِ)) أي: بذلك الماء. ((بَلْدَةً مَيْتًا)) أي: أرضاً جدبة، فأنبتت أنواع النبات والأزهار. ((كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)) أي: خروجهم أحياء من القبور. فشبه بعث الأموات ونشرهم بقدرته تعالى على إخراج النبات من الأرض بعد وقوع المطر عليها. نعم هناك فرق بين الحياة النباتية والحياة الحيوانية، ومع ذلك فالنبات يمارس كل وظائف الحياة، فهو يأكل ويتغذى ويتحرك وإن كان هذا شيئاً غير ظاهر، لكن معروف أن بعض النبات يتحرك، وبعض النباتات قد تفترس الفريسة بأن تحتضنها ثم تمتصها بعد ذلك، هناك بعض النباتات المتوحشة تفعل ذلك بالحشرات. إذاً: فعامة طبيعة الحياة موجودة في النبات، ما عدا الحركة التي هي فرق ظاهر بين الحيوان وبين النبات. كذلك إنبات الأرض بالنبات هي عملية إحياء الأرض بعد موتها، وهذا الإنبات لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، لذلك قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] فالزارع في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ونحن نقوم بالحرث فقط: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63]، فنحن نأخذ بالأسباب، لكن قوة الإنبات لا تحصل إلا بقوة الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقوله: ((كذلك الخروج)) معناه أن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها بالإنبات قادر على أن يخرجكم من هذه الأرض بعد أن تضل فيها أجسادكم وتذوب. وكما نعلم أن هذا أحد الأدلة من القرآن الكريم على ثبوت البعث والنشور؛ لأن القرآن الكريم كثيراً ما يلفت نظرنا إلى أن من أدلة البعث والنشور إحياء الأرض بعد موتها.

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح وإخوان لوط)

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح وإخوان لوط) يقول تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ} [ق:12 - 13]. ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل قريش. ((قَوْمُ نُوحٍ)) هذا استئناف وارد لتقرير ثبوت البعث؛ وبيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليه وتعزير منكره. فقوله: ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ)) فيه إشارة إلى أن الإيمان بالبعث والنشور ركن من أركان الإيمان، وأن جميع الرسل قد دعوا إلى الإيمان به والتصديق به، وأن الكفار كذبوا جميع الرسل كما كذبوك يا محمد. وما داموا قد كذبوا فإنهم يستحقون الوعيد لكفرهم. ((وَأَصْحَابُ الرَّسِّ)) الرس هو بئر كانوا عنده، فيقال: إنهم قوم شعيب عليه السلام، ويقال غير ذلك، وسبق بيان ذلك في سورة الفرقان. قوله: ((وَثَمُودُ)) وهم الذين جادلوا صالحاً وقتلوا الناقة. قوله تعالى: ((وَعَادٌ)) وهم الذين جادلوا هوداً في أصنامهم. ((وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ)) يلفت النظر في هذه الآية أن فرعون يذكر لوحده، في حين أن كل طوائف الكفر الأخرى تذكر باسم الأمة نفسها أو القبيلة أو القوم؛ لكن فرعون يذكر لوحده، وعندما ييذكر القرآن الكريم شعب فرعون يذكرهم ذيلاً له: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [الأعراف:103]. فهو الأساس؛ لتجبره وطغيانه. وفرعون هو الذي جادل موسى فيما أرسل به. قال الرازي: ولم يقل: قوم فرعون؛ لأن فرعون كان هو المغتر المستخف بقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، ولتجبره نقم على السحرة حينما آمنوا وأسلموا، كيف أنهم يدخلون الإسلام دون أن يستأذنوه، وهو المغتر المستخف بقومه كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] فكان مستبداً بأمره مستخفاً بهم، فلذلك إذا ذكروا يذكرون تبعاً له.

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الأيكة وقوم تبع)

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الأيكة وقوم تبع) يقول تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14]. الأيكة هي الغيضة من الشجر الكثير الملتف، وهؤلاء هم المجادلون شعيباً بالكيل والميزان. وقوم تبع وهم المجادلون إمامهم وعلماءهم في الدين. ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) أي: كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذبوا رسولهم. في سياق غير القرآن نقول: كل قبيلة كذبت رسولها؛ لكن الله سبحانه وتعالى قال هنا: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ)) إشارة إلى أن من كذب رسولاً فكأنما كذب بجميع الرسل؛ لأن حقيقة الإيمان لا ينفك بعضها عن بعض، ولذلك قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] مع أن المبعوث إليهم نوح وحده، لكن لأن نوحاً يدعو بدعوة إخوانه من الرسل وهي لا إله إلا الله، وما دامت دعوة نوح إلى التوحيد فإنهم لو فرض أن جميع الرسل أتوا قوم نوح لكذبوهم أيضاً؛ لأن الدعوة واحدة، فهذا هو السر في قوله: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: فوجب لهم الوعيد الذي وعد به من كفر، وهو العذاب والنقمة.

مسألة إخلاف الوعيد من الله في حق العصاة والكفار

مسألة إخلاف الوعيد من الله في حق العصاة والكفار وقوله تعالى: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} في هذه الآية الفرق بين الوعد والوعيد، وذلك بأن الله قد يخلف الوعيد، لكن لا يمكن أبداً أن يخلف وعده سبحانه، وهذا من فضل الله عز وجل على عباده، وإخلاف الوعيد يكون في حق المسلم أما في حق الكافر فلا. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب. أي: يتحتم ويثبت في حقه ثبوتاً لا يمكن أن يتخلف. وهذا دليل واضح على ما قاله بعض أهل العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده؛ لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، لكن لم يقل: إن الله لا يخلف الوعيد، فبعض العلماء بنوا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى يصح أن يخلف وعيده هكذا وتركوها مطلقة، وقالوا: إن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد، وأن الشاعر قال: وإني إن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي. يمدح نفسه بأنه يخلف الوعيد، لكنه ينجز الوعد. لكن لا يصح الإطلاق بحال؛ لذلك يقول الشنقيطي: إن القول أن الله يصح أن يخلف وعيده مطلقاً قول غير صحيح؛ لأن وعيده تعالى للكفار حق، ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل، كما قال الله سبحانه وتعالى هنا: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)). وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله: سها فسجد، يعني: فسجد بسبب سهوه، أو لعلة سهوه، أو سرق فقطعت يده، يعني: لعلة سرقته قطعت يده. ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] فالفاء هنا للسببية، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق واجب عليهم، فدعوى جواز أن يخلف الله الوعيد على الكافر باطلة بلا شك، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر، كقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:28 - 29]، فإذا حق عليهم قول الله بالعذاب، فلا يمكن أن يبدل قول الله. فالتحقيق أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:28 - 29]. وقال تعالى في سورة ص: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14]. فإذاً: الوعيد هنا لا يمكن أن يتخلف؛ لأن العقاب حق بسبب أنهم كذبوا الرسل. وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين؛ بتعديهم على كبائر الذنوب؛ لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فالذي يمكن أن يتخلف عنه الوعيد عصاة الموحدين الذين ماتوا على التوحيد، وقد تلبسوا ببعض الكبائر دون أن يتوبوا منها؛ أما إذا تابوا فإن التوبة تقبل إذا استوفت شروطها. يقول الإمام ابن جرير: إنما وصف تعالى في هذه الآية ما وصف من إحلال عقوبته بهؤلاء المكذبين الرسل، ترهيباً منه بذلك مشركي قريش. يعني: إياك أعني واسمعي يا جارة. أي: فقوله: ((كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)) فيه ترهيب لمشركي قريش ألا يكون مصيرهم مصير هؤلاء الذين حق عليهم الوعيد من الأمم السابقة المكذبة، وإعلام منه لهم أنهم إن لم يتوبوا من تكذيبهم رسولهم محمداً صلى الله عليه وسلم أنه محل بهم من العذاب مثل الذي حل بالأمم السابقة.

تفسير قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد)

تفسير قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد) يقول عز وجل: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15]. ((أَفَعَيِينَا)) الهمزة للإنكار، يعني أفعجزنا عن ابتداء الخلق في أوله حتى نعجز عن الإعادة؟! فالعي هنا بمعنى العجز، ويأتي أحياناً بمعنى الجهل. قال الكسائي: تقول أعييت من التعب، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير. والخلق الأول هو الإبداء على ما ذكر، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الإنسان متأخر عنه، وهذا التفسير يدل له قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف:33]. وقوله: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) كأنه قيل: هم معترفون بالخلق الأول، ومعروف أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله خلقهم وأنشأهم، فإذا أقررتم بالخلق الأول فلا وجه لإنكار الثاني. قوله: ((بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ)) يعني: بل اختلط عليهم الأمر والسبب؛ لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرق أجزاؤه، وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.

كلام الناصر على تعريف الخلق الأول وتنكير اللبس والخلق الجديد

كلام الناصر على تعريف الخلق الأول وتنكير اللبس والخلق الجديد قال الناصر: في الآية أسئلة ثلاثة: لِم عرف الخلق الأول، ونكر اللبس، والخلق الجديد؟ فاعلم أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه. يعني: التعريف غير التنكير، التنكير ممكن أن يأتي للتعظيم، ويأتي أحياناً للتقليل أو التحقير، أما التعريف فلا يأتي إلا للتعظيم. ثم قال: ومنه تعريف الذكور في قول الله تبارك وتعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]. إشارة إلى تعظيم الذكر على الأنثى، فأتى بالتعريف لأنه لا يحتمل إلا التفخيم والتعظيم، ولذلك لما أقام أصحاب تحرير المرأة مؤتمرهم الأخير كانت الآية هذه من ضمن الأشياء التي جعلت إحدى المرشدات تقول: أنا أعترض على هذا التعريف؛ لأنها فهمت أن تعريف الذكورة يقتضي تفضيل الذكر على الأنثى. واعتراضهم على القرآن الكريم كفر وخروج من الملة. وكذلك كان الاعتراض على عدم المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، وهو من إلحادهم، واستعملوا تعبيراً وقحاً جداً في مؤتمر للمرأة أيضاً عقد في اليمن، سموها جندرة اللغة، أنا وقتها لما قرأت المحاضرة لم أكن أستحضر ما هو معنى كلمة جندرة؟! قلت: يمكن أن تكون لهجة يمنية، بعد ذلك لفت نظري كلمة جندر، وجندر تعني الانتماء إلى أحد النوعين الذكر أو الأنثى في اللغة الإنجليزية، فهم ولدوا منها تعبير جندرة اللغة، وهذا مطلب من أيام هدى شعراوي فقد كانوا يعقدون المؤتمرات، وفي إحدى المؤتمرات طالبت بإلغاء نون النسوة من اللغة العربية، وغير ذلك من مطالبهم التافهة ومقاصدهم السخيفة. فالشاهد من الكلام أن التعريف يفيد التفخيم، وإن كان الله تفضل على الإناث بأن قدمهن على الذكور، فقال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]. ثم يقول: ولهذا المقصد عرف الخلق الأول؛ لأن الغرض جعله دليلاً على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى، فإذا لم يعي تعالى بالخلق الأول على عظمته، فالخلق الآخر أولى ألا يعيا به، فهذا سر تعريف الخلق الأول. أما التنكير فأمره منقسم، فمرة يقصد به تفخيم المنكّر من حيث ما فيه من الإبهام، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة، ومرة يقصد به التقليل من المنكّر والوضع منه، وعلى الأول قوله تبارك وتعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، وقوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة:9]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17] وهو أكثر من أن يحصى. أما الثاني: وهو الأصل في التنكير أنه للتقليل، فلا يحتاج إلى تنكيره، فتنكير اللبس من التعظيم والتفخيم، وتنكير الخلق الجديد للتقليل منه والتهوين لأمره بالنسبة إلى الخلق الأول، ويحتمل أن يكون للتفخيم، وكأنه أمر أعظم من أن يرضى الإنسان بكونه ملتبساً عليه، مع أنه أول ما تبصر فيه صحته. وهذه الآية الكريمة: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) هي من براهين البعث والنشور، وبراهين البعث والنشور سبق أن قلنا: إن منها إحياء الأرض بعد موتها. ومنها أيضاً الاستدلال بإمكان الخلق الثاني؛ لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول فلا شك أن في قدرته إعادتهم وخلقهم مرة أخرى؛ لأن الإعادة تكون أصعب من البدء، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً، كقوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]. وقال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]. وإعادة الخلق والبعث والنشور (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) من البدء. لكن يجب أن يفهم أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، وأنه لا يوجد سهل وأسهل، وهين وأهون في حق الله، لكن القرآن يخاطبنا بما تقتضيه عقولنا فيما نعتاده نحن من أفعال، فالإعادة أهون بالقياس إلى ما تقتضيه عقول المخاطبين؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، أما بالنسبة لله سبحانه وتعالى فالابتداء والإعادة سواء في السهولة. فإياك أن تفهم أن قوله: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) يعني: وهو أسهل على الله؛ لأن كل شيء بالنسبة إليه سبحانه بين الكاف والنون، يقول عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. ((مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) أي: تحدث به نفسه. ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) هذا تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وقد جعل ذلك القرب أتم من غاية القرب الصوري، الذي لا استطالة أشد منه في الأجسام، إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه.

كلام من فسر القرب بالعلم

كلام من فسر القرب بالعلم واختلف العلماء في تفسير قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). فقال بعض العلماء: إن المقصود بالقرب هنا قرب العلم. يقول الشهاب: تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم. يعني: كأنه يرى أن هذا تعبير مجازي، أي أن المقصود قرب العلم؛ لتنزهه عن القرب المكاني، فهذا هو الذي ألجأه إلى أن يقول: إن هذا تجوز مجازي، لأن الله منزه. إذاً: القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العالم، والمعنى أنه تعالى أعلم بأحواله خفيها وظاهرها من كل عالم، فقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية، وحبل الوريد عرق معروف في جانبي العنق، فهي أشد اتصالاً بما اتصل به من الخارج. وخص هذا الوريد؛ لأن به حياته. والحبل العرق، وشبه بواحد الحبال، فإضافته للبيان، أو هي من إضافة العام للخاص. فقوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) قرب الله أشد في الحقيقة من قرب حبل الوريد؛ لأن أعضاء الإنسان يحجب بعضها بعضاً، لكن هل يحجب علم الله شيء؟ لا يحجب علم الله شيء.

تفسير ابن كثير للآية بأن المراد بها قرب الملائكة

تفسير ابن كثير للآية بأن المراد بها قرب الملائكة أما ابن كثير فتأول الآية على غير ما تقدم، لكن هذا ليس من التأويل المذموم، فقال ابن كثير في قوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)): يعني: ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه. يعني: إذا كان قرباً حسياً فهو قرب الملائكة. ثم يقول ابن كثير: ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع؛ تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً، ولكن اللفظ لا يقتضيه، فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) كما قال تعالى في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] يعني: ملائكته. إذاً قوله: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) بمعنى: الملائكة بدليل الآيات الكثيرة كقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال:50] إلى آخره. ثم قال: وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فالملائكة نزلت بالذكر -وهو القرآن- بإذن الله عز وجل، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك، فللملك لمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، ولهذا قال تعالى هاهنا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17]. إذاً: الذي شجع ابن كثير على أنه يفسرها بهذا المعنى قوله: (وَنَحْنُ) وقوله في الآية التي بعدها: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17]، بسبب قربهما المشار إليه في الآية السابقة، وعزز مذهبه بآية الواقعة وآية الحجر. والوجه الأول الذي ذهب إليه القاسمي أدق وأقرب يعني أنه تمثيل للقرب المعنوي بالصورة الحسية المشاهدة، وفيه من سعة العلم مع التعريف بجلالة المقام الرباني ما لا يخفى. وليس تأويل من تأول بالعلم للفرار من الحلول والاتحاد فقط، بل له ولما تقدم أولاً، كما أن إيثار (نحن) على (أنا) لا يحسم ما نفاه؛ لأن احتمال إرادة التعظيم بـ (نَحْنُ) أمر شائع. نعم اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره، بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك، لأنه بأمره تعالى وبإذنه، ولكن لا ضرورة تدعو إليه مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة.

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في صفة القرب لله تعالى

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في صفة القرب لله تعالى ثم يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت ابن كثير مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وابن كثير من أوفى تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان يحبه حباً شديداً، حتى إنه أوصى أن يدفن معه بعد موته رحمه الله وقد تم له ذلك. فسبق شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "شرح حديث النزول". يقول شيخ الإسلام: ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاًً، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] فهو سبحانه قريب ممن دعاه، وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، وإنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته). فقال: (إن الذين تدعونه أقرب إلى أحدكم) ولم يقل: إنه قريب إلى كل موجود. يعني: هو أقرب إلى أحدكم إذا دعاه وإذا ذكره، ولم يقل: إن الله سبحانه وتعالى قريب إلى كل موجود. وكذلك قول صالح عليه السلام: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]. ومعلوم أن قوله: ((قَرِيبٌ مُجِيبٌ))، مقرون بالتوبة والاستغفار، أراد بـ ((قَرِيبٌ مُجِيبٌ)) لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود. وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: مجيب لكل موجود وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه سبحانه وتعالى. فالقرب يأتي في القرآن خاص، لكن العلم عام. وأسماء الله المطلقة كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب لا يجب أن تتعلق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلق بكل شيء، لكن اسم القريب إنما يتعلق تعلقاً خاصاً. وأما قوله تعالى: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فالمراد به قربه إليه بالملائكة. هذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف، قالوا: ملك الموت أدنى إليه من أهله، ولكن لا ترون الملائكة. وقد قال طائفة: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) بالعلم، وقال بعضهم بالعلم والقدرة والرؤية، وهذه الأقوال ضعيفة، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود، حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة. هكذا شيخ الإسلام يرد على من قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يعني أقرب إليه بالعلم، فيقول: العلم عام وشامل، ولكن القرب خاص، وليس في القرآن أن الله قريب من كل موجود، كما يفهم ذلك في العلم؛ لأن الله بكل شيء عليم. يقول: ولكن بعض الناس لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب مثل لفظ المعية، وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]: أي: هو معكم بعلمه مع علوه على عرشه. وذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لم يخالفهم فيه أحد. ثم قال: ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك، أنه قال: هو فوق عرشه وهو قريب من كل شيء، وإنما قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] يعني: قربه ممن يدعوه ويسأله. وقد روى ابن أبي حاتم بسنده: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]) ولا يقال في هذا قريب بعلمه وقدرته؛ فإنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء. أي: فهم لم يشكوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما سألوا عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه، فأخبر أنه قريب مجيب. قال: وطائفة من أهل السنة تفسر القرب في الآية والحديث بالعلم، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل المقصود، وهذا هو الذي جعلهم يقولون: إن القرب بمعنى العلم والقدرة، فإن هذا قد قاله بعض السلف وكثير من الخلف، ولكن لم يقل أحد منهم: أن ذات الله سبحانه وتعالى هي قريبة من كل موجود، وهذا المعنى يقر به جميع المسلمين، من يقول إنه فوق العرش، ومن يقول إنه ليس فوق العرش. أما أصحاب المواويل وهذه الأشياء فإنهم يقولون كلاماً فظيعاً، وهو فساد في العقيدة، والناس تردده دون أن تعي، يقولون في بعض الأناشيد: موجود في كل وجود. إذاً: هذه عقيدة باطلة؛ لأن اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل وجود بذاته حلول والعياذ بالله وكفر، وإنما العموم هنا لعلمه وسمعه وبصره. ثم قال شيخ الإسلام: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارئ جل وعلا قريبة من وريد العبد ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة، فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية. أي: لما فهموا أن القرب مثل العلم، فسروا القرب بأنه مثل المعية، ولا حاجة إلى هذا، فإن المراد بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85] يعني: بملائكتنا في الآيتين، وهذا بخلاف المعية، فإنه لم يقل: ونحن معه، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد، وأخبر أنه يجزيهم يوم القيامة بما عملوا، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض، وهو نفسه الذي استوى على العرش، فلا يُجْعلَ لفظ مثل لفظ، مع تفريق القرآن بينهم، لأن هناك فرقاً بين القرب وبين العلم والمعية. قال: ثم قال تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) لا يجوز أن يراد به مجرد العلم؛ فإن من كان بالشيء أعلم من غيره لا يقال: إنه أقرب إليه من غيره لمجرد علمه به ولا بمجرد قدرته عليه، ثم إنه سبحانه وتعالى عالم بما يسر من القول وما يجهر به وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد. أي: لو كان قرب العلم فلا معنى لتخصيص حبل الوريد؛ لأن الله عالم بكل شيء، ولأن العلم عام لكن القرب خاص فلا يصح تفسير القرب بالعلم؛ لأنه لا فرق بين حبل الوريد وغيره في العلم، لكن قربه هنا قربه بالملائكة كما ذكرنا. قال: فإن حبل الوريد قريب إلى القلب وليس قريباً إلى قوله الظاهر، فهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه، قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]. ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم سياق الآية؛ فإنه سبحانه وتعالى قال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) وأخبر أنه يعلم وسواس نفسه، ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب، فيفهم من هذا أنهما شيئان مختلفان فلا تجعل أحدهما هو الآخر. أي: فهنا لا يصح تفسير قربه بالعلم؛ لأنه قرن بينهما في الآية فقال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) ثم قال: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) فأثبت العلم وأثبت القرب وجعلهما شيئين، فلا يجعل أحدهما هو الآخر. قال: وقيد القرب ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}. وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله، فهذا في غاية الضعف، وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان وإنه قريب من كل شيء بذاته لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء. أي: وحتى على مذهب هؤلاء لا يصح هذا التفسير، هذا هو المقصود من كلام شيخ الإسلام. ولذلك أهل السنة يقولون لهؤلاء: إذا كان الله في كل مكان، فهل الله في أماكن النجاسات ونحوها؟! لكي يلزموهم أن هذا مذهب باطل، وأن الله منزه عن أن يتواجد في كل مكان.

(ق) [16 - 19]

تفسير سورة (ق) [16 - 19]

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه)

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].

مرجع الضمير في قوله: (ونحن أقرب إليه)

مرجع الضمير في قوله: (ونحن أقرب إليه) قوله: ((ونحن أقرب)) المقصود به الملائكة، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] فسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة، أي: لا تبصرون الملائكة، فمعنى قوله: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ)) أي: بملائكتنا، بدليل سياق الآية: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17] كيف يكون هذا القرب؟ إذ يتلقى المتلقيان، فيربط بين هذا القرب وبين الملائكة بقيد الزمان، فهو زمان تلقي المتلقيان، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ومعلوم أنه لو كان قرب ذات لم يخص ذلك بهذا الحال، ولم يكن لذكر الرقيب والعتيد معنى مناسب. ومثل هذا قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85] فإن هذا يقال لمن كان يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، لكن نحن لا نبصره، والرب تعالى في هذه الحال لا يراه الملائكة ولا البشر. وأيضاً فإنه قال: ((ونحن أقرب إليه منكم)) فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحالة، الرب سبحانه وتعالى إذا قيل: إنه في مكان، أو قيل: إنه قريب من كل موجود، فكان ذلك لا يختص بهذا الزمان والمكان، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء، ولا يجوز أن يراد قرب الرب الخاص كما في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] فإن هذا إنما هو قربه ممن دعاه أو عبده، وهذا المحتضر قد يكون كافراً وفاجراً أو مؤمناً ومقرباً؛ ولهذا قال تعالى: (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) أي: إلى كل ميت مطلقاً، وقد يكون الميت مسلماً من السابقين أو من المقربين أو مؤمناً عادياً، وقد يكون كافراً أو فاجراً، فالقرب هنا للجميع بدليل الآيات التي بعد ذلك: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88] * {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:88 - 92] إلى آخر الآيات. ومعلوم أن المكذب لا يخصه الله بالقرب دون من حوله، وقد يكون حوله قوم مؤمنون، وإنما المقصود قرب الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء:97]. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]. ومما يدل على هذا أنه ذكره بصيغة الجمع فقال: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد))، وهذا كقوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [القصص:3]، وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) [يوسف:3]. وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:17 - 19]. فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه دل على أن المراد هو الله سبحانه مع الملائكة، فإن صيغة (نحن) تطلق على المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم. فهو سبحانه خالقهم وربهم العالم بما توسوس به كل نفس. قال الله: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يعني: الملائكة تكون قريبة، فكان لفظ (نحن) هو المناسب هنا.

معنى قوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه)

معنى قوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه) قوله: ((وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)) هو مثل: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ)) فإنه سبحانه يعلم ذلك. والدليل على أن الملائكة يعلمون ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا هم العبد بحسنة) والهم نية من القلب، يعني: إذا حدث نفسه بفعل الخير (إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة، وإن تركها لله كتبت له حسنة) فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة، وليس ذلك من علم الغيب الذي اختص الله سبحانه وتعالى به. وقوله: ((وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك يعلمون ما توسوس به نفس العبد كما قال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] أي: يكتبون السر والنجوى، والسر هو ما في نفس الإنسان مما لا ينطق به، فالله يعلم ما في نفس الإنسان ومن يشاء من ملائكته الذين يكتبون كما قال هنا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] وأخبر أن جنده يكتبون بأمره، وفصل في تلك الآية بين السماع والكتابة؛ لأنه يسمع بنفسه، وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره، فقال: ((أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)). وقوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه)) مثل قوله: ((نكتب ما قدموا وآثارهم)) هل الله سبحانه وتعالى هو الذي يكتب؟ الملائكة هي التي تكتب، لكنها تكتب بأمر الله؛ فلذلك نسب الله الكتابة إلى نفسه سبحانه وتعالى. أما قوله: ((ولقد خلقنا الإنسان)) فهي خاصة بالله الذي خلق الخلق، وقوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه) يشمل الملائكة فهي تعلم ما توسوس به نفس الإنسان، للأدلة التي ذكرنا. إذاً: قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)) أي: الملائكة أقرب إليه من حبل الوريد، وإن كان الظاهر أن الله هو القريب؛ لكن المراد الملائكة، بدليل هذه الآية الواضحة في سورة يس: ((إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)) يعني: وتكتب ملائكتنا؛ لأن الملائكة هي التي تكتب كما في الأدلة المعروفة، فلما كانت ملائكته قريبين إلى العبد بأمره، كاتبين عمله بأمره، فإن ذلك قربه من كل أحد بواسطة الملائكة، وتكليم الله لعبده يكون بواسطة الرسل، ونستطيع أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى كلم محمداً وعيسى ونوحاً وإبراهيم وسليمان وداود، لكن عن طريق الملك، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى:51] إذاً: الله يكلم الأنبياء بالوحي؛ بغض النظر عن خصيصة موسى عليه السلام حيث كلمه بدون واسطة الملك، فنوح عليه السلام -مثلاً- كلمه الله بالوحي، فقوله: (يكلمه الله) أي: عن طريق جبريل ملك الوحي، فهذه صورة من صور تكليم الله للرسل.

تفسير قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)

تفسير قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد) قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17]. هذا توضيح وبيان لكون المراد من قوله تعالى: ((ونحن أقرب إليه)) أي: أقرب بملائكتنا، وذلك؛ لأنه قال بعده مباشرة ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)) أي: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يلفظ به. فقوله تعالى: ((إذ يتلقى)) ظرف لقوله: ((ونحن أقرب إليه)). وفيه إيذان بأنه سبحانه وتعالى غني عن استحفاظ الملكين، فإنه أعلم منهما، ومطلع على ما يخفى عليهما، لكن الله سبحانه وتعالى -لحكمة- جعل الملكين يكتبان ويدونان على الإنسان أعماله، والحكمة هي إلزام الحجة، ففي الآخرة سوف تكون هذه وثيقة مسجلاً عليها أعمال الإنسان التي كتبها الملكان. ثم فيها ما يرغبه ويرهبه في الدنيا؛ لأن الإنسان إذا استحضر أن لديه ملكين عن اليمين وعن الشمال يكتبان أعماله؛ فإن ذلك يكون أدعى إلى أن يرغب في فعل الخير، وأن يرهب من فعل الشر.

التنبيه على ما في تفسير القاسمي من النقل عن القاشاني

التنبيه على ما في تفسير القاسمي من النقل عن القاشاني هذه الآية والتي بعدها تثبت وجود هذين الملكين اللذين يسجلان أعمال الإنسان، إلا أنه من المؤسف جداً كثرة النقول في تفسير القاسمي عن القاشاني فيما يسمى بالتفسير الإشاري الذي هو مليء بالتأويلات البعيدة المخالفة لمنهج السلف، والإنسان من شدة تعجبه يشك ويقول: هل دس أحد في تفسير القاسمي هذه الأشياء التي يكثر فيها النقل المخالف للمنهج السلفي؟ ففي الأجزاء الأخيرة من تفسير القاسمي نلاحظ كثرة النقل عن القاشاني أمثال هذه التأويلات التي تستفز كل معتز بمنهج السلف في التعامل مع النصوص الشرعية. فقد نقل عن القاشاني كلاماً غريباً وهو قوله: والمتلقي القاعد عن اليمين هو القوة العاقلة العملية المتمثلة بصور الأعمال الخيرية، والمتلقي عن الشمال القوة المتخيلة التي تتمثل بصور الأعمال البشرية والبهيمية والسبعية إلى آخر هذا الكلام العجيب! ففيه تأويل الملك بأنه القوة الحاثة على الخير، والشيطان بالقوة الحاثة على الشر، ثم بين القاسمي أن الغزالي سبقه إلى هذا المعنى، وعبر عنه بالسبب، وقال: إنه يسمى ملكاً، فيقول الغزالي في الإحياء في شرح عجائب القلوب: وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً، إلى آخره. وهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار! حيث استدل بكلام الغزالي، ونحن نعلم كيف كثر اضطرابه، والغزالي مصدر غير مأمون في تلقي أمور العقيدة على الإطلاق، وهو رحمه الله وإن كان قد وفق في الإخلاص والصدق؛ لكن لم يكن له حظ وافر من الصفة الأخرى المهمة وهي الصواب، فالإخلاص لا شأن لنا به، وعلامات الإخلاص والصدق لا شك أنها بادية في سيرة الغزالي رحمه الله تعالى، لكن هل أصاب؟ قال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] أي: أخلصه وأصوبه، فالإخلاص شرط، لكن بقي شرط آخر وهو المتابعة وموافقة المنهج الصحيح، فـ الغزالي أضاع معظم عمره في التجول باحثاً عن الحق بين الإسماعيلية والباطنية والفلاسفة والصوفية وكذا وكذا، وقد كان الحق أقرب إليه من حبل الوريد، عند أهل الحديث، فـ الغزالي مصدر غير مأمون للتعلم والتلقي؛ لأن الغزالي صاحب مدرسة منحرفة مخالفة تماماً لمنهج السلف. وهذا كلام قد يصدم بعض الناس، لكن هي نصيحة لا بد منها، فحينما نأخذ كتب الغزالي نشعر أننا نمشي على أرض مزروعة بالأشواك، فلا بد من الحذر الشديد، كيف وقد شحن كتابه المسمى بالإحياء بالكذب على رسول الله عليه السلام، ونقول كما قال ابن الجوزي: لا نقول إنه افتراها لكنه ارتضاها! يعني: هو ما وضع هذه الأحاديث الموضوعة، لكنه قرأها وأثبتها في كتابه دون تمحيص، ودون تحر وتحقيق، فالكتاب من أكثر الكتب المشحونة بالأحاديث الموضوعة والمكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فما قيمة الاستدلال بكلام الغزالي، وأنه يقول: إن الخاطرة والفكرة التي تدعونا إلى الخير تسمى ملكاً، والفكرة التي تدعونا إلى الشر تسمى شيطاناً؟! هذا مصادم تماماً لنصوص الوحيين في حقيقة الملكين اللذين يكتبان أعمال الإنسان، وحقيقة الشيطان. العجيب أنه في نهاية كلام القاشاني وكلام الغزالي رحمه الله تعالى نجد القاسمي يعلق قائلاً: والبحث كله غرر تنبغي مراجعته! فهذا نفس غريب جداً بالنسبة لتفسير القاسمي، والقاسمي إمام سلفي محقق، فلا ندري ما مصدر أو ما سبب الميل في هذه الأجزاء الأخيرة لحكاية هذه التأويلات بدون إبطالها، فالاعتقاد الصحيح أن المتلقيين عن اليمين وعن الشمال ملكان حقيقيان، وليسا عبارة عن القوة الخيرية التي تحثنا على الخير أو تؤزنا إلى الشر.

تفسير الشنقيطي لهذه الآية

تفسير الشنقيطي لهذه الآية يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إذ يلتقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد))، قوله: (إذ) منصوب بقوله: (أقرب) أي: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه، والمراد أن الله الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه، هو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله، فهو غني عن كتب الأعمال؛ لأنه أقرب إليه من حبل الوريد، والله غني عن أن يدون الملكان هذه الأشياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى عالم بما كان، وبما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا يغيب عنه شيء. أي: فالمعنى أن الله لا حاجة له لكتب الأعمال؛ لأنه عالم بها لا يخفى عليه منها شيء، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى، فالحكمة من كتابة الأعمال مع أن الله عز وجل غني عن أن تكتب الملائكة هذه الأعمال: هي إقامة الحجة على العبد يوم القيامة كما أوضحه الله بقوله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13 - 14] اقرأ بنفسك كتابك حتى تقوم عليه الحجة، {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]. ومفعول التلقي في الفعل (يتلقى) والوصف (المتلقيان) محذوف، والتقدير: يتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان، فيكتبانه عليه.

تفسير الزمخشري لهذه الآية

تفسير الزمخشري لهذه الآية قال الزمخشري: والتلقي: التلقن بالحفظ والكتبة؛ لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله. (والقعيد) قال بعضهم: معناه القاعد. والأظهر أن معناه المقاعد -يعني المجالس- وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل كالجليس بمعنى المجالس، والأكيل بمعنى المؤاكل، والنديم بمعنى المنادم. وقال بعضهم: القعيد هنا هو الملازم، وكل ملازم دائماً أو غالباً يقال له قعيد، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي: (قعيدك ألا تسمعيني ملامة)، قعيدك. يعني: الذي يلازمك. والمعنى في قوله: ((إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)) عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فهما ملكان، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. وهذا واضح، فهو ليس قعيداً واحداً عن اليمين وعن الشمال، وإنما هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فهما ملكان، لكن حذف الأول لدلالة الثاني عليه، فلم يقل: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، وإنما قال: ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) فحذف الأول لأن الثاني يدل على وجوده، وهو أسلوب عربي معروف. قال: وأنشد له سيبويه في كتابه قول الأزرق بن طرفة الباهلي: رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئاً ومن أجل الطوي رماني يعني: كنت منه بريئاً ووالدي بريئاً، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. ومنه قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عنـ دك راض والرأي مختلف يعني: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض والرأي مختلف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. ومنه قول ضابي بن الحارث البرجمي فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب هو يمتدح نفسه بالشرف، فيقول: فمن يك أمسى بالمدينة رحله يعني: إذا الضيف حل بمدينتنا فإني وقيار -قيار اسم جمله- نكون غريبين، ويصير الضيف هو صاحب الدار كما يقول الشاعر: يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل يصح أن نقول: فإني غريب وقيار غريب، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. وادعى البعض أن قوله في الآيات: (قعيد) هي التي أخرت. أي: بعض الناس قالوا: إن قوله تعالى ((إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد)) [ق:17] أصلها: عن اليمين قعيد وعن الشمال، فقالوا: إن (قعيد) راجعة إلى الأولى، أي: عن اليمين قعيد، فأما عن الشمال فهي محذوفة يدل عليها ما قبلها، وهذا القول لا دليل عليه ولا حاجة إليه؛ لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول.

أمثلة لجهل بعض الناس في توجيه الآيات القرآنية

أمثلة لجهل بعض الناس في توجيه الآيات القرآنية والشيء بالشيء يذكر: في سورة المائدة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} [المائدة:69] (الصابئون) في سورة المائدة معطوفة على منصوب قبلها، والعجيب أن بعض القساوسة ألف كتاباً يطعن فيه في القرآن الكريم، وكعادتهم يؤتون بالمضحكات المبكيات في نفس الوقت، فيزعمون أن القرآن فيه لحن لغوي، وفيه أخطاء نحوية، وذكر هذه الآية. وآخر يفسر قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] فيقول: يعني: حفاة لا يلبسون نعالاً في أقدامهم، يظن أن كلمة: (حافين) بمعنى: حفاة، فهذا لجهلهم. أبو جهل أو أبو لهب وغيرهما من الكفار لو وجد أحدهم في القرآن لحناً لغوياً أكانوا يسكتون عليه والقرآن يتحداهم صباح مساء؟! فهؤلاء المساكين الجهلة يظنون أن قواعد اللغة العربية التي وضعت مؤخراً حاكمةً على القرآن الكريم، فنقول: لم يكن علم القواعد موجوداً من قبل، ولا نحو، ولا صرف، ولا غيرها، وكانت اللغة العربية هي الأصل، ثم بعد ذلك وضعت القواعد متأخرة عنها، فكيف تحكم المتأخر على المتقدم؟! وكيف تأتي أنت يا أجنبي عن العروبة وعن الإسلام ثم تحاول أن تطعن في القرآن بوجود اللحن فيه؟! فمن ضمن المواضع التي أشكلت عليهم هذه اللفظة في سورة المائدة: (والصابئون). ومما يرد عليهم: أن هذا من أساليب اللغة العربية، إما على الاستئناف كقولك: وكذلك الصابئون، مثل العطف في البيت السابق: فإني وقيار بها لغريب. فهذا الشعر من كلام العرب فيه هذا الأسلوب من أساليب العرب، لأن الأصل: فإني وقياراً بالنصب.

تفسير قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)

تفسير قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. أي: ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام ((إلا لديه)) أي: إلا والحال أن عنده رقيباً، أي: ملكاً مراقباً لأعماله، حافظاً لها، شاهداً عليها، لا يفوته منها شيء، ((عتيد)) بمعنى حاضر ليس بغائب، يكتب عليه ما يقول من خير وشر. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة يكتبون أعماله جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله، كقول الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]. فهل يتصور أحد أن المقصود بقوله: ((وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون)) قوة خيرية تحثك على الخير. كما أوله القاشاني وأمثاله؟! هذا مصادم تماماً لهذه النصوص الصريحة. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29]. ولا شك أن في المكتشفات الحديثة الآن كثيراً مما يقرب إلى أذهاننا قضية استنساخ الأعمال، فقد أصبح فهمها أسهل بكثير من ذي قبل، حيث استطاع الإنسان بأجهزة الكمبيوتر وهذه الأقراص المضغوطة أن يسجل كميات ضخمة جداً من الكلمات والحروف والجمل والمقالات، بل وكثير من الكتب في حجم بسيط جداً، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يدون جميع أعمال العباد في هذه الصحف التي بيد الملائكة، قال تبارك وتعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [مريم:79]، وقال تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]. وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن القعيد الذي عن اليمين يكتب الحسنات، والذي عن الشمال يكتب السيئات، وأن صاحب الحسنات أمين على صاحب السيئات يعني: أعلى رتبة منه، فإذا عمل العبد حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: أمهله، ولا تكتبها عليه لعله يتوب أو يستغفر، وبعضهم يقول: يمهله سبع ساعات، والعلم عند الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق)

تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق) قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]. لما ذكر استبعادهم للبعث أزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه، وأعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي فقال سبحانه وتعالى: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)). وهذا إخبار بأن هذا سوف يحصل لكل إنسان بعد ما أقام الله عز وجل الحجة والأدلة فيما مضى من الآيات على أحقيه البعث والنشور والحساب والجزاء، وأعلمهم بأنهم ملاقون ذلك عما قريب، ونبه على اقترابه بلفظ الماضي؛ لأن القرآن الكريم يعبر عن المستقبل بصيغة الماضي أحياناً للدلالة على تحقق وقوعه، فكأنه حصل بالفعل، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] المقصود: سوف يقول الله لعيسى وسكرة الموت: شدته المحيرة الشاغلة للحواس، المذهلة للعقل، كما قال تبارك وتعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] فالسكر قد يكون بالخمر، وقد يكون بسبب الشدة التي يقع فيها الإنسان بحيث تحيره وتشغل حواسه وتذهل عقله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)! ((بالحق)) يعني: جاءت سكرة الموت بالموعود الحق، والأمر الحق، وهو الموت، فالباء هنا للملابسة، يعني: جاءت سكرة الموت متلبساً بالحق الذي هو الموت. أو للتعدية، يعني: وجاءت سكرة الموت بالموعود الحق من أمر الآخرة والثواب والعقاب الذي غفل عنه، والمعنى: أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر، وهي أحواله الباطنة، وأظهرتها عليه. قال الشهاب: استعيرت السكرة للشدة، ووجه الشبه بينهما أن كلاً منهما مذهب للعقل، فكما أن الخمر تذهب العقل كذلك الشدة أحياناً تذهب عقل الإنسان، ويجوز أن يشبه الموت بالشراب كما قال الشاعر: الموت كأس وكل الناس شاربه وقوله: ((ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)) أي: تنفر وتهرب، والجملة على تقدير القول، يعني: وجاءت سكرة الموت بالحق فيقال للميت أو المحتضر: ((ذلك ما كنت منه تحيد)) وهذا أمر معروف في القرآن الكريم، فكثيراً ما يحذف لفظ القول ويدل عليه السياق فيكتفى بذلك، والمعنى: أنه يقال له في وقت الموت: ذلك الأمر الذي رأيته هو الذي كنت منه تحيد في حياتك، فلم ينفعك الهرب والفرار. والإشارة في قوله: ((ذلك ما كنت منه تحيد)) قال بعض العلماء: إنها إشارة إلى الحق وهو الموت. أي: ذلك هذا هو الموت الذي كنت تفر وتهرب منه، ويؤيده قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، وقوله: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] هذا كله يرجح القول بأن الإشارة بقوله: (ذلك) إلى الحق.

خلاف العلماء فيما تكتبه الملائكة

خلاف العلماء فيما تكتبه الملائكة توقف الشنقيطي رحمه الله تعالى عند قوله تبارك وتعالى: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) فقال رحمه الله: اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل العبد الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه، هل تكتبه الحفظة عليه أو لا؟ فالآية تفيد بظاهر عمومها أنه ما من لفظ يتلفظه الإنسان فإنه يترتب عليه ثواب أو عقاب، فهل يكتب عليه الكلام المباح ويدون في صحيفته؟ قال بعضهم: يكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض، وهذا هو ظاهر قوله: ((ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)) لأن قوله تعالى: (من قول) نكرة في سياق النفي، زيدت قبلها لفظة (من) فهي لفظ صريح في عموم الأعمال، فتدل أن الملائكة تكتب ما يتلفظ به الإنسان حتى الكلام المباح الذي لا ثواب عليه ولا عقاب. وقال بعض العلماء: إن الملائكة لا تكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، أما المباح فلا تكتبه، وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب. فالذين يقولون: لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب، والذين يقولون: يكتب الجميع؛ متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب إلا أن بعضهم يقولون: لا يكتب أصلا، وبعضهم يقول: يكتب أولاً ثم يمحى. وزعم بعضهم أن محو هذا الجزء من الكلام المباح وإثبات ما فيه من ثواب وعقاب هو معنى قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وهذا قول مرجوح، وقد سبق الكلام فيه في آخر سورة الرعد، لكن المقصود أن كلا الفريقين يثبت أنه لن يحاسب على المباح، ولن يحاسب على الجائز من الكلام، وإنما اختلفوا هل يثبت أم لا يثبت؟ والذين قالوا: يثبت. يقولون: يثبت ثم يمحى بعد ذلك، والذين قالوا: لا يكتب ما لا جزاء فيه، ولا يترتب عليه ثواب أو عقاب، محتاجون إلى الجواب عن استدلال الفريق الأول بهذه الآية؛ لأن هذه الآية نص صريح في العموم. فقالوا في A إن في الآية نعتاً محذوفاً سوغ حذفه العلم به؛ لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب، وتقدير النعت المحذوف: ((ما يلفظ من قول)) مستوجب للجزاء ((إلا لديه رقيب عتيد))، والجزاء قد يكون خيراً أو شراً. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد قدمنا أن حذف النعت إذا دل عليه دليل أسلوب عربي معروف، وقدمنا أن منه قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] أي: كل سفينة صالحة. لكن لا بد أن يأتي دليل يدل على الحذف، والدليل في هذه الآية قوله: (فأردت أن أعيبها) فهذا يدل على أن السفينة كانت صالحة سليمة، وهو أراد أن يعيبها؛ فهذه القرينة تدل على أن النعت المحذوف هو النعت المتعلق بالسفينة. وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:58] هنا حذف تقديره: (وإن من قريةٍ ظالمةٍ إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) والدليل على الحذف قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59]. ومن شواهد هذا المذهب -وهو جواز الحذف إذا دل دليل عليه- قول المرقش الأكبر: ورب أسيلة الخدين بكر منعمة لها فرع وجيد أي: لها فرع فاحم، أي: شعر أسود، (وجيد) يعني: عنق طويل، قدرنا هذا لأن السياق سياق مدح وغزل، وهو لم يذكر الوصف لكنه يفهم من السياق. ومنه أيضاً قول عبيد بن الأطرف: من قوله قول، ومن فعله فعل، ومن نائله نائل. أي: (من قوله قول) فصل، ومن فعله فعل جميل، ومن نائله نائل جزيل. فهذا كله من الشواهد التي تدل على أنه يجوز حذف النعت إذا دل عليه دليل، والله عز وجل في أكثر من موضع في القرآن الكريم يصف القرآن بأنه عربي، فما ثبت في اللغة عند العرب الأصليين وقت ظهور الإسلام أو قبله لا حرج من الاستشهاد به.

(ق) [20 - 29]

تفسير سورة (ق) [20 - 29]

الحث على فعل الخير في رمضان

الحث على فعل الخير في رمضان قال الله تبارك وتعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فأمر الله سبحانه وتعالى بالتذكير أمراً مشروطاً فقال: ((إن نفعت الذكرى)) ثم بين في الآيات الأخرى من هم الذين ينتفعون بالذكرى، فقال عز وجل ((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)) فما أكثر معلومات الإنسان عن أمر معين، لكن يحتاج إلى من يذكره لاسيما في المناسبات التي نحتاج فيها إلى أن نتعاون على البر والتقوى، ومنها أن يذكر بعضنا بعضاً بهذه المناسبة العظيمة التي نحن مقبلون عليها، وهي استقبال شهر رمضان المعظم. اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة، وأن يجعلها ميداناً للتنافس، وكان من فضل الله تبارك وتعالى أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنات، فمن ثم جعل لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه عز وجل بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات. قال الحسن رحمه الله تعالى في قول الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]: جعل الليل يخلف النهار، فمن فاته عمل صالح في الليل استطاع أن يستدركه في النهار، ومن فاته شيء في النهار استطاع أن يستدركه بالليل. يقول الحسن: من عجز بالليل كان له من النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب. ولا شك أن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شهر رمضان الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فيه القرآن، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأسألك العزيمة على الرشد)، فالعزيمة من أقوى مراتب الإرادات التي يجزم الإنسان عندها ويصمم على أن يمضي العمل. فمن العزيمة على الرشد أن ينوي الإنسان اغتنام هذه المناسبات المباركة، وخاصةً مناسبة شهر رمضان المعظم، فنحن محتاجون في هذه الأيام إلى العزيمة على الرشد، فندعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العزيمة على الرشد، أعني النية الصادقة والهمة العالية في أن نغتنم هذا الشهر الكريم؛ ليغفر الله لنا، ونرجو من الله أن نبقى أحياء إلى أن يأتي رمضان، فمن يدري منا لعله يكون آخر رمضان في حياته، ومن يدري لعله لا يستقبل رمضان!

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد)

تفسير قوله تعالى: (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد) قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20]. كم عدد النفخات في الصور؟ الراجح أنها نفختان كما في سورة الزمر: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} [الزمر:68]. والله تعالى أعلم. قوله: ((ونفخ في الصور)) هذه هي نفخة البعث والنشور، بدليل قوله: ((ذلك يوم الوعيد)) أي: ذلك النفخ يوم الوعيد، أي: وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدم من الأعمال وما أخر.

تفسير قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد)

تفسير قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]. قال ابن جرير: أي: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر. وظاهر الآية أنهما اثنان: واحد يسوقه إلى المصير المحتوم، والآخر يشهد عليه بعمله، وقد اختلف العلماء: فقيل: هما ملكان، ملك سائق، وملك شهيد. وقيل: بل هو ملك واحد لكنه متصف بصفتين، فهو سائق، وهو أيضاً شهيد على عمل الإنسان. وقيل: ((وجاءت كل نفس معها سائق)) أي: ملك، و ((شهيد)): هو الإنسان نفسه يشهد على نفسه. وقيل: سائق من أعمالها إلى مكان ندائها، وشهيد من أجزائها.

تفسير قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا)

تفسير قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا) قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]. هذا أيضاً فيه حذف، والتقدير: (لقد كنت في غفلة من هذا -أي: الموت- فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). من المخاطب في هذه الآية؟ في المخاطب في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لقد كنت يا محمد- صلى الله عليه وسلم في غفلة من هذا، فهذه جملة معترضة أتي بها خلال أمر النبأ الأخروي؛ تنويهاً بمنة الإعلام والتعريف به، فهنا اعتراض، فإن سياق الكلام في وصف أحوال الآخرة، حيث يقول تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21] ثم يذكر تعالى جملة اعتراضية هنا: لقد كنت -يا محمد- في غفلة من هذا؛ لبيان منة الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث أعلمه بهذه الأمور الغيبية عن طريق الوحي، وعرفه بها. وليس هذا فحسب، بل إن بصره بها بصر شديد النفاذ يدركها في غاية الوضوح وغاية القوة، بل إن الله سبحانه وتعالى أوقفه على غوامض هذا الخبر وهذه الوقائع التي ستحصل في الآخرة، وقد كان ذهنه خالياً من علمها، بل كان أمياً لم يتعلم، ووصفه بالغفلة في سياق الامتنان، بمعنى خلو ذهنه عن هذا العلم الذي امتن عليه به، فهو يعلم ما لا يعلمون، والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا غطاءك بإنزاله، فبصرك حديد حيث تعلم ما لا يعلمون. وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] أي: كنت غافلاً عن هذا الخبر. ومثله أيضاً قوله تبارك وتعالى: ((مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ))، وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] أي: كنت عارياً عن الوحي وعن العلم الذي أوحاه الله إليك، فهداك لهذا الوحي، وليس ((ضالاً)) كما يوصف غير النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: ((ووجدك ضالاً فهدى)) يفسره قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] إذاً: القول الأول: إن المخاطب في هذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الجملة معترضة في خلال أمر النبأ الأخروي تنويهاً بمنة الله عليه بإعلامه بذلك وتعريفه به، وبيان شدة نفوذ بصره به، ووقوفه على غامضه. وقوله: ((فبصرك اليوم حديد)) معروف عندنا استعمال: البصر ستة على ستة في أنه حاد، فكلمة ليس المقصود بها حديد المعدن المعروف، بل من حدة النظر وقوته وشدته. وعلى القول بأن الرسول عليه السلام هو المخاطب بالآية لا نحتاج إلى أن نقدر جملة: (يقال له)، حتى يكون التقدير: ((وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد)) يقال له: ((لقد كنت في غفلة من هذا))؛ لأن هذا السياق لا يكون يوم القيامة. فالله سبحانه وتعالى يخاطب الرسول هنا كما في سورة الحجر: في سياق قصة قوم لوط، حيث قطع السياق وقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فكذلك السياق هنا في ذكر أحوال الآخرة، ثم خاطب الله نبيه بقوله: ((لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ))، ثم رجع السياق من جديد للآخرة: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23]. القول الثاني: أن المخاطب به الكافر، وأن الكلام على تقدير القول، أي: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) يقال للكافر حينئذ: (لقد كنت في غفلة من هذا) الذي عاينته اليوم من الأهوال (فكشفنا عنك غطاءك) بأن جلينا لك ذلك وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته فزالت الغفلة عنها. ومثل هذا قول الله تبارك وتعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا) [مريم:38] وهذا أسلوب تعجب، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم! ففيها الإشارة إلى شدة السمع والبصر عندهم، وأنهم يدركون بسمعهم وأبصارهم حقائق اليوم الآخر. وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]. القول الثالث: أن المقصود هو الإنسان مطلقاً، أي: ((لقد كنت)) أيها الإنسان ((في غفلة من هذا)). ويؤيده قول الله تبارك وتعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) فهذا العموم في قوله: (كل نفس) يؤيد القول بأن المخاطب هنا كل إنسان، والمقصود كشف الغطاء عن البر والفاجر، فكل يرى ما يصير إليه. ولا شك أن الحجب سوف تنكشف يوم القيامة، ويرى الإنسان ما كان ينكره من قبل، أو ما كان يؤمن به بظاهر الغيب، فالغيب يصبح شهادة، فيرى الملائكة، ويرى النار، ويرى الجنة، ويرى الصراط، والموازين، ويرى كل الأشياء التي كانت في الدنيا خبراً، وكان يوقن بها عن طريق الإيمان بالغيب، أو كان يكذب بها لأنه لا يراها كما هو حال الملحدين الكافرين. رجح شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله القول الثالث، وهو أن المراد بالخطاب هنا الإنسان مطلقاً. قال الزمخشري: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله. أي فكلمة (في غفلة) تفيد كأن شيئاً شمله وهو غارق فيه أو كأن شيئاً يحيط به تماماً. قال: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله، أو كأنها غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق.

تفسير قوله تعالى: (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد)

تفسير قوله تعالى: (وقال قرينه هذا ما لدي عتيد) قال تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23]. ((وقال قرينه)) أي: قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد. (هذا ما لدي عتيد) أي: حاضر غير غائب. ويفهم من السياق أن الإنسان يكون مع سائق وشهيد وقرين، وهذا القرين هو إما الملك الموكل في الدنيا بكتابة أعماله، وهو الرقيب المتقدم ذكره، أو هو الشيطان الذي قيض له مقارناً له يغويه. والأظهر -كما اعتمده الزمخشري - أن القرين هنا هو المذكور في قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36] ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق:27]. ونلاحظ أن الواو موجودة في الآية التي فيها ذكر القرين أولاً، وفي الثانية ليس فيها واو: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:23 - 26] ((قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ)) فالأقرب والأظهر أن القرين هو الشيطان الذي يغويه. وقد ثبت في الحديث: (ما من إنسان إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) (هذا ما لدي عتيد) أي: هذا شيء حاضر لدي معد محفوظ، والإشارة على الأول لما في صحفه، وعلى الثاني للشخص نفسه. أي: لو قلنا إن القرين هو الملك الذي كان موكلاً بحفظ الأعمال، وهو الرقيب المتقدم فتكون الإشارة إلى صحف الأعمال، أي: يقول قرينه: إن الأعمال مسجلة وموثقة ومحفوظة عندي، ولو قلنا إن قرينه هو الشيطان الذي وكل به ليغويه، فالإشارة للشخص نفسه، أي: هذا المجرم موجود الآن لدي عتيد، بمعنى: حاضر لجهنم، قد هيأته لها بإغوائي.

تفسير قوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد)

تفسير قوله تعالى: (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد) قال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]. يوجد اختلاف بين العلماء في المراد بقوله تعالى: ((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)): قيل: إن الخطاب هنا من الله عز وجل للسائق والشهيد، وهما ملكان، أي: أيها الملكان السائق والشهيد ((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)). وقيل: الخطاب من الله لملكين من خزنة النار. وقيل: الخطاب لملك واحد، وتثنية الفاعل منزل منزلة تكرير الفعل، فالأصل: ألق ألق، فحذف الفعل الثاني وأبقي ضميره مع الفعل الأول، فصارت (ألقيا) أي: فبقي الضمير للدلالة على ما ذكر. أو أن الألف بدل من نون التأكيد المخففة كما في قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15]، وقوله: {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وهذه النون تبدل ألفاً في الوقف، فأجري الوصل مجراه. وقال ابن جرير (أخرج الأمر للقرين وهو بلفظ واحد مخرج خطاب الاثنين، وفي ذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون القرين بمعنى الاثنين كالرسول والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع، فرد قوله: (ألقيا) إلى المعنى. والثاني: أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول، وهو أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين. يعني أن العرب أحياناً يخاطبون الواحد والجماعة بخطاب الاثنين، فتقول للرجل: ويلك أرحلاها وازجراها، أي: الناقة مثلاً، ومعنى أرحلاها: أي: ضع عليها الرحل، قال الشاعر: فقلت لصاحبي لا تحبسان بنزع أصوله واجتز شيحا هو يخاطب واحداً لكن بخطاب المثنى. وقال أبو ثروان: فإن تزجراني يا بن عفان أنزجر وإن تدعاني أحمِ عرضاً ممنعّا وهذا رابع أبيات ثلاثة أولها: تقول ابنة العوفي ليلى ألا ترى إلى ابن كراع لا يزال مفزعا ثم قال بعد ذلك: فإن تزجراني يا بن عفان فواضح أن الخطاب هنا لواحد لكن خوطب بخطاب المثنى. ولماذا يخاطب العرب أحياناً الواحد والجمع بخطاب المثنى؟ سبب ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، فبدلاً مما يخاطب ثلاثة يخاطب واحداً ويشرك الاثنين الآخرين في الخطاب؛ لأن الغالب أن الاثنين بجانب هذا المخاطب، ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلاً: يا صاحبيّ، يا خليليّ. وخطاب المثنى والمقصود به الواحد كثير في الشعر، مثل قول امرئ القيس: قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل (قفا) مثنى وهو يخاطب واحداً، وكذلك قوله: خليليّ مرا بي على أم جندب نقضِّ لبانات الفؤاد المعذب فقال: (مرا بي) والخطاب لواحد، فهذا كثير نلاحظه في الشعر. ((كل كفار)) الكَفَّار: كل جاحد وحدانية الله تعالى، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والعنيد المعاند للحق وسبيل الهدى، لا يسمع دليلاً في مقابلة كفره.

تفسير قوله تعالى: (مناع للخير معتد مريب)

تفسير قوله تعالى: (مناع للخير معتد مريب) قال تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:25 - 26]. ثم أضاف الإنسان إلى الكفر المبالغ فيه وإلى العناد والجحود ذنباً ثالثاً وهو أنه {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ}. (مناع للخير) يعني: للخير الكلي الجامع الذي هو دين الإسلام، فهو يبخل على نفسه بالدخول في الخير العميم الذي هو الإسلام. وأحياناً يطلق الخير في القرآن الكريم على المال، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، وليس المراد حب الإنسان الأعمال الصالحة، فإن السياق يبين أن المقصود حب المال: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:6 - 8]. والإنسان في القرآن الكريم عموماً يأتي في سياق الذم، والناس الآن يستعملون لفظة الإنسانية بمعنى الرأفة والرحمة والرفق بالناس، لكن هذا الاستعمال غير معروف في القرآن الكريم، فالإنسان في القرآن يقصد به الآدمي ناقص الهداية الربانية، فهو يرجع لأصله وطبعه الأصلي الذي هو البخل والسحت والظلم والجهل، وسائر صفاته التي ذكرت في القرآن {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]. فلفظة الإنسان في القرآن الكريم هي في سياق الذم لهذا المخلوق الآدمي قبل أن يتحلى بالوحي، وقبل أن يهتدي بنور القرآن والسنة، فإذا انخلع عن التأديب الرباني والتهذيب المحمدي، فهو الإنسان الكنود الظلوم الجحود العنيد الكفار وهكذا. فالسياق في هذه الآيات ذم: ((إن الإنسان لربه لكنود. وإنه على ذلك لشهيد. وإنه لحب الخير لشديد)) وهو يؤيد أن الخير المقصود به هنا المال، فمن صفات الإنسان شدة الحرص على المال، فهو جموع منوع. وشاهد آخر يدل على أن الخير يراد به المال، قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] أي مالاً. إذاً: قوله تعالى في هذه الآية في صفات الكافر: ((مناع للخير)) معناه: مناع للمال، أي: لا ينفق المال في أوجه الخيرات. والخير إما كلي أو جزئي، فالخير الكلي هو الإيمان فمعنى ((مناع للخير)) على هذا أنه يستنكف عن أن يدخل في الإسلام، ولا يحسن إلى نفسه بأن ينقذها من النار، ويدخلها في أمة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم. أو أنه مناع للخير الجزئي، وهو المال، وهذا قول ثان. وقال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: إن الخير هنا كل حق وجب لله أو لآدمي في ماله؛ لأنه لم يخصص منه شيء، فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه. فالأقوال ثلاثة. وقوله: ((معتد)) أي: متجاوز للحد في الاعتداء على الناس بلسانه بالبذاء والفحش في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلماً، قال قتادة: معتد في منطقه وسيرته وأمره. وقوله: ((مريب)) أي: شاك في الحق، أو موقع صاحبه في الريب مع كثرة الدلائل على الوحدانية وعلى قضايا الإيمان. وأدلة التوحيد مبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا. {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي: عبد معه معبوداً آخر من خلقه {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} أي: في عذاب جهنم. ولا شك أن هذه الصفات هي ثمرات الكفر بالله سبحانه وتعالى.

وقفة مع الجهاد الشيشاني ضد الروس

وقفة مع الجهاد الشيشاني ضد الروس وأنا أتلو عليكم هذه الصفات من صفات الكفار تلح علي نفسي أن أقف وقفة مع ملاحدة الروس لعنهم الله وأذلهم، فالإنسان قد يحدث نفسه حينما يعايش محنة المسلمين، وقد يسأل نفسه سؤالاً ويود أن يعرف جوابه مباشرةً: فهؤلاء الملاحدة الروس يعيثون الآن فساداً بهذا العدوان الظالم على إخواننا المسلمين في الشيشان، ويسمون المجاهدين عصابات وهم أصحاب البلد، وقد ارتبطوا بدولة لها رئيس اسمه أصلان مسخادوف، فكيف يكونون عصابات؟ نعم. فهم بحمد لله قد أدبوا ثاني أكبر قوة في العالم، ومرغوا كرامتها في الوحل، وفي كل مدة يصرح بعض القادة بأن الانتصار بعد شهر، أو بعد شهرين، ومنذ أربعة أشهر أو أكثر وهم يجزمون بالنصر، والسؤال الذي يلح علي هو أنهم في هذه الشدة الفريدة خسروا نائب القائد الأعلى لهم في الشيشان، فقد قتل ولله الحمد، وأحد الإخوة الشيشان كان في حديث صحفي مع مراسل في مصر، فقال: نحن لا نجزع حتى لو أخذ الروس الشيشان، فنحن حددنا خيارات فإما النصر وإما الشهادة، وهي نصر، فكل مسلم يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة في سبيل الله؛ لأنه على يقين أن هذه هي بداية السعادة الأبدية، وأضمن شيء لغفران الذنوب ونيل الدرجات العليا في الجنة، فالمسلم يتمنى أن يقتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا, وهذا الجندي الروسي أو القائد الروسي في سبيل ماذا يقاتل؟ وعند الشدة إلى من يلجأ؟ الروس بدءوا يتهمون جورجيا بأنها تؤوي هؤلاء الشيشان المقاتلين، وجورجيا وضحت وقالت: الحقيقة أن الجنود والضباط الروس يبيعون أسلحتهم للمجاهدين الشيشان! ويحملونها في السيارات، وينقلونها إلى داخل الشيشان، وهم يعلمون أن المجاهدين يقاتلون بها جيشهم، لأنهم لا إيمان عندهم! تخيل إنسان لا يؤمن بالغيب كيف يكون؟ وكالات الأنباء التي هي منحازة ضد الإسلام، ولا أقول: محايدة، بل هي لا تملك نفسها، ومع هذا تثني على صمود الإخوة الشيشان أمام الروس، والروس أنفسهم يقولون: نحن لا نقاتل بشراً، بل نقاتل جناً أو شياطين، ويقولون: إن نسبة الخطأ في إصابة الهدف عند المقاتلين الشيشان واحد بالمائة، ولو تسمعونهم في الأخبار يضجون ويصرخون لكون القناصة المسلمين لا يسمحون لأي روسي يمشي من غير أن يوقعوه في الأرض، ولذلك فإنهم بفعلتهم قد دخلوا في الفخ؛ لأن الإخوة الشيشان قالوا: ليس الروس هم الذين دخلوا قروزني، بل نحن سمحنا لبعض قواتهم أن تدخل العاصمة لنجعلها مقبرةً لهم، ووكالات الأنباء نفسها تقول: إن الحرب السابقة في الشيشان منذ عدة سنوات حولت قروزني إلى مقبرة للجنود الروس. فالشاهد هو الفارق بين أخلاق الإيمان وأخلاق الكفر، وبين ثبات المؤمنين وتزعزع الكافرين، وهم يسمونهم عصابات تحقيراً لهم، وازدراء لهم، وروسيا تدعي أن الشيشان جزء من الجمهورية الروسية، فهل توجد دولة في العالم تفعل في مواطنيها ما تفعله روسيا الآن في الإخوة الشيشان وفي المدنيين؟ ينبغي ألا نكف عن الدعاء لهم، وهذا هو الشيء الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه لإخواننا، فاجتهدوا في الدعاء لإخواننا أن ينصرهم الله سبحانه وتعالى، ويجعلهم مسماراً آخر في نعش إمبراطورية الشرق من الروس الملحدين. تأمل في صفات الملاحدة وانظر إلى صفات المؤمن، قال خالد بن الوليد للكفار: أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة! بل أشد، فالمسلم عندما يقاتل يضحي بكل شيء؛ لأنه يضمن الجنة بإذن الله، كما قال النبي عليه السلام (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه). والإنسان لابد أنه ميت، فلتكن هذه الموتة الشريفة التي ينتقل بعدها مباشرة إلى الجنة. المسلم على يقين بأن الشهيد لا يجد من ألم الإصابة إلا كما يجد الإنسان ألم القرصة. فهذا هو أثر العقيدة، أعني أن هؤلاء الذين يسمونهم عصابات تحقيراً لهم قد أذلوا كبرياءهم، ومرغوا كرامة دولة الكفر والإلحاد في الوحل، والأخبار تأتي بين وقت وآخر بنصر الله سبحانه وتعالى، قال بعض المجاهدين الشيشان: تأتي أحياناً طلقات من جهة من جهاتنا إلى الروس، وليس أحد منا يضرب بالنار! وكأنها ملائكة تقاتل معهم، والله تعالى أعلم، فهذه ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر. وفي الجهة الأخرى هذه ثمرات الإلحاد، فهم أنفسهم يبيعون الأسلحة للشيشان! فماذا قال الروس في تبرير بعض انتصارات الإخوة الشيشان؟ قالوا: الحقيقة أن بعض القوات الروسية أخذت رشوة من القوات الشيشانية، وهذا مثل أصحاب كرة القدم إذا انهزم فريق، حيث يقولون: إن الحكم أخذ رشوة من الفريق المنتصر. فلعل الله سبحانه وتعالى أن يبشرنا قريباً بنصر إخواننا، واندحار هؤلاء الملاحدة، وأن تكون الشيشان مقبرة لكل المجرمين ما بين قتيل وأسير، وأن يرفع الله سبحانه وتعالى كلمته، ويعز أهل الإسلام وأهل التوحيد.

تفسير قوله تعالى: (قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد)

تفسير قوله تعالى: (قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد) يقول الله تعالى: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28]. أي: لا فائدة في اختصامكم ولا ثمرة ترجى من ورائه؛ لأنكم الآن في دار الجزاء، ولستم في دار العمل. ((وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ)) في الدنيا ((بِالْوَعِيدِ)) لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي في كتبي وعلى السنة رسلي. فقوله تعالى: ((لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)) ليس المراد به الانتهاء والتوقف عن الخصام؛ لكن المقصود أن يعلموا أنه لا فائدة من الاختصام؛ لأنه لن يعود عليكم الخصام والجدال وتبرؤ بعضكم من بعض واتهام بعضكم بعضاً بفائدة، وكذلك الاستماع لهذا الخصام لن يفيد بشيء، كأنه قال: لا اختصام مسموع عندي، وقد سبق وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به، لسلامة الآلات من السمع والبصر والعقل، وأنتم الذين عطلتم هذه الآلات عن أن تعمل فيما خلقت من أجله، فلم تنتفعوا بكل هذا ولم ترفعوا بذلك أساً، فحق عليكم القول بالعذاب. وعن ابن عباس في هذه الآية الكريمة قال: إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم، فقوله: ((قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)) أي: هذا عذر غير مقبول. ((وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)) أقمت عليكم الحجة في الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد)

تفسير قوله تعالى: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) يقول تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]. تلاحظون دقة كلام المفسرين، فهم لما فسروا {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} قالوا: لا اختصام مسموع عندي. وقالوا: إنه ليس المقصود النهي عن هذا الخصام والجدال والمحاورة التي تحصل بين السادة والأتباع، أو بين الأقوياء والمستضعفين، لا، بل المقصود أن اختصامكم هذا لا فائدة فيه، لأن غاية ما تؤملونه أن يحصل تغيير في مصيركم، وفي الحكم الذي صدر عليكم من دخول النار، وهذا الحكم لا يمكن أن يبدل، وقد قامت عليكم الحجة في دار العمل، وأنتم الآن في دار الجزاء فلا سبيل على الإطلاق لتبديل ما قضى الله به عليكم؛ لأنه ثبت وصح تقديم الوعيد وكنتم تستطيعون في وقت العمل وفي دار العمل أن تنتفعوا، أما الآن فهي دار الجزاء، ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)) أي: ماذا تؤملون وما هي الثمرة التي ترجونها من وراء الخصام؟ هل تظنون أنكم بهذا الخصام واتهام بعضكم بعض وتبرؤ بعضكم من بعض أن هذا سينفعكم، أو يعفيكم من العذاب؟ لا {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]. قال ابن جرير: ما يغير القول الذي قلته لكم في الدنيا وهو قوله: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها. {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي: فلا أعذب أحداً بذنب غيره، ولكن بذنبه بعد قيام الحجة عليه، وهذه كما قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:36 - 39]، فيلزم من هذا ما يعتقده بعض الكفار النصارى من أن البشرية كلها ملطخة بوزر آدم في نظرهم، ولأجل ذلك حصل موضوع الصلب والفداء والتعميد والتوثيق، من أجل أن يزال عن الطفل البريء هذا الوزر الذي ورثه من آدم. فاليوم الذي ولد فيه الطفل هو أسود يوم في حياته؛ لأنه خرج إلى هذه الحياة وهو مسئول عن خطيئة آدم بزعمهم، وهذا شيء ترفضه الفطرة السليمة، لكن انظر إلى دين الفطرة فالإنسان يعمل بعض الأعمال الصالحة فيكون قد رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهو أسعد يوم عنده؛ لأنه إنسان بريء على الفطرة، طاهر ما تلوث بخطيئة، ولا كتبت عليه خطيئة، فلذلك جاء في الحديث: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، أما عند النصارى فأول ما ينتقل الطفل إلى الحياة الدنيا فإنه يتحمل خطيئة آدم. ملايين البشر يولدون ملوثين بما يسمونه خطيئة آدم، مع أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته قبل إهباطه إلى الأرض، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]. فهذا من نسبة الظلم إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا مما يتنزه عنه الله سبحانه وتعالى، كيف يعاقب ابن بخطيئة أبيه؟ هذا ينافي بداهة العقول. {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} يقول القاسمي: ظاهر الآيات أن هذا التقاول على حقيقته إذ لا مانع منها، وذهب بعض المفسرين إلى أنها مجاز. أنا أعجب كيف أن القاسمي مع أنه إمام جليل من أئمة السلفية الحقة ينقل مثل هذا الكلام ثم لا يهدمه هدماً، يقول: قال القاشاني: هذه المقاولات كلها معنوية مثلت على سبيل التخييل والتصوير، لاستحكام المعنى في القلب عند ارتسام مثاله في الخيال، فادعاء الكافر الإطغاء على الشيطان وإنكار الشيطان إياه عبارة عن التنازع والتجاذب الواقع بين قوتيه الوهمية والعقلية والغضبية والشهوية، ولهذا قال: ((لا تَخْتَصِمُوا)) إلى آخره. هذا كلام كان يجب طرحه ولا تجوز حكايته؛ لأنه انحراف في تأويل القرآن الكريم، وإفساد لمعاني القرآن، ما الذي يمنع إرادة الحقيقة؟ ثم هذا فتح لباب التأويلات الباطنية، وإبطال لمعاني القرآن الكريم، فما كان ينبغي للقاسمي عفا الله عنه ورحمه الله أن يحكي مثل هذا الكلام إلا بنية إبطاله والرد عليه.

نكتة حذف الواو من قوله: (قال قرينه ربنا ما أطغيته)

نكتة حذف الواو من قوله: (قال قرينه ربنا ما أطغيته) إن قلت: لم طرحت الواو من جملة: ((َقَالَ قَرِينُهُ ربنا ما أطغيته))؟ وذكرت في الأولى. قلت: لأنها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما رأيت في حكاية التقاول بين موسى وفرعون. المقصود أن الجواب على هذه النقطة في التقاول كأن تقول مثلاً: قلت له كذا فقال لي كذا، فقلت له كذا، قال: كذا وكذا، فالواو غير موجودة؛ لأن في داخل السياق وفي أثنائه عملية محاورة، فلما قال: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] وتبعه بقوله: ((قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ)) وتلاه بقوله: ((لا تَخْتَصِمُوا)) علم أن ثم مقالة من الكافر، لكنها طرحت للدلالة عليها من السياق، كأنه لما قال القرين: ((هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ)) قال الكافر: رب هو أطغاني، فلما قال الكافر ذلك، ((قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)) فلما حكى قول القرين والكافر قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28]. وذكر الواو في الجملة الأولى ((وقال قرينه هذا ما لدي عتيد)) لأنها أول التقاول، ولابد من عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في حصول مجيء كل نفس مع الملكين: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21].

الرد على المرجئة بآية: (ما يبدل القول لدي)

الرد على المرجئة بآية: (ما يبدل القول لدي) ودل قوله تبارك وتعالى: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)) على أنه لا خلف في إيعاد الله تعالى، كما لا إخلاف في ميعاد الله. وهذا رد على المرجئة حيث قالوا: ما ورد في القرآن من الوعيد فهو تخويف، ولا يحقق الله شيئاً منه، وقالوا: الكريم إذا وعد أنجز ووفى، وإذا أوعد أخلف وعفا. وهذا الكلام ليس على إطلاقه، فلا خلف في إيعاد الله تعالى، أي: أن الوعيد لا يخلفه الله سبحانه وتعالى في حق الكفار، فإذا توعد الكافر أنه سيدخله جهنم فحتماً سوف يدخل جهنم، ولا يجوز أن يتخلف هذا الوعيد؛ بدليل قول الله تبارك وتعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] وقد قلنا: إن هذه فاء السببية، أي: أن التكذيب هو علة حصول الوعيد، فكل من كذب الرسل فلابد أن يدخل النار. وقال تبارك وتعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص:14]، وقال تبارك وتعالى هنا: ((مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه ِ) [النساء:48]. فالوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو في حق عصاة المسلمين الذين يموتون على كبائر الذنوب ولم يتوبوا منها، لكن وعيد الكفار لا يمكن أن يتخلف، بل كل من مات على الكفر لا بد أن يتحقق فيه الوعيد ولا يخلف. فلو صح ما ذكرته المرجئة من جواز إخلاف الوعيد في حق الكفار للزم تبديل قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} والله مقدس عن ذلك ومنزه سبحانه وتعالى. وكلام المرجئة كلام باطل، وهو يفتح باب المعاصي للناس على مصراعيه، تعلقاً بنصوص الرجاء، وزعماً أن نصوص الوعيد في حق المسلمين العصاة إنما هي مجرد تخويف ومجرد ترهيب فقط، ولكنهم في الحقيقة لن يعذبوا، هذا مخالف قطعاً للأدلة من القرآن ومن السنة، فنحن نقول: إنه تحت المشيئة، إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، وهذه من كمال عدل الله سبحانه وتعالى، إلا أن الموحد ينجو من الخلود في جهنم؛ لكنه لا ينجو من دخولها.

معنى المبالغة في قوله: (بظلام) ونفي الظلم عن الله

معنى المبالغة في قوله: (بظلام) ونفي الظلم عن الله أخيراً: ذكروا في قوله: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) سر المبالغة في كلمة: ((بظلام)) فقالوا: إن المراد بالمبالغة نفي الظلم من أصله. وهنا إشكال: بعض الناس قد يسأل سؤالاً ويقول: لفظة (ظلام) صيغة مبالغة، ومعلوم أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله، فعندما تقول: فلان ليس ضراباً لنساء أو لأولاده، فهذا لا يستلزم نفي الضرب من أصله، لكن يستلزم نفي الضرب الكثير، أي: قد يحصل الضرب منه لكنه قليل! لكن عندما تقول: فلان ليس ضارباً لأولاده؛ فهذه الصيغة تستلزم نفي الفعل من أصله. وفي الحديث: (المؤمن ليس بلعان) أي: لا يكثر اللعن، لكن قد يقع منه اللعن في مواضعه السائغة شرعاً، لكن لا يغلب عليه، قولك مثلاً: زيد ليس بقتال للرجال، فهذا لا ينفي إلا المبالغة في القتل، فهو ربما قتل بعض الرجال. فقبل أن نناقش هذا السؤال أو هذه الشبهة التي تشكل على بعض الناس فيقولون: الله سبحانه وتعالى نفى المبالغة في الظلم فهل يستلزم ذلك أن يصدر منه ظلم قليل؟ قبل الإجابة لابد أن نقول: إن القاعدة الراسخة والأساسية في تفسير هذه الآية: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أن المراد بها نفي الظلم من أصله. أما الجواب عن الإشكال في صيغة المبالغة فمن وجوه: أولاً: أن نفي صيغة المبالغة في الآية المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فنفي صفة المبالغة يمكن أن يدل على نفي الصفة من أصلها إذا قامت أدلة منفصلة على أن هذا ذلك المراد، ففي هذه الحالة لا يكون هناك إشكال، فيتحتم تأويل قوله: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) بأن المعنى: وما أنا بذي ظلم للعبيد. ومن الأدلة على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، وقال تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] إلى غير ذلك من الآيات. وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى نفى ظلمه للعبيد، والعبيد في غاية الكثرة، وذلك يستلزم كثرة الظلم المنفي عنهم. أي: فالظلم منفي عن كثير من الناس، فيستلزم ذلك كثرة الظلم المنفي عن هؤلاء العباد. فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة، للدلالة على كثرة الظلم المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ولو قليلاً كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة كما ترى، وبذلك تعلم اتجاه الإتيان بصيغة المبالغة، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد الذين هم في غاية الكثرة، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحداً شيئاً. الوجه الثالث: أن عذابه تبارك وتعالى بالغ الغاية من العظم والشدة، بحيث لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم لكان معذبهم به ظلاماً بليغ الظلم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لكن ليس فيه ظلم على الإطلاق بل هو عدل؛ لأنهم استحقوا ذلك بكفرهم. الوجه الرابع: ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين: وهو أن المراد بالنفي في قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) نفي نسبة الظلم إليه سبحانه، وأنها تعني: وما أنا بذي ظلم للعبيد، أي: فلا ينسب إلي ظلم على الإطلاق؛ لأن صيغة (فعَّال) تستعمل مراداً بها النسبة فتغني عن ياء النسبة كما أشار إليه في الخلاصة بقوله: ومع فاعل وفعَّال فَعِل في نسب أغنى عن الياء فقبل بمعنى: أن هذه الصيغ الثلاث المذكورة في البيت وهي: (فاعل كظالم، وفعَّال كظلَّام، وفَعِل كفَرِح) كل منها قد تستعمل مراداً بها النسبة، فيستغنى بها عن ياء النسبة. ومثاله في (فاعل) قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فالمراد بقوله: فإنك أنت الطاعم الكاسي النسبة، أي: فإنك أنت ذو طعام وذو كسوة. وقول الآخر، وهو من شواهد سيبويه: وغررتني وزعمت أنـ ـك لابن في الصيف تامر يظهر أن شخصاً غر آخر استضافه وأوهمه أنه في الصيف سيكون عنده تمر ولبن، فلما ذهب معه لم ير شيئاً. غررتني: أي: خدعتني. لابن أي: ذو لبن، تامر أي: ذو تمر. ومنه أيضاً قول النابغة الذبياني: كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب ناصب، أي: ذو نصب. ومثاله في (فعَّال) قول امرئ القيس: وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال فصيغة نبال نابت عن النسبة أي: ليس بذي نبل، ويدل عليه قوله قبله: ليس بذي رمح، وليس بذي سيف. وقال الأشموني: بعد الاستشهاد بالبيت المذكور: قال ابن مالك: وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: بذي ظلم. ومثاله في (فَعِل) قول الراجز وهو من شواهد سيبويه: لست بليلي ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر (ولكني نهر) أي: ولكني نهاري، ينسب إلى النهار، فنابت صيغة (فَعِل) عن النسبة، فكذلك قوله تعالى: ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: ليس بذي ظلم. إذاً على مقتضى اللغة العربية سهل جداً أن نفهم قوله تعالى: ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) أي: وما أنا بذي ظلم، ففهم منه أن المقصود من صيغة المبالغة نفي الظلم من أصله.

(ق) [30 - 45]

تفسير سورة (ق) [30 - 45]

دار العمل تذكر بدار الجزاء

دار العمل تذكر بدار الجزاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير) متفق عليه. وفي رواية لـ مسلم: (قالت النار: ربي أكل بعضي بعضاً، فائذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم) لا شك أن هذا الحديث من أقوى الأدلة على أن النار والجنة مخلوقتان الآن موجودتان، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة. الأمر الآخر: أن هذا الكلام من النار ظاهره الحقيقة، فهو كلام حقيقي سوف نبينه عما قريب إن شاء الله تعالى. أما العبرة من هذا الحديث: فلا شك أن الله سبحانه وتعالى خلق لعباده داراً يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء فيها من غير موت، وخلق داراً معجلة للأعمال، فدار الجزاء دار مؤجلة وهي دار الجنة أو النار، ويؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار فيقال: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت، فيزداد أهل الجنة سروراً وفرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار هماً وحزناً على حزنهم). أما دار العمل ففيها موت وحياة، وابتلى الله سبحانه وتعالى العباد في هذه الدار بما أمرهم به ونهاهم عنه، وكلفهم فيها الإيمان بالغيب، ومنه الإيمان بالجزاء وبالدارين المخلوقتين للجزاء، وأنزل بذلك الكتب، وأرسل به الرسل، وأقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به. وإحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم، والأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة.

نار الدنيا تذكر بنار الآخرة

نار الدنيا تذكر بنار الآخرة هذه الدنيا الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، وذلك كي يكون ما فيها من النعيم مذكراً بنعيم الجنة، وما فيها من الألم مذكراً بألم النار، ولذلك قال سبحانه وتعالى في حكمة خلق النار: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73]. فجعل الغاية الأولى والعظمى من خلق النار في الدنيا: أن تكون تذكرة بنار الآخرة، مع الفضل والتفاوت الذي بينهما. والغاية الثانية أنها متاع للمقوين، سواء للاستدفاء أو للاستضاءة أو لإنضاج الطعام أو غير ذلك من وجوه التمتع بالنار في الدنيا.

نعيم الدنيا يذكر بنعيم الجنة

نعيم الدنيا يذكر بنعيم الجنة فجعل الله سبحانه وتعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية، منها أمور تتعلق بالزمان أو بالمكان، أما الأماكن فخلق الله سبحانه وتعالى في بعض البلدان من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة، وأما الأزمان فكزمن الربيع الذي يذكر طيبه ورونقه بنعيم الجنة وطيبها، فيقول ابن سمعون في وصف الربيع: أرضه حرير، وأنفاسه عبير، وأوقاته كلها وعظ وتذكير وكان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين والفواكه في الربيع إلى السوق فيقف وينظر ويعتبر ويسأل الله الجنة. ومر سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك في مجالسهم في زينتهم، فسلم عليهم؛ فلما بعد عنهم بكى واشتد بكاؤه وقال: ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة. وتزوج صلة بن أشيم بـ معاذة العدوية وكان من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام، ثم أدخله على زوجته في بيت مطيب فقاما يصليان إلى الصباح، فسأل ابن أخيه عن حاله فقال: أدخلتني بالأمس بيتاً أذكرتني به النار -يعني: الحمام- حيث الماء والبخار، وأدخلتني الليلة بيتاً أذكرتني به الجنة، فلم يزل فكري في الجنة والنار إلى الصباح! ودعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه لهم، فقام على رءوسهم عتبة الغلام يخدمهم وهو قائم وهم يأكلون، فجعلت عيناه تهملان! فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه؟ فقال: ذكرت موائد أهل الجنة إذا أكلوا وقام الولدان على رءوسهم. الدنيا مرآة ننظر بها إلى الآخرة لا لننظر إليها ونتوقف عندها، فالمرآة آلة لا يُنظر إليها نفسها، ولكن ينظر المرء إلى ما يرى من خلال هذه المرآة. فهذا هو الوضع الملائم لحكمة خلقنا في الدنيا من نعيم أو من عذاب، أن تكون تذكرة لنا بدار الآخرة، يقول الشاعر: كفى حزناً أن لا أعاين بقعة من الأرض إلا ازددت شوقاً إليكمُ وأني متى ما طاب لي خصب عيشة تذكرت أياماً مضت لي لديكمُ

وجه تذكير نار الدنيا بنار جهنم

وجه تذكير نار الدنيا بنار جهنم وليس الآن وقت التفكر في زمان الربيع، فنرجئه إلى أن يأتي زمان الربيع إن شاء الله، لكن ننتقل انتقالة سريعة إلى نوع آخر من وجوه الاعتبار: فالله سبحانه وتعالى جعل من مخلوقاته ما يذكر بالنار التي أعدها لمن عصاه، وما فيها من الآلام والعقوبات، هناك أماكن وأزمان وأجسام تذكر بالنار، أما الأماكن التي تذكر بالنار، فكثير من البلدان الشيديدة الحر أو البرد، فبردها يذكر بزمهرير جهنم، وحرها يذكر بحر جهنم، فإن جهنم والعياذ بالله حافلة بكل أنواع الآلام، مما لم يخطر على قلب بشر، وليس في الدنيا من آلامها سوى الأسماء، حتى نار الدنيا إنما هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم والعياذ بالله، فبعض المناطق الاستوائية المعروفة بشدة الحرارة، يجد الناس فيها من الحر الشديد ما ينبغي أن يكون تذكرة لهم بنار جهنم. أهل النار كما يعذبون بشدة الحرارة كذلك يعذبون بشدة البرودة، فالزمهرير هو تعذيب بالبرد الشديد الذي يؤلم غاية الألم. كذلك هناك بعض البقاع تذكر بالنار كالحمام، والحمام في مصطلح السلف غير ما هو في مصطلحنا الآن، فقد كانت هناك حمامات عامة تسخن فيها المياه؛ لأنه لم يكن عندهم وسائل لتسخين المياه في البيوت، فكانوا يسخنون في الحمام ليتنظف الناس ويغتسلون. قال أبو هريرة: نعم البيت الحمام؛ يدخله المؤمن فيزيل به الدرن ويستعيذ بالله فيه من النار! يعني: أن من فوائده أن من دخله تذكر عذاب النار. وكان السلف يذكرون النار بدخول الحمام، فيحدث لهم ذلك عبادة كما تقدم خبر صلة بن أشيم. ودخل ابن وهب الحمام فسمع تالياً يتلو: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] فغشي عليه. وكان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول: يا بر يا رحيم! مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم. وصب بعض الصالحين على رأسه ماءً من الحمام فوجده شديد الحر فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19]. فكل ما في الدنيا يدل على صانعه ويذكر به ويدل على صفاته، فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم خالقه وفضله وإحسانه وجوده ولطفه، وما فيها من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه وبطشه وقهره وانتقامه، ولا شك أن اختلاف أحوال الدنيا من حر وبرد وليل ونهار، هي أمارات على انقضائها وزوالها. أما الأزمان التي تذكر بالنار فلا شك أن وقت شدة الحر أو البرد يذكران بما في جهنم من الحر والزمهرير، قد بين الحديث الصحيح الذي ذكرناه أن ذلك من تنفس النار: (اشتكت النار إلى الله سبحانه وتعالى فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر فهو نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما تجدون من البرد فهو نفس من أنفاس جهنم).

تفسير قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد)

تفسير قوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) قال الله تبارك وتعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]. (يوم) فيه قولان: القول الأول: أنه منصوب بظلام، أي: وما أنا بظلام للعبيد يوم نقول لجهنم إلخ. الثاني: أنه منصوب بمضمر تقديره: اذكر يوم نقول لجهنم، أو: أنذر يوم نقول لجهنم. ((وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ))، قال ابن جرير: فيه لأهل التأويل قولان: الأول: أن معناه: ما من مزيد. فعن مجاهد قال: وعدها الله ليملأنها فقال: هلا وفيتك؟ قالت: وهل من مسلك؟ وذلك بقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]. أي: فوعدها الله ليملأنها؛ فقال بعدما ألقي فيها أهلها: هلا وفيتك؟ فتقول: وهل من مسلك؟ أي: قد امتلأت بالفعل. فالاستفهام إنكاري على هذا ومعناه النفي، وتؤيده بآية: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) والقرآن يفسر بعضه بعضاً. القول الثاني: أن المعنى: زدني زدني، وعلى هذا يكون الاستفهام تقريرياً، دلالة على سعتها بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو، فكأنها تطلب الزيادة. والفريق الذي يذهب إلى المذهب الثاني ورد عليه اعتراض من أصحاب القول الأول وهو أن هذا التفسير يتعارض مع قوله تعالى: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). فأجاب الفريق الثاني بأن المقصود أن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها، وإن كان فيها فراغ كثير، كما تقول: إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية، مع ما بينها من الأبنية والأغطية، أو أن هذا باعتبار الحالين، فالفراغ في أول دخول أهلها فيها، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ.

حقيقة إدراك الجنة والنار وتكلمهما

حقيقة إدراك الجنة والنار وتكلمهما قال الناصر في الانتصار: إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك، وكيف نؤول وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك منها هذه الآية: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)). ومنها: لجاج الجنة والنار واختصامهما كما في الحديث. ومنها: اشتكاؤها إلى ربها فأذن لها بنفسين. وهذه النصوص يجب حملها على حقائقها؛ لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وقد وقع مثل هذا قطعاً في الدنيا، كتسليم الشجر، وتسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة لاتسع الخرق، وضل كثير من الخلق عن الحق. فنذكر هنا بما كنا قد ناقشناه من الأدلة عند الكلام على عبودية الكائنات: فمن الأدلة التي تؤيد ما ذكرناه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين! وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغبرتهم! فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) متفق عليه. ولا شك أن هذا الحديث فيه بيان أن الجنة والنار يعرفان ربهما، وأن في الجنة والنار إدراكاً وتمييزاً بحيث يتحاجان ويكلمان ربهما عز وجل. وأيضاً في الحديث الذي ذكرناه (اشتكت النار إلى ربها وقالت: رب أكل بعضي بعضاً) فيه أن النار لها لسان بل لها أذنان وعينان كما في هذه الآية: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) فهذا واضح في ذلك. وبين الله سبحانه وتعالى أن للنار إدراكاً، وأنها تتغيظ حنقاً على الكافرين، يقول تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] فقوله: ((إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ))، يدل على حدة بصر النار. ويقول تبارك وتعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:7 - 8]. وكذلك الجنة فيها إدراك، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: لـ علي وعمار وسلمان) رضي الله تعالى عنهم أجمعين. أيضاً نار الدنيا لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله تعالى، ولا أدل على ذلك من قول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ} [الأنبياء:86 - 87] فخاطب الله عز وجل النار، فهذا دليل على أنها تدرك وتفهم الخطاب. كذلك كانت عادة الأنبياء في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها، فيكون ذلك علامة على قبولها وعدم الغلول، فعن أبي هريرة رضي الله عنه الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء) إلى أن قال في الحديث: (حتى فتح الله عليه، قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه، فلصقت يد رجل فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة فقال: فيكم الغلول! فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه في المال وهو في الصعيد فأقبلت النار فأكلته) وهذا رواه مسلم فهذا أيضاً يدل على أنها تدرك، وأنها تعرف أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فهذه النصوص جزء من كثير من الأدلة التي تؤيد المذهب الحق، وأمثال هذه النصوص ينبغي حملها على حقيقتها، وعدم الاعوجاج إلى القول بالمجاز.

كلام الشنقيطي على آية: (يوم نقول لجهنم)

كلام الشنقيطي على آية: (يوم نقول لجهنم) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)). قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع وشعبة عن عاصم، ((يَوْمَ نَقُولُ)) بالنون الدالة على العظمة، وقرأ نافع وشعبة: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ)) وعلى قراءتهما فالفاعل ضمير يعود إلى الله. واعلم أن الاستفهام في قوله: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) فيه للعلماء قولان معروفان: الأول: أن الاستفهام إنكاري، كقوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47]، أي: ما يهلك إلا القوم الظالمون، وعلى هذا فمعنى: (هل من مزيد) أي: لا محل للزيادة لشدة امتلاء النار، واستدل بعضهم لهذا الوجه بآيات من كتاب الله، مثل قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]. وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]. وقال تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:84 - 85]. وقال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:7]. فإقسام الله تعالى في هذه الآيات المدلول عليه بلام التوطئة فيه دليل على أنها لا بد أن تمتلئ، ما دام الله قد أقسم ليملأنها، فلا بد أنها سوف تمتلئ بالفعل، ولذلك قالوا: إن معنى: هل من مزيد؟ أي: لا مزيد؛ لأنها قد امتلأت وليس هناك محل للمزيد. وأما القول الآخر: فهو أن المراد بالاستفهام في قول النار: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) زدني، وأنها تطلب الزيادة، وأنها لا تزال كذلك حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، أي: كفاني قد امتلأت، وهذا الأخير هو الأصح. والعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يرجح هذا القول الأخير؛ لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جهنم لا تزال تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط، قط) والتصريح بقولها: (قط، قط) أي: كفاني قد امتلأت، وأما قولها قبل ذلك: هل من مزيد؟ فلطلب الزيادة، يعني: قبل أن نصل إلى الغاية. وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات، فينبغي أن نسلك فيه مسلك السلف الصالح رحمهم الله تعالى في مثل هذه النصوص، من أنها تمر كما جاءت بلا كيف، فيثبت الوصف، لكن نفوض علم الكيفية إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. واعلم أن قول النار في هذه الآية: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) قول حقيقي ينطقها الله به. وزعم بعض أهل العلم أنه كقول الشاعر: امتلأ الحوض فقال قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني فبعض العلماء استند إلى هذا البيت من الشعر كشاهد على أن قول النار: هل من مزيد؟ يفهم من حالها وليس نطقاً حقيقياً تنطق به النار. وهذا خلاف التحقيق كما أشرنا، فالراجح أن قولها: هل من مزيد؟ على الحقيقة.

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد)

تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) قال الله تبارك وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]. قوله تعالى: (غير بعيد) فيه معنى التوكيد، كما قال الله سبحانه وتعالى {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13]، وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] أي: قربت وأدنيت. ((لِلْمُتَّقِينَ)) أي: للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. ((غَيْرَ بَعِيد)) أي: مكاناً غير بعيد، فهو صفة للظرف قام مقامه، أو حال من الجنة، أي: أن الجنة تكون غير بعيدة، والتذكير في هذه الحالة لأنه صفة لمذكر. أي: في غير القرآن يقال: غير بعيدة، أي: حال من الحنة في كونها غير بعيدة، لكن ذكر لأنه صفة لمذكر فقال: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)) أي: شيئاً غير بعيد. أو تؤول الجنة على أنها بستان غير بعيد، أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث، فعومل معاملته وأجري مجراه، وعلى كل الأحوال فقوله: ((غَيْرَ بَعِيد)) للتأكيد، ودفع التجوز، فلا يقال: إن كلمة: ((أُزْلِفَتِ)) تغني عن التعبير بغير بعيد.

تفسير قوله تعالى: (هذا ما توعدون ولدينا مزيد)

تفسير قوله تعالى: (هذا ما توعدون ولدينا مزيد) قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:32 - 35]. ((هَذَا)) أي: الثواب، أو هذا الإزلاف والتقريب. ((مَا تُوعَدُونَ)) أيها المتقون. ((لِكُلِّ أَوَّابٍ)) أي: راجع عن معصية الله إلى طاعته تائب من ذنوبه. ((حَفِيظٍ)) أي: حافظ لفرائض الله وما ائتمنه الله سبحانه وتعالى عليه. وإعراب ((لِكُلِّ)) بدل من ((لِلْمُتَّقِينَ)) بإعادة حرف الجر، والمعنى: وأزلفت الجنة للمتقين لكل أواب حفيظ. ((مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)) أي: خاف الله سبحانه وتعالى في سره. ((وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)) أي: جاء ربه بقلب تائب من ذنوبه راجع مما يكرهه الله تعالى إلى ما يرضيه. ((ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ)) أي: يقال لهم: ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهم والحزن والخوف. ((ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ)). قوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا)) أي: مما تشتهيه نفوسهم وتلذه عيونهم. ((وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) أي: مما لا يخطر على بالهم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ((لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد)): قال بعض العلماء: المزيد النظر إلى وجه الله الكريم، ويستأنس لذلك بقوله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، لأن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا)

تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً) قال تبارك وتعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36]. ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ)) أي: قبل هؤلاء المشركين من قريش. ((مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا)) أي: قوة كعاد وفرعون وثمود. ((فنقبوا في البلاد)) أي: فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها، قال امرؤ القيس: لقد نقبت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب أي: أكثرت الطواف والمشي في نواحي الأرض حتى شق علي ذلك، وصرت أرى الرجوع إلى أهلي من غير ظفر ولا فائدة غنيمة. هنا احتمالان في قوله تعالى: ((فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)) الاحتمال الأول: أن تكون واو الجماعة عائدة إلى (قرن) أي: هؤلاء القرون الماضية نقبوا في البلاد وضربوا فيها وطافوا أقاصيها. وعليه فمعنى ((هل من محيص)) أي: هل كان نفوذهم في البلاد مانعاً عنهم الهلاك الذي وعدوا به لتكذيبهم الحق. والاحتمال الثاني: أن الواو عائدة إلى مشركي مكة، أي: قبل مشركي مكة، أي: أن مشركي مكة ساروا في أسفارهم في بلاد هؤلاء القرون الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم؟! قال ابن جرير: وقرأت القراء قوله: ((فنقبوا)) بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم، وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك (فنقِبوا) بكسر القاف، على وجه التهديد والوعيد، أي: طوفوا في البلاد، وترددوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)

تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]. ((إن في ذلك)) أي: في إهلاك القرون التي أهلكت من قبل قريش. ((لذكرى لمن كان له قلب)) أي: لتذكرة يتذكر بها من كان له عقل من هذه الأمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم؛ خوفاً من أن يحل به مثل الذي حل بهم من العذاب. ((أو ألقى السمع)) أي: أصغى لإخبارنا إياه عن هذه القرون التي أهلكناها. ((وهو شهيد)) أي: حاضر القلب، متفهم لما يخبر به عنهم غير غافل ولا ساه. هذا على أن (شهيد) من الشهود وهو الحضور، والمراد به المتفطن؛ لأن غير المتفطن كالغائب، فيمكن أن يسمع الكلام لكنه ساه لاه غافل عن معانيه، فاشترط أمرين: أن يلقي السمع وهو حاضر الذهن متفهم متفكر. وقيل: (أو شهيد) من الشهادة، والمراد شاهد بصدقه، أي مصدق له. وقيل: (شهيد) كناية عن المؤمن؛ لأن الذي ينتفع به المؤمن المصدق له. أما قوله: ((أو ألقى)) قيل: إن (أو) هنا لتحصيل المتذكر المشتق الذي يحصل منه التذكرة والانتفاع بالموعظة، والمتذكر نوعان: إما تال، وإما سامع، قمن كان له قلب هو التالي، ومن ألقى السمع وهو شهيد هو السامع. أو إلى فقيه ومتعلم، فقوله: ((لمن كان له قلب)) هو الفقيه، ((أو ألقى السمع وهو شهيد)) هو المتعلم، أو غلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده، وقاصر محتاج للتعلم، فيتذكر إذا أقبل بكليته وأزال الموانع بأسرها. وفي تنكير القلب وإبهامه تفخيم وإشعار بأن كل من له قلب لا يتفكر ولا يتدبر كمن لا قلب له.

كلام ابن القيم على آية: (إن في ذلك لذكرى)

كلام ابن القيم على آية: (إن في ذلك لذكرى) وفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الفوائد) تفصيلاً رائعاً في قوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) يقول رحمه الله تعالى: فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم، وكيف تفتح ذراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى، وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة، بما تكون تذكرة لمن كان له قلب، فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه، ولو مرت كل آية. ومرور الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم ومرورها على من لا بصر له، فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فإنه يراها. فآيات الله إما آيات تنزيلية وإما آيات تكوينية، أما الآيات التنزيلية فهي آيات القرآن الكريم الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرنا بتدبره، وأما الآيات التكوينية فهي الأدلة التي بثها الله في السماوات وفي الأرض وفي المخلوقات لتدل الخلق على ربهم، كما قال الشاعر: تأمل صنوف الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل. فنحن أمرنا بتدبر هذين النوعين من الآيات، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أنزل علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]) إلى آخر السورة، فهنا جمع بين النوعين من الآيات؛ لأنها آيات قرآنية نحن مطالبون بالتفكر فيها، وأما الجانب التطبيقي فهو أن نتفكر بالفعل فيما يمر علينا من آيات الله التي بثها، لنراها ونتوصل من خلالها إلى عظمة الله وكماله وجلاله وتوحيده. وقال تبارك وتعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:17 - 18] إلى آخر الآيات، بل في القرآن ما يدل على أن التفكر في هذه المخلوقات واجب وفريضة محكمة قال عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، هذه صيغة أمر، والأمر ظاهره الوجوب، أي: يجب على كل إنسان أن يتأمل في خلقه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5 - 6] إلى آخر الآيات. فمن عدم القلب الواعي عن الله فإنه ستمر به ألفاظ القرآن دون أن يتدبر فيها ودون أن يتأمل فيها، فهو لم ينتفع بالآيات التي تمر عليه؛ لأنه عطل قلبه وصار كشخص لا قلب له، فتمر عليه آيات القرآن أو الآيات الآفاقية، أو الآيات التي في أنفسنا؛ لكنه غافل لاه عن التفكر فيها. ثم يقول: ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين: أحدهما: أن يحضره ويشهد بما يلقى إليه، فإن كان غائباً عنه مسافراً في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به، فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويفضي بكليته إلى ما يوعظ به ويرشد إليه. إذاً هنا ثلاثة أمور: أحدها: سلامة القلب وصحته وقبوله. الثاني: إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق. الثالث: إلقاء السمع وإصغاؤه والإقبال على الذكر. فذكر الله تعالى الأمور الثلاثة في هذه الآية: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) فقوله: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) أي: كان له قلب سليم وقابل للحق. ((وَهُوَ شَهِيدٌ)) أي: أنه يحضر قلبه ويجمعه ويمنعه من الشرود والتفرق والتشتت، ثم يصغي بسمعه ويقبل على الذكر. قال ابن عطية: القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله، والمعنى: لمن كان له قلب واع ينتفع به. وقال الشبلي: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين. وقوله: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) معناه: صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وأثبتها في سمعه، فذلك إلقاء له عليها، ومنه قوله {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، أي: أثبتها عليك. ((وَهُوَ شَهِيدٌ)) قال بعض المتأولين: معناه: وهو شاهد مقبل على الأمر غير معرض عنه ولا يفكر في غير ما يسمع. وقال قتادة: هي إشارة إلى أهل الكتاب. فكأنه قال: إن هذه العبر تذكرة لمن سمعها من أهل الكتاب، فيشهد بصحتها لعلمه بها من التوراة وسائر كتب بني إسرائيل فهو منالشهادة، كما قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10]. وقال الزجاج: معنى: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) أي: من صرف قلبه إلى التفهم، ألا ترى أن قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] أنهم لم يستمعوا استماع مستفهم مسترشد، فجعلوا بمنزلة من لم يسمع. كما قال الشاعر: أصم عما شاءه سميعه ومعنى: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ)) أي: استمع ولم يشغل قلبه بغير ما يستمع، والعرب تقول: ألق إلي سمعك أي: استمع لي.

حال الناس مع آيات الله ومع الرياضة والفن

حال الناس مع آيات الله ومع الرياضة والفن للأسف الشديد تجد الذين يمكثون أمام مباراة كرة القدم، أو التمثيلية لو صاح طفل أو حرك رجليه أو سعل أو كح أو تكلم بكلام، تراهم يسكتونه ويصمتونه وينكرون عليه، بحيث لا تفوت عليهم كلمة واحدة من المتكلم أو اللاعب، لكن لو أننا ونحن نتلو القرآن كنا بهذا الحضور وهذا الحرص على إلقاء السمع لكل كلمة تقال، لتغير حالنا تماماً مع كتاب الله سبحانه وتعالى ومع آيات الله، فنتذكر هذا الكلام المؤلم، ونتذكر كذلك كلمة موجعة قالها بعض السلف رحمه الله: رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله! الذي يكون له نعل غالي الثمن يحتاط لهذا النعل، وإذا وضعه في مكان جعل يحرسه من أن يضيع أو يسرق، أما الدين فإنه يفرط في دينه ولا يبالي، وينتهك حرمات الله عز وجل ولا يبالي! فمما يؤسف له أننا نحتاج في هذا الزمان إلى تذكير بهذه المذكرات الموجعة المؤلمة التي تقرب المعنى إلى الأذهان، فقد ولع الناس بالتمثيليات وبمباراة كرة القدم وغير ذلك، انظر كيف يكون سلوكهم أثناء الاجتماع للتمثيلية أو الفلم أو المباريات، خاصة في اللحظات الحاسمة التي سيحرز فيها الهدف أو يفعل فيها كذا وكذا؟! استحضر كيف يكون خشوعهم وإنصاتهم! بل أحيانا ولا حول ولا قوة إلا بالله يرفعون أيديهم إلى السماء وتهتف الجماهير: يا رب! يا رب! كأنما يدعون بفتح بيت المقدس أو باستعادة فلسطين؟! ففي ساحات اللعب واللهو يستغيثون بالله سبحانه وتعالى، والمسلمون كما ترون مشردون في آفاق الأرض يعانون الويلات ويعذبون في الشيشان وغيرها، ونحن نهتم بهذه الأشياء ونقول: يا رب! يا رب! وبعضهم يصاب بالسكتة والآخر يطلق زوجته كل هذا بسبب هذه الأشياء، فالشاهد أننا نقرب المثل فقط، انظروا كيف نحن مع هذه المواقف وحالنا حينما نتلو كتاب الله تبارك وتعالى. لنتأمل هذه الآية: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) ليس المقصود أن يكون له مجرد قلب؛ لأنه ما من إنسان إلا وله قلب، لكن المقصود أن يكون له قلب يفهم به ويعي به ويعقل به؛ لأن القلب هو محل الوعي والفهم {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] فلما عطلوا حواسهم عن الانتفاع بها فيما خلقت لأجله صاروا كالأنعام، صم بكم عمي فهم لا يعقلون. فهل حالنا مع القرآن ومع كلام الله يستوي مع حالنا أثناء المباريات وهذه التفاهات؟! إذاً الحال يغني عن المقال. ((أو ألقى السمع)) أي: ألقى بكل حاسة السمع، فكأنه حملها وألقاها على هذا الشيء فقط، كي يستمع إليه ولا يشتغل قلبه بغير ما يستمع له.

حال الناس مع الخشوع في الصلاة

حال الناس مع الخشوع في الصلاة وكذلك يكثر السؤال عن الخشوع في الصلاة؟ فنقول لمن يسأل: هل رأيت عند إحراز هذه الانتصارات والبطولات الوهمية كيف يخشع الناس؟ وكيف تكون أنت -إن كنت ممن ابتلي بمتابعة هذه الأشياء- في أشد الحرص على المتابعة والتركيز والانتباه وحضور القلب والحذر؟! هكذا فكن في الصلاة. لو أن الإنسان ركز في الصلاة بنفس التركيز الذي يقوم به وقت اللعب لفوت على الشيطان الوساوس، لذلك لما جاء رجل إلى بعض السلف وقال له: أنا كلما أريد أن أسلم من الصلاة لا أستطيع أبداً أن أنطق بالسلام عليكم ورحمة الله، قال له: قلها كما تقولها الآن! فيركز الإنسان حتى ينجو من هذه الوساوس.

تفسير: (وهو شهيد) وذكر الخلاف فيه

تفسير: (وهو شهيد) وذكر الخلاف فيه قوله: ((وهو شهيد)) أي: شهيد قلبه حينما يسمع بأذنه، وقلبه حاضر حتى يعي ما يسمعه. وجاء في التفسير أن المقصود بقوله: ((وهو شهيد)) أهل الكتاب الذين عندهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي حكاه ابن عطية عن قتادة. وذكر أن شهيداً بمعنى شاهد، أي: مخبر. وقال صاحب الكشاف: ((لمن كان له قلب)) أي: قلب واع؛ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له، وإلقاء السمع الإصغاء. ((وهو شهيد)) أي: حاضر بفطنته؛ لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب، أو هو مؤمن شاهد على صحته وأنه وحي من الله، وهو بعض الشهداء، كما في قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]. اختلف في الشهيد على أربعة أقوال: أحدها: أنه من المشاهدة وهي الحضور. وهذا أصح الأقوال، ولا يليق بالآية غيره، وذلك كما في الحديث: (اللهم! اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا) فـ (شاهدنا) معناها: حاضرنا. والثاني: أنه شهيد من الشهادة. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شاهد على صحة ما معه من الإيقان. والثاني: أنه شاهد من الشهداء على الناس يوم القيامة. والثالث: أنها شهادة من الله عنده على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما علمه من الكتب المنزلة. والصواب القول الأول بأنه من المشاهدة، فإن قوله: ((وهو شهيد)) جملة حالية، والواو فيها واو الحال، أي: ألقى السمع في هذه الحال. وهذا يقتضي أن يكون حال إلقائه السمع شهيداً، فإذاً لابد أن تكون الشهادة بمعنى المشاهدة والحضور. ولو كان المراد به الشهادة في الآخرة أو في الدنيا لما كان لتقييدها بإلقاء السمع معنى إذ يصير معنى الآية: إن في ذلك لآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع حال كونه شاهداً بما معه في التوراة، أو حال كونه شاهداً يوم القيامة. ولا ريب أن هذا ليس هو المراد بالآية. وأيضاً فالآية عامة في كل من له قلب أو ألقى السمع، فكيف يدعى تخصيصها بمؤمني أهل الكتاب؟ وأيضاً فالسورة مكية، والخطاب فيها لا يجوز أن يختص بأهل الكتاب، ولاسيما مثل هذا الخطاب الذي علق فيه حصول مضمون الآية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع.

أنواع المنتفعين بالآيات من الناس حال دعوتهم إليها

أنواع المنتفعين بالآيات من الناس حال دعوتهم إليها يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: المنتفع بالآيات من الناس نوعان: أحدهما: ذو القلب الواعي الذكي الذي يكتفي بهدايته بأدنى تنبيه، ولا يحتاج إلى أن يستجلب قلبه ويحضره ويجمعه من مواضع شتاته، بل قلبه واع ذكي قابل للهدى غير معرض عنه، فهذا لا يحتاج إلا إلى وصول الهدى إليه؛ لكمال استعداده وصحة فطرته، فإذا جاءه الهدى سارع قلبه إلى قبوله كأنه كان مكتوباً فيه، فهو قد أدركه مجملاً ثم جاء الهدى بتفصيل ما شهد قلبه بصحته. وهذه حال أكمل الخلق استجابة لدعوة الرسل، فأول ما يصل الحق ينقاد إليه، كما هي حال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه. وكحال مؤمني قوم نوح عليه السلام؛ لأنَّه في سورة هود قال المشركون لنوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27]، فكانوا يذمون المؤمنين المستضعفين الذين اتبعوا نوحاً عليه السلام، فذموهم لأنه استجابوا أول ما دعاهم نوح عليه السلام، فذموهم بقولهم: ((وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ)) [هود:27]، فما أن سمعوا كلامك حتى انقادوا لك. فهم يذمونهم؛ لأنهم لم يتمهلوا، ولم يتريثوا ويفلسفوا الأمور ويقلبوها على وجوه شتى. وهذا مما لا يذم به، بل هذا مما يمدح به الإنسان، أنه إذا وضح الحق ينقاد إليه بلا تأجيل ولا تكييف، فهذا حال أكمل المؤمنين من أتباع الأنبياء الذين يستجيبون فوراً لدعوة الرسل، كما هو حال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، فقد أسلم بمجرد أن أخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته، فهذا هو النوع الأول. فالنوع الأول قلبه متوائم مع الفطرة، فهو في غاية السلامة، فلا يحتاج إلا أن يصل إليه الهدى فقط، فإذا بلغه الحق انقاد إليه في الحال، وهذا حال كثير من الناس، ورأينا وسمعنا أن كثيراً من الكفار أسلم كذلك؛ لأن قلبه في غاية السلامة، وكأن الحق منقوش في قلبه، ويجيء الهدى فيسلط النور على هذا القلب. وأذكر قصة أحد الإخوة الأفاضل من أمريكا يدعى إدريس دارمر، وهو من أنشط الإخوة في الدعوة في تلك البلاد. وقصة إسلامه في غاية العجب، فقد جال كل أنواع الظلام من الأديان، كان أولاً شيوعياً ملحداً، ثم انتقل إلى النصرانية، ثم رفض النصرانية وانتقل إلى الأديان الشرقية كالبوذية ودرسها، وحاول أن يبحث عن الهدى فيها فلم يجد شيئاً، إلى أن زار يوماً جاراً له مسلماً في البيت فسأله: ما هذا الكتاب؟ قال: هذا القرآن، فأخذ ترجمة القرآن وفتح الصفحة الأولى على فاتحة الكتاب، فبمجرد أن فتح الصفحة وجد نوراً يخرج الكتاب، ثم قرأ الفاتحة فقال: هذا هو الذي أبحث عنه! وهذا وقد قرأ معاني الفاتحة، فكيف لو قرأها بالعربية؟ وقد أسلم في الحال، وهو الآن من أكبر الدعاة، وله مؤلفات جيدة وخدمة كبيرة جداً للدعوة في كثير من البلاد. فما كان بينه وبين الحق غير أن يطلع على الحق، ولذلك ينبغي أن لا نعامل الناس معاملة واحدة، فلا نزعجهم بالكلام على نقض التكليف وتحطيم العقائد الفاسدة؛ إذ بعض الناس هو في عافية من هذا البلاء، ليس عنده شبهات ولا عنده ما يعارض به الحق، فما أن يبلغه الحق حتى ينقاد إليه، هذا هو الذي قال الله فيه: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ)). النوع الثاني: من ليس له هذا الاستعداد والقبول، فإذا ورد عليه الهدى أصغى إليه بسمعه وأحضر قلبه، وجمع فكرته عليه، وعلم صحته وحسنه بنظره واستدلاله، وهذه طريقة أكثر المستجيبين، ولهم نوع ضرب الأمثال وإقامة الحجج، وذكر المعارضات والأجوبة عنها. والإسلام واسع لكلا الفريقين، فنحن عندنا من الأدلة والحجج ما يدحض الشبهات ويقيم الأدلة على أنه دين الحق، فلهذا النوع الثاني تضرب الأمثال، ولهؤلاء تقام الحجج وتذكر المعارضات والأجوبة عنها. والأولون هم الذين يدعون بالحكمة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]. والنوع الثاني يدعون بالموعظة الحسنة، فهؤلاء المستجيبون.

المعارضين للحق المدعوين إليه

المعارضين للحق المدعوين إليه وأما المعارضون المدعوون للحق فنوعان: نوع يدعون بالمجادلة بالتي هي أحسن، فإن استجابوا وإلا فالمجالدة بالحجة والبيان، فإن لم فبالسيف والسنان. ومن تأمل دعوة القرآن وجدها شاملة لهؤلاء الأقسام متناولة لها، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، أي: ((لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ))، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، أي: ((أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ))، {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وهذه طريقة دعوة المعارضين للحق. والصنفان الأولان مستجيبان للحق. فهؤلاء المدعوون بالكلام، وهم ثلاثة أقسام: بالحكمة لمن كان له قلب. والموعظة الحسنة لمن ألقى السمع وهو شهيد. أو المعارض للحق الذي يجادل بالتي هي أحسن. وأما أهل الجلاد فهم الذين أمر الله بقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وأما من فسر الآية بأن المراد بمن كان له قلب هو المستغني بفطرته عن علم المنطق، وهو المؤيد بقوة قدسية ينال بها الحد الألطف بسرعة إلى آخر هذا الكلام. فقد فسر بعض الناس: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ))، فقالوا: هي القياس البرهاني. ((وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)) [النحل:125]، القياس الخطابي ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) هو القياس الجدلي. يقول ابن القيم: فهذا ليس من تفاسير الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة التفسير، بل ولا من تفاسير المسلمين، وهو تحريف لكلام الله تعالى وحمل له على اصطلاح المنطقية المبخوسة الحظ من العقل والإيمان، وهذا من جنس تفاسير القرامطة والباطنية وغلاة الإسماعيلية بما يفسرونه من القرآن وينزلونه على مذاهبهم الباطلة، والقرآن بريء من ذلك كله، منزه عن هذه الأباطيل والهذيانات.

أنواع القلوب مع آيات الله تعالى

أنواع القلوب مع آيات الله تعالى ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه؛ لأن الآية في حق من كان له قلب حي واع، فالذي قلبه ميت لا يدخل في الآية. الرجل الثاني: رجل له قلب حي مستعد؛ لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة، إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب ليس حاضراً، فهذا أيضاً لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه. وهذا حال كثير من الكفار. والثالث: رجل حي القلب مستعد، تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمع، فهو شاهد القلب ممكن السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة. فالأول الذي هو صاحب القلب الميت بمنزلة الأعمى الذي لا يذكر. والثاني له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات لسبب أو لآخر، فهو بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يرى. أما الثالث: فرجل حي القلب مستعد، أصغى بسمعه وأحضر قلبه ولم يشغل قلبه إلا بفهم ما يسمعه، فهذا بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يرى، فسبحان من جعل كلامه شفاءً لما في الصدور. فإن قيل: فما موضع (أو) من هذا اللفظ بناءً على هذا التفسير، أي: في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}؟ قيل: فيها سر لطيف. ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو كما يقوله ظاهرية النحاة: (وألقى السمع). يقول: فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور، نور الفطرة مع نور الوحي. وهذا كما يقولون في الهندسة: تمام الانطباق. فما في الأمر إلا أنه ينتظر الحق أن يأتي -وهو نور الوحي- على نور الفطرة الذي في قلبه، فيتطابقان تمام الانطباق، ويمتزجان تمام الامتزاج، ويلتقيان أتم التقاء، وهي حالة سليم الفطرة حي القلب. وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيماناً وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد لهم، وهذا يحصل في الحقيقة لمن عوفي ولم يبتل بالفلسفة والجدل والتنطع والحذلقة، وعوفي من شبهات أعداء الدعوة وأعداء الدين. فكثير جداً من الشباب غير ملتزم، فعندما تصله دعوة الحق ينقاد، وعندما يتعود الإنسان على ترك الجدل، تجده ينقاد إلى الحق؛ لأنه الحق ودين الفطرة، فتجد امرأة في غاية التبرج لم تكن قد وصلها الحق ولا الحجة، فبمجرد أن تسمع الأدلة نفاجأ بأنها يمكن أن تنقلب فتعتزل التبرج إلى الاحتجاب الكامل، أي: وهذا يوجد وإن كان قليلاً. وحين نجد الكثير من الفتيات يقلن: لنقتنع أولاً! فهؤلاء قد يكن من النوع الثاني إذا استجبن بعد مجادلة ومناظرة وإقامة للحجة. فإذاً: الشخص الذي له قلب وقاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التفكر والاعتبار، فالقلب أصلاً فيه نور الفطرة سليم، وهذا دين الفطرة، فإذا سمع الآيات كانت له نوراً على نور، كما قلنا من قبل في تفسير سورة النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] يعني: نور الفطرة مع نور الوحي. وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيماناً وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مشاهد لهم، ولكن لم يشعروا بتفصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حال الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم كمثل رجلين دخلا داراً، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته، والآخر وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته، لكن علم أن فيها أموراً عظيمة لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا فسأله عما رأى في الدار، فجعل كلما أخبره بشيء صدقه؛ لما عنده من شواهده، وهذه أعلى درجات الصديقية، ولا تستبعد أن يمن الله المنان على العباد بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حساب.

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام)

تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]. ((وما مسنا من لغوب)) أي: من إعياء أو تعب أو نصب. قال قتادة: أكذب الله اليهود وأهل الفرِى على الله، وذلك أنهم قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السابع. وذلك عندهم يوم السبت، فهم يسمونه يوم الراحة. وهذا معروف من عقائد اليهود، فالله سبحانه وتعالى أكذب اليهود في زعمهم أن الله سبحانه وتعالى لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام مسه -والعياذ بالله- الإعياء والتعب والنصب، فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38].

تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون) ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)) يعني: على ما يقوله المشركون من إنكار البعث والتوحيد والنبوة. يقول ابن القيم في تفسير قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)). تأمل قوله تعالى عقيب ذلك-يعني: بعدما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ - ((فاصبر فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)) فإن أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم نسبوه إلى ما لا يليق، وقالوا فيه ما هو منزه عنه، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق. فكما كانوا يؤذون النبي عليه الصلاة والسلام بكلام مؤذٍ كقولهم: ساحر، شاعر، مجنون إلى آخره، فالله سبحانه وتعالى يقول: أما لك فيَّ أسوة؟ فأنا رب السماوات والأرض وخالق الكون، ومع ذلك آذاني هؤلاء الخلق وسبوني ونسبوا إلي ما أنا منزه عنه. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] خلافاً لما يقول أعداء الله اليهود، فاصبر على ما يقولون في حقك كما أصبر أنا على ما يقولون في حقي وأحلم عنهم، كما قال الشاعر: قيل إن الله ذو ولد قيل إن رسول الله قد كهنا لم يسلم الله والرسول معاً من كلام الورى فكيف أنا

تفسير قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك وأدبار السجود)

تفسير قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك وأدبار السجود) قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39 - 40]. وللعلماء كلام فيه تفصيل في قوله: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ))، فمنهم من يرى أنها تشمل الصلوات الخمس، ومنهم من أدخل فيها النوافل. ولكن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يقول في هذه الآية: ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)): هذا تفسير ما جاء في الأحاديث (من قال كذا وكذا حين يصبح وحين يمسي) أن المراد به قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وأن محل هذه الأذكار بعد الصبح وبعد العصر بدليل هذه الآية. يعني أن لفظ (من قال حين يصبح) ولفظ: (من قال حين يمسي) قد تكرر كثيراً في الأحاديث، وكذلك (كان إذا أصبح قال كذا)، (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت). فنفهمها في ضوء هذه الآية ((وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ))، فيكون وقت أذكار الصباح قبل طلوع الشمس، أي: بعد صلاة الفجر، فيبدأ أولاً بالفريضة ثم بعد ذلك يأتي بأذكار الصباح ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فهذا هو وقتها. ((وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)) هذا هو المساء، أي: بعد صلاة العصر وقبل غروب الشمس. وهل معنى ذلك أن الإنسان إذا فاتته أذكار الصباح أو المساء بأن طلعت الشمس أو غربت الشمس يكون قد فاته وقتها فلا يستدركها؟ A لا. فهذه قلة فقه، بل إذا فاته ورده -مثلاً- حتى غربت الشمس فلا يترك ذلك، وإنما يقضي هذه الأذكار؛ لأنه ما زال في وقت المساء، فالمساء يكون من بعد العصر وهو العشي وأوقات الأصيل، فإذا فاته شيء فإنه يستدركه في الوقت اللاحق في أي جزء من أجزاء الليل؛ لأن الإنسان إذا فرط في قضاء ما فاته فسوف يتمادى في التفريط إلى أن يفرط في أداء العبادة في وقتها، لكن إذا عود نفسه أنه إذا فاته ورده استدركه لم يفرط فيه، فمن تعود على أنه كلما فاته شيء فإنه يعوضه ويقضيه في الفرصة المتاحة، فهذا أجدر أن يحافظ عليه في وقتها، لكن إذا تهاون في قضاء ما فاته فإنه قد يتمادى في التسويف والتفريط إلى أن يضيع العبادة في وقتها نفسه، فلا يأتي بعد ذلك بأذكار الصباح في وقتها، ولا بعد وقتها. وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، أي يخلف أحدهما الآخر، فالليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل، فمن فاته عمل الليل فقد جعل الله النهار خلفة له فيعوض ما فاته بالليل، وهكذا. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ)) يعني: أعقاب الصلوات، والمراد بالتسبيح إما ظاهره كقولك: سبحان الله وبحمده. أو هو الصلاة؛ لأن الصلاة يطلق عليها تسبيح، من إطلاق الجزء على الكل، كما تسمى الصلاة ركوعاً، فأحياناً يطلق الجزء على الكل. فالصلاة قبل الطلوع: الصبح، وقبل الغروب: الظهر والعصر، ومن الليل: العشاءان المغرب والعشاء، والتهجد أيضاً يدخل في ذلك. وأدبار السجود: النوافل بعد المكتوبات. هذا على القول بأن التسبيح مقصود به الصلاة، وأنه من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. وقد يطلق التسبيح على النافلة كما في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة، ولم يسبح بينهما شيئاً. فقوله: (لم يسبح بينهما) يعني: لم يتنفل. وكذلك قول ابن عمر: (لو كنت مسبحاً لأتممت)؛ لأنه كان لا يصلي النوافل في السفر، فقيل له في ذلك فقال: (لو كنت مسبحاً -أي: لو كنت متنفلاً- لأتممت الصلاة)، أي: فالأولى أن أُتم الفريضة. ولاشك أن قوله ذلك يقصد به النوافل ما عدا الوتر وركعتي الفجر.

تفسير قوله تعالى: (واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب ذلك حشر علينا يسير)

تفسير قوله تعالى: (واستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب ذلك حشر علينا يسير) قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44]. أي: استمع لما أخبرك به من أهوال القيامة، يوم ينادي مناديها من مكان يصل نداؤه إلى الكل على سواء. قال: ((وَاسْتَمِعْ)) ولم يبين ما هو الذي يستمع إليه، ثم بينه بما بعده فقال: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] يعني: استمع للصيحة بالحق. وفي ورود الأمر مطلقاً ثم تبيينه بما بعده تهويل وتعظيم للمخبر به؛ لما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتفخيم للفعل المحدث عنه. ((يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ)) أي: صيحة البعث من القبور والحشر للجزاء. ((بِالْحَقِّ)) يعني: بالأمر بالإجابة لله إلى موقف الحساب. ((ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ))، أي: من القبور. ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ)) أي: في الدنيا بإفاضة نور الحياة أو قطعه. ((وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ)) أي: مصير الجميع يوم القيامة. ((يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا)) فيخرجون منها مسرعين، كما قال الله سبحانه وتعالى في تبيين ذلك الموقف: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43]، وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] يعني: يسرعون. وقال تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:7 - 8] يعني: مسرعين مادي أعناقهم على الأصح. وقوله تعالى: ((يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا)) قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر: (تشَّقَّق) بإدغام إحدى التاءين في الشين؛ إذ أصلها (تتشقق). وقرأ الباقون بتخفيف الشين وبحذف إحدى التاءين، (تَشَقَّقُ). ((سِرَاعًا)) جمع سريع، وهو حال من الضمير المجرور في قوله: ((عنهم)) أي: تشقق الأرض عنهم في حال كونهم مسرعين إلى الداعي. والداعي هو الملك الذي ينفخ في الصور ويدعو الناس إلى الحساب والجزاء. ((ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)) أي: ((ذلك)) الإخراج لهم في موقف الحساب ((حشر)) أي: جمع لهم في موقف الحساب ((علينا يسير)) سهل بلا كلفة.

تفسير قوله تعالى: (نحن أعلم بما يقولون)

تفسير قوله تعالى: (نحن أعلم بما يقولون) قال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]. ((نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ))، يعني: بما يقوله مشركو مكة من فريتهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم قدرته تعالى على البعث، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم. ((وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)) أي: بمسلط ومسيطر تقهرهم على الإيمان، كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]. ((وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)) لا تقهرهم على الإيمان. ((فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ)) يعني: بل إنما بعثت مذكراً ومبلغاً فذكر بما أنزل إليك من يخاف الوعيد الذي أوعد به من عصى وطغى فإنه يُنتفع به. ومن دعاء قتادة رحمه الله تعالى: اللهم! اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يا بار يا رحيم. آمين.

الذاريات [1 - 23]

تفسير سورة الذاريات [1 - 23]

تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذروا)

تفسير قوله تعالى: (والذاريات ذرواً) نشرع في تفسير السورة الحادية والخمسين من القرآن الكريم وهي سورة الذاريات، وسميت بالذاريات؛ لأن الذاريات مصدر الخيرات، وبذلك اقتضت العناية الإلهية. وهذه السورة مكية وآيها ستون آية. قال الله سبحانه وتعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1] يعني بذلك: الرياح التي تذرو البخارات ذرواً. ((ذرواً)) أي: نوعاً من الذرو يعقبها سحاب. وقيل: الولود من النساء فإنهن يذرين الأولاد. يعني: كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح. قوله: ((والذاريات)) اسم فاعل من ذرى معتل، بمعنى: فرق وبدد ما رفعه عن مكانه، ويقال أيضاً: أذرى، أما ذرأ المهموزة فبمعنى: أنشأ وأوجد. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: أكثر أهل العلم على أن المراد بقوله:) ((والذاريات ذرواً)) أي: الرياح، وهو الحق إن شاء الله. إذاً: الراجح في تفسير الذاريات أنها الرياح، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] أي: ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة: ومنهل آجن قفر محاضره تذر الرياح على جماته البعرا يقول الشنقيطي: ولا يخفى سقوط قول من قال: إن الذاريات النساء، لكن الراجح أن الذاريات هي الرياح تذرو البخارات ذرواً.

تفسير قوله تعالى: (فالحاملات وقرا)

تفسير قوله تعالى: (فالحاملات وقراً) قال تبارك وتعالى: {فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2] أي: يقسم الله سبحانه وتعالى أيضاً بالسحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت نفسي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا قوله: (له المزن) أي: السحاب. (تحمل عذباً زلالا) أي: السحب تحمل هذه الأمطار. أو ((الحاملات وقراً)) الرياح؛ لأن الرياح حاملات للسحاب، والوقر كالحمل وزناً ومعنى، وقرئ بفتح الواو (وَقراً) على أنه مصدر سمي به المحمول. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((فالحاملات وقراً)) أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقراً السحاب، أي المزن تحمل وقراً ثقيلاً من الماء، ويدل لهذا القول تصريح الله عز وجل بوصف السحاب بالثقال يقول الله سبحانه وتعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد:12] أي: الموقرة المثقلة بالماء الذي تحمله، فالثقال: جمع سحابة ثقيلة، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف:57]. وقال بعضهم: إن المراد بالحاملات وقراً السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم، ولو قال قائل: إن الحاملات وقراً الرياح أيضاً لكان وجهه ظاهراً؛ لأن الرياح تحمل هذه السحب الثقيلة، ودلالة بعض الآيات عليه واضحة؛ لأن الله سبحانه وتعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله، فنسبة حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح، وذلك بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا} [الأعراف:57] يعني: الرياح أقلت سحاباً ثقالاً. فالإقلال هو الحمل وهو مسند إلى الريح، ودلالة هذا على أن الحاملات وقراً هي الرياح ظاهرة كما ترى، ويصح شمول الآية لجميع ما ذكرنا، أي: أن تشمل الآية السحاب نفسه، وتشمل الرياح التي تحمل هذا السحاب، على أساس أن هذا لفظ مشترك، ولا بأس من حمل المشترك على جميع معانيه. أما قول بعضهم: بأن الذاريات ذرواً هي النساء؛ لأنهن يذرين الأولاد، وأن الحاملات وقراً أي: حوامل الأجنة من الإناث فهذا قول ظاهر السقوط.

تفسير قوله تعالى: (فالجاريات يسرا)

تفسير قوله تعالى: (فالجاريات يسراً) قال تعالى: {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:3] أي: السفن الجارية في البحر جرياً سهلاً، الرياح الجارية في مهابها. يقول الشنقيطي: أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسراً السفن تجري في البحر جرياً ذا يسر وسهولة، والأظهر أن هذا المصدر المنجر حال كما قدمنا نشره مراراً، أي: ((فالجاريات يسراً)) يعني: في حال كونها ميسراً ومسخراً لها البحر، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق وصف الجري في القرآن على السفن، كقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32] أي: السفن الجواري اللائي يجرين في البحر، وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] أي: السفينة الجارية وهي سفينة نوح، وقال تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج:65]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} [الجاثية:12] وقيل: ((الجاريات)) الرياح أيضاً، وقيل غير ذلك. وقال بعض المفسرين: إن المقصود بقوله: ((فالجاريات يسرا)) أي: الكواكب التي تجري في منازلها، وكما قلنا: ((يسراً)) إعرابها صفة مصدر محذوف، أي: فالجاريات جرت جرياً ذا يسر.

تفسير قوله تعالى: (فالمقسمات أمرا)

تفسير قوله تعالى: (فالمقسمات أمراً) قال تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] أي: الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة، أو هي الرياح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب. فيمكن أن تكون الأربعة الأشياء المقسم بها هي الرياح، أو أنها أربعة أشياء متباينة تماماً كما بينا، فنلاحظ أن أقوال المفسرين بأنها الرياح قاسم مشترك بين أقوال فريق من العلماء. يقول الشنقيطي في قوله تعالى: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}: هي الملائكة يرسلها الله في شئون وأمور مختلفة، ولذا عبر عنها بالمقسمات، ويدل لهذا قوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5] في سورة النازعات، ((فالمدبرات أمراً)) فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم كما وقع لقوم صالح. فقوله عز وجل: ((أمراً)) هذا مفعول به للوصف الذي هو المقسمات، و ((أمراً)) هنا مفرد أريد به الجمع، ((فالمقسمات أمراً)) أي: فالمقسمات أموراً، كما قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج:5]، فهي مفرد لكن المقصود بها الجمع. أما المقسم عليه بهذه الأقسام فهو قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6]، والذي أوجب هذا القسم شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء.

تفسير القاسمي والرازي للآيات الأربع الأول من سورة الذاريات

تفسير القاسمي والرازي للآيات الأربع الأول من سورة الذاريات يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أموراً متباينة، كما قلنا مثلاً في الذاريات: هي الرياح، وفي الحاملات: هي السحب، وفي الجاريات: هي السفن أو الكواكب، وفي المقسمات: هي الملائكة، ويجوز أن تكون أمراً له أربعة اعتبارات وهو الرياح، والمأثور عن علي رضي الله عنه: (أن الذاريات هي الرياح، والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة) واختار بعضهم في الجاريات أنها الكواكب؛ ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، بحيث تكون الرياح، ثم فوقها السحاب، ثم فوق السحاب الكواكب أو النجوم، ثم فوق كل ذلك الملائكة. واستظهر الرازي أن الأقرب أن تكون الصفات الأربع للرياح، واللفظ متسع لكل هذه المعاني. فإن قيل: إن الصفات الأربع صفات للرياح فإن فائدة الفاء لبيان ترتيب الأمور في الوجود، وإن قيل: إنها أمور أربعة متباينة فالفاء للترتيب الذكري أو حسب الرتبة كما بينا.

بيان الحكمة من إخراج الآيات المقسم عليها مخرج الأيمان

بيان الحكمة من إخراج الآيات المقسم عليها مخرج الأيمان إن الآيات التي أقسم الله تعالى في هذه السورة بها كلها أخرجها في صورة الأيمان، لكن هي في حقيقتها دلائل جديدة على التوحيد، وعلى قدرة الله سبحانه وتعالى التي خلقها، فالقادر على خلق هذه الأشياء قادر على إعادة البشر من جديد. كما يقول القائل لمن أنعم عليه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك وحق إطعامك إياي وحق إمدادك إياي بالمال وحق كذا وكذا، فيظل يعدد النعم التي صورتها صورة أيمان، لكن في الحقيقة هو يعدد هذه النعم؛ لأنها سبب مفيد لدوام الشكر. قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} هذا هو المقسم عليه، فإن قيل: إن كانت هي دليلاً بعد دليل على التوحيد، فما الحكمة أن الله سبحانه وتعالى أخرجها في صورة الأيمان، في حين كونها بحد ذاتها أدلة على المقسم عليه، يقول: لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف كأن يقول: والله ثم والله ثم والله لاشك أن هذا يلفت نظر المستمع لخطورة الكلام الذي سوف يقال، والحقائق التي سوف تذكر، فبالتالي يصغي إليه أكثر من غيره، فبدأ بالحلف وأدرج الدليل في صورة اليمين حتى يقبل القوم على سماعه، فأخرج لهم البرهان المبين والتبيان المتين في صورة اليمين.

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق)

تفسير قوله تعالى: (إنما توعدون لصادق) قال تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] هذا جواب القسم، و (ما) موصولة أو مصدرية. والموعود ((إنما توعدون)) هو قيام الساعة وبعث الموتى من قبورهم، ((لصادق)) أي: لصدق، فوضع الاسم مكان المصدر، أو هو من باب قوله تعالى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] أي: عيشة مرضية. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ}: (ما) موصولة. ((إنما توعدون)) أي: إن الذي توعدون لصادق، لكن إذا قلنا: إن (ما) موصولة فلابد من عائد، والعائد هنا محذوف، فنقول: إنما توعدونه لصادق. إذاً: صلة الموصول العائد هذه الهاء المحذوفة. ((إنما توعدون لصادق)) صادق بمعنى المصدر لصدق، أي: إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه. وقال بعض العلماء: ((إنما توعدون)) (ما) مصدرية، يعني: إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق، وقال بعضهم: إن صيغة اسم الفاعل في ((لصادق)) لم تأت بمعنى المصدر، وإنما بمعنى اسم المفعول. ((إنما توعدون لصادق)) يعني: لمصدوق أو لمصدق، كما قال تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:21] اسم فاعل لكن المقصود به اسم المفعول، يعني: عيشة مرضية. ما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة، كقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، وقوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:134]، وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] والآيات في ذلك كثيرة معلومة.

تفسير قوله تعالى: (وإن الدين لواقع)

تفسير قوله تعالى: (وإن الدين لواقع) قال تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] أي: وإن الجزاء يوم القيامة واقع لا محالة، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، أي: جزاءهم بالعدل والإنصاف، وكقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:40 - 41]. وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء، وبين أن ذلك ظن الكفار، وهددهم على ذلك الظن السيئ بالويل من النار، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]. ومعنى قوله: ((باطلاً)) أي: عبثاً لا لبعث ولا لجزاء. وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، الله سبحانه وتعالى منزه عن العبث ولا يمكن أن يكون خلقكم سدى بلا حساب ولا جزاء، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك)

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الحبك) قال تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7]. يقول القاسمي {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ}: أي: ذات الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب، فالطرق المختلفة هي مدارات الكواكب التي تسير فيها بنظام. قوله: ((الحبك)) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء إذا ضربته الريح، إذا كان هناك ماء ساكن ثم هبت عليه الريح فإنك ترى تموجات صغيرة تتكسر على سطح الماء، هذه الأشياء التي ترسمها الرياح على سطح الماء تسمى الحبك، كذلك الرمال إذا هبت عليها الريح ورسمت فيها التكسرات فهذه أيضاً تسمى الحبك. وكذلك حبك الشعر أثناء تثنيه وتكسره، والحبك: جمع حباك، كمثال ومثل وكتاب وكتب، أو حبيكة كطريقة وطرق، ويقال: ما أملح حباك، وحباك الحمام: وهو سواد ما فوق جناحيه، وعن الحسن في معنى: ((والسماء ذات الحبك)) قال: حبكت السماء بالنجوم؛ وذلك لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى تحبيكه، فالتحبيك بمعنى التزيين. فشبهت النجوم بطرائق الوشي. وقال بعض علماء الفلك: الحبك جمع حبيكة بمعنى: محبوكة، أي: مربوطة، ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة هي مجموعة من الكواكب المتجاذبة، فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الإفرنج أنهم مكتشفوها، وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العلمية، فهي إخبار عن تعدد المجموعات الشمسية، أو تعدد المجرات، وهي بالملايين كما هو معروف، والله تعالى أعلم. يقول الشنقيطي في قوله تعالى: ((والسماء ذات الحبك)): فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فمعنى ((ذات الحبك)) أي: ذات الطرائق، كما يطفو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح فهذا هو الحبك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير وهو يصف غديراً: مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق لضاحي مائه حبك فقوله: (مكلل بأصول النجم) المقصود بالنجم هنا النبات الذي ليس له ساق، ينبت حول الماء كالإكليل، قال عز وجل: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] والشجر هو ما له سوق. (تنسجه) أي: تأتي ريح شديدة فتنسج هذه الطرق. (لضاحي مائه) أي: ما ضحى للشمس من الماء وبرز. (حبك) أي: هذه الطرائق التي تأتي على الماء فتحدث فيه هذه الطرائق والتكسرات في الماء. وقال بعض أهل العلم: ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، وهذا الوجه يدل عليه قول الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4]. إذاً: الحبك على هذا القول مصدر؛ لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه تقول فيه العرب: حبكه يحبكه حبكاً، حبكاً بالفتح على القياس، (والحبك) بضمتين بمعناه. وقال بعض العلماء: ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، فهذه الآية تكون كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق:6]، وقال بعضهم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: ذات الشدة، يدل لهذا قول الله سبحانه وتعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12]، والعرب تسمي شدة الخلق حبكاً، ومنه: قيل للفرس الشديد الخلق: محبوك، ومنه: قول امرؤ القيس: قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر قوله: (محبوك ممر) يعني: فرس شديد، والآية تشمل الجميع، وكل الأقوال في هذه الآية التي ذكرناها حق، سواء قلنا: إن ((ذات الحبك)) يعني: ذات الطرائق، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الخلق الحسن المحكم، يقول: هذه قصة محبوكة حسنة محكمة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الزينة، أو ((ذات الحبك)) أي: ذات الشدة، فهذه الأقوال لا تتعارض وكلها حق. والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8 - 9].

تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف)

تفسير قوله تعالى: (إنكم لفي قول مختلف) قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8]. قوله: (إنكم) الخطاب هنا للكفار، أي: إنكم أيها الكفار في شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي شأن القرآن لفي قول مختلف؛ لأن بعضهم يقول: هو سحر، وبعضهم يقول: كهانة، وبعضهم يقول: أساطير الأولين. أما قول من قال في قوله: ((لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ)) أي: أن بعضهم مصدق وبعضهم مكذب خلاف التحقيق، ولا يصح تفسير هذه الآية بهذا المعنى؛ لأن الاختلاف هنا اختلاف بين المكذبين دون المصدقين، ولذلك صدرنا التفسير بقولنا: إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف. فهذه الآية في حق الكفار؛ لأنهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في آية آخرى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] وقوله: ((فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)) أي: مختلط. وقال بعضهم: مختلف، والمعنى واحد.

تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من أفك)

تفسير قوله تعالى: (يؤفك عنه من أفك) قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9]. أي: يصرف من صرف عن الحق الصريح الصرف التام، إذ لا صرف أشد منه. وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه قال: هو تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بالطرائق للسماوات في تباعدها واختلاف غاياتها، فكل كوكب يمشي في اتجاه، كما يقول الشاعر: سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب فكذلك طرائق السماوات مختلفة ومتباينة، فناسب قوله تعالى: ((والسماء ذات الحبك)) أي: ذات الطرائق. ((إنكم لفي قول مختلف)) فهذا نوع من التجانس أو التناسب بين المقسم به والمقسم عليه؛ لأن في ذلك تشبيه أقوالهم باختلافها وتنافي أغراضها بالطرائق في السماوات في تباعدها واختلاف غاياتها. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} * {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}: وأظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري: أن لفظ (عن) في الآية سببية، يعني: يؤفك بسببه من أفك، وهناك شاهد من القرآن، يقول عز وجل: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53] أي: بسبب قولك. قوله: ((يؤفك عنه)) الهاء تعود إلى القول المختلف، أي: يصرف عن الإيمان بالله ورسوله بسبب ذلك القول المختلف. ((من أفك)) أي: من سبقت له الشقاوة في الأزل فحرم الهدى وأفك عنه؛ لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضاً ويناقضه، والتناقض في القول واختلافه من أوضح الأدلة على بطلان هذه الأقوال، كما يقول الشاعر: حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور وبعضهم قال قولاً غريباً في قوله تعالى: ((يؤفك عنه)) حيث قال: يصرف عن هذا القول المختلف الباطل، ((من أفك)) أي: من صرف عن الباطل إلى الحق، وهذا قول لا يخفى بعده وسقوطه؛ لأن هؤلاء يظنون أن الأفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل وعن الباطل إلى الحق. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ويبعد هذا؛ لأن القرآن لم يرد فيه -الأفك- مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه. إذاً: استعمال لفظة (أفك) في القرآن الكريم لم تكن إلا في الصرف عن الخير إلى الشر، ولم تستعمل في القرآن في الصرف عن الشر إلى الخير، وبالتالي هذا قول بعيد جداً.

تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون)

تفسير قوله تعالى: (قتل الخراصون) قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10]، في هذا إشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل، بل لأخذهم بالخرص والتخمين، ولا يمكن أن يصرف إنسان عاقل عن الحق إلى الباطل؛ لأن الباطل ليس له أدلة يستند إليها، ولأن كل ما يتعلق بالتوحيد والإيمانيات وهذه الأمور الكلية المهمة الخطيرة قامت عليها أدلة هي أوضح من الشمس، فبالتالي لا يمكن أن ينصرف عنها من يكون عنده برهان ودليل، ولذلك الله سبحانه وتعالى لما أوجب على كل مكلف البحث عن الدين الحق أوجب عليه أمرين: الأول: أن يجتهد ويبذل غاية وسعه في البحث عن دين الحق. الثاني: أن يجتهد في الوصول إلى دين الحق، مثل: القضايا الفقهية فإنه يجوز للعالم أن يجتهد كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، أما في قضايا الإيمان بالله سبحانه وتعالى والتوحيد، وأدلة صدق النبوة وصدق الرسالة وصدق القرآن الكريم فلا؛ لأن الأدلة واضحة تماماً لا يصد عنها إلا من أفك وإلا من سبقت له الشقاوة، لكن في الحقيقة لا يمكن أن يكون لمبطل دليل كما قلنا في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، فقوله: ((إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)) هل لهذا مفهوم؟ بمعنى: أنه لو أتى واحد يعبد غير الله ويزعم أن معه برهاناً على عبادة غير الله، هل هذا يقع؟ لا يمكن أبداً أن مشركاً يكون عنده أدلة أو برهان أو دليل، ولذلك نجد دائماً الباطل في مواجهة الحق لا يمكن أن يسلك المسلك الشريف العلمي النزيه أبداً، فأصحابه يخافون جداً من النقاش الحر، والأدلة العلمية عندهم إنما هي المكر أو المجادلة أو التشنيع على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ووصفهم بأنهم إرهابيون وأصوليون ومتطرفون، إلى آخر هذه الشتائم وهذا التشنيع الذي يراد به الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، لكن هل يقوون على مواجهة الحق للباطل وكل يدلي بدلوه؟ لا يمكن أن يثبت أبداً أي باطل في مواجهة دين الإسلام، فالواجب على كل عاقل أن يجتهد في البحث عن دين الحق، ثم يجتهد حتى يصل إلى الحق، فلا يقبل مثلاً من إنسان على الإطلاق أن يقول: بحثت وتحريت فوجدت البوذية هي دين الحق، ويقول: هذا هو اجتهادي واعذروني في اجتهادي، ويبنى على ذلك أيضاً فكرة المساواة بين الأديان وأخوة الأديان إلى آخر هذا الضلال المبين، أو واحد يقول: أنا اجتهدت في البحث وتحريت ثم توصلت إلى أن النصرانية هي دين الحق، هذا مستحيل أن يقع؛ لأن على الحق أدلة لا يمكن أن تلتبس على ذي بصر ولا ذي عينين، إلا أنه يمكن أن يصرف بقدرة الله عن الحق، بحيث يرى الحق لكن لا يرزق اتباعه، كحال علماء اليهود الذين عرفوا الحق وعرفوا أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكنهم استكبروا واستنكفوا عن اتباعه، وحسدوا العرب أن يخرج منهم النبي الموعود صلى الله عليه وسلم، فليس نكوصهم لأنه ليس هناك أدلة؛ ولكن لما في نفوسهم من جحود واستكبار وعلو في الأرض، ولذلك تجد عامة من ينتكس والعياذ بالله إلى التنصر أو إلى غير ذلك من أنواع الردة، فليس معنى ذلك: أنه لم يرتد عن الإسلام إلا بعد أن ظهر له دليل وبرهان، لكن الله سبحانه وتعالى كتب على هذا الشقاء منذ الأزل؛ أولاً: هذا لا يمكن أن يكون مسلماً حقيقياً إلا أن يشاء الله. ثانياً: غالباً تكون المغريات بشهوات أو بأموال أو بكذا أو كذا من هذه الأشياء، كما يحصل الآن في الفردوس الثاني الذي يوشك أن نفقده وهو أندونيسيا، فأندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم كله، ولذلك تتكالب عليها قوى الكفر والإلحاد لتفتيتها بواسطة الذين يخرجون الآن عليها ويريدون الاستقلال، وهم المرتدون الذين أفكوا عن الحق بارتدادهم إلى النصرانية لغرض أو لآخر، وقد اشتدت الحملة منذ سنوات طويلة جداً في أندونيسيا من أجل صرف الناس عن الدين وصرفهم عن الإسلام وتنصيرهم، وقد حكيت لكم من قبل قصة تنم عن مدى تغلغل النشاط التنصيري واستغلال ثالوث الفقر والجهل والمرض، وكيف تخرج الحملات التبشيرية للناس في أندونيسيا، حتى إن أحدهم قام بإغراء هؤلاء الفقراء بالأرز والطعام والأموال، ومن شدة الفقر في أندونيسيا استجابوا لهذا المنصر في الظاهر، وأظهروا التنصر، فهذا القسيس تدرج معهم حتى عمدهم أي: غطسهم في التعميد المعروف، وفرح جداً بما وصل إليه من إنجازات فقال لهم: إن الكنيسة تريد أن تكافئكم على أنكم الآن دخلتم في دين المسيح فتنصرتم، فكل واحد منكم يطلب طلباً وسوف نحققه له؛ مكافأة لكم على استجابتكم، فصاح الجميع بصوت واحد: الحج إلى مكة. إذاً: غاية ما يفعله المنصرون وما يستطيعون القيام به أن يستعبدوا الناس بهذه المساعدات المسماة بالإنسانية، كالتمريض، وفتح المدارس الخاصة التي يضعون فيها الراهبات وهكذا، فهم يتخذون وسائل ملتوية، أما أن يقف الباطل في مواجهة الحق ويأتي بأدلة فلا، إنما يعرف الباطل الظلم والخسة والنذالة، ولا يمكن أبداً أن يهزم الإسلام على الإطلاق في أي مناظرة شريفة، يمكن أن ينهزم المسلمون في بعض الأحوال نتيجة ضعف القوى المادية، لكن أن يقف الباطل أمام الإسلام ويثبت في مناظرة علمية هذا مستحيل، والتأريخ ينبئنا بمصداق ذلك.

تفسير قوله تعالى: (الذين هم في غمرة ساهون هذا الذي كنتم به تستعجلون)

تفسير قوله تعالى: (الذين هم في غمرة ساهون هذا الذي كنتم به تستعجلون) قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:11 - 14]. قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} أي: في جهل يغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة وترك الشبهات الواهية. أو: غافلون عما نزل إليهم بالانهماك في اللذات البدنية واستئثار الحظوظ العاجلة. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي: متى يوم الجزاء، ويوم يدين الله العباد بأعمالهم؟! هذا السؤال منهم كان على سبيل الاستنكار أو الاستحقار أو الاستبعاد، فجاءهم الرد: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي: يحرقون، والفتنة هنا بمعنى الإحراق، وهي إحدى إطلاقات الفتنة في القرآن الكريم، يقال: هذا دينار فتين، أي: محروق، وأصل الفتن: إذابة الجوهر الخام كالذهب ليخرج منه ما يخالطه من شوائب كثيرة، قال عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] أي: أن الشوائب تذهب ويبقى المعدن الخالص. كما قال بعض السلف في حق الإمام أحمد رحمه الله تعالى: إن أحمد أدخل الكير فخرج ذهباً أحمر رحمه الله تعالى، فأصل (الفتن) إذابة الجوهر ليظهر غشه، ثم استعمل في التعذيب والإحراق ونحوه. {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} يعني: يقدر هنا مقولاً لهم أي: أثناء تعذيبهم، يقال لهم في هذه الحالة: ((ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)) أي: ذوقوا عذابكم الذي استعجلتموه قبل وقته، كما قال: ((هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)) أي: هذا ما استعجلتم حصوله في الدنيا، لأنكم كنتم تتحدون الرسول أن يأتيكم بهذا العذاب إن كان من الصادقين، فهذا الذي كنتم به تستعجلون، قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:53 - 54].

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون)

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الذاريات:15] لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه، فقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} يفهم منها بدلالة الإيماء والتنبيه أن سبب دخولهم الجنات وتنعمهم بالجنات أنهم كانوا من المتقين. إذاً: التقوى وسيلة للحصول على هذا النعيم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، وقال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} [النحل:31]. قوله: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ)) أي: الذين اتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه في الدنيا، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية ((فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)).

تفسير قوله تعالى: (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين)

تفسير قوله تعالى: (آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) قال تعالى: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قال ابن جرير: أي عاملين ما أمرهم به ربهم مؤدين فرائضه. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: والذي فسر به ابن جرير فيه نظر؛ لأن قوله تبارك وتعالى: ((آخِذِينَ)) حال من قوله: ((فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ))، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون ((آخذين ما آتاهم ربهم)) أي: من النعيم والسرور والغبطة، فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم من النعيم والسرور والغبطة، ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ)) أي: في الدنيا. ((مُحْسِنِينَ)) أي: قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم، وظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم كما بينه بقوله عز وجل: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].

تفسير قوله تعالى: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون)

تفسير قوله تعالى: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] أي: كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً لتتقوى نفوسهم على عبادته تعالى بنشاط. وروى ابن جرير عن أنس رضي الله عنه في هذه الآية: (أنهم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء). وقال: محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة، أي: حتى يصلوا صلاة العشاء. وعن مطرف قال: قلَّ ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل إما من أولها أو من أوسطها. وعن الحسن قال: كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله. إذاً: قيام الليل فيه نوع من المجاهدة؛ لأن الإنسان في حالة اليقظة بالنهار حتى من الناحية (الفسيولوجية) يفرز هرمونات النشاط، وضوء النهار يمر من عين الإنسان، فيؤثر على غدة معينة فتزيد الإفراز من هرمونات النشاط، أما في حالة الليل فإنه يقل، وبالتالي إذا أراد الإنسان السهر يحتاج إلى مجاهدة ومكابدة ومقاومة للرغبة في النوم. وقال الضحاك: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} * {كَانُوا قَلِيلًا} ثم ابتدأ فقال: ((مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)) يعني: المحسنين كانوا قليلاً، فيسكت ثم يبتدئ فيقول: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} * {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} على أساس أن (ما) نافية، بمعنى: لا يهجعون. يقول ابن كثير: وهذا القول فيه بعد وتعسف. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم وترك الاستراحة؛ وذلك لأنه ذكر القليل ((مِنَ اللَّيْلِ))، والليل هو وقت النوم، والهجوع هو الخفيف من النوم. حتى أنه لم يقل: ما ينامون، لكن قال: ((ما يهجعون)) فاختار أخف درجة من النوم التي هي الهجوع. و (ما) زائدة تدل على القلة، وبالجملة ففي الآية استحباب قيام الليل وذم نومه كله، والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة.

تفسير قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون)

تفسير قوله تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) قال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]. قال القاضي: أي أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. ومعناه: أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم، كانوا إذا دخل عليهم وقت السحر أخذوا في الاستغفار، كأنهم قضوا ما مضى من الليل في الجرائم والكبائر، وفي الحقيقة هم مجتهدون في العبادة. يقول الرازي: في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه فيستغفرون من التقصير، وهذه سيرة الكريم، فهو يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به. فكان حال السلف أنهم كانوا مع إحسانهم خائفين، أما نحن فمع إساءتنا آمنون كأن معنا صكوك غفران من الله سبحانه وتعالى فيها الضمان بدخول الجنة. ثم يقول: وفيه وجه آخر ألطف منه، وهو أنه تعالى لما بين أنهم يهجعون قليلاً، والهجوع مقتضى الطبع، قال: ((يَسْتَغْفِرُونَ)) أي: يستغفرون من ذلك القدر القليل من النوم. وفيه لطيفة أخرى يبينها في جواب Q وهو أنه سبحانه مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السهر، يعني: لم يقل الله سبحانه وتعالى: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون، وإنما قال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} فما الحكمة من ذلك مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة؛ لأنهم كانوا ينامون أخف درجات النوم الذي هو الهجوع من أجل أن ينشطوا للقيام. ويتقووا بذلك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالنوم الذي هو مباح في أصله صار عبادة في حقهم مع أنهم نائمون، وهذا المعنى لن نستفيده إذا كانت الآية مثلاً: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون. قوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر، كقولهم: ربنا اغفر لنا، وطلب المغفرة بالفعل في بالأسحار وهو الصلاة، والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر؛ لأن الصلاة تسمى تسبيحاً، فكذلك أيضاً قد تسمى ركوعاً، فيطلق الجزء مراداً به الكل، فكذلك الاستغفار؛ لأنه جزء من الصلاة فأطلق على الصلاة كلها، فقوله: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} معناه: يصلون صلاة تتضمن الاستغفار، وهذا مما يؤيد القول الثاني، ومما يؤيده أيضاً: الإشارة إلى الزكاة في الآية التي بعدها مباشرة، وهي قوله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:18 - 19]، والزكاة قرينة الصلاة في كثير من الآيات، فكذلك يفهم أن هناك قرناً بين إيتاء للزكاة وإقامة الصلاة. وسر التعبير عن الصلاة بالاستغفار الإشارة إلى أن ركنها المهم في التهجد هو الاستغفار كما في حديث التنزل الإلهي: (من يستغفرني فأغفر له؟)، وفي قصة يوسف عليه السلام {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:97 - 98] قال بعض المفسرين: إنه عنى بذلك أنه سوف يؤخر لهم الدعاء إلى السحر، حيث يستجاب الدعاء. وقد ذكر في أذكار الصلاة الاستغفار في مواضع منها كالركوع: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، والسجود كذلك وبين السجدتين (رب اغفر لي، رب اغفر لي)، وآخر الصلاة كما أخرجه الشيخان وأهل السنن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الركوع والسجود والتهجد لذلك.

تفسير قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)

تفسير قوله تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] أي: أن المحروم هو الفقير المتعفف، لكن من شدة تعففه يحسبه الجاهل غنياً كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] فيحرم الصدقة. قال قتادة: هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل بكفه، وفقير متعفف، ولكليهما عليك حق يا ابن آدم. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه). وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للسائل حق وإن جاء على فرس) ورواه أبو داود، ثم أسنده من وجه آخر عن علي رضي الله عنه. ويدخل في المحروم كل من لا مال له، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم أفراده المتعفف، ولذا عوَّل عليه الأكثر، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ}: سوى الزكاة، يصلون بها رحماً، أو يقرون بها ضيفاً، أو يحملون بها كلاً.

تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين)

تفسير قوله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين) ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات، بل لابد من الدلائل الواضحات الكثيرة فقال: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] أي: وفي الأرض عبر وعظات لأهل اليقين الذين يقودهم النظر إلى ما تطمئن به النفس وينثلج له الصدر، فيرون فيها مما ذرأ من صنوف النباتات والحيوانات والوهاد والجبال والقفار والأنهار والبحار، ويرون آيات عظاماً وشواهد ناطقة بقدرة الصانع ووحدانيته جل جلاله.

تفسير قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون)

تفسير قوله تعالى: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. في الحقيقة الآيات الأولى من سورة الذاريات إلى قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] تشتمل على آيات الله سبحانه وتعالى في الخلق وفي الوجود وفي أنفسنا، ويكفي أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى شرح هذه الآيات القلائل في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) في أكثر من مائة صفحة، شرحها مع كثير من التأمل قدر ما توافر له آنذاك من العلوم البشرية ما يعين الإنسان على التأمل في خلق الله سبحانه وتعالى، والتوصل فعلاً إلى توحيد الله بالأدلة والبراهين المبثوثة في كل ما حولنا، ولذلك نحن نقول: إن التفكر ليس أمراً مستحباً فحسب، ولكنه فريضة على كل مسلم، قال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] هذا فعل أمر، والأمر ظاهره الوجوب، فيجب أن يتأمل الإنسان في مثل هذه الآيات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:190 - 191]). فالتفكر وظيفة في غاية الأهمية بالنسبة للمؤمن لكي يزداد إيماناً ويقيناً. ولو وقفنا فقط -وبالذات في ضوء المكتشفات الحديثة والعلوم الحديثة كعلم الطب وعلم التشريح وغيرهما- مع قوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} لطال بنا الكلام جداً، لكن ننصح الإخوة بمطالعة كلام الإمام ابن القيم في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) على هذه الجملة من الآيات طلباً للاختصار. قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي: في حال اهتدائها وتنقلها من حال إلى حال، واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب ولا لسان بليغ. يعني: خلق الله سبحانه وتعالى إيانا في أحسن تقويم، وجعل كل عضو في أفضل مكان له، فلم يجعل الأذنين في مؤخرة الرأس مثلاً أو في الرجلين، ولم يجعل الفم أعلى الجبهة، أو الأنف في الخلف، بل تجد كل شيء وضع في موضعه، فالقواطع في مقدمة الفم، والأنياب تمزق الطعام على الجانبين، ثم الأضراس للطحن، فلو أن الأضراس هي التي كانت في مقدمة الفم لاختل هذا النظام، ومع ذلك يأتي السفهاء والملاحدة ويقولون: إن الأمر صدفة، قاتلهم الله أنى يؤفكون. إذاً: الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتفكر والتدبر في المخلوقات، لو أنك درست علم التشريح أو علم وظائف الأعضاء، أو علم الأمراض أو غير ذلك من فروع العلوم كلها، مثل: علوم النباتات، أو علوم الهندسة النووية، أو العلوم الجينية، أو الهندسة الوراثية، إذا درست هذه بنية التأمل والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى كما أمرنا هنا وفي كثير جداً من الآيات فإنك تكون في عبادة. هذا العلم ما خلقه الله إلا ليدلنا عليه سبحانه وتعالى وعلى توحيده، وهذه العلوم لا تجافي علم الدين، بل الآيات كما قلنا مراراً نوعان: آيات تنزيلية، وآيات تكوينية، فالآيات التنزيلية هي آيات القرآن الكريم وآيات الوحي، وأما الآيات التكوينية فهي صفحة هذه المخلوقات التي تكشف عن صانعها وخالقها وهو الله سبحانه وتعالى، كما قال الشاعر: فيا لك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا والكلام في هذا يطول. وأنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكر والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشي قوله: وإذا نظرت تريد معتبراً فانظر إليك ففيك معتبر أنت الذي تمسي وتصبح في الـ دنيا وكل أموره عبر أنت المصرف كان في صغر ثم استقل بشخصك الكبر أنت الذي تنعاه خلقته ينعاه منه الشعر والبشر أنت الذي تعطى وتسلب لا ينجيه من أن يسلب الحذر أنت الذي لا شيء منه له وأحق منه بما له القدر

تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)

تفسير قوله تعالى: (وفي السماء رزقكم وما توعدون إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] قوله: ((وفي السماء رزقكم وما توعدون) أي: في السماء المزن وهو السحاب، وعلى هذا فالمراد بالرزق هنا المطر؛ لأن المطر هو سبب الأقوات. قوله: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) أي: من العذاب السماوي؛ لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها، والخطاب لمشركي مكة. ((فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) أي: الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر ((إِنَّهُ لَحَقٌّ)). ((مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)) أي: مثل نطقكم، والضمير في قوله: (إِنَّهُ) عائد لما ذكر من أمر الآيات والرزق. أو عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، أو عائد على ما توعدون وهو أقرب مذكور، ويؤيد الأخير ذكر مصائر ووعيد المكذبين من قوم لوط وفرعون وعاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، وبدأ منها بنبأ قوم لوط؛ لأن قراهم واقعة في ممر كفار قريش إلى فلسطين للاتجار، ومن ثم قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] إلى آخر الآيات.

أقوال العلماء في كون الرزق من السماء وحقيقته

أقوال العلماء في كون الرزق من السماء وحقيقته يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك: أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر، والذي أنزل من السماء؛ لأنه يكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13] أي: ينزل لكم من السماء الماء الذي يكون بسببه نماء الرزق. وقال تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} [الجاثية:5] أي: من مطر. وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق. وقال بعض أهل العلم: معنى قوله تعالى: ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ)) أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة، والله جل وعلا يدبر أمر الأرض من السماء، فهو سبحانه يدبر أمركم ويكتب أرزاقكم وأجلكم في السماء، كما قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]. والمراد بقوله: ((وما توعدون)) كما قال بعض أهل العلم: الجنة؛ لأن الجنة فوق السماوات، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح؛ لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك، فسقف المسجد، وسقف البيت يسمى سماء، وشاهد ذلك من القرآن قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] أي: من كان يظن أن الله سبحانه وتعالى لا ينصر نبيه محمداً عليه السلام ويجعل له العاقبة، فليربط الحبل إلى سقف الحجرة، ثم يفصل نفسه عن الأرض بالوقوف على الكرسي والحبل في عنقه، وبالتالي يشنق نفسه بهذه الطريقة. فالشاهد هنا: أن ((فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ)) يعني: أن كل ما علاك يطلق عليه سماء؛ ولذلك قال الشاعر: وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور، قال فيه: (بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال له صلى الله عليه وسلم: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال: أجل إن شاء الله). وقال بعض أهل العلم: ((وَمَا تُوعَدُونَ)) أي: ما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب للمعنى الثاني في الرزق، وهو أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة والله عز وجل يدبر أمر الأرض من السماء. وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع، ومن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}، فقال: أنا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض، فدخل خربة فمكث ثلاثاً لا يصيب شيئاً فلما كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب، وكان له أخ أحسن منه رأياً، فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت. وعن الأصمعي قال أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. قال: اتل علي. قال: فقرأت عليه من أول سورة الذاريات حتى بلغت قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال الأعرابي: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد فصرت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رفيع، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي وقال: اتل علي سورة الذاريات، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}، فصاح وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين، قال ذلك ثلاث مرات، وخرجت معها نفسه. فهذه النقول وهذه القصص تدل على أنهم فهموا من قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} أن الأرزاق يكتبها الله سبحانه وتعالى ويقدرها، وكذلك ما توعدون من خير أو شر إنما هو أمر مقدر في السماء، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت).

الذاريات [24 - 60]

تفسير سورة الذاريات [24 - 60]

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) انتهينا في تفسير سورة الذاريات إلى قول الله تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] وقلنا من قبل: إن الضمير في قوله تعالى: ((إنه لحق)) يحتمل أن يعود إلى ما ذكر من الآيات والرزق، أو يعود إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعود إلى قوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] أي: أن ما توعدون من العذاب السماوي لحق، ومما يؤيده أن الله سبحانه وتعالى أتبع ذلك بأنباء وعيد المكذبين، فبدأ منها بنبأ قوم لوط عليه السلام؛ لأن قراهم واقعة في طريق كفار قريش، فكانوا يمرون في أثناء أسفارهم على قراهم قوم لوط، فبدأ الله تعالى بذكر قصة تعذيب قوم لوط، وإن كان بدأها بذكر خبر إبراهيم: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)). ومناسبة ذكر قصة إبراهيم هنا مع أن الهدف الأساسي لذهاب الملائكة ومرورهم بإبراهيم عليه السلام إنما كان لإهلاك قوم لوط، لكنهم قبل أن يذهبوا مروا بإبراهيم لتبشيره بالولد. قوله: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) يعني: الملائكة الذين دخلوا عليه في صورة ضيف. قال الزمخشري: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ)) هذا فيه تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عرفه بالوحي. ((الْمُكْرَمِينَ)) أي: أنهم في أنفسهم مكرمون؛ لأن الملائكة كرام، وهذا وصف ثابت للملائكة، أو أن الخليل إبراهيم عليه السلام أكرمهم بنفسه غاية الإكرام وأخدمهم امرأته ونحو ذلك مما سنذكره من ملامح كرم ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة.

تفسير قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما إنه هو الحكيم العليم)

تفسير قوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً إنه هو الحكيم العليم) قال تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات:25 - 30]. قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ)) أي: سلام عليكم. ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) أي: أنتم قوم لا أعرفكم. وهذا كالسؤال منه عن أحوالهم ليعرفهم، فإن قولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك عرفني نفسك وصفها. ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِن)) أي: ذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذراً من أن يكفه ويعذره؛ لأن الضيف إذا سألته: هل نعد لك الطعام أم لا؟ سوف يستحي وفي الغالب أنه يقول: لا، ويكفك عن أن تكرمه، لكن الكريم كإبراهيم عليه السلام لشدة حرصه على إكرام ضيوفه لم يستأذن الضيف، ولم يخبرهم بأنه سيعد الطعام أو كذا، وإنما ذهب خفية، وهذا من غاية الإكرام. عن أبي عبيد قال: إنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية؛ لأن الروغ فيه معنى الاستخفاء، ولذلك يقال: روغ اللقمة إذا غمسها في السمن تماماً حتى رويت من السمن. ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: قد أنضجه وشواه. قوله: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: وضعه بين أيديهم. ((قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ)) أي: منه. قال القاضي: وهو مشعر بكونه حنيذاً، يعني: مشوياً، والهمزة في قوله: (أَلا تَأْكُلُونَ) للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب، فقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) أفضل من أن يقول: كلوا؛ لأن في قوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حث على الأكل على طريقة الأدب وفيه تلطف بهم. أو أنه قال هذه العبارة: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) حينما رأى إعراضهم عن الطعام، فللإنكار عليهم قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)). ((فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)) أي: أضمر الخيفة؛ لظنه أنهم أرادوا به سوءاً. ((قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) أي: يبلغ ويكمل علمه. ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)) أي: صيحة. ((فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) أي: لطمت وجهها تعجباً على عادة النساء في كل غريب عندهن، ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) أي: عاقر ليس لي ولد. ((قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ)) أي: مثل الذي قلنا وأخبرنا به قال ربك، فإنما نخبرك عن الله فاقبلي قوله ولا تتوهمي عليه خلاف الحكمة. ((إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)).

حقيقة الغلام المبشر به إبراهيم وحقيقة أمه

حقيقة الغلام المبشر به إبراهيم وحقيقة أمه قوله: ((وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ)) من الغلام؟ هو إسحاق عليه السلام؛ لقوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] ولأن في نفس هذه القصة في سورة هود جاء نفس سياق ضيافة إبراهيم عليه السلام لهؤلاء الملائكة. هناك أمر آخر في قوله تعالى: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) العجوز العقيم؟ هي سارة امرأته وقد كانت حرة، أما هاجر فكانت أمة؛ ولذلك قال: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فأبدت السبب من جهتها، وفي سورة هود أبدت السبب من جهتها ومن جهة إبراهيم عليه السلام {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72] فهذا إنما كان في حق سارة وليس في حق هاجر.

كلام ابن القيم في جلاء الأفهام عن تفسير الآيات الأول من سورة الذاريات

كلام ابن القيم في جلاء الأفهام عن تفسير الآيات الأول من سورة الذاريات الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى له كلام قيم جداً في تفسير هذه الآيات، يقول رحمه الله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) إلى آخر الآيات، في هذا ثناء على إبراهيم عليه السلام من وجوه متعددة:

الوجه الأول: معنى الإكرام في قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين)

الوجه الأول: معنى الإكرام في قوله: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) الوجه الأول: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون، فعلى أحد القولين: أنه إكرام إبراهيم لهم، والقول الآخر: أنهم المكرمون عند الله، ولا تنافي بين القولين؛ فالآية تدل على المعنيين.

الوجه الثاني: عدم ذكر استئذان الضيف حين دخلوا على إبراهيم وسبب ذلك

الوجه الثاني: عدم ذكر استئذان الضيف حين دخلوا على إبراهيم وسبب ذلك الوجه الثاني: قوله تعالى: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ)) فلم يذكر استئذانهم وفي هذا دليل على أنه كان قد عرف واشتهر بإكرام الضيفان، واعتياد قراهم، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورد، وهو لا يحتاج إلى الاستئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم. أي: أن إبراهيم عليه السلام جعل بابه مفتوحاً والطعام مهيئاً.

الوجه الثالث: الفرق بين سلام الملائكة على إبراهيم وسلامه عليهم

الوجه الثالث: الفرق بين سلام الملائكة على إبراهيم وسلامه عليهم قوله: ((إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا)) ما إعراب (سلاماً)؟ مفعول مطلق بمعنى: نسلم عليك سلاماً. فقال إبراهيم: (سلام) أي: سلام عليكم. أيهما أفضل تحية الملائكة أم تحية إبراهيم؟ تحية إبراهيم أفضل؛ لأن الرفع في اللغة العربية أكمل من النصب. يقول ابن القيم: الوجه الثالث: قوله لهم: (سلام) بالرفع وهم سلموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل؛ فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت واللزوم، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قولهم: (سلاماً) يدل على سلمنا سلاماً، وقوله: (سلام) أي: سلام عليكم.

الوجه الرابع: وجه حذف المبتدأ في قوله: (قوم منكرون)

الوجه الرابع: وجه حذف المبتدأ في قوله: (قوم منكرون) الوجه الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: ((قوم منكرون))، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف، كأن يقول لهم: أنتم قوم منكرون، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام. وإنما قال: ((قوم منكرون))، فلم يعين من هؤلاء القوم، ولم يقل لهم: أنتم قوم منكرون.

الوجه الخامس: وجه حذف الفاعل في قوله: (قوم منكرون)

الوجه الخامس: وجه حذف الفاعل في قوله: (قوم منكرون) الوجه الخامس: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: ((قوم منكرون)) ولم يقل: إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.

الوجه السادس: عدم إشعار الضيف بإعداد الطعام من كرم الضيافة

الوجه السادس: عدم إشعار الضيف بإعداد الطعام من كرم الضيافة الوجه السادس: أنه راغ إلى أهله ليجيئهم بنزلهم، والروغان: هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعر به الضيف، وهذا من كرم رب المنزل المضيف أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه ويقول له أو لمن حضر: مكانكم حتى آتيكم بالطعام ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه. وأفظع من هذا من يقول له: نعد لك العشاء أو تنام قليلاً، فهذا مما يؤخذ من قوله: ((فراغ إلى أهله))، وفي الآية الأخرى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69]، قوله: ((فما لبث)) يعني: اختفى وقتاً يسيراً؛ لأن طول الغيبة عن الضيف يشعره بالاحتشام، وأنه أثقل على أهل البيت، بحيث أنهم انقطعوا عن أعمالهم وصاروا يعدون له الطعام، لكن اختفى يسيراً ليجيئهم بنزلهم.

الوجه السابع: من الكرم استعداد أهل البيت لطروق الضيف في كل وقت

الوجه السابع: من الكرم استعداد أهل البيت لطروق الضيف في كل وقت الوجه السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً عندهم مهيئاً للضيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه أو غيرهم فيشتريه أو يستقرضه. أي: أنه كان دائماً يعد الطعام لنزل الضيوف، فلم يذهب ليشتريه، أو ليستقرضه من جيرانه، أو يفعل شيئاً من هذا؛ لأنه عليه السلام المتصف بهذا الكرم الشديد البليغ.

الوجه الثامن: من كرم الضيافة خدمة صاحب البيت للضيف بنفسه

الوجه الثامن: من كرم الضيافة خدمة صاحب البيت للضيف بنفسه قوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ))، دل على خدمته للضيف بنفسه. أي: أن من إكرام الضيف أن يقوم صاحب البيت على خدمته كائناً من كان، وليس من المروءة استخدام الضيف، ويمكن أن يستعين بالغلمان أو الخدم أو كذا، لكن إبراهيم عليه السلام لم يفعل ذلك وإنما خدم الضيف بنفسه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.

الوجه التاسع: من كرم الضيافة الإتيان بكل الذبيحة للضيف

الوجه التاسع: من كرم الضيافة الإتيان بكل الذبيحة للضيف الوجه التاسع: أنه جاء بعجل كامل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) ولم يأت ببضعة منه. أي: لم يقطعه أو يأتي بجزء منه، وهذا من تمام كرمه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فهو تركهم وشأنهم يختارون ما يستحسنونه من أجزاء هذا العجل.

الوجه العاشر: من كرم الضيافة اختيار الذبيحة السمينة للضيف لا الهزيلة

الوجه العاشر: من كرم الضيافة اختيار الذبيحة السمينة للضيف لا الهزيلة العاشر: أنه سمين لا هزيل ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) أي: غير هزيل. ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.

الوجه الحادي عشر: من كرم الضيافة تقريب الطعام إلى الضيف

الوجه الحادي عشر: من كرم الضيافة تقريب الطعام إلى الضيف الحادي عشر: أنه قربه إليهم بنفسه ولم يأمر خادمه بذلك: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ))، فالطعام يقرب للضيف حيث هو جالس، وهذا من تمام الكرم، ولم يأمر خادمه بأن يحمله ويقربه إليهم، لكن قربه بنفسه. وأنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة بحيث يجلس الضيف ثم يقرب الطعام إليه ويحمله إلى حضرته، ولا يضع الطعام في ناحية ثم يأمر الضيف بأن يتقرب هو إليه. فمن كرم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه هو الذي قربه إليهم، فالطعام هو الذي يقرب إليهم وليس الضيوف هم الذين يقربون إلى الطعام.

الوجه الثاني عشر: من كرم الضيافة التلطف في القول عند ابتداء الأكل

الوجه الثاني عشر: من كرم الضيافة التلطف في القول عند ابتداء الأكل الثالث عشر: أنه قال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله: كلوا أو مدوا أيديكم، وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه، ولهذا يقولون: باسم الله ألا تتصدق؟ ألا تجبر؟ ونحو ذلك من العبارات التي فيها التلطف بالضيف.

الوجه الثالث عشر: سبب عرض إبراهيم الأكل على ضيوفه

الوجه الثالث عشر: سبب عرض إبراهيم الأكل على ضيوفه الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل؛ لأنه رآهم لا يأكلون؛ ولأن عادة إبراهيم عليه السلام أن ضيوفه لم يكونوا يحتاجون إلى الإذن في الأكل، فعادة ضيوف إبراهيم عليه السلام أنه كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا، وهؤلاء الضيوف خالفوا هذه العادة، فاستوحش وأوجس منهم خيفة، أي: أحسها وأضمرها في نفسه ولم يبدها لهم، فقال: ((أَلا تَأْكُلُونَ)).

الوجه الرابع عشر: من كرم الضيافة عدم إظهار الريبة والخوف عند عدم أكل الضيوف

الوجه الرابع عشر: من كرم الضيافة عدم إظهار الريبة والخوف عند عدم أكل الضيوف الخامس عشر: أنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم ولم يظهر لهم، أي أنه لم يصرح بذلك وإنما سألهم هذا Q (( أَلا تَأْكُلُونَ)) كأنه يستكشف سر رفضهم الطعام؛ لأن العادة أن من أكل طعامك فإنك تستريح إليه وتطمئن إليه وتأمن من شره، أما إذا لم يأكل الطعام فقد تشك وتظن أنه أتى يريد أن يفعل بك شراً، فإبراهيم لما خاف منهم لم يظهر لهم ذلك. قوله: فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا: ((لا تخف وبشروه بالغلام)). فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها فهي من التكلفات التي هي تخلف وتكلف. أي: تخلف عن أخلاق الإسلام وآداب الإسلام وأخلاق إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظروا إلى آداب الضيافة، لا كهذه الأفعال المتكلفة التي يلتقطها بعض الناس من آداب الكفار مما يسمونه: آداب (الإتكيت) وهذه الأشياء كلها تكلف وسخافة، كأن يضع الشوكة في اليد اليسار والسكين في اليمين وغير ذلك من الأفعال التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي إذا قارنها بأخلاق الإسلام وآداب الإسلام، فإنك لا تجد وجه مقارنة على الإطلاق. ثم يقول: فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين.

كلام ابن القيم في كتابه زاد المهاجر عن مدح الله وثنائه على إبراهيم في سورة الذاريات وغيرها

كلام ابن القيم في كتابه زاد المهاجر عن مدح الله وثنائه على إبراهيم في سورة الذاريات وغيرها تكلم ابن القيم في موضع آخر عن قول الله تعالى: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) إلى قوله: ((إنه هو الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)) فقال رحمه الله: فعهدي بك إذا قرأت هذه الآية وتطلعت إلى معناها وتدبرتها، فإنما تطلع منها على أن الملائكة أتوا إبراهيم في صورة الأضياف يأكلون ويشربون، وبشروه بغلام عليم، وإنما امرأته عجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قال ذلك، ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك، فاسمع الآن بعض ما في هذه الآيات من أنواع الأسرار، وكم قد تضمنت من الثناء على إبراهيم، وكيف جمعت الضيافة وحقوقها، وما تضمنت من الرد على أهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة، وكيف تضمنت علماً عظيماً من أعلام النبوة، وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها إلى العلم والحكمة، وكيف أشارت إلى دليل إمكان المعاد بألطف إشارة وأوضحها، ثم أفصحت وقوعه، وكيف تضمنت الإخبار عن عدل الرب وانتقامه من الأمم المكذبة. إلى أن قال رحمه الله تعالى: افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام، وليس المراد بها حقيقة الاستفهام، ولهذا قال بعض الناس: إن (هل) في مثل هذا الموضع بمعنى قد التي تقتضي التحقيق. أي: مثل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] ثم قال: ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ومعنى بديع، فإن المتكلم إذا أراد أن يخبر المخاطب بأمر عجيب ينبغي الاعتناء به وإحضار الذهن له صدر له الكلام بأداة الاستفهام؛ لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به، فتارة يصدره بألا، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر). ثم قال: وتارة يصدره بهل كقوله: هل علمت ما كان من كيت وكيت، إما مذكراً به، وإما واعظاً له مخوفاً، وإما منبهاً على عظمة ما يخبر به، وإما مقرراً له. فقول الله تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15]، وقوله تعالى: {َهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21]، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وقوله هنا: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفة ما تضمنته.

إخبار الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بقصة إبراهيم علم من أعلام النبوة وصدقها

إخبار الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بقصة إبراهيم علم من أعلام النبوة وصدقها وفيه أمر آخر: وهو التنبيه على أن إتيان هذا إليك علم من أعلام النبوة. أي: إشارة إلى أنك من قبل القرآن ما كنت تعلم شيئاً من هذه الأحاديث، يقول عز وجل: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49] فكذلك قوله تعالى هنا: ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)) إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق إلا بالوحي، وأن ما علمه من هذه الأخبار إنما هو بوحي لم يكتسبه بنفسه. ثم قال: فهذا العلم الذي يأتيك علم من أعلام النبوة فإنه من الغيب الذي لا تعلمه أنت ولا قومك، فهل أتاك من غير إعلامنا وإرسالنا وتعريفنا أم لم يأتك إلا من قبلنا؟ فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام، وتأمل عظمة موقعه من جميع موارده، يشهد أنه من الفصاحة في ذروتها العليا.

ثناء الله على إبراهيم بوصف ضيفه بالمكرمين

ثناء الله على إبراهيم بوصف ضيفه بالمكرمين وقوله تعالى: ((ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ)) متضمن لثنائه على خليله إبراهيم، فإن في المكرمين قولين: أحدهما: إكرام إبراهيم لهم، ففيه مدح إبراهيم بإكرام الضيف. والثاني: أنهم مكرمون عند الله كقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] وهو متضمن أيضاً لتعظيم خليله ومدحه؛ إذ جعل ملائكته المكرمين أضيافاً لإبراهيم، فعلى كلا التقديرين فيه مدح لإبراهيم. تخيل لما يأتي إنسان له منصب كبير ويزور أحد الناس، فإنه يريد أن ينشر ذلك في الأخبار والجرائد في اليوم الثاني وفي الصفحة الأولى أن فلاناً زاره، أو أن فلاناً أفطر عنده، أو تغدى عنده ويفخر بذلك، فكيف إذا كان إبراهيم عليه السلام مضيفاً للملائكة الذين وصفهم الله بأنهم عباد مكرمون؟! فهذا أيضاً فيه ثناء على إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

الثناء على إبراهيم بكون تحيته للملائكة أكمل وأحسن من تحيتهم له

الثناء على إبراهيم بكون تحيته للملائكة أكمل وأحسن من تحيتهم له يقول ابن القيم وقوله: ((فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ)) [الذاريات:25] متضمن لمدح آخر لإبراهيم، حيث رد عليهم السلام أحسن مما حيوه به، فإن تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره: سلمنا عليك سلاماً، وتحية إبراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره: سلام دائم أو ثابت أو مستقر عليكم، ولا ريب أن الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم، والفعلية تقتضي التجدد والحدوث، فكانت تحية إبراهيم أكمل وأحسن.

أوجه المدح لإبراهيم في قوله: (قوم منكرون)

أوجه المدح لإبراهيم في قوله: (قوم منكرون) يقول ابن القيم: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) فيه من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح: أحدهما: أنه حذف المبتدأ والتقدير: أنتم قوم منكرون، فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحداً بما يكرهه، بل يقول: (ما بال أقوام يقولون كذا ويفعلون كذا). والثاني: قوله: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) فحذف فاعل الإنكار وهو الذي كان أنكرهم، حيث لم يقل: أنا أنكركم، كما قال في موضع آخر: (نكِرَهم) ولا ريب أن قوله: ((قَوْمٌ مُنكَرُونَ)) ألطف من أن يقول: أنكرتهم.

وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فراغ إلى أهله)

وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فراغ إلى أهله) قوله: ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) متضمن وجوهاً من المدح وآداب الضيافة وإكرام الضيف. منها: قوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) والروغان: الذهاب بسرعة واختفاء، وهو يتضمن المبادرة إلى إكرام الضيف، والاختفاء يتضمن ترك تخجيله وألا يعرض للحياء، وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه. أي: بخلاف من يكون بارداً بطيء الحركة أو هادئ الأعصاب لا يبالي بهذا الأمر. وقوله: فهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه، ثم يبرز بمرأى منه، ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ. هذا من قبل حيث كانت الأموال من الدراهم والدنانير توزن، وفي معناها الآن الريالات والفلوس كأن يفتح الدرج أو المحفظة ويخرج الفلوس ليشتري بها الطعام للضيف أمام الضيف. فيقول: وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمرأى منه، ويحل صرة النفقة ويزن ما يأخذ، ويتناول الإناء بمرأى منه، ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه، فلفظة (راغ) تنفي هذين الأمرين. وفي قوله تعالى: ((فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ)) مدح آخر له لما فيه من الإشعار أن كرامة الضيف معدة حاصلة عند أهله، وأنه لا يحتاج أن يستقرض من جيرانه ولا يذهب إلى غير أهله؛ إذ قرى الضيف حاصل عندهم.

وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فجاء بعجل سمين) وتنوع ذلك

وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فجاء بعجل سمين) وتنوع ذلك وقوله: ((فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)) [الذاريات:26] هذا يتضمن ثلاثة أنواع من المدح. أحدها: خدمة ضيفه بنفسه فإنه لم يرسل به وإنما جاء به بنفسه. الثاني: أنه جاءهم بحيوان تام لم يأتهم ببعضه ليتخيروا من أطيب لحمه ما شاءوا. الثالث: أنه سمين ليس بمهزول، وهذا من نفائس الأموال، فإنهم يعجبون بولد البقر السمين، فمن كرمه هان عليه ذبحه وإحضاره.

وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فقربه إليهم فقال ألا تأكلون)

وجه الثناء والمدح لإبراهيم في قوله: (فقربه إليهم فقال ألا تأكلون) قوله: ((فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ)) متضمن المدح وآداباً أخرى، وهو إحضار الطعام بين يدي الضيف، بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه. وقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ)) فيه مدح وآداب أخر، فإنه عرض عليهم الأكل بقوله: ((أَلا تَأْكُلُونَ))، وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف، بخلاف من يقول: ضعوا أيديكم في الطعام كلوا تقدموا ونحو هذا. قوله: ((فأوجس منهم خيفة)) لأنه لما رآهم لا يأكلون من طعامه أضمر منهم خوفاً أن يكون معهم شر؛ فإن الضيف إذا أكل من طعام رب المنزل اطمأن إليه وأنس به، فلما علموا منه ذلك ((قالوا لا تخف)) أي: قد فهمنا أنك قد خفت منا، وأفهموه أنهم ملائكة والملائكة لا تأكل ولا تشرب، وهذا هو السبب والعذر الذي من أجله لم يأكلوا ((قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم)).

حقيقة الغلام المبشر به في قوله تعالى: (وبشروه بغلام عليم)

حقيقة الغلام المبشر به في قوله تعالى: (وبشروه بغلام عليم) يقول ابن القيم: وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل. موضوع الآيات التي فيها الخلاف هي الآيات المتعلقة بالذبيح هل هو إسماعيل أم إسحاق؟ قطعاً هو إسماعيل عليه السلام بخلاف ما يقوله أهل الكتاب، ووافقهم للأسف بعض العلماء. قوله: وهذا الغلام إسحاق لا إسماعيل؛ لأن امرأته عجبت من ذلك فقالت: عجوز عقيم لا يولد لمثلي، فأنى لي بالولد، وأما إسماعيل فإنه من سريته هاجر، وكان بكره وأول ولده، وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71]. أي: بشرناه بإسحاق وزيادة على إسحاق أنه سوف يرزق من إسحاق ولداً ويعيش حتى يرى هذا الولد الذي هو يعقوب ((فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)) وهذا يفهم منه أن إسحاق سيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وينكح ويولد له. أما الذبيح فقد كان غلاماً وهو إسماعيل، قال الله عز وجل: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] فلو كان هو إسحاق لتنافى مع هذه الآية؛ لأن البشارة أخبرت أن إسحاق سوف يعيش إلى أن يتزوج بل ويولد له يعقوب، فيصدق هذا على إسماعيل وليس على إسحاق، وهذه القصة التي في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] هي نفس هذه القصة التي وردت في سورة الذاريات من الإكرام لهؤلاء الضيفان.

ظهور ضعف المرأة من خلال قوله: (فصكت وجهها)

ظهور ضعف المرأة من خلال قوله: (فصكت وجهها) قوله تعالى: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) يقول ابن القيم: فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها إذ بادرت إلى الندبة فصكت الوجه عند هذا الإخبار. كما قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسيره هنا: ((فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ)): أي: في صيحة. ((فَصَكَّتْ وَجْهَهَا)) أي: لطمت وجهها تعجباً. وليس هذا من اللطم الذي هو من النياحة، وإنما هذا على سبيل التعجب. ثم يقول القاسمي: على عادة النساء في كل غريب عندهن لم تتمالك نفسها من شدة التعجب من هذه البشارة فلطمت وجهها. فيقول ابن القيم: فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها. أي: أن المرأة كتلة من العاطفة فتنفعل أحياناً ولا تنضبط في انفعالها، لذلك يشترط دائماً إبعادها عما يهيج عواطفها، مثل: اتباع الجنائز وقد نهاها الشرع عن ذلك؛ لأنه من الممكن أنها إذا حضرت الجنائز أو حضرت عند الدفن ألا تتمالك نفسها، ومعلوم ما يحصل من بعض النساء من الصراخ والعويل وهذه الأشياء، وحتى عند الفرح لا تتمالك المرأة نفسها إلا من رحم الله، فترى النساء عند الفرح يأتين بهذه الأصوات المنكرة التي يفعلنها، ولذلك الشريعة لا تقبل شهادتها في الجنايات، مثل: حوادث القتل والذبح والحرق، وكذا لا تقبل شهادتها لوحدها في المعاملات؛ لعجزها عن أن تضبط الشهادة على وجهها بخلاف الرجل.

وقفة مع أدب الاقتصار في الكلام على ما تؤدى به الحاجة

وقفة مع أدب الاقتصار في الكلام على ما تؤدى به الحاجة ثم قال: وقوله: ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة. مم أخذ أن المرأة إذا خاطبت الرجال تختصر الكلام بقدر المستطاع؟ أُخذ من حذف المبتدأ فهي لم تقل: أنا عجوز عقيم، وإنما قالت: عجوز عقيم، فاختصرت في الكلام جداً، لكن لو أنها واحدة من بنات هذا الزمان أو من نساء هذا الزمان إلا من عصم الله وسئلت: أين فلان؟ لقالت: فلان والله جاء له كذا وكذا وذهب إلى كذا، لكن تفضل وانتظره، إلى آخر هذا الكلام. بينما المفروض على المرأة إذا خاطبت الرجال أن تختصر جداً في الكلام، وأن تقتصر على ما تتأدى به الحاجة، أما الإطالة في الكلام والإكثار من القيل والقال فهذا مما لا ينبغي. بالمناسبة نتوقف وقفة يسيرة مع أحد التنبيهات، وهو الكلام على التدخل في خصائص الناس وتحري أسرار البيوت ونحو ذلك من وسائل استنطاق الناس بما عندهم من الأسرار، بعض الناس يكون لهم ظروف خاصة بهم فتأتي بعض النساء فتريد أن تكتنف وتنبش أسرار البيوت وخصائص الناس وأحوالهم الخاصة، فتأتي تكلمها بصورة أو بأخرى حتى تستخرج منها ما لا يعنيها، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) يعني: أن الإعراض عما لا يعني من علامات أن الإنسان قد حسن إسلامه، وهذا ليس خاصاً بالنساء بل يدخل فيه الرجال أيضاً. ما دمت أيها المسلم لا تسأل أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن هذا الشيء فهو مما لا يعنيك فلا تنشغل به، لكن إذا أتاك الناس واختصموا إليك وسمعت من الخصوم فهذا واجبك، لكن على أن تعدل بين الخصمين ولا يجوز لك أن تتكلم أبداً مع طرف واحد أو تنصت إلى حجج طرف واحد، بل لابد أن تحضر الطرف الآخر وتسمع من الطرفين مباشرة، حينئذ يحق لك أن تتكلم، هذا إذا طلب منك أن تقوم بدور القاضي أو المصلح بين الناس، أما إذا لم يطلب منك أحد أن تتدخل في أحوال الناس فينبغي أن تستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وينبغي أن نتعبد بهذا الأمر. إذاً: على الإنسان ألا يتدخل في أسرار الناس وخصوصياتهم؛ لأنه كما يقولون: البيوت أسرار، ويقول الشاعر في هذا: ما يريد الناس منا ما ينام الناس عنا لو سكنا باطن الأرض لكانوا حيث كنا إنما همهم أن ينشروا ما قد دفنا وهذا أحد السلف الصالحين لما سألته ابنته يوماً وقالت له: يا أبتاه! أين هذا الجذع الذي كان على بيت جيراننا؟ يعني: مرت سنوات طويلة وهذه البنت من صغرها كانت إذا نظرت إلى بيت الجار تلاحظ فوق سطح الجار في الليل مثل جذع شجرة ثابت دائماً فقالت له: يا أبتاه أين هذا الجذع الذي كنا نراه على سطح الجيران؟ قال: يا بنتاه هذا منصور بن زاذان العابد الجليل كان يقوم الليل وقد توفي. نفهم من هذا أن أباها ما اشتغل بالكلام عن حال هذا الجار، مع أنه كان في مثل هذا الأمر من العبادة، فهذا يدل على أن السلف ما كانوا يشتغلون بتتبع أسرار الناس واستنطاق الناس بأسرارهم الشخصية؛ لأن الإنسان قد يكتم أموراً ولا يريد أن يظهرها، فأنت تستنطقه وتستخرج منه ما قد يسوءك، فالسلامة أن الإنسان لا يتدخل فيما لا يعنيه إلا إذا كان قاضياً فله أن يسمع من الأطراف كلها، حينئذ يضمن العدل والإنصاف، وإلا لا تجبر الناس على أن يتحدثوا بما يكرهون.

وقفة مع ضوابط كلام المرأة الأجنبية مع الرجل الأجنبي

وقفة مع ضوابط كلام المرأة الأجنبية مع الرجل الأجنبي قوله تعالى: ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) فيه حسن أدب المرأة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتأدى به الحاجة، فإنها حذفت المبتدأ ولم تقل: أنا عجوز عقيم. نحن في الحقيقة بصفتنا مسلمين نفترق تماماً عن غيرنا ممن ارتضوا مناهج أحفاد القردة والخنازير وعبدة الطاغوت من اليهود والنصارى والكفار، مما يسمونها: آداب التعامل أو (الإتكيت) أو كذا أو كذا، فعندهم أن على المرأة أن تكون لطيفة ورقيقة ومهذبة، بحيث تكلم الرجل بميوعة وبخضوع قول وغير ذلك؛ حتى تكون امرأة متحضرة. نقول: نحن لا نريد هذه الحضارة؛ لأن المرأة المسلمة إذا خاطبت الرجال الأجانب ينبغي أن تتكلم معهم بحزم وخشونة، وأن تختصر وتقتصر على الكلام الذي تحتاج إليه. أي: إن كانت الحاجة تقضى بثلاث كلمات فلا يجوز لها أن تجعلها خمس كلمات مثلاً، بل تقتصر فقط على مقدار ما تحتاج من الكلام، أما المقاولة والمحاورة فهذا يخرجها من آداب الإسلام، ويفتح أبواب الشيطان على مصارعه، والحوار في الهواتف مع رجل أجنبي في أي حاجة لابد أن تقتصر المرأة فيه على الكلام الجاد والمختصر جداً الذي تؤدى به الحاجة؛ لأن مقصود الشريعة أن تبني علاقة الرجال والنساء الأجانب عنهن على أساس نظام الأسلاك الشائكة، وأن هنا منطقة محظورة فيها الاختلاط إلا بضوابط معينة في المخاطبة أو الكلام إلى آخره، حيث لا خلوة، ولا خضوع في القول. فأي بلية حصلت في الوجود بين رجل وامرأة إذا تتبعت الخيوط الأولى التي أنتجت هذه البلية ستجدها ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة، ومنها نفذ الشيطان وعبر، لكن متى ما حصلت على نظام الأسلاك الشائكة بين النساء والرجال الأجانب عنهن كانت السلامة من الفتن ومن البلاء، فالمرأة مع الرجال تقتصر على قدر الحاجة، أما أن يستنطقها الرجال أو أن يقولوا: إنها مهذبة وإنها كذا فهذا يتصادم مع مقاصد الشريعة. وقد تكلمنا من قبل على قصة ذلك الرجل الذي وجد أخته تلبس ثياباً قاتمة داكنة اللون ساترة فقال لها: من رآك في هذا ينفر منك، فكان الجواب أن هذا هو المقصود. أما أن المرأة المسلمة تلبس الملابس المتناسقة والألوان المتجانسة والتي تشرح صدر من يراها فليس هذا هو مقصود الحجاب، إنما نقصد بالحجاب أن نعمق نظام الأسلاك الشائكة بين النساء الأجانب وبين الرجال الذين ليسوا بمحارم، فهذا هو المطلوب أن الرجل ينفر إذا رأى المرأة وليس أن تجذب نظره إليها، ولا أن تتزين بثياب فيها تناسق وألوان متجانسة، وإنما يكون هذا في البيت أمام المحارم أو أمام زوجها، أما أنها تتأنق في مظهرها وتتزين حتى تكون لطيفة ومهذبة وتريح عين الناظرين وتشرح صدورهم، فهذا مما يتصادم مع الحكمة التي من أجلها شرع الحجاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] فالحجاب جعل من أجل ستر الزينة، فهل يعقل أن يكون هو نفسه زينة؟! هو ما شرع إلا ليستر الزينة، سواء كانت الزينة الطبيعية أو الزينة المكتسبة، فكلاهما يستران، فلو افترضنا امرأة لبست ثياباً فضفاضة جداً مثل جلباب، لكن لونه أصفر مثلاً وفيه الورود والزينة والزخارف وكذا، هل هذا حجاب؟ لا، هذه صورة من صور التبرج؛ لأنه افتقد أحد شروط الحجاب، وهو ألا يكون الحجاب زينة في نفسه، سواء في نوع القماش أو طريقة التفصيل أو في ألوانه أو الأشياء الملحقة به من الزينة وهذه الأشياء، فلتتق الله النساء وليتذكرن أن الحجاب إنما شرع ليستر الزينة، فمن ثم لا يقبل أبداً أن يكون هو نفسه زينة؛ لأن هذا لا يكون حجاباً، بل هو صورة من صور التبرج.

تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبكم أيها المرسلون وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم)

تفسير قوله تعالى: (قال فما خطبكم أيها المرسلون وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم) قال تعالى: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الذاريات:31 - 37]. قوله: ((قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ)) أي: قال إبراهيم لضيفه: ما أمركم وشأنكم أيها المرسلون؟ ((قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)) أي: إنا أرسلنا لمؤاخذة قوم مجرمين ومعاقبتهم. ((لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ)) أي: رجماً لهم على فعلهم الفاحشة. قوله: ((مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ)) أي: مرسلة أو معلمة عند ربك للمعتدين حدود الله الكافرين به. ((فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا)) أي: في تلك القرية، وكان الخروج بإيحاء إليهم على لسان الملائكة. ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) وهم لوط وابنتاه عليهم السلام. ((فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) أي: بيت لوط عليه السلام. ((وَتَرَكْنَا فِيهَا)) أي: في تلك القرية. ((آيَةً)) علامة تدل على إهلاكهم الدنيوي الدال على إهلاكهم الأخروي. ((لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ)) أي: في الآخرة. وقرية قوم لوط عليه السلام هي قرية سدوم.

تفسير قوله تعالى: (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون فنبذناهم في اليم وهو مليم)

تفسير قوله تعالى: (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون فنبذناهم في اليم وهو مليم) قال تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:38 - 40]. قوله: ((وَفِي مُوسَى)) عطف على (فيها)، في قوله: ((وتركنا فيها آية))؛ لأن المعطوف عليه ضمير مجرور، أي: وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه آية وحجة تبين لمن رآها حقية دعواه. ((وفي موسى)) أي: آية أيضاً. ((إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)) أي: ببرهان ظاهر. ((فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ)) أي: أعرض عن الإيمان، والركن جانب الشيء، ((فتولى بركنه)) أي: بجانب بدنه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية؛ لأن معناه: ثنى عطفه، أو الباء للملابسة، وذهب بعض المفسرين إلى أنه تولى بركنه أي: تولى بجيشه؛ لأنه يركن إليه ويتقوى به، والباء للمصاحبة أو للملابسة. ((وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)) أي: موسى عليه السلام ساحر أو مجنون. ((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ)) وكلمة (وجنوده) تقوي قول من قال: ((فتولى بركنه)) أنه جيشه. ((فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)) أي: فأغرقناهم في البحر. ((وَهُوَ مُلِيمٌ)) أي: آت بما يلام عليه من الكفر والعناد.

تفسير قوله تعالى: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم إلا جعلته كالرميم)

تفسير قوله تعالى: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم إلا جعلته كالرميم) قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41 - 42]. قوله تعالى: ((وَفِي عَادٍ)) أي: وتركنا في عاد قوم هود عليه السلام آية. ((إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ)) العقيم: هي الريح التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر؛ لأن إنشاء المطر يكون فيه نوع من التزاوج بين الكهربية السالبة والموجبة، أو اللقاح؛ لأن الرياح لواقح لها دور في تكاثر النباتات كما هو معلوم، لكن هذه الريح التي أرسلت عليهم كانت ريح عذاب لا ينشأ منها مطر ولا تلقيح شجر. ((مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ)) والرميم هو: الشيء الهالك، وأصل الرميم: البالي المتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وفي ثمود إذ قيل لهم فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين)

تفسير قوله تعالى: (وفي ثمود إذ قيل لهم فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين) قال تعالى: {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:43 - 45]. قوله: ((وَفِي ثَمُودَ)) أي: وتركنا في ثمود قوم صالح عليه السلام آية. ((إِذْ قِيلَ لَهُمْ)) أي: بعد عقرهم الناقة، ((تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ)) أي: تمتعوا في داركم حتى حين، وقيل: هذا الحين ثلاثة أيام، كما بينته الآيات الأخرى. ((فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)) أي: فاستكبروا عن امتثاله. ((فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ)) أي: العذاب الحال بهم المعهود. ((وَهُمْ يَنظُرُونَ)) أي: وهم ينظرون إليها؛ لأنها نزلت بهم في النهار. ((فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ)) أي: لما نزل بهم العذاب ما استطاعوا من نهوض، فضلاً عن أن يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم عذاب الله سبحانه وتعالى. ((وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ)) أي: ما كانوا ممتنعين من العذاب.

تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل)

تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح من قبل) قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات:46]. قوله: ((وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ)) قرئ بالجر عطفاً على ((وفي ثمود)) أي: (وقومِ نوح من قبل)، وبالنصب: (وقوم نوح) مفعولاً لمضمر دل عليه السياق والسباق، أي: وأهلكنا قوم نوح، أو عطفاً على مفعول (فأخذناه). ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)) أي: مخالفين أمر الله خارجين عن طاعته؛ لأن الفسق هو الخروج، تقول: فسقت الرطبة، أي: خرجت.

تفسير قوله تعالى: (والسماء بينيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون)

تفسير قوله تعالى: (والسماء بينيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون) قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:48]. قوله: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تعالى: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ)) ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم؛ لأن قوله: ((بِأَيْيدٍ)) ليس جمع يد، وإنما الأيد القوة، فوزن قوله هنا (بأييد) فَعْل، ووزن الأيدي أفعل، فالهمزة في قوله: ((بِأَيْيدٍ)) في مكان الفاء، والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام. ولو كان قوله تعالى: ((بِأَيْيدٍ)) جمع يد لكان وزنه أفعلا، فتكون الهمزة زائدة، والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين، والياء المحذوفة لكونه منقوصاً هي اللام. والأيد والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد قوي، ومنه قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] أي: قويناه به. فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطاً فاحشاً، والمعنى: والسماء بنيناها بقوة. قوله: ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ)) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: رفعناها بقوة، قوله: ((وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) أي: قادرون على الإيساع كما أوسعنا بناءها. هذه الآية الكريمة لو أتينا بواحد مختص في علوم الفلك لحدثنا حولها بالعجائب، من عملية التمدد المستمر للكون، وهناك صور لأجزاء في الفضاء تدل على استمرار تمدد الكون واتساعه بصورة مدهشة، فهذا مما يقر به الكفار. علماء الكفار الذين يهتمون بهذه العلوم لهم في ذلك بحوث كثيرة جداً، كلها تثبت هذه الحقيقة المعروفة عندهم بتمدد الكون. والقاسمي فسر الإيساع بالقدرة، أي: كما أوسعنا بناءها فإنا قادرون على إيساعها أكثر من ذلك، أما ما اكتشف حديثاً من التمدد الفعلي للكون فإنه يؤيد ذلك. قوله تعالى: ((وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا)) أي: مهدناها ليتمتعوا بها. ((فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)) أي: لهم.

تفسير قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)

تفسير قوله تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) قال تبارك وتعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] قوله: ((زَوْجَيْنِ)) أي: ذكراً وأنثى، أو نوعين متقابلين. قال ابن كثير: أي جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض، وليل ونهار، وشمس وقمر، وبر وبحر، وضياء وظلام، وإيمان وكفر، وموت وحياة، وشقاء وسعادة، وجنة ونار، حتى الحيوانات والنباتات. وقد دلت ذلك آيات كثيرة في القرآن الكريم على إثبات الزوجية في كل شيء، وأنا عندي بحث مستقل بعنوان: (الزوجية في كل مخلوق) وهو كتاب كبير يتناول الموضوع، فهناك ظاهرة الزوجية في كل شيء، الكهربية: سالبة وموجبة، المغناطيسية: شمال وجنوب وهكذا، كل شيء خلقه الله سبحانه وتعالى تتحقق ظاهرة الزوجية فيه. يقول ابن جرير: وأولى القولين في ذلك قول مجاهد وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانياً له مخالفاً في معناه، فكل واحد منهما زوج للآخر، ولذا قيل: ((خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ)). ((لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) يقول ابن جرير: أي: لتذكروا وتعتبروا بذلك، فتعلموا أيها المشركون بالله أن ربكم الذي يستوجب عليكم العبادة هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه، وابتداء الزوجين من كل شيء لا ما لا يقدر على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ففروا إلى الله ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين)

تفسير قوله تعالى: (ففروا إلى الله ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين) قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50 - 51]. قوله: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: حقيقة الفرار الهرب من شيء إلى شيء، وهو نوعان: فرار السعداء، وفرار الأشقياء، ففرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل، وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه، وأما الفرار منه إليه فهو الفرار إلى الله عز وجل بالتوبة والإنابة والإقبال والمسارعة في طاعته وهذا فرار السعداء، وأما الفرار منه لا إليه فهو بعمل المعاصي والإسراف فيها وهذا فرار الأشقياء. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وكما قال عليه الصلاة والسلام: (وأعوذ بك منك) وقال عز وجل: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] فهذا فرار الخلص والأولياء. وقال سهل بن عبد الله: فروا مما سوى الله إلى الله. وقال آخرون: اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة. يقول القاسمي: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: فروا من عقابه إلى رحمته بالإيمان به واتباع أمره والعمل بطاعته. قال الشهاب: الأمر بالفرار من العقاب المراد به الأمر بالإيمان والطاعة، كأنه فر لمأمنه. ((إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: أنذركم وأخوفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم الذين قص عليكم قصصهم والذي هو مذيقهم العذاب في الآخرة. ((وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: قد أبان النذارة. قال أبو السعود: فيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى، لكن لا بطريق التكليف كما قيل، بل بالنهي عن سببه وإيجاب الفرار منه. قوله: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) أي: بالإيمان وعدم الشرك، وقوله: ((وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) فإن هذا هو مفتاح النجاة.

تفسير قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم أتواصوا به بل هم قوم طاغون)

تفسير قوله تعالى: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم أتواصوا به بل هم قوم طاغون) قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52 - 53]. قوله: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: كما ذكر من تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً، قال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] أي: هم قالوا ذلك تقليداً لآبائهم واقتداءً لآثارهم، فمورد جهالتهم مؤتلف ومشرع تعنتهم متحد، فآباؤهم واجهوا الرسل السابقين بنفس الاتهام فقالوا: ساحر أو مجنون. ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) إنكار وتعجب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء فضلاً عن التفوه بها. قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: كأن كل جيل كان يوصي الجيل الآتي بقوله: إذا أتاكم رسول فقولوا له: أنت ساحر أو مجنون، أو ساحر كذاب. قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أي: أأوصى بهذا القول بعضهم بعضاً حتى اتفقوا عليه؟! فأضرب الله سبحانه وتعالى عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) يعني التأريخ يعيد نفسه. ألا إنما الأيام أبناء واحد وتلك الليالي كلها أخوات فلا تطلبن من عند يوم ولا غد خلاف الذي مرت به السنوات هذه سنة ماضية، فهم لما اتحد جوابهم وتعنتهم مع الرسل لا لأنهم تواصوا به حقيقة؛ ولكن لأنهم يتفقون في صفة هي التي أثمرت لهم نفس الرد وهي أنهم قوم طاغون. ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ))، فهذا إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك وإثبات لكونه أمراً أقبح من التواصي وأشنع منه وهو الطغيان الشامل للكل، الدال على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم بمقتضى جبلته الخبيثة لا بموجب وصية من قبلهم بذلك، فهذا هو السبب الحقيقي في أنهم ردوا نفس الرد، وقابلوا وجابهوا جميع الأنبياء والرسل بنفس التكذيب والإعراض. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52 - 53] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوماً إلا قالوا: ساحر أو مجنون، ثم قال: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال؛ لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا، فقال: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) أي: الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعاً على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد الطغيان، الذي هو مجاوزة الحد في الكفر. وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم. وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة في قول الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118]. فإذا كانت القلوب متشابهة، فإنه يصدر عنها نفس هذا الصد عن سبيل الله، وهذا ما نلاحظه ونشهده في آفاق الأرض كلها، الآن مثلاً يجتمع الجميع على الصد عن سبيل الله وتجد نفس الكلام من الشتم كقولهم: هؤلاء الإرهابيون المتطرفون المهووسون إلى غير ذلك من الشتائم التي يطلقونها علينا.

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم)

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم فما أنت بملوم) قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]. قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ كقوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب:48]، وقوله: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]. ((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: ما أنت بملوم ولن نحاسبك لأنهم أعرضوا، إنما أنت تؤدي ما عليك: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21 - 22]. ((فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: لست مسئولاً عن استجابتهم، إنما أنت مسئول عن البيان والبلاغ، ففي هذه العبارة أوضح رد على ما تفوه به بعض المفسرين المعاصرين وأحسبه الأستاذ المودودي رحمه الله تعالى، حيث يقول: إن الهدف والغاية من بعث الرسل هو إقامة الحكومة الإسلامية. فبعض الكتاب تصدر منهم تعبيرات مرفوضة، فنحن فقط ننكرها من باب النصيحة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنهم في ذلك، فكان من تعبير بعض هؤلاء الكتاب ومن يسمونهم مفكرين: أن بعض الرسل فشلوا في إقامة الحكومة الإسلامية والبعض الآخر نجح، فنسبة الفشل لبعض الأنبياء هذا شيء فظيع وشيء عجيب! والذي يوضح ويظهر بطلان هذه النظرية وهذا الكلام هذه الآية: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) والرسول ما عليه إلا البلاغ وقد أدى ما عليه، أما أن الرسول يحاسب ويلام لأن قومه لم يستجيبوا له فلا؛ لأنه لا يملك قلوب الناس، ولا يملك هداية القلوب، إذ هداية القلوب فقط بيد الله سبحانه وتعالى، فلذلك قال سبحانه: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) أي: قد أديت ما عليك، وجاء في الحديث: (أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد) لم يستجب له أحد، فهل يطلق على هذا أنه نبي فاشل والعياذ بالله؟! وهل النبي أصلاً يوصف بالفشل؟! فهذا من جراء إطلاق بعض الأدباء العنان لأقلامهم، فيأتون بمثل هذه العبارات السخيفة؛ بسبب عدم معرفتهم لقضية التوحيد وصفات الله سبحانه وتعالى، وما ينبغي أن ينسب إلى الله وما ينبغي أن ينزه الله عنه، كذلك تنزيه الرسل والأنبياء عن أمثال هذه العبارات الفضيعة التي جرت على ألسنتهم. فمعرفة وإتقان هذه الضوابط أمر مهم جداً. فلا يطلق أبداً على النبي أنه فشل -والعياذ بالله- في إقامة حكومة إسلامية؛ لأن الغاية والهدف من إرسال الرسل هو تعبيد الناس لربهم سبحانه وتعالى. يقول العلامة النسفي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ)) نفيه جل وعلا في هذه الآية الكريمة اللوم عن نبيه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه أدى الأمانة ونصح الأمة، وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]. يقول القاسمي: وقول بعض المفسرين: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: فأعرض عن مجادلتهم بعدما كررت عليهم الدعوة، يقول: هذا بعيد عن المعنى بمراحل؛ لأن مجادلتهم مما كان مأموراً به على المدى. قلنا في تفسير قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)): أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ فقط، أي: ليس أعرض عن مجادلتهم وعن إقامة الحجة عليهم وعن دعوتهم فهذا تفسير غير صحيح وإنما الصحيح: أعرض عن مقابلتهم بالأسوأ، لكن فيما يتعلق بوظيفة الدعوة لابد أن يستمر في إقامة الحجة، ولذلك قلنا: إن هذه الآية يفسرها قوله: ((وَدَعْ أَذَاهُمْ))، وقوله: (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا)، وقوله: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)) ثم قال بعدها: ((لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)) أي: عليك هداية البيان والتوضيح وإقامة الأدلة، لكن هداية القلوب للحق هذه لا يملكها إلا الله، وهي التي قال الله فيها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، وقال الله تعالى فيها: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]. إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام كان مكلفاً بهداية البلاغ والبيان على الوجه الأكمل؛ لأن المجادلة والمناقشة وإظهار الحجة وإبطال كلام أعداء التوحيد هو العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، وقد قلنا من قبل: إن المسلمين لا يمكن أن ينهزموا في مناظرة أو في مناقشة علمية نزيهة، فلأهل الحق الظهور على الإطلاق، وإذا حصل ظهور من الكفار فليس ظهور حجة وإنما هو ظهور قهر وكبت وتشنيع وشغب بالشبهات وغير هذه الأشياء، لكن بظهور حجة لا يمكن أن يحصل هذا، لأن الحجة ظاهرة على الإطلاق، فظهور أهل السنة والجماعة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين). إذاً: أدلة الحق هي أوضح من الشمس ولا ينكرها إلا مطموس البصيرة، ولا يمكن للمبطل أن يكون له دليل على باطله، فمن ثم أوجب الله على كل إنسان منذ بعث النبي محمداً عليه الصلاة والسلام إلى أن تقوم الساعة أمرين: الأول: أن يجتهد في البحث عن الحق. الثاني: أن يصيب الوصول إلى الحق، ولا يعتبر عذراً له إذا قال: بحثت وتحريت فوجدت -مثلاً-: النصرانية هي دين الحق أو اليهودية أو البوذية إلى آخره؛ لأن الأدلة واضحة وضوحاً بحيث لا يجحدها إلا مكابر، أما الباحث عن الحقيقة بإخلاص فحتماً لابد أن يصل، والواقع يؤيد هذا كما تعلمون. فقوله تعالى: ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)) أي: جهاداً ممتداً بالقرآن، وذلك بإقامة الحجج القرآنية على القضايا الكلية، وبالذات قضايا العقيدة والتوحيد.

تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]. قوله: ((وَذَكِّرْ)) أي: عظهم. ((فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: من قدر الله إيمانه أو الذين آمنوا؛ فإنهم المقصودون من الخلق لا من سواهم إذ هم العادلون. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئاً لحكم متعددة، فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع، فإنا نذكر بعض حكمه، والآيات الدالة عليها، وقد قدمنا أمثلة ذلك، ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير، وهي رجاء انتفاع المذكَّر. هنا اقتصر الشنقيطي على ذكر فائدة واحدة وهي التذكير، لكن هناك فوائد أخرى ثبتت من خلال أدلة أخرى منها: إقامة الحجة على العباد، وهذا هو المطلوب في مجادلة الكفار أنك تبلغهم الحق، وأنت غير مسئول عن استجابتهم، عليك فقط أن تبلغ حجة الله وأن تقيم الشهادة لله على هؤلاء الناس أنه وصلهم الحق وهم الذين أعرضوا عنه، وأوضح دليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]. ولذلك يقول الشنقيطي: ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير، وهي رجاء انتفاع المذكر؛ لأنه تعالى قال هنا: ((وَذَكِّرْ)) ورتب عليه قوله: ((فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)). إذاً: هذا تعرض لفائدة من فوائد التذكير. ثم يقول: ومن حكم ذلك أيضاً: خروج المذكِّر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله: ((قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)). إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تبرأ عهدتك أمام الله سبحانه وتعالى ولا يشترط أن يستجيب الناس لنصيحتك، لكن ما دمت أنت لم تقصر وأديت ما عليك، في هذه الحالة تكون قد أعذرت إلى ربك عز وجل، ولذلك كثير من الناس يتخاذل عن أن ينكر المنكرات، وبالتالي تزداد شيوعاً ويقول: لا فائدة، الناس لا تستجيب وكلامي كعدمه، فيرد على مثل هذا بالقول: إن من حكمة التذكير والنصيحة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تقيم حجة الله على هذا العبد بإيصال الحق له. ((وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) لعلك تصادف قلباً مقبلاً على الله سبحانه وتعالى فيتأثر بالنصيحة كما يحصل لكثير من الناس.

وقفة مع المتخاذلين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقفة مع المتخاذلين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحقيقة وردت شكوى من أحد إخواننا الأفاضل الأسبوع الماضي يقول فيها: توجد الآن منكرات كثيرة، خاصة فيما يتعلق بالاختلاط القبيح جداً بين الفتيان والفتيات، والمصيبة أن بعض الإخوة يمرون على المنكرات مرور الكرام ولا يتكلمون، مع أنه من المؤكد أنه لن يتعرض لضرر إذا نصح ولن يقبض عليه ولن يعذب ولن يعتقل، ولو كل واحد مر بفتاة وبجانبها شاب أجنبي عنها وغضضت البصر وقال لهما: اتقيا الله سبحانه وتعالى، توبا إلى الله، هذا الاختلاط حرام، إذا كنت أجنبية عنه وهكذا، ونصحهما وأدى ما عليه ومضى فإنه يرجى إن شاء الله تعالى أنه مع الوقت سيشعران بأنهما يفعلان شيئاً خطأ ويبد كل منهما في تحاشي مثل ذلك الاختلاط، لكن سكوتنا مما يعمق ظهور هذه الفتن وهذه المنكرات، وبالتالي نستحق الوعيد الذي قال في شأنه الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه). فالشاهد: أن الإنسان عليه ينصح، وليس عليه مسئولية الاستجابة، وإنما عليه مسئولية إذا نفر المدعو، وإذا أمر بجهل أو نهى بجهل، أو أخطأ في مراعاة الآداب الشرعية والضوابط الشرعية للنصيحة، لكن ما دام أنه يراعي هذه الضوابط ويتكلم عن علم، ويعظ بالحكمة والموعظة الحسنة فهو غير مسئول، عليه فقط أن يقيم الحجة، فانتبهوا لهذا، حتى لو كان الناس لا يستجيبون فسنظل مطالبين بنصيحتهم. ثم يقول الشنقيطي: ومن حكم ذلك أيضاً: النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه. يعني: هذه الأمة وظيفتها أنها نائبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والمرسلين ولا نبي بعده، مع أننا نؤمن بأن كل ذكر مولود على الأرض منذ بعثته إلى يوم القيامة مسئول عن دين محمد، وسيسأل في القبر الأسئلة الثلاثة المعروفة: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال عليه السلام: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار) كما في صحيح مسلم. فإذاً: علينا أن نعي واجبنا في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في ضوء قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، فهذه الأمة من مسئوليتها القيام بالشهادة وتحمل دعوة الإسلام وإيصالها إلى كل البشر على وجه الأرض؛ لأنها تخلف الرسول عليه السلام في إقامة الحجة على الخلق، يقول الله تبارك وتعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، فبالنسبة لأمتنا بالذات العلماء ورثة الأنبياء وكل مسلم مطالب بأن يبلغ ما استطاع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية) لأنه بهذا البلاغ تقوم الحجة على الخلق، وتظل وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الحجة على البشر من خلال القرآن والسنة قائمة عن طريق الأمة التي تبلغ الناس. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47]. وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، هذه الآية تفهم خطأً كالآية التي نحن بصددها، فقوله: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) يظن المتخاذل عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنها حجة له في أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نقول: المقصود بقوله: ((عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ)) أي: الزموا أنفسكم الحق إن لم يستجب الآخرون. قوله: ((لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) من ضمن التفاسير التي تبطل هذا المذهب قول من قال: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا اهتديتم.

تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)

تفسير قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، أي: إلا لهذه الحكمة وهي عبادته تعالى بما أمر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ لا يتم صلاح ولا تنال سعادة في الدارين إلا بها. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: اختلف العلماء في معنى قوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) فقال بعضهم: المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89]، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان. وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي: (فإن قتلوكم فاقتلوهم) من القتل لا من القتال. أما القراءة الأخرى وهي قراءة حفص عن عاصم {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] ليس فيها إشكال، لكن إذا قلنا: (فإن قتلوكم فاقتلوهم) على هذه القراءة يكون المعنى: فإن قتلوا بعضكم، فأطلق الكل وأراد البعض. ثم يقول: ومن شواهده العربية قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد فقوله هنا: (فسيف بني عبس وقد ضربوا به) يفهم من الشطر الثاني أن المقصود بسيف بني عبس الذي ضربوا به هو أن الذي ضرب به هو واحد، لكن نسب السيف إليهم جميعاً. يقول: فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي. من ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، بدليل قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:99]. وقال بعض العلماء: معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليقروا لي بالعبودية طوعاً أو كرهاً؛ لأن المؤمن يطيع باختياره، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبراً عليه. وهذا كما قلنا: عبودية اختيارية، وعبودية اضطرارية، ومعنى العبودية الاضطرارية: أن سنن الله وأحكام الله تنفذ على الكافر رغماً عنه، إذا شاء الله له أن يولد يولد، وإذا شاء الله له أن يمرض يمرض، وإذا شاء الله له أن يموت في وقت معين يموت في نفس هذا الوقت، وإذا شاء الله أن يعزه يعتز، أو يذله يذل وهكذا، فأفعال الله وقضاء الله ماضية فيه لا انفكاك له عنها، فهذه هي العبودية الاضطرارية. ثم يقول: ويدل له قوله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15] والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله عز وجل، وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعاً وبعضهم يفعله كرهاً. أي: فالجميع في حالة العبودية، فعلى هذا الأساس اللام في قوله: (إلا ليعبدون) لام التعليل، أي: لإرادة أن يعبدون. إذاً: الإرادة هنا إرادة شرعية. يقول الشنقيطي: وعن مجاهد أنه قال: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا ليعرفوني، واستدل بعضهم لهذا القول بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] ونحو ذلك من الآيات. وعن مجاهد أيضاً في معنى قوله: ((إلا ليعبدون)) أي: إلا لآمرهم بعبادتي، فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره. وعلى هذا القول: فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله: ((ليعبدون)) إرادة دينية شرعية، وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل بطاعة الله، لا إرادة كونية قدرية؛ لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن، والواقع خلاف ذلك، بدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3] إلى آخر السورة.

القول الفصل في معنى قوله تعالى: (إلا ليعبدون)

القول الفصل في معنى قوله تعالى: (إلا ليعبدون) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة: ((إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) أي: إلا لآمرهم بعبادتي، وأبتليهم أي: أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم. قال تعالى في أول سورة هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] ثم بين الحكمة من هذا الخلق، بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]. إذاً: كلمة: (لِيَعْبُدُونِ) تساوي في التفسير: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7]. ثم قال الشنقيطي: وقال تعالى في أول سورة الملك: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال تعالى في أول الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، يفسر قوله: (لِيَعْبُدُونِ)، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولاً وبعثهم ثانياً هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ وذلك في قوله تعالى في أول سورة يونس: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:4]، وقوله في النجم: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]. وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى أي: مهملاً لم يؤمر ولم ينه، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت، أي: ويجازيه على عمله، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، والبراهين على البعث دالة على الجزاء. يعني: جميع الأدلة التي تدل على البعث والنشور هي نفسها تدل على الجزاء؛ لأن البعث والنشور لحكمة الجزاء. ثم يقول الشنقيطي: وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم، منكراً ذلك عليهم في قوله تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]. ثم يقول: اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما، قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافاً، والواقع خلاف ذلك؛ لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضاً، وإيضاح ذلك: أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء، وأنه محيط بكل شيء علماً، يقول تعالى في آخر سورة الطلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. إذاً: هذه الآية نصت على حكمة خلق الله للسماوات والأرض لماذا؟ {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. وذكر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده، كقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة:164] إلى قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] ولما قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده، بقوله بعده: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]. والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق كثير جداً في القرآن، يقول تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:2 - 3] وقال تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس، وذلك في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]. وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس:4] وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه. فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافاً، مع أنها لا اختلاف بينها؛ لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد، وهو معرفة الله وطاعته، ومعرفة وعده ووعيده، فقوله: ((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، وقوله: ((اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله؛ لأن من عرف الله أطاعه ووحده. وهذا العلم يعلمهم الله إياه، ويرسل لهم الرسل بمقتضاه، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فالتكليف بعد العلم، والجزاء بعد التكليف، فظهر بهذا اتفاق الآيات بأن الجزاء لابد له من تكليف. هل يحاسب الله من هو غير مكلف؟ لا، لا يحاسب الله إلا من هو مكلف، والإنسان لا يصير مسئولاً عن الحق إلا بعد أن يعلمه، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فإذاً: هناك تلازم بين هذه الأمور كلها. ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: فظهر بهذا اتفاق الآيات بأن الجزاء لابد له من تكليف، وهو الابتلاء المذكور في الآيات، والتكليف لابد له من علم، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق، ودل بعضها على أنها الابتلاء، ودل بعضها على أنها الجزاء، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه، وبعضه مرتب على بعض. وقد بينا معنى قوله تعالى: (إلا ليعبدون) في كتابنا: (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] أي: ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم، وفي قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] فهذه إرادة كونية قدرية، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله تعالى: ((إلا ليعبدون)) إرادة دينية شرعية. وبينا هناك أيضاً الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسماً إلى شقي وسعيد، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، وقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]. والحاصل: أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده، وأمرهم بذلك، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية. يعني: أنه قد يقع وقد لا يقع، وأن الله يحب هذا الذي يأمر به ويرضاه بخلاف الإرادة التكوينية القدرية. ويقول رحمه الله: ثم إن الله جل وعلا يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية، فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة. وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله تعالى: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ))، وقوله: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) وبين قوله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)). إذاً: قوله: ((وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)) اللام فيها تدل على الإرادة الكونية القدرية، لكن قوله: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) اللام فيها تدل على الإرادة الشرعية الدينية. ثم قال رحمه الله تعالى: وإنما ذكرنا أن الإرادة

تفسير قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)

تفسير قوله تعالى: (ما أريد منهم من رزق إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) قال الله تبارك وتعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58] بيان لعظمته عز وجل، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس به شأن عبيد الخلق معهم، فإن عبيدهم مطلوبون للخدمة والتكسب للسادة، والسيد يجعل العبيد يعملون ثم يعودون عليه بحاصل ما عملوا به، أما الله فهو غني عن العالمين، ولا يطلب من عباده رزقاً ولا إطعاماً، بل هو الذي يرزقهم، وإنما يطلب منهم عبادته ليصرفوا ما أنعم به عليهم إلى ما خلقوا لأجله.

تفسير قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم)

تفسير قوله تعالى: (فإن للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم) قال تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات:59]. قوله: ((فإن للذين ظلموا)) أي: ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد. ((ذنوباً)) أي: نصيباً وافراً من العذاب. وأصل الذنوب في لغة العرب: الدلو، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقُلُب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملء دلو، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب التي هي الدلو على النصيب، فأصل الذنوب النصيب، لكن لما كان هذا النصيب لا يحصل عليه إلا بالدلو صارت تأخذ معنى النصيب. قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو: لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب يعني: لنا نصيب ولكم نصيب، فإن أبيتم فلنا القليب. أي: سنأخذ نحن كل البئر. ويروى أيضاً: إنا إذا سار بنا سريب له ذنوب ولنا ذنوب فإن أبى كان لنا القليب ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي، وقيل: عبيد: وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لكأس من نداك ذنوب وقول أبي ذؤيب: لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب (المنايا): الموت. وقوله: (لكل بني أب منها ذنوب) أي: لكل إنسان منها نصيب، ولابد أن يشرب من كأس الموت نصيبه. إذاً: الذنوب في البيتين النصيب. قوله: ((فإن للذين ظلموا)) أي: بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم. (ذنوباً) أي: نصيباً من عذاب الله. ((مثل ذنوب أصحابهم)) أي: من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم، كما قال تعالى: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر:50 - 51]، أي: سيحصلون على نفس النصيب من العذاب. وقال تعالى هنا: ((فلا يستعجلون)) كما قال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6]، وقال تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]. يقول القاسمي: ((ذنوباً)) أي: نصيباً وافراً من العذاب. ((مثل ذنوب أصحابهم)) أي: مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية، وقوله: ((أصحابهم)) أي: أزواجهم وأصنامهم أو نظرائهم، وليس أصحابهم الذين يعيشون معهم. وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء، وهي تذكر وتؤنث فاستعيرت للنصيب مطلقاً، في الشر كالنصيب من العذاب كما في الآية، أو في الخير كما في العطاء في الشعر الذي ذكرناه، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب، فيعطى لهذا ذنوب والآخر مثله. ((فلا يستعجلون)) أي: لا يطلبوا مني أن أعجل هذا الذنوب قبل أجله، فإنه لابد آتيهم، ولكن في حينه المؤخر لحكمة.

تفسير قوله تعالى: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون)

تفسير قوله تعالى: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون) قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:60]، كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، وقال عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:2]، وقال: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15]، فكلمة (ويل) قال بعض أهل العلم: إنها مصدر لا فعل له من لفظه، ومعناها: الهلاك الشديد. وقيل: هو واد في جهنم تستعيذ من حره. والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء عليهم بهذا الويل. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)) أي: توعدوا فيه نزول العذاب بهم، وماذا يلقون فيه من البلاء والجهد، واليوم يوم القيامة، أو يوم بدر. قال أبو السعود: والأول هو الأنسب؛ لما في صدر السورة الكريمة الآتية؛ لأنه كما تعلمون أن هناك علم التناسب والترابط بين سور القرآن بعضها ببعض من حيث الترتيب، فالسورة التالية التي هي سورة الطور في صدرها جاء قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:7 - 10]، فقوله: (يوم) كأن هذا اليوم الذي ورد ذكره هنا في صدر سورة الطور هو الذي اختتم به سورة الذاريات التي قبل هذه السورة مباشرة، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ))، أي يوم هو؟ إنه يوم تمور السماء موراً، وتسير الجبال سيراً. فإذاً: هذا يكون أقرب من القول أن اليوم هو يوم بدر، ((فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)). قال أبو السعود: هو الأنسب؛ لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والثاني هو الأوفق لما قبله، منه قوله تعالى: ((فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ)) فيكون هنا أنسب لما قبله؛ لأن كفار قريش أخذوا نصيبهم من الهلاك يوم بدر، والله تعالى أعلم.

الطور [1 - 34]

تفسير سورة الطور [1 - 34]

بين يدي سورة الطور

بين يدي سورة الطور قال المهايمي: سميت هذه السورة بالطور لما تضمن من تعظيم مهبط الوحي، فالوحي أولى بالتعظيم. والطور هو مكان مهبط الوحي على موسى عليه السلام، فإذا بلغ من شرف هذا الجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى أن أقسم الله به، وسميت السورة به تعظيماً لمهبط الوحي، فكيف بالوحي نفسه؟! لا شك أنه أولى بالتعظيم. فيعظم الاهتمام بالعمل، لاسيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهذه السورة مكية، وآيها تسع وأربعون، وترتيبها في المصحف الثانية والخمسون. روى الشيخان ومالك عن جبير بن مطعم قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءةً منه)، وعلى هذا فهذه السورة من السور التي تتلى في صلاة المغرب؛ لهذا الحديث. وروى البخاري عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي -يعني: أنها مريضة- فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بـ {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2]).

تفسير قوله تعالى: (والطور وكتاب مسطور في رق منشور)

تفسير قوله تعالى: (والطور وكتاب مسطور في رق منشور) يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:1 - 6]. قوله: ((وَالطُّورِ)) قيل: إن المقصود به: طور سينين، وطور سينين أقسم الله عز وجل به في سورة أخرى من القرآن الكريم. فقوله: ((وَالطُّورِ)) أي: وطور سينين. وهو جبل بمدين سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تبارك وتعالى. وكتب التفسير تذكر أن هذا الجبل جبل بمدين، وقيل: إن اسمه الزَّبير، قال الجوهري: والزَّبير: الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقيل: الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور. وأما مدين فهي مدينة قوم شعيب، وهي تجاه تبوك على بحر القُلزم، يعني: على البحر الأحمر، وبتعبير أدق على خليج العقبة، وبين تبوك ومدين ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب. فعلى هذا فالظاهر أن الجبل هو جبل طور سينين أو جبل الطور الذي في مدين الذي كلم الله عليه موسى. ويتضح من سياق هذا الكلام أن هذا الجبل يقع في الحد الشمالي الغربي من جزيرة العرب، فما أدري ما هو التحقيق في ذلك، خاصة وأنه يشيع عندنا: أن هذا الجبل في سيناء! وحتى الآن ما وقفت على كلام قاطع يوضح هذه المسألة، هل هو الجبل الذي في سيناء أم أنه الجبل الذي في مدين؟ ولكن الظاهر أنه الذي في مدين، والله تبارك وتعالى أعلم.

كلام الشنقيطي في أول سورة الطور

كلام الشنقيطي في أول سورة الطور يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الأقسام التي أقسم الله بها في أول هذه السورة الكريمة، أقسم ببعضها بخصوصه وأقسم بجميعها في آيات عامة لها ولغيرها. أما الذي أقسم به منها إقساماً خاصاً فهو: الطور والكتاب المسطور والسقف المرفوع. يقول الشنقيطي: والأظهر: أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين:1 - 2]. والأظهر أن الكتاب المسطور هو: القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه، كقوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان:1 - 2]، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1 - 2]. وقيل: (الكتاب المسطور) هو كتاب الأعمال، يعني: الذي تسجل فيه أعمال العباد. وقيل غير ذلك. وقوله: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] هو السماء، وقد أقسم الله بها في كتابه في آيات متعددة، كقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7]، وقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5]. و (الرَّق) في قوله: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] بفتح الراء: كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل: هو الجلد المرقق ليكتب فيه. وقوله: ((مَنْشُورٍ))، يعني: مكتوب، ومنه قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] يعني: يلقاه مبسوطاً، وقوله تعالى أيضاً: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52]. وقوله: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4]: هو البيت المعروف في السماء، المسمى بالضراح، وقيل فيه: معمور لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء في الحديث: (يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه بعدها) يعني: أنه يطوف يومياً بالبيت المعمور في السماء سبعون ألف ملك، والذي يحج إليه مرة لا يحج إليه بعد ذلك، بمعنى: أنه يزوره في كل يوم سبعون ألف ملك جديد، ولا يعودون إلى البيت بعد ذلك، وإنما يأتي كل يوم سبعون ألف ملك لم يسبق لهم أن أتوا إلى هذا البيت المعمور في السماء من قبل. وأما قوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6]: ففيه وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن المسجور هو الموقد ناراً، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] يعني: توقد عليهم النار، فالبحر ماء، ومع ذلك يوصف بأنه مسجور. وكنا من قبل يصعب علينا جداً تصور كيف يكون البحر مسجوراً والبحر ماء، والمسجور هو الموقد ناراً، فكيف يجتمع الماء والنار؟! وقربت هذه الصورة إلى أذهاننا شيئاً ما حينما حصلت الكارثة منذ عدة سنوات في الصعيد، وذلك لما حصلت سيول شديدة جداً مع حصول احتراق في مستودع بترول، فكانت السيول تحمل البترول، ولأن كثافته أخف كان يرتفع إلى سطح الماء، فالكارثة كانت شديدة بسبب أن الماء كان يتحرك ويحمل فوق ظهره النار، وذلك هو الذي أشاع الدمار والحريق في كل المباني والبيوت، فهذا مما قرب إلينا شيئاً مما كنا لا نتصوره من كون البحر يحمل النار، فاجتمع الماء والنار معاً في الدنيا، فكيف لا يجتمعان حينما تنتهي هذه الحياة؟! إذاً: التفسير الأول: أن المسجور بمعنى الموقد ناراً، أي: أن البحر نفسه يتحول إلى نار، قال العلماء: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72]. الوجه الثاني في تفسير المسجور: أنه بمعنى المملوء، ويسمى البحر بالمسجور؛ لأنه مملوء ماءً، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته: فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورةً متجاوراً قلامها فقوله: مسجورة، أي: عين مملوءة ماءً. وقول النمر بن تولب العكلي: إذا شاء طالع مسجورة ترى حولها النبع والسماسما والسماسم شجر يتخذ منه القسي والسهام، ومثله أيضاً النبع، فقوله: إذا شاء طالع مسجورة، يعني: عيناً مملوءة ماءً. هذان الوجهان مذكوران في معنى المسجور، وهما أيضاً مذكوران في قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6]، فقوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] يعني: إما أنها سجرت بامتلاءها بالماء، وإما سجرت بمعنى: أوقدت وأضرمت ناراً. فهذه الجملة السابقة من الآيات في كل قسم من هذه الأقسام أتينا بالأدلة على أنه أقسم الله بها في موضع آخر، لكن هناك قسم عام أقسم به الله يشمل هذه الأشياء وكل ما أقسم الله به، وهو قول الله تبارك وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38 - 39]، فالإقسام في هذه الآية عام بكل شيء.

كلام القاسمي في أول سورة الطور

كلام القاسمي في أول سورة الطور يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {وَالطُّورِ} [الطور:1] أي: وطور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى. {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2] مكتوب، والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة. {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] يعني: أن الكتاب مسطور في رق منشور. إذاً: قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)) متعلق بقوله: ((مَسْطُورٍ)) أي: وكتاب سطر في رق منشور يقرأ على الناس جهاراً، والرق: الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه. وغلَّط الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من قال إن الكتاب المسطور في رق منشور هو: اللوح المحفوظ، قال: لأن اللوح المحفوظ ليس برق. يعني: ليس عبارة عن جلد معد للكتابة عليه، فلا يطلق عليه وصف الرق. أيضاً غلَّط بعض العلماء قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) المقصود به التوراة؛ لأن التوراة كانت في ألواح، كما قال تعالى: {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} [الأعراف:150]، ولم تكن في رق. فبالتالي لا يصح تفسير قوله: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) بأنه التوارة. ومما أُيّد به التفسير الذي ذكرناه وأنه هو الراجح -وهو أن الكتاب المسطور المقصود به القرآن الكريم- الربط دائماً بين موسى عليه السلام وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وبين الأمة المحمدية وأمة بني اسرائيل، وبين التوراة وبين القرآن الكريم، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30]. والكتاب الأساسي هو التوارة، أما الإنجيل فجاء مكملاً فقط للتوراة، لذلك قالت الجن كما حكى الله عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30]، فهنا حصل الربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام. كذلك لما اصطحبت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل، قال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فربط بين موسى وبين محمد عليه الصلاة والسلام. كذلك قول النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. كذلك في صدر سورة الإسراء، نلاحظ هذا الربط بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] إلى قوله تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الإسراء:2]. فيلاحظ في القرآن الكريم: التشابه الشديد بين موسى وبين محمد صلى الله عليهما وسلم، سواء في النشأة أو أطوار الرسالة، وهذا كله مصداق ما جاء من البشارة في التوراة. وقد ذكرت الملائكة لـ هاجر أن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من نسلها ولداً مباركاً، وهو إسماعيل عليه السلام، وهذه البشارة ما زالت موجودة بين أيدي اليهود والنصارى إلى اليوم، وفيها: (وأقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك) أي: مثل موسى، فهذه المثلية هي التي نشير إليها؛ لوجود صور كثيرة من التشابه بينهما، ولا يوجد هذا التشابه الكبير بين المسيح وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما دائماً التشابه يكون بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهذا كله مصداق هذه البشارة التي فيها: (أقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك). يعني: مثل موسى عليه السلام. فمما يرجح أن الكتاب المسطور المراد به القرآن؛ هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، وهو الربط والارتباط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين التوراة وبين القرآن، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]، حلف الله تعالى وأقسم بالمواضع الثلاثة التي أنزل فيها الوحي على الأنبياء. فقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))، هذا إقسام ببلاد الشام، حيث ينبت التين والزيتون. وقوله: ((وَطُورِ سِينِينَ))، حيث كلم الله موسى عليه السلام. وقوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3]، يعني: مكة، حيث أنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكذلك هنا قرن بين الطور الذي هو مهبط كلام الله على موسى، وبين القرآن الكريم.

معنى قوله تعالى: (والبيت المعمور)

معنى قوله تعالى: (والبيت المعمور) قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4] أي: الذي هو معمور بكثرة من يغشاه، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمار والطائفين والعاكفين والمجاورين، وهذا هو الذي اعتمده القاسمي، فقد رجح أن البيت المعمور هو البيت الحرام بمكة المكرمة، والذي لا يوجد على سطح الأرض بيت يعبد الله سبحانه وتعالى ويوحد كما ينبغي له عز وجل إلا في هذا المكان وحده والعاكفين والمجاورين وغير ذلك. وهناك قول آخر وهو: أن البيت المعمور هو بيت في السماء بحيال الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه أبداً. قال القاسمي: والأول أظهر، أي: أن البيت المعمور المقصود به الحرم الشريف؛ لأنه يناسب ما جاء في سورة التين من عطف البلد الأمين على طور سينين، والقرآن يفسر بعضه بعضاً؛ لتشابه آياته كثيراً، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب. أما القول: بأن البيت المعمور هو البيت الذي في السماء، فدليله ما ثبت في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإسراء: (ثم رفع لي البيت المعمور، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم). ويمكن أن تقرأ (آخرُ ما عليهم)، إن قلنا: (آخرَ ما عليهم) فالنصب على الظرفية، وإن قلنا: (آخرُ ما عليهم) فالرفع على تقدير: ذلك آخرُ ما عليهم، وهذا أولى. وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه). قال المهايمي: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي، يعني: بعدما أقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب بقوله: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2]، وهو الوحي، أورد بعد ذلك البيت المعمور، فربط بين الوحي وبين البيت المعمور، وعلى القول بأن البيت المعمور هو الكعبة، فكأن الربط هنا بين الوحي نفسه وبين مكان الوحي الذي هو البيت المعمور في مكة المكرمة. يقول: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي؛ لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه؛ ولأنه مظهر الوحي ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين؛ ولأنه من أجل الآيات وأكبرها، كما دل عليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، وآيات أخر.

معنى قوله تعالى: (والسقف المرفوع والبحر المسجور)

معنى قوله تعالى: (والسقف المرفوع والبحر المسجور) قوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] يعني: السماء، وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه، يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32]. وقيل: إن السقف المرفوع هو العرش، على أساس ما ثبت من كون العرش هو سقف الجنة. وقوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] المسجور هو المملوء، أو: المسجور هو الذي يوقد، ويصير ناراً، كقوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6]. قال ابن جرير: والأول أولى. فشيخ المفسرين رجح أن المقصود بالبحر المسجور: المملوء. يعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض؛ لأن الأغلب أن من معاني السجر الإيقاد أو الامتلاء. والبحر غير موقد اليوم، وثبتت له الصفة الثانية وهي الامتلاء؛ لأنه كل وقت ممتلئ، وهذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقسم من مخلوقاته إلا بما كان عظيماً. وفيه إشارة إلى دلائل وحدانيته وقدرته عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع)

تفسير قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع) ما مضى هو القسم، أما المقسم عليه فهو قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] يعني: ما له من دافع يدفعه عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع. ومثل هذا آيات أخر تثبت نفس هذه الحقيقة، كقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5 - 6]. وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9]، وقوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:134]، وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2]. وقوله: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)) [الطور:7 - 8]. قال جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه: (قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، -يعني: كان مشركاً في ذلك الوقت، وأتى لفداء أسرى بدر- فوافيته، -يعني: وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام- يقرأ في صلاة المغرب: {وَالطُّورِ} [الطور:1]، إلى قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) [الطور:7 - 8]، -فكأنما صدع قلبي)، يعني: كأنما تشقق قلبه إشفاقاً وخوفاً من هذه الآية الكريمة ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))، يقول جبير رضي الله تعالى عنه: (فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب). وعن هشام بن حسان قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن، وعنده رجل يقرأ: ((وَالطُّورِ))، حتى بلغ: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)) [الطور:7 - 8]، فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. فهذه الآية من أخوف الآيات في كتاب الله تبارك وتعالى؛ ولذلك جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأها في الصلاة فغشي عليه خوفاً وشفقةً من هذا الوعيد الشديد، ولما سقط حمل إلى بيته وظل يعاد أياماً، يزوره الناس يحسبونه مريضاً، وما به مرض، وإنما به الخوف من مما دلت عليه هذه الآية الكريمة! ولما ولي بكار القضاء، جاء إليه رجلان يختصمان، فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، يعني: أن القاضي رغب الشخص الذي حق عليه أن يحلف بالصلح؛ لأن الآخر ليس عنده بينه، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، فحاول القاضي أن يحرض هذين الخصمين على الصلح، وحرض الذي قبل أن يحلف أنه يعطي خصمه من عنده عوضاً عن يمينه! يضحي بشيء من ماله عوضاً عن أن يحلف، فأبى إلا أن يحلف أنه ليس عنده شيء، فأحلفه بأول ((وَالطُّورِ))، إلى أن قال له: قل: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)) [الطور:7] إن كنت كاذباً. وفي بعض الروايات: قل: إن عذاب الله بي لواقع إن كنت كاذباً، فقالها، وحلف هذا اليمين، فخرج فكسر من حينه، ولم يفصل، يعني: لم يبين الراوي هل انكسرت رقبته مثلاً فمات أم انكسر منه شيء آخر، على أي الأحوال هذا مما يدل على عظم هذه اليمين. فقوله تعالى: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)) [الطور:7 - 8]، يعني: لا يدفعه دافع عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع.

تفسير قوله تعالى: (يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا)

تفسير قوله تعالى: (يوم تمور السماء موراً وتسير الجبال سيراً) قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور:9 - 10]. العامل في ((يوم)) قوله: ((واقع)) يعني: واقع يوم. وقوله: ((تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا)) أي: تضطرب. وقوله: ((وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)) أي: تسير عن وجه الأرض، فتصير هباءً منثوراً، واستدل على هذا التفسير بقوله تبارك وتعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].

تفسير قوله تعالى: (فويل يومئذ للمكذبين)

تفسير قوله تعالى: (فويل يومئذٍ للمكذبين) قال تعالى: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11] أي: المكذبين بالحق الجاحدين له. وقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور:12] يعني: في خوض من التكذيب والاستهزاء، يلعبون بآيات الله ودلائله. وقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] أي: يدفعون إليها بعنف، يقال: دععت في قفاه، إذا دفعته في قفاه بإزعاج وشدة، كما يفعل الشرطي بالمجرم الذي يقبض عليه، فإنه يدفعه من الظهر أو من قفاه بشدة إلى الأمام. وقوله تعالى: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14] يعني: يقال لهم: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون). وقوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] يعني: الذي وردتموه الآن، أهذا سحر؟ والفاء هنا للسببية؛ لتسبب هذا عما قالوه في الوحي؛ لأنهم لما وصفوا الوحي بأنه سحر وردوا العذاب نتيجة هذا القول؛ تسبب لهم فيما هم فيه من الدع ومن العذاب. فقوله: ((أَفَسِحْرٌ هَذَا)) أي: أم هذا الذي تردونه الآن من النكال والعذاب، هل هذا سحر؟ وقوله: ((أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ)) أي: أم كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، لا تبصرون في الآخرة أيضاً؟ قال الزمخشري: يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم. ثم قال تعالى لهم: {اصْلَوْهَا} [الطور:16] أي: ذوقوا حر هذه النار. وقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا}، يعني: على ألمها. {أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} يعني: سواء عليكم الأمران ((سواء)) مبتدأ، والخبر ((عليكم))، أي: الصبر والجزع كلاهما عليكم سواء، كما قال الله تبارك وتعالى: {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]. فقوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16] أي: الأمران: الصبر وعدمه سواء عليكم. وقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، أي: لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم وكفركم به. والإتيان بهذه الصيغة هنا المقصود بها التعليل، يعني: علة هذا التعذيب ما عملتموه من قبل. قال الزمخشري: فإن قلت: لمَ علل استواء الصبر وعدمه بقوله: ((إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))؟ قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع؛ لنفعه في العاقبة، بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب -الذي هو الجزاء- ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع. يعني: أنه علل قوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور:16]، بأن المقصود: اصبروا على ألمها أو لا تصبروا، فالصبر والجزع كلاهما سواء، وذكر العلة بقوله: ((إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))، إشارة إلى أن الصبر والجزع لا يستويان في دار الدنيا، التي هي دار العمل والكسب والسعي، فالإنسان يصبر ولا يجزع، فإذا صبر فإنه يثاب على هذا الصبر، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، فالصبر يكون مراً، لكن عاقبته عاقبة طيبة. والإنسان عليه أن يصبر على مرارة الصبر؛ لأنه يرى ببصيرته حلاوة العاقبة، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فالصبر له ثمرة وعاقبة حسنة في الدنيا وفي الآخرة. أما الجزع في الدنيا فلا شك أن الصبر أفضل منه؛ لأن الصبر يرجى من ورائه عاقبة حلوة، أما في دار الجزاء بعدما انتهت الدنيا، فليس فيها أي كسب جديد، فقد انتهى العمل، وانقطعت الأسباب وانقطع العمل. فحينما ينتقل الإنسان إلى دار الجزاء، فيدخل النار ويعذب، فيصبر أو لا يصبر، لا فرق بين الاثنتين؛ لأن الصبر هنا في هذه الحالة لا يرجى من ورائه فائدة؛ لأنه في دار الجزاء، ودار الثواب أو العقاب، وليس في دار العمل.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]: الدع في لغة العرب: الدفع بقوة وعنف، ومنه قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2] أي: يدفعه عن حقه بقوة وعنف. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين: أحدهما: أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة. الثاني: أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخاً وتقريعاً: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:14]، كقوله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22]. وقال تعالى في سورة سبأ: {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [سبأ:42]. وقال تعالى في سورة المرسلات: {انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:29 - 32]. وقوله عز وجل: ((يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا))، يبينه قوله عز وجل في سورة الدخان: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] يعني: جروه بقوة وعنف إلى وسط النار. والعتل في لغة العرب: الجر بعنف وقوة. ومنه قول الفرزدق: ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل وقال عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، وهذه الصورة من صور العتل أو الدفع بعنف والدع الشديد وبقوة تكون داخل النار. وقوله عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، هذا فيه تفصيل أكثر وتوضيح أكثر لكيفية الدع بعنف، يعني: أن الزبانية تجمع بين ناصية الواحد منهم وبين قدمه، والناصية هي: مقدم شعر الرأس، فتمسك الملائكة بمقدم شعر رأسه وتجمعه مع قدمه. فيا له من منظر فظيع: أن يأتي الملك ويقبض على قدم الإنسان مع ناصيته، ثم يدفعه في النار بقوة وشدة. وبين الله سبحانه وتعالى أيضاً: أن من صور هذا الدع أو العتل الشديد: أنهم يسحبون في النار على وجوههم، كما قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]. وقال تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:70 - 72]. وقوله هنا في هذه الآية: ((يَوْمَ يُدَعُّونَ)) بدل من قوله تعالى: ((يَوْمَئِذٍ))، فإنه تعالى قال: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الطور:11]، ثم قال: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13].

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم)

تفسير قوله تعالى: (إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور:17 - 18] يعني: متلذذين بما لديهم من الفواكه الكثيرة. وقوله تعالى: ((فَاكِهِينَ)) مفردها: فاكه، وفاكه معناها: ذو فاكهة، كتامر ذو تمر، ولابن ذو لبن، كذلك فاكه، يقال: رجل فاكه: يعني: ذو فاكهة. ويقول الشاعر: وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر يعني: أنك ذو لبن وذو تمر.

تفسير قوله تعالى: (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة)

تفسير قوله تعالى: (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة) قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور:19 - 20]. قوله تعالى: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ))، زوجناهم هنا بمعنى قرناهم بالحور العين، فهي مثل قول الله تبارك وتعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: قرناءهم أو أشكالهم، وليس من كلام العرب: تزوجت بامرأة، ولا زوجته بامرأة. إذاً: قوله تعالى هنا: ((وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)) الفعل هنا تعدى بالباء، وليس في كلام العرب (زوّج بـ). ولذلك في التفسير نقول: إن قوله تعالى: ((وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)) أي: قرناهم بحور عين، وهذا كقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: قرناءهم، وقال بعضهم: إن (زوجت بـ) لغة أزد شنوءة أو قبيلة معينة من العرب، والله تعالى أعلم. وقوله: ((بِحُورٍ عِينٍ)) عين: جمع عيناء، وهي الواسعة العين في حسن.

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]. قوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ)) يعني: أنهم آمنوا، ثم إن ذريتهم من بعدهم اقتفت آثارهم في الإيمان والعمل الصالح. وقوله: ((أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)) يعني: في الجنات والنعيم. والخطاب لما كان مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم واثقون بوعد الله، تمت لهم البشارة بالموعود به بأنه سوف ينال ذريتهم أيضاً، ولكن هذا بشرط أن يتبعوا آباءهم بإحسان، فإذا جاءت الذرية واتبعت الآباء بإحسان، فيكافئ الله سبحانه وتعالى هؤلاء الآباء بأن يضم إليهم ذريتهم في الجنات والنعيم، هذا هو المراد من الآية، والقاسمي رحمه الله تعالى يرجح هذا التفسير. فقوله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ)) يعني: بشرط أن تتبعهم ((بِإِيمَانٍ)) والجزاء هو: ((أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)). فشرط استحقاق أن يلحق بالآباء الأبناء والذرية أن يتبعوا آباءهم بإحسان على نفس الطريقة، هذا هو المراد من الآية، وأما من قال في معناها: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل، فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً، وهذا شائع في كتب التفسير، حيث يذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية: إن الذرية تلحق بالآباء ولو كانت الذرية دون الآباء في العمل، فإن من النعيم الذي ينعم الله به على الآباء أن يرفع الذرية وإن كانوا دون آبائهم في العمل إلى مقامهم؛ لأنهم يقولون: إنما كنا نعمل لأولادنا، يعني: نعمل العمل الصالح حتى تكون عاقبته في أولادنا، ويوردون في ذلك كثيراً من الآثار، وهذا المعنى إذا صح في الحديث فعلى العين والرأس، أما إن لم يصح في الحديث فلا يصح أن نفسر به هذه الآية؛ لأن الآية لا تدل على هذا المعنى الذي يذكرونه، وإنما تدل على ما ذكره القاسمي هنا: أن ذلك إنما هو بشرط أن يتبع الأبناء آباءهم بإحسان، ويتبعوهم بإحسان. فأما قول من قال: إن المؤمن ترفع له ذريته، فيلحقون به، وإن كانوا دونه في العمل! فلا تقتضيه الآية تصريحاً ولا تلويحاً. وقوله: ((وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)) يعني: وما نقصناهم من ثواب عملهم شيئاً. وقوله: ((كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)) أي: بما عمل من خير أو شر مرتهن به، لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، و (كل) تفيد العموم، فكل إنسان حبيس أو رهين بما عمل من خير أو شر، ولا يؤاخذ إلا بعمله، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وإنما يعاقب بذنب نفسه، وهذا مبدأ المسئولية الفردية، وهو من أحد الخصائص الواضحة جداً في دين الإسلام، كما قال عز وجل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:13 - 15]. وقول الله تبارك وتعالى هنا: ((كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)) يؤكد هذا المعنى، فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء) يقول العلامة الشنقيطي في تفسيرها: ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس، وقد بين الله تعالى في آيات أخرى، أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم، وذلك في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] وهذا على تفسير قوله: ((رَهِينَةٌ)) بمعنى حبيسة بما كسبت. وعلى هذا المعنى فالذي حبس هم كل المجرمين أو الكفار؛ ولذلك استثنى فقال: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:39 - 41]، ومن المعلوم أن التخصيص بيان كما تقرر في الأصول. وهذا كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:32 - 33]، وقال أيضاً: {وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد:15]، وقال: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]، وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} [الصافات:41 - 42]. أما اللحم المذكور: فوصف بأنه من الطير، قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21]، والإنسان روح وجسد، فكما تتنعم الروح كذلك يتنعم الجسد. فلا يوجد أي إشكال في هذا، بل بالعكس هذا من أساليب الترغيب التي تتوافق مع الفطرة السليمة، فالإنسان روح وجسد، وكما أن الجسد يتنعم كذلك الروح تتنعم. ثم قد دلت الأدلة على أن المتاع الروحي لأهل الجنة أعلى بكثير من المتاع الحسي، بدليل قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وبدليل أنهم إذا تجلى لهم الله سبحانه وتعالى وكشف لهم وجهه الكريم في الجنة، فإنهم يتلهون وينسون كل ما هم فيه من النعيم. واليهود والنصارى في موضوع الجنة أو النار ليس عندهم أي نوع من التفصيل، فمن منة الله سبحانه وتعالى ونعمته علينا أن جعلنا من هذه الأمة التي جاء فيها هذا العلم الوافر من القرآن ومن السنة، وأعلمنا بكثير من الغيبيات التي امتازت الأمة الإسلامية بها على من عداها من الأمم، فجاء التوضيح الشافي لأمور كثيرة من المغيبات بفضل الوحي، فعرفنا تفاصيل ما يحصل في الغيب، وبالذات ما نحن بصدده من الكلام في تفاصيل نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار.

تفسير قوله تعالى: (وأمددناهم بفاكهة ولهم مما يشتهون يتنازعون فيها كأسا)

تفسير قوله تعالى: (وأمددناهم بفاكهة ولهم مما يشتهون يتنازعون فيها كأساً) قال تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور:22] قوله: ((وأمددناهم)) في هذا أن المدد مستمر، يعني: زدناهم وقتاً بعد وقت، فهو مدد متجدد ومستمر. قوله تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا} [الطور:23] يعني: يتعاطون فيها كأس الشراب ويتجاذبونها، ويتناول بعضهم من بعض كأساً، والمقصود بالكأس ما فيه من خمر الجنة، وخمر الجنة يشربها من امتنع من خمر الدنيا، وخمر الدنيا بالعكس تماماً في كل صفاتها بالنسبة لخمر الجنة، فخمر الجنة قال الله عز وجل فيها: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] وخمر الجنة لا تذهب العقل، وليست خبيثة في الرائحة كخمر الدنيا، وهي طاهرة وليست نجسة كخمر الدنيا، وهكذا كل صفات خمر الدنيا تنافي الصفات الثابتة لخمر الجنة، فمن شرب الخمر ولبس الحرير في الدنيا، فإنه يحرم من ذلك في الآخرة، ولا يشرب من خمر الجنة، ومن امتنع من خمر الدنيا ابتغاء رضوان الله فإنه يكافئ بأن يشربها في الجنة. قوله: ((يَتَنَازَعُونَ فِيهَا))، كأن المؤمنين ومن ألحق بهم من ذريتهم، أو أهل الإيمان مع بعضهم البعض يتعاطون في الجنة كأس الشراب ويتجاذبونها ويتناول بعضهم من بعض. وقوله: ((كَأْسًا)) المقصود بالكأس: الخمر؛ لأن الإناء الفارغ لا يطلق عليه كأس في لغة العرب، فلا تكاد العرب تستعمل كلمة كأس إلا فيما هو مملوء، فكأس هنا المقصود به كأس خمر. والتنازع لغة: يطلق على كل تعاط وتناول، فكل قوم يعطي بعضهم بعضاً شيئاً ويناوله أياه، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه في الشراب قول الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري قوله: (وشارب مربح) المربح هو: الذي ينحر لضيفانه الربح وهي الفصلان. وقوله: (بالكأس نادمني لا بالحصور) يعني: ليس بخيلاً ضيقاً كالحصير. وقوله: (ولا فيها بسوار) السوار هو: المعربد الوثاب، يعني: أنهم يعيبونه بأنه إذا شرب ترك بقية في قعر الإناء. وقوله: (نازعته طيب الراح الشمول وقد) نازعته يعني: ناولته، وهذا هو الشاهد، فالمناولة يطلق عليها المنازعة، ونحن دائماً نظن أن المنازعة هي العراك على شيء معين، ولكن المنازعة قد تطلق على المناولة بين القوم، فهذه تسمى منازعة، وهذا هو الشاهد من البيت. وقوله: (طيب الراح الشمول) يقصد بذلك الخمر. وقوله: (وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري) يعني: صاح الدجاج وقت السحر، والمقصود بالدجاج هنا الديكة، لكن إذا قيل: هذه دجاجة، فالمقصود الأنثى. وقوله: (وحانت وقعة الساري) أي: وقعة الإبل إذا بركت، والساري: هو السائر بالليل. إذاً: قوله: (نازعته طيب الراح الشمول) يعني: ناولته كئوس الخمر وناولنيها، فإذا كان كل واحد يناول الآخر، فهذا يطلق عليه منازعة. ومنه المنازعة في الكلام، وذلك بأن يتكلم رجل والآخر يرد عليه، ومنه قول امرئ القيس: ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال والكأس تطلق على إناء الخمر، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء، وهي مؤنثة، فلا يقال: هذا كأس، ولكن يقال: هذه كأس. وقوله تعالى: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23]، نلاحظ في القرآن الكريم أنه حيثما ذكر خمر الجنة تجدها دائماً توصف بصفات تتناقض تماماً مع خمر الدنيا، وليس بينهما تشابه إلا في الاسم فقط، وأما الحقيقة فيا بعد ما بينهما! فخمر الجنة التي يتعاطها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا، فخمر الآخرة لا لغو فيها، واللغو هو: كل كلام ساقط لا خير فيه، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان؛ لأنها لا تؤثر في عقولهم، بخلاف خمر الدنيا، فإنهم إن شربوها سكروا وطاشت عقولهم، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان، وكل ذلك من اللغو. والتأثيم هو: ما ينسب به فاعله إلى الإثم، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها؛ لأنها مباحة له، فيتنعم بلذتها، كما قال الله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15]، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثماً، بخلاف خمر الدنيا، فشاربها يأثم بشربها، ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا، جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات:45 - 47]. فقوله: ((لا فِيهَا غَوْلٌ)) يعني: ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا. وقوله: ((وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ)) يعني: لا يسكرون. وكقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:17 - 19]. وقوله: ((لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا)) يعني: لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها. فخلاصة الكلام: أننا ننتبه لهذا دائماً في القرآن، وهو أنه متى ذكرت خمر الجنة نجدها توصف بصفات مناقضة تماماً لصفات خمر الدنيا. ومن وصف خمر الدنيا قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، ولذلك فسر بعض العلماء الرجس بأنه النجس، وذهبوا إلى أن الخمر نجسة؛ لمفهوم قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان:21]، فقالوا: هذا الشراب الطهور هو الخمر، فخمر الجنة طهور، والقاعدة: أن صفات خمر الجنة بالعكس من صفات خمر الدنيا، فإذا وصف الله ذلك الشراب بأنه طهور فيفهم منه أن خمر الدنيا ليست بطهور، يعني: أنها نجسة؛ ولذلك عامة أهل المذاهب يفتون في الخمر بأنها نجسة، ويعتبرون الخمر نجسة نجاسة حسية، وفي المسألة نزاع مشهور، وعلى الأقل فالأحوط للإنسان أن يجتنب استعمال الكحول، فما الذي يلجئك أن تتعاطى الكولونيا مثلاً أو العطور التي فيها الكحول، وقد وسع الله عليك بوجود الزيوت العطرية التي تغني عن هذه الخمر المختلف في نجاستها؟ فهل تريد تطييب نفسك أم توسيخها بما هو نجس في رأي المذاهب الأربعة؟! فالاحتياط على الأقل أن الإنسان يتجنب العطور التي فيها هذه الكحول.

تفسير قوله تعالى: (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون)

تفسير قوله تعالى: (ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون) قال الله تبارك وتعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24] أي: مصون في كن، وهذا أنقى له وأصفى لبياضه. يقول الشنقيطي: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن أهل الجنة يطوف عليهم غلمان، جمع غلام، والمقصود: خدم لهم، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:53]. وقوله: ((وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ)) لم يبين هنا ما يطوفون عليهم به، وذكر هنا حسنهم، فقال: ((غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)) أي: مكنون في أصدافه؛ لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه، وقيل: ((مكنون)) أي: مخزون لنفاسته؛ لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن. وبين تعالى في سورة الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18]، وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين. وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف:71]، وقال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان:15 - 16]. وبعض هذه الآيات نلاحظ أن الفعل فيها مبني للمجهول، يعني: حذف فاعله، فالظاهر أن الفاعل المقصود به هؤلاء الغلمان، كما قال الله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19].

تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)

تفسير قوله تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث المفضية إلى شكر المنعم، يعني: أن كلامهم ذكر وشكر لله سبحانه وتعالى، ومن تمام النعيم حصول المواجهة كما قال تعالى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، والتقابل هو: أن يكون الإنسان وجهه في وجه محدثه، وهذا أتم للنعيم وللسرور، فيجلسون يتحادثون، ويسترجعون ذكريات ما كانوا يعانونه في الدنيا، وكيف أنهم صبروا ابتغاء وجه الله، ويسترجعون ما رأوا في الدنيا من البلاء، وحسن صبرهم على هذا البلاء. فقوله: ((وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)) يعني: يتجاذبون أطراف الأحاديث التي تفضي في النهاية إلى شكر المنعم والتحدث بنعمة الله، وذلك فيه مساءلة بعضهم بعضاً عما مضى لهم في الدنيا، أو مساءلة بعضهم بعضاً: ما الذي أبلغك هذه المنزلة من الأعمال؟ وهكذا. ومن نماذج هذا الحديث الذي يدور بين أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم منهم- ما ذكره الله عز وجل في قوله: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26]، قوله: ((قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ)) أي: في الدنيا، ((فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)) أي: خائفين من عذاب الله؛ فإن الخوف من عذاب الله هو الذي أوصلهم إلى الأمن من هذا العذاب، وإلى هذا النعيم المقيم. وقوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] أي: فلم ينج أحد إلا بمنة الله عز وجل، وقوله: ((وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)) يعني: عذاب النار. وأصل السموم: الريح الحارة التي تدخل المسام، سميت بها نار جهنم لمشابهتها لها، وإن كان وجه الشبه في النار أقوى، لكنهم لريح السموم أعرف؛ لمشاهدتهم لها في الدنيا، فهذا هو سر تسمية نار جهنم بريح السموم؛ لأن الناس في الدنيا يعرفون ريح السموم ويحسون بها. وقوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ} [الطور:28] أي: نعبده مخلصين له الدين، وقد سبق مراراً وتكراراً لفظ الدعاء يأتي كثيراً جداً مرادفاً للفظ العبادة، كقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وكقوله سبحانه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] يعني: وما تعبدون، فكثيراً جداً ما يتناوب هذان اللفظان، فيعبر عن العبادة بالدعاء، وعن الدعاء بالعبادة، وقد صح في الحديث: (الدعاء هو العبادة) وأما حديث: (الدعاء مخ العبادة) فحديث ضعيف. وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28] البر: المحسن لمن دعاه، وقيل: البر هو: الصادق فيما وعد، أي: لمن عبده وخافه بالهداية والتوفيق.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]: ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً، وأن المسئول عنهم يقول للسائل: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ)) يعني: في دار الدنيا، ((فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)) أي: خائفين من عذاب الله، ونحن بين أهلنا أحياء، ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)) أي: أكرمنا وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة من عذاب السموم، والسموم: النار ولفحهها ووهجها، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام، والجمع سمائم، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: معاصم لم تضرب على البهم بالضحى عصاها ووجه لم تلحه السمائم وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد، فهو من الأضداد، ومنه قول الراجز: اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه فهذه الفاء في قوله تعالى: ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا)) تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا، يعني: كنا نخاف الله ونشفق ونحن في أهلنا من عذاب الله، ((فمن الله علينا)) يعني: أن سبب النجاة من العذاب هو هذه الخشية التي كانت في الدنيا. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة في الآخرة، يفهم من دليل خطابه -يعني: من مفهوم المخالفة- أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة. فقوله: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]، هذا هو المنطوق، ومفهوم المخالفة: أن من لم يكن مشفقاً في الدنيا من عذاب الله، فإنه لا ينجو من هذا العذاب في الآخرة، ويوضحه قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:10 - 14]. يعني: أننا وصلنا إلى هذا المعنى عن طريق الاستنتاج من طريق مفهوم المخالفة في الآية هنا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]، فأخذنا من منطوق الآية: أن من خاف عذاب الله في الدنيا فإن عاقبته النجاة منه في الآخرة، هذا هو المنطوق، وأما المفهوم فهو: أن من لم يخف ولم يبال بعذاب الله في الدنيا، فإنه لن ينجو منه في الآخرة، وهذا المفهوم يدل عليه المنطوق صراحةً في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:10 - 12]. وقوله: (وراء ظهره) لا تتعارض مع أنه يأخذ كتابه بشماله؛ فإنه يأخذه بشماله من وراء ظهره، فتمد يده إلى وراء ظهره، ويأخذ كتابه بشماله التي تمتد إلى وراء ظهره. وقوله: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا)) يعني: يقول: واثبوراه! واهلاكاه! وقوله: ((وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ)) هذا مسلك من مسالك التعليل، ومعروف في بحث الإيماء والتنبيه أن (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى هنا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) علة لقول الله تبارك وتعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا))، وكأن سائلاً بعدما سمع قوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا)) يسأل ويقول: لماذا يدعو ثبوراً؟ ولماذا يصلى سعيراً؟ فالجواب والعلة والسبب: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) بخلاف حال المؤمنين: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ))، أما هذا: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا))، والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف. ويؤيد ذلك قوله سبحانه بعد هذه الآية: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:14]؛ لأن معناه: أنه ظن ألن يرجع إلى الله حياً يوم القيامة، وهذا بخلاف المؤمن الذي يذكر نفسه دائماً: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، وهذا من شؤم الكفر باليوم الآخر، كما بين الله تعالى ذلك في قوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105]، فالكذب لا يصدر إلا عمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وكذلك السرور والبطر والفرح في الدنيا، والاطمئنان والأمان في الدنيا وعدم الخوف من عذاب الله في الدنيا؛ كل هذا ثمرة من ثمار عدم الإيمان باليوم الآخر؛ ولذلك قال هنا: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ)) أي: أنه لن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. ولا شك أن من ظن أنه لن يبعث بعد الموت لا يكون مشفقاً في أهله خوفاً من العذاب؛ لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء. وقوله: ((لن يحور)) بمعنى: لن يرجع، وهذا معروف في لغة العرب، ومنه قول المهلهل بن ربيعة التغلبي: أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري يعني: لا ترجعي، أي: أنها كانت ليلة شقاء وبؤس وضنك، فهو يخاطب هذه الليلة الطويلة المؤلمة بقوله: لا تعودي علينا، أي: كما كنت في الأيام التي لا تدور، كما تقول: هذه أيام كذا الله لا يرجعها، فكذلك هنا يقول: إذا أنت انقضيت فلا تحوري. يعني: فلا ترجعي. وكذلك منه قول لبيد بن ربيعة العامري: وما المرء إلا كالشهاب وضوءه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع أي: أنه كالنار التي تشتعل ثم تخمد. فقوله: (يحور) بمعنى يرجع، وقيل: بمعنى يصير، والمعنى واحد. وقال تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44]، لماذا؟ {إِنَّهُمْ} [الواقعة:45] انظر إلى (إنَّ) التي تأتي للتعليل، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:45 - 47]. وتنعمهم في الدنيا المذكور في قوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ)) هو في نفس معنى قوله تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا)). وإنكارهم للبعث المذكور في قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48]، دليل على أنهم لم يكونوا مشفقين في الدنيا من عذاب الآخرة؛ لأنهم ما كانوا أصلاً يؤمنون بالآخرة ولا بالبعث ولا بالنشور، فهذا هو علة كونهم في سموم وحموم، فقوله تعالى: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:42 - 43] السبب: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)) [الواقعة:45 - 47]. وقد قدمنا قريباً أن: (إنَّ) المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى: ((إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ))، علة لقوله: ((فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ)). وقد ذكر جل وعلا: أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه، قال تعالى في سورة المعارج: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28]، إلى قوله: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35]، فمن خاف الله في الدنيا أمن من عذابه يوم القيامة. ومن أمن في الدنيا أخافه الله يوم القيامة. وذكر الله سبحانه وتعالى أن ذلك من صفات أهل الجنة في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]. وقد قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:11 - 12]. وقوله تعالى في الآية السابقة في سورة الواقعة: ((وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ)) يعني: يديمون ويعزمون على الذنب الكبير، كالشرك وإنكار البعث، وقيل: المراد بالحنث: حنثهم في اليمين الفاجرة التي كانوا يحلفونها، كما في قوله تعالى حاكياً عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38]. وثبت في الحديث أن أحد الصحابة أتى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فوجدها تصلي وتقرأ هذه الآية: ((إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ))، فانصرف لما سمعها تردد هذه الآية، وذهب إلى السوق، وقضى حاجته، وغاب مدة طويلة ثم رجع، وهي قائمة تصلي بنفس الآية، ترددها وتتدبر

تفسير قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر)

تفسير قوله تعالى: (فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر) قال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:29]. قوله: ((فَذَكِّرْ)) أي: من أرسلت إليهم وعظهم. وقوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ)) يعني: تتكهن فيما تدعو إليه، والتكهن هو: أن يخبر الإنسان بما في غد من غير وحي. وقوله: ((وَلا مَجْنُونٍ)) يعني: ما لك رئي من الجن يخبر قومه كما يعتقد العرب في بعضهم، ولكنك رسول الله حقاً. يقول الشنقيطي: نفى الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة رماه بها الكفار، وهي الكهانة والجنون والشعر، فقال: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:29 - 30]. أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون فقد نفاهما صريحاً بحرف النفي، الذي هو (ما) في قوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ))، وأكد النفي بالباء في قوله: ((بِكَاهِنٍ)). وأما كونه شاعراً فقد نفاه ضمناً بـ (أم) المنقطعة في قوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ))؛ لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن النفي؛ لأن (أم) المنقطعة تقدر ببل والهمزة، والمعنى: بل أيقولون: شاعر؟ فـ (بل): للإضراب، و (أيقولون) هذه همزة الاستفهام التي فيها معنى الإنكار. وقد جاءت آيات بنفي هذه الصفات عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول سورة القلم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، وقال في التكوير: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين -أعني: الكهانة والشعر-: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 - 42]. وقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، يعني: حوادث الدهر أو الموت؛ لأن المنون قد يراد به الدهر، وريبه: صروفه، وقد يراد به الموت، وريبه: نزوله. ثم قال تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] أي: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد. فقوله: ((أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ))، أي: ننتظر به حوادث الدهر حتى يحدث له منها الموت، فالمنون: الدهر، وريبه: حوادثه، التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي: أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع لأن الضمير في قوله: (وريبه)، يدل على أن المنون هو الدهر. ومن ذلك أيضاً قول آخر: تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت حليلها وقال بعض العلماء: المنون في الآية: الموت. إذاً: القول الأول: المنون في الآية هو الدهر. وريبه: هي حوادث الدهر. القول الآخر: المنون: الموت، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب. ومنه قول أبي الغول الطهوي: هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى، جاءوا من جهات مختلفة، فجمع الموت بينهم في محل واحد، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى، فالمنون هنا بمعنى: الموت. والوقبى اسم مكان من بلاد بني مالك تجمعوا فيه، ثم جاءت ضربة الموت وأخذتهم كلهم ضربة واحدة، فجمعت هذه الضربة بينهم في مكان واحد، ولو كان كل واحد منهم مات في بلده، لماتوا أماكن شتى، لكن الموت هنا جمعهم. قوله تعالى: ((قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)) يعني: حتى يأتي أمر الله فيكم، والأمر للتهكم بهم والتهديد. وقوله: ((فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)) يعني: فما أنت وقد أنعم الله عليك بالإسلام وبالنبوة وبالوحي: ((بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ)). وهناك قول آخر: أن قوله: ((بِنِعْمَةِ رَبِّكَ)) هنا قسم، لكن الأظهر هو القول الأول، والله أعلم.

تفسير قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون)

تفسير قوله تعالى: (أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون) قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور:32] أي: هل هذا التناقض في كلامهم أمرتهم به أحلامهم وعقولهم أم هم قوم طاغون؟ ونلاحظ هنا: نسبة الأحلام -أي: العقول- إلى هؤلاء الكفار، وقد ورد في بعض الآثار -ومنها أحاديث مرفوعة، لكنها لا تصح- أن الكافر لا يوصف بالعقل، فلا يقال للكافر: عاقل، فهل معنى ذلك أن الكافر مجنون؟ A لا، بل الكافر ميزه الله بالعقل؛ لأن كل إنسان عاقل مميز عن البهائم والجمادات بالعقل والحياة، فالكافر أعطي العقل، لكنه استعمل العقل في غير ما خلق من أجله، استعمله في محاربة الله، وفي الصد عن سبيل الله، وفي الكيد للمسلمين، ونحو ذلك، أو في خدمة الدنيا كما يفعل الكفار الذين يتقلبون في البلاد، ويسخرون عقولهم في كل شيء إلا الشيء الذي خلقوا من أجله! فالعقول يستعملونها في كل ضرب ونوع من أنواع خدمة الدنيا والتبتل في عبادتها وعبادة الشهوات، وهم لهم أحلام ولهم عقول، بدليل قوله تعالى هنا: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا))، لكنهم لما لم يستعملوها فيما خلقت من أجله، صح نفيها عنهم، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يعقلون، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، ويوضح هذا قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ} [الأعراف:179] يعني: عقول، {لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، فصح نفي العقل عنهم؛ لأنهم وإن أوتوا عقولاً، لكنهم عطلوها عن الوظيفة التي خلقت من أجلها، وهي التدبر في آيات الله وفي الآفاق وفي أنفسهم حتى يصلوا إلى توحيد الله تبارك وتعالى، سواء في ذلك الآيات الكونية أو الآيات التنزيلية. قيل لـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟! يعني: في مثل هذه الآية: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا))، فقال: تلك عقول كادها الله يعني: لم يصحبها التوفيق، فخذلت، فالله سبحانه وتعالى وهبهم العقول، لكنه حرمهم نعمة التوفيق، وهي إرادة الحق وحب الحق والانقياد له في القلب. فالإنسان يرى الحق واضحاً ويعلم تماماً أنه حق من عند الله، لكن لا يوفقه الله للانقياد لهذا الحق، والتوفيق لا يكون إلا من عند الله عز وجل، كما قال عز وجل: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88]. فانظر إلى تعبير عمرو بن العاص رضي الله عنه، وعمرو بن العاص من أعقل عقلاء العرب، فيقول هذا الكلام الرائع؛ فإنه لما قيل له: ما بال قومك لم يؤمنوا، وقد وصفهم الله بالعقل؟ رد قائلاً: تلك عقول كادها الله. يعني: لم يوفقها، فإذا وكل الإنسان إلى عقله وإلى نفسه، فأول ما يجني عليه هو هذا العقل إذا حرم من توفيق الله؛ ولذلك كان من دعاء الصديق اللهم أرني الحق حقاً، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً، وارزقني اجتنابه. فالخطوة الأولى: أن يرى الإنسان الشيء على حقيقته؛ لأن أكثر الناس يرون الحق باطلاً، ومنهم من يرى اتباع السنة تطرفاً، ومنهم من يرى التزام شرائع الإسلام تعصباً ورجعية وهمجية وهوس وأصولية وتطرف إلى آخر هذه الشتائم، هكذا زين لهم سوء أعمالهم! فرأوا الحق باطلاً، فحرموا من البداية من منبع التوفيق. فحتى هذه المرحلة حرموا منها، ولم يوفقهم الله سبحانه وتعالى لأن يروا الحق حقاً، وإنما رأوا الحق تطرفاً وتعصباً ورجعيةً وتخلفاً وأصولية وإرهاباً إلى آخره. وممكن أن الإنسان يرى الحق حقاً، لكن يستكبر عن أن يتبع هذا الحق، كحال اليهود الذين عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام وعرفوا القرآن كما يعرفون أبناءهم. وهل يضل الرجل عن ابنه؟! A لا يضل أبداً، فكذلك كانوا يعرفون أن القرآن حق، وأن الرسول مرسل من عند الله، ومع ذلك كفروا جحوداً وحسداً واستكباراً! فليس معنى أن الإنسان يعرف الحق يصير مؤمناً، بل لابد أن ينقاد لهذا الحق، كما هو معروف في الشروط السبعة لشهادة (لا إله إلا الله). فالعقل الذي يضل عن توفيق الله لا يأخذ صاحبه إلا إلى الضياع والدمار. فقوله: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا)) يعني: بهذا التناقض، وهل يقوله عاقل؟ أو هل يأمر به عقل؟ وقوله: ((أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) (أم) هنا بمعنى بل، والمعنى: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق.

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون) قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور:33] أي: اختلق هذا القرآن من عند نفسه. قال تعالى: {بَل لا يُؤْمِنُونَ} [الطور:33] أي: لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً؛ فلذلك يرمونه بتلك الفرى. وقوله سبحانه: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:33] أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، وهذا كقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} [القصص:49]، فليأتوا بحديث مثل القرآن إن كانوا صادقين في زعمهم؛ فإنهم من أهل لسان الرسول صلوات الله عليه، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34]: قد قدمنا أن الله تحداهم بسورة واحدة من هذا القرآن في سورة البقرة، في قوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وفي سورة يونس في قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38]. وتحداهم في سورة هود بعشر سور منه، في قوله: {ُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود:13]. وتحداهم هنا في سورة الطور بأن يأتوا بمثله كله، في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34]. وبين في سورة بني إسرائيل أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]. وقد أطلق جل وعلا اسم الحديث على القرآن في قوله هنا: ((فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ))، كما أطلق عليه ذلك في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23]، وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111]. وقد وصف القرآن بأنه محدث، كما في قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، وقال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5]. وليس في هذا دليل للمعتزلة على ما زعموه من كون القرآن مخلوقاً، فإنهم يستدلون على ذلك بكونه وصف بأنه محدث، و A أن الحدوث هنا حدوث نسبي، يعني: أن القرآن في حد ذاته ليس حادثاً؛ لأنه صفة الله وكلام الله، ولا يمكن أن يكونه مخلوقاً، وإنما الحدوث بالنسبة إلى المخلوقين، بمعنى: أنه من الحدوث، وهو كون الشيء بعد أن لم يكن. فالقرآن العظيم حينما كان ينزل كان كلما نزل منه شيء كان جديداً على الناس، ولم يكونوا علموه من قبل، فهو محدث بالنسبة إلى الناس، ألا تراه قال: ((مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ))، فقوله: ((مَا يَأْتِيهِمْ)) إشارة إلى هذا التجدد الذي هو بالنسبة إلينا نحن المخلوقين، فهو محدث إليهم حين يأتيهم. وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحدث لنبيه ما شاء، وإن مما أحدث لنبيه ألا تكلموا في الصلاة). قال أبو عبيد إمام اللغة: (محدث) أي: حدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما علم الله ما لم يكن يُعلم.

الطور [34 - 49]

تفسير سورة الطور [34 - 49]

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين)

تفسير قوله تعالى: (أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) قال الله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:29 - 34]. قوله تعالى: ((أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا)) أي: أتأمرهم عقولهم بهذا التناقض في القول؟ ((أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) يعني: بل هم قوم طاغون، أي: مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق. وهذه الآية: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} فيها إثبات الأحلام والعقول للكافرين يعني: أن لهم عقولاً ولهم أحلاماً، في حين أن كثيراً من الآيات تنفي عن الكفار صفة العقل، ولا تعارض على الإطلاق، وإنما المقصود: أن الله سبحانه وتعالى آتاهم العقول، ولكنهم عطلوها، واستعملوا العقول في كل شيء إلا فيما خلقوا من أجله، وهو التفكر في آيات الله التكوينية والتنزيلية للاستدلال بها على توحيده وعبادته وحده عز وجل. وقد قيل لـ عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ يعني: بمثل هذه الآية: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا}، فقال: تلك عقول كادها الله. يعني: لم يصحبها توفيق الله، وإنما خذلها الله عز وجل، وحرمها من الهداية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]. والجواب الأوضح عن هذا السؤال في قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] يعني: عندهم العقول؛ لكنهم لا يُعملونها ولا يستعملونها في الاهتداء إلى التوحيد. وقوله تعالى: ((أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ)) يعني: اختلق هذا القرآن من عند نفسه، ((بَل لا يُؤْمِنُونَ)) يعني: لا يريدون أن يؤمنوا حسداً وتقليداً، فلذلك يرمونه بتلك الفِرى. قوله: ((فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)) أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، كقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} [القصص:49]، وهنا قال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}، ووصف القرآن بأنه حديث أو محدث كما في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] هو محدث بالنسبة للبشر، أما بصفته كلام الله سبحانه وتعالى فلا شك أنه كلام الله غير مخلوق، بدليل أننا نستعيذ بكلمات الله فنقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ولا يستعاذ إلا بالخالق أو بصفاته عز وجل، أما المخلوق فلا يصح بحال الاستعاذة به، فإثبات الحداثة هنا هو بالنسبة للبشر حينما يأتيهم ما لم يعرفوه من قبل. وقوله: ((فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ)) أي: في الهداية بذلك الأسلوب الذي ملك ناصية الفصاحة والبلاغة، ((إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)) أي: في زعمهم؛ فإنهم من أهل لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتعذر عليهم مضاهاة بعضهم لبعض في ميدان التساجل والتراسل، فلو كان هو كلامَ بشر فعادتهم أن يتساجلوا ويتراسلوا ويضاهي بعضهم قول بعضهم، فإنهم ملكوا زمام الفصاحة والبلاغة، ومع ذلك عجزوا عن أن يقبلوا هذا التحدي، مما يثبت أنه كلام فوق مستوى البشر، وأنه تنزيل من عند الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون)

تفسير قوله تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون) قال تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]. قوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) قال ابن جرير: أي: أخلق هؤلاء المشركون من غير آباء ولا أمهات فهم كالجماد لا يعقلون، ولا يفهمون لله حجة، ولا يعتبرون له بعبرة، ولا يتعظون بموعظة؟! وقد قيل: إن قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) تفسيرها: أم خلقوا لغير شيء؟! يعني: لا لحكمة، وإنما خلقوا عبثاً! كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء، بمعنى: لغير شيء. وقوله: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) أي: أنفسهم، أو هذا الخلق، فهل هم الذين خلقوا أنفسهم أو خلقوا هذه المخلوقات، فهم لذلك لا يأتمرون لأمر الله ولا ينتهون عما نهاهم الله؟ فالله سبحانه وتعالى بما أن له الخلق فلا بد أن يكون له الأمر، فالذي يخلق هو الذي يشرع، وهو الذي يأمر، وهو الذي يحلل، وهو الذي يحرم، فهناك ارتباط وثيق بين صفة الخلق وبين توحيد الله تبارك وتعالى، فالله وحده هو الخالق، وهذا مظهر توحيد الربوبية، وهو الذي ينبغي أن يُعبد وحده، وهذا تحقيقٌ لتوحيد الألوهية، فلا يعبد إلا الله، فكما أنه لا يخلق إلا الله فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن الله له الخلق وله الأمر عز وجل. فقوله تبارك وتعالى هنا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} * {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} يعني: لا يوقنون بوعيد الله وما أعد لأهل الكفر به من العذاب في الآخرة، فلذلك فعلوا ما فعلوا.

أسلوب السبر والتقسيم ودليله من القرآن الكريم

أسلوب السبر والتقسيم ودليله من القرآن الكريم هذا الأسلوب الذي احتج الله سبحانه وتعالى به على المشركين هو مما يسمى بالسبر والتقسيم عند الأصوليين. والدليل الأصولي متركب من أصلين: الأصل الأول: حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر، وهذا هو التقسيم. الأصل الثاني: بعدما نحصر الأقسام التي ينقسم إليها هذا الشيء أو الاحتمالات التي ينحصر فيها نختبر تلك الأوصاف المحصورة ثم نبطل ما هو باطل منها، ونبقي ما هو صحيح منها، وهذا هو الذي يسمى بالسبر، يقول في مراقي السعود: والسبر والتقسيم قسمٌ رابعُ أن يحصر الأوصاف وصفٌ جامعُ ويبطل الذي لها لا يصلحُ فما بقى تعجيله مصطلحُ ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم: هذه الآية الكريمة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح، فنقسم تقسيماً صحيحاً ونضع كل الاحتمالات ونحصرها: الاحتمال الأول: أن يكونوا خلقوا من غير شيء، يعني: بدون خالق أصلاً. الاحتمال الثاني: أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم أو خلقوا هذا العالم. ولا شك أن هذين الاحتمالين باطلان قطعاً بالضرورة، ولا يحتاج إلى إقامة دليل على بطلانهما. الاحتمال الثالث: أن يكون قد خلقهم خالق غير أنفسهم، فهذا هو الحق الذي لا شك فيه، وهو أن الله جل وعلا هو خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا. وفي هذه الآية الكريمة صرح الله سبحانه وتعالى بالقسمين الأولين فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} * {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ}، أما الاحتمال الثالث فسيأتي لوحده. هناك مثال آخر في القرآن الكريم أيضاً حصل فيه استرسال بنفس دليل السبر والتقسيم، وذلك في سورة مريم في قول الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً} [مريم:77 - 80]، فقول الله تبارك وتعالى: ((أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا)) هو العاص بن وائل السهمي، ((وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالَاً وَوَلَدَاً)) يعني: لأوتين يوم القيامة مالاً وولداً، فهذا الزعم الذي زعمه العاص بن وائل حينما أعطاه الله في الدنيا المال والولد فأقسم وحلف على سبيل القطع أن الله سبحانه وتعالى كما كرمه في الدنيا بهذه الأعراض الدنيوية فسوف يعطيه نفس الشيء أيضاً في الآخرة، ولذا قال: ((لَأُوتَيَنَّ)) يعني: يوم القيامة، ((مَالَاً وَوَلَدَاً)). وهذا القول لا يخلو مستند قائله في هذا الزعم من واحد من ثلاثة احتمالات: الاحتمال الأول: قال تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي: أنه قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، فمن أين له أن يقسم على أن الله سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً؟! فأول احتمال: أن عنده اطلاعاً على الغيب استطاع به أن يطلع على ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، فعلم أن هذا مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، وهذا الاحتمال أبطله الله سبحانه وتعالى في نفس الآية، بأداة الإنكار في قول الله تبارك وتعالى: ((أَطَّلَعَ الْغَيْبَ)) فالإنكار يبطل هذا الاحتمال، فإن قوله تعالى: ((أَطَّلَعَ الْغَيْبَ)) يدل على أنه ما اطلع الغيب، ولذلك أنكر الله بأداة الإنكار. الاحتمال الثاني: قال تعالى: ((أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً)) يعني: أنه يقول ذلك مستنداً ومعتمداً على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه عهداً، والله لا يخلف الميعاد، ولا يخلف عهده، فهو يقول: إن الله أعطاه عهداً أنه سوف يؤتيه يوم القيامة مالاً وولداً، وهذا أيضاً أبطله الله بأداة الإنكار. الاحتمال الثالث والأخير: أن يكون قد قال ذلك افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، وهذا الاحتمال هو المتعيِّن، وما سواه باطل؛ فإنه قال ذلك افتراءً على الله سبحانه وتعالى من غير عهد ولا اطلاع غيب، والدليل قوله تعالى: ((كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ))؛ فإن (كلا) حرف زجر وردع، فدل على أن هذا الاحتمال الثالث هو الاحتمال المتعيِّن، وهو أنه ما قال ذلك إلا افتراءً على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب، قال تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدَّاً} * {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدَاً} فيلزم أن الأمر ليس كذلك؛ فإنه لم يطلع الغيب، ولم يتخذ عند الرحمن عهداً، بل قال ذلك افتراءً على الله؛ لأنه لو كان أحدهما حاصلاً -أي: لو أنه استند إلى اطلاعٍ على الغيب أو استند إلى عهدٍ- لم يستوجب الردع عن مقالته بلفظة: (كلا). وبنفس الدليل أبطل الله سبحانه وتعالى دعوى اليهود حينما ادَّعوا: ((وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً)) قالوا: هي الأربعون يوماً التي عبدوا فيها العجل، فأبطل الله سبحانه وتعالى هذه الدعوى من اليهود -لعنهم الله- بقوله عز وجل: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80]. والاحتمال الثاني لم ينص الله سبحانه وتعالى عليه هنا، فقوله تعالى عنهم: ((وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً)) فيه التقسيم: أنهم يدعون هذه الدعوى؛ وهي: أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة. فإن قيل: ما مستندهم في ذلك القول؟ فنقول: إذا حاولنا حصر الاحتمالات سنجدها تنحصر أيضاً في نفس الثلاثة الأقسام التي تكلمنا عنها في سورة مريم: الاحتمال الأول: قوله تعالى: ((قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ)). الاحتمال الثاني: لم يذكره الله سبحانه وتعالى هنا، وإنما دلت عليه الآية السابقة في سورة مريم في قوله سبحانه: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً}، فالاحتمال الثاني هو: أن يكون اليهود قد اطلعوا على اللوح المحفوظ وعرفوا أو علموا الغيب، وعلموا أن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، فحذف هنا هذا الاحتمال الثاني لدلالة ما هناك عليه؛ لأن هذا هو الحصر الطبيعي. الاحتمال الثالث: قوله تعالى: ((أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)). فلا شك أن الاحتمالين الأولين باطلان: الاحتمال الأول: قوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدَاً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ}، وليس عندهم عهد. الاحتمال الثاني: أنهم اطلعوا الغيب وعلموا ذلك من خلاله، وهم لم يطلعوا على الغيب. إذاً: كلا الاحتمالين باطل. وبقي الاحتمال الأخير وهو: قوله تعالى: ((أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) يعني: أنكم تفترون على الله الكذب، وهذا هو الواقع والمتعين. فهذا هو دليل السبر والتقسيم في هذه الآيات الكريمات.

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون * أم لم لهم سلم يستمعون فيه)

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون * أم لم لهم سلم يستمعون فيه) قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور:37] أي: خزائن رزقه، فهم لاستغنائهم معرضون، {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور:37] أي: الجبابرة المتسلطون. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور:38] أي: مرتقىً إلى السماء، {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور:38] يعني: الوحي فيدعون أنهم سمعوا هنالك من الله: أن الذي هم عليه حق، فقوله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} يعني: مرتقى يرتقون به إلى السماء، فيستمعون الوحي من الله سبحانه وتعالى يخبرهم ويطمئنهم أن ما هم عليه من الدين هو الحق. قال تعالى: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] يعني: الذي يدعي ذلك عليه أن يأتي بحجة واضحة تصدق دعواه.

تفسير قوله تعالى: (أم له البنات ولكم البنون * أم تسألهم أجرا)

تفسير قوله تعالى: (أم له البنات ولكم البنون * أم تسألهم أجراً) قال تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور:39]: حيث جعلوا لتفاهة رأيهم الملائكةَ إناثاً وأنها بناته تعالى! مع أنه كان حالهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرَاً} [الطور:40] أي: أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله تعالى؟ {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] أي: فهم من التزام الغرامة وهذه الأجرة مثقلون من أدائها حتى زهدهم ذلك في اتباعك؟ قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:41] أي: يكتبون منه ما شاءوا وينبئون الناس عنه بما أرادوا؟ قال تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدَاً} [الطور:42] أي: بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور:42] أي: هم الممكور بهم دونك، فثق بالله وامضِ لما أمرك به. قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور:43] أي: له العبادة على جميع خلقه؟ {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43] أي: تنزيهاً له عن شركهم وعبادتهم معه غيره.

تفسير قوله تعالى: (وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم)

تفسير قوله تعالى: (وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم) قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفَاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطَاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور:44]: هذا جواب لمشركي قريش حيث كانوا يستعجلون العذاب ويقترحون الآيات، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعَاً} [الإسراء:90] إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفَاً} [الإسراء:92] يعني: قطعاً، وفي الآية الأخرى: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفَاً مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:187]، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفَاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطَاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} يعني: لو أن الله استجاب استعجالهم هذا العذاب ونزوله بهم، وحقق لهم ما اقترحوه؛ لعاندوا ولجادلوا ولقالوا: ليس هذا عذاباً لكنه: ((سَحَابٌ مَرْكُومٌ)) يعني: متراكم بعضه فوق بعض. يقول الزمخشري: يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا: هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط من عذاب! قال تعالى: {فَذَرْهُمْ} [الطور:45] أي: يخوضوا ويلعبوا ويلههم الأمل، {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور:45] أي: يموتون. قال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [الطور:46] أي: لا يدفع عنهم مكرهم من عذاب الله شيئاً: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الطور:46].

تفسير قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك)

تفسير قوله تعالى: (وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك) قال تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47] أي: دون يوم القيامة، يعني: عذاباً أقل من عذاب يوم القيامة، أو عذاباً قبل يوم القيامة. وهذا يكون إما عذاباً في الدنيا بالقحط أو النوازل التي تذهب بأموالهم وأنفسهم. وهناك قولٌ آخر: إن قوله تعالى: {عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ} المقصود به: عذاب القبر. فقوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابَاً دُونَ ذَلِكَ} المقصود به: إما عذاب القبر أو القحط أو النوازل والمصائب التي تذهب بأموالهم وأنفسهم. وهذه كلها أقوال للسلف، واللفظ صادق للجميع؛ لأن قوله: (عذاباً) نكرة فيعم هذه الأقوال كلها، سواءً كان عذاباً في الدنيا كالنوازل والزلازل وغير ذلك أو كان في القبر؛ لأن هذا كله دون يوم القيامة. وقوله: ((دُونَ ذَلِكَ)) يعني: دون ذلك اليوم المشار إليه في قوله: {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئَاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الطور:45 - 46]. وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:47] يعني: لا يعلمون سنة الله في أمثالهم من الفجرة.

تفسير قوله تعالى: (واصبر لحكم ربك فإن بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم)

تفسير قوله تعالى: (واصبر لحكم ربك فإن بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم) قال تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] أي: الذي حكم به عليك وامضِ لأمره ونهيه وبلغ رسالاته. {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] قال ابن جرير: أي: بمرأىً منا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين. وقال الشهاب: يعني: أن العين لما كان بها الحفظ والحراسة استعيرت لذلك وللحافظ نفسه، فالحافظ نفسه يسمى عيناً، والحارس يسمى عيناً، وتسمية الحافظ عيناً هو استعمال فصيح مشهور. والله عز وجل جمع العين هنا فقال: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) وأفردها في قصة الكليم موسى في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فأفردها في قصة الكليم عليه السلام، وجمعها هنا فقال: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، وأضافها إلى ضمير الجمع؛ وذلك لأن الآية هنا مضافة إلى ضمير الجمع: ((فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا))، فناسب أن تأتي أيضاً مجموعة. ولما كانت في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} مضافة إلى ضمير الواحد ناسب أن تكون واحدة. ويوجد معنىً آخر ونكتة أخرى لهذا الجمع هنا، يقول الشهاب: ونكتة جمع العين هنا وإفرادها في قصة الكليم عدا أنه جُمع هنا لما أضيف لضمير الجمع، ووحد ثمة عند إضافته لضمير الواحد؛ هو المبالغة في الحفظ، حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم. إذاً: النكتة هي: بيان المبالغة في حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كأن معه جماعة حفظة له بأعينهم، لأن المقصود: تصبير حبيبه على المكايد ومشاق التكاليف والطاعة، فناسب الجمع؛ لأن أفعال الطاعة التي يمتثلها الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، ويحتاج كل منها إلى حارس بل حراس، بخلاف ما ذكر هناك من حفظه لموسى عليه السلام في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}.

معنى قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك حين تقوم)

معنى قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك حين تقوم) قوله تبارك وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] يعني: حين تقوم من منامك. روى الإمام أحمد والبخاري في صحيحه وأهل السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن تعارَّ -أي: استيقظ من الليل- فقال -يعني: هذا المستيقظ-: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي. أو قال: ثم دعا، استجيب له)، فهذا دعاء إذا قاله الإنسان ووفق إليه يستجيب الله له دعاءه، بشرط أنه أول ما ينتبه من النوم يتذكر هذا الحديث ويقول هذا الدعاء: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم يقول: رب اغفر لي، أو يدعو أيَّ دعاء، ففي هذه الحالة يستجاب له. قال صلى الله عليه وسلم: (فإن عزم -أي: نهض من فراشه- فتوضأ ثم صلى قُبلت صلاته). وورد من أذكار الاستيقاظ من النوم دعاء: (سبحان الله وبحمده، سبحان القدوس، ولا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)، والحقيقة أن هذا الدعاء بعينه لا نظن أنه ثبت في أحاديث الاستيقاظ من النوم؛ لكن تكفي الأحاديث الأخرى الثابتة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد الله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره) وهذا يعتبر امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}. فيمكن أن تكون الآية نفسها دليلاً على أن الإنسان يقول: (سبحانك الله وبحمدك)؛ لأن التعليق هنا جاء بوظيفة القيام: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}، ومن ذلك أيضاً هذا الحديث؛ لأن فيه: (مَن تعارَّ من الليل فقال: وذكر من ضمن ما يقوله: سبحان الله والحمد لله)، وهذا يدخل في امتثال الآية الكريمة. وأيضاً مما يقال عند القيام من النوم: المعوذتان؛ لأن الرسول عليه السلام قال لـ عقبة بن عامر: (اقرأ بهما إذا نمت، وإذا استيقظت، وإذا أخذت مضجعك). وقيل في تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] يعني: حين تقوم إلى الصلاة، روى مسلم في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في ابتداء الصلاة: (سبحانك الله وبحمدك! وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وهذا على احتمال أن قوله: ((حِينَ تَقُومُ)) يعني: إلى الصلاة. وهذا الحديث رواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد رضي الله عنه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وعن مجاهد قال في قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}: حين تقوم من كل مجلس، وكذا قال عطاء وأبو الأحوص، ولعل في هذا التفسير الإشارة إلى الدعاء المشهور في كفارة المجلس، وهو في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه -يعني: اللغو أو الكلام الذي لا يفيد- فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك! أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك) رواه الترمذي وصححه، وكذا الحاكم. وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فقال رجل: يا رسول الله! إنك لتقول قولاً ما كنتَ تقوله فيما مضى، فقال صلى الله عليه وسلم: كفارة لما يكون في المجلس) وقد أفرد الحافظ ابن كثير في هذا الحديث جزءاً على حدة، وذكر فيه طرقه وألفاظه وعلله، فرحمه الله. ولا يخفى أن لفظ الآية يصدق على المواضع المذكورة كلها، وتدل الأحاديث المذكورة على الأخذ بعمومها، فإن السنة بيان للكتاب الكريم. إذاً: كما بينت هذه الأحاديث الآية: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}، فيدخل في حكم الآية كل ما ثبت في السنة مما يبين هذا التسبيح، فيدخل فيها أولاً حديث: (مَن تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله). وكذلك يدخل فيها أذكار الاستيقاظ من النوم على أن قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48] يعني: من النوم عند الاستيقاظ. وأيضاً قوله: ((حِينَ تَقُومُ)) يعني: إلى الصلاة، وهذا ثابت في أدعية الاستفتاح. وأيضاً: ((حِينَ تَقُومُ)) يعني: في القيام من المجلس، فيدخل فيها دعاء كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلخ.

تفسير قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم)

تفسير قوله تعالى: (ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم) قال تبارك وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49]. قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي: اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة بالليل، كما قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُودَاً} [الإسراء:79]، وقد روي في أذكار الليل من التسابيح ما هو معروف في كتب الحديث، وقد جمعت ذلك مُعَرَّىً عن الأسانيد في كتاب الأوراد المأثورة. هذا كلام القادري رحمه الله تعالى. وقوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ أي: وسبحه وقت إدبارها، وذلك بميلها إلى الغروب عن الأفق بانتشار ضوء الصبح. وأما المقصود بقوله تعالى: (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) فقيل: عَنَى بذلك فريضة الفجر، أو نافلته، أو ما يشملهما. إذاً: قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49] يعني: فسبحه أيضاً، والتسبيح في إدبار النجوم: إما أن المقصود به صلاة الفجر، أو سنة الفجر، أي: الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر. وبعض الناس يضطرب عندهم الأمر ويسألون كثيراً: ما هو الفرق بين الصبح والفجر؟ و A أنه يقال: صلاة الصبح أو صلاة الفجر، وسنة الفجر أو سنة الصبح، فاللفظان مترادفان، ولا إشكال في إطلاق أي واحد منهما. فإن قيل: هذه صلاة، والأمر هنا بالتسبيح فكيف ذلك؟ فنقول: إن الصلاة يطلق عليها: تسبيح؛ لأن الصلاة تسمى بأجزائها، كما تقول: صليت ركعة، أو صليت ركعتين، فتعبر عن الصلاة كلها بجزء منها وهو الركوع؛ مع أن الصلاة ليست ركوعاً فقط، فالصلاة تسمى بجزء من أجزائها كالفاتحة مثلاً، فقد سمى الله الفاتحة صلاة، كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) وذكر الفاتحة فقط، إشارة إلى أنها من أركان الصلاة المهمة، وإن كانت الصلاة فيها أركان أخرى غير مجرد قراءة الفاتحة، فأطلق الجزء وأراد به الكل، وكذلك تقول: سجدة الضحى وتعني: صلاة الضحى، وهكذا. وفي الحديث أيضاً: (جمع بين المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة ولم يسبح بينهما شيئاً) أي: جمعهما ولم يصل بينهما نافلة. ومن ذلك أيضاً قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (لو كنتُ مسبحاً لأتممت) يعني: لو كان لي أن أتنفل في السفر لكان الأولى أن أتم الصلاة، وليس أقصر الصلاة وأصلي النوافل الأخرى، أي: غير الوتر وركعتي الفجر، فقوله: (لو كنتُ مسبحاً لأتممت)، أي: لو كنتُ متنفلاً، فأطلق التسبيح على صلاة النافلة. فالصلاة تطلق وتسمى أحياناً ببعض أجزائها، وعلى هذا فقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:49] يعني: وسبحه وقت إدبار النجوم بالصلاة، إما صلاة الفريضة وإما صلاة النافلة في الفجر. قال قتادة: كنا نُحَدَّث أنهما الركعتان عند طلوع الفجر. وقد ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعهداً منه على ركعتي الفجر)، وفي لفظ لـ مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها). وأوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام بالمحافظة عليهما، فقال: (ولو طاردتكم الخيل) يعني: لو كنتم تطاردكم خيل الأعداء فلا تضيعوا ركعتي الفجر أبداً. قال الزمخشري: وقرئ: {وَأَدْبَارَ النُّجُومِ} بالفتح، بمعنى: في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت.

الاستدلال بالآية على أفضلية الإسفار بصلاة الصبح، وذكر الخلاف في ذلك

الاستدلال بالآية على أفضلية الإسفار بصلاة الصبح، وذكر الخلاف في ذلك قال في الإكليل: قال الكرماني: إن بعض الفقهاء استدل بهذه الآية على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل؛ لأن النجوم لا إدبار لها، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون، ثم علق صاحب الإكليل على هذا فقال: وهو استدلال متين. يعني أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل من التغليس، والغلس هو: ما تبقَّى من الظلمة في آخر الليل عند بداية طلوع الفجر، حيث يكون هناك بقايا ظلمة منتشرة، فالتغليس بالصلاة هو: أداؤها في وقت الغلس، يعني: حين يطلع الفجر، لكن بقيت ظلمة من آخر الليل. فيقول الكرماني: إن بعض الفقهاء استدل بقوله تعالى: ((وَإِدْبَارَ النُّجُومِ)) على أن الإسفار بصلاة الصبح أفضل؛ لأن النجوم لا إدبار لها، وإنما ذلك بالاستتار عن العيون. يعني: أن صلاة الصبح تكون وقت إدبار النجوم، والنجوم لما ينتشر ضوء الصباح تختفي؛ لأن الضوء ينتشر فيسترها. فهذا الفريق من الفقهاء قالوا: إذا قلنا: إن (إدبار النجوم) صلاة الفجر، ففي هذه الحالة يكون المعنى: صل صلاة الصبح وقت استتار النجوم، ومتى تستتر؟ تستتر بانتشار الضوء الذي هو الإسفار. وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، على ثلاثة أقوال: القول الأول: إنه يغلس بصلاة الفجر، يعني: تصلى في أول الوقت. القول الثاني: إنه يصلى في وقت الإسفار. القول الثالث: -وهو الراجح-: أن أدلة كلا الفريقين صحيحة؛ لكن المقصود: أنه يدخل في الصلاة في وقت الغلس ثم يطيل الصلاة حتى ينصرف منها وقت الإسفار، هذا هو الجمع، والله تعالى أعلم.

النجم [1 - 4]

تفسير سورة النجم [1 - 4]

فضل صيام تاسوعاء وعاشوراء

فضل صيام تاسوعاء وعاشوراء من السنة صيام يوم عاشوراء الذي هو العاشر من شهر الله المحرم، فقد روى مسلم بسنده عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية). وأيضاً وردت أحاديث في صحيح مسلم تحث على أنه يُصام يوم بعده أو يوم قبله، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، خالفوا اليهود)؛ وذلك لأن اليهود تعظم هذا اليوم؛ لأنه اليوم الذي نجى الله سبحانه وتعالى فيه موسى وقومه من فرعون. يقول ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها -يعني: أقلها-: أن يُصام وحده. أي: أن يصوم الإنسان يوم عاشوراء وحده، فهذا ينال الثواب والأجر وتكفير ذنوب السنة الماضية إذا صام هذا اليوم. ولا يكره في هذه الحالة إفراد يوم السبت بصيام؛ لأنه هنا يقصد صيام يوم عاشوراء. أما المرتبة الثانية: فأن يصام التاسع معه. يعني: أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء. وفوقه -وهي المرتبة العليا-: أن يصام التاسع والعاشر والحادي عشر. فصيام الأيام الثلاثة بلا شك أفضل، وتكون فيه فوائد متعددة: منها: أنه إذا صام الأيام الثلاثة فيرجى أن يكتب له أجر صيام الشهر كله، على أساس القاعدة العامة وهي: أن الحسنة بعشر أمثالها، (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويأمر بها). ومنها: أن صوم هذا الشهر أفضل الصوم بعد رمضان: كما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (أفضل الصوم بعد رمضان شهر الله المحرم)، فهذا الشهر من الأشهر الحرم، وله حرمة عظيمة، وصيامه من أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان. وأيضاً من بركات هذا الصيام: أنه يكفر ذنوب سنة كاملة. وفي مثل هذا يراد -والله تعالى أعلم- أنه يكفر صغائر الذنوب، أما كبائر الذنوب فلابد لها من توبة خاصة. وقولنا: إنه يكفر الصغائر لا يعني أن الباب قد سُد أمام الكبائر؛ ولكن يعني أن على الإنسان أن يجدد التوبة من الكبائر، والتوبة منها لابد أن تستوعب أربعة أركان أو شروط: الأول: ترك الذنب والبعد عنه، يعني: الانقطاع عن التمادي في الذنب. ثانياً: الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي. ثالثاً: العزم على عدم الرجوع في المستقبل إلى هذا الذنب. رابعاً: رد الحقوق إلى أهلها إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي. ونشرع -بإذن الله تبارك وتعالى- في تفسير سورة النجم.

ترتيب سورة النجم ونزولها وعدد آياتها وسجودها

ترتيب سورة النجم ونزولها وعدد آياتها وسجودها وسورة النجم ترتيبها في المصحف: الثالثة والخمسون، وهذه السورة مكية، قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وآيُها: ثنتان وعشرون آية. روى البخاري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (أول سورة أنزلت فيها سجدة: ((وَالنَّجْمِ))، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد مَن خلفه، إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً)، وهو أمية بن خلف، ووقع في رواية غيره تسمية غير أمية. والمقصود أنه سجد لما فرغ من قراءتها؛ لأن السجدة في هذه السورة في آخرها. والرجل الذي أخذ كفاً من تراب معناه أنه استكبر عن أن يسجد لله تبارك وتعالى، فأخذ كفاً من تراب فسجد عليه. وفي رواية: (فرفعه إلى وجهه فقال: يكفيني هذا)، يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (فرأيته بعد ذلك قتل كافراً)، وهو أمية بن خلف، وقيل: غيره.

تفسير قوله تعالى: (والنجم إذا هوى)

تفسير قوله تعالى: (والنجم إذا هوى) قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]. قوله تبارك وتعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، قيل: النجم المقصود به هنا: الثريا، والثريا إذا سقطت تسقط مع الفجر، والعرب تسمي الثريا نجماً وإن كانت في العدد نجوماً، من باب إطلاق المفرد على الجمع. وقيل: إن المقصود بالنجم النبات الذي ليس له ساق، كما قيل أيضاً في قوله تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. ((إِذَا هَوَى))، يعني: إذا سقط على الأرض. وقيل: النجم نجوم القرآن، وعلى هذا فالمعنى: والقرآن إذا نزل؛ لأن القرآن الكريم كان ينزل نجوماً. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) أي: إذا غرب وغاب عن الأبصار، أو إذا انتثر يوم القيامة، أو انقض. والحقيقة: أنه مر مرور الكرام على كلمة (انقض) مع أنها مفتاح لقول رجحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو: أن المقصود من قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى): الإشارة إلى حفظ السماء بسبب نزول القرآن الكريم؛ حيث حُرست السماء، وكانت الشياطين تُرجم بالنجوم وبالشهب إذا أرادت أن تسترق السمع، كما سيأتي بيانه.

تفسير الإمام ابن القيم لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى)

تفسير الإمام ابن القيم لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة في كتابه (التبيان في أقسام القرآن): ومن ذلك قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:1 - 3]، أقسم سبحانه بالنجم عند هَوِيه على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي. واختلف الناس في المراد بالنجم، فقال الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم بالقرآن إذا نزل منجماً على رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن النجم هنا هو القرآن، حينما كان ينزل منجماً، يعني: متفرقاً؛ وذلك بأن تنزل أربع آيات، وثلاث آيات، وتنزل سورة كاملة، وكان بين نزول أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة. وكذلك روى عطاء عنه، وهو قول مقاتل والضحاك ومجاهد، واختاره الفراء، وعلى هذا فسمي القرآن نجماً لتفرقه في النزول. فيكون أحد أسماء القرآن الكريم نجماً، لقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، يعني: والقرآن الكريم؛ لتفرقه في النزول. والعرب تسمي التفرق تنجماًً، والمفرق نجماً، ونجوم الكتاب أقساطها، ويقال: جعلت مالي على فلان نجوماً ومنجماً، كل نجم كذا وكذا. هذا هو الاستعمال اللغوي لهذا التعبير، فقول القائل: جعلتُ مالي على فلان نجوماً، يعني: أقساطاً، وقوله: كل نجم كذا وكذا، يعني: كل قسط كذا وكذا. وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت لحلول ديونها وآجالها، فيقولون: إذا طلع النجم -يريدون بذلك الثريا- حل عليك الدين. ومنه قول زهير في دية جُعلت نجوماً على العاقلة: ينجمها قوم لقوم غرامة ولم يهرقوا ما بينهم ملء محجم يعني: أنهم عدلوا عن الثأر وعن القصاص والقتل بأن قبلوا أن تدفع عاقلة الجاني الدية منجمة مقسطة، ولم يسفكوا دماً ولو قليلاً. ثم جعل كل تنجم تقسيطاً وإن لم يكن مؤقتاً بطلوع نجم، فشاع استعمال كلمة (التنجم) على أنها تساوي التفريق، ولم يشترط أن تكون مرتبطة بالفعل بطلوع النجم. وقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) إذا كان النجم إذا هوى هو: القرآن الكريم؛ لنزوله منجماً أو على نجوم، فما معنى: (هوى) على هذا القول؟ A معناه: نزل من علو إلى سفل، أي: والقرآن المنزل المقسط أو الذي جزئ أجزاءً وتفرق إنزاله. قال أبو زيد: هوت العقاب تهوي هَوِياً -بفتح الهاء- إذا انقضت على صيد أو غيره. وكذلك قال ابن الأعرابي، وفرق بين الهَوِي لقوله: والدلو في إقعادها عجل الهَوِي وقال الليث: العامة تقول: الهُوِي -بضم الهاء- في لفظة: هَوَى يهوي. وكذلك قال الأصمعي: هوى يهوي هو بفتح الهاء إذا سقط إلى أسفل، قال: وكذلك الهَوِي في السير إذا مضى. وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه غلط فيه أبو محمد بن حزم أقبح غلط، فإنه ذكر في ضمن أسماء الرب تبارك وتعالى الهَوِي، واحتج بما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى الهَوِي)، وهذا -والله تعالى أعلم- لأن ابن حزم لم يخالط العلماء مخالطة كاملة كما ينبغي لمن يسلك هذا الطريق، فربما كانت هذه إحدى سقطاته التي تنشأ من مثل هذا، وهذا من الوهم في فهم بعض الأحاديث؛ لعدم التلقي على الشيوخ؛ لأنه ربما لو تلقى هذا عن شيخ ما كان يقع في هذا الفهم الذي استبد به وأوقعه في الخطأ الفاحش، فـ عائشة تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى الهَوِي)، فظن أبو محمد أن (الهَوِي) صفة للرب، وليس كذلك؛ فإنه يقال: مضى هَوِي من الليل على وزن فعيل، ومضى هزيع من الليل أي: طرف وجانب، والمقصود بالحديث: أنه كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) في قطعة من الليل وجانب منه، فالهَوِي هو قطعة ووقت طويل من الليل، فكان يقول ذلك صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المدة، ويفسر ذلك ما صرحت به أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها في اللفظ الآخر حيث قالت: (كان يقول: سبحان ربي الأعلى، الهَوِي من الليل). إذاً: إعراب (الهَوِي) أنه ظرف زمان. يقول الحافظ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]: وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية علي بن أبي طلحة وعطية: يعني: الثريا إذا سقطت وغابت. وهذه هي الراوية الأخرى عن مجاهد، والعرب إذا أطلقت النجم تعني به الثريا، قال الراعي: فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها وقال أبو حمزة اليماني: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) يعني: النجوم إذا انتثرت أو إذا انتشرت يوم القيامة. وقال ابن عباس في رواية عكرمة: يعني: النجوم التي تُرمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع. يقول ابن القيم: وهذا قول الحسن، وهو أظهر الأقوال. فالإمام ابن القيم يرجح قول الحسن، وهو أيضاً قول ابن عباس في رواية عكرمة عنه. يقول ابن القيم: ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها سبحانه آية وحفظاً للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وصدق. يعني: كقوله تعالى في سورة الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:211 - 212]، وذلك بعدما ذكر صفات القرآن الكريم وأنه تنزيل من الله تبارك وتعالى، وفي هذا ربطٌ بين رجم الشياطين بالنجوم وبين حفظ القرآن؛ كما قالت الجن أيضاً: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسَاً شَدِيدَاً وَشُهُبَاً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً} [الجن:8 - 9]، فحرست السماء إرهاصاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأجل صيانة القرآن الذي كان ينزل. فبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معللاً سبب ترجيحه هذا القول أن المقسم عليه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا القسم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4]، يعني: أن المقصود أنه وحي محفوظ، وليس للشياطين أبداً طريق إليه. يقول ابن القيم: ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله سبحانه وتعالى آية وحفظاً للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسوله حق وصدق، لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حُرس بالنجم إذا هوى إرهاصاً بين يدي الوحي -مقدمة بين يدي الوحي-، وحرساً له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور، وفي المقسم به دليل على المقسم عليه. فالمقسم به هو: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، والمقسم عليه هو ما ضل صاحبكم وما غوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. يقول ابن القيم: وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى. يعني: أن هذا معنىً غير واضح، فهو يرى أن هذا القول مرجوح. وكذلك يقول: وليس بالبين أيضاً تسمية نزوله هَوِياً، ولا عهد في القرآن ذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه. أي: أن القرآن يوصف بأنه نزل أو أنزل، لكن لا يصح أن يقال: إن القرآن هوى، بمعنى: أن القرآن نزل. يقول ابن القيم: وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت، وليس بالبين أيضاً القسم بالنجم أو بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة، بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلاً لعدم ظهوره للمخاطبين. أي: أن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يستبعد أيضاً القول بأن المعنى: والنجوم إذا انتثرت أو إذا انتشرت يوم القيامة، يقول: لأن العادة في القرآن أن الله سبحانه وتعالى يقسم بالآيات الظاهرة البينة للناس. أي: يبعد أن يكون المقصود: والنجوم إذا انتثرت وانتشرت يوم القيامة، ويقول: لأن هذا مما يقسم الرب عليه، والله سبحانه وتعالى يقسم على أن النجوم سوف تنتثر، ولا يحلف بالنجوم إذا انتثرت. ويقول ابن القيم: بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلاً لعدم ظهوره للمخاطبين، ولا سيما منكرو البعث، فإنه سبحانه إنما استدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، فأظهر الأقوال قول الحسن. والله تبارك وتعالى أعلم. هذا فيما يتعلق بتحقيق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى للقول الراجح في تفسير هذه الآية.

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى)

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى) أما العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى فقد تكلم أيضاً في تفسير هذه الآية بقوله: اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين، وقال بعضهم: إن المراد به الثريا، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وتطلق لفظة (النجم) على الثريا بالغلبة، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجرداً إلا عليها، ومنه قول نابغة ذبيان: أقول والنجم قد مالت أواخره إلى المغيب تثبت نظرة حار يعني بذلك: الثريا. وقوله تعالى: (إِذَا هَوَى)، أي: سقط مع الصبح، وهذا اختيار ابن جرير. وقيل: النجم الزهرة. أي: كوكب الزهرة، وخصه بالذات؛ لأنه كان هناك قوم يعبدونه. وقيل: المراد بالنجم نجوم السماء، وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، كقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45])، فأطلق المفرد والمقصود الجمع، أي: ويولون الأدبار. وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر:22]، والمقصود بالملك الملائكة. وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، أي: الغرف. وقال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلَاً} [الحج:5]، يعني: أطفالاً. وإطلاق النجم مراداً به النجوم معروف في اللغة، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة: ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد النجم والحصى والتراب وقال الراعي: فباتت تعد النجم في متسحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها أي: ولو كان النجم واحداً فقط كما هو في اللفظ المفرد لما كانت ستعد النجوم. وإنما هو من باب إطلاق المفرد والمراد به الجمع. وعلى هذا القول فمعنى هَوِي النجوم: سقوطها إذا غربت، أو انتثارها يوم القيامة. وقيل: النجم النبات الذي لا زرع له. وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم: الجملة النازلة من القرآن، فإنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أنجماً منجماً في ثلاث وعشرين سنة، وكل جملة منه وقت نزولها يصدق عليها اسم النجم صدقاً عربياً صحيحاً، كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة، والكتابة المنجمة على العبد المكاتَب. وعلى هذا فقوله: (إِذَا هَوَى)، أي: نزل به الملك من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: هوى يهوي هُوِياً إذا اخترق الهواء نازلاً من أعلى إلى أسفل. ثم يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً: أن القول بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها وإن اختاره ابن جرير وروي عن ابن عباس وغير واحد ليس بوجيه عندي. وكما قلنا مراراً: العلامة الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى لما يقول كلمة: (عندي) فهو أهل لأن يقول (عندي)، لأنه يعتبر -والله تعالى أعلم- من أعلم الناس بالقرآن في هذا العصر المتأخر، صحيح أن الشيخ توفي سنة 1393هـ رحمه الله تعالى؛ ولكن بشهادة جميع تلامذته أنه ما رئي أعلم بكتاب الله منه على الإطلاق، والشيخ الشنقيطي من الذين علمهم أكبر من كتبهم، يعني: الكتب هذه التي نقرؤها وبخاصة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، لا يدل على سعة علمه الحقيقية، ومن الناس من تكون كتبه أكبر من علمه، ومنهم من يكون علمه أكبر من كتبه، كالإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى، ومن سمع تسجيلات الشيخ الشنقيطي يظن أنه يقرأ، وإنما كان يتناثر العلم منه كالدرر التي لا تنقطع، كالسيل الهادر إذا هجم، ولا يتوقف عن الكلام إلا لسعلة تصيبه أو كحة أو شيء من هذا أو يأخذ نفساً أثناء الكلام، فعندئذ فقط يتوقف. أما علمه الغزير الذي ما عرف له نظير فهو في علم القرآن الكريم في هذا الزمان بشهادة تلاميذه، وهم أنفسهم أئمة، كالشيخ بكر أبو زيد والشيخ عبد الخالق وغيرهم ممن تتلمذوا على يديه، بل ممن تتلمذ عليه الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، مع جلالة قدره؛ لكنه أخذ عنه شيئاً من العلوم، خاصة في البلاغة واللغة وهذه الأشياء، فالمهم أن العلامة الشنقيطي وإن كان معاصراً حينما يقول هذا القول: (ليس بوجيه عندي) فهذه كلمة مقبولة، لا كما يتشدق بها الكثير من الأفراخ من طلبة العلم الذين يقول أحدهم: عندي في هذه المسألة القول الراجح كذا، وعندي كذا، فهؤلاء حقيق أن يقال لهم قول الشاعر: يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند يقول الشيخ رحمه الله تعالى: والأظهر أن النجم يراد به النجوم، وإن قال ابن جرير بأنه لا يصح، والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]؛ لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة. وقد اختلف العلماء أيضاً في المراد بمواقع النجوم، فقال بعضهم هي: مساقطها إذا غابت، وقال بعضهم: انتثارها يوم القيامة، وقال بعضهم: منازلها في السماء؛ لأن النازل في محل واقع فيه، وقال بعضهم: هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له -أي: العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري، أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجماً فنجماً، وذلك لأمرين: أحدهما: أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه ما ضل وما غوى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم. يقول: والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحاً في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:1 - 5]. وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:1 - 4]. وخير ما يفسر به القرآن القرآن. إذاً: هذا هو الدليل الأول، استدل بأن المقسم عليه هو هذا القرآن الكريم. والثاني: أن كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]. أي: أنه يفسر آية النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] بقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]. يقول: كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]؛ لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة، ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى)

تفسير قوله تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى) يقول الله تبارك وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]. هذا هو جواب القسم، يعني: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حاد عن الحق ولا زال عنه. والضلال -كما قال بعض العلماء-: يقع من الجهل بالحق، فيطلق على الشخص إذا جهل الحق وما علم به ولا سمعه. أما الغي فهو العدول عن الحق مع معرفته. يقول القاسمي: ((مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ)) أي: ما حاد عن الحق ولا زال عنه، ((وَمَا غَوَى))، أي: ما صار غوياً؛ ولكنه على استقامة وثبات ورَشَد وهدىً، وفيه تعريض بأنهم أهل الضلال والغي، وذِكره صلى الله عليه وسلم بعنوان ((صاحبهم)) للإعلام بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة، وإحاطتهم بمحاسن شئونه المنيفة، فهو تبكيت لهم على وجه أبلغ من أن يصرَّح باسمه، وإشارة إلى أنه كان أبداً موحداً لله، فما ضل صلى الله عليه وآله وسلم وما غوى. ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: وبين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى. والمقسم به في رأي ابن القيم هو قوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، أي: النجوم التي ترجم بها الشياطين لحراسة الوحي، وحراسة السماء، والمقسم عليه هو قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:2 - 3]. فيقول: بين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى، فإن النجوم التي ترمي الشياطين آيات من آيات الله يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم، بها ظهر دينه وشرعه وأسماؤه وصفاته، وجعلت هذه النجوم المشاهَدة خدماً وحرساً لهذه النجوم الهاوية، ونفى سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم الضلال المنافي للهدى والغي المنافي للرشاد، ففي ظل هذا النفي الشهادةُ له بأنه على الهدى مرتين: فالهدى في علمه. والرشاد في عمله. -صلى الله عليه وسلم- وهذا الأصلان هما غاية كمال العقل، وبهما سعادته وفلاحه، وبهما وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلفاءه فقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)، كما في حديث العرباض بن سارية - فالراشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال، وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو صاحب الهدى ودين الحق، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]، ولا يشتبه الراشد المهدي بالضال الغاوي إلا على أجهل خلق الله وأعماهم قلباً وأبعدهم من حقيقة الإنسانية، ولله در القائل: وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم فالناس أربعة أقسام: القسم الأول: ضال في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء شرار الخلق، وهم مخالفو الرسل. الثاني: مهتدٍ في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية. وهي أمة اليهود لعنهم الله؛ فعندهم العلم، لكن ليس عندهم العمل، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة:60]، وهكذا حينما وصف الله سبحانه وتعالى الصراط المستقيم قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:5 - 7] وهم اليهود لفسادهم العملي، {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]؛ لفسادهم الاعتقادي والعلمي. يقول ابن القيم: الثاني: مهتدٍ في علمه غاوٍ في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة الغضبية ومن تشبه بهم، وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به. الثالث: ضال في علمه، ولكن قصده الخير وهو لا يشعر. الرابع: مهتدٍ في علمه راشد في قصده، وهؤلاء ورثة الأنبياء، وهم إن كانوا الأقلين عدداً فهم الأكثرون عند الله قدراً، وهم صفوة الله من عباده وحزبه من خلقه. وتأمل كيف قال سبحانه وتعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2] ولم يقل: ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم، تأكيداً لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، كما قال تعالى آمراً نبيه أن يقول: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرَاً مِنْ قَبْلِهِ) [يونس:16]، فهم يعرفونه، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، ويقرون أنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمراً قط، وقد نبه على هذا المعنى تبارك وتعالى بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69] وبقوله تبارك وتعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]، أي: وأنتم تعرفون ذلك؛ لأنه صاحبكم، وقد عاشرتموه عمراً مديداً طويلاً. ويقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]: قال بعض العلماء: الضلال يقع من الجهل بالحق، والغي هو العدول عن الحق مع معرفته، أي: ما جهل الحق وما عدل عنه، بل هو عالم متبع له. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه صلى الله عليه وسلم على هدى مستقيم جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، وقال تعالى: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67]، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]. وقول الله تبارك وتعالى هنا في هذه الآية: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] استدل به علماء الأصول على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجتهد، والذين قالوا: إنه قد يقع منه الاجتهاد استدلوا بقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] إلى آخر الآية، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67] إلى آخر الآية، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] إلى آخر الآية. قالوا: فلو لم يكن هذا عن اجتهاد لما قال الله عز وجل: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، ولما قال: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:67]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا منافاة بين الآيات؛ لأن قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عن الله إلا شيئاً أوحى الله إليه أن يبلغه، فمن يقول: إنه فعل أو سحر أو كهانة أو أساطير الأولين هو أكذب خلق الله وأكفرهم، ولا ينافي ذلك أنه أذن للمتخلفين عن غزوة تبوك، وأسَر الأسارى يوم بدر، واستغفر لعمه أبي طالب من غير أن ينزل عليه وحي خاص في ذلك. يعني: أنه صلى الله عليه وسلم في هذه المواقف ما نزل عليه وحي خاص، وإلا لو أوحى الله إليه وحياً خاصاً في هذه المواقف لكان سوف يبلغه عن الله كما أنزله الله، أما ما وقع في هذه المواقف فلأنه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عليه وحي خاص في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى.

تفسير قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. قال قتادة: أي: وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا أيضاً فيه تعريض بهم أنهم هم الذين ينطقون عن الهوى. قال أبو عبيدة (عن الهوى) أي: بالهوى. ففسر (عن) بـ (الباء)، فتكون كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرَاً} [الفرقان:59]، أي: فاسأل عنه خبيراً، فجاءت (الباء) بمعنى: (عن). قال النحاس: قول قتادة أولى، وتكون (عن) على بابها، أي: ما يخرج نطقه عن رأيه إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4].

بيان أن السنة وحي من الله عز وجل

بيان أن السنة وحي من الله عز وجل وقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) حرف (عن) فيه تنزيه لمصدر كلامه في الدين، وأنه لا يصدر عنه كلام في الدين إلا عن الوحي لا غير، ولا يمكن أن يكون صادراً عن هواه، فقوله هذا أبلغ من القول بأن (عن) بمعنى الباء، وأقوى من هذا القول قول من قال في معنى الآية: ما ينطق في أي شأن من شئون الدين عن الهوى، فيستدل بهذا على أن السنة وحي كالقرآن؛ لقول الله تبارك وتعالى بعده مباشرة: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وجملة ((يُوحَى)) صفة مؤكدة لـ (وحي)؛ لأنه إذا جاءت ((يُوحَى)) بعد (وحي) فإنها قطعاً تقطع وتمنع وترفع احتمال أي مجاز. وأيضاً لتفيد الاستمرار التجددي؛ لأن الوحي كان عند نزول هذه السورة مستمر، فقوله: (يوحى)، يعني: سوف يستمر ويتجدد نزوله إلى أن ما شاء الله سبحانه وتعالى. وقوله: ((إِنْ هُوَ))، أي: القرآن، مع أن القرآن لم يذكر آنفاً؛ لكن فُهم من السياق، ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مطلقاً، أي: أن كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم متعلقاً بالدين فما هو إلا وحي يُوحى، واستُدل بذلك على أن السنن القولية من الوحي، وقواه بما في مراسيل أبي داود عن حسان بن عطية قال: (كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن). واستُدل بهذه الآية أيضاً على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، والصواب هو الأول. والقاسمي رحمه الله يرجح أن الضمير يعود إلى القرآن الكريم؛ لفهمه من السياق؛ ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، أي: أنه رد لقولهم: (افتراه)، والقرينة من أكبر المخصصات، وجلي أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول بالرأي في أمور الحرب وأمور أخرى، فلابد من التخصيص قطعاً، وبأنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول. يعني: مرسل حسان بن عطية. وكلام الإمام القاسمي رحمه الله تعالى فيه نظر، فقوله: (إنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول) هذا لو كنا نحتج على أن السنة وحي فقط بهذا المرسل، ونحن في الحقيقة غير محتاجين وغير مفتقرين للمرسل؛ لأنه من أقسام الضعيف؛ لكن عندنا ما هو أقوى؛ عندنا أدلة من القرآن نفسه، وعندنا أدلة من السنة، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى. والحقيقة أننا نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة مع هذه القضية؛ لكن بعد أن نذكر أيضاً كلاماً للإمام ابن القيم في تفسير هذه الآية. يقول ابن القيم رحمه الله: ثم قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، ينزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عن الهوى، وبهذا الكمال هداه ورشده، وقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟! فتضمن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق. ونفيه عن نفسه. فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال. يعني: ما يصدر عنه ما هو إلا بالوحي لا عن الهوى، وهذا أقوى من قولك: وما ينطق بالهوى؛ لأنه في هذه الحالة إذا قلنا: (بالهوى) فإن فيه تنزيهاً لنفس النبي عليه السلام أنه لا ينطق بالهوى، وإنما ينطق بالحق؛ لكن حينما نقول: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) يتضمن أمرين: يتضمن نفي الهوى عن مصدر نطقه. ثم أيضاً نفي الهوى عن نفسه. يقول ابن القيم ثم قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى): فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل. وآنفاً ذكرنا أن القاسمي يرجع أن الضمير في قوله تعالى: ((إِنْ هُوَ)) يعود إلى القرآن الكريم، وقال: لأن هذا هو الذي كان الكفار يزعمون أنه مفترى، وذكر أن القرآن هو المفهوم من السياق. فيقول ابن القيم رحمه الله تعالى: فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل. يعني المصدر المفهوم من الفعل ((يَنْطِقُ)) وهو النطق، فمعنى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وما نطقه إلا وحي يُوحى، هذا معنى كلامه. يقول: وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن؛ فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يُوحى، وقد احتج الشافعي لذلك. يعني: أن الإمام الشافعي ينتصر لهذا القول، لأن الآية: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) تفسَّر بمعنى: أن كل ما نطق به النبي عليه السلام في الدين فهو وحي، سواء كان في القرآن أو في السنة.

الحجج على أن السنة وحي من عند الله عز وجل

الحجج على أن السنة وحي من عند الله عز وجل يقول ابن القيم: وقد احتج الشافعي لذلك بقوله: لعل من حجة من قال بهذا قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، والعطف هنا يدل على المغايرة، أي: أن الكتاب غير الحكمة، وأرسى قاعدة، وهي: أنه متى ما ورد الكتاب مقترناً بالحكمة في القرآن الكريم في سياق الامتنان على هذه الأمة أو على النبي صلى الله عليه وسلم، فالحكمة هي السنة باتفاق السلف. فـ الشافعي قال: لعل من حجة من قال بهذا قوله: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]. إذاً: (الحكمة) معطوفة على (كتاب)، والكتاب أنزله الله، فتكون الحكمة أيضاً أنزلها الله. قال: ولعل من حجته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم-: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والخادم ردٌّ عليك) إلخ الحديث. وذكر أيضاً جملة من الأحاديث والآثار سوف نذكرها. وقال الشافعي: أخبرنا مسلم -يعني: ابن خالد الزنجي - عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أن عنده كتاباً نزل به الوحي، وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقه وعقول فإنما نزل به الوحي. والعقول: جمع عقل، والمقصود بها الدية. وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياه. وذكر الأوزاعي أيضاً عن أبي عبيد صاحب سليمان قال: أخبرني القاسم بن مخيمرة قال: حدثني ابن نضيلة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (سعر لنا، قال: لا تسألني عن سنة أحدثها فيكم لم يأمرني الله بها، ولكن سلوا الله من فضله) وابن نضيلة هذا يسمى طلحة. وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، وهذا هو السنة بلا شك، وقد قال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113]، وهما القرآن والسنة. فنحن نقول: إن (هو) تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل (ينطق)، فقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ} [النجم:3 - 4] يعني: إن نطقه {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، وهذا أرجح من قول من قال: إن الضمير يعود إلى القرآن الكريم، وهذا هو أولى الأدلة على أن السنة وحي؛ لأن الأدلة على هذا أدلة من القرآن وأدلة من السنة، وليس فقط مرسل حسان بن عطية، إذ ليس هناك أي قضية متوقفة على كلمة حسان بن عطية. ومن الأدلة قول الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولَاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]، الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتاب (الإحكام): قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50] وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وبعض المفسرين وبعض الأئمة كالإمام عبد الله بن المبارك فهم أن الذكر هنا أيضاً يعم القرآن والسنة، ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام عبد الله بن المبارك يذكر له الأحاديث الموضوعة التي يضعها بعض الناس، فرد عليه قائلاً: (تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9])، فيفهم من ذلك أن الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كان يرى أن (الذكر) يشمل القرآن ويشمل السنة. إذاً: هناك تنزيلان: تنزيل نزل أولاً. ثم تنزيل آخر أتى مبيناً لهذا الذي أنزل أولاً، فقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ)، أي: السنة (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي: القرآن الكريم، يعني: أن السنة تبين القرآن. يقول ابن حزم بعدما ذكر هذه الجملة من الآيات: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك. وتأملوا في هذا الضابط وهذا القيد في قوله: (أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله)، ثم قال هنا: (في الدين)، ليخرج الكلام الذي يكون في الدنيا، كما قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ويخرج أيضاً الأمور التي حصل فيها اجتهاد، يعني: وإذا قلنا: إنه يجتهد ويخطئ في الاجتهاد فالوحي لا يسكت أبداً على هذا، وإنما يصحح له ويبين له الحقيقة. يقول: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع، وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه. وربما يقول قائل: كيف تقول: إن السنة كلها محفوظة أيضاً كالقرآن، ولا يمكن أن تضيع على جميع الأمة؟ والجواب هو: أن الأحاديث قد تلتبس على بعض الناس، إذ قد يلتبس الضعيف بالصحيح، ولكن نقول: إنما يلتبس على الجهلاء، أما المختصون وأما أهل الحديث فإنها لا تلتبس عليهم. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الروح): والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، ولا ينكره إلا من ليس منهم، فيا ويل أعداء السنة! وقد سئل ابن المبارك عن هذه الأحاديث الموضوعة! فقال: (تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]) وإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس. وتخيلوا إذاً ما قاله العقيد القذافي مثلاً من الضلالات التي قالها في شأن السنة، وأنه يريد أن يفهم القرآن فقط. ولا يخرج هذا الكلام إلا من ناس مهووسة ومتهمة في عقولها، سواء كانوا من الكتَّاب أو المفكرين أو الضالين، بل كثيراً ما كانت تبدأ فكرة ادعاء النبوة بنفي السنة أولاً، بل هذا شأن كل من يدعون النبوة تقريباً، وهذا ما قاله شيخنا العلامة الشيخ بديع الدين السندي رحمه الله تعالى، فإنه كان يقول: إن تفتش في سيرة الذين يدعون النبوة تجد كثيراً منهم تقدم ادعاء النبوة بالتكذيب بالسنة. وهذا فعلاً نجده كثيراً، كما في مسيلمة السودان المدعو: رشاد خليفة، فهو بدأ بإنكار السنة، وقال: هذه السنة وحي من الشيطان! إلى آخر خزعبلاته، ولا نضيع الوقت بذكرها. فكثير ممن يدعون النبوة يبدءون أولاً بهدم السنة؛ لأن السنة سوف تأتي له بصداع، فإنه يسمع الناس تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي)، وغير هذا من الأدلة، بخلاف أدلة القرآن فإنها قد تكون طيعة في يد صاحب الهوى، كما يقول الشاعر: وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل لأن القرآن يحمل أوجهاً شتى، فالقرآن محتاج إلى السنة كي تبينه وتفصله وتوضحه، فمن أجل ذلك فهم يريدون أن يسدوا باب السنة؛ ليبتدعوا ما يريدون، ولذلك وجدنا بعض هؤلاء الضالين يقول: إن الصلاة لا تجب إلا ركعتين في الصبح وركعتين في الليل! ويزعمون أنهم يستدلون بفهمهم السقيم للقرآن. فحفظ الإسلام لا يتم ولا يُحفظ إلا بحفظ القرآن، والقرآن لا يُحفظ إلا بحفظ السنة، ولا شك في ذلك. يقول: فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة، وأن يتعهد ببقائها. فلابد أن تُحفظ السنة أيضاً كي يُحفظ القرآن، وحتى لا يحصل إلحاد في فهم آيات الله تبارك وتعالى.

الأدلة من القرآن على أن السنة وحي من الله عز وجل

الأدلة من القرآن على أن السنة وحي من الله عز وجل ومن الآيات التي اقترن فيها الكتاب بالحكمة، وهي حتماً -بالشروط التي ذكرناها- يُقصد بها السنة: قول الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولَاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]. ومنها: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، يعني: القرآن والسنة، وهي دعوة إبراهيم، وقد استجيبت. وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، فالكتاب مقترن بالحكمة في سياق الامتنان مخاطباً به الرسول عليه السلام، ولهذا لابد أن تفسر الحكمة بأنها السنة. وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِه} [البقرة:231]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، والذي كان يتلى في بيوت نساء النبي عليه السلام هو القرآن والسنة. قال الشافعي رحمه الله تعالى: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الآيات القرآنية التي تدل على أن السنة وحي: قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19]. والشاهد هنا في قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)، فهذا تعهد وضمان من الله أنه سوف ينزل أيضاً ما يبين القرآن الكريم، أي: إن علينا إظهاره بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل، وعلينا كذلك تبيين ما فيه من الأحكام وما يتعلق بها من الحلال والحرام، والتفصيل والإجمال، والتقييد والإطلاق، وما إلى ذلك، وهذا ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى. من ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]. وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53]، وهل هداية الرسول عليه السلام إلى القرآن فقط أم أنه يهدينا إلى القرآن وإلى السنة؟ A يهدينا إلى القرآن وإلى السنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي). فالعصمة من الضلال مشروطة بشرطين، فكل من ادعى أنه مهتدٍ وأنه بعيد عن الضلال، وفي نفس الوقت يدعي أنه يتبع القرآن فقط فنقول له: أنت ضال، ولذلك قال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بسنة، فقال لك: دعنا من هذا وأجبني عن القرآن، فاعلم أنه ضال. أي: أعطه هذا الختم فوراً، فمثل هذا ضال، ولا كلام في ذلك، فأي واحد يقول: إنه يأخذ القرآن فقط، ويظن أن هذه الكلمة سوف تشفع له، نقول له: أنت ضال قطعاً؛ لأن العصمة من الضلال لا تكون إلا بالقرآن مع السنة معاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي). ومعروف أن ما علق على شرطين لا يقوم بأحدهما؛ لأن الشرط إذا عدم لا يوصل إلى الحقيقة أو الذات، فبالتالي لا يمكن أن يعصم من الضلال من قال: آخذ القرآن فقط، بل نحن نقطع جزماً بأنه ضال، أما من قال: آخذ القرآن والسنة فهو المهتدي. ودليل آخر من أدلة القرآن الكريم على أن السنة وحي: قول الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدَاً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:142 - 143]، هل الجعل هنا شرعي أم كوني قدري؟ A الجعل هنا شرعي، فقوله: ((وَمَا جَعَلْنَا))، يعني: ما شرعنا. ويُفهم من الآية أن الذي أمر باستقبال بيت المقدس هو الله سبحانه وتعالى. فالله سبحانه وتعالى يقول: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا))، يعني: ما شرعنا وما أمرناكم باستقبال القبلة التي كنتم عليها ((إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)). ولهذا نسأل سؤالاً: أين يوجد في القرآن الكريم الأمر باستقبال بيت المقدس؟ الجواب: لا يوجد في القرآن، ومع أنها غير موجودة في القرآن فالله سبحانه وتعالى يقول هنا: ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ))، وهذا دليل قرآني واضح وضوح الشمس على أن السنة وحي كالقرآن؛ لأن هذا (الجَعل) ما حصل في القرآن، وإنما حصل في السنة، وعرفناه من السنة، وما وجدناه في القرآن على الإطلاق. قال عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:143 - 144] إلخ الآيات، فهذه الآيات نزلت عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وهي تدلنا على أن التوجه إلى بيت المقدس كان مشروعاً من قبل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مع ميله الشديد إلى التوجه إلى الكعبة لكونها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لم يتوجه إليها، بل كان ملتزماً بالتوجه إلى بيت المقدس هو وأصحابه، وإن كان ذلك بخلاف رغبته، لكن استقبلها انقياداً لأمر الله. وتدلنا أيضاً على أن التزامهم لذلك كان حقاً وصواباً واجباً عليهم قبل التحويل، وهذه الآية مع ذلك لم تشرِّع التوجه إلى بيت المقدس؛ لأنها إنما أنزلت في نهاية العمل، فهي تشرع التوجه إلى الكعبة، وليس هناك آية أخرى في القرآن تبين لنا حكم التوجه إلى بيت المقدس، فدلنا هذا كله على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا عاملين بحكم لم ينزل به القرآن، وأن عملهم كان حقاً وواجباً عليهم. إذاً: كان التوجه إلى بيت المقدس وحياً من الله، لكن ليس في القرآن، فلم يبق إلا أنه وحي السنة. وقال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3]، والذي أخبره عن زوجته لا نجده في القرآن، وإنما نجد في القرآن إشارة مجملة فقط.

الأدلة من السنة على أن السنة وحي

الأدلة من السنة على أن السنة وحي ثم نتحول إلى أدلة السنة نفسها على أن السنة وحي: فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهَد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم بمثل قراه)، وهذا الحديث صحيح؛ رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه. فنلاحظ هنا قوله عليه الصلاة والسلام: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه. أوتيت: فعل مبني للمجهول، والمعلوم منه (آتى)، يتعدى إلى مفعولين، مثل: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم:30] (الياء) مفعولاً أولاً، و (الكتاب) مفعولاً ثانياً، فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام هنا: ألا إني أوتيت القرآن آتاني الله القرآن، فيكون المفعول الأول هو (الياء)، والمفعول الثاني هو (القرآن) والمعنى: أوحي إلي القرآن ومثله معه، وهذا يدل على أن مصدر الكتاب ومصدر المماثل له واحد، وحيث إن الله عز وجل هو الذي آتى نبيه الكتاب فهو سبحانه الذي آتى نبيه الشيء المماثل لهذا الكتاب، وهو السنة الشريفة. فمعنى هذه المماثلة في قوله: (ومثله معه): إما أن تكون مماثلة في كونه وحياً، أي: كما أن القرآن وحي فالسنة مثله في كونها وحياً. وإما أن تكون مماثلة في وجوب العمل بالسنة كالكتاب العزيز. غير أن الاحتمال الأول تؤيده وترجحه الأدلة السابقة من القرآن الكريم، وأيضاً الأدلة التي سوف تأتي. فحديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه أفاد أن السنة وحي مع القرآن، وأفاد التشنيع على من يقتصر على القرآن ويرفض السنة، كأفراخ هذا الزمان كـ مصطفى محمود وأمثاله من الجهلة الذين ما عُرفوا على الإطلاق بطلب العلم الشرعي، وليس لهم أي شيء في هذا الصناعة، فهؤلاء الذين يتطفلون على العلم الشرعي ولا يهتمون بذلك بل يتسورون عليه، يريدون أن يهدموا أصول الدين بالطعن في أحاديث متواترة كأحاديث الشفاعة، ويأتون بأشياء غير ذلك من ضلالات هذا الزمان التي لم نعد نستغربها؛ لكثرة ما نسمع المنحرفين والضالين عن هدي النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا الحديث أيضاً علم من أعلام النبوة؛ لأنه إخبار عن غيب، وقد وقع كما أخبر، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هناك فرقة ضالة سوف تظهر اسمها: فرقة القرآنيين، وقد ظهرت كما تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء الذين يظهرون بين يوم وآخر ويطعنون في السنة ينطبق عليهم هذا الحديث. وقوله: يوشك رجل شبعان على أريكته، هذه العبارة مفهومها يدل على منقبة عظمى لأهل الحديث، فأهل الحديث جهادهم ورحلاتهم في طلب العلم منصب في حراسة حديث الرسول عليه السلام، ولو تتبع الإنسان جهد أهل الحديث لوجد فيه الأعاجيب، وكيف أن الله سبحانه وتعالى حفظ الدين بتسخير أهل الحديث، وجهادهم الدءوب في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد اتصف أهل الحديث بأمور أساسية جداً، من ضمنها: الجوع والعطش، والفقر، والمعاناة الشديدة في الرحلة لطلب العلم، وفي هذا مصنفات مستقلة تبين أنهم عانوا الفقر والجوع والمرض والنصب في سبيل الرحلة؛ حيث كانوا يمشون آلاف الأميال على أقدامهم، كما فعل بقي بن مخلد حينما رحل على قدميه من الأندلس إلى بغداد؛ ليسمع من الإمام أحمد، فتخيلوا هذه المسافة! والأمثلة في ذلك كثيرة، فهم كانوا يرحلون في طلب العلم، وكانوا يقاسون في هذه الرحلة الشدائد، ويعانقون الفقر والجوع، وهناك قصص طويلة لا نريد أن نخرج عن الموضوع بذكرها. لكن هؤلاء المكذبون الضالون الذين يطعنون في سنة النبي عليه الصلاة والسلام جمعوا النقيضين، فقوله: (رجل شبعان) فيه إشارة إلى أنهم مترفون، فلا سافروا، ولا جاهدوا، ولا نصبوا، ولا عطشوا، ولا مرضوا في طلب الحديث، فإلى أين رحل هؤلاء المكذبون الذين يطعنون في السنة؟ ما عرفوا بالرحلة على الإطلاق، ولا جثوا على ركبهم أمام العلماء أبداً، لكن سهل على أحدهم أن يتسور ويقفز من السور ويدَّعي أنه دخل في حوزة العلم الشرعي. وقوله: (متكئ على أريكته) كما في بعض الروايات فيه إشارة إلى البطر، وأنهم ناس مترفون لا يسافرون، ولا هم مستعدون لأن يتعبوا، بل يريد أحدهم لكتاب البخاري أن يرميه في المحرقة، ويريد أن يطمس كل هذه الجهود بجرة قلم أو بكلمة تصدر منه أو بمقالة يكتبها في جريدة ترحب به وبأمثاله من الأبواق الضالة المنحرفة، وتشجعه على أن يمضي في الطعن، ثم يحدثون بالآراء الشاذة التي تدل على ضلالاتهم وشبهاتهم. فتأملوا كلمة: (شبعان على أريكته)! يعني: أنه إنسان مترف ليس متفرغاً لطلب العلم، ولا يسهر، ولا يرحل ولا يسافر، ولا يمرض، ولا يفتقر، ولا يشرب بوله كما حصل من بعض علماء الحديث، حتى ينقذ نفسه وينقذ حياته وهو راحل في طلب العلم، فهو (شبعان) وجهاده (على أريكته)، فهو متكئ على الأريكة، ويكذب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل تنبأ الرسول عليه الصلاة والسلام بظهوره، ومع هذا يقول: عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه! والرسول عليه الصلاة والسلام يرد على هذا المبطل الكذاب بقوله: (وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، بعدما قال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، فأكد أن السنة مثل القرآن، فهي وحي آتاه الله إياه، ثم بعد ذلك تنبأ بهؤلاء القرآنيين الضالين. ثم أعطى قاعدة عامة أيضاً مؤكداً ذلك فقال: إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ثم زاد على ذلك بأن أتى بقسم مهم جداً من أقسام السنة الثلاثة؛ لأن السنة على ثلاثة أقسام: إما أن تأتي مؤكدة لما ورد في القرآن، فيكون هذا من باب توارد الأدلة على المعنى الواحد. وإما أن تأتي مفسرة للقرآن مبينة له، مقيدة للمجمل، مخصصة للعام، إلخ. وإما أن تأتي السنة -وهذا أغرب الأقسام إلى أعداء السنة- بحكم مستقل غير موجود أصلاً في القرآن. فمن ذلك ما ذكره هنا بقوله: (ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهَد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه -لم يبذلوا حق الضيافة- فله أن يعاقبهم بمثل قراه)، أي: يكون له حق فيما يماثل القرى والضيافة. فالحديث أفاد أن السنة وحي مع القرآن، وأفاد التشنيع على من يقتصر على القرآن ويرفض السنة، وبين أحكاماً فرعية تستقل السنة بتشريعها وهي لم ترد في القرآن الكريم نصاً، وإنما جاءت في القرآن إحالة، بمثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ومن ذلك أيضاً: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن؟! ألا إني قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، إنها مثل القرآن أو أكثر). وعن طلحة بن نضيلة قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عام سنة -عام قحط-: سعِّر لنا يا رسول الله! قال: لا يسألني الله في سنة أحدثها فيكم لم يأمرني بها؛ ولكن اسألوا الله من فضله). ففي هذا أن الرسول امتنع من التسعير؛ لأنه لم ينزل عليه وحي بهذا التسعير، فيخشى أنه لو قال من عنده بدون وحي يكون قد أحدث فيهم شيئاً لم يأمره الله به، ومع ذلك سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنناً وبين أحكاماً ليست في القرآن، فدل هذا الحديث على أن ما تكلم به وحي، وأنه لم يحدثه من تلقاء نفسه. ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (غفار غفر الله لها، وأسلم سلمها الله، ما أنا قلته؛ ولكن الله قاله)، وهل توجد آية في القرآن نصها: (غفار غفر الله لها، وأسلم سلمها الله)؟ A لا، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أنا قلته؛ ولكن الله قاله). وعن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله -يعني: بحكم الله-، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم. فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة -يعني: استعاض بدل رجمه بمائة شاة وجارية- فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس -لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت). وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. وهذا واضح تماماً أن هذا الحكم غير موجود في القرآن، وإنما هو في السنة، ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأقضين بينكما بكتاب الله). وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه أنه كان يقول لـ عمر رضي الله عنه: (ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، فلما كان بالجعرانة سأله رجل فقال: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبته بعدما تضمخ بالخلوق -يعني: لطخ نفسه بالطيب- حتى كأنه يقطر منه؟ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت، فجاء ا

النجم [5 - 18]

تفسير سورة النجم [5 - 18]

تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى)

تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى) قال عز وجل: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) أي: علم محمداً صلى الله عليه وسلم ملَكٌ شديدٌ قواه، يعني: جبريل عليه السلام، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين: أولاً: أن جبريل عليه السلام هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوحي. الأمر الثاني: أن جبريل شديد القوى، وهذا ما أوضحه قول الله تبارك وتعالى مبيناً أن جبريل هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان سفيراً بينه وبين الله في إيحاء هذا القرآن الكريم إليه، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة:97]، ففي هذا إثبات أن جبريل عليه السلام هو الذي نزله، والمقصود أن الذي أتاه بالوحي ملَكٌ هذا شأنه، لا شيطان كما يزعم المشركون. وقال تبارك وتعالى أيضاً مبيناً أن جبريل هو الذي علمه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]. وفي نفس السياق في سورة الشعراء قال تبارك وتعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212]، فنفى أن يكون مصدر القرآن الشياطين، وأثبت أن مصدره هو تعليم جبريل الأمين. وقال تبارك وتعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]. وقال تبارك وتعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، يعني: إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك من عند الله مبلغاً له عنه: ((فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ))، أي: اقرأ كما سمعت الملك يقرأ، وهذا كله يؤكد أن الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام. فهذه الآية دلت على أن جبريل ملك الوحي ((شَدِيدُ الْقُوَى)) * ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى))، وهذا بينه قوله تبارك وتعالى في سورة التكوير بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، وهذه كلها صفات جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. و (القُوى) جمع قوة، ومن العرب من يكسرها فيقول: القوى بكسر (القاف) كالرِّشا بكسر الراء في الرِّشوة جمع رُشوة بضمها، والحِجا جمع حُجوة. وقوى الحبل: طاقاته، والواحدة قوة.

تفسير قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى)

تفسير قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى) قال تبارك وتعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6]. قوله: ((ذُو مِرَّةٍ)): المِرة بكسر (الميم) أي: ذو متانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذو مِرَّة، من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. وكان من قوة جبريل عليه السلام أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحيه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وهذه كلها من شدة قوة جبريل عليه السلام. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم أخبر تعالى عن وصف مَن علمه الوحي والقرآن مما يُعلم أن صفات هذا الملك الذي علمه القرآن الكريم مضادة لأوصاف الشيطان معلم الضلال والغواية. فقال تبارك وتعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وهذا نظير قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20].

السر في وصف جبريل بالقوة، ووجه إضافة القرآن الكريم تارة إلى جبريل وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

السر في وصف جبريل بالقوة، ووجه إضافة القرآن الكريم تارة إلى جبريل وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما السر في وصف جبريل عليه السلام بالقوة فقد وضحه الإمام ابن القيم أيضاً في كتابه المبارك: (التبيان في أقسام القرآن) أثناء شرحه سورة التكوير فقال: ثم ذكر سبحانه المقسم عليه، وهو القرآن الكريم وأخبر أن هذا القرآن قول رسول كريم. والرسول الكريم هو جبريل عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في سياق هذه الآيات الكريمة من الصفات ما يعيِّن ويحتِّم أنه جبريل، فقد قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، فهذا كله لا شك أنه في شأن جبريل عليه السلام. وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:38 - 47]؛ لأنه عندما قال تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) نفى بعد ذلك مباشرة قول من زعم من أعدائه أنه قوله، فقال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) رداً على من قالوا: إنه قول شاعر، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ) يعني: كما تزعمون، فيلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى حينما أقسم على أن القرآن قول رسول نسبه إلى الرسول الكريم مرتين: مرة عنى بها جبريل عليه السلام، كما في سورة التكوير، وأيضاً هنا في سورة النجم. ومرة أخرى في سورة الحاقة، وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم: فنسب هذا القول -القرآن الكريم- تارةً إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان. فلا يمكن أن يفهم أحد أن إضافة القول إلى أحد الرسولين تعني أنه كلام من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، لأنه لو قلنا إن المتكلم به أو المصدر له هو جبريل أو هو الرسول عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة سوف يظن القارئ أن القرآن صدر عن هذين المصدرين، وبهذا تتناقض النسبتان. لكن القول الصحيح أن هذه الإضافة إضافة تبليغ، يعني: إنه لقول الله الذي بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بلغه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الناس. يقول: فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري تارة، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، ولفظ (الرسول) يدل على ذلك. يعني: أن كلمة (الرسول) في حد ذاتها تؤيد هذا المعنى، وهو أن الإضافة إضافة تبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يكون مرسلاً بالإبلاغ. يقول: فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، وهذا صريح في أنه كلام مَن أرسل جبريل، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وأن كلا منهما بلغه عن الله، فهو قوله مبلغاً، وقول الله الذي تكلم به حقاً، فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلماً بالقرآن، وهو كلامه حقاً في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تبارك وتعالى. يعني: أن الجهمية الذين يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو مخلوق، قد يفرحون ويجدون متنفساً في هاتين الآيتين وفي هاتين النسبتين؛ لكن نقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنه لو صح أن هذه إضافة إنشاء لتناقضت النسبتان، فلا ينبغي لأهل البدع أن يفرحوا بهذه النسبة إلى الرسول البشري أو إلى الرسول الملكي؛ لأن نفس الآية دليل عليهم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأرسى قاعدة عامة فقال: (أنا ألتزم -يعني: أنا أضمن- أنه لا يحتج مبتدع بآية أو حديث لتأييد باطله إلا وكان في نفس الآية أو الحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه)، فهنا نفس هذه الآية فيها دليل يبطل كلام هؤلاء الجهمية، وهو قوله عز وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ)، أي: رسول مبلغ وليس منشئاً الكلام من عنده. يقول ابن القيم: فهما من أظهر الأدلة على كون هذا القرآن كلام الرب تبارك وتعالى، وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ، فجبريل سمعه من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، فوصفه أنه كريم قوي مكين عند الرب تبارك وتعالى، وأنه مطاع ثم أمين فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن. أي: أن السند الذي وصل به القرآن إلينا هو عن جبريل، وجبريل تلقاه مباشرة عن الله سبحانه وتعالى، ثم بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين، فهذه الصفات الخمس فيها تزكية لسند القرآن، فالسند الأول: هو السند الملكي جبريل، وجبريل رسول كريم قوي مكين مطاع في السماوات أمين، فلا شك أن هذا كله تزكية لسند القرآن الكريم. يقول: ثم إنه سماع محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك عن هذا السند علواً وجلالة. فالله هو الذي زكى هذا السند العظيم، فلذلك كان من أشرف الأنساب أن يحمل المرء القرآن الكريم عن الشيوخ بالأسانيد، فإذا تلقيت القرآن فتلقه عن شيخ شفاهاً كما ينبغي أن يكون؛ لأن الإنسان لا يصدق عليه وصف قارئ إلا إذا تلقى القرآن مشافهةً من شيخ مسند، تلقاه عن مشايخه، حتى ينتهي هذا السند إلى التابعين، ثم إلى الصحابة، ثم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي للإنسان إذا أراد أن يحوز هذا الشرف العظيم أن ينضم إلى هذه السلسلة التي سوف تبدأ باسمه وتنتهي إلى الله سبحانه وتعالى، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فالذي ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تلقي القرآن شفاهاً، أما تلقي القرآن عن طريق الأشرطة أو عن طريق قراءة كتب التجويد فكل هذا هروب من الحقيقة، وليس هذا هو الصحيح في تلقي القرآن، بل القرآن يُتلقى مباشرة عن الشيخ المقرئ، إذ لابد أن يكون الشيخ المقرئ قد تلقاه أيضاً عن مشايخ، كما قال عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] يعني: اقرأه كما سمعته من جبريل عليه السلام.

أهمية تلقي القرآن الكريم بالمشافهة

أهمية تلقي القرآن الكريم بالمشافهة فالأمة تلقت القرآن بهذه الأسانيد المتواترة طوال هذه القرون التي مرت بطريق التلقي الشفاهي، والقرآن نفسه اسمه: القرآن، ومعناه: القراءة، أي: أنه يُقرأ. فجزءٌ أساسي في تعريف القرآن هو الكيفية التي يُتلى بها القرآن، فإنه يُتلى بطريقة معينة، وهي: مراعاة أحكام التجويد وصفات الحروف ومخارجها ونحو ذلك. فالعدول عن ذلك بأن يتلقى الإنسان القرآن عن طريق سماع الأشرطة ليرضي ضميره غير صحيح. وبعض الناس يقول: أنا لست مقصراً مع القرآن، بل إنني طوال النهار متابع لإذاعة القرآن الكريم، ومعي الأشرطة أسمعها، وهذا هروب، فإن التعبد بالقرآن ليس بسماعه فقط، فهل أنت الذي تتعبد أم جهاز التسجيل أو الراديو الذي يتعبد؟ لابد أن يكون لك ورد تقرؤه من القرآن، ولا بأس أن تسمع، لكن لابد أن يكون هناك تعبد بلسانك أنت وبقلبك أنت وبعقلك أنت، حتى لو كنت تتعتع في قراءة القرآن فاستمر وجاهد فلك في ذلك الأجر العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فحتى الشخص الذي لا يعرف التجويد ولا يحسن قراءة القرآن يقرأ؛ فإن له أجرين على ذلك. فالمطلوب أن الإنسان لابد أن يتلقى القرآن، هذا إذا كان يريد أن يكون طالب علم حقيقياً وليس طالب علم مزوراً، فإن أول خطوات طلب العلم أن تقرأ القرآن الكريم على شيخ مشافهةً، فإن لم يكن مشافهةً لم يسم تلقياً؛ لأن المشافهة أن تتلقى عن الشيخ -ليس فقط من صوته- لكن تتلقى بنظرك بعينيك وبلحظك أيضاً، ولا تأخذ منه اللفظ فقط لكن أيضاً تأخذ عن طريق اللحظ، فهناك من صفات الحروف ومن أحكام التجويد ما يدرك بالنظر، ولذلك منع العلماء أن يتلقى أعمى عن أعمى، لأن هناك أحكاماً لا تفهم إلا بالنظر، مثل: الروم والإشمام، ونحو هذه الأشياء، فلابد من النطق بالحرف مع النظر إلى كيفية نطقه، ومعرفة كيف يخرج الحرف مرققاً، وكيف يخرج مفخماً، وهذه لا تدرك إلا بالنظر إلى الشيخ. فينبغي أن يُجتهد في هذا الأمر. فإن كان الإنسان يعجز عن تلقي التجويد أو القرآن عن شيخ مشافهة فهناك حل بديل ينفع لمن عجز عن الحصول على شيخ، وذلك لو أمكن مشاهدة بعض الأشرطة البصرية السمعية، إن أمكن استعمالها في التعلم؛ لأنه توجد أشرطة فيها بعض الشيوخ يعلمون التجويد بأشرطة فيديو تقريباً، فهذه يمكن النظر إليها مؤقتاً إلى أن يتوفر الشيخ؛ ولكن نحن نعيش في مصر، ولسنا نعيش في بلاد واق الواق حيث لا يوجد فيها شيوخ ولا كذا، فعندنا شيوخ وبالذات الشيوخ الأزهريون، فإنهم يتقنون جداً أحكام التجويد، فينبغي أن يلوذ كل واحد منكم بشيخ يتلقى عنه القرآن شفاهاً، ولا يلجأ إلى هذه الوسائل البديلة؛ لأن هذا لا يطلق عليه قارئاً، إنما القارئ من يتلقى القرآن مشافهة.

ذكر صفات جبريل عليه السلام

ذكر صفات جبريل عليه السلام يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام:

الكرم

الكرم الصفة الأولى: كون الرسول الذي جاء به إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كريماًً: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، فهو ليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير. أي: أن الشيطان سيئ وقبيح في كل ما يتعلق به، ولذلك لما وصف الله سبحانه وتعالى شجرة الزقوم قال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65]، إشارة إلى أن الشيطان أقبح ما يكون. وهنا إشارة عابرة: بالنسبة لهذه الأمور الغيبية نجد أحياناً عدواناً يحصل من بعض المتسمَّين بأسماء المسلمين حيث تصدر منهم أشياء فظيعة، مثلاً: نجد تصميمات لأغلفة للكتب، كأن يكون كتاب يتكلم عن الشياطين، فتجدهم يحاولون أن يرسموا منظراً معيناً للشيطان، ويجتهدون في كونه قبيح الصورة ذا قرون ونحو ذلك، فنقول: ما أدراكم أن هذه هي صورة الشيطان الحقيقية؟! أليس هذا عدواناً على الغيب؟! ويأتي كتاب يتكلم عن الجنة، فيرسمون على غلافه من بساتين الدنيا، صحيح أنه بستان جميل أو حديقة جميلة؛ لكن هل يجوز أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اترك الغلاف خالياً خالصاً وضع أي لون آخر، غير أنك لا تحاول أن تقرب الجنة إلى أذهان الناس بأن تصور لهم صورة من زينات الدنيا، فماذا تكون هي في جنة الآخرة؟ فهذا عدوان على الغيب، وهذا تحقير للجنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأنها: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، بمعنى: أنك مهما حاولت أن تتخيل كيف هي الجنة وكيف هو جمالها ونعيمها، فإنك مخطئ في التخيل، فإذا كان هذا أمراً نحن نجزم به ونقطع به، وهو أن الجنة ما خطر شكلها وحسنها على قلب بشر، فكيف يتجرأ هؤلاء الناس على أن يرتكبوا هذا الكذب وهذا العدوان على حقيقة من حقائق الغيب؟! وهكذا نفس الشيء في النار، حيث يأتون بصور نار مشتعلة، وما أدراكم أن هذه هي النار؟! هذه النار غيب، ونحن نعرفها الآن بالوصف فقط، أما المعاينة فنسأل الله أن يعافينا جميعاً من رؤيتها ومن مسيسها وحرها، فهذا أيضاً عدوان على الغيب، ناهيك عما يحصل من بعض الناس الذين يزينون الجدران أو الستائر أو كذا ببعض الأشياء فيها صورة الملائكة على هيئة بنت صغيرة لها جناحان، وهذا أيضاً عدوان! وأنتم تعرفون جميعاً التشنيع الذي شنعه القرآن على هؤلاء الذين اعتدوا على الغيب حينما زعموا أن الملائكة بنات الله، فتجيء أنت أيها المسلم! فتقول بقول المشركين، وتأتي بصورة بنت صغيرة على أن هذه هي من الملائكة وهذه صورة الملائكة! فهذا عدوان ولا ينبغي أن يصدر من المسلمين، فإن صدر من غير المسلمين فليس بعد الكفر ذنب، أما مسلم ويضاهي بفعله أو بقوله أو بصوره أفعال المشركين فهذا ما لا ينبغي ولا يليق. فهذا جبريل عليه السلام رسول كريم، وليس كما يقول أعداء الله وأعداء جبريل: إن الذي جاء بالقرآن شيطان. يقول ابن القيم: فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير، فهو أبعد شيء عن الكرم، والرسول الذي ألقى القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم كريم جميل المنظر بهي الصورة كثير الخير، طيب مطيَّب معلم الطيبين، وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر، فهو مما أجراه ربه على يديه، وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي.

القوة

القوة الوصف الثاني: أنه ذو قوة، كما قال في سورة النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]. وفي هذا تنبيه على أمور: أحدها: أن جبريل عليه السلام وصفه الله سبحانه وتعالى الجبار القوي المتين بأنه ذو قوة، وبأنه شديد القوى، فإذا وصفه الله بذلك فأي قوة تكون قوة جبريل عليه السلام؟! ووصف جبريل بأنه شديد القوى أو ذو قوة يفيد أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو من هذا القرآن الكريم، أو أن ينالوا منه شيئاً أو أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقرأ. الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له وموادٌّ له وناصر، وإذا كان جبريل عليه السلام ذا قوة وشديد القوى فهو نصير، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فجبريل يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره ويؤيده ويعضده، ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه وناصره. الأمر الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك. الأمر الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أُمر به، فإذا كلف جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل فلأنه شديد القوى فهو قادر على أن ينفذ ما أُمر به لقوته، ولا يعجز عن ذلك، وهو مؤد له كما أمر به لأمانته، كما قال سبحانه: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21] وأحدنا إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، كما قالت ابنة الرجل الصالح: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فيمكن أن يوجد إنسان قوي على الوظيفة لكنه خائن غير أمين، ويمكن أن يوجد أمين تقي وورع؛ لكنه غير قوي، ولا يستطيع أن يؤدي هذه الوظيفة، وفقدان هاتين الصفتين هو الذي ألجأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشكوى في قوله: (أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة). فقوله: (جَلَد الفاجر)، يعني: الشخص قد يكون فاجراً لكن عنده جَلَد وقوة بحيث يستطيع أن يجاهد ويُحدث انتكاساً في صفوف الأعداء، فهو فاجر، ولكنه مع ذلك قوي في الحرب مثلاً، وقوله: (وعَجْز الثقة)، يعني: الشخص قد يكون ثقة لكنه عاجز، فإذا وجدت القوة مع الأمانة فهذا هو أكمل الأمور، كما قال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. يقول ابن القيم: وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً معظماً ذا مكانة عنده مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفة، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسَل إليه. أي: أن هذا الاصطفاء وهذا الاختيار لجبريل عليه السلام وهو القوي الأمين شديد القوى المكين المطاع في أهل السماوات، كل هذه الصفات تدل على عظمة شأن المرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا كان هذا رسول الله سواء كان الرسول البشري أو الرسول الملكي فالله أعظم، فيدل على عظمة شأن المرسِل، وشأن الرسول، وهو جبريل، وشأن الرسالة نفسها لأنها هي القرآن الكريم، والمرسَل إليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم (حيث انتدب له الكريم القوي المتين عنده المطاع في الملإ الأعلى الأمين حقاً؛ فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية. هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: ((ذِي قُوَّةٍ)).

الوجاهة عند الله تعالى

الوجاهة عند الله تعالى يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام: وقوله تعالى: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)، أي: له مكانة ووجاهة عند الله سبحانه وتعالى، وهو أقرب الملائكة إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} [التكوير:20]، إشارة إلى علو منزلة جبريل إذ كان قريباً من ذي العرش سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (مطاع ثم أمين)

معنى قوله تعالى: (مطاع ثم أمين) ثم قال تبارك وتعالى: ((مُطَاعٍ ثَمَّ))، (ثم) بمعنى: هناك، وفي هذا إشارة إلى أن جنود جبريل عليه السلام وأعوانه يطيعونه إذا ندبهم لنصر صاحبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إشارة أيضاً إلى أن هذا الذي تكذبونه وتعادونه سيصير مطاعاً في الأرض، كما أن جبريل مطاع في السماء، وأن كلاً من الرسولين مطاع في محله وقومه، وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا الملك المطاع، وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حفظه ما حُمِّله وأدائه له على وجهه. ثم نزه الله عز وجل رسوله البشري وزكاه عما يقول فيه أعداؤه فقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين. فهذا فيما يتعلق بما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كون قوله تعالى في سورة النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] نظير قوله تعالى: في سورة التكوير: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20].

إضافة في تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى)

إضافة في تفسير قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى) أما قول الله تبارك وتعالى هنا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:5 - 6] أي: جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة، ليس شيطاناً، فهذا تعديل لسند الوحي والنبوة وتزكية له، كما تقدم نظيره في سورة التكوير، فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلاله، وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، كما أن هذه منزلة جبريل في أهل السماوات، فكذلك فيها إشارة -كما قال ابن القيم - إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يصير رسولاً نبياً مطاعاً في أهل الأرض، ويعلو دينه على كل الأديان، وكما كانت هذه أوصاف الرسول الملكي كذلك كانت أوصاف الرسول البشري صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد القوة؛ حتى إن رجلاً مصارعاً أبى أن يسلم إلا أن يصارع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن غلبه فهو رسول الله حقاً، فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه وغلبه فأسلم، وكان الصحابة يقولون (كنا إذا حمي الوطيس واشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه)، أي: كانوا يختبئون خلفه، ويجعلونه هو الدرع والترس في مواجهة الأعداء وهم وراءه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، وكل هذه الصفات لو تكلمنا على كل صفة على حدة لطال الكلام جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع كل ما يمكن من أوصاف الكمال البشري، كما قال الشاعر: فغاية القول فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهمُ وقوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ))، أي: مكانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذا مرة، من أمررت الحبل يعني: إذا أحكمت فتله.

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلقه الله عليها

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته التي خلقه الله عليها وقوله: {فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:6 - 7]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قال الزمخشري: فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي؛ وكان ينزل في صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. يعني: كان جبريل عليه السلام إذا أتى في صورة بشرية يتمثل في صورة دحية الكلبي؛ لكن في هذه الآية: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:6 - 7] هذه المرة رآه على صورته الحقيقة وكانت هذه إحدى المرتين اللتين رأى فيهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل في صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، فما أدري كيف يتخيل لنا هذا هؤلاء الرسامون الذين يرسمون ويخترعون صوراً للشياطين، وتارةً صوراً للجنة، وصوراً لعذاب جهنم، وصوراً ليوم القيامة، وهذا كله غيب؟! فالعقل البشري لا يمكن أن يصل إلى إدراك كنهه مهما اجتهد في ذلك، فكيف يصورون لنا صورة جبريل عليه السلام وقد سد الأفق تماماً؟! فإن كل القبة السماوية امتلأت بصورة جبريل عليه السلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت جبريل وله ستمائة جناح) فهؤلاء العباقرة كيف يتخيلون لنا وكيف يركبون ستمائة جناح؟! ولكن نقول كما قال أحد العلماء لما أراد أن يعجِّز من وقع في عملية تشبيه الغيب بالمنظور وبالمجسم قال له: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح، فعجز، فقال له: أضع عنك سبعاً وتسعين وخمسمائة جناح، فالباقي ثلاثة من الستمائة، فتخيل لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة، كيف ستركب هذه الأجنحة؟! فعجز! فالشاهد: أن سياق الآية هنا يتحدث عن إحدى المرتين اللتين تجلى فيهما جبريل عليه السلام بصورته الحقيقية. وقوله تعالى: ((ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى))، قال بعض العلماء: الفاء فاء السببية، والمعنى الذي تفيده في هذه الحالة هو: أن تشكل جبريل عليه السلام يتسبب عن قوته وعن قدرته على الخوارق. وهناك قول آخر بأن (الفاء) عاطفة على (علَّمه) في قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] يعني: علَّمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية.

تفسير قوله تعالى: (وهو بالأفق الأعلى)

تفسير قوله تعالى: (وهو بالأفق الأعلى) قال تعالى: {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:7]. الأفق: الناحية، وجمعه: آفاق، والمراد: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، لا مصطلح أهل الهيئة؛ لأن أهل الهيئة -علماء الفلك- يقولون: الأفق هو الملتقى الذي يلتقي فيه مد البصر أقصى شيء يلتقي من الأرض بالسماء، أو من البحر مثلاً بالسماء، فهذا الجزء يُسمى الملتقى لا يُسمى الأفق؛ لكن المقصود بالأفق هنا: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، يعني: ما يعبر عنه أحياناً بالقبة السماوية. وقال ابن كثير: قوله تعالى: ((فَاسْتَوَى))، يعني: جبريل عليه السلام. قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس. وقيل: جبريل عليه السلام استوى في الأفق الأعلى، قاله عكرمة وغير واحد.

تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى)

تفسير قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9]. قوله: ((ثُمَّ دَنَا)) يعني: أنه دنا بعدما استوى في أفق السماء، أي: اقترب جبريل عليه السلام من محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير: هذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وإنما هو: ثم تدلى فدنا، ولكنه حَسُنَ تقديم قوله: ((دَنَا)) إذ كان الدنو يدل على التدلي والتدلي على الدنو، كما يقال: زارني فلان فأحسن، أو تقول: أحسن إلي فزارني. وقال الشهاب: التدلي: مجاز عن التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الدنو منه، لا بمعنى التنَزُّل من علو كما هو المشهور، أو هو: دنو خاص بحالة التعلق فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو. ونقول: لا داعي لافتراض المجاز؛ لأن الأصل حمل كل شيء في القرآن الكريم على الحقيقة. وقوله تعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)، أي: كأن مسافة ما بينهما مقدار قوسين أي: بقدرهما إذا مدا، أو أقرب، أو الضمير لجبريل بأن قربه قدر ذلك. يقول الشهاب: وقاب القوس وقيده: ما بين الوتر ومقبضه. والمراد به هنا المقدار، فإنه يقدر بالقوس كالذراع، فهذه إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا -يعني: إذا أجروا وعقدوا حلفاً فيما بينهم- أخرجوا قوسين، ويمسكون أحداهما بالأخرى، فيكون القاب ملاصقاً للآخر، حتى كأنهما ذوا قاب واحد، ثم ينزعانهما معاً ويرميان بهما سهماً واحداً، فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدها رضا الآخر، وسخطه سخطه، لا يمكن خلافه، كما قال مجاهد، وارتضاه عامة المفسرين. فهذا هو السر في هذا التعبير عن القرب بـ ((قَابَ قَوْسَيْنِ))، فالعرب كانوا يتحالفون في الجاهلية، والحلف في الجاهلية: أن تنصر هذه القبيلة القبيلة الأخرى سواء كانت ظالمة أم مظلومة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام)، يعني: مثل هذا الحلف الذي كان يقع في الجاهلية، فكانوا يأتون بقوسين، فيلصقون أحد القوسين بالآخر، فيشكلان نصف دائرة، ثم يضعون فيهما سهماً واحداً ويرمون هذا السهم معاً، يعني: أنها عملية رمزية في صورة حسية تؤكد التزامهم بهذا الحلف، ولذلك يقال دائماً لما يُعبر عن الوحدة: يرمون عن قوس واحدة، للدلالة على وحدة إرادتهم وتوحدهم ضد أعدائهم. وقوله تبارك وتعالى: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (أو) هنا لا تفيد الشك؛ لأنه لا يمكن أن يصدر عن الله سبحانه وتعالى شك، وإنما المقصود تحقيق قدر المسافة، وأن هذه المسافة لا تزيد على قوسين البتة. وهذا تماماً مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، وليس هذا على الشك؛ ولكن المعنى: أنه إذا رآهم الرائي يقول: هم مائة ألف أو يزيدون؛ لكنه لا يرى احتمالاً أنهم يكونون أقل من مائة ألف، فهذا فيه تأكيد أنهم مائة ألف، كذلك هذه الآية الكريمة: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، ليست على وجه الشك، بل فيه تحقيق لقدر المسافة، وأنها لا تزيد على قوسين البتة، فالمعنى: ((فَكَانَ)) يعني: بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي، أي: لتقارب ما بينهما يشك الرائي في ذلك، فهو تمثيل لشدة القرب وتحقيق استماعه لما أوحي إليه. وقيل: (أو) بمعنى: بل، أي: بل أدنى، على أنها للإضراب، وأدنى: أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف، يعني: (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) من قاب قوسين.

تفسير قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى)

تفسير قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10]. قوله: ((فأوحى))، أي: جبريل عليه السلام؛ لأننا نفسر {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} بجبريل، وإن كان هناك رأي آخر فهو رأي مرجوح غير معتمد، وهو: أن الذي دنا هو الله سبحانه وتعالى، كما ورد في بعض الأحاديث؛ وسيأتي ذكر هذا؛ لكن الظاهر هنا أن المقصود بقوله: ((فَأَوْحَى)) يعني: جبريل عليه السلام. وقوله: ((إِلَى عَبْدِهِ))، أي: إلى عبد الله عز وجل وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما أضمر اسمه تعالى لعدم اللبس وغاية ظهوره، والفاعل هنا هو الله سبحانه وتعالى؛ لكن أوحى بواسطة جبريل، فهذا بما أنه في غاية الوضوح ولأن اللبس مأمون، عبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه الشريفة بالضمير. أو فأوحى الله عز وجل بواسطة جبريل الذي تدلى إليه، ((مَا أَوْحَى)) أي: مما أمره به، وفيه تفخيم للمُوحى به، إذ الإبهام يفيد تعظيم وتفخيم هذا الذي أوحي إليه صلى الله عليه وسلم؛ كأنه أعظم من أن يحيط به بيان. وسياق الآيات إلى الآن هو في توثيق الوحي وتعديله وتزكيته، كما بين ذلك الإمام ابن القيم.

تفسير قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى)

تفسير قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. أي: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه من الملك الذي جاءه بالوحي من ربه، يعني: أنه رآه بعينه وتيقنه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق، يعني: أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وافق عينه، وكان على يقين بكل وسائل التيقن، فقد رأى جبريل بعينه، وأيضاً قلبُه كان على يقين أنه يرى جبريل عليه السلام، ولم يشك في أن ما رآه حق وصدق. وقرئ: (ما كذَّب) بالتشديد، يعني: أنه صدقه، ولم يشك أنه ملك رباني لا خيال شيطاني، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25]. وقد ذكر ابن كثير أن هذه الرؤية في أوائل البعثة، كما سبق الكلام عنه.

تفسير قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى)

تفسير قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى) قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12]. أي: أفتجادلونه وتلاحونه على ما يراه معاينة من رؤية الملك المنزل عليه. قال القاشاني: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى)، أي: أفتخاصمونه على شيء لا تفهمونه ولا يمكنكم معرفته وتصوره؟! فكيف يمكنكم إقامة الحجة عليه؟!. ويقول: وإنما المخاصمة حيث يمكن تصور الأمر المختلف فيه، ثم الاحتجاج عليه بالنفي والإثبات، فحيث لا تصور فلا مخاصمة حقيقةً. انتهى كلامه. ويقول القاسمي: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله بالوحي حالة خاصة بالأنبياء لا يمكن لغيرهم اكتناهها. فكل من ليس بنبي من البشر فواجبه الإيمان بهذا الأمر والإذعان له؛ لقيام الدليل عليه، يعني: هذا خبر أتانا فنحن نصدقه ونؤمن به؛ لكن هل لا نصدقه إلا إذا رأينا جبريل ورأينا الملك؟ A لا؛ لأن رؤية الملك ورؤية جبريل عليه السلام هي حالة خاصة بالأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، أما أنتم فلا تماروا في شيء، ولا سبيل لكم إلى رؤيته، وإنما المقصود منكم جميعاً أيها البشر! أن تؤمنوا بهذا الخبر؛ لأن هذا الخبر قصص القرآن، والقرآن ثبت بالمعجزات والأدلة أنه كلام الله لا ريب في ذلك. فيقول: وذلك لأن رؤية الملك وتنزله حالة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء عليهم السلام، لا يمكن لغيرهم اكتناهها، وإنما عليهم الإيمان بها والإذعان لها، لقيام الدليل عليها، وبالجملة: فالمراد أنه لا يصح المجادلة في المرئي؛ لأنه لا يجوز الجدال في المحسوسات، لا سيما إذا تعددت المشاهدة لها؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يره مرة واحدة وإنما رآه مرتين في صورته الحقيقية. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه، وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه. يعني: يمكن للإنسان أن يرى شيئاً على خلاف ما هو عليه في الحقيقة، لسبب أو لآخر، وهذا معروف، وفي بعض الأمراض النفسية يكون من ضمن الأعراض أن يرى شيئاً على خلاف حقيقته، فنفي الله سبحانه وتعالى هنا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتعارض قلبه مع عينه، وإنما توافَق القلب مع العين في إثبات رؤية الملك، فقلب الرسول عليه الصلاة والسلام صدق ما رأته عيناه. يقول: وليس كمن رأى شيئاً على خلاف ما هو به، فكذب فؤادُه بصرَه، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك. وفيها قراءتان: إحداهما بتخفيف: كَذَبَ والثانية بتشديدها يقال: كَذَبَتْه عينُه وكَذَبَه قلبُه وكَذَبَه جسدُه إذا أخلف ما ظنه وحدثه، قال الشاعر: كَذَبَتْك عينُك أن رأيت بواسط غلس الظلام من الرماد خيالاً أي: أرتك ما لا حقيقة له. فنفى هذا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن فؤاده لم يكذِّب ما رآه. و (ما) في قوله: ((مَا رَأَى)) إما أن تكون مصدرية؛ يعني: ما كذب الفؤاد رؤيته، وإما أن تكون موصولة، يعني: ما كذب الفؤاد الذي رآه بعينه، وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلب لرؤية البصر وتوافقهما، وتصديق كل منهما لصاحبه، وهذا ظاهر جداً في قراءة التشديد: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}، ثم أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم مكابرتهم وجحدهم له على ما رآه، كما ينكر على الجاهل مكابرته للعالم ومماراته على ما علمه. وقوله تعالى: ((أفتمارونه)) فيها قراءتان: ((أَفَتُمَارُونَهُ)) و ((أَفَتَمْرُونَهُ)) وهذه المماراة أصلها من الجحد والدفع، يقال: مريت الرجل حقه إذا جحدته، كما قال الشاعر: لإن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخاً ما كان يمريكا ومنه المماراة، وهي: المجادلة والمكابرة، ولهذا عُدِّي هذا الفعل بـ (على)، وهي على بابها وليست بمعنى: (عن) كما قاله المبرد؛ لأن المماراة هنا فيها معنى المجادلة والمكابرة. ومن قرأ: ((أَفَتَمْرُونَهُ)) فمعناها: أفتجحدونه؟.

تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى الكبرى)

تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى الكبرى) يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:13 - 18]. قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، أي: مرة أخرى من النزول، وتأكيد الخبر عن الرؤية التالية هذه بنفي الريبة والشك عنها أيضاً، وأنه لم يكن فيها التباس واشتباه، فهذا تأكيد للرؤيتين كلتيهما. وقوله: (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)، أي: موضع الانتهاء، فالمنتهى اسم مكان أو مصدر ميمي، وقد جاء في الصحيح: (أنها شجرة نبْق في السماء السابعة إليها ينتهي ما يُعرج به من أمر الله من الأرض، فيقبض منها، وما يهبط به من فوقها فيقبض منها)، ولعلها شبهت بالسدرة، كما قال القاضي، لأنهم يجتمعون في ظلها. يعني: أن شجر النبْق يجتمع الناس في ظله، وهذه الشجرة أيضاً يجتمع عندها الملائكة، فشبهت بها، وسميت سدرة لذلك، والله تعالى أعلم. لكن ورد في الحديث: (أن كل نبْقة فيها كقلة من قلال هجر)، فهي على هذا حقيقةٌ، وهو الأظهر. ولا شك أنها حقيقة؛ لأن الحديث صحيح، وكان الأولى بـ القاسمي رحمه الله أن ينزه تفسيره من ذكر حكايات بعض العلماء الذين يزعمون المجاز في مثل هذه الأشياء؛ فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وصف سدرة المنتهى بأن كل نبَقة فيها كقلة من قلال هجر، فهذا يرفع أي احتمال للمجاز كما يزعمون. (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)، أي: التي تأوي إليها أرواح المقربين. وقوله: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى)، أي: من جلال الله وعظمته، ومعناه: أنه رأى جبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى حينما كانت الأرواح والملائكة تغشاها، وتهبط عليها، وتحف من حولها. (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)، هذا تنزيه لبصره صلى الله عليه وسلم، أي أنه ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه. ((وَمَا طَغَى))، يعني: ما تجاوز مرئيه المقصود له، بل أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً لا شبهة فيه. وفيه وصف لأدبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يتجاوز ما أمر برؤيته. (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) في هذا إشارة إلى أنه رأى الكبرى من آيات الله، وهو جبريل عليه السلام، أي: رأى الملك الذي عاينه وأخبره برسالته، وفيه غاية التفخيم لمقامه، وأنه من الآيات الكبرى، ويحتمل أن تكون ((الكبرى)) صفة لآيات في قوله: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ) أي: الآيات التي هي الكبرى، وعلى هذا يكون المرئي محذوفاً. يعني: إذا قلنا إن (الكبرى) المقصود بها جبريل، فتكون هي المفعول به؛ لكن إذا قلنا: إن (الكبرى) صفة لـ (آيات)، ففي هذه الحالة يكون المفعول به محذوفاً، وحُذف لتفخيم الأمر وتعظيمه، وكأنه قال: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى أموراً عظاماً لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول.

كلام ابن القيم على أوائل سورة النجم

كلام ابن القيم على أوائل سورة النجم يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم أخبر سبحانه عن رؤيته لجبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى. فالمرة الأولى: كانت دون السماء: ((بِالأُفُقِ الأَعْلَى)). والثانية: كانت فوق السماء (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى). وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين: كما في الصحيحين عن زر بن حبيش رضي الله عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9]، فقال: أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح). وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] قال: (رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح)، وقال البخاري عنه: (أي: رأى رفرفاً أخضر يسد الأفق). قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): والحاصل أن ابن مسعود كان يذهب في ذلك إلى أن الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، كما ذهبت إلى ذلك عائشة. والتقدير على رأي ابن مسعود: ((فَأَوْحَى)) أي: جبريل، ((إِلَى عَبْدِهِ)) أي: إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرى أن الذي ((دَنَا فَتَدَلَّى)) هو جبريل، وأنه هو أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكلام أكثر المفسرين من السلف يدل على أن الذي أوحى هو الله؛ أوحى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إلى جبريل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) قال: رأى جبريل عليه السلام. وفي صحيحه أيضاً عن مسروق قال: (كنت متكئاً عند عائشة رضي الله عنها فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئاً فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين! أنظريني ولا تعذليني، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]، وقال: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض. ثم قالت: أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]؟ أوَلم تسمع أن الله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَاً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولَاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]؟ قالت: ومن زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله عز وجل يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]). وفي الصحيحين عن مسروق أيضاً قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله! لقد قف شعري مما قلتَ. وفيهما أيضاً قال: قلت لـ عائشة: فأين قول الله عز وجل: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9]؟ قالت: (إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال، وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق). وفي صحيح مسلم أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور، أنى أراه؟!). وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وهذا الحديث ساقه مسلم بعد حديث أبي ذر المتقدم، وهو كالتفسير له. فالحجاب هو النور الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الحجاب قابل لأن يكشف، كما سنبين. ولا ينافي هذا قوله في حديث الصحيح -حديث الرؤية يوم القيامة-: (فيكشف الحجاب فينظرون إليه)، فإن النور الذي هو حجاب الرب تبارك وتعالى يراد به الحجاب الأدنى إليه، وهو لو كشف لم يقم له شيء، كما قال ابن عباس في قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] قال: (ذاك نوره الذي هو نوره -يعني: الذي هو نور الله- إذا تجلى به لم يقم له شيء). وهذا الذي ذكره ابن عباس يقتضي أن قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخره؛ لكن هل يلزم من نفي الإدراك نفي الرؤية؟ A لا يلزم من ذلك أن الله لا يُرى، بل يُرى في الآخرة بالأبصار من غير إدراك. يعني: لا يُحاط بالله أبداً، وإنما يُرى بالأبصار، كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة؛ وأبصارنا لا تقوم بإدراك الشمس على ما هي عليه؛ فهل نستطيع نحن أن نحدق في الشمس وننظر إلى قرص الشمس في وقت الضحى مثلاً ونحملق فيه؟ A لا، بل لو حصل ذلك قد يعمى الإنسان، فإذا كانت الشمس وهي مخلوقة لا نستطيع أن ندركها على ما هي عليه بأعيننا مع القرب الذي بين المخلوق والمخلوق، فالتفاوت الذي بين الخلائق وذات الرب جل جلاله أعظم وأعظم، ولهذا لما حصل للجبل أدنى شيء من تجلي الرب ساخ الجبل واندك بسبحات ذلك القدر من التجلي، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَاً} [الأعراف:143]. وفي الحديث الصحيح المرفوع: (جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، فهذا يدل على أن رداء الكبرياء على وجهه تبارك وتعالى هو المانع من رؤية الذات، ولا يمنع من أصل الرؤية، فإن الكبرياء والعظمة أمر لازم لذاته تعالى، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينهم وبينه فهو الحجاب المخلوق، وليس هو نور الله عز وجل؛ لأن نور الله لا يزول أبداً، فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينه وبينهم فهو الحجاب المخلوق، وأما أنوار الذات التي يحجب عن إدراكها، فذاك صفة للذات لا تفارق ذات الرب جل جلاله، ولو كشف ذلك الحجاب الذي هو من نور الله لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمصدق الموقن، وأما المعطل الجهمي فكل هذا عنده باطل ومحال. والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل عليه السلام، فقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] أي: جبريل {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] * ((فَأَوْحَى)) أي: فأوحى الله، ((إِلَى عَبْدِهِ)) يعني: إلى عبده محمد عليه السلام، والمفهوم: أن الوحي إنما يكون بواسطة جبريل، أو ((فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ)) يعني: أوحى بواسطة جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ((مَا أَوْحَى)). وأما قول ابن عباس: (رأى محمد ربه بفؤاده مرتين) فالظاهر أن مستنده هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، وقد تبين أن المرئي فيها جبريل، فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي الإجماع على ما قالته عائشة من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، فقال في نقضه على بشر المريسي الكلام على حديث ثوبان ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي البارحة في أحسن صورة)، فحكى تأويل المريسي الباطل، ثم قال: ويلك! إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبتَ إليه، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر: (إنه لم ير ربه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)، وقالت عائشة رضي الله عنها: (من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية)، وأجمع المسلمون على ذلك، مع قول الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] يعنون: أبصار أهل الدنيا، وإنما هذه الرؤية كانت في المنام. يعني: أن حديث ثوبان ومعاذ كانت رؤيا منام

أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه

أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه ثم قال الله تبارك وتعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]: قال ابن عباس: (ما زاغ البصر يميناً ولا شمالاً، ولا جاوز ما أُمر به)، وعلى هذا المفسرون، فنفى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين يدي الملوك والعظماء من التفاته يميناً وشمالاً، ومجاوزة بصره لما بين يديه، وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة، إذ لم يلتفت جانباً، ولم يمد بصره إلى غير ما رأى من الآيات وما هناك من العجائب، بل قام مقام العقل الذي أوجب أدبُه إطراقَه وإقبالَه على ما رأى دون التفاته إلى غيره، ودون تطلعه إلى ما لم يره، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته، وهذا غاية الكمال. وزيغ البصر: التفاته جانباً. وطغيانه: مده أمامه إلى حيث ينتهي. فنزه في هذه السورة علمه عن الضلال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، ونزه عمله عن الغي، {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] ونطقه عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، ونزه فؤاده عن تكذيب بصره: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، ونزه بصره عن الزيغ والطغيان: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وهكذا يكون المدح: تلك المكارم لا قعبان من لبن شبن بماء فعادت بعد أبوالا

أنواع الاستطراد في القرآن الكريم

أنواع الاستطراد في القرآن الكريم ولما ذكر رؤيته لجبريل عند سدرة المنتهى استطرد، وذكر أن جنة المأوى عندها، وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى، وهذا من أحسن الاستطراد، وهو أسلوب لطيف جداً في القرآن الكريم, والاستطراد في القرآن الكريم يأتي على نوعين: أحدهما: أن يستطرد من الشيء إلى لازمه، مثل هذه الآية. فالسياق أساساً في الكلام على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل، قال تبارك وتعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] إلى أن قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، وهذا كله في إثبات رؤية جبريل، ثم قال: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:14]، هذا هو الموضع الذي رآه فيه، ثم استطرد القرآن الكريم إلى شيء من التفصيل عن سدرة المنتهى، وهذا من الاستطراد الذي يكون أحسن ما يكون وأفخم ما يكون وأبدع ما يكون، فحينما ذكر سدرة المنتهى استطرد في وصفها وأحوالها: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:15 - 16]. ومثل ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، ثم استطرد من جوابهم إلى قوله تبارك وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتَاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:10 - 13] إلى آخر الآيات، فهذا ليس من جوابهم؛ ولكنه تقرير له وإقامة للحجة عليهم. فهل الكفار لما يوجه إليهم Q (( مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) هل هم يقولون: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً} [الزخرف:9 - 10]؟ A لا، بل انتهى جوابهم عند: ((خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ))، فاستطرد القرآن الكريم من هذا إلى ما يلزم منه، وهو ذكر صفات الله تبارك وتعالى وأفعاله. ومن ذلك أيضاً -من هذا النوع من الاستطراد-: قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:49 - 52] فهذا جواب موسى، ثم استطرد سبحانه وتعالى من جواب موسى فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدَاً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلَاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجَاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:53 - 55]، ثم عاد إلى الكلام الذي استطرد منه: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56] إلخ. النوع الثاني: أن يحصل استطراد من الشخص إلى النوع، كقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:12 - 13] فـ (الهاء) في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} تعود إلى الإنسان. فهنا استطرد، فـ (الهاء) لا تعود على المذكور من في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ} [المؤمنون:12]؛ لأن الإنسان هنا هو آدم عليه السلام. فقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ)، الذي خلق من طين هو آدم فقط، وقوله: ((ثُمَّ جَعَلْنَاهُ)) المقصود هنا من بعد آدم عليه السلام، وهذا استطراد من الشخص الذي هو آدم إلى النوع الإنساني بعد آدم وهو سائر البشر. ومن هذا النوع من الاستطراد أيضاً: قول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:189 - 191]، فسياق آخر الآيات في المشركين، وليس في آدم وحواء، فآدم نبي، وحواء كانت مسلمة، فإذا أحسنا فهم القرآن لم نقع في الاشتباه الذي يقع من بعض الناس، حتى إن بعض المفسرين زعموا أن المقصود بقوله تبارك وتعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كانت حواء -فيما يزعمون ولم يصح- كلما رزقت بولد لا يعيش، فأتاها الشيطان وقال لها: لو أردته أن يعيش فسميه عبد الحارث، فلما رزقت بولد سمته عبد الحارث، والحارث شيطان، فلذلك قالوا: إن هذا هو المقصود بقوله تعالى: ((جَعَلاَ)) أي: جعلا -أي: آدم وحواء - (لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، وهذا السياق لا يمكن أن يكون في آدم وهو نبي معصوم، ولا في حواء وهي أول مسلمة على وجه الأرض، وإنما الصحيح أن هذا نوع من الاستطراد في القرآن الكريم، وهو استطراد من الشخص إلى النوع، وذلك في قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} [المؤمنون:12 - 13] وفي الآية الأخرى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [السجدة:8] لكن هنا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} فـ (الهاء) لا تعود على آدم، إنما هذا استطراد في نوع آدم، وهم بنوه. أما هذه الآية الكريمة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهو آدم (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) لأن حواء خلقت من آدم (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلَاً خَفِيفَاً فَمَرَّتْ بِهِ)؛ لأن الحمل في البداية يكون خفيفاً؛ ولذلك تستطيع أن تتنقل وتروح وتجيء بلا عبء ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)) معناه: فرغت من الوضع (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحَاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحَاً) هنا السياق بدأ ينتقل استطراداً من الشخص إلى النوع، وأما الكلام عن آدم وحواء فقد انتهى، وصار الكلام هنا عن المشركين من ذريتهما، ولا بد أن تفهم الآية على هذا النحو. وعلى هذا فقوله: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً)) يعني: لما آتى الله آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، هذا هو معنى الآية، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء لأنهما أصل لذريتهما، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف:11]، يعني: بتصويرنا لأبيكم آدم؛ لأنه أصلكم، بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11] فخاطبنا نحن وإن كان المقصود آدم لأنه أصل الذرية، فكذلك هنا في قوله: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يعني: جعل كثير من ذرية آدم وحواء بعد ذلك شركاء فيما آتاهما، فهنا استطرد من ذكر الأبوين إلى ذكر المشركين من أولادهما، والدليل: قوله تعالى -مباشرة بعد هذه الآية-: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) * (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، فهذا نص صريح بأن المراد المشركون من بني آدم. والله أعلم.

النجم [19 - 41]

تفسير سورة النجم [19 - 41]

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]. سبق تفسير قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:13 - 18]. ثم قال تبارك وتعالى منكراً على المشركين عبادتهم الأوثان واتخاذهم لها البيوت مضاهاةً للكعبة التي بناها خليل الرحمن لعبادته تعالى وحده لا شريك له: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]. قال ابن كثير: اللات صخرة بيضاء منقوشة، وعليها بيت في الطائف له أستار وسدنة -يعني خادماً- وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها، يفتخرون بها -أي: باللات- على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش. قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تبارك وتعالى فقالوا: اللات، يعنون مؤنثة من لفظه تعالى، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. أي: زعم المشركون أن اللات -والعياذ بالله- مؤنث لفظة الجلالة (الله)، فهذا من افترائهم الذي نسبوه إلى الله سبحانه وتعالى، كما قالوا: عمرو وعمرة، فكذلك قالوا: الله، فزعموا أن اسم اللات مؤنث لفظ الجلالة. وقال الزمخشري: هي فعلة من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون بالعبادة أو يلتوون عليها، يعني: يطوفون بها. وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرءوا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى} [النجم:20]-بتشديد التاء- وفسروه بأنه كان رجلاً يلتُّ للحجيج في الجاهلية السويق، يعني: يعد للحجاج هذا الطعام ويقدمه لهم، والسويق طعام يتخذ من مدقوق الحنطة والشعير، سمي سويقاً لانسياقه في الحلق، ويقال: لتَّ السويق، يعني: خلطه بسمن وغيره، ويقال: لتَّ العجين، يعني: بلَّه بشيء من الماء، ومن كلام العرب: فلان يلُتُّ ويعجن، يعني: إذا كان ثرثاراً يبدئ ويعيد فيما يقول. فإذاً: من قرأ (اللَّاتَّ) بتشديد التاء فسره بأنه كان رجلاً يلت للحجيج في الجاهلية السويق، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه. وَالْعُزَّى: هي شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، وهي بين مكة والطائف. قال ابن جرير: اشتقوا اسمها من اسمه تعالى: العزيز. وقال الزمخشري: أصلها تأنيث الأعز. وقوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} هي: صخرة كانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة، روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه. وقال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: اللات والعزة ومناة الثالثة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص الله عليها في كتابه العزيز؛ وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أكثر من غيرها. وقال ابن إسحاق في السيرة: وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجَّاب، ويُهدى لها كما يُهدى للكعبة، وتطوف بها -أي: العرب- كطوافها بالكعبة، وتنحر عندها، وهي تعرف فضل الكعبة عليها؛ لأنها عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده، فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة، وكانت سدنتها وحجَّابها من بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم، وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً وأمره بهدم العزى فهدمها رضي الله تعالى عنه، وجعل يقول: يا عزى كفرانكِ لا سبحانكِ إني رأيت الله قد أهانكِ وروى النسائي عن أبي الطفيل قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سَمُرات -شجر السَّمُر المعروف- فقطع السَّمُرات، وهدم البيت الذي كان مبنياً عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئاً، فرجع خالد فلما أبصرته السندة -وهم حجبتها- أمعنوا في الحيل، وهم يقولون: يا عزى! -أي: يستغيثون بها كي تنقذ نفسها من أن يحطمها خالد أو يقتلها- فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فغمسها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى). فإن صح هذا فإنه يبين أن من الشياطين من يكون في هذه التماثيل وهذه المعبودات من دون الله سبحانه وتعالى، وقد يتكلم بكلام أو يفعل أشياء ليزيد فتنة الذين يعبدون هذه الأصنام، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم. ولذلك كان من الشعر الذي قيل في هذا الموقف: قول بعض السدنة لها: أعزى إن لم تقتلي المرء خالداً فموتي بإثم عاجل أو تنصري فأقبل خالد وجعل يهدمها وهو يقول: يا عزى كفرانكِ لا سبحانكِ إني رأيت الله قد أهانكِ قال ابن إسحاق: وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجَّابها بني معتب، وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها، وجعلا مكانها مسجداً بالطائف. وقال ابن إسحاق: وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها، ويقال: علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.

تفسير قوله تعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى)

تفسير قوله تعالى: (ألكم الذكر وله الأنثى) قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:21]. قال الزمخشري: كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى مع وأدهم البنات أي أن قول الله سبحانه وتعالى لهم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} يعني: أنهم كانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله، وأن هذه الأصنام بنات الله، فلذلك كانوا أحياناً يئدون البنات لشدة بغض البنات، ويقولون: نحن نلحقهن ببنات الله، كي ينتقلن إلى جوار الملائكة؛ لأن هؤلاء بنات والملائكة بنات الله! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تبارك وتعالى مع وأدهم البنات، فقيل لهم: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى)، يعني: أنتم تبغضون البنات -وحالهم في ذلك معروف- ومع ذلك رضيتم أن تنسبوا إلى الله سبحانه وتعالى أسوأ الحظين في نظركم! وإلا فإن بغض البنات جاهلية بغيضة، وليس من الإسلام على الإطلاق بغض البنات، وإنما هو من خصال أهل الجاهلية. ويجوز أن يُراد أن اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أنداداً لله وتسمونهن آلهة؟!. وفي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] (أرأيت) اسم فعل أمر بمعنى: أخبرني، واختلف العلماء في فعل الرؤية في قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ) هل هو الرؤية البصرية أم أنها الرؤية العلمية؟ وكأن أصل التركيب: ألكم الذكر وله هن، أي: تلك الأصنام؟ وإنما أوثر هذا الاسم في قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} لوقوعه رأس فاصلة، أي: لأنه في فاصلة الآية.

تفسير قوله تعالى: (تلك إذا قسمة ضيزى)

تفسير قوله تعالى: (تلك إذاً قسمة ضيزى) قال الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ إِذَاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]. (تلك) إشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:19 - 21]، فهذا يفهم منه أن هناك قسمة هم قسموها، حيث جعلوا لهم الذكر وله الأنثى، فهذه القسمة فهمت من الجملة الاسمية. (قِسْمَةٌ ضِيزَى)، أي: قسمة جائرة غير مستوية، ناقصة غير تامة؛ لأنكم جعلتم لربكم من الولد والند ما تكرهون لأنفسكم وآثرتم أنفسكم بما ترضونه. وقال ابن جرير: والعرب تقول: ضِزْتُه حقَّه، بكسر الضاد، وضُزْتُه بضمها، فأنا أضيزه وأضوزه، وذلك إذا نقصته حقه ومنعته.

تفسير قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)

تفسير قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) قال تبارك وتعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]. (إِنْ هِيَ إلا أسماء) يعني: هذه الأصنام المذكورة باعتبار الألوهية التي يدعونها لها ليس لها من الألوهية إلا الأسماء المزعومة فقط؛ لكن ليس لها أي نصيب من الألوهية، فهي اسم بلا مسمى. قال الشهاب: والمراد من قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا}، يعني: لا نصيب لها أصلاً ولا وجه لتسميتها بذلك، ولو كانت الألوهية متحققة بمجرد التسمية كانت آلهة، فهو من نفي الشيء بإثباته. أي: وإن كان ظاهر الآية إثبات أنها أسماء، لكن المقصود نفي حقيقتها، يعني: لولا أنكم أسميتموها آلهة -مع أنها لا حظ لها من الألوهية على الإطلاق، لما كانت شيئاً على الإطلاق، وإنما هي مجرد أسماء فقط أنتم زعمتومها، فهذا ادعاء محض لا طائل تحته. (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)، يعني: سميتموها أنتم وآباؤكم بمقتضى أهوائكم وتقليد التابع للمتبوع وبدون وحي إلهي. (مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ)، أي: من برهان يتعلق به. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، يعني: إلا توهماً أن ما هم عليه حق. (وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)، أي: ما تشتهيه أنفسهم. قال ابن جرير: لأنهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم من الله تبارك وتعالى، ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم. ولذلك قلنا مراراً: دائماً يأتي الهوى والوحي متفاصلين، فالهوى ضد الوحي، والإنسان إما أن يتبع الهوى وإما أن يتبع الوحي الإلهي، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن الكريم أشرنا إليها مراراً، منها الآية التي في صدر السورة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:50] يعني: للوحي {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، وقوله سبحانه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] أي: بالوحي {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، ومنها أيضاً قول الله تبارك وتعالى في هذه الآية: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} وهذا هو الهوى {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وهو: الوحي، فالهوى يأتي في مقابلة الوحي، وعبر عن الوحي هنا بالمعنى. فهم لم يأخذوا ذلك عن وحي جاءهم عن الله ولا عن رسول من الله أخبرهم به، وإنما هو اختلاق من قبل أنفسهم، أو أخذوه عن آبائهم الذين كانوا من الكفر بالله على مثل ما هم عليه منه. (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)، أي: الدليل الواضح والبيان بالوحي أن عبادتها لا تنبغي، وأنه لا تصلح العبادة إلا لله تعالى وحده. وقوله: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)، هذا تأكيد لبطلان اتباع الظن وهوى النفس وزيادة تقبيح لحالهم، فإن اتباعهما من أي شخص كان قبيح، وممن هداه الله تعالى بإرسال الرسول وإنزال الكتب أقبح. يعني: هم بنزول الوحي وبدون إعراض عن الوحي مذمومون مقبحون بالافتراء على الله سبحانه وتعالى واتخاذ ألأصنام أنداداً من دون الله عز وجل، فما بالك وقد قامت الحجة عليهم؟! (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)، يعني: مع أنه قد جاءهم من ربهم الهدى، ومع أن الوحي نزل والرسول أرسل وبعث ودعاهم إلى توحيد الله أعرضوا، فلا شك أن هذا يكون أقبح. قال السيوطي في (الإكيل): استُدل بقوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ) إلخ، على أن اللغات توقيفية، ووجهه: أنه تعالى ذمهم على تسمية بعض الأشياء بما سموها به، ولولا أن تسمية غيرها من الله توقيف لما صح هذا الذم؛ لكون الكل اصطلاحاً منهم. واستُدل بقوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) إلخ، على إبطال التقليد في العقائد واستدل به الظاهرية على إبطاله مطلقاً -يعني: سواء في العقائد أو في الأمور العملية الفقهية العبادية - واستدلوا به أيضاً على إبطال القياس، ولهم في ذلك وجه معروف. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر رضي الله عنه قال: (احذروا هذا الرأي على الدين، فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً؛ لأن الله كان يريه، وإنما هو منا تكلف وظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً).

تفسير قوله تعالى: (أم للإنسان ما تمنى)

تفسير قوله تعالى: (أم للإنسان ما تمنى) يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24]. يعني: ليس له ما يشتهيه من الأمور التي منها طمعه الفارغ في شفاعة الأنداد وتعنته في دفاع اليقين بالظن وتركه نفسه وهواها بلا شرع يقيده ولا علم يزعه، فإن ذلك من المحالات في نظر العقل السليم. فهذه الآية كقوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:123]، وأماني أهل الكتاب مثلاً كقول اليهود لعنهم الله: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامَاً مَعْدُودَةً) [البقرة:80]، فيغرون أنفسهم ويخدعون أنفسهم بهذه الأماني، أو قول النصارى مثلاً: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، وقول اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، أو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فكذلك ليس للإنسان ما يشتهيه من الأمور، فالأمور لا تأتي بمجرد التشهِّي أو التمنِّي. فهؤلاء المشركون يخدعون أنفسهم بالأماني الكاذبة، فمن هذه الأماني أنهم مع شركهم بالله واتخاذهم الأنداد يرجون أن تنفعهم هذه العبادة للأنداد، وأنها سوف تشفع لهم عند الله تبارك وتعالى، فينساقون وراء أهوائهم وضلالهم، ويرفضون ويتأذون أن يُقادوا بقيود الشرع الشريف والوحي الإلهي، فهذا من المحالات في نظر العقل السليم، فالإنسان ينساق وراء الهوى، ثم يمني نفسه بأنه ناجٍ، وأنه كذا، كما يفعل كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام ممن يكثرون من قولهم: يا بَخْتِنا بالنبي! وهم في أحوالهم وأوضاعهم وتضييع الصلاة وتلبسهم بالشركيات على حال لا يخفى، أو من يعبدون الموتى والأضرحة ويذبحون لها وينذرون ويطوفون بها، ويمنون أنفسهم أن هذا نافعهم عند الله، ويقولون نفس حجة المشركين: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، يقولون لك: نحن لا نعبدهم، وإنما هؤلاء فقط نفوسهم طاهرة، وهم ناس صالحون، فهم وسائط عند الله سبحانه وتعالى! وهذه هي نفس حجة المشركين فيما مضى، فلا شك أن الحجة أقوم على من أتاه الوحي، كما قال تعالى هنا: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}، ولذلك قال بعض العلماء: إن هذه الجملة حالية من قوله (يَتَّبِعُونَ)، يعني: يتبعون والحال أنه قد ((جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)) ومع ذلك يعرضون عن الهدى ويتبعون أهواءهم.

تفسير قوله تعالى: (فلله الآخرة والأولى)

تفسير قوله تعالى: (فلله الآخرة والأولى) قال تعالى: {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} [النجم:25]. أي: فمصير الأمر في الآخرة والأولى لله تبارك وتعالى لا للإنسان. فانظر إلى الربط بين هذه الآية وما بعدها، فقوله: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24] أي: هل للإنسان الذي يظل يتمنى الأماني ويستمتع بأن يفترض ويتخيل ويمني نفسه بالأماني، هل له ما تمنى؟ A لا، لا ينال الإنسان الأمور بالأماني، بل لابد من العمل، فلذلك قال الله تبارك وتعالى: {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى}، يعني: مصير الأمر في الدنيا وفي الآخرة بيد الله تبارك وتعالى، وليس للإنسان من الأمر شيء، ولن تسير الأمور حسب ما تسول له نفسه الأمارة بالسوء؛ لأن الله سبحانه وتعالى لن يتبع أهواهم، ولن يتبع أمانيهم، كما قال عز وجل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، ولذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب قطعاً للمعاذير، وإقامة للحجة على هؤلاء الناس، وقد جاءتهم الحجة، ولذا قال: ((وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)). ونبه الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعقل على سبل السعادة التي لا تخفى على بصير، فمن أراد الحق مخلصاً يصل إليه، ويوفقه الله إلى هذا الحق، ولن يجد شيئاً يكبله ويحول دونه ودون الانقياد لهذا الحق.

تفسير قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا يغني من الحق شيئا)

تفسير قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا يغني من الحق شيئاً) قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:26 - 28]. ثم يقول تبارك وتعالى توبيخاً لعبدة الأوثان، وإقناطاً لهم عما علقوا به أطماعهم من شفاعة أوثانهم: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ)) وكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إذا كانت الملائكة المكرمون الأطهار المعصومون لا يمكن أن يشفعوا عند الله إلا بإذن من الله، فكيف ستشفع لكم هذه الأحجار وهذه الأصنام عند الله تبارك وتعالى؟! فالملائكة كائنات حية عاقلة مبرأة من السوء ومن الإثم ومنقادة لأمر الله سبحانه وتعالى. ثم أشار تعالى إلى طغيان آخر للمشركين، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} يعني: تسمية الإناث، وذلك أنهم كانوا يقولون على الملائكة: هم بنات الله، فالأنثى هنا بمعنى: الإناث؛ لأنه اسم جنس يتناول الكثير والقليل. وقيل في المعنى: تسمية الطائفة الأنثى، فلهذا أفردت. وقيل: منصوب بنزع الخافض على التشبيه، فلا تمس الحاجة إلى الجمعية. وقيل: أفرد لرعاية الفاصلة. وقيل: الملائكة بمعنى: استغراق المفرد، على أساس أن (ال) هنا للاستغراق في (الملائكة)، يعني: أنهم يسمون كل واحد منهم بنتاً، وهي تسمية الأنثى، على وزن: كسانا الأمير حلة، يعني: كسا كل واحد منا حلة، وهنا أفردت لعدم اللبس. ونلاحظ أن الله تبارك وتعالى علق هذا الأمر على عدم الإيمان بالآخرة، وفي هذا إشعار بالشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة، بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأساً، يعني: لا يطاوع إنساناً قلبه أن يتفوه بهذا الزعم -وهو أن الملائكة بنات الله- إلا من كان كافراً بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمن أصلاً بالآخرة، ولذلك علقها الله تبارك وتعالى على عدم الإيمان بالآخرة، وبين أنه لا يطاوع امرءاً قلبه على أن يتفوه بهذا الكلام إلا كافر موغر في الكفر والإلحاد مكذب باليوم الآخر. (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ)، أي: ليس عندهم أثارة من علم على صحة ما يزعمونه وينسبونه إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك نفى عنهم العلم، وأثبت لهم اتباع الظن، فقال: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئَاً). (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً) يعني: لا يقوم مقام الحق، ولا يصلح بديلاً عن الحق، وذلك لأن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما تُدرك إدراكاً معتداً به إذا كان عن يقين، لا عن ظن وتوهم.

تفسير قوله تعالى: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا)

تفسير قوله تعالى: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا) يقول تبارك وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29]. يعني: من هؤلاء الكفرة الذين يرون غاية سعادتهم التنعم بلذائذها لقَصْر نظرهم على المحسوسات؛ لأن هؤلاء الكفار لا يريدون الآخرة، وهم يعرضون عن ذكر الله، وما يريدون إلا الحياة الدنيا، ولا شك أن هذا واقع نلمسه في حياة الكفار أجمعين، إذ ليس لهم همٌّ إلا شهواتهم، وما يعمرون به هذه الحياة الدنيا. وكان في هذه الآية وحدها أعظم ما يقنع هؤلاء الذين ينبهرون بالكفار والملاحدة من الشرق والغرب، ويغترون بما هم عليه، مع أن الله سبحانه وتعالى قال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196]، فكيف ننقاد ونتْبع هؤلاء حذو القذة بالقذة ونحن أهل التوحيد، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعناهم؟! فحصل من الناس الآن افتتان شديد جداً بما عليه الكفار، في حين أن الكفار ليس عندهم إلا الدنيا بغدرها وبمفاسدها ونحو ذلك، فهذه الآية تكفي في نهي المسلمين عن الانسياق وراء الكفار ووراء مذاهبهم ومناهجهم، وكأنهم لم يسمعوا بقرآن ولا بسنة! وكأنهم لا يعتزون بدينهم وهويتهم الإسلامية! (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا)، في هذا أمر لنا بالإعراض عنهم، ولكن كثيراً من الناس الآن يلهثون وراءهم لهثاً، ويركضون وراءهم ركضاً، تقليداً لهم واتباعاً لشأنهم وبحثاً عن كل ما يرضيهم ويستجلب استحسانهم. ويفهم من ذلك أن كل من تولى عن ذكر الله عز وجل لا يُتخذ صاحباً، ولا يُتخذ أسوة ولا قدوة، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَاً} [الكهف:28]، وقال الله عز وجل أيضاً لموسى عليه السلام: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16]، أي: تهلك مع هذا الهالك، فهؤلاء لا يصلحون أسوة، ولا يصلحون قدوة، ولكن مَن تبعهم قادوه إلى النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم؛ من أجابهم إليها قذفوه فيها). وفي هذه الآية غاية المذمة لمن جمع بين هذين الأمرين: لم يعش إلا للدنيا، وأعرض تماماً عن الآخرة، وأعرض أيضاً عن ذكر الله تبارك وتعالى. وقد فهِم الزمخشري فهماً باطلاً من هذه الآية الكريمة؛ فزعم أن معنى: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يعني: أعرض عن دعوة من رأيته معرضاً عن ذكر الله، ولم يرد إلا الحياة الدنيا. والصحيح: أن المقصود من الإعراض هنا هجرهم هجراً جميلاً، وترْك إيذائهم، ولا تعني الآية بحال من الأحوال أمره بأن يكف عن دعوة هؤلاء المعرضين، لأن الصدع بالحق لا تسامح فيه على الإطلاق، لا سيما والدعوة للمعرضين، وهي تستلزم أن يحاجوا به بمنتهى الطاقة، فالله سبحانه وتعالى الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هو الذي قال: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادَاً كَبِيرَاً} [الفرقان:52]، وهؤلاء نفس الكفار المعرضين، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد أعظم الاجتهاد في تبليغهم الدعوة ومحاجتهم ومناظرتهم وإقامة الحجة عليهم، ونحو ذلك. فمعنى الآية: أعرض عن أذيتهم، واصفح عنهم، ودع أذاهم في مقابلة ما يجهلون عليك، مع الاستمرار في الدعوة، كما بين ذلك في مواضع من التنزيل، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

تفسير قوله تعالى: (ذلك مبلغهم من العلم)

تفسير قوله تعالى: (ذلك مبلغهم من العلم) ((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) يعني: أمر الدنيا منتهى علمهم، فلا علم لهم فوقه، وما يريدون إلا الدنيا، وما يعلمون إلا الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبغض كل جعظريٍّ، جواظٍ، صخابٍ في الأسواق، جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار، عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة). فهو يعلم أسماء لاعبي الكرة، وأسماء فرق الكرة في كل مكان في العالم، ومن هو الكابتن، وكم أحرز هدفاً! وإلى آخر هذا الكلام، حتى اللون الذي يحبه، والأكل الذي يحبه، والثياب التي يحبها، ويقلدونهم! ويعرف أسماء الممثلين والمطربين والفنانين، وكذا وكذا! ولا يعرف الأسئلة الثلاثة التي سوف يُسأل عنها أول ما يوضع في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ وماذا تقول في النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فمع اجتهادهم وتسخيرهم العقول في كل ما يخدم الدنيا، لو صرفوا جزءاً يسيراً من عبادتهم وتبتلهم للدنيا لوجه الله سبحانه وتعالى لكانوا عباداً ورهباناً متبتلين؛ لكن انظر إلى اجتهادهم في الدنيا وتعظيمهم الدنيا، ومع ذلك يحاربون أهل الحق، ويريدون أن يطفئوا نور الله سبحانه وتعالى، ويجتهدون في ذلك ليل نهار بكل الأساليب، سواءً بذبح المسلمين، أو إذلال المسلمين، أو تجويعهم وغير ذلك مما نلمسه من أعداء الله في مشارق الأرض ومغاربها، هذا مع أنهم على الباطل، ومع أنهم لا يتبعون إلا الظن، وما يتبعون إلا الأهواء، وأصبحوا مفلسين، وما عندهم شيء يقدمونه للبشرية، فليس لدى أمريكا وغيرها من أعداء الله ما يقدمونه لإصلاح البشرية، ما لديهم إلا الفساد والانحلال وتحطيم الخير في هذه الأرض ونشر الفساد فيها! فقوله تعالى: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)، يعني أن الدنيا هي المحطة النهائية عندهم، ولا يوجد عندهم خط ثانٍ بعد هذا، ((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ))؛ لأن المكان المعين وصلوه، فلا يوجد بعده مكان آخر. و (ذَلِكَ) الإشارة فيه إلى أمر الدنيا الذي ورد في آخر الآية السابقة: ((وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)).

التحذير من تحريف النصوص الشرعية لخدمة الأمور الدنيوية

التحذير من تحريف النصوص الشرعية لخدمة الأمور الدنيوية والعجيب أن من مظاهر غربة الإسلام: أن علم الدنيا صار أشرف في نظر كثير من الناس من علم الدين! وهذا بلاء عظيم جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام جعل من أشراط الساعة: (أن يقل العلم، ويظهر الجهل) أي: يقل العلم الشرعي الشريف ويظهر الجهل بالعلم الديني، كما هو الحال الآن! وللأسف، وإلا لو كان المقصود بالعلم -كما يزعمون- علوم الدنيا لانعكس الأمر الآن؛ لأن الظاهر أن الناس قد ظهر فيهم القلم، والناس تتعلم كثيراً جداً من علوم الدنيا، فهل يقال: إنه قد ظهر العلم في هذا الزمن، بمعنى: ظهر العلم الذي قصده النبي عليه السلام حينما جعل من علامات الساعة أن يقل العلم ويظهر الجهل؟! A لا. بل العلم المقصود به العلم الذي هو أشرف العلوم على الإطلاق وهو علم الدين، وأشرف علوم الدين هو علم التوحيد؛ لأن أي علم يُعرف شرفه بشرف معلومه، أي: المعلوم الذي تتعلمه من خلاله، فأشرف العلوم لا شك أنها علوم الدين. فهناك محاولات مستميتة لتسخير النصوص الدينية التي تحث على الآخرة وتحث على العلم الشرعي لخدمة الدنيا، فهي عملية استخدامٍ للدين من الذين يريدون أن يحولوا الدين إلى خادم، والمفروض أن الدين مخدوم، ولو أن واحداً -مثلاً- أراد أن ينظف أسفل نعله فما لقي مكاناً ينظفه فيه إلا خده، فنظفه بخده! فهذا إنسان سفيه؛ لأنه قلَب الخادمَ مخدوماً، فالوجه شريف يُخدم، والنعل -وبالذات أسفل النعل- المفروض أنه خادم، فأنت تحوله إلى مخدوم والمخدوم إلى خادم! فاستعمال نصوص الشريعة لتلميع مفاهيم دنيوية يعتبر مضادة لشرع الله تبارك وتعالى، فمثلاً: يدخل في هذا الذين يتكلمون عن العمل وزيادة الإنتاج، ويستدلون بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]! صحيحٌ أن العمل من أجل الرزق أمر من الأمور التي حث الإسلام عليها؛ لكن هل هذا هو المقصود بقوله: (اعْمَلُوا) هنا؟! وهل هي تخاطب الشيوعيين والماركسيين والنصارى واليهود؟! فالآية تخاطب المسلمين المؤمنين، وقوله: (اعْمَلُوا)، يعني: اعملوا صالحاً، ((فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)). فأشرف العلوم على الإطلاق هو علم الدين وعلوم الآخرة، فإذا نظرت إلى موضوعها أو إلى ثمرتها ستجدها هي التي تجلب للإنسان السعادة والفلاح في الدنيا وفي الآخرة. إذاً: يجب ربط الدين بالنصوص، فإن العلم هو أقوى مؤيدات الإسلام، حتى العلم الحديث هو من أقوى مؤيدات الإسلام؛ لكن تركوه من جهة أنهم نسوا الخالق وذكروا المخلوق، حتى سموا أماكن معينة في جسم الإنسان بأسماء الخواجات، وكأنهم هم خلقوها! مثال ذلك: ما يسمونه بقناة استاكس، فأنا مسلم وفي جسمي حاجة اسمها: قناة استاكس باسم واحد كافر! وهكذا ما يُسمى بجزر لانجرهانز التي في البنكرياس، وهكذا صار جسم الإنسان مثل الشوارع التي تسمى بأسماء الكفار! فالشاهد: إذا كان هذا من أجل أن واحداً اكتشف، فما بالك بمن خلق وصنع؟! فالعلم الآن في حالة من الجحود والنكران لفضل الله ونعمة الله تبارك وتعالى على البشرية. من الذي خلقها؟! ولماذا لا ينسبونها إلى الله سبحانه وتعالى؟! ولماذا لا نقول: خلق الله في البذور قوة الإنبات، ورزقنا الله الماء كي تنبت البذور ويحصل كذا وكذا؟! وخلق الله الجمجمة وفيها من العظام كذا، وفيها ثقوب خلقها الله كي تمر من الأعصاب مثلاً، وكذا وكذا؟! ورتب كذا على كذا لأجل حماية كذا؟! فلماذا لا يُنسب الفضل لصانعه؟! ولماذا يمضي العلم بعيداً عن الله سبحانه وتعالى؟! وليس هذا فحسب، بل ربما أحياناً ينصب هذا العلم في تأييد مذاهب كفرية وإلحادية لا تقوم إلا على الظن وما تهوى الأنفس، وهي أبرأ ما تكون من العلم، كنظرية فرويد أو نظرية داروين أو غيرها من هذه النظريات التي سخرت لخدمة الإلحاد. فالعلم الآن صار يُستعمل آلة لخدمة الإلحاد، مع أنه أقوى ناصر ومؤيد للإسلام، وأوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وهكذا في السنة النبوية الشريفة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها)، وشمل الحديث تقسيم الأرض إلى الأنواع الثلاثة المعروفة، فيفسرون الحديث لطلبة المدارس ويقولون لهم: أرض الطائفة الأولى التي حبست الماء وأنبتت العشب والكلأ الكثير فانتفع بها الناس هي هذه التكنولوجيا! فأصبح الحديث يفسر أن هذا حث على التكنولوجيا، وليس على العلم الشرعي. والأرض الأخرى هي التي أمسكت الماء فقط. والأرض الثالثة التي غورت الماء، وتركت الماء يذهب سدىً، لم يُحبس ولم يُنتفع به للزرع وغيره، فيقولون: هذا دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يسرف في استعمال الماء، ولابد من ترشيد استعمال المياه! وما علاقة هذا بذاك؟! هذا النوع بعيد جداً، صحيحٌ أن الإسرافَ محذور، لكن هذا الحديث لا يحثنا على التكنولوجيا، ولا يحثنا على ترشيد استعمال المياه، وليس هذا هو المقصود بالحديث، وإنما هذا تسطيح للمعاني الإسلامية الرفعية والعالية. فهذه الآية: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) من أقوى ما يوضح أنهم توقفوا عند علوم الدنيا، أما أخطر قسم من العلوم وهو العلم الذي يترتب عليه خلود إلى الأبد في جنة أو في نار فلا خبر عندهم عن هذا العلم، ومن كان هذا أقصى معارفه فما على داعيه إلا الصفح عنه، والصبر على جهله، فمثل هذا لا يستحق أنك ترد على جهله بجهل مثله، وإنما تصفح عنه، وتعرض عنه، فهذا هو المقصود من قوله: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا) يعني: أعرض عن أذيتهم، ولا تقابل سفاهتهم بمثلها، بل استمر في دعوتهم، ولا تلقِ بالاً للترهات والأذية والجهل ونحو ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظريٍّ، جواظٍ)، الجعظري: الفظ الغليظ المتكبر، والجواظ: الجموع المنوع؛ يجمع المال ويبالغ في جمعه، ثم يمنع حقه من الصدقة والزكاة وغيرها. وقوله: (صخابٍ في الأسواق)، أي: يرفع الصوت بالجلبة والصياح. وقوله: (جيفةٍ بالليل، حمارٍ بالنهار)، يعني: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، ولا يصلي صلاة عشاء ولا فجر ولا غيرهما فضلاً عن النوافل، وأما في عمل الدنيا فهو كالحمار بالنهار، وطبعاً إذا رأينا هذا المثال في هذا الحديث يطرأ إلى أذهاننا الناس الذين يتفانون في خدمة الدنيا كاليابانيين؛ فإنهم يفنون تماماً أثناء الخدمة، وما عندهم خبر عن موضوع الآخرة أبداً، بل تراهم يعملون مظاهرات؛ لأن الحكومة لا تريد تشغيلهم في يوم إجازة، إذ كيف يتوقفون عن العمل؟! ولذلك تاتشر في يوم من الأيام عيرتهم في تصريحات رسمية فقالت: أنتم شعب كائن مثل النمل، فرد وزير الخارجية الياباني وقال لهم: وأنتم الأوربيون كائنون مثل الصراصير، فتبادلوا الاتهامات، فحتى الأوروبيون لم يعجبهم اليابانيون، ويقولون: أنتم تعيشون مثل النمل، يعني: ما وراءكم غير الشغل فقط، وسبحان الله! من ذهب إلى اليابان يرى الأماكن التي ينامون فيها مثل الصناديق، يعني: الغرف مثل الصناديق، كالجثة موضوعة في قبر أو صندوق أو كذا. وقوله: (عالمٍ بأمر الدنيا، جاهلٍ بأمر الآخرة)، أي: تعلم من العلوم كثيراً مما لا ينفعه، والجهل به لن يضره، وفي نفس الوقت أعرض عن ذكر الله، وأعرض عن القرآن، وأعرض عن أن يتدبر في الغاية من خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وكيف يجيب على هذا الامتحان الإجباري الذي سوف يُسأل عنه كل إنسان: (من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟)، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمن كان هذا قصارى علمه، فما على الداعية إلا الصفح عنه، والصبر على جهله. وقوله: (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ) اسم مكان، وكأنه محل وقف فيه علمهم ادعاءً، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا، ثم علل الأمر بالإعراض، فقال تعالى: ((إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ))، فهذا تعليل لقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، والسياق: ((إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ)) تعليل للإعراض؛ لكن جملة: ((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)) جملة اعتراضية، فقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ} يعني: أعرض؛ لأن {رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}، وإذا كان الله أعلم بالفريقين فلابد أن يعاملهم بموجب علمه فيهم، فيجزي كلاً بما يقتضيه عمله. والله سبحانه قدم قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيْلِهِ} على قوله: ((بِمَنِ اهْتَدَى))؛ لأن هؤلاء الذين ضلوا هم المقصودون أساساً من الخطاب، وسياق الكلام في شأنهم.

تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) يقول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]. قوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، في هذا تنبيه على سعة ملكه عز وجل وعظمة قدرته، وأن ما فيهما في قبضته، فلا يعجزه جزاء هؤلاء الفجرة، كما قال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)، يعني: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.

تفسير قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش)

تفسير قوله تعالى: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش) قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. ثم لما ذكر المحسنين وجزاءهم الذي هو المثوبة الحسنى بيَّن عز وجل صفات هؤلاء المحسنين، فقال عز وجل: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ) يعني: ما كبر الوعيد عليه من المناهي. (وَالْفَوَاحِشَ)، يعني: ما فحش منها، والعطف: إما من عطف أحد المترادفين أو الخاص على العام. وقوله: (إِلَّا اللَّمَمَ)، أي: إلا الصغائر من الذنوب. ومثله أبو هريرة بالقبلة والغمزة والنظرة، فيما رواه ابن جرير. وأصل معنى اللمم: ما قل قدره. ومنه لمة الشَّعَر؛ لأنها دون الظفرة. وقيل: معناه: الدنو من الشيء دون ارتكاب له. والاستثناء في قوله سبحانه: (إِلَّا اللَّمَمَ) منقطع، بمعنى: (لكن). واللمم أن يدنو الإنسان من الشيء؛ لكن لا يرتكبه، فهذا هو المقصود باللمم، يعني: إلا اللمم بما دون الكبائر والفواحش فإنه عفو، وهو أن يهم دون أن يفعل، وهو شيء أقل من الكبائر والفواحش، يدنو منه، ثم يعرض عن ذلك، فهذا يعفو الله سبحانه وتعالى عنه. وقيل: إن الاستثناء في قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) متصل، والمراد: مطلق الذنوب. وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلاً، وإن (إلا) صفة بمعنى غير. وحكى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: أن معنى اللمم: ما قد سلف لهم مما ألموا به من الفواحش والكبائر في الجاهلية قبل الإسلام، وغفرها لهم حين أسلموا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: هو الرجل يلم بالفاحشة، ثم يتوب ولا يعود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تغفر اللهم تغفر جماً، وأي عبد لك ما ألما؟!). وقال الحسن: اللمم أن يقع في الوقعة ثم ينتهي. يعني: ولا يعود إليها. وكل هذا مما يتناوله اللفظ الكريم، والأقوى في معناه هو الأول، يعني: الصغائر من الذنوب، ولذلك استُدل بالآيات على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، فاجتناب الكبائر هو في حد ذاته كفارة للصغائر، والدليل الأصلح لذلك قول الله تبارك وتعالى في جملة شرطية: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]. (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي: واسعٌ عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم. (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ)، قال ابن جرير: أي: أحدثكم منها؛ بخلق أبيكم آدم منها. فقوله: (إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) الخطاب لنا والمقصود آدم عليه السلام، أي: إذ أنشأ أباكم آدم الذي هو أصلكم من الأرض. (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)، أي: حينما أو حيثما يصوركم في الأرحام، فالله سبحانه وتعالى عليم بكم أيضاً في هذه الحال. (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)، يعني: إذا كان الله سبحانه وتعالى عالم بكم حين أنشأ آدم من الأرض، وأعلم بكم (إذ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) فهو أعلم بكم فيما هو بعد ذلك، فقوله: (فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)، يعني: لا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي، والمراد به النهي عن الثناء تمدحاً أو رياءً، كالإنسان الذي يثني على نفسه، ويمدح نفسه، أو يرائي بإظهار العمل الصالح وإظهار أنه تقي، فهذه كلها من تزكية الأنفس، يعني: مدح النفس والثناء عليها، والتجمل للناس بغير ما هي عليه في الحقيقة. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)، أي: بمن اتقاه؛ فعمل بطاعته، واجتنب معاصيه، وأصلح، وهذا كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلَاً} [النساء:49]. وفي الصحيحين عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! قطعت عنق صاحبك مراراً، إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك)، يعني: تمدحه بما فيه، وتعلقه على هذا اللفظ: (أحسبه كذلك)، ولا تقطع ولاتجزم؛ لأن الله هو أعلم بحقيقة هذا الإنسان، وهو المطلع على قلبه، فلا ينبغي للإنسان أن يجازف في المديح؛ لأن ذلك يكون فتنة لمن يمدحه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُحثى التراب في وجوه المداحين. ويدخل في تزكية الأنفس المنهي عنه في مثل هذه الآية: أن يُسمى الإنسان باسمٍ فيه تزكية، كما كانت زينب تُسمى برة، من البر، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها إلى زينب، وقال: (الله أعلم بأهل البر منكم)، فينبغي للإنسان أن يتجنب التسميات التي يكون فيها مثل هذا المديح، ولذلك كان الإمام النووي رحمه الله تعالى يُلقب محيي الدين، فكان يقول: لا أجعل في حل -يعني: لا أسامح- من سماني محيي الدين.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى ألا تزروازرة وزر أخرى)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى ألا تزروازرة وزر أخرى) قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:33 - 38]. {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [النجم:33]، يعني: تولى عن الذكر بعد إذ جاءه، كما قال تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]. {وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى} أي: قطع العطاء بخلاً وشحاً. ((أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى))، يعني: حتى يراه؟! وحتى يحكم على نفسه بالتزكية والنجاة والفوز؟! {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:36 - 37]، أي: بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124]. ثم قال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تؤاخَذ نفس بذنب غيرها، فكل نفس آثمة فإن إثمها عليها، وهذا كان في صحف إبراهيم عليه السلام، وأيضاً في صحف موسى. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: إنما عنى بقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة. يعني: كما رُوي أن الوليد بن المغيرة همَّ بالدخول في الإسلام، فأتاه رجل من المشركين عيَّره بذلك وقال: كيف تدخل في الإسلام، وتضل عن دين آبائك وأجدادك؟! ثم ضمن له هذا الرجل المعيِّر أنك إن أعرضت عن الإسلام وأعطيتني من المال كذا وكذا أضمن لك ألا تعذب في الآخرة. يعني: مثل نظرية (صكوك الغفران). فقالوا: إن هذا السياق في هذه الآيات هو في هذا الشخص، فقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى} [النجم:33 - 34]، أي: حيث أعطاه بعض المال الذي وعده به. قال ابن جرير: قيل: إن المقصود هو هذا الرجل الذي ضمن للوليد بن المغيرة أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، يقول: ألم يخبر قائل هذا القول وضامن هذا الضمان بالذي في صحف موسى وإبراهيم مكتوب: أن لا تأثم آثمة إثم أخرى غيرها.

تفسير قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى الجزاء الأوفى)

تفسير قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى الجزاء الأوفى) قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:39 - 41]. {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. أي: وأنه لا يُجازى عامل إلا بعمله خيراً كان أو شراً، وظاهر السياق يُشعر بلزوم الآيات رداً على ما كانوا يتخرصونه ويتمنونه ويتحكمون فيه على الغيب لجاجاً وجهلاً، ولذلك فمفهومها الشمولي جلي. واستُدل بهذه الآية على عدم دخول النيابة في العبادات عن الحي والميت، يعني: لا يصح أن ينوب أحد عن أحد في صلاة ونحوها. واستدل به الشافعي على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. وقال ابن كثير: ومن هذه الآيات الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته إليها، ولا حثهم عليها، ولا أرشدهم إلى ذلك بنص ولا إيماء. يعني: أن ثمة سنة تركية، فالشيء قد يكون مقتضاه موجوداً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مأموراً بالبلاغ، وأي شيء له علاقه بالدين يقربنا وينفعنا عند الله ويبعدنا من النار أمر به النبي، وما كتم شيئاً؛ فهو مأمور بالتبليغ، ومعصوم من الكتمان، وهل الموتى من المسلمين في حاجة إلى إحسان أقاربهم أو إخوانهم إليهم بقراءة القرآن ثم إهداء الثواب، أم ليسوا في حاجة إلى هذا؟ فالناس محتاجون إلى أن يقرءوا القرآن ويهدوا ثوابه إلى الموتى، فالزمان كان زمان تشريع، والرسول عليه السلام مأمور بالتبليغ، والوحي ينزل عليه، والداعي المقتضي موجود، والمانع مفقود، أي لا يوجد مانع يمنعهم من أن يشرع لهم ذلك، ومع ذلك لم يشرعه. فإذاً: السنة في هذا أن نترك ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن المقتضي كان موجوداً، والمانع غير موجود، ومع ذلك لم يشرعه، فدل على أنه ليس من الدين. إذاً: من تعبد ببدعة فهو يرهق نفسه بما لا طائل من ورائه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). هذا أنموذج من المسائل التي فيها مثل هذا الكلام، وهو موضوع قراءة القرآن وإهداء ثوابه إلى الموتى، لكن يُستثنى من هذا الابن مع أبيه، كما ذكر ذلك العلامة الألباني رحمه الله تعالى في كتابه المبارك: (أحكام الجنائز) فقال: يُستثنى الابن فقط، الابن يقرأ ويهدي الثواب لأبيه؛ لأن الابن من كسب أبيه. بل بعض العلماء يقول: إن الابن أصلاً لا يحتاج حتى لإهداء الثواب؛ لأن كل ما يعمله الابن من العمل الصالح يجازى الأب بمثله، وكل ما يعمله الابن من العمل يصل ثوابه إلى ميزان أعمال الأب؛ لأن الابن من سعي أبيه، فهو الذي تسبب في وجوده في هذه الدنيا. فهذا كما يقول ابن كثير: ومن هذه الآيات الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله تعالى ومن تبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى؛ لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم يُنقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وباب القربات يُقتصر فيه على النصوص -وإلا يُفتح باب الابتداع في الدين على مصراعيه- ولا يُتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء، فأما الدعاء والصدقة فذلك مُجمَع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما. فالأدلة أتت بأن الدعاء ينفع الموتى، والصدقة تنفع الموتى، وبعض العبادات تنفع الموتى، كالحج ونحو ذلك. وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم يُنتفع به)، فهذه الثلاث-في الحقيقة- هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: (إن أطيب ما أكل الرجل من كده، وإن ولده من كده)، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه، فقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12]، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضاً من سعيه وعمله. وثبت في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء). قال الرازي: المراد من الآية: بيان ثواب الأعمال الصالحة، أو بيان كل عمل. ونقول: المشهور أنها لكل عمل؛ فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به، أي أن قوله هنا: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، يعني: إلا سعيه وكسبه. و (ما) هنا مصدرية. فبعض العلماء يقول إنها تعم. وبعضهم يقولون: إنما تعني الأعمال الصالحة. يقول الرازي: والظاهر أنه لبيان الخيرات، يدل عليه (اللام) في قوله تعالى: ((لِلإِنسَانِ))، فإن (اللام) لعَود المنافع، و (على) لعَود المضار، تقول: هذا له، وهذا عليه، وتقول: هذا يشهد له، وهذا يشهد عليه، في المنافع والمضار. وأيضاً مما يقوي هذا المذهب: قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:41] فهذا قطع بأن هذا الفعل سوف يُجزى عليه الإنسان الجزاء الأوفى، والأوفى لا يكون إلا في مقابلة الحسنة، أما في حالة السيئة فإنما يجزى بالمثل أو دونه أو العفو عن الإثم بالكلية، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90]، وقد يعفو الله عن السيئة، بل قد يبدلها حسنات. وقوله تعالى: (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) يعني: سوف يراه، ويُعرض عليه، ويُكشف له، مِن (أُريتُ الشيء). أو سَوْفَ يُرَى للخلق وللملائكة، ففيه بشارة للمؤمن وإفراح له، ونذارة للكافر وإرهاب له. أو هو مِن (رأى) المجرد، يعني: سوف يراه، كقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]. (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى)، أي: يُجزى سعيه جزاءً وافراً، لا يُبخس منه شيء.

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى)

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (أفرأيت الذي تولى) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمة: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:33 - 41]. (تولى) أي: رجعل وأدبر عن الحق. (وَأَعْطَى قَلِيلَاً): قال بعضهم: أعطى قليلاً من المال. وقال بعضهم: أعطى قليلاً من الكلام الطيب. (وَأَكْدَى)، أي: قطع ذلك العطاء ولم يتمه، وأصله من أكدى صاحب الحفر، يقال: أكدى إذا ظل يحفر حتى اصطدم بصخرة لا يقدر على الحفر فيها، فينقطع عن الاستئناف وتكملة الحفر. وأصله من الكُدَية، وهي: الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه، فتمنعه الحفر. وهذا الذي أعطى قليلاً وأكدى: اختلف فيه العلماء: فقيل: هو الوليد بن المغيرة؛ قارب أن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعض المشركين، فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، فرجع الوليد إلى الشرك، وأعطى الذي عيَّره بعض ذلك المال الذي ضمن، ومنعه باقي هذا المال، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى}، يعني: بعدما كاد يقبل على الإسلام، {وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى}، يعني: أعطى هذا الذي ضمن له أن يتحمل عنه عذاب الله يوم القيامة، (وَأَكْدَى) يعني: توقف عن استئناف العطاء وتكملة المال المتفق عليه. وقيل: ((وَأَعْطَى قَلِيلَاً)) من الكلام الطيب، كمدحه للقرآن واعترافه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، ((وَأَكْدَى)) أي: انقطع عن ذلك ورجع عنه. وقيل: هو العاص بن وائل السهمي، كان ربما وافق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، وذلك هو معنى إعطائه القليل، ثم انقطع عن ذلك، وهو معنى إكدائه، وهذا قول السدي، ولم ينسجم مع قوله بعده: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم:35] إلخ. وعن محمد بن كعب القرظي قال: إنه أبو جهل، قال: والله! ما يأمرنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا بمكارم الأخلاق. وذلك معنى إعطائه القليل، وقطعه لذلك معروف. يعني: فيما حصل منه من أذية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلا ينبغي أن نفرح حينما نجد كافراً من الكفار ينطق ببعض الكلمات التي فيها بعض الإنصاف للإسلام أو للنبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لا ينبغي أن نتجاوز بمثل هذا الإنسان قدره؛ لأنه حتى إذا أعطى قليلاً لكنه يُكدي، ولا يكمل الرحلة، فنجد بعض الناس يفرحون بقول بعض الكفار من الأمريكان في كتابه: العظماء مائة، أعظمهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهل نحن نقول: لا إله إلا الله، محمد عظيم، عليه الصلاة والسلام؟! ونشهد أن محمداً عبقري، وأنه أعظم مائة عرفهم التاريخ؟! وهل عظمة النبي عليه السلام وعبقريته محل خلاف؟! كل محور الخلاف هو: هل هو نبي يُوحى إليه أم لا؟! هذا هو جوهر القضية، فكل إنسان مهما نطق بمعسول من القول ولم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهو من أعداء الله وأعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو باقٍ في الكفر، صحيحٌ أنه أحياناً ينفع الاستدلال بهذا الكلام؛ لكن أقول: الناس تجازف وتغالي في المدح والثناء في حين أنه ينطبق عليه هذه الآية، فهو حينما يمدح الإسلام فهو يقرر أمراً واقعياً، فهذا دين الله عز وجل وليس مذهباً أرضياً ولا مذهباً فكرياً، بل هذا نظام إلهي ووحي إلهي. فحينما يفعل كافر شيئاً من هذا أو تسمعون تصريحاً لكافر تذكروا دائماً هذه الآية، خاصة على هذا التفسير. أما الزمخشري فاقتصر على أن المقصود بالآيات -ولا حول ولا قوة إلا بالله! - عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح -وهو أخوه من الرضاعة- يوشك ألا يبقى لك شيء! فقال عثمان رضي الله عنه: إن لي ذنوباً وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى، وأرجو عفوه. يعني: كأنه لم يستجب لهذا الكلام، كعادة الكريم؛ لأن الكريم لا يستفيد من التجارب، كما يقول البعض: الكريم لا تنفعه التجارب، ولا يستطيع أبداً أن يقاوم الرغبة في البذل والتضحية والإنفاق. فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه، وأمسك عن العطاء، فنزلت الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلَاً وَأَكْدَى} [النجم:33 - 34]، يعني: لم يتم له العطاء. يقول: فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. أي: لا يليق هذا حتى وإن كان يمدح عثمان بالنفقة، لأن السياق يقول: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:35 - 39]؟! فهذا شيء لا يُقبل في شأن أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين المهديين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فهذا قول ساقط، ولا يمكن أن يصح.

تضمن الآيات لسبعة أمور يدل عليها القرآن

تضمن الآيات لسبعة أمور يدل عليها القرآن يقول العلامة الشنقيطي: تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور: الأول: إنكار علم الغيب المدلول عليه بـ (الهمزة): (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ)، والمقصود نفي علمه بالغيب. الثاني: أن لكل من إبراهيم وموسى صحفاً لم ينبأ بما فيها هذا الكافر. الثالث: أن إبراهيم وفَّى، أي: أتم القيام بالتكاليف التي كلفه ربه بها. الرابع: أن في تلك الصحف: أنه لا {تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. الخامس: أن فيها أيضاً: أنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى. السادس: أنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى. السابع: أنه يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى، أي: الأكمل والأتم. وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع. أما الأول منها -وهو: عدم علمهم بالغيب- فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى هنا: ((أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ)). وقال عز وجل أيضاً: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [القلم:47]. وقال: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدَاً} [مريم:78]. وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران:179]. وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدَاً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]. وقال: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]. الأمر الثاني: أن لكل من إبراهيم وموسى صحفاً لم يُنبأ بما فيها هذا الكافر، ولم يكن هذا المتولي المعطي قليلاً المكدي عالماً بها، قال الله تبارك وتعالى أيضاً: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]. وأما الثالث منها -وهو أن إبراهيم وفَّى في تكاليفه- فقد ذكره الله تعالى في قوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] يعني: وفَّى. وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلي بها أنها التكاليف. وأما الرابع: وهو أنه لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، فقد قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12]. وقال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [فاطر:18]. أما الخامس منها -وهو أنه لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى فقد وضحه قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]. وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحَاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]. وقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحَاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44]. وقوله عز وجل هنا: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) يدل على أن الإنسان لا يستحق أجراً إلا على سعيه بنفسه، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات. وهذا ما نفصله -إن شاء الله تعالى- فيما سيأتي، والله أعلم.

القمر [6 - 53]

تفسير سورة القمر [6 - 53]

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم يوم عسر)

تفسير قوله تعالى: (فتول عنهم يوم عسر) يقول تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:6 - 8]. ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)): هذا وقف التمام، يعني: هذا تمام الكلام المتصل بما مضى، فيقرأ المرء: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5] * ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ))، ثم يبتدئ الكلام: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6]. أو يكون الكلام متصلاً، ويكون المعنى كما سنبين إن شاء الله تعالى. فقوله عز وجل هنا: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) أي: اصفح عن أذاهم، وانتظر ما يأتيهم من الوعيد الشديد. ثم بين هذا اليوم الذي يلقون فيه الوعيد الشديد بقوله: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، وكما ذكرنا إما أن نقف وقفاً تاماً: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ))، ثم نبتدئ: ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، يعني: يخرجون من الأجداث {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ)) [القمر:6 - 7] فتكون: (يومَ) منصوبة بقوله تعالى: ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ))، أو تكون منصوبة بفعل تقديره: واذكر يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ. أما إذا قلنا: إنه لا وقف بعد قوله: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ)) فيكون المعنى: أعرض عنهم يوم القيامة، ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم، فإنهم يُدعَون إلى شيء نكر، وينالهم عذاب شديد، كما تقول لمن أخبرته بأمر عظيم وقع وجرى لشخص: لا تسأل عما جرى لفلان، لأنه أمر عظيم فظيع، فهذا نفس المعنى هنا: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)) يعني: أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم ولا عن أحوالهم؛ فإن البلاء الذي يكونون فيه عظيم. ((يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ))، أي: داعي الله إلى موقف القيامة. أو الداعي الذي يأمره الله سبحانه وتعالى أن يدعوهم إلى الحضور في موقف القيامة، وهذا الداعي هو ملَك. وقيل الداعي هو إسرافيل يدعوهم بالنفخة الثانية. أو الداعي هو الله سبحانه وتعالى كقوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فإذا دعاهم فإنهم يخرجون من الأجداث. ((إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ))، أي: شيء فظيع تنكره النفوس إعظاماً له، وهو موقف الحساب، وليس معنى تنكره النفوس أنهم يجحدونه ويكذبون به ساعتها، إنما تنكره النفوس من شدة إعظامهم لهذا الموقف، وهو موقف الحساب والجزاء والبلاء. ((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ)) [القمر:7]، من الذل والصغار، وهذا حالهم حينما يُدعون إلى موقف القيامة أو حينما يخرجون من الأجداث. يقال: خشع بصرُه إذا غَض طرْفَه. ونلاحظ هنا أنه أضاف الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، وهذا محمل دقيق، وهو أن عامة أحوال الإنسان تظهر في عينيه، فالعين تظهِر ما يخفيه الإنسان من الشعور بالعز أو بالانكسار أو بالذل أو بالفرح والسرور، فالعين آية من آيات الله سبحانه وتعالى تكشف عما في باطن الإنسان، وعن أحواله النفسيه الدفينة أو الكامنة في نفسه، فلهذا كان للنظر إلى العين أثر مهم جداً في انعكاسه على من يحادثه الإنسان وينظر إليه، ولذلك يقولون: إذا أردت أن تعرف صدق الشخص وهو يحدثك بحديث فانظر إلى عينيه، فإنه يظهر على عينيه الاضطراب إذا كان كاذباً فيما يقول. هذا فيما يتعلق بإضافة الخشوع إلى الأبصار؛ لأن أثر العز والذل يتبين في عين الإنسان، كما قال تبارك وتعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات:9]، وقال عز وجل أيضاً: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45]. ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ)) يعني: من قبورهم، جمع جَدَث، ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ)) [القمر:7] شبههم في الكثرة والتموج والانتشار بالجراد، والجراد مثلٌ في الكثرة، فإذا أردت أن تشبه شيئاً وأن تصفه بالكثرة الكاثرة فإنك تشبهه بالجراد، لأن أسراب الجراد إذا هاجمت الحقول والمزارع فإنها تكون كثيرة جداً. والسر -والله أعلم- في تشبيههم بالجراد كما قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الجراد لا جهة له يقصدها، فهو أبداً مختلط بعضه في بعض، فهم يخرجون فزعين ليس لأحد منهم جهة يقصدها. وبين الإمام القرطبي رحمه الله تعالى هنا معنىً آخر: وهو أنه ربط بين قوله عز وجل: ((يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ)) [القمر:7] وبين قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:8]، أما قوله عز وجل: ((مُهْطِعِينَ)) فمعناه: مسرعين مادِّي أعناقهم إليه، بمعنى: أنهم شُبهوا أولاً بالجراد عند خروجهم من القبور، ليس لأحد منهم جهة يقصدها، ثم بعد ذلك تكون حال أخرى. إذاً: هما صفتان في وقتين مختلفين: الوقت الأول: عند الخروج من الأجداث. الوقت الثاني: حينما يدعوهم الداعي إلى موقف الحساب وهو موقف القيامة، فحينئذٍ يحددون جهة الداعي ويسرعون نحوه ((مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)) [القمر:8]. فقوله تبارك وتعالى هنا: ((خُشَّعَاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ))، كقول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4]. (يوم عسر) لشدة أهواله.

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح)

تفسير قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح) قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، ذكر الله تبارك وتعالى جملاً من وقائع الأمم الماضية تأليفاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له. ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: قبل أهل مكة ((قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ))، هذا الفعل (وازدجر) معطوف على: ((وَقَالُوا))، والفعل ((وَقَالُوا)) معطوف على: ((فَكَذَّبُوا))، في قوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] أي: أن كلمة (وازدجر) ليست داخلة في مقول القول؛ بل هي جملة مستقلة جديدة ليست داخلة في الكلام الذي قالوه. هم قالوا: ((مَجْنُونٌ)) حينما كذبوه، ((وَازْدُجِرَ)) نوح، بمعنى أنه زُجِرَ عن الإنذار والتبليغ بشدة وقساوة، كما تدل عليه صيغة (افتُعِل). قال الناصر: وليس قوله: ((فَكَذَّبُوا)) الثاني تكراراً. لأننا نلاحظ هنا تكرر مادة (التكذيب)، فقال: ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ))، ثم قال: ((فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا))، فيقول الناصر: وليس قوله ((فَكَذَّبُوا)) الثاني تكراراً؛ لأن الأول مطلق والثاني مقيد، فلا يكون تكراراً. فهذا كقوله في نفس السورة: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر:29]، فإن تعاطيه هو نفس عقره؛ ولكن ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصه إسهاباً، وهو بمثابة ذكره مرتين. جواب آخر: هو أن المكذَّب أولاً محذوف دل عليه ذكر نوح، فكأنه عز وجل قال: كذبت قوم نوح نوحاً، ثم جاء تكذيبهم بتكذيبهم ثانياً مضافاً إلى قوله: ((عَبْدَنَا))، فوصف نوحاً بخصوص العبودية لكونها صفة عالية شريفة، فالتكذيب المخبر عنه ثانياً أبشع عليهم من المذكور أولاً بتلك اللمحة، وكرر لأجل بيان عظم جريمتهم حينما لم يكذبوا شخصاً عادياً وإنما كذبوا عبد الله ورسوله نوحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقيل: لأنهم كذبوه تكذيباً عقب تكذيب؛ لأن نوحاً مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فكلما مضى منهم قرن مكذب تبعه الجيل الذي يأتي بعده، ويأتي قرن آخر مكذب، فهذا هو السر في تكرار مادة (التكذيب)، ((كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا)) [القمر:9]. وقيل: إنه لم يذكر المفعول به فيُقدر الضمير: كذبت قبلهم قوم نوح المرسلين، كما جاء في آيات آخرى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، مع أن الذي أرسل إليهم هو نبي واحد، ولكن لأن القاعدة: الكفر بنبي واحد يستلزم الكفر بجميع الأنبياء وينقض الإيمان كله من أصله.

تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر)

تفسير قوله تعالى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) قال تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14]. ((فَدَعَا رَبَّهُ))، يعني: فدعا عليهم نوح ربه، ((أَنِّي مَغْلُوبٌ))، أنهم غلبوني بتمردهم، ((فَانْتَصِرْ)). يقول القاسمي: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ))، أي: غلبني قومي تمرداً وعتواً فلم يسمعوا مني، واستحكم اليأس منهم؛ لأنهم جيل وراء جيل، وقرن وراء قرن، ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، وما يأتي جيل إلا ويكون كافراً كالذي قبله، حينئذٍ دعا عليهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (فاستحكم اليأس منهم، فانتقم منهم بعذاب ترسله عليهم). فمعنى قوله تعالى: ((فَانْتَصِرْ))، يعني: فانتقم لي ممن كذبني. ((فَفَتَحْنَا))، هذه إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاء نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بالطوفان الذي هلكوا فيه. ونجد المفسرين لدقتهم في الفهم يقدرون هنا كلاماً تدل عليه المواضع الأخرى التي ذكرت قصة نوح، فيقولون: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ))، فأجبنا دعاءه، وهذه دل عليها قوله في سورة الأنبياء: ((وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)) [الأنبياء:76]. ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)) [القمر:10]، فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة؛ لأن الأمر باتخاذ السفينة كان قبل الطوفان. ((فَفَتَحْنَا))، وفي قراءة ابن عامر: ((فَفَتَّحْنَا)) بالتشديد ((بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ)) [القمر:11]، أي: متدفق، والماء المنهمر هو الكثير السريع الانصباب، فشبه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء، وشُق لها أديم الخضراء، يقول الشاعر: أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير بادٍ من معد وحاضر (أعيني جودا بالدموع الهوامر) يعني: الغزار الكثيرة. ((وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً)) [القمر:12]، أي: وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، ((فَالْتَقَى الْمَاءُ))، أي: ماء السماء وماء الأرض، ماء من السماء كثير وسريع الانصباب، وماء ينبع ويتفجر من الأرض، ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر:12]، أي: على حالٍ قدَّره الله وقضاه في اللوح المحفوظ، وهذا الأمر هو هلاك قوم نوح وغرقهم. وقيل: ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر:12]، يعني: كان قدر ماء السماء كقدر ماء الأرض بعلم الله سبحانه وتعالى، أي: أن هذا الماء الذي نبع من الأرض وتفجر منها هو في كمه يساوي نفس كمِّ الماء الذي نزل من السماء. لكن القول الأول أقرب. وقال محمد بن كعب القرظي مشيراً إلى أن كل شيء إنما يجري بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء. ثم تلا هذه الآية: ((فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) [القمر:12]. فهذا نوع من الاستشهاد بالآية على معنىً آخر، وهو أن كل شيء سبق قضاء الله سبحانه وتعالى به؛ وقوله: (كانت الأقوات قبل الأجساد)، يعني: قبل أن يخلق الله النفس يكون قد كتب لها رزقها وقوتها الذي تقتاته. (وكان القدر قبل البلاء)، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]، كونها تقع على وفق علمه السابق وتقديره السابق فهذا أمر يسير جداً في حق الله سبحانه وتعالى، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، فهذا مما يدل على عظم وعموم قدرته تبارك وتعالى. ((وَحَمَلْنَاهُ)) يعني: وحملناه على سفينة ((ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، وهذا من بديع الكلام، حيث أقيمت صفاتها مقامها، لتأديتها مؤداها؛ لأن هذا الوصف يؤدي المعنى. ((وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ))، يعني: على السفينة، وألواحُها: خشباتها العريضة التي منها جُمعت، أما (الدُّسُر) فجمع دِسار كـ (حِمار) و (حُمُر)، أما إذا قلنا: إن (دُسُر) جمع دَسْر فتكون كـ (سَقْف) و (سُقُف)، وهي أضلاع السفينة، أو حبالها التي تشد فيها، أو مساميرها، فـ (الدُّسُر) المسامير والحبال التي تُشَد بها الألواح. هناك قول آخر في (الدُّسُر): إن الدُّسُر هو صدر السفينة؛ لأنه يدسر الماء، أي: يشق الماء ويدفعه إلى الأمام، عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن زكاة العنبر، فقال: إنما هو شيء دَسَره البحر)، رواه الإمام أحمد، يعني: قَذَفه أو دَفَعه البحر. ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا))، أي: بمرأىً منا، أي: بحفظ الله عز وجل وعنايته، ((تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ))، من هو الذي كان كُفر؟ إما أنه الله سبحانه وتعالى، فيكون المعنى: جزاء لمن كُفر به، وهو الله عز وجل. أو جزاء لمن كان كُفر به، وهو نوح عليه السلام، وما جاء به نوح. فهذا هنا من الكفر الذي هو ضد الإيمان. قال بعض المفسرين: قوله تبارك وتعالى: ((جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)) (مَن) هنا تكون بمعنى (ما) أي: جزاء لما كان كُفر من نعم الله عند الذين أغرقهم؛ لأن (مَن) قد تأتي بمعنى (ما). وقد قرأها قتادة: ((جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ))، أي: لمن كان كَفَرَ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ولقد تركناها آية عذابي ونذر)

تفسير قوله تعالى: (ولقد تركناها آية عذابي ونذر) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:15 - 16]. ((وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا)) إما قصة نوح عليه السلام، أو السفينة على جبل الجودي حتى رآها صدر هذه الأمة كما ذُكر في كتب التفسير، وإن كان قد حصل بحث مشهور من قبل لجنة أوروبية أعتقد أنها إنكليزية في شريط فيديو مشهور اسمه (سفينة نوح) وقد رأيته عند أحد الإخوة هنا، هي عبارة عن بعثة من الباحثين الإنكليز، يصورون جبل الجودي، ومما يذكر عنهم أنهم ليس لديهم تحمس لدين معين، وإنما يبحثون في أي شيء، فكان مما أتوا به: النصوص الموجودة في التوراة التي تشير إلى موضع استقرار السفينة، وأتوا بنص القرآن الكريم: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]، وبحثوا وتحروا بأجهزة كشف، وصوروا الموقع وحدود السفينة عن طريق أجهزة معينة ترصد حدود السفينة في الأرض، وبالفعل حددوا موقع السفينة على جبل الجودي، وصوروا الجبل، والسفينة مرسومة عن طريق أجهزة معينة ترصد الشيء المدفون في الأرض، واستنتجوا أن القول الوحيد الصحيح هو ما أشار إليه القرآن الكريم من أنها استوت على الجودي. فقوله تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً))، إما: تركنا القصة عبرة وآية، وإما: تركنا السفينة نفسها حتى يراها الناس وتكون آية وعبرة يعتبر بها. ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) أي: فهل من معتبر ومتعظ؟ وأصله: (مُذْتَكر). ((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)) أي: كيف كان عذابي لهؤلاء الكفرة من قوم نوح، وإنذاراتي لما أحللت بهم، ليحذر أمثالهم وينتهوا عما يقترفونه.

تفسير قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)

تفسير قوله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) يقول تبارك وتعالى: ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر:17]. ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)) أي: سهلناه للادِّكار والاتعاظ؛ لكثرة ما ضرب فيه من الأمثال الكافية الشافية. وقال بعض المفسرين: سهلناه للحفظ والقراءة. وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، أن من مظاهر تيسير القرآن للذكر: أن قلوب الآدميين تطيق أن تحمل كلام الله عز وجل في الصدور، حتى يستظهره الغلام ذو السبع السنوات، ويستطيع أن يحفظ كلام الله عن ظهر قلب، ولا شك أن هذه الآية فيها حض على الإقدام على حفظ القرآن الكريم وقراءته وتلاوته؛ لأن هذا الأسلوب فيه تحضيض وتحريض. ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: إن حفظ القرآن يسير؛ لكن انْوِ أنت وأقبل على هذا يسهله الله عليك، هذا وعد من الله بالتسهيل على من صعدت همته إلى حفظ كلام الله، ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، يعني: فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه؟ وقال محمد بن كعب القرظي: فهل من منزجر عن المعاصي؟ يعني: بزواجر ومواعظ القرآن الكريم، ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، فيعتبر بما فيه ويثوب إلى رشده؟ وكما قلنا: هذا حث على قراءته وحفظه وتعلمه، ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين لما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل.

كلام الشنقيطي على قصة نوح

كلام الشنقيطي على قصة نوح قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:9 - 16]. للعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فيما يتعلق بقصة نوح عليه السلام، يقول: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، أن نبيه نوحاً دعاه قائلاً: إن قومه غلبوه؛ سائلاً ربه أن ينتصر له منهم، وأن الله انتصر له منهم فأهلكهم بالغرق؛ لأنه تعالى فتح ((أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ)) وأنه تعالى فجر الأرض عيوناً، وإعرابها: تمييز محوَّل عن المفعول، والأصل: فجرنا عيون الأرض. والتفجير: إخراج الماء منها بكثرة، و (ال) في قوله: (الماء) للجنس، ومعناه: التقى ماء السماء وماء الأرض، ((عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ)) أي: قدره الله وقضاه. وقيل: إن معناه أن الماء النازل من السماء والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدارٍ ليس أحدهما أكثر من الآخر. والأول أظهر. وما تضمنته هذه الآيات الكريمة من دعاء نوح ربه جل وعلا أن ينتصر له من قومه فينتقم منهم، وأن الله أجابه فانتصر له منهم فأهلكهم جميعاً بالغرق في هذا الماء الملتقي من السماء والأرض، وضحه قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَنُوحَاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:76 - 77]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات:75 - 76]، إلى قوله: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الصافات:82]. وبين جل وعلا أن دعاء نوح فيه سؤاله الله عز وجل أن يهلكهم إهلاكاً مستأصلاً، فجاءت آيات تبين قوله هنا: ((فَانْتَصِرْ))، أي: انتقم لي، كقول الله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:26 - 27]، وهذا طبقاً للتجربة السابقة بالإضافة إلى إخبار الله عز وجل في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]). يقول: وما دعا نوح على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن، وذلك في قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، وقد قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]. قالوا: وقوله تعالى: ((وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونَاً)) قرأه ابن كثير، وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية شعبة، وحمزة، والكسائي: {عِيُونَاً} [القمر:12] بكسر (العين) لمجانسة (الياء)، ولها نظير في سورة الأحزاب: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]، وفي قراءة أخرى: ((بِيُوتِكُنَّ)). وقرأه نافع، وأبو عمرو، وابن عامر في رواية هشام، وعاصم في رواية حفص: ((عُيُونَاً)) بضم (العين) على الأصل. قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}، لم يبين هنا ذات الألواح والدُّسُر؛ ولكنه بين في موضع آخر أن المراد: وحملناه على سفينة ذات ألواح، أي: من الخشب، و (دُسُر) أي: مسامير تربط بعض الخشب ببعض، وواحد (الدُّسُر) دِسار ككُتُب وكِتاب، وعلى هذا القول أكثر المفسرين. وقال بعض العلماء وبعض أهل اللغة: (الدُّسُور): الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة. وقال بعض العلماء: (الدُّسُور): جؤجؤ السفينة، يعني: صدرها ومقدمها الذي تدسر به الماء، أي: تدفعه وتمخره به، قالوا: هو من الدَّسْر، أي الدفع. فمن الآيات الدالة على أن ذات الألواح والدسر هي السفينة قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، أي: السفينة، كما يدل عليه قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} [الشورى:32]، (الجوار) السفن التي تجري، وقال تعالى: ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)) [العنكبوت:15]، وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]. قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قال بعض العلماء: إن (الهاء) أو الضمير في قوله: ((تَرَكْنَاهَا)) عائد إلى هذه الفعلة العظيمة التي فعل الله سبحانه وتعالى بقوم نوح، والمعنى: ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح وإهلاكنا لهم آية لمن بعدهم؛ لينزجروا ويكفوا عن تكذيب الرسل؛ لئلا نفعل بهم مثلما فعلنا بقوم نوح. وكون هذه الفعلة آية نص عليه تعالى في قوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:37]، وقال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:119 - 121]. فهذا كله يؤيد القول بأن الآية هي ما فعله الله بهم من الإغراق. وقال بعض العلماء: الضمير في: ((تَرَكْنَاهَا))، عائد إلى السفينة. وكون سفينة نوح آية بينه الله تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا} [العنكبوت:15] أي: السفينة {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15]، وقال تعالى أيضاً: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس:41 - 42].

تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد فهل من مدكر)

تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد فهل من مدكر) قال الله تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً صَرْصَرَاً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) [القمر:18 - 22]. ((كَذَّبَتْ عَادٌ))، أي: نبيهم هوداً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بمثل ما كذبت به قوم نوح، ((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)). ((إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً صَرْصَرَاً))، أي: شديدة الهبوب لها صرير ((فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ))، أي: شر وشؤم عليهم. جاء في بعض الكتب: أن هذا الوقت كان يوم أربعاء في آخر الشهر، ولا يصح في هذا شيء؛ لأن التشاؤم معتقد جاهلي بغيض، وبعض الناس تدعي أن في يوم الأربعاء ساعة نحس والعياذ بالله، فيتشاءمون من هذا اليوم أو من ساعة معينة في هذا اليوم، وإن كان رُوي في بعض الأحاديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على الكفار ثلاثة أيام، دعا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستُجيب له يوم الأربعاء فيما بين الصلاتين) يعني: بين الظهر والعصر، وهو من حديث جابر بن عبد الله، ويزعمون أن هذا وقت نحس، وحتى لو صح هذا فيطلق على أنه نحس على الكفار. وقد ذكر بعض المفسرين كـ القرطبي رحمه الله تعالى: أن من أوقات إجابة الدعاء خاصة دعاء المظلوم على الظالم يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فيدعو عليه، فإن لم يسبق رجعة -يعني: الظالم لم يتب- قبل حلول هذا الوقت؛ فلا بد أن يصيبه عذاب. فعلى أي الأحوال هذا لم يرد في حديث مرفوع صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلمه، والله تعالى أعلم. والشيطان يسول للناس أمثال هذه المعتقدات التي لا تثبت، وهذا مِن تلاعبه بهم، كما فعلوا ما هو أشنع من ذلك حينما زعم الجهلة الحمقى أن في يوم الجمعة ساعة نحس! كيف يكون هذا في اليوم المبارك العظيم الذي هو العيد الأسبوعي للمسلمين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن فيه ساعة إجابة وليست ساعة نحس، على خلافٍ في تحديد هذه الساعة؛ هل هي متنقلة؟ وإن كان أقرب الأوقات أنها آخر ساعة بعد العصر، والله تعالى أعلم. على أي الأحوال حتى لو فرضنا ورود حديث، وصح أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا عليهم يوم الأربعاء ما بين الصلاتين فأنزل الله العذاب بهم أو هزم هؤلاء الكفار، فإنه لا يُحمل على أن المسلمين يتشاءمون، لأن المسلم لا يتطير أبداً ولا يتشاءم، فإن هذا من العقائد الجاهلية البغيضة، لكن لو صح ذلك فنقول: إنه نحس على الفجار وعلى المفسدين، لا على الصالحين، وهذا اليوم الذي يصفه الله بقوله: ((فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ))، هل أصاب هذا الشر وهذا الشؤم هوداً عليه السلام والمؤمنين معه؟ لا. إنما كان نحساً على من أرسل عليهم العذاب، وهو لا شك حقيق أن يكون نحساً عليهم لكفرهم واستحقاقهم غضب الله وعقابه. ((مُسْتَمِرٍّ)) أي: دائم الشؤم، فاستمر عليهم ودام حتى أهلكهم، هذا إذا قلنا: ((مُسْتَمِرٍّ)) بمعنى: دائم الشر أو الشؤم. هناك تفسير آخر لقوله: ((مُسْتَمِرٍّ)) أنه من المرارة، فهو يوم مرير شديد المرارة؛ لعظم البلاء والنكال الذي وقع بهم في هذا اليوم. ((تَنزِعُ النَّاسَ)) أي: هذه الريح الصرصر تقلعهم عن أماكنهم، ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ))، أي: فتتركهم كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ؛ لأن هذه الريح تنزع الناس فترفعهم ثم تقلبهم على رءوسهم، ثم تدكهم في الأرض فتنكسر أعناقهم، فيصبحون كأعجاز النخل التي لا رأس لها لما انكسرت رءوسها، فيُلقَون في الأرض بهذه الهيئة وهذه الصورة، ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)) أي: أصول نخل منخلع عن مغارسه. وأصل (منقعر) ما أُخرج من القعر، فنلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى شبههم بالنخل؛ لأنهم كانوا طوالاً، وهذا معروف عن قوم عاد، حتى ذكر بعض المفسرين أن الواحد منهم كان طوله اثني عشر ذراعاً، أي حوالي ستة أمتار، والله أعلم. فلعل هذه مناسبة تشبيههم بالنخل. ((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ))، كرره للتهويل وللتنبيه على فرط عتوهم، أي: فكيف كان عذابي لقومه وإنذاري لهم على لسانه. ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)).

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود من الكذاب الأشر)

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود من الكذاب الأشر) قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر:23 - 26]. يحتمل أن يكون (النذر) هنا بمعنى الإنذار، أو جمع نذير، أي الرسل، وإنما جمع لأن من كذب نبياً واحداً فقد كذب كل الرسل، فلذلك قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ}. وهذا على القول بأن (النذر) جمع نذير، أما (النذر) بمعنى الإنذار، فيكون المعنى: كذبت ثمود بما أنذرهم به نبيهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ((فَقَالُوا أَبَشَرَاً)) يعني: أنتبع بشراً ((مِنَّا وَاحِدَاً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذَاً))، إذا اتبعناه، ((لَفِي ضَلالٍ))، أي: خطأ وذهابٍ عن الصواب، ((وَسُعُرٍ)) أي: جنون أو عناء، فهو اسمٌ مفرد. وقيل: ((وَسُعُرٍ)): جمع سعير، كأنهم رتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على عدم اتباعهم له. قال الزمخشري: قالوا: ((أَبَشَرَاً)): إنكاراً لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، قالوها إنكاراً، يعني: هل يصلح أن نتبع بشراً مثلنا من جنس البشر؟! وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة، وقالوا: ((مِنَّا)) لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى، ((وَاحِدَاً)) قالوها إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً، أو أرادوا واحداً من أبنائهم من أشرافهم وأفاضلهم، ويدل على هذا قولهم: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر:25]، يقصدون بذلك ازدراء نبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ((أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ)) يعني: الوحي، {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا}، أي: وفينا من هو أحق بها؛ لكونه أعز مالاً ونفراً، فكأنهم يقصدون: كيف خُص من بيننا بالنبوة والوحي وفينا من هو أكثر منه مالاً وأعز نفراً؟ ((بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ))، أي: متكبر حمله كبره وفخره بنفسه على أن يطلب منا أن نتبعه ونكون أتباعاً له. وقيل: إن معنى (الأشر) المرِح المتكبر، أو البَطِر. وقيل: إن الأشر المتعدي إلى منزلة لا يستحقها. وقيل: الذي يقول كلاماً ولا يبالي ما قال. وأما قوله: ((إِنَّا إِذَاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)) كما قلنا: قيل إن (السعر) هو الجنون، إذا قلنا: إنها كلمة مفردة، تقول العرب: ناقة مسعورة، كأنها مجنونة من النشاط. وهناك معنى آخر لـ (سعر) مفرداً، أي: شقاء وعناء لأجل ما يلزمنا من طاعته، رتب على طاعتنا إياه تكاليف وأوامر ونواهٍ وهكذا. ((سَيَعْلَمُونَ غَدَاً))، أي: عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. ((مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ)) أي: من المتكبر عن الحق البَطِر له. وقوله تعالى هنا: ((سَيَعْلَمُونَ غَدَاً)) هو على التقريب وليس على التحديد، فليس هو اليوم الثاني مباشرة، بل استعملت هنا على عادة العرب أو على عادة الناس في قولهم للعواقب: غداً، على سبيل التقريب، وتقول العرب في الكلام عن عواقب الأمور: إن مع اليوم غداً، يعني: هناك عاقبة لهذا اليوم، وقال الشاعر: من لم يكن ميتاً في اليوم مات غداً (مات غداً) يعني: في المستقبل، وليس المقصود أنه يموت بالفعل في الغد. ولذلك فسره المفسرون بقولهم: وذلك عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة، فأطلق عليه (غداً) مع أنه بعيد نسبياً عن الأيام التي كانوا فيها.

تفسير قوله تعالى: (إنا مرسلو الناقة كل شرب محتضر)

تفسير قوله تعالى: (إنا مرسلو الناقة كل شرب محتضر) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ}، يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ))، أي: مخرجوها من الهضبة ((فِتْنَةً لَهُمْ))، ابتلاءً واختباراً لهم، فقوله (فتنة): مفعول من أجله؛ لأنهم اقترحوا على صالح إخراج ناقةٍ من صخرة، وأنها إن خرجت لهم من هذه الصخرة آمنوا به واتبعوه، فأخرج الله الناقة من تلك الصخرة معجزةً لصالح عليه السلام. و ((فِتْنَةً لَهُمْ)) أي: ابتلاءً واختباراً، وذلك أن تلك الناقة معجزة عاينوها، وأن الله حذرهم على لسان نبيهم صالح من أن يمسوها بسوء، وأنهم إن تعرضوا لها بأذى أخذهم الله بعذابه. والمفسرون يقولون: إنهم قالوا له: إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء اتبعناك. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله أرسل لهم هذه الناقة امتحاناً واختباراً، وأنهم إن تعرضوا لآية الله -الناقة- بسوء أهلكهم وضحه قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف:73]. وقال تعالى في سورة هود عن صالح عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:64 - 65]. وقال تعالى في الشعراء: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155 - 156]. وقد بين تعالى أنهم عقروا الناقة فجاءهم العذاب المستأصل في آيات من كتابه، كقوله تعالى في الأعراف: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف:77]، إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:78]. وقال تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء:157 - 158]، وقال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:14 - 15]. فمعنى: (مرسلو) هنا مخرجو الناقة، أخرجها لهم من الصخرة، حينما سألوا صالحاً أن يخرج لهم ناقة من تلك الصخرة. ((فِتْنَةً لَهُمْ)) يعني: مرسلوها لهم كما أرادوا، آية وحجة لصالح على قومه امتحاناً لهم وابتلاء. ((فَارْتَقِبْهُمْ))، أي: انتظرهم وتبصر ما هم صانعوه بها، ((وَاصْطَبِرْ)) على دعوتهم، أو ((وَاصْطَبِرْ)) على ما يصيبك من أذاهم. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} أي: أخبر يا صالح ثمود أن الماء -وهو ماء البئر الذي كانت تشرب منها الناقة- قسمة بينهم، فيوم للناقة ويوم لثمود، فقوله: ((بَيْنَهُمْ)) أي: بين الناقة وثمود، وغلَّب العقلاء على الناقة، والضمير يعود إلى عاقل وهم هؤلاء البشر، ((كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ)) أي: يحضره صاحبه؛ فتحضر الناقة شرب يومها وتحضر ثمود شرب يومها. وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آية أخرى، وهي قوله تعالى في الشعراء: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، وشرب الناقة هو الذي حذرهم منه صالح لئلا يتعرضوا له في قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13]، يعني: إياكم أن تتعرضوا لشرب هذه الناقة في موعدها. ((وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ))، الذي يردونه لشرب مواشيهم ((قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ)) أي: مقسوم بينهم لها شرب ولهم شرب يوم ((كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ))، أي: يحضره صاحبه في نوبته ويستحقه، و (الشِّرب) النصيب من الماء.

تفسير قوله تعالى: (فنادوا صاحبهم فهل من مدكر)

تفسير قوله تعالى: (فنادوا صاحبهم فهل من مدكر) قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:29 - 32]. ثم أشار تبارك وتعالى إلى عتوهم عن أمر ربهم بقوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}. ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) وهو كما يقول المفسرون: قيدار بن سالف، ((فَتَعَاطَى))، يعني: تعاطى عقر الناقة. وقيل: (تعاطى) أي: تناول الناقة بيده، ((فَعَقَرَ)) أي: فعقرها فقتلها، ((فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)). {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} صاحها جبريل عليه السلام عليهم، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} أي: كالشجر اليابس المتكسر، كما سنبين إن شاء الله تعالى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}: قال أبو حيان في البحر المحيط: (تعاطى) هو مطاوع (عاطى)، وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضاً، فتعاطها قيدار وتناول العقر بيده، والعرب تقول: تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله. ولذلك رأينا بعض المفسرين يفسر ((فَتَعَاطَى)) بأنه تعاطى العقر، فتكون بمعنى العقر. و (تعاطى) كما قال القاسمي معناه هنا: تناول الناقة بيده، فالفعل هنا: إما فعل الشيء أو تناوله، فتعاطى كذا إذا فعله أو تناوله، وعاطاه إذا تناوله، ومنه قول حسان رضي الله عنه: كلتاهما حلب العصير فعاطَني بزجاجة أرخاهما بالمفصل وقوله: ((فَعَقَرَ))، أي: تعاطى عقر الناقة فعقرها، فمفعولا الفعلين (تعاطى، عقر) محذوفان. وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ))، وعبر عنه في سورة الشمس بأنه أشقاهم في قوله: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}، وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية، وإيضاح ذلك: أن الله تبارك وتعالى في هذه الآية نسب العقر لواحد لا لجماعة: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم، كقوله في سورة الأعراف: ((فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)) [الأعراف:77]، وقال في سورة هود: ((فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ)) [هود:65]، وقال في الشعراء: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء:157]، وقال في سورة الشمس: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14]. يقول: ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو: أن قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة، فنادوا واحداً منهم لينفذ ما اتفقوا عليه أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره، ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون، وصحت نسبة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر، وصحت نسبته أيضاً إلى الجميع لأنهم متمالئون، كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بـ (الفاء) في قوله تبارك وتعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ}، على ندائهم. يعني: رُتب التعاطي على النداء، ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) بعدما تمالئوا واتفقوا على العقر، فلما نادوه لكي ينفذ هذه المهمة ((تَعَاطَى فَعَقَرَ)). وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر: وهو أن إطلاق المجموع مراداً به بعضه أسلوب عربي مشهور، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب، من ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] على قراءة حمزة، بصيغة المجرد في الفعلين؛ لأن من قُتل ومات لم يبق فيه نفَس ولا حياة، فالمراد: إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر الذي ما زال حياً. ونظيره قول عبد الله بن مطيع: فإن تقتلونا عند حرة واقم فإنا على الإسلام أول مَن قتل أي: فإن تقتلوا بعضنا. ومنه أيضاً قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، وهذا في بعض الأعراب دون بعض، والدليل قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:99] إلى قوله: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:99]. ومِن أشهر الشواهد العربية على أنه قد يطلق المجموع ويراد به البعض قول الشاعر: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدَي ورقاء عن رأس خالد وقوله تعالى: ((فَعَقَرَ)) أي: قتلها. والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح، ومنه قول امرئ القيس: تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقِرَى الضيف قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا يقول الله تبارك وتعالى: ((فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ)) يعني: حضوه على عقرها، ((فَتَعَاطَى)) على العقر ((فَعَقَرَ)). {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر:30 - 31] صاحها جبريل -عليه السلام- عليهم، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}، أي: كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة للغنم ونحوها، أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وقرئ بفتح الظاء: ((كَهَشِيمِ الْمُحْتَظَرِ)) على أنه اسم مكان، أي: كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها. وهو تشبيه لإهلاكهم وإفنائهم، وأنهم بادوا عن آخرهم فلم تبق منهم باقية، وخمدوا وهمدوا كما يهمد الزرع والنبات بعد خضرة ورقه وحسن نباته، قال ابن زيد: كان العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبيس الشوك. وعن سفيان: الهشيم: إذا ضربت الحظيرة بالعصا تهشم ذاك الورق فيسقط، والعرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً. ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)).

تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم لوط فهل من مدكر)

تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم لوط فهل من مدكر) قال الله تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:33 - 40]، ((حَاصِبَاً)) بمعنى: ملَكاً يرميهم بالحصباء والحجارة، أو ريحاً تحصبهم بالحجارة، يعني: ترميهم. {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} أي: نجيناهم من ذلك العذاب في سحر، و (الباء) للملابسة أو المصاحبة، وذلك أنه تبارك وتعالى أوحى إليهم أن يخرجوا من آخر الليل؛ فنجوا مما أصاب قومهم. ولم يؤمن بلوط من قومه أحد حتى امرأته، وقد أصابها ما أصابهم، وخرج نبي الله لوط عليه السلام وبنات له من بين أظهرهم سالمين لم يمسسهم سوء. {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي: إنعاماً منا، إذاً: هذه علة لـ (نجينا). {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أي: فأطاع ربه وانتهى إلى أمره ونهيه. والشكر: صرف العبد جميع ما أنعم عليه إلى ما خلق لأجله، أي أن يستعمل نعم الله سبحانه وتعالى فيما أعطاه هذه النعم لأجله. {وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوط عليه السلام ((بَطْشَتَنَا))، أي: أخذتنا بالعذاب، {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} أي: بإنذاراته تكذيباً له. {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} أي: طالبوه بإتيان الفاحشة معهم، وهم الملائكة الذين وردوا عليه في صورة شباب مرد حسان، محنة من الله بهم، فأضافهم لوط عليه السلام، وبعثت امرأته عجوز السوء إلى قومها تعلمهم بأضيافه عليه السلام، وهذه هي خيانتها له المذكورة في قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] وإلا فزوجات الأنبياء لا يمكن أن يقعن في الفاحشة. فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان، فتلقاهم يناشدهم الله ألا يخزوه في ضيفه، فأتوا عليه وجاءوا ليدخلوا عليهم، فأعمى الله أبصارهم فلم يروهم، كما قال تعالى: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ}، وقيل: طمس أعينهم فلم يبق حتى الشق الذي تخرج منه العين في وجوههم. {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ}، أي: أتاهم صباحاً عذابٌ مستقر نازل يدوم بهم إلى النار، أي: فهو عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ بدايته لحظة نزول هذا العذاب في الصباح، ولا نهاية له والعياذ بالله، ((فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ)). ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))، قال الزمخشري: (فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: ((فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ)) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}؟ وقبل أن نبين هذا: معلومٌ أننا تكلمنا من قبل على سبب التكرار، فهو إما للتأكيد وإما للتأسيس، فمتى احتمل الكلام التأسيس والتوكيد فإنه يترجح القول بالتأسيس؛ لأن فيه معنى جديداً، كذلك هنا، ولها نظائر في عدة مواضع من القرآن كقوله في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، وقوله تعالى في المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15]، وغير ذلك. فيقول الزمخشري: فائدة هذا التكرار أن يجددوا عند استماع كل نبإٍ من أنباء الأولين ادكاراً واتعاظاً، وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو ولا تستولي عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير كقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، عند كل نعمة أعدها في سورة الرحمن، وقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15]، عند كل آية أوردها في سورة المرسلات، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في نفسها لتكون العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاء آل فرعون النذر أخذ عزيز مقتدر)

تفسير قوله تعالى: (ولقد جاء آل فرعون النذر أخذ عزيز مقتدر) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر:40 - 41]. (ولقد جاء آل فرعون): وهم القبط، و (النذر): موسى وهارون، وكما قلنا في نظائرها: إما (النذر) جمع نذير، وإما (النذر) بمعنى الإنذار. فإذا قلنا: (النذر) جمع نذير: فيكون قد عبر عن موسى وهارون وهما مثنى بالجمع، ويكون جمْعُها للتعظيم. ((كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا)) يعني الآيات التسع، أو الأدلة والحجج التي أتتهم ناطقة بوحدانيته تبارك وتعالى. ((فَأَخَذْنَاهُمْ)): بالعذاب ((أَخْذَ عَزِيزٍ)) غالب في انتقامه، وعاقبناهم عقوبة شديد لا يغالَب، ((مُقْتَدِرٍ)) عظيم القدرة لا يعجزه شيء. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن آل فرعون جاءتهم النذر. الثاني: أنهم كذبوا بآيات الله. الثالث: أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر.

ذكر ما يوضح أن فرعون وقومه جاءتهم النذر

ذكر ما يوضح أن فرعون وقومه جاءتهم النذر أما الأول وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر: فقد وضحه قوله تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} [طه:47]. أما الإنذار ففي قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]. وفي هذه الآيات سؤال معروف، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون، كما قال تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16]). وهنا جمع (النذر) في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}، وللعلماء عن هذا أجوبة: أحدها: أن أقل الجمع اثنان، كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وذكره صاحب مراقي السعود بقوله: أقل معنى الجمع في المشتهِرِ الاثنان في رأي الإمام الحميري ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، فجمع (قلوب) مع أنهما قلبان. وقال تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11]. والمراد بالإخوة اثنان فصاعداً كما عليه الصحابة فمن بعدهم، خلافاً لـ ابن عباس رضي الله عنهما. وقال تبارك وتعالى: {وَمِنَ آنَاءِ الَّليْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، وله طرفان. ومنها: ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بـ (النذر): موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء؛ لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون. ومنها: أن (النذر) مصدر بمعنى الإنذار. كما أشرنا. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، ومن كذب نذيراً واحداً فقد كذب جميع النذر؛ لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة، وهي مضمون (لا إله إلا الله) كما أوضحه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]. وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميعهم في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلَاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقَّاً} [النساء:150 - 151]، وأشار إلى ذلك في قوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} [النساء:152]. وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد هو تكذيب لجميع الرسل في قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحاً وحده، حيث قال تبارك وتعالى لما فصَّل ذلك: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} [الشعراء:106]، إلى قوله: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء:117]، كذبوا واحداً، ولم يقل: كذبونا. فالذي أرسل إليهم واحد؛ لكن عبر عنهم بالجمع؛ لأن دعوة الرسل واحدة، فمن كذب واحداً صح أن يطلق عليه أنه كذب الجميع؛ لأن دعوتهم واحدة، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده، حيث أفرده بقوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:124]. ونحو ذلك في قصة صالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وأصحاب الأيكة، كما هو معلوم وهو واضح لا خفاء فيه، ويزيده إيضاحاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء أولاد علات؛ ديننا واحد) (أولاد علات) يعني: أولاد ضرائر الأب واحد لكن الزوجات شتى، فالعقيدة واحدة (لا إله إلا الله) لكن الشرائع تختلف، فهم كلهم متفقون في الأصول، وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع. هذا فيما يتعلق بالأمر الأول وهو ما دل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}.

ذكر ما يوضح تكذيب فرعون للنذر ونزول العذاب به

ذكر ما يوضح تكذيب فرعون للنذر ونزول العذاب به والأمر الثاني، وهو ما دل عليه قوله تعالى: ((كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا)) فقد وضحه قوله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:132]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56]، وقال تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات:20 - 21]، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُوَّاً} [النمل:13 - 14]. أما الأمر الثالث وهو قوله تعالى: ((فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)) فقد بينه قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40]. وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78]. وقال تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]. وقوله: ((أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ))، يوضحه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]. وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102])، و (العزيز): الغالب، و (المقتدر): شديد القدرة عظيمها.

تفسير قوله تعالى: (أكفاركم خير من أولئكم والساعة أدهى وأمر)

تفسير قوله تعالى: (أكفاركم خير من أولئكم والساعة أدهى وأمر) قال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:43 - 46]. ((أَكُفَّارُكُمْ)): هذا استفهام إنكاري معناه: إن كفاركم يا قريش ليسوا بأقوى من قوم نوح وعاد وثمود، وقد أهلكناهم. ((خَيْرٌ)): أشد وأقوى ((مِنْ أُوْلَئِكُمْ)) الكفار المعدودين الذين حلت بهم النقمة حتى يأمنوا جانبها! ((أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)) يعني: في الكتب المتقدمة، أي: هل معكم براءة من أن يصيبكم ما أصابهم من عقاب الله تبارك وتعالى؟ هل عندكم أمان من الله، مع أنكم على شاكلة من مضى نبؤهم؟ فأنتم أنتم تفعلون أفعالهم، فلا تنتظروا إلا جزاءهم، فإنكم على شاكلتهم، وهم كانوا أقوى منكم، ومع ذلك أهلكهم الله! {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} يعني: بل أيقولون: نحن يد واحدة على من خالفنا فننتصر منهم؟ فمعنى قوله: {مُنْتَصِرٌ} ممتنع حصين لا يرام. أو منتصر ممن أراد حربنا وتفريق كلمتنا. أو: متناصر، ينصر بعضنا بعضاً. فالافتعال بمعنى التفاعل، والاختصام بمعنى التخاصم وإفراد (منتصر) مراعاة للفظ (جميع)؛ لأن لفظة (جميع) هي على لفظ واحد، وإن كانت اسماً لجماعة؛ فهذا لأجل خفة الإفراد ولرعاية الفاصلة. ((سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ)) يعني: جمع كفار قريش ((وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)) أي: يولون أدبارهم المؤمنين بالله عند نزالهم. وإفراد (الدبر) لإرادة الجنس، كما تقول: إن فلاناً لكثير الدينار والدرهم، ولرعاية الفواصل ومشاكلة قرائنه. وقد وقع ذلك يوم بدر، وهذا من دلائل النبوة؛ لأن هذه الآية مكية، ففيها إخبار عن الغيب، وهو من معجزات القرآن الكريم، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، وهذا ما حصل في غزوة بدر. {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} يقول ابن جرير: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون من أنهم لا يبعثون بعد مماتهم، ((بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ)) للبعث والعقاب ((وَالسَّاعَةُ أَدْهَى))، أي: أعظم داهية، والداهية هي الأمر المنكر الذي لا يُهتدى لدوائه، ((وَأَمَرُّ)) يعني: أمر مذاقاً من القتل والأسر. أو أشد عليهم من الهزيمة التي سيهزمونها إذا التقوا مع المؤمنين للقتال.

تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في ضلال وسعر كلمح بالبصر)

تفسير قوله تعالى: (إن المجرمين في ضلال وسعر كلمح بالبصر) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:47 - 50]. ثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن مشركي مكة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:47 - 49]). ((إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ)) أي: عن الحق في الدنيا ((وَسُعُرٍ))، أي: نيران تستعر عليهم في الآخرة. وقيل: ((فِي ضَلالٍ))، أي: عن طريق الحق؛ لِعَمى قلوبهم بظلمة صفات نفوسهم، ((وَسُعُرٍ)) أي: جنون ووَلَهٍ؛ لاحتجاب عقولهم عن نور الحق بشوائب الوهم وحيرتها في الباطل. ((يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ))، أي: يجرون عليها، ((ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ))، أي: ذوقوا حرها وألمها, و (سقر): من أسماء جهنم أعاذنا الله منها، ولا ينصرف للعلمية والتأنيث. ثم يقول تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أي: بمقدار استوفي فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبباتها، ومنه خلق دار العذاب لما كسبت الأيدي، وإذاقة ألمها جزاء الزيغ عن الهدى، وهذه الآية كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرَاً} [الفرقان:2]، وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3] أي: قدر قدراً وهدى الخلائق إليه. ولا مانع أن تكون هذه الآيات وما بعدها إلفاتاً لعظمته تعالى وكبير قدرته، وأن من كانت له تلك النعوت المثلى لجدير أن يُعبد وحده، ويُرهب بأسه، ويُتقى بطشه، لا سيما وقد صدع الداعي بإنذاره، ومن أنذر فقد أعذر. و (كل) في قوله: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ))، مقدر بفعل يعني: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر. وفي صحيح مسلم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكسل). وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (كل شيء بقدر حتى وضع يدك على خدك)، يعني: ما من شيء يقع في الوجود إلا بقدر سابق من الله تبارك وتعالى. ((وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ))، يعني: مرة واحدة لا مثنوية لها، فلا يحتاج إلى تكرار الأمر: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. ((وَمَا أَمْرُنَا)) الذي به الإيجاد ((إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ))، أي: كلمة واحدة يكون بها كل شيء بمقتضى استعداده ((كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)) في السرعة. وقيل: المراد بـ (أمرنا) هنا: قيام القيامة أو الساعة.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا أشياعكم وكل صغير وكبير مستطر)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أهلكنا أشياعكم وكل صغير وكبير مستطر) قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:51 - 53]. ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ)) يعني: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة، فأصل معنى (الأشياع) جمع شيعة، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع. ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذُكر إما باستعماله في لازمه أو بطريق الاستعارة. ((فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)): هل من متعظ بذلك ينزجر به؟ {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} ضمير الفاعل في قوله (فعلوه) تعود إلى الأمم السابقة، أي: فعله هؤلاء الأشياع، {فِي الزُّبُرِ}، أي: في الكتب. والكتب إما أن يقصد بها اللوح المحفوظ، أو التي أحصتها الحفظة عليهم. ((وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ)) من الأعمال المتقدمة ((مُسْتَطَرٌ))، مكتوب مسطور لا يمحى ولا يُنسى، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً} [الكهف:49]. وقال عز وجل: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً} [الإسراء:13 - 14]. وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا عائشة! إياك ومحقرات الذنوب؛ فإن لها من الله طالباً). فمعنى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} أن كل ما يفعله الإنسان مدون عليه مسئول عنه، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بالصغائر أو يحتقرها؛ لأنها كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل محقرات الأعمال كمثل قوم كانوا بفلاة، فحضر صنيع القوم فجعل الرجل يجيء بعود. وقيل: يجيء ببعرة، حتى أوقدوا ناراً عظيمة وأنضجوا بها هذا الطعام)، فالبعرة أو العود الصغير هو شيء صغير في نفسه؛ لكن عندما ينضم شيء صغير إلى شيء صغير يصير كبيراً مهلكاً، كما قال بعض العلماء: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار والله أعلم.

الرحمن [1 - 13]

تفسير سورة الرحمن [1 - 13]

تفسير قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن)

تفسير قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن) نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة الرحمن وهي السورة الخامسة والخمسون في ترتيب المصحف الشريف. يقول المهايمي: سميت به؛ لأنها مملوءة بذكر الآلاء الجليلة، وهي راجعة إلى هذا الاسم. إذاً: هذه السورة حافلة بذكر نعم الله سبحانه وتعالى ومننه على عباده، وكل هذه النعم إنما هي من آثار اسمه الكريم الرحمن. وهي سورة مكية على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وآيها ثمان وسبعون آية. وقد روى الإمام أحمد: أن أول مفصل ابن مسعود كان الرحمن. والمعروف أن الراجح في هذا أن أول المفصل سورة ق كما بينا ذلك في موضعه. وقال مقاتل: لما نزل قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:60]، قال كفار مكة: وما الرحمن؟ فقال الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2]. يعني: أن الرحمن الذي أنكروه هو الذي علم القرآن، وتكرر منهم ذلك أيضاً في موقف آخر كما في كتابة صلح الحديبية، حينما أنكروا أن يكتب في وثيقة الصلح: بسم الله الرحمن الرحيم، وأصروا على أن يكتبوا باسمك اللهم؛ إنكاراً لاسم الرحمن جل جلاله، وهذا منهم مكابرة، وإلا فاستعمال هذا الاسم الجليل شائع في أشعارهم قبل الإسلام، وكانوا يعرفون الله سبحانه وتعالى بأنه الرحمن أيضاً، لكن هذا من الجحود ومن الكفران والاستكبار. يقول الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1 - 2] أي: بصر به الناس وأخبرهم بما فيه رضاه وما فيه سخطه. {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} لفظة (القرآن) تعرب على أنها مفعول به ثان؛ لأن (علّم) تتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول هو الرسول، فيكون التقدير: علم الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم القرآن، وعلم أمته هذا القرآن الكريم. وقيل: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} بمعنى: يسر القرآن. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: بصر به، وعلمهم وأخبرهم بما فيه رضاه وما فيه سخطه برحمته، فهذا التعليم وهذه الهداية هي من رحمة الله سبحانه وتعالى؛ ليطاع باتباع ما يرضيه، وعمل ما أمر به، وباجتناب ما نهى عنه وأوعد عليه، فينال جزيل ثوابه وينجى من أليم عقابه. قال القاضي: لما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية، صدرها بهذا الاسم الفريد (الرَّحْمَنُ). وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها على الإطلاق على البشرية وهي نعمة إنزال القرآن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالقرآن هو أصل كل النعم الدينية، وهو أجل هذه النعم الدينية، يقول عز وجل: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فإنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه هذا كله؛ لأن القرآن أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوحي وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصدق لما سبقه من الكتب كما أنه مهيمن عليها. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي: علم نبيه صلى الله عليه وسلم القرآن فتلقته أمته عنه، وهذه الآية الكريمة تتضمن رد الله على الكفار في قولهم: إنه تعلم هذا القرآن من بشر، كما قال تبارك تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103]، وكذلك في قوله تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] وهذا الوليد بن المغيرة حينما زعم أن القرآن سحر يؤثر. قوله: (يؤثر) يعني: ينقل ويرويه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن غيره. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:4 - 5]. فقوله تبارك وتعالى هنا: {الرَّحْمَنُ} * {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} فيه رد على كل هذه الفرق، يعني: ليس الأمر كما زعمتم من أن هذا القرآن سحر يؤثر، أو إنما علمه بشر، أو أساطير الأولين وغيره ذلك، بل الرحمن جل وعلا هو الذي علمه هذا القرآن. والآيات الدالة على هذا كثيرة جداً، كقوله تعالى في جملة من الآيات تشهد بأن الله هو الذي أنزل هذا القرآن: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:6]، وقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، وقال تعالى: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت:1 - 4]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، صلى الله عليه وآله وسلم. فلاشك أن أعظم ما علمه الله سبحانه وتعالى هو هذا القرآن العظيم، وقال أيضاً: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. وبين الله سبحانه وتعالى أن أعظم نعمة أنعمها على الرسول صلى الله عليه وسلم في المقام الأول ثم على أمته هي تعليم هذا القرآن، فقد قال تبارك وتعالى في سياق الامتنان: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] وأرشدنا الله سبحانه وتعالى وعلمنا أن نحمده على نعمة إنزال القرآن، فقال تبارك وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، وقال تبارك وتعالى مبيناً أن إنزال القرآن رحمة لهذا الخلق، فقال: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]، وقال أيضاً: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان:5 - 6]. فقوله تعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، فيه حذف أحد المفعولين، والتحقيق -كما يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى- أن المحذوف هو المفعول الأول لا الثاني كما ظنه الفخر الرازي، وقد رده عليه أبو حيان. والصواب: هو ما ذكره من أن المحذوف هو المفعول الأول وتقديره: علم النبي القرآن، أو علم جبريل القرآن، أو علم الإنسان القرآن.

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان علمه البيان)

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان علمه البيان) قال تبارك وتعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3 - 4] إيماء بأن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وميزهم عن سائر الحيوانات بالبيان والنطق، والبيان هو التعبير عما في الضمير وإفهام الآخر، أي: أن يستطيع أن يعبر عما يكنه من المعاني في ضميره، ويستطيع أن يفهم غيره بهذه اللغة وبهذا البيان بما عنده، وهذا يدرك بسبب تلقي الوحي، والتعرف على الحق وتعلم الشرع. فإذا كان خلق الله لهم إنما هو في الحقيقة لذلك، اقتضى ذلك اتصاله بالقرآن وتنزيله الذي هو منبعه وأساس بنيانه، {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. ونلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} وقال مباشرة بعدها في الإنسان: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) فنجد كثيراً من التعابير في الخلق بالنسبة للإنسان وسائر المخلوقات، أما القرآن فما جاء أبداً التعبير بأنه مخلوق؛ لأن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى ليس بمخلوق، فلذلك هذا وصف اتصل بالقرآن {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ولم يقل: خلق القرآن، أما الإنسان فقال فيه: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) إذاً: في هذا إيماء بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، بخلاف هذه المحدثات. قوله تعالى: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))، اختلف فيه فقيل: الإنسان اسم جنس، يعني: خلق الناس جميعاً، وعلى هذا الأساس فقوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ما المقصود بالبيان فيه: أي علمه النطق والتمييز، وقيل: الحلال والحرام، وقيل: ما يقول وما يقال له، وقيل: الخير والشر، وقيل: طرق الهدى، وقيل: الكتابة والخط. إلا أن الكثير من المفسرين رجحوا قول الحسن من أن البيان هو النطق والتمييز. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى؛ لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن، وهو أداء تلاوته، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين، على اختلاف مخارجها وأنواعها. إذاً: قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} الأرجح أن المقصود بالإنسان جنس الإنسان، والمقصود بالبيان: النطق والتمييز. وقيل: الإنسان آدم، والبيان أسماء كل شيء أو بيان كل شيء أو اللغة. وقيل: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) أي: خلق محمداً صلى الله عليه وسلم. وقوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أي: علمه بيان ما كان وما يكون. والظاهر والله تعالى أعلم أن الأقرب هو القول الأول أن الإنسان اسم جنس يعم سائر الناس. هذه الآيات أتت خالية من حرف العطف {الرَّحْمَنُ} * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. يقول الزمخشري: وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟ يعني: أن سبب خلو الآيات من العاطف هو أن الآيات واردة في سياق تعديد النعم، فالله سبحانه وتعالى خلقك أيها الإنسان وعلمك البيان. قال الشهاب المرجح الإشارة إلى أن كلاً منها نعمة مستقلة تقتضي الشكر. قول آخر في تعليل خلو هذه الآيات من حرف العطف: أنه لو حصل عطف قد يقتضي هذا العطف تتابع الصفات أو الأفعال المتشابهة، وإنما خلت من حرف العطف إشارة إلى أن كل نعمة مستقلة بذاتها، فتقتضي الشكر عليها بذاتها، فهذا فيه إيماء إلى تقصير الخلق في شكر هذه النعمة، ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أنها كلها نعمة واحدة، لكن لما خلت من حرف العطف فهذا يؤكد أن كل نعمة مستقلة وحدها. قوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}. فتعليم القرآن نعمة مستقلة تستوجب الشكر، كذلك خلق الإنسان، كذلك تعليمه البيان، وفي ذلك إشارة إلى تقصير الخلق أو قصورهم عن أداء شكر هذه النعم كلها.

النطق أشرف ما خص الله به الإنسان

النطق أشرف ما خص الله به الإنسان وقال الأصفهاني في الذريعة: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان يعني: مما يتميز به أنه حيوان ناطق، لا يوجد غير الإنسان من الحيوانات ناطق، وما عدا ذلك قد ينطق على سبيل التقليد دون أن يعي ما يقول، حتى الببغاء يجيد ترداد الكلام، لكنه لا يعي الكلام ولا يفهمه، إنما عنده القدرة على محاكاة أصوات يسمعها دون أن يعيها أو يفهمها، فالإنسان حيوان ناطق ميزه الله سبحانه وتعالى بهذه النعمة، بل شرفه بهذه النعمة وهي نعمة البيان. يقول: لما كان النطق أشرف ما خص به الإنسان، فإنه صورته المعقولة التي باين بها سائر الحيوان، قال الله عز وجل في بيان تشريف الإنسان بهذا الشرف: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ولم يقل: خلق الإنسان وعلمه البيان، إذ جعل قوله: ((علمه)) تفسيراً لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))؛ تنبيهاً أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان؛ لأن الله خلق الإنسان وخلق الحيوانات، لكن لما خلا من حرف العطف فهمنا أن قوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} هي تفسير لقوله: ((خَلَقَ الإِنسَانَ))، يعني: خلقه مبيناً ناطقاً مميزاً. فهذا تنبيه على أن خلقه إياه هو تخصيصه بالبيان الذي لو توهم مرتفعاً لكانت الإنسانية أقل درجة مما شرفها الله به. ولذلك قيل: لولا اللسان ما الإنسان إلا بهيمة مهملة أو صورة ممثلة. يعني: منظر وشكل فقط كشبح، لكن البيان هو الذي رفعه وشرفه، ولذلك يتفاوت الناس ببيانهم، فإذا سكت الناس فإنهم يتساوون، لكن إذا أفصحوا وبينوا ظهر حينئذ تفاوتهم في علمهم وفي ذكائهم وفي فصاحتهم، وغير ذلك من الصفات التي يتفاوت الناس فيها. وقيل: المرء مخبوء تحت لسانه، فإذا نطق كشف نفسه. وقال الشاعر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم إشارة إلى أن الإنسان قلب ولسان، واللسان يعرب عما في هذا القلب، وما عدا ذلك صورة اللحم والدم. فإذا توهم في ارتفاع النطق الذي هو باللسان، والقوة الناطقة التي هي بالفؤاد حرم من أمرين: النطق فلا يستطيع أن يبين ولا أن يتكلم، وفي نفس الوقت القلب أو الفؤاد الذي يفقه به ويفهم ويميز، فإذا تخيلنا أن هذا الإنسان بدون نطق وبدون بيان وبدون عقل أو قلب، لم يبق إلا صورة اللحم والدم، فيتساوى مع سائر العجماوات. فإذا كان الإنسان هو اللسان، فلا شك أن من كان أكثر منه حظاً فهو أكثر منه إنسانية، والصمت من حيث هو مذموم؛ لأنه من صفات الجمادات فضلاً عن الحيوانات، وقد جعل الله تعالى بعض الحيوانات بلا صوت، وجعل لبعضها صوتاً بلا ترتيب. إذاً: لا يستطيع أي مخلوق آخر أن يبين ويتكلم كما فعل الله ذلك في الإنسان. ومن مدح الصمت فإنما مدح الصمت بالنسبة له؛ لأنه إذا تكلم نطق بشر أو بسوء فالصمت أفضل، مثل قول أحدهم: الصمت أزين للفتى من منطق في غير حينه وكما يقولون: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، هل هذه الكلمة صحيحة؟ لا؛ لأن الإنسان ربما ينطق بكلام هو أثمن من الذهب، وربما ينطق بكلام سيئ فيكون الصمت أفضل منه، فهي مسألة نسبية، فإذا مدح الصمت فذلك مقارنة بالكلام القبيح؛ لأنه إذا صمت فهو على سبيل السلامة لا غنم ولا غرم، لكن إذا نطق بالسوء فهو الغرم، فإذا كان الإنسان مخيراً بين صمت ونطق بالشر فالأولى أن يصمت، أما إذا كان مخيراً بين الصمت والنطق بالخير فالأولى أن ينطق، وقد يجب ويتعين عليه ذلك. سئل حكيم عن فضلهما، فقال: الصمت أفضل حتى يحتاج إلى النطق. وسئل آخر: أيهما أفضل؟ فقال: الصمت عن الخنى أفضل من الكلام في الخطأ. وعنه أخذ الشاعر: الصمت أليق بالفتى من منطق في غير حينه حكى الشهاب أنه يجوز أن يكون (الرحمن) خبراً لمبتدأ محذوف، يعني: كأن المبتدأ يكون الله، والرحمن خبر، وما بعده مستأنف بتعديد نعمه. قوله: ((علم)) من التعليم، ومفعوله مقدر أي: علم الإنسان أو جبريل أو محمداً صلى الله عليه وسلم.

الخلاف في معنى قوله: (خلق الإنسان * علمه البيان)

الخلاف في معنى قوله: (خلق الإنسان * علمه البيان) هناك خلاف في معنى قوله: ((خلق الإنسان)) و ((علمه البيان)). يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3 - 4]: اعلم أولاً أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة، كما أشار إليه تعالى بقوله في أول سورة النحل: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4]. هذا أيضاً ينص بأن خلق الإنسان وتكريمه بإعطائه الإبانة والتوضيح والإفصاح عما في قلبه، بحيث يقوى على الخطاب والمجادلة والمحاججة والنقاش. ثم قال أيضاً: وقوله: في آخر يس: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]. فالإنسان بالأمس نطفة، واليوم هو في غاية البيان وشدة الخطاب، يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام، مع أن الله خلقه من نطفة وجعله خصيماً مبيناً، آية من آياته جل وعلا دالة على أنه المعبود وحده، وأن البعث من القبور حق. انظر إلى هذه النطفة المهينة كيف خلق منها هذا الإنسان وهذا الكيان، حتى إنه قدر على الإبانة وعلى الفصاحة وعلى البلاغة، بل إنه يخاصم حتى في ربه، فانظر بعد ما بين المرتبتين، كما جاء في الحديث القدسي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في كفه، ثم أشار بأصبعه فقال: يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنا تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك ومشيت بين برديك، وصار للأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم -يعني: حتى إذا أتى أوان قبض روحك- قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة)، أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {خَلَقَ الإِنسَانَ} لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان، ولكنه بينها في آيات أخر، كقوله في سورة الفلاح: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14]. وبلا شك فإن في سورة الرحمن آيات لها ارتباط وثيق جداً بالحقائق العلمية الحديثة، ولولا الخوف من الإطالة والتأخر في التفسير لأفضنا في هذا كثيراً. هذه الآية وحدها: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) شرحتها آيات أخرى في القرآن الكريم، ثم أتت العلوم الحديثة وكشفت مؤخراً عن مراحل تكوين الجنين، وبان بذلك أن الوصف الذي في القرآن هو وصف في غاية الدقة لكل المراتب التي يمر بها نمو الجنين في بطن أمه، وكثير من الحقائق العلمية كما أشرنا من قبل. ويكفي أن أشهر مرجع على الإطلاق في علم الأجنة -لدكتور كندي- تضمن صوراً لأجزاء من المصحف من سورة المؤمنون ومن سورة الحج حتى يوثق كلامه، وقال: إن هذا يدل على أن هذا القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبداً أن يكتشف هذه الأشياء من عند نفسه، بل هو تنزيل من لدن حكيم خبير. والأمر يطول لكن بعد أن نفرغ من درس التفسير يمكن أن نفرد للآيات التي لها ارتباط بموضع الإعجاز العلمي دروساً مستقلة إن شاء الله تعالى إن تيسر ذلك. وقد بين القرآن الكريم المراحل التي مر بها خلق الإنسان حتى قبل أن يكون نطفة، وهي أنه كان من تراب ومن ماء ومن طين ومن صلصال كما هو معروف. ثم قال: وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، التحقيق فيه: أن المراد بالبيان: الإفصاح عما في الضمير. وهذا وضحه قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4] فقوله تعالى: ((مُبِينٌ)) على أنه اسم فاعل أبان المتعدية، والمفعول محذوف للتعميم، أي: مبين كل ما يريد بيانه وإظهاره بلسانه مما في ضميره؛ وذلك لأن ربه علمه البيان. ثم قال: وقد امتن الله جل وعلا على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9]. وهذا في سياق المنة، وبلا شك فإن اللسان والشفتين هما آلات البيان.

تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)

تفسير قوله تعالى: (الشمس والقمر بحسبان) قال الله تبارك وتعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]. قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} مبتدأ والخبر محذوف تقديره: يجريان بحسبان. قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي: يجريان بحساب معلوم مقدر في بروزهما ومنازلهما لا يعدوانها، به تتفق أمور الكائنات الحسية، وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الحسبان: مصدر زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في الطغيان والرجحان والكفران، فمعنى: ((بحسبان)) أي: بحساب وتقدير من العزيز العليم، وذلك من آيات الله ونعمه أيضاً على بني آدم؛ لأنهم يعرفون به الشهور والسنين والأيام، ويعرفون شهر الصوم، وأشهر الحج، ويوم الجمعة، وعِدَدَ النساء اللاتي تعتد بالشهور، كاليائسة والصغيرة والمتوفى عنها. وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5]، وقوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12].

تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان)

تفسير قوله تعالى: (والنجم والشجر يسجدان) قال تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. قوله: ((والنجم)) اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية: فقال بعض العلماء: النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول، والشجر هو ما له ساق. وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم نجوم السماء. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه: أن المراد بالنجم هو نجوم السماء، والدليل على ذلك: أن الله جل وعلا في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات بخصوصه، ونعني بآية الحج قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18]، فدلت هذه الآية أن الساجد مع الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وعلى هذا الذي اخترناه فالمراد بالنجم النجوم. يعني: هي مفرد، لكن يراد بها الجمع، ومن ذلك قول الراعي: فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها فقوله: (فباتت تعد النجم) فالنجم هنا مفرد، لكن هي في الحقيقة كانت تعد النجوم؛ لأنه لو كان نجماً واحداً لما تعبت في عده، بل كانت تعد النجوم، وفي لغة العرب يكثر إطلاق المفرد مع إرادة الجمع. ومن ذلك أيضاً قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي: أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد النجم والحصى والتراب قوله: (عدد النجم والحصى والتراب) يعني: عدد النجوم، مع أن اللفظ هنا مفرد. وقول الله تبارك وتعالى هنا: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد:15]، فنسب السجود إلى كل هذه المخلوقات، فسجود كل شيء بحسبه. يعني: كل كائن من المخلوقات له تسبيح وله سجود، لكن منه ما نفهمه وهو الذي يتعلق بلغتنا نحن، أما سجود غيرنا من الكائنات فهذا ليس إلينا؛ لأنه مما لا ندركه كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فأثبت لهم تسبيحهم، ولم يقل: ولكن لا تفقهون تسبيحها مع أن هذا هو الأصل؛ لأنها من غير العقلاء، لكن أنزلها منزلة العقلاء فأتى بضمير العقلاء (هم) تغليباً للعقلاء. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}، قوله: ((والنجم)) أي: النبات الذي ينجم. يعني: الذي يطلع من الأرض ولا ساق له. قوله: ((والشجر)) أي: الذي له ساق. إذاً: القاسمي رجح التفسير الآخر وهو: أن النجم هو الشجر الذي لا ساق له وذلك لاقتران النجم بالشجر. بينما كلمة النجم تحتمل أن تكون النجوم في السماء أو النجوم وهو النبات الذي لا ساق له. وربما الذي أداه إلى هذا القول هو اقترانها بالشجر، فصار نسبة السجود للشجر الذي له ساق، والشجر الذي لا ساق له. قوله: ((يسجدان)) ثنى فعلهما على وفاق لفظهما، وإن كانت هذه الأسماء مفردة في الحقيقة؛ لكنها تدل على المجموع، فالتثنية هنا نظراً إلى اللفظ فقط، أما من حيث المعنى فهي سجود لعدد كبير. ((يسجدان)) أي: ينقادان لله فيما يريد بهما طبعاً، انقياد الساجد من المكلفين طوعاً، وفي الحقيقة مما يؤسف له أن في الأجزاء الأخيرة من تفسير القاسمي ميلاً كثيراً إلى القول بالمجاز، وتوسع في ذلك حتى كأني أكاد أحس أن هناك شخصاً آخر كتب الجزء الأخير هذا؛ لأن كثيراً جداً منه فيه مخالفة لمنهج السلف في تفسير أمثال هذه الأشياء، هل يستحيل أن النجم يسجد لله والشجر يسجد لله؟! إذا قلت: كل يسجد بحسبه، لماذا تنطلق أذهاننا فقط إلى السجود الذي هو متعلق بنا نحن؟ نحن لنا سجود ندركه؛ لأنه متعلق بالسجود الذي نفهمه، ونحن نسبح الله بالطريقة المعروفة، لكن ما الذي يمنع أن الجبال تسبح؟ هل هذا من حيث العقل مستحيل، بحيث أننا نلجأ دائماً إلى المجاز، ونقول: إن تسبيح الجبال هو أن من رآها قال: سبحان الله؟! الذي خلق هذه الجبال وغيرها أتانا بالدليل، مثل قوله تعالى في الآية التي في سورة ص: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18]، ومثل قوله تبارك وتعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، فكان داود عليه السلام يسبح ويذكر الله سبحانه وتعالى بصوت عال، والجبال تردد معه والطيور تسبح من ورائهم. يا ليتنا أدركنا هذا المنظر الرائع! داود عليه السلام يسبح والجبال تنطق بالتسبيح معه، والطيور كذلك، الله قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء. إذاً: الجبال لها تسبيح يناسبها، وكذلك كل هذه المخلوقات لها تسبيح يناسبها، كذلك الموج له تسبيح وكل شيء له تسبيح. وما يدرينا لعل الأصوات التي نسمعها مثل: أصوات العصافير في الصباح وفي المساء، لعل هذه الطيور أيضاً تقول أذكار الصباح والمساء بطريقة يعلمها الله، ألم يعلَّم الله سبحانه وتعالى سليمان عليه السلام لغة الطير، وفهم كلام الهدهد؟ إذاً: ما الذي يدعو الناس إلى اللجوء إلى المجاز؟ هل يعجز الله شيء حتى نهرب إلى المجاز دائماً؟! فالشاهد: أنه لو كان تسبيح الجبال بأن من رآها قال: سبحان الله! فإنها لا تسبح أصلاً، فلماذا نستبعده؟! ولو كان كذلك لما خص تسبيحها بالعشي والإشراق، لكن سيكون هذا في كل وقت؛ لأن الناس إذا رأوها وقالوا: سبحان الله! فهذا سيكون بالعشي والإشراق، والليل والنهار، والظهر والضحى، وكل الأوقات، فعندما يرونها سيقولون: سبحان الذي خلقك! لكن هنا تخصيصها بالعشي والإشراق فيه دليل على أنه تسبيح حقيقي، ولو كان غير حقيقي لم يقل الله تبارك وتعالى في الجبال: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] من الجبال ما يتفطر من خشية الله، ونظائر ذلك كثيرة تكلمنا عنها بالتفصيل أثناء تلخيص كتاب (عبودية الكائنات) للأخ الفاضل الشيخ محمد فريد، وهو كتاب قيم جداً في هذا الباب، ننصح الإخوة بقراءته.

تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)

تفسير قوله تعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) قال تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7 - 9]. قوله: ((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا))، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6]. ((وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا))، يعني: خلقها مرفوعة، وكل ما علا فهو سماء، السحاب سماء، الغلاف الجوي سماء، ما يسمى خطأً بالفضاء سماء. ((وَوَضَعَ الْمِيزَانَ)) أي: العدل بين خلقه في الأرض، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، يعني: وأنزل الكتاب وأنزل الميزان. واختلف في الميزان هنا فقال القاسمي: الميزان هو العدل بين خلقه في الأرض؛ لأن المعادلة موازنة الأشياء، وقيل: هو الميزان المعروف الذي يستعمل لوزن الأشياء؛ كي يتناصف الناس في الحقوق ويأخذ كل إنسان حقه، وقيل: الميزان هو القرآن الكريم نفسه. {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} (أن) فيها قولان: إما بمعنى اللام، يعني: وضع الله سبحانه وتعالى الميزان ليأخذ كل حقه، ولا يطغى أحد على أحد في الميزان، أو (أن) هنا للتفسير، فتكون (لا) للنهي، والمعنى: لا تجاوزوا العدل بالإفراط عن حد الفضيلة والاعتدال، فيلزم الجور الموجب للفساد. {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي: بالاستقامة على الطريقة، وملازمة حد الفضيلة. كما قال تعالى أيضاً: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152]، فقوله تعالى: ((وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)) يعني: لا تنقصوا الوزن. قال بعض الحكماء: العدل ميزان الله تعالى، وضعه للخلق ونصبه للحق. وممن فسر الميزان في الآية بالعدل مجاهد وتبعه ابن جرير وكذا ابن كثير. وجوز أن يراد بالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء، كذلك ما يعرف به مقاييس الأشياء، فالميزان ليس فقط لوزن الأشياء التي توزن بالثقل، وإنما ما يضبط من حقوق الناس ومستحقاتهم، فالميزان ما يعرف به مقادير الأشياء، سواء الأشياء الموزونة أو المكيلة أو المقيسة المذروعة. قال السيوطي في الإكليل: فيه وجوب العدل في الوزن، وتحريم البخس فيه، وعليه فوجه اتصال قوله: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} بما قبله، أنه لما وصف السماء بالرفعة التي هي مصدر القضايا والأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار، ويسوى بين الحقوق والمواهب. ومن اللطائف التي يتسع لها نظم الآية الكريمة قول الرازي: الميزان ذكر ثلاث مرات، كل مرة بمعنى، فالأول: هو الآلة، والثاني: المطر، والثالث: للمفعول، أي: الموزون. يعني: ذهب الرازي إلى أن الميزان هنا ذكر ثلاث مرات، الأول: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:7]، الثاني: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}، الثالث: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، فالأول: هو آلة الوزن التي يعرف بها مقادير الأشياء، أما الثاني: فالمقصود به هنا المصدر، الذي هو الوزن نفسه، أي: ألا تطغوا في عملية الوزن، والثالث: للمفعول، يعني: الشيء الموزون، وهذا من لطائف التفسير. ثم قال: وهو كالقرآن الكريم ذكر بمعنى المصدر في قوله: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، يعني: قراءته، وبمعنى: المقروء، وبمعنى الكتاب الذي فيه المقروء، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد:31] وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. ثم قال: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإن القرآن فيه من العلم ما لا يوجد في غيره من الكتب، والميزان فيه من العدل ما لا يوجد في غيره من الآلات، فهذا وجه الجمع في هذا السياق بين القرآن الكريم وبين الميزان؛ لأن الله تعالى قال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، إلى قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:7 - 8].

تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام)

تفسير قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام) قال تبارك وتعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} [الرحمن:10 - 11]. قوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه وضع الأرض للأنام، والأنام هو الخلق؛ لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار، وحفر الآبار، وزرع الحبوب والثمار، ودفن الأموات، وغير ذلك من المنافع، من أعظم الآيات وأكبر الآلاء التي هي النعم. ولهذا قال الله تبارك وتعالى بعدها مباشرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، إشارة إلى أن خلق الأرض على هذه الصورة المهيأة والمسخرة لمصالحكم ومنافعكم من نعم الله سبحانه وتعالى العظمى عليكم. ثم يقول: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه جل وعلا على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع، وجعلها آية لهم، دالة على كمال قدرة ربهم، واستحقاقه للعبادة وحده، جاء موضحاً في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:30 - 33]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:48]، وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22]، وقال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق:7 - 9]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]. هذا كله إشارة إلى منة خلق الله سبحانه وتعالى لهذه الأرض، والإنسان يقع في تقصير شديد جداً، وهو مستقبح من كل إنسان، ولكنه أقبح من المسلم المؤمن، وهو أن الإنسان لا يستحضر نعماً إلا النعم الخاصة، وربما أيضاً أهمل نعمة هي أعظم نعمة على الإطلاق يمن الله بها على الإنسان وهي نعمة الإسلام، فينبغي للمؤمن بين وقت وآخر أن يذكر نعمة الإسلام، وأن الله هداه للإسلام وشرح له صدره، فهذه أعظم نعمة في الوجود. فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غضب مرة على زوجته، فقال لها: (والله لأسوأنك! فقالت له: هل تملك أن تخرجني من الإسلام بعد أن أعزني الله به؟ قال: لا، قالت: فبم تسوءني إذاً؟) يعني: أي شيء أقل من زوال هذه النعمة فهو أمر هين، ما دمت لا تستطيع أن تنزع من قلبي نعمة الإسلام فلا يضرني شيء مهما فعلت بعد ذلك، إشارة إلى أن أعظم نعمة على الإنسان هي نعمة الهداية إلى الإسلام، فمعظم الناس لا يهتمون إلا بشكر النعم الخاصة: نعمة المال، الصحة، المنصب، الوجاهة، وهكذا؛ لأن النعم عندهم هي هذه، وهذا نظر خاطئ، وتراهم بالمقابل يهملون النعم العامة، مع أنهم يتمتعون بها في كل لحظة، مثل: نعمة الشمس، ونعمة الهواء، ونعم الله سبحانه لا تعد ولا تحصى كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ومجرد ذكر النعم وإمرارها على الفكر والقلب هذا في حد ذاته شكر لله عليها، واعتراف بنسبتها إلى المنعم بها وهو الله سبحانه وتعالى.

أدلة فرضية التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى وآلائه

أدلة فرضية التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى وآلائه إذاً: ينبغي أن نخصص أوقاتاً للتفكر، وإياكم أن تظنوا أن التفكر أمر مستحب، بل التفكر في خلق الله سبحانه وتعالى فريضة وليس أمراً مستحباً، والدليل على ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت: (حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبكت رضي الله تعالى عنها -وكان هذا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- وقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، فقلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك، فقام فأخذ يصلي ويبكي حتى بل لحيته، ثم تمادى في البكاء حتى بل حجره، ثم استمر في البكاء حتى بل الثرى - ابتلت الأرض من دموعه صلى الله عليه وآله وسلم-، فلما دخل عليه بلال ليؤذنه بالصلاة، رآه يبكي فبكى، وقال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزل عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191]) إلى آخر الآيات من أواخر سورة آل عمران. قوله: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها) هذا هو الشاهد، انظر إلى قوله في صدر هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] * {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] إذاً: التفكر ليس شيئاً مستحباً إنما هو واجب، وبه يصل الإنسان إلى تعظيم الله سبحانه وتعالى وزيادة الإيمان واليقين. وهناك دليل آخر من القرآن على وجوب التفكر في بعض هذه الآيات، وهو قوله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] أي: ليتفكر، وهذا أمر، وظاهر الأمر الوجوب إلا أن يصرفه صارف، فهذا أيضاً دليل على وجوب التفكر فيما تأكله من الرزق، فتفكر في نعمة الله عليك في الطعام، فينبغي أن يكون للتفكر وقت مخصص، بأن يخلو الإنسان ويتفكر في آيات الله، وأن يدرس العلوم الحديثة، خاصة أن العلوم الحديثة الآن كشفت عن آيات توحيد الله سبحانه وتعالى بحيث أصبح الإنسان لا يقرأ سطراً إلا ويسبح الله سبحانه وتعالى ويعظمه ويحمده، فآيات الله ظهرت الآن بصورة مبهرة. والعلوم الحديثة مثل: علم الجينات، وعلم الفضاء، وعلم البحار، وعلم النباتات، هذه إذا قرأتها بنية التفكر في خلق الله كما ينبغي لها أن تكون فستكون فرعاً من علم التوحيد. فهنا يمتن الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأنه كلما ذكر جملة من الآيات في سورة الرحمن ختمها بقوله عز وجل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] معناها: أن الله سبحانه وتعالى يمن علينا بنعم معينة ويطالبنا بالتفكر فيها واستحضار نعمة الله فيها، ثم يعاتبنا أننا قصرنا في شكر هذه النعم، فتأملوا كل جملة من الآيات بعدها يأتي: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}. إذاً: فتش عن الآلاء والنعم في الآيات قبل قول الله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)). فهذه الجملة من النعم ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10]، فخلق الأرض واستقرارها والرزق الذي فيها، كل هذه الأشياء لماذا نحن نقصر في شكرها وهي نعم عامة، ونحن نتمتع بها؟! تخيل أن الله منع الله عنك الهواء، أو منع عنك الماء، فهل لأنها نعم عامة لكل البشر فنحن لن نستحضرها؟ تذكروا قصة ذلك الملك الذي أصيب باحتباس في البول وتألم لذلك جداً، حتى أتاه بعض العلماء وقال له: هذا الملك الذي أنت فيه الآن، كم تبذل في سبيل إخراج هذا الذي احتبس منك؟ قال: أبذل ملكي كله. انظروا جعل ملكه في كفة وتفريغ هذا البول في كفة أخرى. إذاً: كم من النعم ييسرها الله سبحانه وتعالى لنا صباح مساء، ولا نحس بقيمتها إلا حينما نفقدها، حاول مرة أن تغمض عينيك، وأن تمشي في الطريق بدون نعمة البصر، حتى تدرك قيمة نعمة البصر، ربما لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها لحظات، لكن تأمل لو أنك تمشي بدونها، كذا في كل نعمة تأمل لو أنك محروم منها، أو اجلس إلى من امتحنه الله بفقد البصر حتى تعرف مدى نعمة الله عليك، كثير منا مثل المسمار -ونعتذر عن هذا التشبيه- لا يتقدم حتى يُضرب على رأسه، فكثير منا لا يستقيم على طاعة الله سبحانه وتعالى ومرضاته إلا إذا ابتلي، أو حرم من النعمة بحيث ينتبه لقيمة هذه النعمة، فالنعم لا تعد ولا تحصى، وكما أشرنا هذه السورة حافلة بذكر النعم التي يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى ضرورة شكرها والتفكر فيها. قوله: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} الأنام قيل: هم الناس، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الإنس والجن.

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام) وما بعدها من الآيات

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام) وما بعدها من الآيات يقول القاسمي: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} أي: مهدها للخلق. {فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي: صنوف مما يتفكه به من ألوان الثمار. {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ} يعني: ذات أوعية الطلع، وهو الذي يطلع فيه العنقود، ثم ينشق عن العنقود فيكون بسراً ثم رطباً، ثم ينضج ويتناهى نضجه واستواؤه، وإنما أفردها بالذكر لما فيها من الفوائد العظيمة. فإذاً: النخل من الفواكه، لكن الله سبحانه وتعالى لخصوصيات في النخل أفرده بالذكر وكأنه ليس من الفواكه، مع أنه فرد من أفرادها ونوع من أنواعها، لكن أشار الله سبحانه وتعالى إليه لأنه أشرف أنواع الفواكه. والنخل أيضاً له علاقة خاصة بالمؤمن، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من الصحابة، فقال لهم: (أخبروني عن شيء من الشجر هو أشبه شيء بالمسلم أو بالمؤمن، فخاض الناس في أنواع الشجر، وكان في القوم عبد الله بن عمر، وهم أن يقول: إنها النخلة، لكنه استحيا؛ لوجود من هم أكبر منه سناً في المجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة)، هناك إشارة أيضاً في القرآن في قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] يعني: النخل {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25]. كذلك النخل بالذات لا يوجد فيه شيء يرمى ويستغنى عنه، فمثلاً: كان العرب الكرام إذا أحبوا أن يكرموا ضيفاً أخذوا جذع نخلة وفتحوه واستخرجوا منه شيئاً اسمه الجمار وقدموه للضيف، وطعمه رائع جداً. إذاً: لو ذهبنا نعدد ونتكلم في نعمة الله سبحانه وتعالى بالنخل لأدركنا لماذا خص الله سبحانه وتعالى النخل بالذكر بعد قوله: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ))، ثم قال: ((وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ)). يقول القاسمي: وإنما أفردها بالذكر لما فيها من الفوائد العظيمة، على ما عرف من اتخاذ الظروف منها -الظروف يعني: الأوعية- والانتفاع بثمارها، وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك. فثمارها تختلف باختلاف الأوقات مع أن أصلها واحد، لكنها تتفاوت في وقت عنها في وقت آخر، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى غيرها من الأشجار. فإذاً: ذكر الفاكهة دون أشجارها كما في قوله: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ)) لأن فوائد أشجارها في عين ثمارها، يعني: فوائد شجر البرتقال والمانجو والموز وكذا وكذا في الثمرة، لكن شجرة النخل كل شيء فيها مفيد.

كلام الشنقيطي على قاعدة: (الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يأتي دليل بالمنع)

كلام الشنقيطي على قاعدة: (الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يأتي دليل بالمنع) وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى أن بعض علماء الأصول أخذ من هذه الآية الكريمة: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} وأمثالها من الآيات كقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، أخذوا: أن الأصل فيما على الأرض الإباحة حتى يأتي دليل خاص بالمنع؛ لأن الآية وردت في سياق الامتنان على العباد {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}. وقال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، فخلقه هذه الأشياء كلها وتسخيرها لبني آدم يدل على أن الأصل فيما هو في هذه الأرض الإباحة إلا أن يرد دليل خاص بالمنع؛ لأن الله أمتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض، وجعل فيها أرزاقهم من القوت، وحثهم على التفكر في هذه الآلاء، وامتن عليهم بها، ومعلوم أن الله جل وعلا لا يمتن علينا بحرام، إذ لا منة في شيء محرم. ومن أدلتهم على هذا الأصل: حصر الأشياء المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتابه تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] إلى آخر الآية، فهذا أيضاً يؤكد أن الأصل هو الإباحة، وأن دائرة التحريم دائرة ضيقة جداً، وهي استثناء وليست أصلاً. وقال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا} [الأعراف:33]، و (إنما) تفيد الحصر {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات. وهذه المسألة فيها قولان آخران للعلماء: أحدهما: أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة. وعللوا ذلك بأن جميع الأشياء مملوكة لله عز وجل، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ليس هذا محل ضبطها. والقول الثاني -وهو يعتبر القول الثالث- هو التوقف وعدم الحكم فيها بغير عنوانها إذا حكم حتى يقوم الدليل، فتحصل أن في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أن الأصل هو المنع. المذهب الثاني: أن الأصل هو الإباحة. المذهب الثالث: التوقف إلى أن يأتي دليل. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل؛ لأن الأعيان التي خلقها الله سبحانه وتعالى في الأرض للناس لها ثلاث حالات: الأولى: أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر بوجه من الوجوه، كأنواع الفواكه مثلاً ونحو ذلك. الثانية: أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع، فهي ضرر محض، كأكل الأعشاب السامة القاتلة مثلاً. الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك؛ لعموم قول الله تبارك وتعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ}، وقوله: {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:11 - 12]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}. وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات: الأولى: أن يكون النفع أرجح من الضرر. الثانية: أن يكون الضرر أرجح من النفع. الثالثة: أن يتساوى الأمران، فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساوياً له فالمنع، لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بمعنى: أن هذا الشيء إذا كان سيأتي بالمفسدة وبالمنفعة وكلاهما متساويتان فإنه في هذه الحالة (درء المضار مقدم على جلب المنافع)، وإن كان النفع أرجح فالأظهر الجواز؛ لأن المقرر في الأصول: أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله: وألغِ إن يك الفساد أبعد أو رجح الإصلاح كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى وانظر تدلي دولي العنب في كل مشرق وكل مغرب ومراده تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة. يعني: إن كانت المفسدة راجحة على المصلحة كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى، يعني: إذا كان هناك أسرى مسلمون -مثلاً- في أيدي الكفار أو النصارى، ولن يطلقوهم إلا بدفع الفدية، ولا شك أن بذل الأموال للكفار مما يقويهم على معاداة المسلمين ومقاتلتهم، فهم ينتفعون بهذا المال، وهذه مضرة وفي نفس الوقت فإن فك أسرى المسلمين مصلحة، إلا أن المصلحة هنا تترجح على المفسدة، فبالتالي يبذل المال للكفار، مع أن فيه ضرراً يترجح عليه مصلحة إطلاق الأسارى. كذلك زراعة العنب، فالعنب -مثلاً- قد يستعمل عصيره في صناعة الخمر، لكن الأصل استعماله فيما يباح، فالمصلحة هنا تترجح على وجود احتمال أنه يصنع به الخمر. وصاحب مراقي السعود ذكر هذه القاعدة وهي: تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة أو البعيدة ومثل لها بالمثالين السابقين، وهما: الأول: أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداءً للأسارى. الثاني: أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه؛ لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهذا التفصيل الذي اخترنا قد أشار له صاحب المراقي بقوله: والحكم ما به يجيء الشرع وأصل كل ما يضر المنع

تفسير قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان)

تفسير قوله تعالى: (والحب ذو العصف والريحان) قال تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن:12]. قوله: ((والحب)) هنا مفرد ويراد به الجمع، يعني: جميع الحبوب كالبر والشعير وغير ذلك. ((ذو العصف)) قيل: الورق، وقيل: المأكول من الحب، والأقرب والله تعالى أعلم أن العصف هو ورق الزرع، أو الورق اليابس كالتبن. ((والريحان)) أي: الورق الأخضر، وهذا تذكير بالنعمة به وبورقه في حالتي الاخضرار واليبس، وقلنا: إن العصف هو الورق اليابس الجاف، وأما الريحان فهو الورق في حالة كونه خضراً. إذاً: هنا إشارة إلى حالتي الورق، فهو أحياناً يكون يابساً، وأحياناً يكون غضاً طرياً أخضر. قوله: (والريحان) على قراءة الجر هو الورق الأخضر، لكن على قراءة الرفع ((وَالرَّيْحَانُ)) هو الزرع الأخضر مطلقاً، يعني: أي زرع أخضر يطلق عليه الريحان، وسمي به تشبيهاً له بالروح؛ لأنه ما دام أخضر فهو حي. قال ابن عباس: (الريحان خضر الزرع). وقال القرطبي: الريحان: إما فيعلان من روح، فقلبت الواو ياء وأدغما ثم خفف، أو فعلان قلبت واوه ياء للتخفيف، أو للفصل بينه وبين الروحان وهو ما له روح.

الأقوال في تفسير الريحان

الأقوال في تفسير الريحان ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى الخلاف في تفسير الريحان وقال: إن هناك أربعة أقوال في تفسير الريحان: القول الأول: أن الريحان هو الرزق. يعني: الأرض فيها فاكهة وكذا وكذا، وفيها أيضاً الريحان، فالريحان هو الرزق، تقول: خرجنا نطلب ريحان الله، يعني: رزق الله سبحانه وتعالى. وقال النمر بن تولب: فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر غمام ينزل رزق العباد فأحيا البلاد وطاب الشجر فقوله: (وريحانه) يعني: رزقه. القول الثاني: أن الريحان هو خضرة الزرع، ويسمى ريحاناً لاستراحة النفس بالنظر إليه، ولا شك أن النظر إلى اللون الأخضر في النباتات بالذات له أثر رائع جداً في استمتاع النفس واستراحتها. القول الثالث: أن الريحان هو هذا الريحان الذي يشم. يعني: هو هذا الذي له رائحة نفاذة طيبة معروفة. القول الرابع: أنه ما لم يؤكل من الحب يسمى الريحان، وأما العصف فهو ما يؤكل من الحب. فهذه الأقوال الأربعة ذكرها الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسيره (زاد المسير في علم التفسير).

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فيها فاكهة والحب ذو العصف والريحان)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (فيها فاكهة والحب ذو العصف والريحان) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ)) أي: فواكه كثيرة، وهذا أسلوب عربي معروف. ((وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ)) أي: صاحبة الأكمام. والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها، شبه اللسان ثم ينفخ عن النَّور. وقيل: هو ليفها، واختار ابن جرير شموله للأمرين. ((وَالْحَبُّ)) كالقمح ونحوه. ((ذُو الْعَصْفِ)) قال أكثر العلماء: العصف: ورق الزرع، ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]. وقيل: العصف التبن. ((وَالرَّيْحَانُ)) اختلف العلماء في معناه: فقال بعض أهل العلم: هو كل ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه. وقال بعض العلماء: الريحان الرزق، ومنه قول النمر بن تولب العكلي: فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر غمام ينزل رزق العباد فأحيا البلاد وطاب الشجر ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين. وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}، بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وهو عطف على (فاكهة) أي: فيها فاكهة وفيها الحب إلخ. وقرأ ابن عامر: (والحبَ ذَا العصفِ والريحانَ) بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث، وفي رسم المصحف الشامي (ذا العصف) بألف بعد الذال مكان الواو، والمعنى على قراءته: وخلق الحب ذا العصف والريحان، وعلى هاتين القراءتين فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين. وقراءة حمزة والكسائي فبضم الباء في (الحبُّ) وضم الذال في (ذو العصف) وكسر نون (الريحانِ) عطفاً على العصف، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم؛ لأن الحب الذي هو القمح ونحوه صاحب عصف، وهو الورق أو التبن، وليس صاحب مشموم طيب ريح. فيتعين على هذه القراءة -أي: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ} [الرحمن:12]- أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن، والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب، فالآية على هذا المعنى كقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:31 - 32] يعني: الفاكهة متاعاً لكم، والأب متاعاً لأنعامكم. وقوله تعالى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} [السجدة:27]، وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:53 - 54]، وقوله تعالى: {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} [النحل:10 - 11]. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((فِيهَا فَاكِهَةٌ)) ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى في سورة الفلاح: {لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:19]، وقوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] إلى غير ذلك من الآيات. وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9] وقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا} [عبس:27 - 28]، وقوله تعالى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس:33]، وقوله تعالى: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} [الأنعام:99]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام:95] إلى غير ذلك من الآيات. وما ذكره تعالى من الامتنان بالنخل جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق:10 - 11]، وقوله تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [المؤمنون:19] والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة. وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي جاء موضحاً في آيات كثيرة أيضاً، كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر:13]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [يونس:31]، وقوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك:21] وقوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر:64] والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة.

تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (فبأي آلاءِ ربكما تكذبان) قال الله تبارك وتعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]. يقول تعالى بعد ذكر هذه الجملة العظيمة من النعم التي ابتدأها بأشرف وأعظم نعمة على الإطلاق وهي نعمة إيحاء القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: لما عدد الله سبحانه وتعالى في هذه السورة نعماءه وأذكر عباده آلاءه، ونبأهم على قدرته، جعل كل كلمة من ذلك فاصلة بين كل مجموعة من النعم تنفصل عما بعدها بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.

وجه تكرار: قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ومعناه

وجه تكرار: قوله تعالى: (فبأي آلاءِ ربكما تكذبان) ومعناه ذهب بعض العلماء إلى أن التكرار هنا للتوكيد، وصحيح أن العرب يستعملون أحياناً التكرار من أجل إفادة التوكيد، تقول مثلاً: نعم نعم، هذا تكرار من أجل التوكيد. لكن متى ما احتمل الكلام التوكيد وجب حمله على التأسيس لأن فيه معنى جديداً، فمثلاً قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1] فالصد له معنيان: الأول: أن الصد بمعنى الإعراض، كما تقول مثلاً: كلمته فصد عني، يعني: فأعرض عني، فالفعل هنا لازم غير متعد، له فاعل فقط وليس له مفعول. الثاني: إذا كان الفعل متعدياً فيكون بمعنى الصد عن سبيل الله، كالكافر الذي يشنع على الإسلام أو ينفر الناس منه فهو يصد عن سبيل الله. إذاً: فقوله تعالى مثلاً: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:1] يحتمل أن يكون الصدود بمعنى الإعراض فيكون هنا تكرار؛ لأن كلمة (كفروا) هي بمعنى أعرضوا وكذبوا، فعلى هذا يكون هذا للتوكيد، وتأتي بمعنى كفروا في ذواتهم وصدوا غيرهم، فهم ضالون قد أضلوا أنفسهم وأضلوا غيرهم، هذا على أن الفعل متعد. إذاً: مادام اللفظ محتملاً التأكيد ففي هذه الحالة يترجح حمله على التأسيس، وهذا له نظائر كثيرة منها هذه الآية التي تتكرر في سورة الرحمن {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فهي ليست للتوكيد وإنما هي للتأسيس، بمعنى: أنها كلما ذكرت فهي تشير إلى نوع معين من النعم التي ذكرت قبلها مباشرة، كما في قوله تعالى في سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يعني: الذين كذبوا بما سبق ذكره، فهي ليست للتوكيد وإنما هي لتأسيس معنى جديد. فهنا لما عدد الله سبحانه وتعالى هذه الجملة من النعم جعل هذه الآية {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فاصلة بين كل نعمتين ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقولك للرجل: ألم أبوئك منزلاًَ وكنت طريداً؟ أفتنكر هذا؟! ألم أحج بك وأنت صرورة؟! أفتنكر هذا؟! كذلك هنا يذكر الله جملة من الآيات ثم يقول: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.

صورة من تفاعل الجن مع القرآن، وبعض صور التفاعل وحكمه

صورة من تفاعل الجن مع القرآن، وبعض صور التفاعل وحكمه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً)؛ لأن هذه السورة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على الجن ليلة الجن، فلما رأى الصحابة سكوتاً قال: (ما لي أراكم سكوتاً!) هذه إشارة إلى التفاعل مع القرآن؛ لأن بعض الكفار أسلموا لما نظروا إلى المسلمين وهم يصلون، يقول هذا الذي كان كافراً ثم أسلم أشعر أنه يتحدث مع كائن لا نراه. فأنت في القرآن تتكلم مع الله سبحانه وتعالى وتناجيه وتمجده وتسبحه وتحمده، يعني: هناك تفاعل مع كلام الله سبحانه وتعالى. إذاً: هذه إشارة إلى أدب من الآداب التي يلتزمها المسلم عند تلاوة القرآن وهي التفاعل مع الآيات، إذا قرأت آية رحمة تسأل الله الرحمة، وإذا قرأت آية عذاب تتعوذ بالله من العذاب، وإذا قرأت آية سؤال تسأل، مثلاً في هذه السورة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ترد أيضاً بما يدل على أنك لا تجحد هذه النعم، فالتفاعل مع القرآن من آداب تلاوة القرآن الكريم، يعني: أن تتفاعل مع كل عبارة بما يناسبها، خاصة إذا كان فيها استفهام أو إقرار بنعمة معينة ونحو ذلك، كما في آخر سورة القيامة مثلاً: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]؟ تقول: بلى، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]، تقول: بلى، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]؟ تقول: بلى، {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، فتتوقف وتقول: صدق الله، {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36]؟ تقول: نعم ثوب الكفار ما كانوا يفعلون، مثلاً في آخر سورة الملك: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30]، تقول: الله رب العالمين، فلو لم تكن العبارة منصوصاً عليها إلا أن هذا من التفاعل المحمود مع القرآن الكريم، كذلك هنا في هذه السورة عاتب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على سكوتهم حينما سمعوا سورة الرحمن، فقال لهم: (ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً) وفي بعض الروايات: (ما تلوتها على الجن ليلة الجن إلا كانوا أحسن مردوداً منكم) يعني: أنتم سكتم لكنهم كانوا يردون كلما قرأت قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وفي هذه الرواية قال: (ما لي أراكم سكوتاً، للجن كانوا أحسن منكم رداً، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلاّ قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد). يعني: كان كلما تلا عليهم هذه الآية كانوا يردون على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القول: (ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد). وهذا رواه الترمذي وقال: غريب، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

حقيقة المخاطبين بقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)

حقيقة المخاطبين بقوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} الخطاب هنا للثقلين، وهذان الثقلان هما الجن والإنس، ومدلول عليهما بقوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} يعني: للخلق، وسوف يأتي النص بذكر الثقلين صريحاً فيما بعد في قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]. فهذا يؤكد أن المقصود بالخطاب هنا الجن والإنس؛ لأنهما المكلفون بشكر النعم، والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتماً، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية؛ لأنه لم يقل: فبأي آلاء إلهكما أو نحو ذلك، وإنما قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)). إذاً التذكير هنا بصفة الربوبية؛ لأنها تنبئ عن الملكية الكلية، وأن الله سبحانه وتعالى مالك كل شيء، فالله يملك ما في السماوات والأرض. كذلك أيضاً الربوبية فيها معنى التربية مع الإضافة إلى ضميره: ((رَبِّكُمَا)) لتأكيد النكير عليهم بإهمال شكر هذه النعم، ولتشديد التوبيخ.

معنى التكذيب بالآلاء وأقسامه

معنى التكذيب بالآلاء وأقسامه ما معنى تكذيبهم بآلائه تعالى؟ معناه: كفرهم بهذه النعم، إما بإنكار كونها نعمة في نفسها، فمن الكفار من لا ينظر إلى هذه النعم على أنها نعمة، وبالذات نعمة القرآن الكريم، مع أن نعمة إنزال القرآن هي أشرف نعمة على الإطلاق امتن الله بها على البشرية في كل عصورها، فمن الكفار من لا يراها نعمة في نفسها، وبهذا استحق أن ينكر الله عليه بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، كذلك ما يستند إلى القرآن من النعم الدينية. أو بإنكار أن هذه النعمة هي من عند الله تبارك وتعالى مع الاعتراف بأنها نعمة في نفسها، وهذا حال سائر الكفار، فهم يعترفون أن الشمس مفيدة للإنسان، ولولا الشمس لحصل كذا، ولولا المطر لحصل كذا، ولولا كذا وكذا من النعم التي يمن الله سبحانه وتعالى علينا بها، فهم يعترفون أنها مفيدة وأنها نعمة، لكن لا ينسبونها إلى المنعم وهو الله سبحانه وتعالى. إذاً: التكذيب بآلائه تعالى كفرهم بها، إما بإنكار كونها نعمة في نفسها كالقرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونها من الله تعالى مع الاعتراف بكونها نعمة في نفسها، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسنادها إلى غيره تعالى استقلالاً، فهم يسندون النعم إلى غير الله استقلالاً أو اشتراكاً صريحاً، فإما يشركون مع الله آلهة أخرى، وإما ينسبونها إلى غير الله تبارك وتعالى، وإما ينسبونها أحياناً إلى أنفسهم كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب كما في قوله هنا: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، ولم يقل: فبأي آلاء ربكما تكفران، وإنما عبر بالتكذيب لأن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك، فكفرهم تكذيب بها لا محالة، فإذا كان الأمر كما فصل فبأي فرد من أفراد آلاء مالككما ومربيكما بتلك الآلاء تكذبان، مع أن كلاً منها ناطق بالحق شاهد بالصدق، كأن كل أية وكل نعمة تنطق بالحق وتشهد بأن لا إله إلا الله، وبحق الله سبحانه وتعالى بأن تشكروا له هذه النعم وتنسبوها إليه، فهي تنطق بالحق وأنتم تكذبونها، كأن الآية نفسها هي التي تتكلم وأنتم تكذبون فيما تشهد به، فلذلك ناسب أن يقول ((تُكَذِّبَانِ)).

شهادة النعم بوحدانية الله سبحانه وتعالى

شهادة النعم بوحدانية الله سبحانه وتعالى إن هذه النعم تنطق وتتكلم وتشهد بالحق كما قال الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فكل كائن ليشهد أن لا إله إلا الله، ويدل على أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تأتي هذه الشهادة بطريقة عجيبة، فيمكننا أن نتعرف على شهادتها بالتفكر فيها، ودلالتها على خلق الله ونعم الله بها، لكن أحياناً يأتي بصورة أصرح وأصرح وأصرح، كم رأينا من أوراق الشجر وقد كتب عليها الله؟ هناك كتاب بالإنجليزية يسمى (تاريخ الأسماك) هذا الكتاب فيه صورة لسمكة مكتوب عليها باللغة العربية الواضحة جداً: لا إله إلا الله. والحوادث في ذلك كثيرة، ولعلكم رأيتم أشياء كثيرة مثل هذا، مثلاً: كان هناك شخص تركي عنده منحل، فاستيقظ في الصباح فوجد حركة نشاط غير عادية في النحل، كأن أمراً وصله وهو ينفذه، فبعد أن فرغوا من الشغل انقشع النحل فإذا بورقة سدر مكتوب عليها لفظ الجلالة (الله) بخط في غاية الروعة والجمال. وعندي هذه الصورة، وعندي صورة أخرى لشجرة في غابة من الغابات في أستراليا، والصورة عبارة عن جذع شجرة على هيئة رجل عربي يلبس قميصاً وهو راكع ومستقبل القبلة. فهذه صورة من صورة الشهادة، وهناك سمكة في السنغال نشرت صورتها مكتوب عليها: محمد عبد الله ورسوله، بخط في غاية الوضوح، هذه الصور تأتي أحياناً بصورة في غاية البساطة حتى يقر هؤلاء الجاحدون بأن لا إله إلا الله؛ لأن كل هذه الآلاء وكل هذه النعم تنطق بأن لا إله إلا الله، وتشهد بشهادة الحق، وتقودك لو تفكرت فيها إلى التوحيد وإلى شهادة الحق، فصار من يجحد بهذه النعم ويغسله عن خالقها ولا يشكره عليها كأنه يكذبها فيما تشهد به، فلذلك قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).

ما جاء من أقوال المفسرين في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)

ما جاء من أقوال المفسرين في قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى في هذه السورة ما يدل على وحدانيته من خلق الإنسان، وتعليم البيان وخلق الشمس والقمر والأرض خاطب الجن والإنس فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: فبأي نعم ربكما تكذبان من هذه الأشياء المذكورة؛ لأنها كلها منعم بها عليكم في دلالتها إياكم على وحدانيته، وفي رزقه إياكم ما به قوامكم. وقال ابن قتيبة: الآلاء النعم، واحدها (ألا) مثل قفا، وإلا مثل معى. فإن قيل: كيف خاطب اثنين وإنما ذكر الإنسان وحده؟ وذلك في قوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار) وكذا الإشارة في صدر السورة بقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4]، وقد سبق أن ذكرنا في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أن هناك تفسيراً لتكذبان وأن معناه: أيها الثقلان؛ لأنه فيما بعد أتى قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]، وهناك تفسير آخر وهو أن الخطاب أساساً موجه للإنسان؛ لأنه هو الذي سبق ذكره وحده، فكيف خوطب الإنسان بقوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))؟ قيل عنه جوابان: الأول: أن العرب تخاطب الواحد والقوم بفعل الاثنين، هذا أسلوب عربي معروف، فالعرب أحياناً تخاطب الشخص الواحد بالفعل الذي يخاطب به الاثنان كما في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24]، والخطاب هنا لخازن النار، وتقول العرب للرجل: ويلك أرحلاها وازجراها. وقال الشاعر وهو مضر بن ربعي الأسدي: فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله واجتز شيحا (صاحبي) يعني: الشخص الذي يحتطب له، وهو شخص واحد، وكان عندهما اللحم يريدان شواءه. (لا تحبسانا) يعني: لا تحبسنا ولا تعطلنا عن شي اللحم، وواضح جداً أن الخطاب لواحد، لكن استعمل خطاب الاثنين. (اجتز شيحا) يعني: اكتف بقطع الشيح؛ لأن الشيح أسهل وأسرع حتى نأكل بسرعة، هذا معنى كلامه. والشاهد هنا في قوله: (لا تحبسانا)، يعني: لا تحبسنا عن شي اللحم. وأنشد أبو ثروان فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أحمي عرضاً ممنعاً وواضح جداً أنه يخاطب ابن عفان وحده. يقول ابن الجوزي: فيروى أن ذلك منهم لأن الرجل أدنى أعوان إبله وغنمه اثنان. يعني: أقل عدد من الأعوان عند العرب للذي يكون معه إبل وغنم يكون اثنان. قال: وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى الكلام على صاحبيه، ألا ترى الشعر أكثر شيء قيل: يا صاحبيَّ يا خليليّ؟ فكثير جداً من الشعراء حتى في الجاهلية، دائماً يقولون: يا صاحبي يا خليليّ. وقال امرؤ القيس: خليليّ مرا بي على أم جندب نقض لبنات الفؤاد المعذب يعني: حاجات الفؤاد المعذب، ثم قال: ألم تر أني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيَّبِ سنلاحظ أنه يخاطب في الظاهر اثنين، لكن اتضح بعد ذلك أنه يخاطب واحداً؛ لأنه في الأول قال: (خليليّ) كعادة العرب في خطاب الواحد بلفظ الاثنين؛ لأن الغالب أنه يكون معه اثنان، فيستعمل معهما صيغة المثنى، فإذا كان معه واحد استعمل أيضاً صيغة الاثنين؛ لأنهم تعودوا عليه. ولهذا قال هنا في البيت الثاني: (ألم تر) يعني: يا صاحبي، الذي عبر عنه قبل ذلك بالاثنين. فهذا هو الجواب الأول، لو قلنا: إن ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) خطاب للإنسان وحده. القول الثاني: وهو الأرجح -والله تعالى أعلم- أن الذكرى أريد به الإنس والجان، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)) يعني: أيها الثقلان، فجرى الخطاب لهما من أول السورة إلى آخرها.

الرحمن [14 - 36]

تفسير سورة الرحمن [14 - 36]

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال الله تبارك وتعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:14 - 16]. قوله تعالى: ((خَلَقَ الإِنسَانَ)) أي: آدم عليه السلام. ((مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ)) قال أبو السعود: تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بموجب شكر النعمة المتعلقة بذات كل واحد من الثقلين؛ لأن الخطاب في هذه السورة هو موجه للثقلين: الجن والإنس، وصرح به في قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:33]، فعلم أن الخطاب بالتثنية موجه للثقلين: الجن والإنس، فهنا تمهيد لما سوف يحصل من التوبيخ على تقصير الجن والإنس في شكر نعم الله تبارك وتعالى المتعلقة بذاتيهما، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بأن خلقه أولاً من صلصال كالفخار، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار: الخزف. وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً، أي: أن الأصل هو التراب، فجعل التراب طيناً لما أضيف إليه الماء، ثم صار كالحمأ المسنون، ثم صار صلصالاً كالفخار، هذه أخبار عن حالات أصله، وقد أتت بكل حالة آية تدل على إحدى هذه المراحل، فلا تعارض بين الآية الناطقة بإحدى هذه المراحل وبين ما نطقت به الآيات الأخرى. ((وَخَلَقَ الْجَانَّ)) أي: الجن أو أبا الجن. ((مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)) أي: من لهب صافٍ، واللهب الصافي هو الذي لا دخان له. ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما ومن سوابغ النعم عليكما، ومما أظهره لكما بالقرآن الكريم.

تفسير قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان ِ)) [الرحمن:17 - 18]. قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} أي: مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما، أو مشرقي الشمس والقمر ومغربيهما. ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) يعني: بما فيهما من النعم والفوائد التي لا تحصى، كاختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه من الخيرات والبركات التي بها قوام العالم.

تفسير قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:19 - 21]. قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}، يعني: أرسل البحرين ((يلتقيان))، من قولك: مرج فلان دابته إذا أرسلها وتركها، والمعنى: أرسل وأجرى البحر الملح والبحر العذب. {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} يعني: يتجاوران، وهذا معروف بظاهرة الأنهار والبحار، فكثير من الأنهار تلتقي في النهاية مع البحار، وتصب فيها ماءها، فما أعجب خلق الله سبحانه وتعالى لهذه البحور والأنهار التي تصب فيها، فلا الأنهار جفت، ولا البحار امتلأت!! فهنا يشير الله سبحانه وتعالى إلى آية أخرى من آياته ونعمة من نعمه وهي قوله: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ))، أي: أرسل وأطلق البحرين ((يَلْتَقِيَانِ))، البحرين: العذب والملح، ويمكن أن يقال: المالح أيضاً كما يقول الشاعر: تلونْتَ ألواناً علي كثيرة وخالط عذباً في إخائك مالح فهذا شاهد في استعمال كلمة مالح في الملح. ((يَلْتَقِيَانِ)) يعني: يتجاوران. ((بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ)) أي: حاجز من قدرة الله تعالى وبديع صنعه. ((لا يَبْغِيَانِ)) أي: لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، والناس المتخصصون في علوم البحار يعرفون جيداً أن هناك منطقة دائماً تكون بين النهر العذب وبين البحر الملح، وهذه منطقة لها خواص معينة، فهي بمثابة برزخ وحاجز حتى إنه لتعيش فيها كائنات مائية خاصة لا تعيش في العذب ولا تعيش في الملح، وهذه نحن نلاحظها هنا في مصر في منطقة رشيد، وهذه الأماكن التي يحصل فيها هذا الإلتقاء والتشابك حينما تصور من الفضاء أو من الجو تلاحظ بشكل مميز، وهي التي تحول دون اختلاط البحرين تماماً في بعضهما البعض، فلا يبغي واحد منهما على الآخر؛ فلذلك قال تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} يعني: إذا دخل أحدهما في الآخر قد يجري فيه فراسخ ولا يتلاشى ولا يضمحل حتى يغير أحدهما طعم الآخر ولونه كما نشاهده. وهذه ليست فقط بين البحار والأنهار، فإن هناك حدوداً ربانية بين البحار، فمثلاً: المحيط الأطلسي والبحر المتوسط عند نقطة التقائهما هناك أيضاً برزخ وحاجز، فخصائص هذا الماء غير خصائص الماء الآخر، والكائنات التي تعيش هنا ليست الكائنات التي تعيش هنا وهكذا، وهذه موجودة حتى بين البحار الكبرى. ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: مما في البحرين وخلقهما من الفوائد.

تفسير قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان) أشار إلى بعض الآلاء التي هي في البحرين العذب والملح بقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:22 - 23]. قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} هذه نعمة جديدة وتوبيخ جديد للجن والإنس على عدم شكر هذه النعمة، أو على التقصير في شكر هذه النعمة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: كبار الدرر أو الدر وصغاره، والمرجان: الخرز الأحمر المعروف، وإنما قيل منهما مع أنه يخرج من أحدهما وهو الملح؛ لأنه لامتدادهما يكون خارجاً منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. قال الناصر: وهذا هو الصواب، ومثله قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: من إحدى القريتين، لكن هو إذا كان من إحدى القريتين فيصدق عليه أنه خرج من مجموع القريتين، كما في قوله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] وليس هناك رسل من الجن، وإنما أتى الرسل من الإنس فقط، فيصدق أيضاً أن يقال: إن الرسل بعثوا من مجموع الإنس والجن، ولا يتعارض هذا مع كونهم من الإنس فقط، فهذا مذهب من يقول: إن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من الملح فقط، قالوا: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا)) من أحدهما وهو الملح، والمقصود: يخرج من مجموعهما فلا يتنافى مع كونه يخرج من الملح فقط، وكما يقال: فلان من أهل مصر، هذه صفة، وإن كان من محلة منها، كأن يكون من الإسكندرية مثلاً أو من المنيا أو غيرها، فيكون من أهل مصر، ولا تعارض بين الاثنين. يقول: ولما كان خروج هذين الصنفين نعمة على الناس لتحليهم بها كما يشير له قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، قال سبحانه: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، ولو تأملنا هذه الآية التي أوردها القاسمي للاستشهاد هنا على نعمة الله سبحانه وتعالى في قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا)) فسوف نبدأ بالحديث عن هذا الباب الشائع عند المفسرين، والذي تناقلوه جيلاً بعد جيل، وهو الذي شرحناه آنفاً، وهو أن المقصود: يخرج منهما، يعني: من أحدهما وهو الملح، بناءً على أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان فقط من الملح، لكن إذا تأملنا هذه الآية: ((وَمِنْ كُلٍّ)) وهذا التنوين هو تنوين تعويض، وهو تعويض عن اسم، فعندما تقول: كل إنسان قائم، فيمكن أن تحذف كلمة إنسان وتنون كل فتصبح كلٌ قائم، فهذا التنوين ينوب عن الاسم، فكذلك هنا: ((وَمِنْ كُلٍّ))، يعني: من كل من البحرين. {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12]، اللحم الطري: الأسماك التي تأكلونها من هذا النوع ومن هذا. فإذاً قوله هو: ((وَمِنْ كُلٍّ)) ينبغي أن يشمل أيضاً قوله: ((وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا))، وهذا يتعارض مع ما سبق، وسوف نوضح هذا إن شاء الله بالتفصيل. فلما كان خروج هذين الصنفين اللؤلؤ والمرجان نعمة على الناس قال تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، وهي كما ذكرنا في أمثالها من قبل. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} قال ابن عباس: أي: أرسلهما، وقال ابن زيد: أي منعهما أن يلتقيان بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما. وعلماء المسلمين والمفسرون في ذلك الوقت لم يكونوا قد أطلعوا على هذه الدراسات الحديثة والتصوير الذي يتم من الفضاء والدراسات بالآلات الحديثة وغير ذلك، لكنهم في ضوء القرآن الكريم فهموا أن بينهما برزخاً لا يبغيان. والمراد بقوله: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ)) الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس، وقال الله تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53] أي: أرسلهما، {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] أي: حدود فاصلة بين الاثنين. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} يعني: جعل بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا، وهنا ابن كثير يفسرها بأن البرزخ حاجز أرضي، في حين أن الآية أوضحت أن المقصود أنه حينما يكون الماء مجاوراً للماء تكون بينهما منطقة البرزخ أو هذا الحاجز. لكن لا شك أن التفسير أحياناً يتأثر بمستوى الدراسات العلمية حسب عصر كل مفسر، وهذا يعتبر من التراث البشري؛ لأن ذلك في حدود علمه، فهي كمعلومات بشرية تركها الله سبحانه وتعالى للبشر يكتشفونها بمرور الأزمان. فلا شك أن قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، إذا كان بينهما البرزخ من البر ومن الأرض فليس هذا التقاءً ولا تظهر بذلك آية، وإنما الآية العظمى في أن يلتقيا بالفعل دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويضمحل فيه. يقول ابن كثير: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} أي: من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى، كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن، وقد صح هذا الإطلاق، واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ، وقيل: كباره وجيده، وقيل: نوع من الجواهر أحمر اللون. أما قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)) فاللحم من كل من الأجاج والعذب، والحلية إنما هي من الملح دون العذب، وهذا التفسير بما كان يعرفه ابن كثير من الثقافة السائدة في ذلك الوقت. يقول ابن كثير: ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) هنا بحث للعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تكلم فيه على هذا الموضوع بكلام جيد سنتلوه عليكم، يقول رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو: ((يُخَرج منهما اللؤلؤ والمرجان)) بضم الياء وفتح الراء مبنية للمفعول، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل يخرج، وقرأه باقي السبعة: (يَخرُج منهما)، بفتح الياء وضم الراء مبنية للفاعل، وعليه فاللؤلؤ فاعل يخرج. ثم يقول: اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن المراد بقوله في هذه الآية: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا))، أي: من مجموعهما الصادق بالبحر الملح، وأن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه، وأن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر الملح وحده دون العذب. وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه؛ لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12] فالتنوين في قوله: ((وَمِنْ كُلٍّ))، تنوين عوض، أي: من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحماً طرياً، وتستخرجون حلية تلبسونها وهي اللؤلؤ والمرجان، وهذا مما لا نزاع فيه. يعلق الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى -والشيخ عطية ممن توفوا في عام الحزن أيضاً وهو العام المنصرم توفي هذا العالم الجليل الذي هو أخص تلامذة الإمام القرآني العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى- يعلق في الهامش على قول شيخه يقول: هذا الاستنتاج الذي توصل إليه فضيلة الوالد رحمه الله يعتبر فتحاً من الله؛ لأنه توصل إليه استنتاجاً، فجاء الواقع يشهد بذلك وإن لم يطلع عليه الشيخ رحمه الله تعالى، فكان ذلك مما يلزم التعليق أو التنبيه عليه، وذلك أنه قد ثبت وجود اللؤلؤ في الماء العذب كما ذهب إليه رحمه الله، كما جاء في دائرة معارف الشعب المصرية عدد (ثلاثة وسبعين) صحيفة (سبعة وثلاثين وخمسمائة)، حيث تكلمت عن اللؤلؤ إلى أن جاء فيها ما نصه: وأنواع المحار جميعها قد تنتج اللؤلؤ ولكنه يوجد غالباً في أنواع معينة منها، فلقد عثر مثلاً على لآلئ رائعة الجمال في محار المياه العذبة التي تعيش في بريطانيا وخاصة أنهار ويلز واسكتنلدا. وأشهر لؤلؤة منها عثر عليها في نهر (كيمواي) في القرن السابع عشر وأهداها أحد نبلاء الإنجليز إلى الملكة كاترين وما زالت محفوظة ضمن مجوهرات التاج البريطاني في برج لندن، ولا يزال الأهالي يقتنون المحار عند مصب هذا النهر إلى آخره. فكان إثبات الشيخ رحمه الله تعالى وجزمه باستخراج اللؤلؤ من الماء العذب مغايراً لما عليه جميع المفسرين إثباتاً مؤيداً بنور الله، شهد بهذا كله الواقع وصدقه الحس، وفي ذلك تأييد لكل مجتهد وجد مستنداً صريحاً لما ذهب إليه، ولما فهمه من كتاب الله وإن غاير أقوال الآخرين ما دام له مستند ظاهر كهذه المسألة، يعني: هذه المعلومات تفيد أنه يخرج اللؤلؤ أيضاً من الأنهار العذبة وليس فقط من المالحة كما كانت معلومات من سبق. يقول: وهذا مصداق ما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه وما نطق به من مشكاة النبوة حينما سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من الوحي؟ فقال: لا، إلا بما في هذه الصحيفة أو فهماً في كتاب الله يعطيه من شاء من عباده، وهذا هو الفهم الصحيح المستند إلى نص صريح يعطيه الله تعالى له رحمه الله رحمة واسعة. ونحن ما فصلنا قليلاً في هذه المسألة إلا لأن هذا القول شائع جداً في كتب التفاسير ويضرب به المثل في أن الخطاب في هذه الآية بالذات يراد به أحد المجموعين وإن كان الخبر يشمل الاثنين. فقوله تعالى: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا)) يعني: من البحر الملح والبحر العذب، على خلاف ما هو شائع عند عامة المفسرين، ولم يخالف فيما نعلم إلا العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ لأنه جمع بين هذا وبين الآية التي في سورة فاطر: ((وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا))، ومن كل أيضاً: ((تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا)).

تفسير قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:24 - 25]، ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. قوله: ((وَلَهُ الْجَوَارِ)) يعني: السفن، جمع جارية. ((الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)) وقراءة أخرى: (المنشِآت) فإذا قلنا: المنشآت -بكسر الشين- فهي بمعنى: الظاهرات السير اللاتي تقبلن وتدبرن بشكل أفقي، وبفتحها المنشآت بمعنى المرفوعات القلاع التي تقبل بهن وتدبر. فقوله: ((وَلَهُ الْجَوَارِ)) يعني: السفن الجارية. وقد فسرت هنا بما كان في زمن المفسرين، فالذي كان يحرك السفينة فيما مضى الشراع فقط، فلذلك قال: (المنشَآت) بمعنى: القلاع اللاتي تقبل بهن وتدبر؛ لأن حركة السفينة تتم حسب حركة الرياح بالأشرعة المعروفة، لكن الآن نحن نرى سفائن منشآت فعلاً في البحار كالأعلام، يعني: كالجبال من ضخامتها. وخبر السفينة التي تسمى (تيتانك) ليس ببعيد، والخبر معروف جداً فإن أصحابها كانوا قد طغوا وتجبروا وبغوا {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24]، وكان الاحتفال بتدشين بناء هذه السفينة فيه نوع من الاغترار الشديد جداً بمدى فخامتها، فأغرقها الله سبحانه وتعالى وأهلكها، وكان بعضهم قد صرح في حينها بأن هذه السفينة لا يمكن أن تغرق بأي حال من الأحوال لما فيها من الاستعدادات والاحتياطات وكذا وكذا. فالشاهد أننا نرى هذه السفن -كنا على شاطئ البحر- في الأفق كأنها جبل جاثم فوق سطح الماء، ليست الأشرعة فقط كما كان عليه الحال فيما مضى، لكنه جسم السفينة نفسه كالجبل، وتعرفون اليوم حاملات الطائرات وبعض السفن التي تكون مدناً كاملة مقامة على ظهر البحر، فهذا كله من تسخير الله ومن نعم الله على العباد، ولكن أكثر الناس لا يشكرون؛ ولذلك قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:24 - 25]. والأعلام: جمع علم، والعلم هو: الجبل الطويل، ولما كانت السفن من أعظم الأسباب للمتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع قال تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: بأي نعمه التي أنعم بها عليكم في هذه الجمادات، من خلق موادها والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإمضائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره سبحانه وتعالى، فالسفينة وهي هذه الكتلة الهائلة على البحر، واستعمالها في نقل الأشياء الثقيلة وفي نقل المسافرين وفي الحروب ونحو ذلك كلّ ذلك لا شك في أنه من قدرة الله تبارك وتعالى؛ لأنه إذا قال قائل: العقل البشري هو الذي يبني هذه الأشياء، فإننا نقول: ومن أعطى الإنسان نعمة العقل؟ الله سبحانه وتعالى، ومن أراد أن يحس بقيمتها فليقارن بين الشخص العاقل وبين الشخص المجنون الذاهب عقله، وانظر إلى الفرق بينهما حتى تدرك ما قيمة العقل، أو بالأحرى قس الإنسان العاقل بالبهائم والحيوانات وقارن بينهما، فالله سبحانه وتعالى هو الذي وهب للإنسان نعمة العقل، وأمتن عليه به، فكل ما نجم عن نعمة العقل ما هو إلا من فيض نعمة الله سبحانه وتعالى على الإنسان بهذا العقل.

تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (كل من عليها فان فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:26 - 28]. قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، كقوله أيضاً: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقوله تبارك وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]، وقوله تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35]، والوجه صفة من صفات الله العلي التي وصف بها نفسه، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق. {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:26 - 27] يعني: كل من على ظهر الأرض هالك، وهنا نلاحظ أنه لم يأت فيما مضى قريباً ذكر الأرض إلا في قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] فبسبب بعد العهد والسياق عن لفظة الأرض قال بعض المفسرين: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} هذا الضمير كناية عن غير المذكور وهو الأرض. ((فَانٍ)) أي: هالك. ((وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)) أي: ذاته الكريمة. ((ذُو الْجَلالِ)) ذو العظمة والعلو والكبرياء. ((وَالإِكْرَامِ)) أي: التفضل التام، وهذه الآية كآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}. وقال بعض المفسرين في قوله تبارك وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، المعنى: أن الله تعالى مستحق أن يجلَّ ويكرم ولا يجحد ولا يكفر به. وهناك احتمال آخر في التفسير: وهو أن يكون معنى: ((ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)): أنه يكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم. وقد يحتمل احتمال ثالث وهو: أن يكون أحد الأمرين مضافاً إلى الله تعالى، والثاني: مضافاً إلى الخلق، بمعنى: أن أحد الأمرين في قوله ((ذو الجلال)) مضافاً إلى الله تعالى، يعني: أن الجلال صفة لله، واللفظ الآخر: وهو الإكرام يكون مضافاً إلى العبد، بمعنى: أن الفعل منه، كقوله تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] فتكون الآية على هذا الاحتمال الثالث مثل هذه الآية تماماً، فقوله: ((هو أهل التقوى)) مضافة إلى العبد، ((وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)) هو الله سبحانه وتعالى. فإذاً: أحدهما راجع إلى العبد والآخر راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فالجلال صفة الله، والإكرام فعله بعباده، وهو أنه يكرم عباده. ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، قال الله سبحانه وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، فإذا كانت الدنيا دار فناء، والعباد والصالحون إنما يعملون للإقامة في الآخرة والتمتع بجنات النعيم، فإن هذا الفناء لابد منه لكي يكون وسيلة إلى برزخ يمر به العبد إلى بعد ذلك، وهذه المرحلة الأخرى وهي يوم البعث والنشور الذي ينتهي به استقرار المؤمنين في الجنة والكافرين في النيران وفي العقاب والعذاب. فلا شك أن هذا الإخلاء من هذه الزاوية نعمة من نعم الله على العباد، يتجلى فيها عدل الله سبحانه وتعالى ورحمته، فيقول: ولما كان فناء الخلق سبباً لبعثهم للنشأة الأخرى التي يظهر بها المحق من المبطل. فإظهار أهل الحق لتمييز الحق من الضلال من نعم الله عز وجل. ويقول: وينقلب الأول بالثواب ويبوء الآخر بالعقاب، فذلك من أعظم النعم التي يشمل فيها العدل الإلهي المكلفين، لذلك قال سبحانه وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)). وقد أشار الرازي إلى ما في قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} من الفوائد بقوله: فيه فوائد منها: الحث على العبادة، وترك الزمان اليسير إلى الطاعة. أي: فيها حث على أن يجتهدوا في العبادة، وأن يستثمروا الزمان اليسير القليل في الطاعة. ومنها: المنع من الوثوق بما يكون للمرء. يعني: إياك أن تثق أو تتوكل على مال أو جاه أو منصب أو سلطان أو كذا أو كذا، وإنما تجعل ثقتك وتوكلك على الله سبحانه وتعالى وحده، لأن الكل يفنى ويهلك فلا يوثق به ولا يصلح أن تتوكل عليه، وإنما يصح التوكل على الباقي سبحانه وتعالى. فلا يقول المرء إذا كان في نعمة: إنها لن تذهب، فيترك الرجوع إلى الله معتمداً على ماله وملكه، ولكن يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}. ومنها: الأمر بالصبر إن كان في ضر، فلا يكفر بالله معتمداً على أن الأمر ذاهب والضر زائل، وإذا أصابه بلاء أو ضرر يتذكر هذه الآية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، فلابد لهذا البلاء من نهاية، فيهون عليه البلاء ويسهل عليه الصبر، ويعصم نفسه من أن يقع في الكفر. ومنها: ترك اتخاذ الغير معبوداً؛ لأن كل من عدا الله فان، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فالله سبحانه وتعالى الذي يبقى وجهه ذو الجلال والإكرام هو الأحق بأن يعبد ولا يشرك به شيء فانٍ. ومنها: الزجر عن الاغترار بالقرب من الملوك وترك التقرب إلى الله تعالى، فإن أمرهم إلى الزوال قريب. أي: أن الإنسان لا يغتر إذا كان مقرباً من ملك أو حاكم وأنه سيحميه ويرزقه ويعطيه ويفعل به كذا وكذا؛ لأنه لو تذكر قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} لعلم أن هذا عما قريب سوف يزول، ومهما طال بهم الزمان فنهايتهم إلى التراب، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. ومنها: حسن التوحيد. أن يحسن الإنسان توحيد الله تبارك وتعالى، وترك الشرك الظاهر والخفي جميعاً؛ لأن الفاني لا يصلح لأن يعبد، وأي إله يعبد من دون الله فإنه فان بدلالة هذه الآية، فلا يصح الشرك الأكبر، وأيضاً لا يصح الشرك الأصغر الذي هو الرياء؛ لأن هؤلاء الذين ترائي من أجلهم إذا كانوا فانين فلماذا تبطل ثواب العبادة بأن تتزين لهم؟! فهؤلاء الناس لن يقدروا على ثوابك، وإنما الرياء يحبط عبادتك ويذهب جهدك سدى؛ فلذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من تذكر هذه الآية الكريمة: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبداً. قال قتادة: أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وفي الدعاء المأثور: (يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك). فالإنسان يحرص على أن يتوكل على الله سبحانه وحده ويستعيذ بالله من أن يكله إلى غيره، ولا ينبغي للإنسان أن يتوكل على غير الله تبارك وتعالى. وقال الشعبي: إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا تسكت حتى تقرأ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}؛ لأن هذه الآيات متقابلة في المعنى، فيها نفي وفيها إثبات، ينبغي أن نصل بينهما في القراءة، فلا تقرأ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ثم تقف، بل الأدب والأكمل أن تتم المعنى؛ لأن المعنى يظهر بالصور المتضادة، فإذا كان كل من عليها فان فلابد أن تثبت قوله تعالى بعدها (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). وهذه الآية كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي: هو أهل أن يجلَّ فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف، كقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وكقوله إخباراً عن المتصدقين: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9]. قال ابن عباس: ((ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) أي: ذو العظمة والكبرياء. ولما أخبر عن تساوي أهل الأرض كلهم في الفناء، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))؛ لأن الموت والفناء هو وسيلة للانتقال إلى دار الجزاء ودار الرحمة والعدل.

تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:29 - 30]. قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، هذا إخبار عن غناه عما سواه، وامتداد لمعاني ما مضى؛ لأنه إذا كان: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}، فإذا كان هو الباقي سبحانه وتعالى وهو ذو الجلال والإكرام فإنه مستحق لأن يعبد ويجلَّ ويعظم ولا يلحد ولا يكفر به، ثم إنكم لا غنى لكم عن الله طرفة عين، ولا تستطيعون الاستغناء عن الله، بل أنتم فقراء إلى الله فقراً ذاتياً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، فلذلك أتبع ذلك بقوله: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) وهذا إخبار عن غنى الله سبحانه وتعالى عما سواه، وافتقار الخلائق إليه في جميع الأشياء، فكلهم يسألون الله سبحانه وتعالى سواء بلسان الحال أو بلسان المقال، والله سبحانه وتعالى غني عنهم وهم الفقراء إليه بدليل أنهم يسألونه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}. قال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير: قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) من شأنه أن يجيب داعياً، أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً، أو يشفي سقيماً. وقال مجاهد: كل يوم هو يجيب داعياً، ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً. وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض، يحيي حياً، ويميت ميتاً، ويربي صغيراً، ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وطريقهم، ومنتهى شكواهم. وعن صهيب بن جبلة الفزاري قال: إن ربكم كل يوم هو في شأن، فيعتق رقاباً، ويعطي رغاباً، ويقسم عقاباً. وأقوال المفسرين عموماً تعود إلى هذه المعاني وسنزيدها إن شاء الله تعالى إيضاحاً. يقول القاسمي: ((يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: يدعونه ويرغبون إليه ويرجون رحمته لفقرهم الذاتي وغناه المطلق. ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) أي: كل وقت يحدث أموراً، ويجدد أحوالاً، كما قال الحسين بن الفضل: هو سوق المقادير إلى المواقيت؛ ولذلك فإن هذه الآية من الآيات التي يستدل بها في مسألة القدر في التقدير اليومي، ومسألة القدر هي سدس الإيمان، فالإيمان ستة أسداس، وهي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما قال لابنه: إنك مهما فعلت، فإذا لقيت الله دون أن تؤمن بالقدر كأنك ما فعلت شيئاً، لا تنجو من النار حتى تؤمن بالقدر.

أنواع المقادير التي يقدرها الله سبحانه وتعالى

أنواع المقادير التي يقدرها الله سبحانه وتعالى باختصار شديد نلفت النظر إلى هذه المسألة -نظراً لأهمية مدارسة العقيدة وبالذات قضية القضاء والقدر- فإن الآية مما يستدل بها على إحدى مراتب المقادير؛ لأن التقدير أنواع: فمنه التقدير الأزلي حينما أمر الله سبحانه وتعالى القلم بأن يكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة). ومنه: التقدير الذي كان حينما استخرج من صلب آدم عليه السلام الذرية وقال: (هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار). ومنه: التقدير الحولي الذي هو التقدير السنوي ودليله قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3 - 4]، ففي ليلة القدر في كل سنة تتم كتابة المقادير من هذه السنة إلى السنة التي تليها، وما الذي سيحصل في هذا الوجود خلال هذه السنة. وهذا التقدير ليس بجديد بل هو موافق دائماً لما أثبت في اللوح المحفوظ، مطابقاً لعلم الله سبحانه وتعالى السابق، ولكن تعاد كتابته، أو يكتب من جديد موافقاً لما سبق، وليس فيه أي تغيير. فإذاً: هناك التقدير الأزلي وهو تقدير أصلي عند خلق القلم. ثم التقدير حينما استخرج الله سبحانه وتعالى من صلب آدم الذرية. وهناك التقدير الحولي كل سنة، ودليله قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، وليست ليلة النصف من شعبان وإنما ليلة القدر، بدليل قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، ونفهمها من ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، فهذه تفسر تلك. ثم هناك التقدير اليومي، ودليله هذه الآية: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فكل يوم يكتب فيه تقدير للأشياء التي سوف تحصل في هذا اليوم، فهو يبديها وليس يبتديها، تكشف هذه الأحكام وليس إنشاء لها من جديد؛ لأنها سبقت في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي. وهناك مرحلة أخرى من التقدير وهي التقدير العمري والجنين في بطن أمه، حيث يأتي الملك فيؤمر بنفخ الروح، ويؤمر بكتب أربعة أشياء، فيقول: (أي ربي ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما رزقه؟ ما أجله؟)، فهذا يكتب في هذه اللحظة أو في هذا الوقت بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الجنين موافقاً لما سبق، وموافقاً أيضاً لما سيأتي في أنواع التقادير الأخرى كما ذكرنا، إذاً: فهذه الآية من آيات القدر ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وهي دليل على التقدير اليومي. قال مجاهد: يعطي سائلاً، ويفك عانياً، ويجيب داعياً، ويشفي سقيماً. وقوله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: مما أجاب به سؤالكما، فأنتم تسألون الله وما أكثر ما سألتم الله سبحانه وتعالى بلسان الحال أو بلسان المقال فأجاب سؤالكم ودعاءكم وآتاكم من فضله، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) مما يسعف به سؤالكما، ويخرج لكما من مخبأ قدره وخلقه آناً فآناً. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)): أراد في يومي الدنيا والآخرة، قال ابن بحر: الدهر كله يومان: أحدهما: مدة أيام الدنيا، والآخر: يوم القيامة. فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقيل المراد بذلك: الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر، والشأن في اللغة: الخطب العظيم، والجمع: الشئون. والمراد بالشأن ها هنا الجمع ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فهو مفرد لكن يراد به الجمع كقوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر:67]، يعني: أطفالاً. وقال الكلبي: شأنه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمقادير التي سبق بها القلم تساق في كل يوم إلى المواقيت، أي: الزمان الذي حدده الله كي يموت فلان أو يمرض فلان، أو يرزق فلان، أو ينصر فلان وهكذا. وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)): من شأنه أن يميت حياً، ويقر في الأرحام ما شاء، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً. وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد، فانصرف كئيباً إلى منزله، فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره، فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه، فقال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً، يعني: أن هذه كلها من أفعال الربوبية ومن مقتضياتها، وهي من أدلة حدوث العالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدث فيه، وهذه المخلوقات تخضع لما يشاء الله سبحانه وتعالى فيها، فأي جبار مهما طغى وتجبر لا يستطيع أن يرد قضاء الله سبحانه وتعالى إذا نزل به، وأي سفاح من السفاحين كرئيس الجمهورية العربية السورية، الذي دك بلدة حماة على المسلمين، وانتهكت الأعراض، واستبيحت الأموال، وقتل عشرة آلاف مسلم في يوم أو في يومين، فهذا السفاح انظر إلى نهايته، كيف أنه خضع للموت ولم يملك الاعتراض على ملك الموت الذي أتى لقبض روحه، بل إنه خضع لما أراده الله سبحانه وتعالى به. ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)) فهذا الشأن هو الذي يحدث الله فيه ما يشاء في خلقه مما يقضيه ويقدره بهم. فلما قال هذا الغلام للأمير: شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، يعني: كل ما يحدث في العالم من أمور وأحداث يشاءها الله سبحانه وتعالى فالله هو الذي يدبرها، فهناك إرادة وهناك قوة هي قوة الله سبحانه وتعالى تغير أحوال هذا العالم من حال إلى حال، في حين أن الكفار يعتقدون -حتى الذي يعتقد أن هناك إلهاً- أن الله سبحانه وتعالى خلق العالم ثم حركه ثم تركه ونسي العالم، فليست هناك محاكمة ولا شريعة ولا حلال وحرام؛ لأنه خلق العالم وحركه ثم تركه!! كلا، بل العالم وكل هذه الموجودات لا غنى لها عن الله طرفة عين، ولا يمكن أن تستغني عن الله سبحانه وتعالى طرفة عين وإلا فسد كل ما في هذا الوجود ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: أيها الأمير شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً، ويبتلي معافىً ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً. فقال له: فرجت عني فرج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام. فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا داخل في قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فقد غير حالي وغير حال الوزير، أي: حين خلع ثياب الوزير التي هي ثياب الوزارة وكساها لهذا الغلام، فقال له: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى، يعني: هذا نموذج من نماذج أن الله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، يحدث في خلقه ما يشاء من الأفعال. وعن عبد الله بن طاهر أنه دعى الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، وقد صح أن الندم توبة. وقوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فما بال الأضعاف. يعني: الإشكال الأول: وهو أنه قد صح الحديث (أن الندم توبة) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا يقول الله عز وجل: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، والسياق في ذم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، فإذا كان أصبح من النادمين فكيف يعذب؟ وتعرفون الحديث: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل)، فإذا كان سياق الآية واضحاً في ذم قابيل مع أنه ندم، وكان الندم توبة فلماذا يعذب؟! فقال له الحسين بن الفضل: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركها فيها الأمم. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على أنه لم يحمل جثة أخيه لكي يواريها في التراب {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31]، أي: على أنه لم يدفن أخاه، وليس من النادمين على المعصية نفسها، والله تعالى أعلم. وأما الإشكال الثاني في قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، فإذا كان القلم قد جرى بكل ما يكون إلى يوم القيامة، فكيف أنه كل يوم هو في شأن، أي: تقدر أشياء كل يوم؟ فقال له: أما قوله: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فإنها شئون يبديها لا شئون يبتديها، فانظر إلى فصاحة العلماء ووجازة كلامهم المبارك، فقوله: (شئون يبديها) يعني: يخرج إلى حيز الوجود ما علمه الله من قبل، فما كان غيباً يخرج علمه للشهادة في وقته الذي حدده الله سبحانه وتعالى، فـ ((كل يوم هو في شأن)) أي: أن هناك تقديراً عما سيحصل في كل يوم لهذه المخلوقات، وهذا لا يتعارض على الإطلاق مع ما كتب في اللوح المحفوظ، فهي شئون يبديها ويكشفها وليست شئون يبتديها، فهذا العلم ليس علماً مستأنفاً وليس علماً محدثاً وإنما هو موافق لعلم الله سبحانه وتعالى. وأما الإشكال الثال

تفسير قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:31 - 32]. قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، معناها: سنقصد لحسابكم، قال القرطبي: يقال: فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً، وتفرغت لكذا، واستفرغت مجهودي في كذا، أي: بذلته، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه وإنما المعنى: فاحذر أن تتصور أن قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، كفراغ واحد من البشر، أن يقول مثلاً: أنا سوف أفضي نفسي وأخلص الذي في يدي وأتفرغ لك!! لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شيء عن شيء، والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، وإنما المعنى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، أي: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، فهو وعيد لهم وتهديد، كقول القائل لمن يريد تهديده: إذاً أتفرغ لك، يعني: أقصدك، وتقول للرجل الذي لا شغل له أصلاً وليس منشغلاً بشيء: قد فرغت لي، قد فرغت تشتمني، يعني: أخذت في هذا الأمر وأقبلت عليه. وقال الزجاج: الفراغ في اللغة على معنيين: أحدهما: الفراغ من الشغل. والآخر: القصد للشيء والإقبال عليه، كما هنا في هذه الآية، فمعنى الفراغ: سنقصد لحسابكم، وليس معناها: سنفرغ من شغل معين ثم نتفرغ لكم. وهو تهديد ووعيد، تقول: قد فرغت مما كنت فيه، أي: قد زال شغلي به، وتقول: سأفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي، فليس هذا على سبيل تمثيل تدبيره تعالى أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي والإماتة والإحياء والمنع والإعطاء، ليس فيه تمثيل بحال من كان في شغل يشغله عن شغل آخر، فإذا فرغ من ذلك الشغل شرع في الآخر، لكن المقصود هنا {سَنَفْرُغُ لَكُمْ}، أي: سنقصد لحسابكم. وقيل: الفراغ: الخلاص عن المهام، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقد وقع مستعاراً للأخذ في الجزاء وحده، فمعنى: ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ)) سنحاسبكم أيها الثقلان. والثقلان: تثنية ثَقَل بفتحتين، فعل بمعنى: مفعل، أي: مثقل؛ لأنهما أثقلا الأرض، أو بمعنى: مفعول؛ لأنهما أُثقلا بالتكاليف، وقال الحسن: لثقلهما بالذنوب. والخطاب في ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ)) قيل: للمجرمين من الثقلين، لكن يأباه قوله تعالى: ((أَيُّهَا الثَّقَلانِ))، فالمقصود بالتهديد هم، ولا مانع من تهديد جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم؛ لأن المقصود بـ (سنفرغ) سنقصد لحسابكم، فتشمل الفريقين، ولا يفهم من هذا اللفظ الكريم وعيد بحت، بل هو حامل للوعد أيضاً، فهي تشمل وعداً ووعيداً، حتى يقال: إنها وعيد فقط في حق المجرمين! بل هي في حق الجميع، أي: سنقصد المؤمنين بالوعد لحسابهم ومثوبتهم الإثابة الحسنة على الإيمان والعمل الصالح، ونقصد المجرمين لحسابهم بالعدل، بالعقوبة والجزاء وكفى، فهذه عامة وتشمل الأمرين معاً. يقول: والخطاب في (لكم) قيل: للمجرمين، لكن يأباه قوله: ((أَيُّهَا الثَّقَلانِ))،المقصود بالتهديد هم ولا مانع من تهديد الجميع، ولا يفهم من هذا أن اللفظ الكريم وعيد بحت بل هو حامل للوعد أيضاً؛ لأن المعنى سنفرغ لحسابكم، وسنثيب أهل الطاعة ونعاتب العصاة، وهو جلي؛ ولذلك اعتد ذلك نعمة عليهم، فقال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، أي: من ثوابه أهل طاعته وعقابه أهل معصيته.

الكلام على أخوف آية في كتاب الله سبحانه وتعالى

الكلام على أخوف آية في كتاب الله سبحانه وتعالى وهذه الآية الكريمة وهي قول الله تبارك وتعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، من الآيات التي رشحها بعض العلماء بأنها أخوف آية في القرآن الكريم، يعني: كما أن هناك بحثاً معروفاً في علوم التفسير وعلوم القرآن في أرجى آية، هناك بحث آخر في أخوف آية، وقد تكلمنا على الآيات المحتملة لهذا مرات كثيرة، أما أخوف آية فما أظن أننا فصلنا فيها، وإن كان الوقت لا يحتمل التفصيل لكن سنشير إشارة عابرة إلى هذا البحث، فما هي أخوف آية للعصاة في القرآن الكريم؟ قيل: هذه الآية: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، فإنها تهديد بالحساب، وقيل: أخوف آية قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران:130 - 131]. قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. يقول الغماري: فالعجب من ضعف العلماء الذين يتحايلون لإباحة صور من الربا بعد سماعهم للآية الكريمة، يا ويلهم من الله سبحانه وتعالى. وفي سورة الزمر آية مثل هذه في الشدة إن لم تكن أشد منها وهي قوله تبارك وتعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر:47]، قال الزمخشري: وعيد لهم -يعني: وعيد للذين ظلموا- لا كنه لفظاعته وشناعته، يقول: وهو نظير قوله تعالى في الوعد: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، هذا في الوعد والثواب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، أما هذه فقيل: إنها في الوعيد بنفس الدرجة على الجهة الأخرى، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}، وجزع محمد بن المنكدر عند موته، فقيل له، فقال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، يعني: ما لم أكن أظنه، قلت: وهذه والله قاصمة الظهر، نسأل الله العفو والعافية، هذا كلام الزمخشري. وآية ثالثة مثل سابقتها وهي قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]، فعبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وعجائب القرآن لا تنتهي، وروعة القرآن الكريم ومعجزاته لا تنفد أبداً، ولو أن الواحد منا لم يعتن بكلام العلماء ويحاول أن يستخرج مثل هذه العجائب ربما صعب عليه جداً. فقوله: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]، النكتة أنه في الذنب الأول قال: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وفي الثانية قال: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)). يقول الغماري أيضاً في خواطره: عبر في المسارعين إلى الإثم وأكل السحت بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))، وعبر في التاركين للنهي عن المنكر؛ لأنهم العلماء والأحبار لما رأوا هؤلاء لم ينهوهم عن المنكر، فعبر عن التاركين نهيهم بجملة: ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)). قال الزمخشري: كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، يعني: الساكت عن النهي عن المنكر أشد وزراً من مرتكب المنكر، قال: لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، يعني: أن الشيء المتقن الذي يكون الإنسان قد تدرب فيه مدة كافية وتمكن منه، يقال فيه: إن فلاناً هذا عنده الصنعة الفلانية، فتجد عنده المهارة والتمكن وكثرة الممارسة. يقول الزمخشري بعد ذلك: وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة له بفعل غيره، يعني: عامل المعصية عنده شهوة في داخله هي التي تؤزه عليها أزاً، لكن الشخص المطالب بأن ينهاه ليس معه نفس هذه الشهوة؛ لأن شهوة غيره ليست في قلبه هو، فبالتالي يكون أقوى في النهي عن المنكر، فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالاً من المواقع، ولعمري إن هذه الآية مما تهز المسامع وتنعي على العلماء توانيهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هي أشد آية في القرآن، يعني: آية الوعيد للذين يتركون النهي عن المنكر، {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة:62]، هؤلاء العصاة، {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]، وهذا دليل على أن الترك فعل؛ لأنه قال في الترك ((لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)) فعبر بالصنعة؛ لأن هؤلاء قد تمكنوا ورسخوا في هذا العمل. وعن الضحاك قال: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، وتوضيح ذلك أنه لما ترك الإنكار على مرتكبي المناكير معبراً عنه بالصناعة كان هذا الذم أشد من سابقه؛ لأنه جعل ما ذموا به صناعة لهم وحرفة لازمة وهم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم، وهذا وجه الأشدية التي أشار إليها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: هي أشد آية في القرآن، والأخوفية التي ذكرها الضحاك في قوله: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وفي سورة التوبة آية شديدة أيضاً وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]. قال الحسن: أمره: عقوبة عاجلة أو آجلة. وقال الزمخشري: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها، كأنها تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجدُ عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله، أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدري أي طرفيه أطول ويغويه الشيطان عن أقل حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره. والبحث في أخوف آية بحث في آيات كثيرة جداً نرجو أن تأتي فرصة فيما بعد كي نفصله.

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال الله تبارك وتعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:33 - 34]. قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم فانفذوا، وإن كنتم تستطيعون الخروج عن المملكة وهي السماوات والأرض بحيث تعجزوني فاخرجوا. ((فَانفُذُوا)) أي: فجوزوا واخرجوا وهذا تحدٍ. ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم هذا السلطان وهذه القوة وهذا القهر الذي يخرجكم من ملك الله سبحانه وتعالى إلى غيره؟! ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت:22] أي: لن تخيفوه ولن تعجزوه. ويقال معنى الآية: إن استطعتم أن تعملوا ما في السماوات والأرض فاعملوه ولن تعملوه إلا بسلطان، يعني: ببينة من الله تعالى. والمعنى الأول أظهر؛ لأنه لما ذكر في الآيات الأولى أنه لا محالة مجاز للعباد عقبه بقوله: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ)) إلى آخره، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده الله سبحانه وتعالى، فالآية التي قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} أي: سنقصد إلى حسابكم، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: إن استطعتم أن تهربوا من حسابي الذي سبق ذكره آنفاً، وإن استطعتم أن تعجزوني وتهربوا وتخرجوا من ملكي فاخرجوا. ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) ووأنّى لكم هذا السلطان؟! أنّى لكم هذه القدرة وهذه القوة التي تخرجكم من ملكوتي كي تعجزوني؟! ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: بالتسوية بين جميعكم؛ لأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده الله بكم. وقال القاضي: أي: من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).

تفسير قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:35 - 36]. قوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ)) أي: لهب (من نار). ((وَنُحَاسٌ)) أي: صفر مذاب يصب على رءوسكم. ((فَلا تَنتَصِرَانِ)) أي: لا تمتنعان وتنقذان منه، يعني: إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول صلى الله عليه وسلم فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم. وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها مما يخاطب به الكفرة في الآخرة، يعني: أن بعض العلماء قالوا: إن هذه الآية المقصود بها في الآخرة، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]، يعني: إن استطعتم أن تهربوا من حسابي ومن عقابي في الآخرة. وقال هنا: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ}، يقول ابن كثير: هذا في مقام الحشر والملائكة محدقة بالخلائق، محيطة بهم فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان، أي: بأمر الله، {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:10 - 11] أي: لا ملجأ، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:12]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27]، ولهذا قال تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ}، والمعنى: أنكم لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردعتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا. يقول القاسمي: ثم رأيت أنه قد سبقه إلى ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه طريق الهجرتين في تفسير هذه الآية بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا))، قال: وفي الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاط سرادق النار بالآفاق فهرب الخلائق فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً كما قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر:32 - 33]، أي: يحاولون الهروب لكن لا يستطيعون. قال مجاهد: فارين غير معجزين، ((يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ)) فارين لكن في قبضة الله وقدرته. وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندوا هرباً، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، كذلك قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة:17]، لا يستطيع أحد أن يهرب أبداً من العذاب، وقوله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا))، وهذا القول أظهر، والله تعالى أعلم، هذا كلام ابن القيم. فإذا بهذه الخلائق إذا فاجأهم هذا الموقف ولوا مدبرين، فيقال لهم: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، يعني: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم فافعلوا، وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول؛ لأن قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}، وهذا في الآخرة، وبعدها: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}، إلى قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ}، وهذا أيضاً في الآخرة. وأيضاً: فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن، إذ أتى فيه بصيغة العموم وهي قوله: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ))، فلابد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وقال تعالى: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ))، ولم يقل: إن استطعتما؛ لإرادة الجماعة، كما في آية أخرى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ)) [الأنعام:130]، فجاءت (ألم يأتكم) بصيغة الجمع. وقال هنا: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا))، ولم يقل: يرسل عليكم؛ لأنه هنا أراد الصنفين الجن والإنس، أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً، وهذا وإن كان مراداً بقوله: ((إِنِ اسْتَطَعْتُمْ))، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم، وحسن الخطاب بالتثنية في قوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا)) لأمر آخر وهو موافقة رءوس الآي، فاتصلت التثنية بالتسوية، وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب للتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما، والله تعالى أعلم. يقول القاسمي بعدما أورد هذا البحث: وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده؛ لأنه ليس من نظائره.

وجه تفسير قوله تعالى: (لا تنفذون إلا بسلطان) على أن السلطان العلم والرد عليه

وجه تفسير قوله تعالى: (لا تنفذون إلا بسلطان) على أن السلطان العلم والرد عليه هنا تنبيه أخير قبل أن نختم الكلام فيما يتعلق بقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}، يقول صاحب كتاب (خواطر دينية): كثير من أهل العلم يدعي في قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أنه يشير إلى الطائرات وسفن الفضاء، ويقولون: إن معنى: ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) يعني: إلا بعلم، ففيه الإشارة إلى أن العلم سيصل إلى اختراع ما ذكر، وقد حصل ذلك أخيراً كما هو مشاهد، وهذا غلط؛ لأن سياق الآية لا يفيد ذلك ولا يساعد عليه، بل الخطاب فيها لتعجيز الثقلين وإعلامهم أنهم لا يقدرون على الخروج من نواحي السماوات والأرض هرباً من يوم الحساب. ((إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: بقوة، ولا قوة لهم على ذلك، وهذه الطائرات وسفن الفضاء لم تخرج عن أقطار السماوات والأرض، ولا يمكن أن تخرج عنها أبداً، وإنما هي تطير داخلها مهما أبعدت في طيرانها، وحتى لو خرجت خارج المجرة أو خارج كل المجرات القريبة مثلاً فهم ما زالوا في داخل أقطار السماوات، حتى إنهم إلى الآن لا يعرفون حدود سماء الدنيا. ولم يخرج أحد عن أقطار السماوات إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج حيث تجاوز السماوات السبع إلى سدرة المنتهى وإلى الجنة، وكان ذلك إكراماً خاصاً به صلى الله عليه وآله وسلم، فهل تجاوزت طائرة أو سفينة فضاء السماء الدنيا؟ بل هل هي وصلت أصلاً إلى حدود السماء الدنيا؟ نعم أشار القرآن إلى الطائرات بأنواعها بإشارة صريحة في قوله تعالى وهو يذكر نعمته علينا في خلق المواصلات حيث قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] يعني: من وسائل المواصلات التي سوف تصنعونها وتخترعونها وتكون سريعة جداً، وهذا أشرنا إليه من قبل في تفسير سورة يس، وتكلمنا في بحث مفصل عن إخبار القرآن في عدة آيات وكذلك السنة في بعض الأحاديث عن هذه المواصلات الحديثة من السيارات والطائرات ونحوها. أما قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} [الحج:15] أي: بحبل، {إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني: إلى سقف الحجرة، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] فالشاهد أن السماء تطلق لغة على السقف وغيره، والسحاب يطلق عليه سماء، قال عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [المؤمنون:18] السماء هنا المقصود بها: السحاب؛ لأنه يعلونا، أيضاً الغلاف الجوي سماء: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32] فالغلاف الجوي سقف محفوظ يحفظ الأرض والكائنات الحية من الإشعاعات الضارة التي قد تبيد الحياة، والكواكب يطلق عليها سماء؛ لأنها تعلونا، فقول الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] يعني: أن الجن لا ينفذون إلى ما فوق السماء الدنيا. ثم قال تعالى: {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] أي: حراسة السماء لنزول القرآن، وهذه كانت من إرهاصات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أمراً عظيماً سوف يحدث، لذلك حرست السماء حتى لا يختطف الجن الوحي فيخلطوه بالكذب كما هو معلوم في الأحاديث. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] لا تعني أبداً أنهم قد اخترقوا أو نفذوا من أقطار السماوات والأرض، خاصة وأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا)) تهديد، ((لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) أي: لابد لكم من قوة وقدرة على الاختراق، وأنى لكم هذه القدرة التي تمكنكم من أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض.

الرحمن [37 - 54]

تفسير سورة الرحمن [37 - 54]

تفسير قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان فبأي آلاء ربكما تكذبان) انتهينا في تفسير سورة الرحمن إلى الآية السابعة والثلاثين، وهي قول الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:37 - 38]. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ)) أي: انفطرت فاختل نظامها العلوي. ((فَكَانَتْ وَرْدَةً)) أي: كلون الورد الأحمر. قوله: ((كَالدِّهَانِ)) أي: كالدهن الذي هو الزيت، كما قال تعالى في سورة المعارج: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:8] وهو دردي الزيت، يعني: في لونها كدورة لصيرورتها إلى الفناء والزوال. ووجه تشبيهها بالدهن أو الدهان الذي هو الزيت في اللون المكدر وفي الذوبان كما قال تعالى: ((يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)) أي: أن المهل هو دردي الزيت، فإذا كان هناك زيت في برميل مثلاً فيلاحظ أن الشوائب والقاذورات التي تخالطه تترسب في قرب القاع أو في الطبقة السفلى منه، فهذا هو الدردي الذي يترسب في الطبقة السفلى من الزيت ويسبب له نوعاً من الكدورة في لونه، ولذلك يضربون به المثل فيقولون: إذا كان أول الدن دردياً فماذا يكون بعد؟! والدن هو البرميل أو إناء الزيت، فمعنى المثل: إذا كان الدردي الذي هو العكر يوجد في أعلى الدن فما بالك بأسفل الطبقة كيف سيكون؟! وهو يشبه ما يعبر به العامة في قولهم: أول القصيدة كفر، يعني: إذا كان أول القصيدة كفر فماذا يكون بعد؟! وسياق قوله تعالى: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) يدل على أن ذلك إنما يقع يوم القيامة، والقرينة على ذلك قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39]، فهذا مما يقوي أو يؤكد أن ذلك إنما يكون يوم القيامة كما هو في السياق، وخاصة أن هناك لهذه الآية نظائر في القرآن الكريم، كقوله تبارك وتعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16] يعني: يوم القيامة، وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]، وقال تبارك وتعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:1 - 2]، وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، وهكذا. قوله: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) سياق الآية أنها في يوم القيامة. نشرت وكالة ناسا الأمريكية حديثاً صوراً ملونة في غاية الروعة فيها انفجارات لنجوم، سواء لميلاد نجوم جديدة، أو انشقاق أو تفجر نجوم في الفضاء الفسيح البعيد جداً، وهي مصورة في أفلام حية متحركة بل فيها أصوات أيضاً لانشقاقات هذه النجوم، لكن العجيب جداً أن هذه الصور التي التقطت كثير منها فعلاً صورته تماماً كصورة الوردة الحمراء ذات الورق الأخضر، وكما قلنا فإن هذه الآية تذكر انشقاق السماء لكن هذا في الآخرة، وهذه الانشقاقات تقرب إلى أذهاننا أن النجوم حينما تنشق تعطي صورة الوردة كالدهان، وهذا مما يستأنس به، وإن كان السياق بكل وضوح إنما هو فيما سيحصل يوم القيامة بالأدلة التي ذكرناها. ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) يعني: السماء سوف تنشق يوم القيامة، وإذا انشقت صارت وردة كالدهان. ((وَرْدَةً)) يعني: حمراء كلون الورد. ((كَالدِّهَانِ)) فيه قولان معروفان للعلماء: الأول منهما: أن الدهان هو الجلد الأحمر، وعليه فالمعنى: أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه. القول الثاني: أن الدهان هو ما يدهن به من الألوان، وعليه فالدهان هو جمع دهن، وقيل: هو مفرد؛ لأن العرب تسمي ما يدهن به دهاناً وهو مفرد. والفرق بين القولين: على القول أن الله سبحانه وتعالى وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد: وهو الحمرة، فشبهها بحمرة الورد، وحمرة الأديم، أي: الجلد الأحمر. قال بعض أهل العلم: إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة. وقال بعضهم: أصل السماء حمراء إلا أنها من شدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها، فالله أعلم بذلك. أما القول: بأنها وردة كالدهان، يعني: الدهن الذي يدهن به، فإن الله قد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين: أحدهما: حمرة لونها. الثاني: أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن. فوجه الشبه بين السماء والدهان أنها تذوب وتصير مائعة سائلة كما هو الحال بالنسبة للدهون والزيوت، ووجه الشبه بينها وبين الوردة أنها حمراء، وكون السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر لم ترد ما يشير إلى ذلك في كتاب الله. أما القول بأنها تذوب وتصير مائعة فبينه قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج:6 - 8] والمهل هو: الشيء الذائب، سواء قلنا: إنه دردي الزيت، أو قلنا: إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما، وقد بين الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء شديد الحرارة، وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]. هناك قول بأن الوردة تشبيه بالفرس الكميت، فصارت وردة كفرس الورد، وهو نوع معين من الخيول أو البغال -كما فهمت من كلام المفسرين- تختلف ألوان جلده ما بين الشتاء والصيف والربيع وهكذا، وهذا مألوف في بعض الحيوانات مثل السحلية أو الحرباء فهي حيوانات تتلون. ويبدو أن العرب يعرفون هذا في نوع معين من الخيول أو الأفراس، فلذلك بعض المفسرين يقولون: فكانت وردة كالفرس الورد وهو الفرس الكميت الأحمر؛ لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول، فتشتد حمرتها في فصل، وتميل إلى الصفرة في فصل، وإلى الغبرة في فصل آخر، فيكون المقصود تشبيه كون السماء عند انشقاقها من شدة أهوال القيامة تتلون بألوان مختلفة، وبعض المفسرين قالوا: إن هذا بعيد عن ظاهر الآية. كذلك هناك من قال: إنها تذهب وتجيء؛ لأن الألوان في الفرس الكميت تذهب وتجيء، فقالوا: أيضاً ألوانها تذهب وتجيء واستدلوا بقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور:9] واستبعده بعض العلماء.

أقول المفسرين في معنى قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان)

أقول المفسرين في معنى قوله تعالى: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) نجمل كلام بعض المفسرين فيما يتعلق بتفسير هذه الآية الكريمة: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)). يقول الحافظ ابن كثير: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)) أي: تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء. وقال القرطبي: الدهان: الدهن. والمعنى: أنها صارت في صفاء الدهن، على أساس أن الدهان جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: ((فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ))، يعني: حمراء اللون كالوردة. وقيل: تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، يعني: أنها تنشق ومع الانشقاق تذوب حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل الدهان: الجلد الأحمر الصرف. وذوبان الشيء الصلب وتميعه هذا شيء نحن نراه ونلمسه في أشياء كثيرة، كما في بعض وسائل التعذيب البشعة حيث يضعون الإنسان داخل حمض الكبريتيك أو الهيدروكلوريك المركز فتجد هذا الإنسان يتبخر ويذوب تماماً، وفي الحديث إشارة إلى شيء قريب من هذا، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: (أن من آذى أهل المدينة أو روع أهل المدينة النبوية المباركة يذيبه الله سبحانه وتعالى كما يذاب الملح في الماء). إذاً: معنى قوله: (فكانت وردة كالدهان): أنها تذوب مع انشقاقها حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل: إن معنى قوله: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)): كالجلد الأحمر الصرف، حيث تصير السماء حمراء كالأديم من شدة حر النار. وقيل إن معنى قوله: ((فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)): كانت كالفرس الورد، يقال: للكميت ورد إذا كان جلده يتلون بألوان مختلفة. وعن ابن عباس: (كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر وفي أول الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد برد الشتاء كان كميتاً أغبر). ويعني هذا كله: أن السماء سوف تتلون كما يتلون الفرس الورد من الخيل. وقال الحسن: ((كَالدِّهَانِ)) كصب الدهن، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً. ويحتمل أنه يقصد بذلك ألوان الطيف حينما تنعكس على بعض السوائل من زاوية معينة فتعطي ألواناً كثيرة.

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان) {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:39 - 40]. قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) أي: لا يفتح له باب المعذرة، كقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:36]، فهذا المقصود به: نفي سماع الاعتذار عن طريق التعبير، بأنهم لا يفتح لهم باب المعذرة، فهذا من باب نفي السبب لانتفاء المسبب، وأخذ كثير السؤال على حقيقته وهذا هو الظاهر، ونحن نرفض مثل هذا المجاز نقول بأن الكلام يكون على حقيقته ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)). فإذا قلنا: إن السؤال على حقيقته -وهذا هو الراجح وهذا هو الصحيح وظاهر القرآن الكريم- فإننا نحتاج حينئذ أن نجمع بين ما قد يعارضه في الظاهر وليس هناك معارضة حقيقة. قال القاشاني: وأما الوقف والسؤال المشار إليه في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، فهذا في الظاهر يتعارض مع قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ))، له نظائر سوف نذكرها. يقول: ففي مواطن أخرى من اليوم الطويل الذي كان مقداره خمسين ألف سنة أحوال متغايرة وليست متعارضة، وإنما في وقت من الأوقات وفي حال من الأحوال لا يسألون وفي أحوال أخرى يسألون، وقد يكون هذا الموطن قبل الموطن الأول في ذلك اليوم وقد يكون بعده. يعني: قد يكون السؤال أولاً ثم بعد ذلك لا يكون هناك سؤال. وكذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إن هذه الآية كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:35 - 36]، فهذا في حال، وثم حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. وفي الآية تأويل آخر قال مجاهد: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم حينما يستقرون في النار، أو حينما يكونون على وشك أن يقذفوا في النار. يعني: أن الملائكة لا تحتاج إلى أن تسألهم عن ذنوبهم، وإنما تعرفهم حين تأخذهم وتلقيهم في جهنم؛ لأن لهم سيما وعلامات معروفة سوف نبينها، فهذا تفسير آخر. قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ)) مبني للمجهول، يعني: احتمال ألا تسأل الملائكة المجرمين وإنما يعرفونهم بسيماهم. ومما يرسخ هذا القول الآية التي تليها مباشرة: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41] يعني: تعرفهم الملائكة باسوداد الوجوه وزرقة العيون ونحو ذلك. ((فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ)) يعني: كي يلقوا ويرموا في نار جهنم.

كلام ابن القيم في السؤال المنفي في قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) والجمع بين الأقوال فيها.

كلام ابن القيم في السؤال المنفي في قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) والجمع بين الأقوال فيها. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين: اختلف في هذا السؤال المنفي الذي في قوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يسألون حينئذ في بداية البعث والتحرك إلى موقف العرض الأكبر، وفي حال أخرى يسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى الله سبحانه وتعالى أن يحاسبهم ويريحهم من مقامهم ذلك. وقيل: المنفي هو سؤال الاستعلام والاستخبار، أي: لا يسألون سؤال استعلام واستخبار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم، وإنما هو سؤال التوبيخ والتقريع كما سنبين إن شاء الله تعالى. إذاً: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار لا سؤال المحاسبة والمجازاة، أي: قد علم الله ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها وإنما يحاسبهم عليها. يقول قتادة رحمه الله تعالى: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يعني: حصل السؤال في مرحلة معينة ثم بعد ذلك: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) لأنه يختم على الأفواه وتتكلم الأيدي والأرجل بما كانوا يعملون، وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون. ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة لا يسأل إنساً ولا جاناً عن ذنبه؛ لأن يوم القيامة مواطن وأحوال، وهو يوم طويل جداً، فيسأل في حال ولا يسأل في حال أخرى، وقد بين هذا المعنى في قوله تبارك وتعالى في سورة القصص: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، قال ابن كثير: هذا في حال وثم حال يسأل الخلائق فيها عن جميع أعمالهم. وذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة، فيسأل الرسل والمرسل إليهم، كما في قوله عز وجل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقال تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. نلاحظ هنا ملاحظة دقيقة جداً وهي: أنه في حالة النفي قال الله تبارك وتعالى: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ)) فالسؤال هنا المنفي قيد بأن يكون سؤالاً عن الذنب فقط، كذلك في الآية الأخرى في قوله تبارك وتعالى: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)) فإذاً: هذا يمهد لجواب آخر في الجمع بين هذه الآيات، فجاءت آيات تدل على أن الجميع سوف يسألون: ((فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ))، وقال تبارك وتعالى: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) * ((عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) وهذه تعم كل شيء، وقد جاءت آيات أخرى مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافاً.

كلام الشنقيطي في الجمع بين قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) وغيرها من الآيات التي تثبت السؤال

كلام الشنقيطي في الجمع بين قوله: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه) وغيرها من الآيات التي تثبت السؤال يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن السؤال المنفي في قوله هنا: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ))، وقوله: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)) هذا السؤال أخص من السؤال المثبت في قوله: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) * ((عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))؛ لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة. وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء: الأول منها -وهو الذي دل عليه القرآن الكريم، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا- هو: أن السؤال نوعان: أحدهما: سؤال التوبيخ والتقريع، وهو من أنواع العذاب. والثاني: هو سؤال الاستخبار والاستعلام. فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم، كما قال عز وجل: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]. يعني: أن العبد نفسه ينسى معاصيه، فإذا واجه الحساب يوم القيامة يكون قد نسيها، لكن الله سبحانه وتعالى أحصاها عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (لا يسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟). ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: وعليه فالمعنى: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) سؤال استخبار واستعلام؛ لأنه أعلم بذنبه منه. والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو عن غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قول الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران:106]. ومثاله عن غير ذنب قول الله تبارك وتعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] وقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:13 - 15] وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]. أما سؤال الموءودة في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الذنب؛ لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت. وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه؛ لأنها هي تقول: لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلماً. وكذلك سؤال الرسل فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته. يعني: سوف يقع في يوم القيامة سؤال الرسل، وهذا لا مانع من وقوعه؛ لأنه ليس عن ذنب فعلوه؛ ولأن المنفي هو خصوص السؤال عن ذنب: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ))، وقال في الآية الأخرى: ((وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ))، فالنهي هو عن الذنب بالذات، أما الرسل فإنهم يسألون كما في قوله تبارك وتعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]، ومن ذلك سؤال الله سبحانه وتعالى المسيح عليه السلام: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [المائدة:116]، إلى قوله تبارك وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]. هناك أوجه أخرى للجمع بين هذه الآيات ربما مررنا على معظمها، لكن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يقول هنا: وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضوع هذا الكتاب -أي: كتاب أضواء البيان- بيان القرآن بالقرآن. فهذه لفتة مهمة جداً حتى نعرف أن هذا الكتاب المبارك مختص بتفسير القرآن بالقرآن أساساً، ولذلك من لم يفهم عنوان الكتاب (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) يظن أنه كتاب شامل لتفسير جميع آيات القرآن الكريم بينما هو يتعرض فقط للآيات التي شرحت بآيات أخرى، أي: تفسير القرآن بالقرآن الكريم. هناك تفسير آخر لقوله: ((فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)) يعني: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم، وإنما كل إنسان يسأل عما فعل. يقول مجاهد في تفسير هذه الآية: ((لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌّ)): لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم بدليل ما بعدها وهي قوله تعالى: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)). قال بعض المفسرين: إن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار، فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها.

تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم فبأي آلاء ربكما تكذبان) {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:41 - 42]. قوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)). (سيما) أي: علامة، ولذلك حتى أصحاب الأعراف يعرفون كلاً من الفريقين بهذه السيما، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:46] يعني: كلاً من أهل الجنة وأهل النار، كذلك قوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُم)) يعني: بعلامات تظهر عليهم. ولقد أوضح القرآن الكريم هذه العلامات كما في قول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، فالكفار تكون وجوههم سوداء، كذلك عيونهم تكون زرقاء: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] يعني: أن العين تكون زرقاء حتى البياض فيها، فهذا هو المقصود وليس الصفة التي تكون عليها الناس في الدنيا. ومن هذه السيما: الغبرة والقترة في وجوههم، كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40 - 41]، فهذه كلها من السيما ومن العلامات التي يعرف بها المجرمون، فتأخذهم الملائكة ويلقونهم في جهنم. كما يعرف المؤمنون أيضاً بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء، قال الله تبارك وتعالى في وصف المتقين: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24]، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22]. قوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ)) يقول القاسمي: أي: بما يعلوهم من الكآبة والحزن والذلة. وقيل: بسواد الوجوه وزرقة العيون. ((فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ)) يعني: فتأخذهم الزبانية بنواصيهم وأقدامهم فتسحبهم إلى جهنم وتقذفهم فيها، والباء للآلة، كأخذت بالخطام، أو للتعدية، والناصية: مقدم شعر الرأس. وفيه بيان لكيفية إلقائهم في النار والعياذ بالله، حيث تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه، حتى قال بعض المفسرين: إن الأمر ليس كما نتصوره نحن أنه يجمع الناصية مع القدم من الأمام بل تجمع الناصية مع القدم من الخلف حتى تتكسر عظامه والعياذ بالله. أي: تجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك، وقيل: يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره ثم يلقى في النار.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (يعرف المجرمون بسيماهم) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: ((بِسِيمَاهُمْ)) أي: بعلامتهم المميزة لهم، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران:106] الآية. وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]، وقال تعالى: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27]، وقال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42]؛ لأن معنى قوله: (ترهقها قترة): يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود. وقال تعالى في زرقة عيونهم: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون؛ ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوأ الأوصاف وأقبحها وصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال: وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود ولاسيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره، كما في قوله: {عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40 - 41] فإن ذلك يزيده قبحاً على قبح. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ)) قد قدمنا تفسيرها في الكلام على قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] قيل: تسحبهم الملائكة إلى النار، وفي قول آخر: تارة تأخذ بناصيته، أي: بمقدم شعر الرأس ثم تجره في النار على وجهه، وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على رأسه، والظاهر هو ما ذكرناه آنفاً من أنه تجمع النواصي إلى الأقدام ثم يلقى في النار أعاذنا الله وإياكم منها. ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، كما قلنا في صدر السورة: إذا ذكر قوله تبارك وتعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فيراد بها تقرير العباد بامتنان الله عليهم بما سبق ذكره قبل هذه الآية الكريمة من النعم. وفي بعض المواضع التي قد لا يظهر فيها معنى الامتنان بالنعمة وبالآلاء نحتاج إلى أن نتدبر ونتفكر حتى نعرف وجه الامتنان في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، نقول: بعد أن وصف سبحانه أحوال أهل العذاب وأهل الجحيم وأهوال القيامة وعقاب المجرمين، تبين لنا أن هذا من رحمة الله بنا، وأن هذا من أعظم النعم؛ لأنه حذرنا من المعاصي كي لا نقع فيما نستحق به هذا العذاب، هذا هو وجه النعمة. فإذاً: النعمة فيما وصف من أهوال القيامة وعقاب المجرمين ما في ذلك من الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات، ولذلك يقول بعض المفسرين: ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه، وكان إنذاره لهم عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك، قال تعالى ممتناً بذلك على بريته: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: من عقوبته أهل الكفر به وتكريمه أهل الإيمان به.

تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال الله تبارك وتعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:43 - 45]. قوله: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ)) يعني: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً وتحقيراً وتصغيراً: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ)) أي: هذه النار التي كان يكذب بها المجرمون في الدنيا، أما في الآخرة لا يكذبون بها، فيوبخهم الله قائلاً: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} [الطور:15] أي: أهذا الذي كنتم تقولون عليه: سحر وكهانة؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور:15 - 16]. وقال تبارك وتعالى هنا: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ)) يعني: النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عياناً. ((يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)) الحميم هو الماء الحار، والحميم أخذ منه كلمة الحمام؛ لأنه يكون فيه الماء المسخن. أما قوله: ((آنٍ)) أي: انتهى حره واشتد غليانه، حتى إنه لا يستطاع من شدة حرارته. وقال بعض المفسرين: (حميم آن) يعني: حميم حاضر، وفي الحقيقة لا تعارض بين وصفه بأنه حار شديد الحرارة انتهى غليانه إلى أقصى ما يصل إليه من الحرارة، وفي نفس الوقت كونه حاضراً. ومما يدل على كونه حاراً قوله تبارك وتعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] يعني: التي اشتدت حرارتها جداً. ومما يدل على كونه حاضراًَ قول الله تبارك وتعالى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] يعني: إدراكه وبلوغه واستواءه ونضوجه. قوله: ((يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)) أي: تراهم يسعون بين عذاب الجحيم وبين الحميم، فإذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم الشديد الحرارة، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، فهم ما بين هذا أو ذاك. وقال تبارك وتعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20]، وهذه الآية مثل قول الله تبارك وتعالى: {إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72]. فهذا مما يوضح معنى قوله تعالى: ((يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)) يعني: تارة في الجحيم وتارة والعياذ بالله يسقون من الحميم، وهو شراب كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء.

تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان) {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47]. قوله: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: أي: قيامه عند ربه للحساب. ((مَقَامَ)) هنا مصدر بمعنى القيام. إذاً: فمعنى ((مَقَامَ رَبِّهِ)): قيام الشخص ووقوفه بين يدي الله للحساب، فحينما خاف مقام ربه للحساب ترتب على ذلك أنه في الدنيا أطاعه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. فإذاً: إذا كان المقصود مقام العبد أمام ربه للحساب يوم القيامة، فلماذا أضيف للرب؟ أضيف للرب لأنه سوف يكون عند الله سبحانه وتعالى وأمام الله، وهذا كقول العرب: ناقة رقود الحل، يعني: رقود عند الحل. تفسير آخر لقوله تعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ)) أي: موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، وذلك لاختصاص الملك يومئذ بالله تعالى، أو هو كناية عن خوف مقام الرب، بمعنى: من حصل له الخوف من مكان أحد يهابه وإن لم يكن فيه، فخوفه بطريق الأولى، يعني: لو أن شخصاً يحصل له الخوف إذا رأى المكان الذي يجلس عليه القاضي أو الملك أو كذا، فيهاب المكان حتى وإن لم يكن جالساً عليه، فلا شك أنه لو كان جالساً عليه فسيكون خوفه أشد بطريق الأولى.

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)): قد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها وجهان صحيحان كلاهما يشهد له القرآن، فنذكر ذلك كله مبينين أنه كله حق، من ذلك هذه الآية الكريمة. وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء كلاهما يشهد له قرآن: أحدهما: أن المراد بقوله: ((مَقَامَ رَبِّهِ)) أي: قيامه بين يدي ربه، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فقوله: ((وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)) قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه، فنهى نفسه عن هواها. والوجه الثاني: أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام هو الله تبارك وتعالى، أي: خاف هذا العبد قيام الله عليه، ومراقبته لأعماله وإحصاءها عليه، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، وقوله تبارك وتعالى: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61] الآية. إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا التفسير فإن الإنسان إذا هم بمعصية فذكر أن الله سبحانه وتعالى يراقبه، وأن الله عز وجل مطلع عليه وقائم عليه فيترك المعصية خوفاً من الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية دليل على مسألة فقهية أفتى بها سفيان الثوري وهي: أن من قال لزوجته: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق، فإنه لا يحنث؛ لأنه لو هم بمعصية في يوم من الأيام وتركها استحياء من اطلاع الله سبحانه وتعالى عليه وخوفاً من الله فلا تطلق زوجته ولا يحنث في يمينه. ثم يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تبارك وتعالى في شأن الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]، أن قوله تبارك وتعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة.

أقوال العلماء والمفسرين في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه)

أقوال العلماء والمفسرين في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه) قيل في هذه الآية أقوال: منها: أنها نزلت في أبي بكر الصديق. وقيل: نزلت في الرجل الذي قال: (أحرقوني بالنار لعلي أضل الله) يعني: أفوته ويخفى عليه مكاني. والصحيح أن الآية عامة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) رواه البخاري. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذه الآية عامة في الجن والإنس، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا، ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء، فقال: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) * ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، فقوله: (ربكما) أي: الإنس والجن.

ترجيح ابن القيم بين الأقوال في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه)

ترجيح ابن القيم بين الأقوال في قوله تعالى: (ولمن خاف مقام ربه) وللإمام ابن القيم كلام قيم جداً في الترجيح بين القولين اللذين ذكرناهما في تفسير الآية: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ))، هل هي ولمن خاف مقامه بين يدي الله يوم القيامة للحساب، أو ولمن خاف قيام الله عليه وشهوده واطلاعه على أعماله في الدنيا، فيتقي منه ويترك المعصية. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مرجحاً أن المعنى: ولمن خاف مقامه بين يدي ربه في الحساب يوم القيامة. أي: أن الإنسان يهم بالمعصية فيتذكر أنه واقف بين يدي الله يوم القيامة وأنه محاسب فينزجر عنها، هذا الذي يرجحه ابن القيم وترجيحه هذا لوجوه: الأول: أن طريقة القرآن في التخويف أن يخوفهم بالله واليوم الآخر، فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم، كقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، ففي هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنما مدحهم بخوفه عز وجل وخشيته، وقد يذكر الخوف متعلقاً بعذابه، كقوله تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن. الثاني: أن هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51]، فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً فقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51]، معناها: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) يعني: من خاف مقام ربه للحساب بين يدي الله بعد الحشر. الثالث: أن خوف مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت، وهذا هو الذي يستحق الجنتين المذكورتين، فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءت به الرسل، وأما مقام الله على عبده الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه على القول الثاني فهذا يقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأكثر الكفار يخافون جزاء الله لهم في الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه، والمحسن بإحسانه، وأما مقام العبد بين يدي ربه في الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل. فإن قيل: إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه في الآخرة فقد استوى التقديران، فمن أين رجحتم أحدهما؟ قيل: التخويف من مقام العبد بين يدي ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد؛ ولهذا خوفنا الله سبحانه وتعالى بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]؛ لأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله تبارك وتعالى وذلك في يوم القيامة، بخلاف مقام الله على العبد فإنه في كل وقت. وأيضاً: فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام الله، ولا هذا من المألوف إطلاقه على الرب. وأيضاً: فإن المقام في القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقوله تعالى: {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73].

أوجه دخول الجن مع الإنس في التكليف والثواب والعقاب

أوجه دخول الجن مع الإنس في التكليف والثواب والعقاب قوله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} يتناول الصنفين من وجوه، تقدم منها وجهان. يعني: أنه يشمل الجن ويشمل الإنس؛ لأن أساس السياق كان في إثبات أن الجن مكلفون كالإنس، ويترتب على أعمالهم الثواب والعقاب، فمحسنهم في الجنة كما أن مسيئهم في النار، قال الله تعالى حكاية عن المؤمنين من الجن: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:13]، وبهذه الحجة احتج البخاري. قوله: ((فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا)) البخس هو: نقصان الثواب، والرهق هو: الزيادة في العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزاد في سيئاته، وهذا مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] أي: لا تزاد سيئاته عما عمل ولا تنقص حسناته عما عمل ولا ينقص ثوابها. وقال تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا)) يعني: يا معشر الجن والإنس! ((تُكَذِّبَانِ)) ثم ذكر ما في الجنتين إلى أن قال: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فهذا يدل على أن محسنهم -أي: الجن- في الجنة؛ لأن قوله تعالى: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني: إنس من أهل الجنة ولا جن من أهل الجنة. فقوله: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) هذه صفة عموم، فتتناول كل من خاف مقام ربه سواء كان من الجن أو الإنس. كذلك رتب الجزاء المذكور على خوف مقامه، فكل من أتى بالشرط ينال الجزاء، أي: فكل من خاف مقام الله فإنه يكون له جنتان سواء كان من الجن أو من الإنس. لقد استطرد ابن القيم في المقصود بقوله: ((مَقَامَ رَبِّهِ)) ثم عاد إلى المسألة الأصلية التي كان يتكلم فيها فقال أيضاً: قول الله سبحانه وتعالى عقب هذا الوعد: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أيضاً يدل على ذلك. وأيضاً: وصف نساء أهل الجنة بقوله: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني: لم يطمث نساء الإنس إنس قبلهم، ولا نساء الجن جن قبلهم. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30]، وهذا يشمل الجن أيضاً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث للثقلين، ثم قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31] وأمثال هذا من العمومات، وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون في العموم كما أن كافرهم يدخل في الكافرين المستحقين للوعيد، ودخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهي التي تغلب غضبه. وأيضاً: فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله دخل الجنة. وأيضاً: فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه. وأيضاً: ثبت أنهم إذا أجابوا داعي الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر الله له دخل الجنة ولابد، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار. وأيضاً: ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم وأنهم مكلفون باتباعه، وأن مطيعهم لله ورسوله مع الذين أنعم الله عليهم كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، إلى آخر الآية. وأخبر الله سبحانه وتعالى عن ملائكته حملة العرش ومن حوله أنهم يستغفرون للذين آمنوا، سواء من الجن أو الإنس، وأنهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم} [غافر:7 - 8]، فدل على أن كل مؤمن غفر الله له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنة، وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم فتعين دخولهم الجنة. قوله: ((جَنَّتَانِ)) يقول القاسمي: أي: جنة لمن أطاع من الإنس وجنة لمن أطاع من الجن، أو هو كناية عن مضاعفة الثواب وإيثار التثنية للفاصلة، وهذا كلام فيه نظر، لكن الصحيح والأظهر في تفسير الآية: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)) يعني: جنتان كل على حدة، فلكل خائف جنتان. كما لا يصح في قول الله تبارك وتعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] أن يقال: هم عشرون، لكن لأجل الفاصلة قال: هم تسعة عشر، هذا لا يجوز أبداً وما ينبغي.

تفسير قوله تعالى: (ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (ذواتا أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان) ثم لقد شرع عز وجل في وصف هاتين الجنتين فقال تبارك وتعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:48 - 49]. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (ذواتا أفنان) أي: أنواع من الأشجار والثمار على أساس أن أفناناً جمع فن بمعنى النوع، أو ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) أي: أغصان لينة جمع فنن وهو ما دق ولان من الغصن. إذاً: قوله: ((أَفْنَانٍ)) إما جمع فن، وإما جمع فنن، ومن قال: جمع فن فهو على أساس أن الفن يحتوي على النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، ومن قال: جمع فنن فهو على أساس أن الفنن هو ما دق ولان من الغصن. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) أي: أغصان نضرة حسنة، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ))، هكذا قال عطاء الخرساني وجماعة أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضاً. قال مجاهد الأفنان: الأغصان واحدها فنن. والأفنان هذه كلمة يحبها الشعراء جداً، وتراهم يأتون بكلمة الأفنان بمعنى الأغصان، يقول إقبال: والطير صادحة على أفنانها. يعني: على أغصانها. ويقول النابغة: أسائلها وقد سفحت دموعي كأن مفيضهن غروب شن بكاء حمامة تدعو هديلاً مفجعة على فنن تغني قوله: (بكاء حمامة) يعني: أبكي بكاء حمامة. وقال آخر يصف طائرين: باتا على غصن بانٍ في ذرى فنن يرددان لحوناً ذات ألوان (يرددان لحوناً) أي: لغات ذات ألوان. ويقول الشاعر أيضاً: ما هاج شوقك من هديل حمامة تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف طاوياً ذا مخلبين من الصقور قطاما فخلاصة الكلام: أن الأفنان هي الأغصان. وقيل أيضاً: الأفنان ظل الأغصان على الحيطان. وقيل: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) ذواتا ألوان، يعني: أن فيهما فنوناً من الملاذ. وقال عطاء: كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة. يعني: الغصن الواحد يكون فيه ثمار وألوان كثيرة جداً من الفاكهة، ليس مثل الدنيا يكون في الغصن ثمرة واحدة من نوع واحد. وقال الربيع بن أنس: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) يعني: واسعتا الفناء. يقول ابن كثير: وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها، والله أعلم. وقال قتادة: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) يعني: بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها. وروي عن أسماء قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال: يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة، أو قال: يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب، فيها فراش الذهب، كأن ثمرها القلال).

تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال تبارك وتعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:50 - 53]. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) أي: تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع الألوان. ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)). قال الحسن: إحداهما يقال لها: تسنيم، والأخرى السلسبيل، وقال عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، ولهذا قال بعدها: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)). يعني: صنفان وكلاهما حلو يستلذ به.

التفاوت بين الجنتين الأوليين والجنتين الأخريين

التفاوت بين الجنتين الأوليين والجنتين الأخريين إن الجنتين اللتين توصفان الآن هنا أعلى من الأخريين، فلما تتأمل ستجد أن هاتين الجنتين هما للمقربين، أما الأخريين فقال الله عنهما: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62]، وهما لأصحاب اليمين، فنلاحظ هنا أن الجنتين الأوليين أفضل في كل شيء، فهنا قال: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) وهناك قال: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] والجري أفضل من النضخ. كذلك قال الله تبارك وتعالى في هاتين الجنتين الأوليين: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) فعم جميع أنواع الفاكهة، وهناك قال: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68] وهذا أقل، وهنا قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] وفي الأخريين قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] والعبقري: الطنافس، ولا شك أن الديباج أعلى من العبقري، والرفرف هي الوسائد، فلا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من الوسائد، وقال في الأوليين: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58] وقال في الأخريين: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70]، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان. وقال في الأوليين: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48]، وقال في الأخريين: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] أي خضراوان كأنهما من شدة الخضرة سوداوان. فوصف الأوليين بكثرة الأغصان ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ))، ووصف الأخريين بالخضرة فقط، ولعل ما لم يذكره الله سبحانه وتعالى من التفاوت بين الجنتين أكثر مما ذكر.

معنى قوله تعالى: (فيهما من كل فاكهة زوجان) والفرق بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة

معنى قوله تعالى: (فيهما من كل فاكهة زوجان) والفرق بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة يقول ابن كثير ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) يعني: فيهما من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون، ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)). ثم قال رحمه الله تعالى: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل). لكن الحنظلة في الجنة تكون حلوة وليست مرة كشجر الدنيا. ثم قال رحمه الله: وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء) يعني: أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل. وهذا نفس الشيء بالنسبة لعذاب النار، فإذا وصف عذاب النار بوصف في الدنيا فهو مجرد الأسماء، حتى داء الجرب في القرآن إشارة على أنه من عذاب أهل النار، كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50]، ومعروف أن العرب كانوا يعالجون الإبل من الجرب بدهنها بالقطران الأسود، ففي الآخرة يسلط عليهم داء الجرب، ولكن ليس جرب النار والعياذ بالله كجرب الدنيا، مع أنه في الدنيا من أشد الأمراض وأقبحها وأبغضها إلى الإنسان، يقول لك: كأني أجرب وأعياه داء. ففي الآخرة يسلط عليهم أيضاً جرب لكن هناك تفاوت كثير في حقيقة العذاب به، إذاً: قوله: ((سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ)) يعني: فيدهن بقطران، لكن هناك تفاوت بين قطران الآخرة وقطران الدنيا، فقطران الآخرة ستشب فيه النار ويتضاعف العذاب. الشاهد: أنه ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء فقط، وهناك تفاوت وبون شاسع سواء في حالة العذاب أو في حالة النعيم كما أشرنا. وقال أبو بكر الوراق في تفسير قوله تعالى ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)): لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل. يعني: على أساس أن الجزاء من جنس العمل.

تفسير قوله تعالى: (متكئين على فرش بطائنها من استبرق)

تفسير قوله تعالى: (متكئين على فرش بطائنها من استبرق) قال الله تبارك وتعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54]. قوله: (متكئين) هذا حال منصوب، والاتكاء يطلق على الاعتماد على شيء، قال عز وجل حاكياً عن موسى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18]. ويطلق أيضاً على أن الإنسان يجلس على جنبه ويستند على مرفقه. بالنسبة للاتكاء هناك ظاهرة عجيبة جداً بدأت تشيع في المساجد، وهي أنه في بعض المساجد تجد خطاً من الكراسي يجلس عليها بعض المصلين، ونلاحظ الذي يجلس عليها أحياناً يكون شاباً أو فوق الشباب بقليل -أي: في منتصف العمر- وهو ما شاء الله يسعى وراء الدنيا مثل الجمل أو مثل (البابور) وتراه في منتهى الصحة والعافية، ثم تراه جالساً على الكرسي، وهذا يدل على تهاون الناس بالصلاة، وقد تجد إنساناً يصلي متكئاً أو جالساً على كرسي. نقول: في النافلة يقبل ما لا يقبل في الفريضة، صحيح أن العلماء قالوا في مثل هذا الإنسان: يصلي حسبما يستطيع، يعني: إن كان لا يستطيع القيام فله أن يصلي قاعداً أو على جنب على حسبه، لكن القيام ركن من أركان الصلاة، بمعنى: لو أن رجلاً في الفريضة صلى جالساً وهو قادر على القيام فصلاته باطلة، يقول عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]. أما إذا لم يستطع قائماً فله أن يصلي جالساً أو على جنب، وهكذا هناك درجات معينة لا ينتقل إلى التي بعدها حتى يعجز عن التي قبلها. إذاً: ينبغي أن لا توضع الكراسي للناس في المساجد إلا إذا كان أثناء الجلوس خارج الصلاة، كأن يشق على بعض كبار السن فلا بأس بذلك، لكن داخل الصلاة لا ينبغي أن توفر الكراسي؛ حتى لا نفتح هذا الباب للناس المتهاونين؛ لأني أرى في بعض المساجد أناساً في منتهى الصحة والعافية، لكن وقت الصلاة تراه يأخذ كرسياً ويجلس عليه.

الرحمن [58 - 78]

تفسير سورة الرحمن [58 - 78]

تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان) {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) [الرحمن:58 - 61]. قوله: ((كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ)) يقول القاسمي: أي: في الحسن والبهجة، أو في حمرة الوجنة والوجه أدباً وحياء ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)). ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: هل جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب وهو الجنة: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) أي: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) أي: ما لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة, كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. قوله: ((الحسنى)) هي الجنة، ((وَزِيَادَةٌ)) وهي رؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة. وبعض المفسرين ذهب إلى أن قوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يفيد العموم، يعني: ما جزاء الإحسان في الدنيا التي هي دار العمل إلا الإحسان في الدنيا والآخرة. قال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد, فيكون هنا تفسيران: التفسير الأول: هل جزاء من أحسن في الدنيا العمل إلا الإحسان إليه في الدار الآخرة, هذا هو الصواب، ويؤيده قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]. والتفسير الثاني: ((هل جزاء الإحسان)) يعني: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل حينما كتبه الله سبحانه وتعالى من السعداء إلا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد حتى يدخل الجنة. وقال محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر, أي: مرسلة. يعني: مطلقة غير مقيدة، حتى الكافر إذا أحسن في الدنيا يحسن الله إليه في الدنيا، لكن أعماله مقيدة بمشيئة الله تعالى، كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] وهذا هو سر القيد: ((لمن نريد)) إلى آخر الآية. وقول محمد بن الحنفية في تفسيرها: هي مسجلة للبر والفاجر، أي: مرسلة على الفاجر في الدنيا، وعلى البر في الآخرة، وهذا المعنى في الحقيقة ليس بدعاً من القول، فإنه يؤيده نصوص تدل على أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى لا يضيع عليه، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى. يعني: أن الكافر الذي يعمل أعمالاً حسنة مما يرضي الله عز وجل كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف، وحسن الجوار، وصدق الحديث، والوفاء بالعهد، والتنفيس عن المكروب، ونحو ذلك فهو يجازى عليه، لكن فقط في الدنيا؛ لأن الدنيا هي سجن المؤمن وجنة الكافر. يعني: المؤمن إذا خرجت روحه كالسجين الذي يحكم عليه بالإطلاق والإخراج, فيدخل إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، ويطلق من القيود التي كان مقيداً بها في الدنيا، سواء الأحكام الشرعية من الحلال والحرام أو غير ذلك من الابتلاءات, أما الكافر فهو يجازى فقط في الدنيا التي هي جنته, وهي المكان الوحيد الذي يمكن أن ينتفع فيه بعمله الصالح في الدنيا، ولا يمكن أن يكون له حظ في الآخرة إذا مات على غير التوحيد؛ وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، وقال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها) رواه مسلم، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا). وهذا هو السر في أننا أحياناً نجد الكافر في رزق وصحة وأولاد ونعيم ورأس مال ومشاريع وكذا وكذا, وقد يفضل في كثير من الأحوال على المؤمن، بينما المؤمن مبتلى فقير وهكذا؛ لأن الله سبحانه يريد رفع درجات المؤمن في الآخرة، وذلك للحديث الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته) رواه مسلم. إذاًً: القاعدة العامة أن انتفاع الكافر بالعمل الحسن الذي يعمله مقيد بمشيئة الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ))، فهذه تقيد ما سبق من الكلام. أما في الآخرة فالنصوص كثيرة جداًَ، وهي دالة على أنه لا يمكن أن ينتفع الكافر بعمله في الآخرة إذا مات على الشرك والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان) {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:62 - 69]. قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)) قيل: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين. وقال معظم المفسرين: إن هاتين الجنتين دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن الكريم؛ لأن قوله تعالى: ((ومن دونهما)) يفيد أن هاتين الجنتين أقل من اللتين ذكرتا أولاً في الآيات السابقة، وهذا هو الظاهر من كلام عامة المفسرين، وإن كان بعضهم ذهب إلى العكس وهو تفضيل الجنتين المذكورتين آخراً على المذكورتين أولاً, ثم اجتهد في توجيه كلامه، لكن الصحيح ما ذكرناه من قبل أن الأقرب والله تعالى أعلم: أن الجنتين الأوليين أعظم وأعلى وأفضل من الجنتين اللتين ذكرتا فيما بعد, وذلك لما روي في الحديث: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين. وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين, وقال ابن عباس: ((ومن دونهما جنتان)) أي: من دونهما في الدرج، وقال ابن زيد: من دونهما في الفضل. والدليل على شرف الأوليين على الأخريين وجوه: أحدها أنه نعت الأوليين قبل هاتين، والتقديم يدل على الاعتناء, ثم قال: ((ومن دونهما جنتان)) وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني, وقال هنا: ((ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)) وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ، وقال هنا: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: سوداوان من شدة الري من الماء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ((مدهامتان)): (قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء)، وقال قتادة: خضروان من الري ناعمتان, ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض. قوله: ((مُدْهَامَّتَانِ)) أي: خضراوان من الري تضربان إلى السواد من شدة الخضرة. وقيل: قوله تعالى: ((مُدْهَامَّتَانِ)) دلالة على شدة تمكن اللون الأخضر، وأنهما ممتلئتان من الخضرة. وقال هناك في الجنتين الأوليين: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ)) وقال هنا: ((فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ)). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((نصاختان)) (أي: فياضتان، والجري أقوى من النضخ). وقال الضحاك: ((نضاختان)) أي: ممتلئتان لا تنقطعان. وقال هناك: ((فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)) أي: فيها من جميع أنواع الفاكهة أما هنا فقال: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم، ولهذا ليس قوله: ((ونخل ورمان)) من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره, وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما. وهذا كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فالصلوات الخمس والوسطى منها وهي صلاة العصر، لكن هذا لمزيد من الاعتناء بتخصيص صلاة العصر بالذكر، وكذلك قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] قوله: ((وجبريل وميكال)): هما من الملائكة, لكن هذا من باب عطف الخاص على العام. يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ))، وإنما أفردهما بالذكر مع أنهما من الفاكهة لبيان فضلهما.

تفسير قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان) {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:70 - 71]. قوله: ((خيرات)) جمع خَيَّرة بالتشديد ثم خففت. قوله: ((فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)) يعني: فاضلات في الأخلاق، وإيثار ضمير المؤنث على التثنية مراعاة للفظ المسند إليه بعده؛ لأن المسند إليه بعده فيه الجهة, ((فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)). ((حسان)) يعني: حسان الوجوه. إذاً: قوله: ((خيرات)): إشارة إلى أنهن فاضلات في أخلاقهن، وأما ((حسان)) ففيه وصف الخَلْقِ. يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ((فيهن خيرات حسان)): قيل: المراد ((خيرات)) كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة. وقيل: ((خيرات)) جمع خيرة أو خيِّرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه, قاله الجمهور. وفي بعض الأحاديث: أن الحور العين يغنين لأزواجهن: (نحن الخيرات الحسان. خلقنا لأزواج كرام) ولهذا قرأ بعضهم: (فِيهِنَّ خَيَّرَاتٌ حِسَانٌ) بالتشديد, ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)). لقد ناقش المفسرون: أيهما أكثر حسناً الحور العين أو الآدميات؟ فبعض العلماء قال: الحور أفضل من الآدميات لما ذكر من وصفهن في القرآن والسنة بصفات الجمال في الخَلق والخُلق, وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت: (وأبدله زوجاً خيراً من زوجه) فهذا يدل على أن التي يتزوجها المؤمن من الحور العين أفضل من زوجه الآدمية. وإن كان يمكن الجواب عن هذا بأنه إذا مات الرجل وبقيت زوجته بعده فالدعاء له الآن بعد انتقاله إلى الدار الآخرة أو إلى مقدمات الآخرة وهي البرزخ. القول الثاني: الآدميات أفضل من الحور العين؛ لأن الآدميات مكلفات وقد عملن أعمالاً صالحة في الدنيا وأطعن الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أيضاً: مما ينبغي أن نعلمه أن الحور لسن من نساء الدنيا, بل هن مخلوقات في الجنة, لقول الله عز وجل: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ))، وأكثر نساء الدنيا مطموثات, وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أقل ساكني الجنة النساء)؛ فإذا كان أقل ساكني الجنة النساء، فالمعنى: أن أهل الجنة من الرجال لا يصيب كل واحد منهم امرأة من المؤمنين في الجنة، مع أن الله سبحانه وتعالى وعد جميع المؤمنين بأنهم سوف يتزوجون الحور العين، فثبت أن الحور العين لسن من نساء الدنيا وإنما هن مخلوقات يخلقهن الله سبحانه وتعالى في الجنة. فجاء في الحديث أنهن ينشدن: (نحن الخيرات الحسان. خلقنا لأزواج كرام).

تفسير قوله تعالى: (حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان)

تفسير قوله تعالى: (حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان) {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:72 - 75]. قوله: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) الحور جمع حوراء، والحوراء البيضاء النقية. ومعنى قوله: ((مقصورات)) أي: قصرن أنفسهن على منازلهن, لا يهمهن إلا زينتهن ولهوهن. ((الخيام)) يعنى بها البيوت، وقد يسمي العرب هوادج النساء خياماً. قوله تعالى: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) أي: محبوسات حبس صيانة وتكرمة وحماية. وهذا الحبس ليس كما يزعم بعض الناس أنه امتهان للمرأة أو كذا، وإنما هو حبس من أجل الصيانة والحماية والتكريم؛ لأن الشيء الذي له قيمة وهو نفيس فإنه يصان ولا يهان ولا يبذل للناظرين، فمثلاً: حبة اللؤلؤ تصان داخل الصدفة لأنها ثمينة, ومن امتلك جواهر أو أشياء من هذه الأشياء النفيسة فإنه يصونها في مكان يؤمن عليها فيه. وقوله: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) هذا في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين, فهناك قال: ((فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ)) أما هنا فقال: ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ)) يعني: قُصِرتْ أطرافهن، ولا شك أن التي قَصَرَتْ طرفها بنفسها أفضل ممن قُصِرتْ، وإن كان الجميع مخدرات، ومخدرات يعني: استترن وراء الخدر، وهو غطاء أو ستارة في كنف البيت تحبس فيه العذراء لشدة حيائها, ولذلك ورد في الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها)، وهناك كتاب في الفقه الحنبلي اسمه (فقه المخدرات شرح أخصر المختصرات) المخدرات: يعني الأفكار المنقولة المستورة. والبنت في الصعيد إذا كبرت يقولون عنها: هذه (اتخدرت) يعني: كبرت وهي مخدرة ومستترة داخل البيت. إذاً: ((حور)) جمع حوراء، والحوراء الشديدة بياض العين الشديدة سوادها. وقوله: ((مقصورات)) أي: محبوسات حبس صيانة وتكرمة، فالمقصود هنا عدم خروجهن أو نظرهن وتطلعهن إلى غير أزواجهن، ومنه قول كثير مخاطباً عزة: وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر يعني: أنت التي حببت إلى كل امرأة قارة في بيتها، أعني النساء اللائي يقصرن أنفسهن داخل الخيام أو داخل البيوت أو داخل الخدر ولا يخالطن الرجال. (شر النساء البحاتر) يعني: القصيرة المجتمعة الخلق. ((حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)) أي: لسن بالطوافات في الطرق. أما الخيام فقيل: هي خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب. ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)) يعني بهن: حور الجنتين اللتين هما دون الأوليين، أو أنه تكرار لما سبق للتنويه لهذا الوضع، وكونه في مقدمة المشتهيات وطليعة الملذات فقال عز وجل: ((لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ))، إلا أن الله سبحانه وتعالى زاد في وصف الحور الأوائل فقال: ((كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ))، أما هنا فلم يصف هؤلاء الحور بذلك، وإنما قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)).

تفسير قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما)

تفسير قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما) {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:76 - 77]. قوله: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)) أي: سرر أو مساند أو وسائد خضر ((وعبقري)) أي عتاق الزرابي، ((حسان)) أي: جيادها. وأصل صفة العبقري هذه لا تقال إلا على الجيد، فهنا كشف عن الصفة بقوله: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ))، فقد يظن ظان أن هناك شيئاً يوصف بأنه عبقري ولا يكون حسناً، فمن ثم قال: الصفة كاشفة؛ لأن كل عبقري لابد أن يكون حسناً. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)) عن ابن عباس: (الرفرف المحابس)، والمحابس بفتح الميم محبس، والمحبس ثوب يطرح على ظهر الفراش الموضوع على السرير الذي ينام الإنسان عليه. وقال العلاء بن زيد: الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي. وقال عاصم الجحدري: ((متكئين على رفرف خضر)) يعني: الوسائد. وعن سعيد بن جبير قال: الرفرف: رياض الجنة، والعبقري هي: عتاق الزرابي، يعني: جيادها. وقال مجاهد: العبقري: الديباج. وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: ((وعبقري حسان)) فقال: هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها، وعنه: أنها المرافق. وقال زيد بن أسلم: العبقري أحمر وأصفر وأخضر. وقيل: العبقري من ثياب أهل الجنة لا يعرفه أحد. وقال أبو العالية: العبقري: الطنافس المخملة إلى الرقة ما هي. وقال القيسي: كل ثوب موشى عند العرب عبقري. وقال أبو عبيدة: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي. وقال الخليل بن أحمد: كل شيء نفيس من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقرياً, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر: (فلم أر عبقرياً يفري فرية). والعبقري هنا المقصود به: رئيس القوم وجليلهم.

وجه تسمية الشيء النفيس عبقريا

وجه تسمية الشيء النفيس عبقرياً نلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى خاطب العرب بما يعرفونه, ومما تعارفه العرب أن العبقري هي من أنفس الأشياء, مثل: الزرابي أو البسط أو السجاجيد أو كذا، فالعرب لهم كلام في أصل وصف الشيء بأنه عبقري. وتزعم العرب أن عبقر بلد يسكنها الجن فينسبون إليه كل شيء فائق جليل. وقال الخليل: كل شيء نفيس من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري. إذاً: كلمة عبقري لوحدها تدل على أنها كل جيد ونفيس وفاخر وجليل إلى آخره، يعني: لا يفهم من قوله: ((وعبقري حسان)) أنه يمكن أن يكون هناك عبقري ليس حسناً، وإنما كل عبقري لا بد أن يكون حسناً، فلذلك قال: ((َعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ)). إذاً: العرب ينسبون إلى عبقر كل شيء يعجبون به من صنعه وجودته وقوته، وأيضاً: يوصف به كل جليل ونفيس وفاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم، فالعرب تسميه عبقرياً، وفي الحديث لـ عمر: (فلم أر عبقرياً يفري فريه). أيضاً: للعقاد سلسلة مؤلفات تسمى العبقريات، منها: (عبقرية محمد) و (عبقرية عمر) و (عبقرية الصديق) وهكذا.

حكم إطلاق وصف العبقري على النبي صلى الله عليه وسلم

حكم إطلاق وصف العبقري على النبي صلى الله عليه وسلم لقد حصل نوع من الجدل حول إطلاق وصف العبقري على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, أو وصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه أعظم الأبطال أو أنه أشجع الشجعان أو أنه أفضل مائة شخصية عرفها العالم, هذا كله يعتبر نوعاً من الرضا بالدون؛ لأنه من الرضا بالدون حينما نقنع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عبقري, ولا يقاس بأنه أكمل البشر في كل صفاته عليه الصلاة والسلام, ومعلوم أن الناس ينقسمون إلى مؤمنين وكفار، وأهل جنة وأهل نار، ليس لأنهم كانوا يؤمنون أن محمداً عبقري أو غير عبقري عليه الصلاة والسلام، أو أنه بطل أو غير بطل. فالنبي بكل المقاييس البشرية هو أفضل البشر عليه الصلاة والسلام، والحد الفاصل بين الإيمان والكفر فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم أنك تشهد أن محمداًَ رسول الله، أما من يبدي إعجابه به فهو على رغم أنفه لابد أن يعجب بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام وسيرته، وكذا وكذا من شئونه، ولذلك رأينا كثيراً من الكفار يمدحونه عليه الصلاة والسلام مدحاًَ كبيراً جداً ومدحاً عظيماً، كـ موسى الشاعر الألماني المعروف والذي له كلام في هذا، وأحد الأدباء الروس أيضاً له كلام في غاية الروعة والاحترام لرسول الله عليه الصلاة والسلام, وهذا ابن الرئيس المدعو غاندي الهندي عابد البقر دخل في الإسلام, فهؤلاء الناس لم يدخلوا في الإسلام بمجرد أن مدحوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, فالرسول عليه الصلاة والسلام بعث كي يؤمن الناس بأن لا إله إلا الله وأنه رسول الله, أما الوقوف عند كلمة عبقري وأن نفخر حينما نجد هؤلاء الناس يمدحونه بكذا وكذا لأنه رسول, الاعتراف بأنه رسول الله لا يهز فينا شعرة. إذاً: عليه الصلاة والسلام لا يختلف عاقل أنه أكمل البشر, أما الوقوف عند هذا الحد، أو مقارنته بـ نابليون أو فلان أو علان فهذا كلام عجيب، ولكن الحد الفاصل بين الإسلام والكفر هو أن تؤمن أن محمداً نبي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

الفرق بين فرش الجنتين الأوليين وفرش الجنتين الأخريين

الفرق بين فرش الجنتين الأوليين وفرش الجنتين الأخريين يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة فإنه قد قال هناك: ((مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ))، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظاهرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الأولى والأحرى. وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين.

تفسير قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)

تفسير قوله تعالى: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) قال تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] أي: ذي العظمة والكبرياء والتفضل بالآلاء. قوله: ((ذي الجلال والإكرام)) أي: هو سبحانه وتعالى أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان المقسط، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه) رواه أبو داود. وعن أنس مرفوعاً عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) قوله: (ألظوا) يعني: الزموا هذا الاسم فاثبتوا عليه وأكثروا من الدعاء به. وعن عائشة قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد -يعني: بعد الصلاة- إلا بقدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام). قوله هنا: ((تبارك اسم ربك)) الاسم هنا كناية عن الذات العالية، وإلا يكفي أن يقول: تبارك ربك ذو الجلال والإكرام. كذلك قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فأنت لا تقول: سبحان اسم ربنا الأعلى بل تقول: سبحان ربنا الأعلى, فالمقصود به الذات العالية؛ لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معه، كقول الله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] وهذا يقوي القراءة بالرفع, أي: ((تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام)) على أنه صفة للاسم، وسر إيثار الاسم أن الأغلب أن المقصود هو الذات العالية, وللتنبيه على أنه لا يعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى لاستحالة معرفة الذات المقدسة، فما عرف الله إلا الله. فهو اقتصر عز وجل على ذكر الاسم تنبيهاً على أننا لا نعرف من الله سبحانه وتعالى إلا أسماءه الحسنى, وحتى الأسماء الحسنى لا نعرفها كلها وإنما نعرف ما كشف لنا منها, وذلك لما ورد في الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فأسماء الله لا تنحصر في التسعة والتسعين وإنما هي أكثر من ذلك ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.

وجه إدخال لفظة (اسم) في قوله: (تبارك اسم ربك)

وجه إدخال لفظة (اسم) في قوله: (تبارك اسم ربك) قيل: إن لفظة: (اسم) مقحمة, كقول الشاعر لبيد بن ربيعة في قصيدة يخاطب فيها بنتيه: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر ثم قام يوصيهن بماء يفعلان بعد أن يموت: فقوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر فقولا هو المرء الذي لا خليله أضاع ولا خان الصديق ولا غدر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر لأن الحداد في الجاهلية كان يستمر سنة كاملة. قوله: (إلى الحول) يعني: ابكيا ومجداني واذكرا محاسني مدة سنة كاملة. قوله: (ثم اسم السلام عليكما) هذا شاهد لإقحام لفظة (اسم). وقول الله تبارك وتعالى هنا في آخر هذه السورة الكريمة: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) يعني: كأنه من باب رد العجز على الصدر؛ لأن السورة افتتحت بالاسم الكريم: ((الرَّحْمَنُ)) واختتمت بقوله: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) فكأن المراد بقوله: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) كأنه يريد الاسم الذي افتتحت به هذه السورة وهو اسم (الرحمن)، فافتتح السورة بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجن وخلق السماوات والأرض وصنعه، وأنه عز وجل كل يوم هو في شأن، ووصف تدبيره فيه، ثم وصف يوم القيامة وأهواله وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان، ثم قال في آخر السورة: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) أي: تبارك هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه سبحانه وتعالى يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي, فمن رحمتي خلقتكم, ومن رحمتي خلقت لكم السماء والأرض, ومن رحمتي خلقت الخلق والخليقة والجنة والنار, فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه ثم قال: ((ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)) يعني: أنه جليل في ذاته كريم في أفعاله سبحانه وتعالى.

وجوب تعظيم اسم الله تعالى والحذر من امتهانه

وجوب تعظيم اسم الله تعالى والحذر من امتهانه إن من مقتضى هذه الآية الكريمة أن يعظم اسم الله سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، فمن تعظيم الله عز وجل أن يصان عن أي شيء يتنافى مع إكرامه. يقول عبد الله بن عون رحمه الله تعالى: كان محمد بن سيرين يكره أن يشتري بهذه الدنانير المحدثة والدراهم التي عليها اسم الله. مع أن هناك بوناً شاسعاً بين امتهان اسم الله عز وجل بأن يكتب على الدنانير الذهبية، وبين ما يحصل الآن من كتابتها على أوراق الجرائد وكذا وكذا ثم يمتهن الاسم الكريم، فهذا يتصادم مع مقتضى قوله تعالى: ((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ))، وبعض الناس يتساهلون في هذا الجانب، فتجد من يكتب شعار: الله أكبر, أو ما شاء الله إلى آخره على الجدران أو السيارات، وهذا لا ينبغي، فاسم الجلالة لا يستعمل هذا الاستعمال. فما ينبغي التهاون في مثل هذا الأمر، وأعداء الإسلام والكفرة الآن إذا أرادوا أن يغيظوا المسلمين فإنهم يقومون بإهانة اسم الله سبحانه وتعالى، فما يليق بالمسلم أبداً أن يمتهن اسم الله عز وجل، وإذا تعمد ذلك فإنه يكفر. وقد نص العلماء على أن من آداب قضاء الحاجة أنه لا يجوز أبداًَ أن يتم الاستنجاء بما هو محترم، ومع ذلك نجد تهاون الناس تهاوناً شديداً جداً في التعامل مع أوراق الجرائد, فتجد من يصلي عليها ويطأ على اسم الله المكتوب على الجرائد، وهذه الجرائد المكتوبة بالعربية لا يمكن أن تخلو من اسم الله، صحيح قد لا يوجد فيها ذكر الله على سبيل الكلام الديني إلا ما ندر، ولكن لن تخلو من اسم وزير أو مسئول أو مدير أو شخص اسمه عبد الله أو عبد الرحمن أو نحو ذلك من أسماء الله، فإذا وطئت عليه كأنك أهنت اسم الله سبحانه وتعالى، كذلك لا ينبغي أن تلف البضائع في الجرائد، وينبغي الاجتهاد في التنزه من هذا الفعل.

أقوال العلماء في سر تكرار قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)

أقوال العلماء في سر تكرار قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) يختم القاسمي رحمه الله تعالى تفسيره لسورة الرحمن بهذه الفائدة يقول فيما قاله الأئمة في سر تكرير: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)): قال السيوطي في الإتقان في بحث التكرير: قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيداً للتأكيد معنى. يعني: التكرار أو التكرير يستعمل للتوكيد: يا علقمه يا علقمه يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه فحينما تكرر شيئاً فأنت تريد التوكيد، لكن أحياناً يراد به شيء غير التأكيد، وإنما وقع فيه الفصل بين المكررين, فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده. ثم قال: وجعل منه قوله تعالى: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فإنها وإن تكررت نيفاً وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها، ولذلك زادت على ثلاثة، ولو كان الجميع عائداً إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة؛ لأن التأكيد لا يزيد عليها, قاله ابن عبد السلام وغيره. وفي عروس الأفراح: فإن قلت: إذا كان المراد بكل ما قبله, يعني قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) مثلاً بعد قوله: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)) يعني: آلاء ربكم المذكورة في هذه الآية بذاتها قبل, فليس ذلك بأسماء بل هي ألفاظ فكل واحد أريد به غير ما أريد به الآخر, الألفاظ هي: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) لكن المقصود بالآلاء هنا غير المقصود بها هناك، وهذا يدعم كلامنا من قبل أن هذا تأكيد بمعنى الجديد. فإن قلت: يلزم التأكيد, قلت: والأمر كذلك ولا يبدو عليه؛ لأن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة، أما إذا ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع، وقال العز بن عبد السلام في كتابه (الإشارة إلى الإيجاز): وأما قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينها وبين التي قبلها من نعمة، ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم، وبالثانية ما تقدمها، وبالثالثة ما تقدم على الأولى، وبالرابعة ما تقدم على الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى آخر السورة فإن قيل كيف يكون قوله: ((سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ)) وقوله: ((يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ))، وقوله: ((هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ)) [الرحمن:43 - 44] وقوله: ((يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ))، كيف يكون ذلك نعمة؟ قلنا: هذه كلها نعم جسام, كأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل في الدنيا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الآيات في وصف النار وعذاب النار وهذه الأهوال إنما هي لإصلاح الناس، ولحثهم على الطاعة والاستقامة، فالترهيب نعمة من حيث إنه زاجر عن المحرمات ودافع إلى الاستقامة على شرع الله تبارك وتعالى. إذاً: هذه كلها نعم جسام؛ لأن الله هدد العباد بها استصلاحاً لهم ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان والانقياد والإذعان, فإن من حذر من طريق الردى وبين ما فيها من الأذى وحث على طريق السلامة الموصلة إلى المثوبة والكرامة كان منعماً غاية الإنعام ومحسناً غاية الإحسان، ومثل ذلك قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} [يس:52] يعني: هذا فيه مناسبة الربط لذكر صفة الرحمة في ذلك المقام، يعني: نفس المناسبة في ذكر ما يقع من العذاب والأهوال، فلا يستغرب أنه وعد بالعذاب وبيان عذاب المشركين وفي نفس الوقت يوصل إلى الرحمن. أما قوله: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)) ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) فأين النعمة في هذا الخبر؟ نقول: هذا تذكير بالموت والفناء، وفيه ترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء، وفي الإعراض عن دار الفناء. وقال البغوي: كررت هذه الآية في واحد وثلاثين موضعاً تقريراً للنعمة وتأكيداً للتذكير بها، ثم عدد على الخلق آلاءه، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ليفهمهم النعم ويقررهم بها، كقول الرجل لمن أحسن إليه وتابع إليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها, فيقول له: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعزرتك؟ أفتنكر هذا؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب. وقال في الدرر والغرر: التكرار في سورة الرحمن إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكرير كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا؟ فيحصل فيه التكرير, وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، كقول مهلهل يرثي كليباً: على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلاً من كليب إذا رجف العظاة من الدبور على أن ليس عدلاً من كليب إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلاً من كليب إذا حيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلاً من كليب غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلاً من كليب إذا ما خار جأش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط وهي من نصائح العرب. وقال شيخ الإسلام في متشابه القرآن: ذكرت هذه الآية ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) إحدى وثلاثين مرة, ثمانية منها ذكرت عشر آيات فيها تعداد عجائب الخلق لله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعاده, ثم تبعت منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم. يعني: الآيات التي فيها ذكر النار ذكرت فيها آية: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) سبع مرات بعدد أبواب جهنم. وحسن ذكر الآلاء عقبها لأن من جملة الآلاء رفع البلاء وتأجيل العقاب. يعني: رغم أنها آية عذاب لكن يحسن أن يأتي بعدها ذكر الآلاء والامتنان بالآلاء؛ لأن من جملة الآلاء أن هذا البلاء الآن غير واقع بكم، والعقاب لا ينزل بكم حالاً وإنما هو مؤجل إلى أجل يعلمه الله سبحانه وتعالى, ففيه أيضاً نفس هذا المعنى الذي أشرنا إليه من قبل. وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما. يعني: في الجنتين الأوليين ذكرت ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) ثمان مرات في وصف الجنتين ونعيمهما، وثمانية هو عدد أبواب الجنة, وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين, أخذاً من قوله: ((وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ))، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله، ووقاه السبعة السابقة.

الواقعة [1 - 14]

تفسير سورة الواقعة [1 - 14]

ما ورد في فضل سورة الواقعة

ما ورد في فضل سورة الواقعة سورة الواقعة سورة مكية، وآيها ست وتسعون آية، وسميت بالواقعة لأنها مملوءة بوقائع القيامة، والقيامة هي الواقعة العظمى؛ لوقوعها في أشد الأحوال. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! قد شبت! قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! قد شبت) ليس المقصود به أن الشيب قد كثر في شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته، لكنه شيب قليل معدود، فالرسول عليه الصلاة والسلام ما زاد الشيب جداً في لحيته ورأسه، وإنما كانت شعرات معدودة. وقوله: (شيبتني هود إلخ) أي: شيبتني هذه السور لما فيها من أهوال يوم القيامة. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور). وهناك بعض الأحاديث الضعيفة التي لا تصح بحال عن الرسول عليه الصلاة والسلام، كحديث: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً).

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة)

تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة) يقول الله تبارك وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:1 - 2]. {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: نزلت وجاءت. و (الواقعة) عَلَمٌ بالغلبة على القيامة أو منقول، سميت بذلك لتحقق وقوعها، وكأنه قيل: إذا وقعت التي لابد من وقوعها. واختيار (إذا) مع صيغة المضي للدلالة على ما ذكر. {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: كذب أو تكذيب. فقد جاء المصدر على زنة (فاعلة) كالعاقبة والعافية، واللام للاشتقاق. أو المعنى: ليس حين وقعتها نفس كاذبة، أي: تكذب على الله أو تكذب في نفيها، واللام للتوقيت. قال الشهاب: والواقعة السقطة القوية، وشاعت في وقوع أمر عظيم، وقد تخص بالحرب، ولذا عبر بها هنا. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الذي يظهر لي صوابه أن (إذا) هنا هي الظرفية المضمنة معنى الشرط، وأما قوله الآتي: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] فهي بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}، وأن جواب (إذا) هو قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8]، فالمعنى: إذا قامت القيامة وحصلت هذه الأهوال العظيمة ظهرت منزلة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. وقوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: قامت القيامة، فالواقعة من أسماء القيامة، كالطامة والصاخة والآزفة والقارعة. وقد بين الله جل وعلا أن الواقعة هي القيامة بقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:13 - 16]. وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] فيه أوجه من التفسير معروفة العلل عند العلماء كلها حق، وبعضها يشهد له القرآن: الوجه الأول -وهو أقرب هذه الوجوه- أن قوله تعالى: ((كَاذِبَةٌ)) مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل، كالعافية تأتي بمعنى المعافاة، والعاقبة تأتي بمعنى العقبى، ومنه قوله تعالى عند جماعة من العلماء: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11]، أي: لا تسمع فيها لغواً. والمعنى هنا: ليس لقيام القيامة كذب ولا تخلف، بل هو أمر واقع يقيناً لا محالة. ومن هذا المعنى قولهم: حمل الفارس على قرنه فما كذب. أي: ما تأخر ولا تخلف ولا جبن، ومنه قول زهير: ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ما كذب الليث عن أقرانه صدقا إذا كذب الليث عن أقرانه صدق، فهو لا يفعل الوشاية. يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87]، وقال تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:9]، وقال تعالى: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:7]، فقوله: (لا ريب فيه) يشبه قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ}. أما الوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} فقالوا: إن اللام في قوله: (ليس لوقعتها) ظرفية، و (كاذبة) اسم فاعل صفة لمحذوف، أي: ليس في وقعة الواقعة نفس كاذبة، بل جميع الناس يوم القيامة صادقون بالاعتراف بالقيامة مصدقون بها، ليس فيهم نفس كاذبة بإنكارها ولا مكذبة بها. وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:201]، فحينما تقع القيامة سوف يقر بها جميع الناس ولن يرتاب بها أحد؛ لأنهم يعاينونها. وقال تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]. وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].

تفسير قوله تعالى: (خافضة رافعة)

تفسير قوله تعالى: (خافضة رافعة) يقول تعالى: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]. أي: تخفض الأشقياء إلى الدركات وترفع السعداء إلى الدرجات؛ لأن دركات النار تذهب نازلة، فكلما نزلت تكون أبعد قعراً، ودرجات الجنة تذهب علواً، فكلما صعدت تكون أعلى وأرقى، فالوقائع العظام تخفض قوماً وترفع آخرين. وقوله: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}، خبر مبتدأ محذوف، أي: هي خافضة رافعة، ومفعول كل من الوصفين محذوف، قال بعض العلماء: التقدير: (خافضة) أي: هي خافضة أقواماً في دركات النار (رافعة) أقواماً إلى الدرجات العلى في الجنة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وقال أيضاً: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [طه:75 - 76]، وقال تعالى: (وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) [الإسراء:21]. وقال بعض العلماء: تقديره: خافضة أقواماً كانوا مرتفعين في الدنيا، رافعة أقواماً كانوا منخفضين في الدنيا، وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:29 - 35]، فهم على الأرائك في علو وارتفاع، في حين أن العلو كان في الدنيا للكفار الذين كانوا يسخرون منهم. وقال بعض العلماء: تقديره: خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة؛ لأن القيامة يحصل فيها اضطراب في نظام الكون وينهدم هذا الوجود كله، فهي خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} [الانفطار:2]، وقال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2]. وكذلك رافعة، أي: رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة، كالجبال، فالجبال ثابتة على سطح الأرض، لكنها يوم القيامة ترتفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض، يقول تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47] أي: لأنه لم يبق على ظهرها شيء من الجبال، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، وذلك على الراجح إنما يكون يوم القيامة، أي: تسير الجبال بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن، وقد صرح تعالى بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضاً يوم القيامة في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة:13 - 14]. وعلى هذا القول فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة، وأنه يختل فيه نظام العالم، أما على القولين الأولين، فالمراد الترغيب والترهيب؛ ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله، ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضاً. وإذا كان في تفسير الآية أقوال عدة غير متناقضة ويحتملها لفظ القرآن الكريم؛ فالصواب حملها على جميع تلك المعاني؛ لأنها لا تتعارض، وفي نفس الوقت كل منها يحتمل ويوجد ما يؤيده من القرآن الكريم، إنما نحتاج للصحيح إذا كان بين الأقوال تعارض.

تفسير قوله تعالى: (إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا)

تفسير قوله تعالى: (إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً) يقول الله تبارك وتعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:4 - 6]. {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} أي: إذا زلزلت زلزالاً شديداً. {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فتتت، أو سيقت وأذهبت وسيرت. ((فكانت هباءً منبثاً)) أي: متفرقاً. والهباء: ما تذروه الريح من حطام الشجر، وقيل: هو ما يرى من الكُوَّة كهيئة الغبار، فإذا كان في الغرفة فتحة ينفذ منها ضوء الشمس فإنك ترى هذا الهباء في ضوء الشمس الداخل في الكوة. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((إِذَا رُجَّت)) بدل من قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] والرج: هو التحريك الشديد. وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة ستحرك تحريكاً شديداً جاء في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]، وقال تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]. أما قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} ففي معناه لأهل العلم أوجه متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً وكلها حق، وكلها يشهد له القرآن. قال أكثر المفسرين: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: فتتت تفتيتاً حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن. ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقاً عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقاً ملتوتاً وهو البسيسة فقال: لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ولا تطيلا بمناخ حبسا فهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] يعني: رملاً متهايلاً. ومنه قول امرئ القيس: ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل ومشابهة الدقيق المفتوت للرمل المتهايل واضحة، الدقيق المفتوت يشبه كثيب الرمل المتهايل، فقوله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14] مطابق في المعنى لتفسير: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:5]؛ لأن بسها هو تفتيتها وطحنها، وما دلت عليه هذه الآيات من أنها -أي: الجبال- تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد كلين الدقيق والرمل المتهايل، يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5]، وقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8 - 9] وأصل العهن أخص من مطلق الصوف؛ لأنه الصوف المصبوغ خاصة، ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم وقال بعضهم: الجبال منها جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا دكت وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا ذرته الريح في الهواء وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباءً منبثاً. بالفاء على قوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:5 - 6] أي: متفرقاً؛ فوصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن. الوجه الثاني: أن معنى قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أي: سيرت بين السماء والأرض وعلى هذا فالمراد ببسها سوقُها وتسييرها، من قول العرب: بسست الإبل أبسها، وأبسستها وأبسها لغتان، بمعنى: سُقْتُها. ومنه حديث: (يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون). وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]. أما الوجه الثالث في تفسير قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} فهو أن المعنى: نزعت من أماكنها وقلعت، وهو راجع للوجه الأول، يقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]، وقال تعالى هنا: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6]، وكقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20]، والهباء إذا انبث -أي: إذا تفرق واضمحل- صار لا شيء، كالسراب قال الله تعالى فيه: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].

تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة)

تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة) يقول تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:7 - 9]: يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} أي: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين، قال السدي: وهم جمهور أهل الجنة. وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيسر، ويؤتون كتبهم بشمائلهم، ويؤخذ بهم ذات الشمال، وهم عامة أهل النار عياذاً بالله من صنيعهم. وطائفة سابقون بين يديه، وهم أخص وأحرى وأقرب من أصحاب اليمين فهم سادتهم، وفيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عدداً من أصحاب اليمين، ولهذا قال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:8 - 10]، وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، وذلك على أحد القولين في تفسير الظالم لنفسه بأنه الكافر. وقال ابن عباس: أصنافاً ثلاثة وقال مجاهد: فرقاً ثلاثاً، وقال ميمون بن مهران: أفواجاً ثلاثة، فاثنان في الجنة وواحد في النار. كما جاء عن عثمان بن سراقة. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] فقبض بيده قبضتين فقال: هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي).

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة)

تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أي: صرتم أزواجاً ثلاثة. فهي:-أي كنتم- هنا بمعنى (صرتم)؛ لأن العرب أحياناً تطلق (كان) بمعنى (صار)، ومنه قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] يعني: فتصيرا من الظالمين. ثم بين هذه الأزواج الثلاثة بقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:8 - 12]: أما أصحاب الميمنة فهم أصحاب اليمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى وضحها بعد ذلك في قوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28]، وأصحاب المشأمة هم أصحاب الشمال، وضحهم بقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:41 - 42]. قال بعض العلماء: قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم. وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة. وقيل: لأنهم عن يمين أبيهم آدم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ليلة الإسراء. وقيل: سموا أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، كما تقول: هذا فلان ميمون الطلعة. أي مبارك، فيقول: وسموا أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين، أي: مباركين على أنفسهم؛ لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة، واليمن: البركة. وسمي الآخرون أصحاب الشمال قيل: لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقيل: لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار. والعرب تسمي الشمال شؤماً، ومن هنا قيل لهم: أصحاب المشأمة. أو لأنهم مشائيم على أنفسهم، فعصوا الله فأبقاهم في النار، والمشائيم ضد الميامين، وقال الشاعر: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا نائب إلا ببين غرابها وبين جل وعلا أن السابقين هم المقربون، وذلك في قوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]. وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هي وجزاؤها في أول هذه السورة الكريمة جاءت هي وجزاؤها أيضاً في آخرها، وذلك في قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:88 - 94]. والمكذبون هم أصحاب المشأمة، وهم أصحاب الشمال، وذكر تعالى بعض صفات أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة في سورة البلد في قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:13 - 18]، فهذه بعض صفات أصحاب اليمين، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:19 - 20].

الدلالة البلاغية في قوله تعالى: (ما أصحاب)

الدلالة البلاغية في قوله تعالى: (ما أصحاب) وقول الله هنا: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، وقوله: ((مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ)) استفهام أريد به التعجب من فعل هؤلاء في السعادة، والتعجب من فعل هؤلاء في الشقاوة، والجملة فيها مبتدأ وخبر، وهي خبر مبتدأ قبله، وهو (أصحاب الميمنة) في الأول و (أصحاب المشأمة) في الثاني، وهذا الأسلوب يكثر في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3]، وكذلك قوله: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2]، والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى. أما السابقون فلم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله. قوله تعالى: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)، واضح على أنه استفهام تعجبي فهو تعجب بمعنى الخبر، وقوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) هذا تعجب بمعنى الخبر أيضاً. أما في السابقين فقال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}، فذكر في مقابله تشريف بعض السابقين، فلم يقل: السابقون وما أدراك ما السابقون! وإنما كرر اللفظ. والمعنى أنهم لا يحتاجون إلى تعريفهم، كما قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري فقوله: شعري شعري يعني: شعري هو الذي بلغك خبره، وانتهى إليك وصفه، فكأنه من شهرته لا يحتاج إلى أن يعرف، ولن أقول في تعريفه أكثر من ذلك. من شدة الثقة بتمكنه في ذلك، فلا يزيد شيئاً على وصفه بذلك.

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة)

تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة) يقول العلامة القاسمي رحمه الله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] أي: أصنافاً ثلاثة. (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها. وإطلاق الميمنة والمشأمة اللتين هما الجهتان المعروفتان على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس، أصله من تيمن العرب باليمين وتشاؤمهم بالشمال كما في السانح والبارح، وقولهم للرفيع: هو مِنِّي باليمين، وللوضيع هو مِنَّي بالشمال، وتجاوزاً به أو كناية به عما ذكر. وقيل: الميمنة والمشأمة بمعنى اليُمن والشؤم. فليس بمعنى الجهة، بل بمعنى البركة وضدها، لما غلب عليهم من أنفسهم وأفعالهم، وفي جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقي أحوالهم في الخير والشر تعجباً منه.

تفسير قوله تعالى: (والسابقون السابقون أولئك المقربون)

تفسير قوله تعالى: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]. قال القاسمي: أي: الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة بعد ظهور الحق، وأوذوا لأجله، وصبروا على ما أصابهم، وكانوا الدعاة إليه. فإن قيل: لم خولف بين المذكورين في السابقين وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم لحال المذكورين؟ أي: لماذا (السابقون) كررها فقط ولم يقل: ما السابقون. مثلاً؟ فنقول: التعظيم المؤدى بقوله: ((السَّابِقُونَ)) أبلغ من قرينه، أي: من التعظيم في قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}، وذلك أن مؤدي هذا هو أن أمر السابقين وعظمة شأنهم لا يكاد يخفى. وأما قوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق، ألا ترى كيف سبق وصف حال السابقين بقوله: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:11]، فأشار إليهم باسم الإشارة الذي يشار به إلى شيء معروف، إذ اسم الإشارة معرفة، فهو إشارة إلى أنهم من المعروفين. ثم انظر إلى كلمة (الْمُقَرَّبُونَ)، فقد أشار إليهم بإشارة المعروف، وأيضاً جمع إلى ذلك الإخبار عن هؤلاء بقوله: ((الْمُقَرَّبُونَ)) معرفاً بالألف واللام العهدية، وليس مثل هذا مذكوراً في وصف حال أصحاب اليمين. وقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الثاني إما خبر، يعني: السابقون هم الذين عرفت حالهم واشتهرت أوصافهم. على حد قول الشاعر: شعري شعري. أو أنها تأكيد وإذا قلنا: إن التكرار للتأكيد فالخبر هو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} أي: الذين يقربهم الله منه بإعلاء منازلهم. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ).

تفسير قوله تعالى: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) قال تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]. قوله: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) أي: هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا، لرسوخ إيمانهم وظهور أثرهم في أعمارهم من العمل الصالح والدعوة إلى الله والصبر على الجهاد في سبيله، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهؤلاء السابقين. ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ))، أي: من الذين جاءوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها العبر وتبرجت الدنيا لخطابها ونسي معها سر البعثة وحكمة الدعوة، فما أقل الماشين على قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا جرم أنهم وقتئذ الغرباء لقلتهم. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: هم ثلة. والثلة: الجماعة من الناس. وأصلها القطعة من الشيء، ومن الثل. وهو الكسر. وقال الزمخشري: والثلة من الثل وهو الكسر، كما أن الأمة من الأم وهو الشج، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم. يعني: جماعة متميزة قطعت من الناس وكسرت عنهم فصارت متميزة. واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة، ومنه قول الشاعر: فجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد فقوله: (تيار من السيل) يدل على كثرة هذا الجيش الذي عبر عنه بالثلة.

اختلاف العلماء في المراد بثلة الأولين وقليل الآخرين

اختلاف العلماء في المراد بثلة الأولين وقليل الآخرين وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ)). فقال بعض أهل العلم: كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة، والمراد بالأولين منهم الصحابة. ويذكر بعض العلماء معهم القرون المشهود لها بالخير في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). والذين قالوا كلهم من هذه الأمة قالوا: إنما المراد بالقليل ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) من بعد ذلك إلى قيام الساعة. وقال بعض العلماء: المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة. أي: فهنا تفسيران: التفسير الأول: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) إما من الصحابة أو من القرون الخيرية الأولى. ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) يعني: من غربة الإسلام في الآخرين يقل أهله، فيكون أهل الإيمان والاستقامة قليلين بالنسبة لمن يعيشون في وسطهم. التفسير الثاني: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) يعني: من الأمم الماضية، أي: المؤمنون من الأمم الماضية قبل هذه الأمة المرحومة. أما ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) فالمراد بالآخرين هنا أنهم من هذه الأمة.

كلام العلامة الشنقيطي في تفسير ثلة الأولين وقليل الآخرين

كلام العلامة الشنقيطي في تفسير ثلة الأولين وقليل الآخرين يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: ظاهر القرآن في هذا المقام أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية. يعني قوله تعالى: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ)) في الموضعين، و (الآخرين) فيهما من هذه الأمة، يعني قوله: (وقليل من الآخرين) وقوله: (وثلة من الآخرين). وأن قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ) في السابقين خاصة؛ لأن هذا واضح من السياق. فقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) هذا في السابقين. أما قوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40] فهو في أصحاب اليمين خاصة. وإنما قلنا: إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة التي هي شمول الآيات لجميع الأمم، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات. أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة؛ لأن قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1]، إلى قوله: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6] لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة، فالسياق في يوم القيامة، فدل على أن قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] عام في جميع أهل المحشر. والأظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة ومنهم من هو من هذه الأمة. وعلى هذا فظاهر القرآن أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليسوا أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة؛ لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ))، وقال قبلها: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ))، أي فعدد كبير من الأمم الماضية هم السابقون. وهناك عدد آخر، لكنه عدد قليل من السابقين من هذه الأمة، بدليل قوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)). قال: ولا غرابة في هذا. أي: حينما يقول الله سبحانه وتعالى في السابقين: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)). قال: لأن الأمم الماضية أمم كثيرة، وفيها أنبياء كثيرون ورسل، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها؛ لأن السابقين هم الصفوة، فتعد إذاً صفوة الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد عليه السلام، فالسابقون منهم أكثر من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أما أصحاب اليمين الذين قال فيهم: (وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) -أي: من هذه الأمة- فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم؛ لأن الثلة تتناول العدد الكثير، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر مع أنهما كلاهما كثير. وبهذا تعلم أن ما دل عليها ظاهر القرآن واختاره ابن جرير لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة، ففي الحديث: (والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة. قالوا: الحمد لله، الله أكبر. فقال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة) يعني: نصف أهل الجنة. فهنا المقصود بالثلة النصف أو العدد الكبير، وهذه هي ثلة أصحاب اليمين التي قال الله فيها: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40]. فقوله: ((وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)) دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين؛ لأن الله قال: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). ثم أخبر عن حال هؤلاء السابقين المقربين فقال: ((ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ)). وأما كون قوله: {وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:40] في خصوص أصحاب اليمين فلأن الله تعالى قال: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:36 - 40]، والمعنى: هم -أي: أصحاب اليمين- {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40]، وهذا واضح كما ترى. انتهى كلام الشنقيطي، والله تعالى أعلم.

الواقعة [15 - 67]

تفسير سورة الواقعة [15 - 67]

تفسير قوله تعالى: (على سرر موضونة)

تفسير قوله تعالى: (على سرر موضونة) قال تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:15 - 16]. قوله تعالى: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي: مصفوفة. أو مشبكة بالدر والياقوت والذهب. والوضن هو التشبيك والنسج. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: السرر جمع سرير، وقد بين الله تعالى أن سررهم مرفوعة في قوله تبارك وتعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13]. وقوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}، فموضونة أي: منسوجة بالذهب. وبعضهم يقول: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت. وكل نسج أحكم ودوخل بعضه في بعض تسميه العرب وضناً -بالضاد- وتسمي المنسوج به موضوناً ووضيناً، ومنه الدرع الموضونة: إذا أحكم نسجها ودوخل بعض حلقاتها في بعض. ومنه قول الأعشى: ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيراً فعيراً وهذه السرر المزينة هي المعبر عنها بالأرائك في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:31]، يعني: على هذه السرر المزينة الموضونة، وقال تبارك وتعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56].

تفسير قوله تعالى: (متكئين عليها متقابلين)

تفسير قوله تعالى: (متكئين عليها متقابلين) قال عز وجل: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16]. ((مُتَّكِئِينَ)) حال من الضمير في قوله: ((عَلَى سُرُرٍ))، والتقدير: استقروا على سرر في حال كونهم متكئين عليها. وما ذكره الله جل وعلا هنا في هذه الآية الكريمة من كونهم: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}، أي: ينظر بعضهم في وجوه بعض، كل يقابل الآخر بوجهه، ذكره في قوله تعالى في سورة الحجر: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، وقوله تعالى في الصافات: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:41 - 44]. والمعنى: أنهم متقابلون بوجوههم، وهذا يكون أكمل في الأنس والسرور، بخلاف ما يحصل في الدنيا، فالإنسان إذا ركب بعض وسائل المواصلات -كالسيارات- فإنه يجلس وظهره إلى من خلفه، لكن هؤلاء لتمام السرور والأنس بينهم يكونون متقابلين، فالأخوة تكمل حينما تقع هذه المواجهة. ((مُتَقَابِلِينَ)) أي: بوجوههم متساوين في الرتب لا حجاب بينهم أصلاً.

تفسير قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون مما يشتهون)

تفسير قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون مما يشتهون) قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:17 - 20]. ((يَطُوفُ عَلَيْهِمْ)) يعني: للخدمة. ((وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)) أي: مبقون على سن واحدة لا يموتون؛ لأن هؤلاء الولدان في الجنة سيبقون ولداناً إلى الأبد، بمعنى أنهم لا يزيدون في العمر ولا يشيبون ولا يهرمون بمرور الزمن. وهذه الآية كما قال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور:24]. ((بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ)) يعني: حال الشرب يطوفون عليهم بأكواب وأباريق، والكوب هو إناء لا عروة له ولا خرطوم، وأما الإبريق فهو إناء له عروة وله خرطوم. ((وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)) أي: خمر جارية. ثم أشار إلى أنها لذة كلها لا ألم معها ولا خمار؛ لأنها ليست كخمر الدنيا النجسة الخبيثة التي تذهب العقول، وإنما هي لذة؛ فقال: ((لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا)) يعني: لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار كخمور الدنيا، والصداع هو وجع الرأس، وقرئ بالتشديد من التفعل: ((لا يصَّدَّعون)) أي: لا يتصدعون عنها، أي: لا يتفرقون عنها، من التصدع وهو التفرق. ((وَلا يُنزِفُونَ)) تقرأ بكسر الزاي وفتحها ((وَلا يُنزِفُونَ)) أي: لا تذهب عقولهم بسكرها. {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: مما يختارون ويرتضون، وأصله أخذ الخيار والخير. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}، أي: مما يتمنون.

تفسير قوله تعالى: (وحور عين جزاء بما كانوا يعملون)

تفسير قوله تعالى: (وحور عين جزاء بما كانوا يعملون) قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:22 - 24] أي: أزواج بيض واسعة الأعين. عطف على ولدان، فقال: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17]، ثم قال بعد ذلك: {وَحُورٌ عِينٌ} والحور: جمع حوراء، فهو عطف على ولدان، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: وفيها. أو: ولهم حور عين. {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي، وأصل المكنون الذي صين وحفظ في كن -أي: مكان- يخبأ فيه ويصان ويحمى. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: من الأعمال الصالحة.

تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما سلاما)

تفسير قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً سلاماً) قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أي: هذياناً وكلاماً غير مفيد، وباطلاً من القول. {وَلا تَأْثِيمًا} أي: ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها. {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} أي: قولاً هو سلام في نفسه، منزه عن النقائص، مبرأ عن الفضول والزوائد. وقيل: قولاً يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص، ويوجب سروره وكرامته، ويبين كماله وبهجته؛ لكون كلامهم كله معارف وحقائق وتحيات ولطائف. وهذا على اختلاف وجهي الإعراب، أي: من كون (سلاماً) بدلاً من (قيلاً) أو مفعوله، فـ (سلاماً) قد يكون مفعول المصدر (قيلا)، وقد يكون بدلاً منه. والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم وكثرته، كما تقول: قرأت النحو باباً بابا. أي: باباً بعد باب، فيدل على تكرره وكثرته. فهكذا السلام تحية أهل الجنة، وهذه من فضائل السلام، ولا توجد في العالم كله تحية هي أفضل من تحية (السلام عليكم ورحمة الله) التي شرف الله بها أهل الإسلام، ولذلك يحسدنا اليهود على السلام وعلى التأمين، وكان الفاسق أو الفاجر أو المبتدع فيما مضى يعاقب بأن يحرم من إلقاء السلام عليه، أو من أن يرد عليه السلام، والآن صار بعض السفهاء من الناس يتكبرون عن أن يحيي بعضهم بعضاً بالسلام، ويؤثرون على ذلك تحية الأنجاس من المشركين والكفار على اختلاف أنواعهم، وربما ينظرون باحتقار إلى من يقول لهم: (السلام عليكم)، فهذا من الهوان الذي صبغ الناس وهم لا يشعرون بما هم فيه. فعدم التسليم كان عقوبة أساساً، عقوبة يعاقب بها من يخالف الشرع بالمجاهرة بالفسق، أو ببدعة أو ضلالة أو نحو ذلك، فيهجر بأن لا يسلم عليه. وصار بعض الناس يتأذى حين تسلم عليه، ويريد أن تحييه بأية تحية أخرى من تحايا أولئك القوم، فهم الذين زهدوا فيما شرفهم الله به من تحية أهل الجنة -السلام-، فهل توجد تحية في العالم أفضل من تحية (السلام عليكم)؟! فـ (السلام عليكم) فيها إشاعة السلام والطمأنينة، فكونك تلقي السلام معناه أنك تؤمنه من شَرِّك. وليس السلام محدداً بوقت كـ (صباح الخير) أو (مساء الخير) في الصباح فقط أو في المساء فقط، كما هي تحية الجاهلية (أنعم صباحاً) و (أنعم مساء)، فهذه تحية أهل الجاهلية، فكيف لعاقل أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويزهد في السلام الذي هو تحية أهل الجنة؛ راغباً في تحية المغضوب عليهم والضالين ممن أبغضهم الله سبحانه وتعالى؟!

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ولا ممنوعة)

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ولا ممنوعة) قال تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:27 - 33]. {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: أي شيء هم؟ أي: هم شرفاء عظماء كرماء، يتعجب من أوصافهم في السعادة. {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي: لا شوك له. أو موقر بالثمار، مثقل من الثمار التي يحملها، والسدر شجر معروف في الدنيا. {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} الطلح هو شجر الموز، والمنضود: الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه. قال مجاهد: كانوا يعجبون بود من طلحه وسدره. و (ود) مكان -أحسبه- كان في الطائف، فكانوا يعجبون من طلحه وسدره؛ لأن فيه شجر الطلح وشجر السدر. وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها. {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي: ممتد منبسط لا يتقلص، كالظل الذي يكون في الدنيا ويتبعه الحر والشمس. {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} أي: مصبوب دائم الجريان لا ينقطع. {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي: لا تنقطع عنهم متى أرادوها، لكونها غير متناهية. ((وَلا مَمْنُوعَةٍ)) أي: لا تمنع عن طالبها. والقصد بيان أن فاكهتها مغايرة لفاكهة الدنيا؛ لأن فاكهة الدنيا موسمية، توجد في موسم ولا توجد في موسم آخر، فيأتي عليها وقت تنقطع فيه تماماً ولا تكون موجودة، كفاكهة الصيف تطلب في الشتاء، وتمتنع أحياناً لعزتها، لكونها غير متوفرة في الأسواق فهذا نوع من الامتناع، بل أحياناً تمتنع بسبب الجدب أو القحط أو الجفاف أو نحو ذلك، وقد تطرأ عليها جائحة أو سبب يترتب عليه أنها تمتنع، أما فاكهة الجنة فلا يعرض لها شيء من هذه الطوارئ والجوائح والانقطاع.

تفسير قوله تعالى: (وفرش مرفوعة ثلة من الأولين وثلة من الآخرين)

تفسير قوله تعالى: (وفرش مرفوعة ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) قال تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:34 - 40]. {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: مرتفعة في منازلها، أو: فرش مرفوعة على الأرائك للرقود والمضاجعة، وقد يؤيده تأكده بوصف من يضاجع فيها، وهو قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} إشارة إلى الحور العين. فهي إما فرش مرفوعة أي: الفرش نفسها مرتفعة في منازلها، أو الفرش مرفوعة فوق الأرائك، وهي تلقى من أجل الرقود عليها. {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} أي: إنشاء بديعاً فائق الوصف. فالضمير يعود على ما فهم من السياق؛ لأن الحور لم يسبق ذكرهن في السياق القريب، وإنما فهم من السياق أن المقصود بهن الحور العين. وقيل: قد يكنى عن الحور بالفرش، فقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قد يكون استعملت فيه الكناية عن الحور بالفرش. فقوله تبارك وتعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} إذا كان معناه: مرفوعة على الأرائك كآية: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56] فليس فيه كناية. وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} يعني: لم يُطمثن. ((عُرُبًا)) جمع عروب، والعروب: هي المتحببة إلى زوجها المحبوبة لتبعلها. ((أَتْرَابًا)) يعني: على سن واحدة. والترب: هو الموافق لك في السن. {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} يعني: أنشأناهن إنشاء لأصحاب اليمين، وجعلناهن أبكاراً لأصحاب اليمين. {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:39 - 40] أي: جماعة وأمة من المتقدمين في الإيمان وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة، والكثرة ظاهرة لأصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقين كما بينا أولاً عند الكلام في تفسير قوله تبارك وتعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]، وذكرنا الخلاف في تفسير هذه الآية.

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاء)

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءً) يقول العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً}: الضمير في ((أَنشَأْنَاهُنَّ)) قال بعض أهل العلم: هو راجع إلى مذكور. وقال بعض العلماء: هو راجع إلى غير مذكور، إلا أنه دل عليه المقام. فمن قال إنه راجع إلى مذكور قال: هو راجع إلى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة لباساً وإزاراً وفراشاً إلى آخره. انتهى كلامه. وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله تعالى: ((مَرْفُوعَةٍ)) رفع المنزلة والمكانة. ومن قال إنه راجع إلى غير مذكور قال: إنه راجع إلى نساء لم يذكرن ولكن ذكر الفرش دل عليهن؛ لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن. وقال بعض العلماء: المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]؛ لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع. وقالت جماعة من أهل العلم: إن المراد بهن بنات آدم اللاتي كن في الدنيا عجائز شمطاً، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} نساء الدنيا، أي: زوجاتهم اللائي هن من نساء الدنيا. فيكون قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} أي: خلقناهن خلقاً جديداً. فاللتي شمطت وصارت عجوزاً شمطاء في الدنيا وبلغت من الكبر عتياً، حينما تدخل الجنة ينشئها الله سبحانه وتعالى خلقاً جديداً، فتعود إلى شرخ الشباب. ويكون قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} يعني: فصيرناهن أبكاراً. وهو جمع بكر، وهي ضد الثيب. {عُرُبًا أَتْرَابًا}، والعروب هي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، التي تجتهد في إرضاء زوجها. أَتْرَابًا: جمع ترب، والترب هي المرأة الموافق سنها سن من تضاف هي إليه من النساء. ومعناه في الآية أن نساء أهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز، ولكنهن كلهن على سن واحدة في غاية الشباب، ودليل ذلك في الحديث في مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة العجوز حينما قال لها: (لا تدخل الجنة عجوز) وكان إنما يقصد بهذا المعنى أنها ستعود إلى شبابها ولن تبقى عجوزاً بعد ذلك إذا دخلت الجنة. وبعض العلماء يقول: إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاث وثلاثين سنة. وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب، كما قال عمر بن أبي ربيعة: أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب وهذه الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة من صفات نساء أهل الجنة جاءت موضحة في آيات أخر. أما كونهن يوم القيامة أبكاراً فقد أوضحه قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، لأن قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} نص في أنهن أبكار. وأما كونهن (عُرُبًا) -أي: متحببات إلى أزواجهن- فقد دل عليه قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48]، لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم، ولا شك أن المرأة التي لا تنظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل له. وقوله تعالى في (ص): {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، وقال تعالى في سورة الرحمن: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]. وأما كونهن أتراباً فقد بينه قوله تعالى في آية (ص): {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، وفي سورة النبأ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:31 - 33]، يعني: في نفس السن من الشباب. قوله تعالى: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] يعني: إنا أنشأناهن لأصحاب اليمين، {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}.

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ولا كريم)

تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ولا كريم) قال الله تبارك وتعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:41 - 44]. قوله: ((في سموم)) أي: حر نار ينفذ في المسام. ((وَحَمِيمٍ)) هو الماء المتناهي الحرارة. {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي: من دخان أسود طبق أهويتهم المردية وعقائدهم الفاسدة، فهذا الدخان الأسود يكون موافقاً لطباعهم السوداء، وعقائدهم الفاسدة، وهيئات نفوسهم المسودة بالصفات والهيئات السود الرديئة. {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} أي: ليس له صفة الظل الذي يأوي إليه الناس للراحة، فالناس تأوي إلى الظل لالتماس الراحة، للتفريج على أنفسهم من شدة الحر، فالظل الذي يرغب فيه يكون بارداً ويكون كريماً، أما هذا فهو ظل من يحموم من دخان أسود. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا صفات ظل أهل النار وظل أهل الجنة في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57] وبينا هناك أن صفات ظل أهل النار هي المذكورة هنا في هذه الآية: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} وقال في المرسلات: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31]. وقوله: ((مِنْ يَحْمُومٍ)) أي: من دخان أسود شديد السواد، ووزن (يحموم) (يفعول) وأصله من الحمم أو الحمم وهي الفحم، وقيل: من الحم، وهو الفحم المسود لاحتراقه بالنار.

تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الحنث العظيم)

تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الحنث العظيم) قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:45 - 46] أي: كانوا قبل ذلك منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة والتبعات المهلكة. {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} الذنب العظيم من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة التي استحقوا بها العذاب المخلد والعقاب المؤبد. وفسره السبكي بالقسم. يعني أن السبكي فسر الحنث العظيم بالقسم على إنكار البعث في حينما كانوا يحلفون في الدنيا، كما قص الله تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] فهذا هو الحنث العظيم. قال الشهاب: وهو تفسير حسن. قال: لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقاً أو بالذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم. فكلمة الحنث تستعمل في معنى الذنب العظيم أو الذنب مطلقاً؛ لكنها -أيضاً- تستعمل بصورة مشهورة في عدم البر بالقسم، فيقال: (حنث في يمينه)، أي: لم يبر بقسمه. ولذلك فسره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث، فهذا يقوي تفسير قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} أنه القسم الذي كانوا يقسمونه في الدنيا، كما أخبر الله تعالى عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] ولذلك أتبع الله قوله: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} بقوله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48] فهذا فيه ربط بين الحنث العظيم وهو القسم المذكور في سورة النحل وشرح له. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب بين بعض أسباب هذا العذاب، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين، أي: متنعمين. وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة؛ لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:11 - 13]، أي إنه كان يعيش مترفاً ويعيش للتمتع بالدنيا فحسب. {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:13] ما بين النوادي والملاهي والأفلام وشرب الخمر والكوميديا وكذا وكذا، يقولون لهم: الفلم الفلاني فيه ساعتان ضحك متواصل، والمسرحية هذه سوف تضحك فيها وتضحك وتضحك حتى يموت قلبك. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) ما كان فرحهم كما قال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58] بالقرآن وبالعلم وبالإيمان! لا. بل كان فرحهم بمتاع الدنيا، بالمناصب وبالجاه وبالأموال وبالثروات وبالقصور، بهذه الأحوال المعروفة، فلذلك قال تبارك وتعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق:11 - 12] ثم ذكر الأسباب: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:13]. فإذاً الإنسان لا ينبغي له أن ينهمك في الدنيا في مظاهر السرور والابتهاج، وينسى أنه يتقدم نحو نهاية الرحلة. فالإنسان لابد من أن يصل إلى محطة معينة سوف ينزل فيها، فهو غافل، لكنه ليس مغفولاً عنه، فليحذر الإنسان من الانهماك في متاع الدنيا والانشغال به عن الآخرة، والدليل هذه الآيات الكريمات التي تحتاج منا إلى كثرة تأمل. فالله تعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:11 - 12] يعني: يقول: واثبوراه، واثبوراه. والثبور الهلاك. يعني: واهلاكاه، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:13 - 14].

تفسير قوله تعالى: (وكانوا يقولون أئذا متنا أو آباؤنا الأولون)

تفسير قوله تعالى: (وكانوا يقولون أئذا متنا أو آباؤنا الأولون) قال تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48]. دلت هذه الآية الكريمة على كون إنكار البعث سبباً لدخول النار؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنهم {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:42 - 43] بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:47 - 48] كما قال تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد:5]. ثم بين عز وجل لهم أنه يبعث الأولين والآخرين، فعند الله لا فرق بين الأولين والآخرين، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]. وبين عز وجل أن البعث الذي أنكروه سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين حينما قال في الصافات: {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات:15 - 18] يعني: وأنتم أذلاء صاغرون. {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [الصافات:19] نفخة واحدة {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] رغماً عنهم.

التحذير من قلب همزة (أئنا) هاء.

التحذير من قلب همزة (أئنا) هاءً. العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى عقد بحثاً متوسطاً حول قول الله تبارك وتعالى هنا: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47] * {أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:48] فقد أجمع عامة القراء على إثبات همزة الاستفهام في قوله تعالى: ((أَئِذَا مِتْنَا)). وأثبتها أيضاً عامة السبعة غير نافع والكسائي في قوله: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47]. وقرأه نافع والكسائي: (إنا لمبعوثون). وتعرض رحمه الله تعالى لنوع من الابتداع في القراءة، فقال: اعلم -وفقني الله وإياك- أن ما جرى في الأقطار الأفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة. فبدل (أئنا) يقولون: (أهنا) بهاء خالصة، يقول: فهذا من أشنع المنكر وأعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم وتعد لحدود الله، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ينزل عليه به جبريل البتة، ولم يرو عن صحابي، ولم يقرأ به أحد من القراء، ولا يجوز بحال من الأحوال. فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه -وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة- هو كما ترى. وكون اللغة العربية قد سُمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها؛ لأن جريان العمل بالباطل باطل، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين، وإنما الأسوة في الحق، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه.

تفسير قوله تعالى: (قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم)

تفسير قوله تعالى: (قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم) قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]. لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين في الآيات المتقدمة أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم خبراً مؤكداً بأن الأولين والآخرين كلهم مجموعون يوم القيامة للحساب والجزاء بعد بعثهم، كما وضحه قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء:87] وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:9] وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود:103] وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] وقال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47]. وقوله تعالى: {لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي: معين عند الله تعالى، وهو يوم القيامة، يوم معلوم عند الله لكن لا يعلم حقيقته ومتى هو إلا الله تبارك وتعالى.

تفسر قوله تعالى: (ثم إنكم أيها الضالون شرب الهيم)

تفسر قوله تعالى: (ثم إنكم أيها الضالون شرب الهيم) قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:51 - 55]. {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} [الواقعة:51]. أي: أيها الجاهلون المصرون على جهالاتهم والجاحدون للبعث {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} وهو من أخبث شجر البادية في المرارة وبشاعة المنظر ونتن الريح، فما يرجى من الشجر والثمر هو إما حلاوة الطعم، وهذا فيه مرارة، وإما المنظر الجميل وهذا بشع المنظر، وإما الريح الطيبة وهذا نتن الريح، فهذا وصف شجر الزقوم. وإذا قلنا: هو من أخبث شجر البادية فليس المقصود أن هذا هو الموجود في النار، فكما أنه ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء كذلك -أيضاً- ليس في النار مما في الدنيا إلا الأسماء، فالنار فيها شجر الزقوم لكن شتان بين شجر الدنيا وشجر النار، فهذا مجرد اسم فقط، لكن في الحقيقة هناك تفاوت لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى. {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي: من ثمراتها الوبيئة البشعة المحرقة. {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} الإنسان حين يأكل يستسيغ الأكل عن طريق الشراب، أما هؤلاء فإذا أكلوا من شجر الزقوم فوقفت في حلوقهم فإنهم يستسيغونها ويبتلعونها عن طريق الحميم، وهو الماء الذي انتهى حره وغليانه. {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} يعني الإبل التي بها الهيام، وهو داء لا ري معه لشدة الشغف والكلب فهو داء يصيب البهيمة فتظل تشرب وتشرب ولا ترتوي مهما شربت.

تفسير قوله تعالى: (هذا نزلهم يوم الدين)

تفسير قوله تعالى: (هذا نزلهم يوم الدين) قال تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56]. أي: هذا جزاؤهم في الآخرة، وفيه مبالغة بديعة؛ لأن أصل النزل ما يعد للضيف من الإكرام والطعام والشراب. فهذا جزاؤهم في الآخرة، فالنزل ما يعد للقادم عاجلاً إذا نزل، أو الضيف حين يصل، فأول شيء يقدم إليه ويعد له ويهيأ له هو النزل لتكريمه به. فالنزل هو أول ما يعد للقادم عاجلاً إذا نزل، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، كالذبيحة أو غيرها من الأمور التي تحتاج إلى وقت للإعداد. فجعل الله تبارك وتعالى ما مر وصفه في قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:51 - 55]؛ كل هذا جعله نزلاً. فانظر إلى دقة التعبير في قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} فهذا هو الترحيب الأولي بهم. فلما جعل هذا أمراً هيناً كالنزل دل على أن ما بعده لا يطيق البيان شرحه، ولا يمكن أن تتسع لغة لوصف ما يكون بعده من الأهوال، والعياذ بالله. وجعله نزلاً مع أن النزل هو ما يكرم به النازل؛ تهكماً، كما في قوله: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً يعني: حييناه بالسيوف وقاتلناه. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} النزل -بضمتين- هو رزق الضيف الذي يقدم له عند نزوله إكراماً له، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] وربما استعملت العرب النزل في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار. وجاء القرآن باستعماله فيما يقدم لأهل النار من العذاب، كقوله هنا في عذابهم المذكور في قوله: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ} [الواقعة:52 - 56] أي: هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار. يعني أن المقصود به التهكم، كما تقول: هذه تحيتهم. فهذا تهكم؛ لأن التحية في الأصل إكرام، وهنا نزلهم فيه إهانة وعذاب أليم، كما قال تعالى في حق الكافر الحقير الذليل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]. وقال تعالى في آخر سورة الكهف: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102] ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعدي الضبي: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلاً وقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي: يوم الجزاء.

تفسير قوله تعالى: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون)

تفسير قوله تعالى: (نحن خلقناكم فلولا تصدقون) قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة:57]. {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: نحن خلقناكم -يا معشر قريش- والمكذبين بالبعث فأوجدناكم بشراً ولم تكونوا شيئاً. {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: بالخلق. وهم وإن كانوا مقرين به لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار. أي: فقوله: ((فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ)) يعني: بأنا خلقناكم. وقد يقول قائل: فهمنا من آيات أخر أن مشركي قريش كانوا يقرون بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، فما وجه هذا التفسير؟ و A أنه لما كان هذا الإقرار بالخالق لم تترتب عليه العبودية له صار بمنزلة العدم. ففهم أنه يصفهم هنا بأنهم لا يصدقون بأن الله هو الذي خلقهم، ولكن دلت بعض الآيات على أنهم يصدقون بأن الله تعالى خلقهم، فنزل تصديقهم الذي لم يثمر الطاعة والانقياد وتوحيد الله منزلة العدم. وهناك تفسير آخر، وهو أن المعنى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: بقدرتنا على بعثكم وإعادتكم مرة أخرى؟! فإن من قدر على الإنشاء قادر على الإعادة. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: هذا الخلق الأول، {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} أي: فهلا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني؟! لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى. وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني جاء موضحاً في آيات كثيرة جداً، كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ولا شك في أن إعادة الخلق هينة على الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي: هين عليه. وليس معنى قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أنه أسهل عليه. وإنما هو من باب مخاطبة الناس بما هو معروف لديهم. لكن ليس هناك سهل وأسهل على الله؛ لأنه سبحانه قادر على كل شيء قدرة متساوية. فاستعمال هذا التعبير ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) إنما هو بالنسبة لما هو معهود عندكم أنتم أيها المخلوقون، فمن ابتدأ من الخلق شيئاً فلا شك في أن إعادته أسهل عليه من ابتدائه؛ لأنه أعرف بدروبه وبمسالكه. أما الله سبحانه وتعالى فالكل في قدرته سواء، وليس هناك سهل وأسهل، وإنما كله على الله هين. قال تبارك وتعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5] إلى آخر الآية، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] وقال تبارك وتعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]. وقوله: (فلولا) في قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} حرف تحضيض، ومعناه الطلب بحض وشدة، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار على التصديق بالبعث لظهور برهانه القاطع الذي هو خلقه لهم أولاً.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) قال تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:58 - 62]. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} أي: ما تقذفونه في الأرحام من النطف. ((أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)) بجعله بشراً سوياً. ((أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ)) أي: بإضافة الصورة الإنسانية عليه. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] يعني: أفرأيتم ما تصبونه من المني في أرحام النساء، فـ (ما) هنا موصولة، يعني: الذي تمنون. والعائد ضمير محذوف تقديره (تمنونه). وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} هذا استفهام تقرير، ولماذا استفهام تقرير؟ لأنه لا يمكن أن يكون جوابهم: نحن الخالقون، بل لابد لهم من أن يقولوا: الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهم ما ادعوا أبداً أنهم خلقوا شيئاً. وحينئذ سيكون A أنتم الخالقون. خطاباً لله سبحانه وتعالى على التعظيم! فيقال لهم: إذا كنا خلقنا هذا الإنسان الخصيم المبين من تلك النطفة التي تقذف في الرحم، فكيف تكذبون بقدرتنا على خلقه مرة أخرى وأنتم تعلمون أن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من الابتداء؟! والضمير المنصوب في قوله تعالى: ((أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)) الهاء فيه عائدة على الموصول، أي: أأنتم تخلقون ما تمنونه من النطف علقة ثم مضغة إلى آخر هذه المراحل؟! وهذا المعنى مبين في آيات كثيرة توضح أطوار خلق الإنسان. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة من مني تمنى، يجب على كل إنسان النظر فيه. يعني أن التفكر في هذا الدليل واجب وفريضة وحتم على كل إنسان، فهو فريضة مثل الصلاة، فشأنه شأن كل الواجبات والفرائض. يقول: هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة تمنى يجب على كل إنسان النظر فيه؛ لأن الله جل وعلا وجه الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه، وذلك في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]. ففي الآية أمر؛ إذ الأمر يأتي بصيغ شتى، من ضمنها صيغة فعل مضارع ومعه لام الأمر، كما هنا (فَلْيَنظُرِ) فهذا أمر، والأمر على التحقيق يفيد الوجوب إلا لقرينة.

تفسير قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت فلولا تذكرون)

تفسير قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت فلولا تذكرون) قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:60 - 62]. قوله تعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) أي: كتبنا على كل نفس ذوق الموت. كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. ومن كان سبيله ذلك، وكان موقناً بأنه -لابد- ميت، فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهب لما يخوف به من بعده، فيستعد للمخاوف التي تكون بعد الموت. والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة. أي: فالله الذي خلقكم من نطفة من مني يمنى هو سبحانه وتعالى -أيضاً- سوف يقبض أرواحكم بقدرته، فلا تغتروا بالإمهال بدليل ما قدره عليكم من الموت. وقوله: (بَيْنَكُمُ) فيه زيادة تنبيه، كأن الموت بين ظهرانيكم، فهو موجود في وسطكم قريب جداً منكم. ثم أكد ما قرره في قوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) يعني: بمغلوبين. ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)) أي: بعد مهلككم فنجيء بآخرين من جنسكم. ((وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ فإذا كانت هذه مظاهر من قدرة الله تبارك وتعالى، وهي أنه كتب عليكم الموت، وهو مميتكم لا محالة، وقادر على إماتتكم جميعاً، وأن يستبدل بكم قوماً غيركم، وأن يقلبكم في أطوار وفي أحوال وفي صور وأشكال؛ فكيف يعجز عن إعادة خلقكم مرة ثانية؟! قال الشهاب: والظاهر أن قوله: ((وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) المراد به: إذا بدلناكم بغيركم. لا في الدار الآخرة كما توهم، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} [النساء:133]. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى}. أي أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، كما قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] فـ (هَلْ) هنا بمعنى (قد)، أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً. وقوله تعالى: ((فَلَوْلا تَذكَّرُونَ)) أي: فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة، قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة، وأنها هينة عليه تبارك وتعالى.

كلام الشنقيطي على قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت)

كلام الشنقيطي على قوله تعالى: (نحن قدرنا بينكم الموت) قوله تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ}. يقول الشنقيطي قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) وقرأ ابن كثير بتخفيفها: (نحن قَدَرْنا بينكم الموت). وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير، فيكون كل ذلك صحيحاً، وكله يشهد له القرآن، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن، ومن ذلك هذه الآية الكريمة. فالإيضاح في ذلك أن قوله تعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) في تفسيرها وجهان من التفسير، وأيضاً فيما يتعلق به قوله تعالى: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)) وجهان من التفسير. فقال بعض العلماء -وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى- قالوا: إن قوله تبارك وتعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)) أي: قدرنا لموتكم آجالاً مختلفة وأعماراً متفاوتة، فمنكم من يموت صغيراً، ومنكم من يموت شاباً، ومنكم من يموت شيخاً. فقوله تعالى: ((بَيْنَكُمُ)) يعني: بين شتى أصنافكم وأعماركم. ودل على هذا قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5] وقال تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} [غافر:67] يعني: قبل فترة الشيخوخة، فتشمل الشباب وتشمل الطفولة {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر:67] وقال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] وقال تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11]. وقوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) أي: ما نحن بمغلوبين. والعرب تقول: سبقه على كذا، أي: غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه. والمعنى: وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم. بمعنى أنه لن يقدر أحد على أن يقدم أجلاً أخرناه ولا أن يؤخر أجلاً قدمناه. وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة، كقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح:4] وقال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145] إلى غير ذلك من الآيات. على تفسير الآيتين السابقتين بالتفسير الذي ذكرناه يكون قوله تعالى: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)) لا علاقة له بقوله تعالى: ((بِمَسْبُوقِينَ)) بل هو متعلق بقوله: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ))؛ لأن الجملة لها ثلاثة أجزاء: الأول: قوله تعالى: ((نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ)). والثاني: قوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)). والثالث: قوله تعالى: ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ)). فكأن المعنى: نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ. أي: نبدل من الذين ماتوا أمثالاً لهم نوجدهم. وعلى فمعنى تبديل أمثالهم إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا. وهذا المعنى تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام:133] وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، وقراءة ((قَدَّرْنَا)) مناسبة لهذا الوجه، وكذلك قوله تعالى: (بَيْنَكُمُ). أما الوجه الثاني في تفسير الآية فهو أن (قَدَّرْنَا) بمعنى: قضينا وكتبنا على جميع الخلق. وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]. وعلى هذا القول فقوله تعالى: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أمثالكم} [الواقعة:61] متعلق بقوله تعالى: ((وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) أي: ما نحن بمغلوبين. والمعنى: وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا، فنحن قادرين على إهلاككم، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلاً منكم. وهذا المعنى كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء:133] وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام:133] وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:19 - 20] وقوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]. قوله تعالى: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ) قال بعضهم: وننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات، كأن ننشئكم قردة وخنازير كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم. وقال بعضهم: ننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات فنغير صفاتكم، فنجمل المؤمنين ببياض الوجوه، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون. إلى غير ذلك من الأقوال.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون بل نحن محرومون)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون بل نحن محرومون) قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:63 - 67]. ثم انتقل الاستدلال إلى دليل آخر من أدلة البعث والنشور، فقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:63] يعني: أفرأيتم ما تحرثون الأرض لأجله ((أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)) والهاء في قوله: (تَزْرَعُونَهُ) عائدة على (ما تحرثون) وهل نحن نحرث الأرض أم نحرث الحب؟! نحرث الأرض، لكن من أجل أن نضع فيها الحب، فلذلك نقول في التفسير: أفرأيتم ما تحرثون الأرض لأجله، وهو الحب؟! فقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي: هذا الحب. لأن قائلاً قد يقول: لماذا ذكر الحب؟ فنحن في التفسير نقول: المعنى: أفرأيتم ما تحرثون الأرض لأجله وهو الحب. ثم أتى السياق يتكلم عن الحب نفسه، فقال تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} والحرث شق الأرض للزراعة وإثارتها وإلقاء البذر فيها. وقوله تعالى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي: تنبتونه (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) يعني: أم نحن المنبتون. وعن بعض السلف أنه كان إذا قرأ هذه الآية وأمثالها يقول: بل أنت -يا رب- الذي تزرع، وأنت الذي تنميه. (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) يعني هذا الزرع، أي: أيبسناه قبل استوائه واستحصاده، وأصل الحطام ما تحطم وتفتت لشدة يبسه وجفافه. وقوله تعالى: (فَظََلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي: تتعجبون من هلاكه ويبسه بعد خضرته. أي: تندمون على اجتهادكم الذي ضاع فيه. أو: (تَفَكَّهُونَ) على ما أصبتم لأجله من المعاصي فتتحدثون فيه، والتفكه: التنقل بصنوف الفاكهة، وقد استعير للتنقل بالحديث لأنه ذو شجون. فالتفكه هنا مقصود به تناقل الحديث في الكلام وفي الحوار. (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) يعني: تقولون: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، فهذا مقول قول مقدر. ومعنى (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي: ملزمون غرامة ما أنفقنا. أو: مهلكون لهلاك رزقنا. من الغرام بمعنى الهلاك؛ قال الشاعر: إن يعذب يكن غراماً وإن يعـ ط جزيلاً فإنه لا يبالي ومن الأول قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] أي: ملازماً. ومعنى قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: حرمنا رزقنا.

دلائل البعث في إنبات الزرع

دلائل البعث في إنبات الزرع يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] * {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63 - 65]. يقول: تضمنت هذه الآيات الكريمة برهاناً قاطعاً ثانياً على البعث وامتناناً عظيماً على الخلق بخلق أرزاقهم لهم، فقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} يعني: أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها. (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أأنتم تجعلونه زرعاً ثم تنمونه إلى أن يصير مدركاً صالحاً للأكل. (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) له. وهذا المعنى لا يتفطن إليه إلا الإنسان المؤمن العاقل، لكن الكافر يعمى عن رؤية قدرة الله على إنبات هذه البذرة، فنحن -البشر- ما علينا غير الأخذ بالأسباب، لكن هل الأسباب حتماً تؤدي إلى النتائج؟! إن القوة التي تنمي وتنبت هي قوة الله سبحانه وتعالى، فنحن إنما نأخذ بالأسباب، نوجد الماء والبذرة، ونحرث الأرض، ونسقي الزرع، لكن من الذي ينبت؟ إنه الله سبحانه وتعالى. ولا شك في أن الجواب الذي لا جواب غيره هو أن يقال: أنت -يا ربنا- الزارع المنبت، ونحن لا قدرة لنا على ذلك، فيقال لهم: كل عاقل يعلم أن من أنبت هذا السنبل في هذا البذر الذي تعفن في باطن الأرض قادر على أن يبعثكم بعد موتكم. وكون إنبات النبات بعد عدمه من براهين البعث قد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] وقال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] ورحمة الله هي المطر؛ لأن المطر أحياناً يسمى رحمة، كما قال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63] وهي المطر. وانظر إلى قوله تعالى: ((آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ)) فكلما ترى زرعاً أو نباتاً أو شجرة فقل: هذا هو أثر رحمة الله، لقوله: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:57]. إذاً: الفائدة من الزرع والنبات ليس الأكل أو رؤية مناظر الجنات الجميلة فحسب، وإنما هناك غاية أساسية من خلقها، وهي أنها تدلنا على قدرة الله على البعث والنشور، كما أحيا هذه الأرض بعد موتها. ثم يقول الشيخ الشنقيطي أيضاً: اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة؛ لأن الله جل وعلا وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل من يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان لأعظم النعم على الخلق، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم، كما في قول الله تبارك وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24 - 33].

الحديد [3]

تفسير سورة الحديد [3]

تفسير قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم)

تفسير قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) فسر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (طريق الهجرتين)، هذه الأسماء الأربعة تحقيقاً، وبين كيفية التعبد عن طريق هذه الأسماء الأربعة، وتكلم بكلام كلام قيم جداً، وهو طويل في الحقيقة، لكن نجتزئ منه ما تيسر. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مبيناً كيف نعبد الله بالتأمل في اسمه (الأول) قال: فعبوديته باسمه (الأول) تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، فإذا حققت في قلبك معنى الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى هو الأول الذي لا شيء قبله كما فسرها النبي عليه الصلاة والسلام: (أنت الأول فليس قبلك شيء) فمعنى ذلك أنه الخالق وهو المسبب لكل شيء. والأسباب مخلوقة، فإذا حققت الاسم الأول فيقتضي ذلك أن تتجرد من التعلق بالأسباب، وليس معنى هذا أننا لا نأخذ بالأسباب؛ بل نأخذ بالأسباب ولكن لا نتوكل على الأسباب، وإنما التوكل يكون على الله سبحانه وتعالى الذي هو المسبب الحقيقي؛ لأن الإعراض عن الأسباب قدح في الشرع، والتعلق بالأسباب قدح في التوحيد؛ لأن الشرع أمر بالأخذ بالأسباب، والتعلق بالأسباب دون الله سبحانه وتعالى قدح في التوحيد. يقول: فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته. فإن الله الأول قبل كل شيء، فهو الذي سبَّب كل شيء، وخلق كل شيء، فتعلق بالمسبب وهو الله سبحانه وتعالى. قال: وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك؟ وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه وتعالى الإعداد ومنه الإمداد، وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقراً خاصاً وعبوديةً خاصة. وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضاً عدم ركونه ووثوقه بالأسباب، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي في الآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها. يعني: كل ما عدا الله له آخر؛ لكن الله سبحانه وتعالى هو وحده الآخر الذي لا شيء بعده، فما عدا الله سبحانه وتعالى من الأسباب تنقضي وتفنى بالآخرية لا محالة، ويبقى الدائم الباقي بعدها. قال: فالتعلق بها -أي: بالأسباب- تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق ألا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية حيث كان قبل الأسباب كلها، وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه. فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون هو وحده غايته ونهاية مقصوده. فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ. فكما كان واحداً في إيجادك فاجعله واحداً في تألهك إليه؛ لتصح عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه، فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه؛ لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر. وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول. يعني: أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويقرون باسم الأول الذي بدأ كل شيء: بدأ الخلق، وبدأ الرزق، وبدأ أفعال الربوبية والتنمية والرعاية والإحسان إلى الخلق. وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر -يعني: بأن تعبده وحده لا شريك له- فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده. وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).

مدار أسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن)

مدار أسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن) ثم يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً أن هذه الأسماء الأربعة: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، مدارها على الإحاطة الزمانية والإحاطة المكانية، يقول: فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فأحاطت أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، فهو الأول، يعني أنه قبل كل شيء، وهو الآخر بمعنى أنه بعد كل شيء بالإحاطة الزمانية. وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وأي شيء عالٍ فالله سبحانه وتعالى أعلى منه، حتى الجنة التي هي أعلى المخلوقات فإن عرش الله سبحانه وتعالى فوق سقف الجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله سبحانه وتعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوق سقفه عرش الرحمن). وهذا يدل على أن الجنة كروية؛ لأنه ذكر فيها الوسط والأعلى، وهذا معناه أنها كروية، والله تعالى أعلم. يقول ابن القيم: فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه، فسبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا يحجب عنه ظاهر باطناً، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية. فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد: فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في ظهوره، لم يزل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

مراتب التعبد بأسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن)

مراتب التعبد بأسماء الله عز وجل: (الأول والآخر والظاهر والباطن) يقول: وللتعبد بهذه الأسماء رتبتان: الأولى: أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء، والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو دون كل شيء. فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه. يعني: أي شيء أمامك يحجب عنك ما وراءه، فلا تعرف ما وراء الجدار، ولو وقف شخص أمامك فإنك لا ترى ما خلفه وهكذا، وكذلك السحابة لا ترى ما وراءها من شمس، فهذا شأن المخلوق. قال: فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه. المرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل كل اسم بمقتضاه. فالمرتبة الأولى مرتبة علمية، أن تشهد ذلك بقلبك وتعلمه وتوقن به. والمرتبة الثانية: عملية، أن تعامل كل اسم بمقتضاه. قال: فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء، وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها، بما يقتضيه ذلك من إفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره. فما دام أنك مؤمن بأن الله سبحانه وتعالى أول وآخر وظاهر وباطن، وما دمت تؤمن بأنه الأول، بمعنى: أنه سبق كل شيء، وكل ما عداه مخلوق؛ فالله هو الذي أوجدك بأوليته، فتعامل ذلك بما يقتضيه من إفراده بأن توحده، وألا تلتفت إلى غيره؛ لأن كل ما عداه من إله باطل، والأسباب كلها إنما هي مخلوقة، فينبغي أن تلتفت بقلبك وتتوكل على الله سبحانه وتعالى، فتفرده ولا تلتفت إلى غيره، ولا تثق بسواه، ولا تتوكل على غيره. قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً، حتى سماك باسم الإسلام؟! فأعظم نعمة في الوجود كله هي نعمة الإسلام، فهل شفع لك أحد المخلوقين حتى الأنبياء والمرسلين في الأزل عند الله عز وجل بأن يجعلك أنت مسلماً ويجعل فلاناً كافراً؟! قال عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] فهل سبق شيء منك وأنت لم تكن شيئاً مذكوراً؟! فهذا محض فضل راجع إلى أوليته وإحسانه سبحانه وتعالى إليك في الأزل بدون سبب. قال: فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه، فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق في القدم، أن يتم عليك نعمة هو ابتداها، وكانت أوليتها منه بلا سبب منك، واسم بهمتك عن ملاحظة الاختيار، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى قضى ألا ينال ما عنده إلا بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد، ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد. ثم اسم بسرك إلى المطلب الأعلى، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، كما قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة:118]، فسبقت توبته توبتهم، فلولا التوفيق لما تابوا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق إرادة الخير في الخلق، وهذا هو التوفيق. قال: بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأ لك وصرف عنك موانعها، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة، فتوكل عليه وحده، وعامله وحده، وآثر رضاه وحده، واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفاً بها، مستلماً لأركانها، واقفاً بملتزمها. فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه، وخلع أفضاله، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وبحمدك. وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزك له باطنك فإنه عنده ظاهر. ثم قال رحمه الله: فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له، فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئاً إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به، أو يتخذه عدة، أو يراه ليوم فاقته، أو يعتمد عليه في مهمة من مهماته، يعني: من التفت إلى هذه الأشياء- فكل ذلك من قصور نظره، وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع، كما هو شأن الطبيعة والهوى، وموجب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم جهول. فمن جلى الله سبحانه وتعالى صدأ بصيرته، وكمَّل فطرته، وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها، أصبح كالمفلس حقاً من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه، يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي: من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما. فالعمل الصالح الذي عملته في الحقيقة هو فضل من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لولا توفيقه لما فعلته. فالأسباب التي أخذت بها، وأوصلتك إلى النتيجة، كان يمكن أن. لا يهيئها لك الله سبحانه وتعالى، وإذا هيأها لك ربما قضى موانع تمنع مفعولها، فكل هذا إنما هو من فضل الله سبحانه وتعالى. قال: فيقول المؤمن: أستغفر الله من علمي ومن عملي، يعني: من أن أنتسب إليهما، وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما، وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك، فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين: أحدهما: الخلاص من رؤية الأعمال، حيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها، فيستغرق بمطالعة الفضل غائباً عنها ذاهلاً عنها فانياً عن رؤيتها. الثاني: أن يقطعه عن شهود الأحوال، أي: عن شهود نفسه متكثرة بها -أي: بهذه الأعمال- فإن الحال محله الصدر، والصدر بيت القلب والنفس، فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء، فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل. فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول ذهل القلب والنفس به، واشتغل بتحقيق اسم الأول واسم المنان عن أن ينسب إلى نفسه شيئاً، أو أن يرى لنفسه فضلاً، أو أن يتعلق بسبب من الأسباب. قال: وصار العبد فقيراً إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول، فصار مقطوعاً عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه. يعني: ينسب هذا كله إلى الله سبحانه وتعالى.

أثر العلم باسمي الله عز وجل (الأول والآخر)

أثر العلم باسمي الله عز وجل (الأول والآخر) والعلم بهذه الأسماء الأربعة ومعانيها له أثر عظيم في دفع الوسوسة ورد كيدها، أشار إلى ذلك حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرج أبو داود بسند حسن عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: (ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله! ما أتكلم به)، يعني: وساوس، ومن شدة بغضه لها لا يتجاسر على أن ينطق بها تعظيماً لله سبحانه وتعالى. فقال لي: (أشيء من شك؟ قال: وضحك، قلت: بلى، قال: ما نجا من ذلك أحد حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]). لأن كيفية الوسوسة هي كما جاء في حديث آخر: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ يقول النبي عليه السلام: فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله. ثم لينته) أي: يتوقف عن الاستطراد في التفكير. كذلك ابن عباس رضي الله عنهما هنا يدلنا على علاج آخر، وهو أن تقول: (هو الأول والآخر)، أي: هو الأول الذي ليس قبله شيء، وإلا لزم التسلسل، فلو أنك قلت: ربنا خلق الكون وخلق المخلوقات، فتقول: من خلق الإله؟ والعياذ بالله! لو أنك افترضت وقلت: خلقه خالق آخر، فالخالق الآخر من خلقه؟ سوف تقول أيضاً: خلقه خالق ثان، وهكذا يلزم التسلسل، وهذا محال! لكن إذا تعبدت باسمه الأول الذي ليس قبله شيء، فهو الذي أوجد ما عداه من المخلوقات سبحانه لم يرد عليك هذا، فالله وحده هو الخالق الذي لم يسبق وجوده عدم، فحينما تقول: آمنت بالله، وتتلو هذه الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، فأنت ترد على الشيطان وسوسته، ولذلك جاء في بعض الأحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) واسم الشيطان الوسواس الخناس، فإذا تأملت معنى الوسواس الخناس نجوت من وسوسة الشيطان، ووسوسة صيغة مبالغة. أي: كثير الوساوس، وهو يوسوس إذا غفل الإنسان عن ذكر الله. فكما أنه كثير الوسواس فهو كثير الهرب إذا ذكرت الله، فإذا وسوس لك وذكرت الله خنس، أي هرب وانكمش وبعد عنك، فلذلك إذا سمع الأذان يولي ويهرب لأنه يكره الأذان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أذن المؤذن ولى الشيطان وله ضراط). فأعظم ما يدفع به الوسواس هو ذكر الله سبحانه وتعالى، لا كما قال أحد ملاحدة أطباء النفس في مصر، وكان في حديث مع إذاعة لندن، وأنا سجلته في الحقيقة؛ لأني ذهلت من الكلام، وكان مما قال: إن بعض الناس يرون أن علاج الموضوع هذا أن يتخلص الإنسان أصلاً من فكرة الله! وطبعاً هذا ليس بغريب عليه؛ لأنه في وسط الكلام قال: والحقيقة أن من الناس الذين يثيرون موضوع الوسواس المسلمين وإخواننا اليهود! وهذه أول مرة أسمع واحداً يقول: إخواننا اليهود! فقد قال الناس ما قالوا، وسمعنا كثيراً من يقول: إخواننا كذا، وإخواننا كذا، وإخواننا كذا، لكن ما سمعنا أحداً يقول: إخواننا اليهود! فهذا شيء شاذ جداً. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. كذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لـ أبي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله: (ما شيء أجده في صدري؟ -يعني: من هذه الوساوس- قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به -من قوة الإيمان وتعظيمه لله- قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قلت: بلى، فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، قال: فقال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]). وقوله: (ما نجا من ذلك أحد). يعني: ما نجا من ذلك البلاء أو من ذلك الخاطر أو من ذلك الوسواس الوارد عليك، لكن هل أنت تسعى وراء الشك كما يفعل البعض من الجهلة؟ وأذكر عندما كنت في المدرسة الثانوية أني رأيت إحدى اللافتات وقد كتب فيها الحكمة التالية: كلما ازددت شكاً ازددت يقيناً. وكأن كاتبها أو قائلها يرغب في الشك، وبعض الناس يقولون لك: لازم أنك تبدأ بالشك، فيظلون يتكلمون عن لخبطة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وعفا عنه! فليس عليك أن تتنقل بين الفرق الضالة بحثاً عن الحق، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حفظ لك فطرتك وإيمانك وأضاء قلبك بنور اليقين، فلا تهدم هذا اليقين ثم تعود للشك، فينبغي ألا تبتلعوا السم في هذا الكلام المموه، الذي يقول: إن الشك هو أول مراتب اليقين. بل الشك في الحق بلاء، ومن نعمة الله أن يحفظ الله سبحانه وتعالى على الإنسان فطرته؛ لأن أي إنسان سليم الفطرة يهتدي للتوحيد بسلاسة؛ لأن الفطرة مغروسة في داخله. وعن طريق فهم هذه الأسماء الأربعة الواردة في هذه الآية الكريمة: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] تتحقق أنواع من العبودية.

معاني اسم الله عز وجل: (الأول)

معاني اسم الله عز وجل: (الأول) بالنسبة لاسم الله عز وجل الأول فمعناه اللغوي: الأول نقيض الآخر، والأول والآخر من الأسماء التي تأتي مقترنة بعضها ببعض، مثل المقدم والمؤخر المعز والمذل الظاهر والباطن. فالأول يأتي مع الآخر، وبعض الناس أحياناً يخطئون في قراءة اسم الله عز وجل (الآخر)، فيقول: عبد الآخَر، فهل هناك إله مع الله؟! فننتبه لهذا، فإن الصواب: عبد الآخِر، إن جاز إطلاق هذا الاسم بهذه الصورة. فالأول نقيض الآخر، وأصله (أوأل) على وزن (أفعل) قلبت الهمزة واواً ثم أدغم الواو في الواو، يدل على ذلك قولهم: هذا أول منك، والجمع الأوائل والأوالي أيضاً على القلب. قال ذو الرمة: وما فخر من ليست له أولية تعد إذا عد القديم ولا ذكر يعني: مفاخر آبائه. وقال الراغب: الأول: هو الذي يترتب عليه غيره، ويستعمل على أوجه: أحدها: المتقدم بالزمان، كقولك: عبد الملك أولاً ثم منصور، يعني: هذا جاء قبل ذاك. الثاني: المتقدم بالرياسة في الشيء وكون غيره محتذياً به، نحو الأمير أولاً ثم الوزير. الثالث: المتقدم بالوضع والنسبة، كقولك للخارج من العراق: القادسية أولاً ثم فيد، وتقول للخارج من مكة: فيد أولاً ثم القادسية. الرابع: المتقدم بالنظام الصناعي، نحو أن يقال: الأساس أولاً، ثم البناء، فيصنع الأساس أولاً ثم بعد ذلك يكون البناء. وورد هذا الاسم الشريف في القرآن الكريم مرة واحدة في هذه الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. ومعنى هذا الاسم في حق الله تبارك وتعالى يقول الفراء: قوله عز وجل: ((هُوَ الأَوَّلُ))، يريد قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، يعني: الباقي بعد فناء كل شيء. وقال ابن جرير: هو الأول قبل كل شيء بغير حد، فالله سبحانه وتعالى أوليته أزلية، يعني: لا بداية لها، فالأول هو قبل كل شيء بغير حد، فليس هناك زمن لبدايته عز وجل، والآخر بعد كل شيء بغير نهاية، وإنما قيل ذلك لأنه كان ولا شيء موجود سواه، وهو كائن بعد فناء الأشياء كلها، كما قال جل ثناؤه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. وقال الزجاج: الأول هو موضوع التقدم والسبق، ومعنى وصفنا الله تعالى بأنه أول: هو متقدم للحوادث بأوقات لا نهاية لها، فالأشياء كلها وجدت بعده وقد سبقها كلها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء). وقال الخطابي: الأول هو السابق للأشياء كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية إذ كان موجوداً ولا شيء قبله ولا بعده. وقال الحليمي: الأول هو الذي لا قبل له، والآخر هو الذي لا بعد له، وهذا لأن قبل وبعد نهايتان، فقبل نهاية الموجود من قبل ابتدائه، وبعد غايته من قبل انتهائه، فإذا لم يكن له ابتداء ولا انتهاء لم يكن للموجود قبل ولا بعد، فكان هو الأول والآخر. وقال البيهقي: الأول هو الذي لا ابتداء لوجوده. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: هو أول هو آخر هو ظاهر هو باطن هي أربع بوزان ما قبله شيء كذا ما بعده شيء تعالى الله ذو السلطان ما فوقه شيء كذا ما دونه شيء وذا تفسير ذي البرهان فانظر إلى تفسيره بتدبر وتبصر وتعقل لمعان وانظر إلى ما فيه من أنواع معـ رفة لخالقنا العظيم الشان

تفسير الرسول لاسم الله (الأول)

تفسير الرسول لاسم الله (الأول) خير ما يفسر به هذا الاسم والأسماء الثلاثة التي تليه هو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله عز وجل، والمعروف أنه إذا صح في تفسير الآية حديث وجب المصير إليه، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول: اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شي، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر) رواه مسلم. فالله تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء من الموجودات، فهو المتقدم على كل شيء، فلم يكن معه شيء، كما جاء ذلك في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض). وقال الطحاوي في عقيدته: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء). وشرحه ابن أبي العز فقال: فقول الشيخ: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء) هو معنى اسميه الأول والآخر، والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، قطعاً للتسلسل. يعني: لا بد أن نقول: هناك خالق أول لا ابتداء له، لأننا لو قلنا عقلاً: إنها ترجع إلى خالق، والخالق يرجع إلى خالق خلقه -والعياذ بالله- والخالق الثاني يرجع إلى خالق وهكذا، فإن هذا لن يقف عند حد، بل هذا سيقتضي التسلسل، والتسلسل ممتنع، فلذلك نقول: إن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، وهو الذي يوجد غيره ولا يوجده أحد. قال: قطعاً للتسلسل؛ فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن، وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، فهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة. فالله سبحانه وتعالى عندما يحدث هذه التغييرات والتقلبات ما بين حر شديد وبرد شديد غيرهما، فإن على الناس أن يتفكروا ويعقلوا أن هذه المحدثات لا بد لها من محدث يغير فيها بقدرته وحكمته، وهو الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحدث هذه التغييرات، حتى نلتفت إلى قدرة الله، وإلى وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يغير هذه الأشياء شيئاً بعد شيء كما يشاء عز وجل. فيقول: وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها. أي: عدمها ينفي وجودها، فكونها يلحقها العدم معناه أنها ليست واجبة الوجود؛ لأن واجب الوجود لذاته لا يمكن أن يلحقه عدم، فكون هذه المخلوقات يقع عليها العدم هذا ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، ويثبت أنها غير مستحيلة؛ لأن المستحيل لا يوجد. قال: وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. ونفس هذا الكلام الذي قلناه هو موجود في هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، أي: هل خلقوا من عدم، أم خلقوا أنفسهم؟! فوجود هذه الأشياء ينفي كونها ممتنعة، وعدمها ينفي كونها موجودة لذاتها، فليس الواجب لذاته إلا لله سبحانه وتعالى. وقوله هنا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، معناه: هل أحدثوا من غير محدث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟! ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.

حكم تسمية الله عز وجل بالقديم

حكم تسمية الله عز وجل بالقديم قال: وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم، وليس هو من أسماء الله الحسنى. والتزام تسميته بالأول هو الموافق للكتاب والسنة واللغة، فالصحيح أننا لا نعبر عن الله عز وجل باسم القديم، وإنما نعبر عن الله عز وجل باسمه الأول، وهذا هو الموافق للكتاب والسنة واللغة، قال: فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره. فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم. يعني: أن كلمة قديم لا تعبر عن الذي لم يسبقه عدم، وإنما الاسم الذي يعبر عما لم يسبقه عدم هو الأول، أما القديم فيعبر عن المتقدم على غيره. قال: كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، والعرجون القديم هو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان. وقد أنكر كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم تسمية الرب تبارك وتعالى بالقديم، والصواب أن يستعاض عن هذا الاسم بالتسمية الواردة وهي الأول، واتباع ما جاءت به النصوص أولى من اتباع ألفاظ أهل الكلام. أضف إلى ذلك أن التقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، ولا يفيد التقدم على الحوادث كلها إلا اسم الأول، أما من أطلقه من أهل السنة فلعله أطلقه من باب الإخبار عنه تبارك وتعالى، فباب الإخبار عن الله عز وجل أوسع مما يدخل في باب الأسماء الحسنى والصفات، كالشيء والموجود والقائم بنفسه ونحوها. كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى، هذا فيما يتعلق بتسمية الله عز وجل بالأول.

بيان بطلان التسلسل في الفاعلين

بيان بطلان التسلسل في الفاعلين ونكمل كلام ابن القيم رحمه الله تعالى فيما يتعلق بهذا الاسم، يقول: وأرشد من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟! أن يقرأ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. كذلك قال ابن عباس لـ أبي زميل سماك بن الوليد الحنفي، وقد سأله: (ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك، قلت: بلى، فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94]، قال: فقال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]). فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلان التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثراً فيه لكان ذلك هو الرب الخلاق. ولابد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق، وغني عن غيره. فإن قيل: هل يوجد خالق يخلقه غيره ف A لا؛ لأنه يكون محتاجاً إليه مفتقراً إليه، فلا يصح أن يكون خالقاً أو إلهاً. قال: ولا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غير مخلوق، وغني عن غيره، وكل شيء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شيء قائم به، موجود بذاته، وكل شيء موجود به، قديم لا أول له، وكل ما سواه فوجوده بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاء كل شيء به، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.

معنى اسم الله الآخر

معنى اسم الله الآخر ونختم الكلام على اسم الآخر، فنقول: الآخر: خلاف الأول، تقول: جاء آخراً، أي: أخيراً، وتقديره: فاعل، والأنثى آخرة، والجمع أواخر، أما الآخَر بالفتح، فهو أحد الشيئين. وورد هذا الاسم الكريم أيضاً في القرآن الكريم مرة واحدة في نفس الآية: (هو الأول والآخر). وأما معناه في حق الله تبارك وتعالى، فيقول الزجاج: الآخر: هو المتأخر عن الأشياء كلها ويبقى بعدها. يعني: تفنى كل الأشياء ويبقى الله سبحانه وتعالى بعدها. وقال الخطابي: الآخر: هو الباقي بعد فناء الخلق، وليس معنى الآخر: ما له الانتهاء، كما ليس معنى الأول: ما له الابتداء، فهو الأول والآخر وليس لكونه أول ولا آخر. وقال البيهقي: الآخر: الذي لا انتهاء لوجوده.

معاني اسمي الله عز وجل (الظاهر والباطن)

معاني اسمي الله عز وجل (الظاهر والباطن) قال تعالى: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. الظهر لغة: خلاف البطن، والظاهر: خلاف الباطن، يقال: ظهر يظهر ظهوراً فهو ظاهر وظهير. والظهير: المعين، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. وبعير ظهير بيُّن الظهارة، إذا كان شديداً قوياً، ومن استعمال الظهير بمعنى المعين قول الله تبارك وتعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]. وقد سبق أن تكلمنا في تفسير سورة الفرقان، وقلنا: إن معناها وكان الكافر معيناً للشيطان وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسله ليقاتل به -أي: الكافر- في سبيل الشيطان أولياء الله الذين يقاتلون في سبيل الله تبارك وتعالى. وتقول: ظهرت البيت، أي: علوته، وظهرت على الرجل، أي: غلبته، وأظهرت بفلان، أي: أعليت به، والظهر من الأرض ما غلظ وارتفع، والبطن ما لان منها وسهل ورق واطمأن، وظهر الشيء ظهوراً: تبين، وأظهرت الشيء: بينته. وورد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم مرة واحدة في هذه الآية في سورة الحديد: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]. أما معنى هذا الاسم الشريف في حق الله تبارك وتعالى فقال الفراء: الظاهر على كل شيء علماً، وكذلك الباطن على كل شيء علماً. وقال ابن جرير: يقول تعالى: وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه تبارك وتعالى. إذاً: هذا أحد معاني الاسم الكريم الظاهر حينما يطلق في حق الله تبارك وتعالى، فالظاهر معناه: أنه ظاهر على كل شيء علماً، يعلم كل شيء تبارك وتعالى، وكذلك الباطن على كل شيء علماً، أو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه، وهذا مثل اسمه تبارك وتعالى الأعلى، فهو سبحانه الأعلى على كل شيء، فله الفوقية المطلقة بكل معانيها. وهناك معنى آخر: أن الظاهر هو الذي ظهر للعقول بحججه وبراهين وجوده وأدلة وحدانيته عز وجل، هذا إذا أخذته من الظهور. وإن أخذته من قول العرب: ظهر فلان فوق السطح إذا علا، ومنه قول الشاعر: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها فالظاهر أيضاً أنه يثبت لله سبحانه وتعالى صفة الظهور بمعنى العلو، فالله عز وجل يثبت له العلو المطلق من جميع الوجوه، سواء كان علو الذات، أو علو القدر، أو علو الصفات، أو علو القهر. وقال الزجاج: الباطن: اسم الفاعل من بطن، وهو باطن إذا كان غير ظاهر، والظاهر: خلاف الباطن، فالله سبحانه وتعالى ظاهر باطن، هو باطن لأنه غير مشاهد كما تشاهد الأشياء المخلوقة. فهو ظاهر بالدلائل الدالة عليه، وبأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته، فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل، وباطن غير مشاهد كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا، عز وجل عن ذلك وتعالى علواً كبيراً. ويجوز في اللغة أن يكون الباطن العالم بما بطن، أي: بما خفي، كقولك: بطن بفلان، أي: خص به، فعرف باطن أمره، وهؤلاء بطانة فلان، أي: خاصته، فالبطانة هي التي تكون قريبة جداً من الإنسان، فبطانة الإنسان من الرفقاء أو الأصدقاء هو القريب منه بحيث يعرف ما خفي من أسراره. فالباطن هو العالم بما بطن، يعني: بما خفي. والظاهر هو القوي، كقولك: ظهر فلان بأمره فهو ظاهر عليه، يعني: قوي عليه، وتقول: جمل ظهير أي: قوي كبير. وقال الأصمعي: يقال: ظاهر فلان فلاناً على فلان، إذا مالأه عليه. وقال الخطابي: هو الظاهر بحججه الباهرة، وبراهينه النيرة، وبشواهد أعلامه الدالة على ثبوت ربوبيته وصحة وحدانيته، ويكون الظاهر فوق كل شيء بقدرته. فيكون الظهور بمعنى العلو، ويكون أيضاً بمعنى الغلبة. وأما اسمه جل وعلا الباطن، فكما أشرنا آنفاً أن البطن خلاف الظهر، وهو مذكر وتأنيثه لغة، وبطانة الثوب: خلاف ظهارته، والبطنان: جمع البطن وهو الغامض من الأرض، وبطنان الجنة: وسطها، وبطنت الوادي: دخلته، وبطنت هذا الأمر: عرفت باطنه، وبطنت بفلان: صرت من خواصه، وبطانة الرجل: وليجته، وأبطنت الرجل: إذا جعلته من خواصك. واسم الباطن ورد مرة واحدة في هذه الآية الكريمة في سورة الحديد. أما معنى هذا الاسم الشريف من أسماء الله بجانب ما ذكرناه آنفاً، فيقول ابن جرير: هو الباطن لجميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قريب إلى كل شيء، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. وقال الزجاج: الباطن هو: العالم ببطانة الشيء، يقال: بطنت فلاناً وخبرته، إذا عرفته ظاهراً وباطناً، فعلى هذا المعنى يكون الله تعالى عالماً ببواطن الأمور وظواهرها، فهو ذو الظاهر وذو الباطن، يعني: يعلم ما ظهر وما خفي. وقال الخطابي: الباطن هو: المحتجب عن أبصار الخلق، وهو الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية، فمن أصداء اسم الله سبحانه وتعالى الباطن أن تعرف أنه محتجب عن أبصار الخلق، فبالتالي لا يمكن أبداً أن يتوهم أو يتخيل كيف هو. وقد يكون معنى الظهور والبطون: احتجابه عن أبصار الناظرين وتجليه لبصائر المتفكرين. كما ذكر نفس الكلام لكن بعبارة أخرى: أنه سبحانه وتعالى باطن؛ لأنه محتجب عن أبصار الخلق، فهم لا يرونه، فلذلك هو باطن، وهو ظاهر؛ لأنه ظاهر بالأدلة على وجوده ووحدانيته وقدرته وعلمه وحكمته، فهو ظاهر لبصائر وعقول المتفكرين، وهو باطن عن عيون المبصرين، فلا يراه عز وجل أحد في هذه الدنيا. فيكون المعنى: هو العالم بما ظهر من الأمور والمطلع على ما بطن من الغيوب. وقال الحليمي: الباطن: الذي لا يحس، وإنما يدرك بآثاره وأفعاله عز وجل.

آثار الإيمان باسمي الله عز وجل: (الظاهر والباطن)

آثار الإيمان باسمي الله عز وجل: (الظاهر والباطن) أما آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم (الباطن) فهي معرفة أن الله سبحانه وتعالى أعظم الغيب: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، فأعظم الغيب الذي يغيب عن أبصارنا هو الله سبحانه وتعالى. فالغيب هو ما ليس بمحسوس، وإنما يدرك بالحواس دلائل وحدانيته ودلائل قدرته ودلائل وجوده عز وجل، لا كما يلهج به بعض الملاحدة في هذا الزمان من قولهم: حدثونا عن العلم ودعوكم من الغيبيات! بل بعضهم يكون أصرح في إلحاده وزندقته فيعبر عن الغيبيات بقوله: خزعبلات! وهذا يقتضي الكفر، فأعظم غيب على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى؛ لأننا لا نشاهده، ولأنه هو الباطن في هذا المعنى، فالله سبحانه وتعالى أعظم الغيب، محتجب عن الخلق، لا يراه أحد في الدنيا، ولا تدركه الأبصار في الآخرة. وهناك فرق بين أن نقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وبين إنكار المعتزلة وأشباههم رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة. لأن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، فمثلاً: -ولله المثل الأعلى- أنت إذا نظرت إلى البحر فليس معنى ذلك أنك أدركت البحر، بمعنى: أحطت به علماً، وهو مخلوق! بل أنت لا ترى إلا ما في السطح الظاهر أمامك فقط، فالله سبحانه وتعالى أعظم وأجل وأكبر، قال عز وجل: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ورؤية الله لا تعني الإحاطة به عز وجل ولا تعني إدراكه، وإنما هي رؤية بدون أن يدرك كنهه تبارك وتعالى. فالله تبارك وتعالى أعظم الغيب محتجب عن الخلق، لا يراه أحد في الدنيا ولا تدركه الأبصار في الآخرة، ولا نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء لنا أن نعلمه عنه، مما وصف به نفسه في كتابه، أو ما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو سبحانه مع كونه الباطن المحتجب عن أبصارنا، فهو مع ذلك ظاهر لخلقه، بأفعاله وآياته المتلوة والعيانية، كما يقول الشاعر معبراً عن هذا المعنى: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فكل ما تقع عينك عليه هو آية تدلك على الله سبحانه وتعالى، فالله ظاهر، بمعنى: ظهور آيات وحدانيته، ودلائل قدرته وحججه عز وجل، فمن تأمل وتفكر في السماوات والأرض وما فيها عَلِم عِلْم اليقين أن لهذا الكون خالقاً مدبراً، قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. وقد أحسن من قال: فيا عجباً كيف يعصي الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد هذا فيما يتعلق بالآيات الكونية؛ لأن هذه الآيات يظهر بها الله عز وجل، بمعنى: أنها تكشف لنا قدرة الله وعلم الله وحكمة الله تبارك وتعالى ووحدانيته وأنه لا شريك له. وهذه الآيات نوعان: آيات تبصيرية وآيات تنزيلية. أما الآيات التنزيلية فهي الآيات المتلوة في كتاب الله تبارك وتعالى، فلا شك أن هذه الآيات نفسها تدل على الله سبحانه وتعالى؛ لأنها كلام الله الملك، وكلام الملك هو ملك الكلام، وكل إنسان ينصت يدرك جيداً أن القرآن لا يمكن أن يكون من كلام البشر، فأي إنسان عاقل ومدرك وعنده بصيرة وعلم باللغة العربية وطرائقها فإنه لا محالة يعلم أنه لا يمكن أن يصدر هذا الكلام عن مخلوق، ويستحيل أن يقدر مخلوق على أن يأتي بكلام مثل هذا الكلام. فإعجاز القرآن الكريم ظاهر في أنك إذا أتيت القرآن من أي جهة ومن أي جانب ومن أي زاوية سوف تقطع بأنه كلام الله، ويستحيل أن يكون من كلام البشر. فآيات الله تدل على الله، وتعرفنا بالله عز وجل؛ لأن معرفة الله إنما تكون بالتلقي عن طريق الوحي، وأما ما يقوله بعض الناس من أننا عرفنا الله سبحانه وتعالى بالعقل، فهذا فيه شيء من التجوز، فنحن نعرفه بالعقل بهذا المعنى الذي ذكرناه، أعني: عن طريق التفكر في الآيات التي تدلنا على وحدانيته عز وجل وقدرته وحكمته إلى آخره. فأساساً لا يستطيع العقل أن يدرك كنه الله، وهل العقل يمكن أن يدلنا على صفات الذات وصفات الأفعال؟! وهل العقل يمكن أن يدلنا على أسماء الله الحسنى عن طريق الاستنباط؟! A لا، إنما يكون هذا بالتوقيف، بمعنى: أن الوحي الصادق هو الذي يخبرنا بما لا نراه من صفات الله عز وجل وأفعاله وأسمائه. فالله سبحانه وتعالى يعرف بالوحي، أما العقل فنحن نتفكر في آيات الله المخلوقة التي هي آياته التكوينية، والتي حثنا الله سبحانه وتعالى على التفكر والتأمل والتدبر فيها، بل أوجب علينا ذلك، كما بينا ذلك مراراً، فهناك آيات تكوينية مبثوثة في السماوات وفي الأرض وفي أنفسنا، وكل شيء تقع عليه عيناك فهو آية من آيات الله، حتى المعجزات الحسية التي أيد بها الأنبياء إنما سميت معجزات لأنها جاءت على خلاف العادة، والعادة في حد ذاتها إذا نظرت فيها وجدت أنها معجزة؛ لأنها تبين لنا قدرة الله تبارك وتعالى، فمثلاً: خروج الفرخ من البيضة معجزة، لكن لأنها هي الأصل صارت كالأمر العادي، لكن إذا خرق هذا الأصل وهو العادة فهذا هو الذي نسميه معجزة، وذلك من حيث دلالتها على أن الله سبحانه وتعالى يؤيد هذا النبي الذي أرسل. فكل ما تقع عينك عليه هو معجزة، قال عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، والتأمل في أي شيء يقودك إلى إن له صانعاً مدبراً، وبعض العلماء أجاد في هذا حينما ناظر بعض الملاحدة، حيث قال الملحد: ما هو الدليل على وجود الله؟ فقال له العالم: بل أنت ما هو الدليل على عدم وجود الله؟ فمن حاول أن ينكر وجود الله فإنه لا يستطيع؛ لأن ذلك شيء لا يطاق، فلذلك نحن نعتقد جزماً أن من يدعي أنه لا يقر بوجود الله فهو كاذب في دعواه، فلم يقص القرآن عن أمة واحدة من أمم الكفر أنها أنكرت وجود الله، وإنما كان النزاع في توحيد الإلوهية، أما إقرار وجود الله عز وجل فهذا لا يستطيع أحد أن ينكره. فهذا ما تيسر من كلام فيه توضيح معاني هذه الأسماء الأربعة الشريفة من أسماء الله الحسنى.

الحديد [4]

تفسير سورة الحديد [4]

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]. قيل: إن الأيام التي خلق الله سبحانه وتعالى فيها السماوات والأرض هي من الأيام الإلهية، يعني: أنها من الأيام المقصودة بقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] وهي أيام الآخرة. وقال بعض العلماء: اليوم هو من طلوع الشمس إلى غروبها، فإن لم يكن شمس فلا يوم. وذكر الله عز وجل الأيام لتفخيم خلق السماوات والأرض، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق كل هذا الوجود بكلمة (كن) فيكون في الحال، بلا أي تراخ زمني على الإطلاق، بل بمجرد أن يأمره الله سبحانه وتعالى أن يكون فإنه يكون. وقيل: إن هذه الأيام من أيام الدنيا، قال مجاهد وغيره: أولها الأحد وآخرها الجمعة، وذكر هذه المدة، ولو أراد خلقها في لحظة لفعل؛ إذ هو القادر على أن يقول لها: (كوني) فتكون، ولكنه أراد أن يعلم العباد الرفق والتثبت في الأمور. يعني أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه المدة التي هي ستة أيام خاصة، سواء قلنا: ستة أيام من أيام الآخرة كما في قوله سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، أو كانت ستة أيام من أيام الأسبوع مع قدرته على أن يخلقها بكلمة (كن) في الحال بلا أي تراخ، لكنه شاء أن يخلقها في ستة أيام. أي: لكي يتمهل الإنسان ويتثبت. وحكمة أخرى: أنه خلقها في ستة أيام؛ لأن كل شيء عنده له أجل، وكل شيء له موعد ومما يبين هذا ترك معاجلة العصاة بالعقاب. فبعض الناس قد يستغرب ويقول: هؤلاء الذين يعصون الله سبحانه وتعالى من الكفار أو من الفاسقين، لماذا لا يعاجلهم الله بالعقوبة؟ و A أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يهلك هذا الوجود في طرفة عين، وأن يوجد من هم أفضل منهم كالملائكة، لكن هذا يتنافى مع حكمة الابتلاء، إذ معنى ذلك أن ننتقل إلى دار الجزاء فوراً، والدنيا ليست هي دار جزاء، وإنما هي دار الابتلاء، فالحكمة من ذلك أن يدرك العباد أن لكل شيء أجله، حتى هؤلاء العصاة أو هؤلاء المحادون لله ورسوله لهم أجل في النهاية، فسوف يأتيهم عذاب الله سبحانه وتعالى، أو يأتيهم الموت، أو يأتيهم ما يشاء الله سبحانه وتعالى. وقد قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، أي: من تعب ولا نصب، وهذا رد لقول اليهود لعنهم الله الذين ادعوا أن الله عز وجل لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام تعب والعياذ بالله! فاستراح في اليوم السابع في زعمهم. ومن تأمل الآية وما بعدها، وهو قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] يجد أن فيها إشارة إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام أُمر أن يصبر على الكفار، وأن يوقن أن أجلهم آتٍ في الوقت الذي حدده الله سبحانه وتعالى، وفي الأجل الذي يشاؤه الله. فكونه أتبع قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] بقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39]، فيه إشارة لهذا الأجل، خاصة أن هذه الآية جاءت بعد قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ} [ق:36] وحينما أتاهم العذاب، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36]، أي: ما كان لهم محيص ولا مهرب، يعني: إذا أتى أجل الله فإنه لا يؤخر أبداً، كما قال تعالى: {إنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:4]، فأثبت أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم قال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] يعني: لا تجزع، فإذا كنا خلقنا السماوات والأرض في ستة أيام لحكمة أن تعلموا أن لكل شيء أجلاً، فكذلك هؤلاء الكافرون من قريش أو من غيرهم الذين كانوا يحاربون النبي عليه الصلاة والسلام ويؤذونه ويعذبون أصحابه ويصدون عن سبيل الله، الواجب أن تصبر على ما يقولون؛ لأن لكل شيء أجلاً، بدليل: أن الله مع قدرته على خلق السماوات والأرض في لحظة واحدة خلقها في ستة أيام حتى تعلموا أن لكل شيء أجلاً، ومن هذه الأشياء التي يكون لها أجل: تأجيل العصاة والكفار وأعداء الدين. قوله: ((ثم استوى على العرش)) قال ابن جرير: أي: هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا. وأما كيف استوى؟ فلا يقال لله سبحانه وتعالى: كيف! فهذه من آيات الصفات التي نطبق فيها ما قاله السلف رحمهم الله تعالى: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني: نحن نثبت صفة الاستواء، والاستواء هو العلو، أما كيف استوى فلا يمكن أن يعرف أحد كيف استوى الله على العرش، فالله سبحانه وتعالى لا يقال له: كيف؛ لأنك لا تكيف الشيء إلا إذا أحطت به. فمثلاً: إذا قلت: طائرة، دبابة، قلم، ولد، بنت، سحاب، فإن من يسمع منها كلمة يكيفها في عقله؛ لأنه رآها من قبل، لكن لو أن طفلاً حديث السن لم يعرف هذه المفردات وقلتها أمامه فهل سيفهمها؟ A لا؛ لأنه لم يرها، ولم يربط بين الاسم والمسمى، فالله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- لم يره أحد حتى يكيفه، كما قال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. فلذلك لا يقال في صفاته عز وجل وذاته: كيف؛ فلا يعلم كيف الله إلا الله، كما قال جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، وقال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، ولذلك يقول تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]، ويقول عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يعني: أننا نثبت له السمع والبصر، لكن هل سمعه كسمعنا؟! الجواب: لا، فسمعنا بآلة، لكن السمع في حق الله سبحانه وتعالى لا تعرف له كيفية. فقوله تعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، تفسيره قراءته وتلاوته كما جاء بلا كيف.

الفرق التي ضلت في صفات الله عز وجل

الفرق التي ضلت في صفات الله عز وجل وهنا يضل فريقان: الفريق الأول: المشبهة الذين يشبهون الله سبحانه وتعالى بخلقه، فيقولون: استوى كما تستوي المخلوقات على الكرسي. والعياذ بالله! وهذا ضلال مبين. والفريق الآخر: المعطلة الذين يعطلون الصفات، فيؤولونها أو يحرفونها، كما ذهب بعضهم إلى تأويل (استوى) بمعنى: استولى، وقال: إن قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، يعني: استولى على العرش. فنقول: إذا كان المعنى: استولى على العرش، فهل نازعه أحد فغلبه الله سبحانه وتعالى واستولى على العرش؟ معاذ الله! وعلى قولهم يصح أن يقال أيضاً: استوى على الجبال وعلى الكواكب وعلى الأرض بمعنى: أنه استولى عليها، أي: ملك وقهر، فلماذا خص العرش بالذكر؟! ويستدلون ببيت شاعر نصراني هو الأخطل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق فيقال لهم: كيف تصرفون ظاهر القرآن الكريم ببيت شعر لنصراني لا يعرف الله؟! وهذا البحث مهم جداً، ويعتبر من أمور العقيدة التي هي في غاية الأهمية، فقضية فوقية الله سبحانه وتعالى وعلوه على خلقه هي المسألة التي قال بعض العلماء فيها: قام عليها ألف دليل من القرآن والسنة وأقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم والأئمة من بعدهم. بل حتى الحيوانات والعجماوات، وأهل الجاهلية، فأهل الجاهلية عندهم أشعار تثبت الاستواء على العرش، فهذا الموضوع من الأمور المهمة جداً، ولا بد من أن يصحح كل عقيدته بأن يدرس هذه المسألة دراسة محققة. وأشهر رسالة ألفت في ذلك هي رسالة: الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكان في زمان لابد لأي سلفي أن يقرأ الفتوى الحموية، أما الآن فلا يكون الرجل سلفياً عند بعض الناس إلا إذا أقام الدنيا وأقعدها حول مسائل معدودة، وللأسف هذا هو فهم الكثير من الشباب الآن للسلفية، فيقيمون الدنيا في مسألة الضم بعد الركوع، وهل يشير بأصبعه في التشهد أم لا يشير؟ ونحو ذلك وكذلك مسألة هل تنزل على الركبة، أم تنزل على الكفين؟ ونحن نقول: مثل هذه المسائل تحقق بالأدلة، لكن بحيث لا تستحوذ على قدر من الاهتمام بحيث تكاد تظهر على أنها جواز المرور إلى السلفية، فقد ترى هؤلاء الشباب يخوضون في هذه المسائل وربما تباغضوا وتنافروا بسبب الخلاف فيها، مع أنهم يهملون كثيراً من أصول العقيدة، كهذه القضية. فأنصح الإخوة بدراسة الفتوى الحموية الكبرى، وأيضاً كتاب: مختصر العلو للحافظ الذهبي الذي اختصره العلامة الألباني رحمه الله تعالى.

ربط صفة الاستواء والمعية بالعلم

ربط صفة الاستواء والمعية بالعلم قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [الحديد:4] يدل على أن صفة الاستواء تربط بصفة العلم؛ حتى يندفع ما قد يتطرق إلى أذهان بعض الناس من أن الآيات تدل على معية الله سبحانه وتعالى بذاته لخلقه، خاصة المعية العامة فقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:2] يعني: أنه مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله، ولا يشبه بذلك شيئاً من المخلوقات ومع استوائه على العرش إلا أنه قريب من خلقه فهو معهم بالعلم والسمع والبصر. قوله: (وهو معكم أينما كنتم) ليس معناه أن الله معنا، بمعنى أنه يحل داخل مخلوقاته والعياذ بالله؟ فحاشا وكلا! ومعاذ الله! فالله سبحانه وتعالى -بإجماع السلف- بائن من خلقه لا يكون داخل المخلوقات، ولذلك أتبع ذكر الاستواء على العرش بقوله: ((يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ)) يعني: ما يدخل في الأرض من خلقه، والذي يلج داخل الأرض هو الأموات، والبذور، والحيوانات، ((وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا))، كالزروع، ((وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ))، كالأمطار والثلوج والبرد والأقدار والأحكام الإلهية، ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) أي: من الملائكة والأعمال وغيرها. وقد نبهنا مراراً إلى أن التعبير بالفضاء غير صحيح، فليس هناك فضاء، بل هو مليء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما في السماء موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك يسجد لله سبحانه وتعالى ويسبحه). ولكن نستعمل هذا التعبير تجوزاً، أعني: ما يسمى بالفضاء. ومن الحقائق العلمية المعروفة الآن أنه لا يوجد خط مستقيم في الفضاء، ولذلك تجد القرآن يستعمل في ذلك عبارة العروج؛ لأنه لا يوجد خط مستقيم، والدارسون في الهندسة يعرفون ذلك جيداً، فدائماً يعبر عن المشي في الفضاء أو السريان فيه بالعروج كما قال هنا: ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) أي: من الملائكة والأعمال وغيرها.

معنى معية الله لخلقه وأقسامها

معنى معية الله لخلقه وأقسامها قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: هو مستوٍ على العرش وهو معكم أينما كنتم، قال ابن جرير: أي: وهو شاهد عليكم أينما كنتم يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع. ونشير إشارة عابرة إلى موضوع المعية، فقد جاءت آيات في القرآن الكريم تدل على أن معية الله سبحانه وتعالى خاصة بالمتقين والمحسنين والمؤمنين، كقوله تبارك وتعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35]، وهذا خطاب للمؤمنين، فيفهم منه المعية للمؤمنين. وكذلك قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. وقال تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقال موسى عليه السلام: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]. وقال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]. وقال تعالى حاكياً عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. في حين جاءت آيات أخرى تدل على أن المعية عامة لكل المخلوقات، كقوله تبارك وتعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، وقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. وقال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]. وقال عز وجل: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61]. إذاً: هل الآيات التي دلت على أن المعية عامة لكل الناس وكل المخلوقين، تعارض الآيات التي دلت على معية خاصة بالأنبياء والصالحين؟ A لا تعارض؛ وبيان ذلك كما يأتي: أن المعية الخاصة من الله تكون بالنصر والتوفيق والإعانة، وهذه لخصوص المتقين المحسنين، ولذلك نلاحظ أن هذه المعية الخاصة أتت مع الأنبياء والصديقين {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. ومع الملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12]. ومع المؤمنين: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]، ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. هذه هي المعية الخاصة بالتوفيق والتسديد والنصر والإعانة. أما المعية العامة فهي المعية بالإحاطة والعلم؛ لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء، وهو محيط بكل شيء، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا، وله عز وجل المثل الأعلى، وهذه المعية عامة لكل الخلائق كما دلت عليه الآيات التي ذكرناها.

لا تعارض بين صفتي: الاستواء والمعية

لا تعارض بين صفتي: الاستواء والمعية يقول الله تبارك وتعالى: ((ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))، هذا يدل على أنه مستو على عرشه، عالٍ على جميع خلقه، وقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ))، يوهم خلاف ذلك. والجواب عن هذا: أنه تعالى مستو على العرش كما قال بلا كيف ولا تشبيه، استواءً لائقاً بكماله وجلاله، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام، ونفوذ القدرة؛ سبحانه وتعالى علواً كبيراً، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق. ألا ترى -ولله المثل الأعلى- أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل فحين يمسك حبة الخردل ويقبض عليها بيده، هل يكون الذي يحمل الحبة داخلاً فيها؟ لا يكون في داخلها، وليس داخلاً في شيء من أجزاء تلك الحبة، مع أنه محيط بجميع أجزائها، وأنه مع جميع أجزائها! وكذلك السماوات والأرض ومن فيهن، إن هي في إلا كحبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته، بل من حبل وريده مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.

كلام ابن القيم على صفة المعية

كلام ابن القيم على صفة المعية يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: أما احتجاجهم بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، إلى آخره، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. أيضاً بالنسبة لآيات الأسماء والصفات فإن ظاهرها هو الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، ولا نحتاج للتعطيل، لكن المؤولة وقعوا في خطأ: وهو أنهم بمجرد أن سمعوا آيات الصفات مثل آيات الاستواء على العرش، أول ما تبادر إلى ذهنهم أنه يشبه أفعال المخلوقين، فوقعوا في التشبيه، والتشبيه يؤدي إلى النفور، وبالتالي هربوا من التشبيه إلى التعطيل! فالمعطلة في البداية قالوا: إن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالمخلوقين، وأما أهل السنة فقالوا: إن ظاهر آيات الصفات هو ما يليق بالخالق، فيكفي أن نفوض علم الكيفية للخالق، فالله سبحانه وتعالى له صفات كمال وجمال وجلال، لا يشبهه فيها أحد على الإطلاق؛ لأنه ليس كمثله شيء، فنقول: نثبتها كما جاءت بلا كيفية. أما التأويل فهو فرع عن التكذيب، لأنك إذا أولت فإنك تكون قد ألغيت وعطلت صفة من صفات الله عز وجل. يقول ابن القيم: فإن قيل: كيف تصنعون بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]؟ A أن في الآية قولين: الأول: أن قربه بعلمه، ولهذا قرن علمه بوسوسة نفس الإنسان: (ونعلم ما توسوس به نفسه) يعني أقرب بعلمنا. القول الثاني: نحن أقرب إليه بملائكتنا. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأن في القرآن آيات كثيرة دلت على أن الملائكة يحضرون الإنسان عند الموت، مثل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50]، وكذلك قوله تبارك وتعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، يعني: ملائكتنا، والله سبحانه وتعالى قد قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، وهذا الرسول هو جبريل عليه السلام، فنسب القرآن إلى جبريل على أنه الذي قاله، مع أنه قاله على سبيل التبليغ، وقال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3]، والذي قصه مباشرة على النبي عليه السلام هو الملك جبريل تبليغاً عن الله، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، والذي قرأه جبريل تبليغاً، لكن الكلام من الله سبحانه وتعالى، فنسب إليه لأنه قرأه بأمر الله عز وجل. على كلٍ فإن موضوع الكلام في آيات الصفات موضوع مهم في الحقيقة، لكن نكتفي الآن بهذه الإشارة.

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على صفة المعية

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على صفة المعية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله. وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال ابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم. وهكذا عمن ذكر معه وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في الرد على الجهمية. يعني: فالسلف ما تكلموا في موضوع الصفات بالطريقة التي وجدت فيما بعد، لكن السبب والمسئول عن ذلك أهل البدع؛ لأنهم هم الذين أنشئوا الكلام ببدعهم، فاضطر العلماء للكتابة وللرد كما فعل الإمام أحمد، وكما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما من أئمة السلف، فإذا كنا نحن في واقع مثل واقع السلف فالأصل ألا نتكلم، لكن إذا كنا محاطين بالشبهات من كل جانب بمذهب الأشاعرة وتأويلاتهم، فنحن نضطر لأن نتعلم ما يدفع عنا شبهات أهل البدع. يقول: ولفظ المعية في كتاب الله جاء عاماً كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصاً كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء؛ لكان التعميم يناقض التخصيص. يعني: أن آيات المعية العامة تتعارض مع الآيات التي تفيد المعية الخاصة، وقد بين أن هذا التعارض إنما يكون إذا قيل إنها معية بالذات، وقد بين ذلك فقال: فإنه قد علم أن قوله: (لا تحزن إن الله معنا)، أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار. يعني: هل يفهم أحد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الغار: لا تحزن إن الله معنا، أن الله مع الرسول عليه السلام وأبي بكر وأبي جهل وكفار قريش ممن كانوا خارج الغار؟ لا. لأن هذه معية خاصة بالنبي عليه السلام وأبي بكر رضي الله تعالى عنه. يقول: كذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، لا شك أن هذه معية خصهم بها دون الظالمين والكفار. كما أن لفظ المعية لم يرد في لغة العرب ولا في شيء من القرآن ويراد به اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى. يعني أن بعض الناس يقول: إن المعية معناها أن الله موجود في كل مكان، وللأسف الشديد أنهم يقولون ذلك عن غفلة وجهل، وهذا انحراف في العقيدة، فإن الله سبحانه وتعالى بائن من خلقه، بل نحن ننكر على النصارى زعمهم أن الله سبحانه وتعالى حل في بدن المسيح أو أن الله حل في مريم، فكيف نقول إن الله يحل في كل الأماكن أو أن الله موجود في كل مكان؟ هذا من الجهل بالله سبحانه وتعالى، ونسبة ما لا يليق به إليه، لأن ذلك يقتضي أنه يوجد في أماكن النجاسات وفي غيرها من الأماكن التي لا تليق به، فالله سبحانه وتعالى بإجماع السلف بائن من خلقه، لا يحل في شيء من خلقه تبارك وتعالى. والمعية في لغة العرب وفي لغة القرآن لا يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، فحينما يقول الله سبحانه وتعالى مثلاً: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]، هل المعية تفيد اختلاط ذات النبي عليه السلام بذوات الصحابة؟ لا. بل كل واحد له ذاته! وقال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:146]، وقال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال: {وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال:75]، ومثل هذا كثير؛ فامتنع أن يكون قوله: (وهو معكم)، يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وأيضاً: فإنه افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم، فكون الله تعالى مع العباد لا يتنافى مع علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد.

كلام ابن قدامة على صفة المعية ورده على المؤولة

كلام ابن قدامة على صفة المعية ورده على المؤولة قال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتابه ذم التأويل: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً. وهذه شبهات يتواصى بها أهل البدع جيلاً بعد جيل، يقولون: أنتم تحاربون التأويل وأنتم تؤولون؛ كما قال: فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، أي: معكم بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما لزمنا. أي أن أهل البدع يقولون: أنتم تحرمون علينا التأويل وتحلونه لأنفسكم، أولتم هذه الآية؛ فيلزمكم ما يلزمنا؛ فكما أولتم فنحن أيضاً نؤول، وبدلاً من أن نقول: الرحمن على العرش استوى، نقول: الرحمن على العرش استولى، واليد هي القدرة؟ قال ابن قدامة: قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه اللفظات على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه حقيقة كان أو مجازاً، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية المجاز دون الحقيقة كاسم الراوية والظعينة، وغيرهما من الأسماء العرفية؛ فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلاً يحتاج إلى دليل. وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعي وحقيقة لغوية كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، ظاهرها هو العرف الشرعي دون الحقيقة اللغوية، فالعرف في الصلاة ليس الدعاء، إنما الصلاة أفعال مخصوصة بشروط مخصوصة، كذلك الزكاة ليس معناها الطهارة أو التنمية، وإنما هي بمعنى: إخراج قدر مخصوص من المال بشروط مخصوصة آخره، كذلك الصيام، فالعرف الشرعي إذاً يقدم على الحقيقة اللغوية. إذا تقرر هذا: فإن المتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيما أخبر عن نبيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، وقال لموسى: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده في حقهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له؛ فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه، فلم يكن تأويلاً. ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه. اهـ. وهنا أمر مهم جداً، وقد نبهت عليه مراراً، وهو أنه لابد أن تكون واثقاً من هذه العقيدة؛ لأنها عقيدة مسندة، ونحن دائماً نشجع الإخوة على أن يدرسوا العقيدة من الكتب المسندة، أي: الكتب التي جاءت بالأسانيد، فذكرت فيها الأحاديث النبوية من البخاري ومسلم والترمذي وغيرها، حتى إذا أتى مشغب يقول لك: أنت سني أو وهابي، ويزعم أن ابن تيمية هو الذي اخترع هذا المذهب السلفي في العقيدة، قلت له: لو افترضنا أن ابن تيمية لم يخلق وابن عبد الوهاب لم يخلق، هل كانت ستضيع العقيدة السلفية؟ لا. إن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما من الأئمة، هم عبارة عن مجددين، أعادوا لنا السنة، ونفضوا عنها الانحرافات والبدع والأكاذيب، وأحدهم لا ينشئ من عنده مذهباً! فحينما نرفع عقيرتنا بهذه العقيدة الحقة، عقيدة السلف، فهذا كلام مسند، ولذلك ينبغي أن يرتبط الشباب دائماً بكتب العقيدة المسندة ككتاب الإمام اللالكائي أصول الاعتقاد، وكتب السنة، وكلمة السنة معناها العقيدة والتوحيد، وهناك الكثير جداً من الكتب التي تحمل هذا الاسم مثل: السنة لـ ابن أبي عاصم وغيره؛ بمعنى العقيدة. فـ شيخ الإسلام لم يكن له فضل الإنشاء، وما أحدث ولا ابتدع؛ ولذلك تحدى مخالفيه وأعطاهم مهلة، فقال: ائتوني بكلمة واحدة تخالف ما أقوله، وكان حينها في المحنة بسبب الفتوى الحموية الكبرى، فتحدى جميع الأشاعرة، وقال: ائتوني بكلمة واحدة مما في عقيدتي تخالف ما كان عليه السلف، وأمهلهم مدة، ولكن ما استجاب أحد للتحدي. أقول: إن أعظم مديح مدحت به العقيدة السلفية هو ما أتى في صورة الذم من بعض الفقهاء المعاصرين المشهورين، وهو الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى وعفا عنه؛ لأنه كان مخالفاً للعقيدة السلفية، بل انتصر لعقيدة المعتزلة في موضوع خلق القرآن ضد الإمام أحمد، عفا الله عنه وسامحه، لكن نقول: رام نفعاً فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ففي كتابه عن تاريخ المذاهب الإسلامية، لما تكلم في تاريخ المذاهب السياسية والعقائدية، قال تحت عنوان السلفيين: (جاء هؤلاء السلفيون وأرادوا أن يعودوا بالعقيدة وفي فهم العقيدة إلى الكتاب والسنة ويتركوا كلام الفلاسفة وعلم الكلام، ويهجروا الأدلة العقلية، ويقتصروا في فهم العقيدة على الكتاب والسنة)، أقول: هذه أعظم عبارة قرأتها فيها مدح للعقيدة السلفية على يد من كان خصماً لها، سامحه الله وعفا عنه. الشاهد: أن هذا الكلام هو أقصى ما يأخذونه علينا، بل هذا أقصى ما نأخذه عليهم: أنهم يضعون بجانب القرآن والسنة بفهم السلف كلام أخراق المعتزلة والفلاسفة وأهل الكلام. ثم يقول ابن قدامة: لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت صوابهم ووجب اتباعهم هم الذين تأولوه، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: (وهو معكم)، أي: علمه. ثم قد ثبت في كتاب الله، والمتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف: أن الله تعالى في السماء على عرشه، وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها. وقولنا: إن الله في السماء، بمعنى: فوق السماء، وقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] أي: على ظهر الأرض، لا أن نسيح داخل الأرض ونخترقها، وقوله: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، أي: على ظهرها، وليس في داخل جذوع النخل، فـ (في) بمعنى: على وفوق، والسماء هنا المراد بها العلو. يقول: جاءت هذه اللفظة -لفظة المعية- مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فبدأت بالعلم وانتهت بالعلم مع المعية، إشارة إلى أن هذا العلم بالمعية. ثم سياقها لتخويفهم بعلم الله تعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، ويجازيهم عليه، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم. فقد اتفقت فيها هذه القرائن ودلالة الأخبار على معناها، وما قاله السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى. ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يخرج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى. ثم يقول الله تعالى: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، يعني: سيجازيكم عليه.

الحديد [7 - 15]

تفسير سورة الحديد [7 - 15]

تفسير قوله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله) قال الله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7]. قوله تعالى: ((آمنوا بالله ورسوله))، أي: آمنوا الإيمان اليقيني ليظهر أثره عليكم، والخطاب هنا للمؤمنين، وجاء أصرح من ذلك في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، فكيف يكونون مؤمنين ثم يخاطبون بالإيمان؟ قال بعض العلماء: إذا قلنا: إنه خطاب للمؤمنين؛ فيكون المراد الثبات على الإيمان إلى الوفاة. أو كما قال القاسمي رحمه الله تعالى يعني: آمنوا الإيمان اليقيني الكامل الذي يظهر أثره عليكم، فيسهل عليكم الإنفاق من مال الله الذي مولكم إياه. يعني: فالنفس لا تطاوع الإنسان على أن ينفق النفقة التي يبتغي بها وجه الله سبحانه إلا إذا كان مؤمناً بالله وموقناً بحسن عاقبته وثوابه وجزائه عند الله، فإنه يعرف أن هذا المال ليس غائباً وإنما هو المال الباقي، فما أنفقه الإنسان في سبيل الله هو الذي يبقى له، أما الذي يأكل به ويشرب فهذا هو الذي يضيع منه، يقول الله تعالى عنه: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فالإيمان هو الدافع، أو هو اليقين في ثواب الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يدفع الإنسان إلى النفقة. ومما يعظم أيضاً شأن النفقة هنا: أن الله سبحانه وتعالى قرن الأمر بالإيمان بالأمر بالإنفاق؛ فدل على فضل النفقة، وعظم موقعها عند الله تبارك وتعالى. ((مما جعلكم مستخلفين فيه))، أي: بتمكينكم وإقداركم على التصرف فيه بحكم الشرع؛ إذ الأموال كلها لله عز وجل، واختصاص نسبة التصرف إنما هو بحكمه في شريعته. وقال الشهاب: الخلافة إما عمن له التصرف الحقيقي، وهو الله سبحانه وتعالى. يعني: إما أن المعنى أننا مستخلفون عن المالك الحقيقي للمال، بل لكل ما في السماوات وما في الأرض، وهو الله سبحانه وتعالى. قال: عمن سبقكم الذين كان المال في أيديهم يتصرفون فيه، ثم آل إليكم بصورة أو بأخرى، إما بالميراث وإما بالهبة أو غيرها من طرق كسب المال المشروعة. فمعنى الخلافة في قوله تعالى: ((وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)): إما أنها عمن له التصرف الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى؛ وهذا يناسب قوله في أول السورة: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ} [الحديد:2]، فالخلافة عن الله الذي له التصرف الحقيقي والذي له ملك السماوات والأرض. أو يكون المراد: جعلكم مستخلفين عمن تصرف فيها قبلكم ممن كانت في أيديهم فانتقلت إليكم. وعلى كل ففيه حث على الإنفاق، وتسهيل لأمره؛ لأن طبيعة النفوس أنها تشح في النفقة، كما قال الله: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فالله سبحانه وتعالى يسهل على المؤمنين أمر الإنفاق وأمر الجود بهذا المال، فبين لهم أهمية الإنفاق فربطه بالإيمان: ((آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا))، ليس من مالكم ولكن من مال الله الذي آتاكم، كما قال في آية أخرى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]. وموضع العبرة هنا لتسهيل الإنفاق أن هذا المال كما لم يدم في أيدي من قبلكم فلن يدوم في أيديكم، فإما أن ينتقل عنكم وإما أن تنتقلوا عنه، وهنا مما يهون أن ينفق الإنسان المال. فمن الجهة الأولى إذا قلنا: إن الخلافة عن الله الذي له التصرف الحقيقي والذي له ملك السماوات والأرض، فهذا تسهيل للإنفاق؛ لأن الإنسان إذا أذن له في الإنفاق من ملك غيره، فلا شك أنه يسهل عليه أن يخرج؛ فلو وكلت من قبل شخص وكنت مسئولاً عن خزانة أمواله، فقال لك: أخرجها أنت فيما شئت، وقد أذنت لك بالتصرف فيها كما شئت، فلا شك أنه يسهل عليك الإعطاء حينئذٍ ويسهل عليك تكثير النفقة! وهذه من المعاني النفسية الدفينة في طبيعة الإنسان؛ فانظر كيف يهون الله سبحانه وتعالى على الإنسان الإنفاق! يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وعلى كل ففيه حث على الإنفاق وتهوين له، أما على الأول فظاهر؛ لأنه أذن له في الإنفاق من ملك غيره، ومثله يسهل إخراجه وتكثيره. وأما على الثاني فلأن هذا المعنى يذكر الإنسان أنه ما دام أن المال لم يبق لمن قبله فإنه لا يدوم له أيضاً، فيسهل عليه الإخراج. وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع

تفسير قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله)

تفسير قوله تعالى: (وما لكم لا تؤمنون بالله) قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد:8 - 9]. ((وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) أي: وما يصدكم عن الإيمان بالله وقد ظهرت دواعيه واتضحت سبله لذويه. ((وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ))، والرسول صلى الله عليه وسلم يدعوكم بطريق النظر والتفكر إلى الإيمان بالذي رباكم بنعمه، وصرفكم بآلائه؛ فوجب عليكم شكره. ((وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ)) بالإيمان إذ ركب فيكم العقول، ونصب الأدلة، ومكنكم من النظر بل أودع في فطركم ما يضطركم لذلك إذا نبهتم، وقد حصل ذلك بتنبيه الرسول؛ فما عليكم إلا أن تأخذوا سبيله فطرة الإيمان، وهي موجودة وكامنة في قلب كل إنسان، حتى إذا ما علتها الأغشية أو الصدأ فإن التنبيه من الرسول ودعوته إياكم من شأنها أن تنبهكم إلى هذا الرصيد الباقي في نفوسكم من فطرة الإيمان والتوحيد. ((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) يعني: إن بقي نور الفطرة والإيمان الأزلي فيكم، وإن بقي فيكم نور الفطرة الذي جبلكم الله عليه؛ فإن دعوة الرسول تأتي بنور على نور، نور الفطرة مع نور الوحي فينبهكم ويحثكم على الإيمان. ((هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، أي: حججاً واضحة وبراهين قاطعة. ((لِيُخْرِجَكُمْ)) أي: ليخرجكم الله، أو ليخرجكم عبده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله ((مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))، أي: من ظلمات الجهل والكفر والأهواء المتضادة إلى نور الهدى واليقين الذي تشعر به النفوس، وتطمئن به القلوب. ((وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))، أي: في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهدايتكم، إزاحة للعلل، وإزالة للشبه. ولما كان إنزال هذه السورة للأمر بالإنفاق في سبيل الله والترغيب فيه؛ أكثر الله سبحانه وتعالى من ذكره في ضروب من البيان وفنون من الأحكام، ولذلك قال الله تبارك وتعالى بعد أن أمرهم بالإيمان: ((وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول)) أي: وقد توافرت الدواعي التي تؤزكم أزاً على هذا الإيمان. وإن كان قد قال: ((وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه))، فقد قال أيضاً: ((وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي: يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال، وإذا كان كذلك فما أجدر أن ينفق المرء في حياته، ويتخذه له ذخراً يجده بعد مماته و: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فإذاً علام البخل ولله ميراث السموات والأرض، أي: يئول إليه كل ما في السماوات والأرض، فلماذا تضنون بما هو زائل عنكم لا محالة؟ يقول الشهاب رحمه الله تعالى: هذا من أبلغ ما يكون في الحث على الإنفاق؛ لأنه قرنه بالإيمان أولاً لما أمرهم به، ثم وبخهم على ترك الإيمان في قوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} مع سطوع براهينه، ووبخهم أيضاً على ترك الإنفاق في سبيل من أعطاه لهم ((وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) أي: لماذا لا تنفقون في سبيل الله المال الذي آتاكم الله إياه، فالله سبحانه هو الذي آتاكم هذا المال وأمركم بإنفاقه؟ فهذا توبيخ على ترك الإنفاق في سبيل الله الذي أعطاهم هذا المال مع أنهم على وشك الموت، وعدم بقائه لهم إن لم ينفقوا، كما يقول العامة: إن الأكفان لا جيوب لها، وإن أغنى أغنياء الأرض لن يدفن بأمواله وبذهبه؛ فلابد أن يترك المال أو يتركه المال. وقد يصيبه الفقر كما يحصل لكثير من الناس، فمالك هو ما أنفقت وما قدمته بين يديك، ومال وارثك هو ما خلفت، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه. وقوله: ((ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله)) عام يشمل كل خير يوصل الناس إلى الله سبحانه وتعالى، فهو أعم من الجهاد وغيره، وقصر بعضهم إياه على الجهاد؛ لأنه فرضه الأكمل، ولأنه النوع الأكمل الذي ينطبق عليه قوله: ((في سبيل الله)) من باب قصر العام على أهم أفراده وأشملها، فهو عام يراد به الخصوص؛ باعتبار أن هذا الخاص هو أهم أفراد هذا العام، لا سيما وسبب النزول كان للنفقة في سبيل الله في الجهاد. ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ))، والفتح يراد به فتح مكة أو صلح الحديبية، وهناك ارتباط وثيق بين فتح مكة وصلح الحديبية؛ لأن صلح الحديبية هو الفتح الأعظم، وهو الذي مهد لكل ما تلاه من فتوحات، كفتح خيبر وفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ لأن صلح الحديبية أوقف الصراع المسلح مع المشركين، ثم إن المشركين بدءوا يعملون عقولهم ويستمعون للأدلة ويقتنعون بالإسلام؛ فمن ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً ببركة هذا الفتح الأعظم. إذاً: الفتح المبين الذي ورد في أول سورة الفتح إنما هو فتح الحديبية، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فقوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))، يعني: أنفق وقاتل لتعلو كلمة الحق، وجاهد في سبيل الله بماله وبنفسه، فلا يستوي هؤلاء ومن أنفق من بعد وقاتل في حال قوة الإسلام وعزة أهله، فكانت شدة الحاجة إلى نصرة الدين والتضحية في سبيله في ذلك الوقت أعظم وأشد، بخلاف ما بعد الفتح من كثرة الناس الذين دخلوا في دين الله أفواجاً، فحذف الثاني لوضوح الدلالة عليه؛ فإن الاستواء لا يتم إلا بذكر شيئين. فنقول: لا يستوي من فعل كذا ومن فعل كذا، لكن حذف الثاني هنا لدلالة السياق عليه، أو لوضوح الدلالة عليه: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)) وتكون تقدير الكلام: لا يستوي هو ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، لكن حذف لوضوح الدلالة عليه؛ على أنه أشير إليه بقوله مستأنفاً عنهم زيادة للتنويه بهم: ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))، فبهذا يفهم المحذوف من سياق العبارة السابقة، وهي قوله تعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ))) أي: مع الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا. ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا))، أي: لعظم موقع نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس وإنفاق المال في تلك الحال، وفي المسلمين قلة وفي الكافرين شوكة وكثرة عدد؛ فكانت الحاجة إلى النصرة والمعاونة أشد بخلاف ما بعد الفتح؛ فإن الإسلام صار في ذلك الوقت قوياً والكفر ضعيفاً، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)، وهذا فيه نهي عن سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإيذان برعاية حرمتهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). وهذه الآية دالة على فضل من سبق إلى الإسلام وأنفق وجاهد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهنا مراعاة الأولية والأسبقية في الأعمال الصالحة، وفي بعض الأحاديث في مراعاة أولويات الإمامة في الصلاة، قال (فإن كانوا في السن سواءً فأقدمهم هجرة)، وهذه إشارة إلى نوع من السبق. وقال في الإكليل: في الآية دليل على أن للصحابة مراتب، وأن الفضل للسابق. فللصحابة مراتب، ولابد أن يشكل هذا جزءاً من اعتقادنا، ولذلك نجد مسألة الإيمان بفضل الصحابة ومراعاة حرمتهم وترتيبهم في الأفضلية مما ينص عليه في كل كتب العقيدة السلفية، وسبق أن نبهنا أن بعض كتب العقيدة كشرح الطحاوية لا تستوعب كل مسائل الإيمان والعقيدة، وإن كانت تستوعبها في الغالب وتركز على المسائل التي جرى فيها الخلاف بين أهل السنة ومن خالفهم من الفرق، ولذلك كل مسألة توضع للرد على فرقة انحرفت في هذا الباب بالذات، فمن ذلك نجد الكلام على مكانة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهذا أصل من أصول العقيدة السلفية؛ لأن الصحابة هم شهود الشرع، فإذا فتح باب الطعن في الشاهد؛ فإن ذلك يفتح باب الطعن في المشهود، وهو القرآن الكريم والسنة، لأن الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة، ففتح باب الطعن فيهم حيلة لإبطال دين الإسلام بالكلية، لأن هؤلاء إذا خانوا -كما يقول الشيعة لعنهم الله وقبحهم الله وكما يقول الخميني الهالك وغيره من أعداء الإسلام الذين يدعون الإسلام- فقد بطلت الشريعة. وقد كثر الكلام في الفترة الأخيرة على موضوع الصحابة، وخاصة أن بعض الأشرطة انتشرت لتتكلم عن ذلك بالتفصيل، فسبق أن نبهنا إلى أن عموم الناس بل خواصهم أيضاً ينبغي أن ينشغلوا بدراسة مناقب وفضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أما إثارة ما شجر بين الصحابة ابتداءً من غير داع يوجب ذلك، فهذا يخالف منهج السلف في أن واجبنا أن نمسك عما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لكن إذا وجد الإنسان قوماً يكثرون الطعن في الصحابة ويوردون الشبهات على بعض الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، أو وجد في بعض مناهج التعليم عدوان على بعض الصحابة؛ ففي هذه الحالة ينبغي الرد على هذه الشبهات. ومن الشبهات تفسير الحديث تفسيراً منحرفاً، أو فهم آية وتأويلها تأويلاً لا يتوافق مع عقيدتنا في الصحابة، أو التزوير الذي حصل في التاريخ؛ فحين يتصدى بعض الباحثين لمثل هذه القضية فليبحثها ضوء منهج أهل الحديث وليس منهج المؤرخين، ومنهج أهل الحديث يعنى بصحة السند والمتن وعقيدة السلف، وعندئذ فلا مانع من ذلك لمن تعرض لشيء من الشبهات. كذلك يوجد الآن كتاب قيم في هذا الباب،

الثمرات المستفادة من الآية

الثمرات المستفادة من الآية فهذه الآية تدل على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لهم مراتب، وأن ترتيبهم مبني على السبق، فالأسبق أفضل من الذي يأتي بعد ذلك، فالصحابة مراتب، والفضل للسابق إلى الإسلام. وأيضاً هذه الآية تدل على أدب مهم جداً، وهو تنزيل الناس منازلهم، وهذا وإن جاء فيه حديث ضعيف: (أنزلوا الناس منازلهم)، أو: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم)، إلا أن نفس معنى هذا الحديث ثابت كما في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85]، فيؤخذ من الآية معنىً عام: أن من استحق مرتبة معينة فلا ينبغي إنزاله عنها، بل ينزل كل إنسان المنزلة اللائقة به. وأيضاً الآية فيها دليل على أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب، فالإنسان ينبغي أن يتفنن حينما يريد أن ينفق أو يعمل عملاً في سبيل الله، مثلاً: إنسان يريد أن يخرج صدقة جارية، أو أن يعمل عملاً صالحاً، فعليه أن يبحث عن أنفع هذه الأعمال للمسلمين، وللدين، وللدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فيكون فقيهاً إذا أراد أن يتجر مع الله سبحانه وتعالى، وأن يستثمر نفقته في الأعمال الصالحة؛ فينبغي أن يبحث عن السنن الحسنة. والأحوال القلبية لها تأثير خطير جداً في هذا الباب، لحديث: (سبق درهم ألف درهم)، يعني: تصدق بدرهم والآخر تصدق بألف درهم، فارتفع صاحب الدرهم إلى مقام أعلى من الذي تصدق بألف درهم، بسبب الأحوال القلبية، فهذا الرجل الذي تصدق بدرهم ما كان يملك سوى درهمين، فتصدق بدرهم واستبقى لأهله درهماً، أما الآخر فكان رجلاً غنياً ثرياً أتى إلى زاوية وركن في الخزينة وأخذ منها مبلغاً قدره ألف درهم، وهذا شيء صغير في جانب الثروة الكبيرة، فلم يتصدق بنصف ماله، بل بجزء يسير منه، فهذا هو السبب. ثم يقول تعالى: ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) هنا جاء الاستئناف، حيث كانت الآية التي قبلها ((من قبل الفتح)) قبل: مضاف، والفتح: مضاف إليه، أما (من بعد) في الآية التالية فهي مبنية في محل نصب. قوله تعالى: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي بعد أن جاءت المفاضلة من الله سبحانه وتعالى بين الطرفين قال: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) أي: وكل واحد من الفريقين وعد الله الحسنى. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، أي: من النفقة في سبيله وجهاد أعدائه وغير ذلك، فيجازيكم على جميع ذلك. قال ابن كثير: أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق.

تفسير قوله تعالى (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات)

تفسير قوله تعالى (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات) قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:12 - 15]. المقصود بالنور هنا ما كان سبباً لنجاتهم؛ لأنه لو كان نوراً فهذا النور لم يختص بجهة اليمين والأمام دون الشمائل؛ لأن ضياء المؤمنين الذي يؤتونه في الآخرة يضيء لهم جميع ما حولهم، وفي تخصيص الخبر عن سعيه بين أيديهم وبأيمانهم، دون الشمائل ما يدل على أنه معني به غير الضياء وإن كانوا لا يخلون من الضياء؛ فتأويل الكلام إن كان الأمر على ما وصفنا: ((وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)) ((يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ))، يعني: يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير، ويعني بقوله: ((يسعى)) يمضي بين أيديهم ((وبأيمانهم)) أي: في أيمانهم. ((بشراكم اليوم جنات)) أي: يقول لهم ذلك من يتلقاهم من الملائكة، بقرينة آيات أخرى توضح أن الملائكة تتلقى المؤمنين يوم القيامة وتبشرهم بالجنة، وهذا كثير جداً في القرآن، أعني تقدير القول، والمعنى: تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: ((بشراكم)) -أي: المبشر به ((اليوم جنات))، وقد قيل: إن البشارة تكون بالأعيان فلا حاجة لتقديم مضاف تصحيحاً للحمل.

تفسير قوله تعالى: (انظرونا نقتبس من نوركم)

تفسير قوله تعالى: (انظرونا نقتبس من نوركم) ((يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)). أي: نُصِبْ من نوركم، يقال: اقتبس، إذا: أخذ قبساً وهو الشعلة، وقوله: ((انظرونا))، بمعنى: انظروا إلينا على الحذف والإيصال؛ لأنكم إذا نظرتم إلينا سوف نتمكن من أن نقتبس من نوركم ونصيب منه، والنظر بمعنى الرؤية يتعدى بإلى، فإن أريد التأمل تعدى بفي، وقولهم ذلك إنما هو حينما يساق المؤمنون إلى الجنة زمراً، والمنافقون في العرصات شاخصون إليهم، أو حينما يشرفون من الغرف على المنافقين وهم في ضوضائهم وجلبتهم في جهنم والعياذ بالله، كما قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، فإما أن يحصل هذا عند نهاية الموقف وحينما يساق المؤمنون زمراً: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73]، فحينئذ يقول المنافقون والمنافقات: ((انظرونا نقتبس من نوركم)) أي: انظروا إلينا لعلنا نقتبس شعلة من نوركم، أو أنهم يقولون ذلك حينما يراهم المؤمنون ويطلعون عليهم من غرف الجنة، فإن هذا من تمام نعيم أهل الجنة؛ لأنهم عانوا في الدنيا، وكان هؤلاء الناس يؤذونهم ويفتنونهم عن دينهم، وكانوا يغيظونهم ويسخرون منهم، فالجزاء أن الله سبحانه وتعالى يجعل العاقبة للمتقين ومن تمام نعيمهم في الجنة أنهم يتمكنون من رؤية أصحاب جهنم والعياذ بالله. وإذا استطاع الإنسان أن ينقل الصور عن طريق الأجهزة السمعية والبصرية والتلفزيون في الدنيا، أفلا يتمكن الخالق العظيم سبحانه وتعالى من هذا؟ إن الله على كل شيء قدير، فهم في الجنة ينظرون إلى أهل النار بل ويخاطبونهم، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]. تفسير آخر لقوله تعالى: ((انظرونا نقتبس من نوركم)): ((انظرونا))، بمعنى: انتظرونا، وهو الذي عول عليه ابن جرير، والمراد حينئذ من الانتظار للاقتباس هو رجاء شفاعتهم لهم أو دخولهم الجنة معهم طمعاً في غير مطمع، يقولون لهم ذلك حينما يسرع بهم إلى الجنة، فهؤلاء يقولون: انظرونا نقتبس من نوركم؛ لأن المنافقين يحاولون بكل وسيلة في الآخرة للنجاة، لكنهم يطمعون فيما لا مطمع فيه وفيما لا رجاء فيه، ولذلك يجتهدون حيلهم في التخلص مما هم فيه حتى بالقسم الكاذب، كما في سورة الأنعام: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فهم يقولون: إذا كان الحلف الكاذب قد ينجينا فلماذا لا نحاول؟ {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، وهذا فيه اتهام للملائكة بأنها كتبت عليهم أشياء ما عملوها وافتروا عليهم، فلذلك يستنطق الله سبحانه وتعالى جوارحهم ويجعل أنفسهم شهداء عليهم، كما جاء في الأحاديث والقرآن الكريم. إذاً: فهناك معنى آخر لقوله: (انظرونا) بمعنى انتظرونا نقتبس من نوركم.

معنى قوله: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا)

معنى قوله: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً) ((قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا))، القائل إما الملائكة أو المؤمنون. قال الزمخشري: فيه طرد لهم وتهكم بهم، أي: ارجعوا إلى موقف يوم القيامة، إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هناك، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان. وهذا تكليف لهم بالذي لا يكون، ففيه نوع من التهكم بهم، فرجوعهم إلى الدنيا غير مستطاع وهو من المحال. ((فالتمسوا نوراً)) أي: اعملوا أعمالاً صالحة حتى تكون عاقبتكم مثل عاقبة هؤلاء المؤمنين. ((ارجعوا وراءكم)) أي: للدنيا ((فالتمسوا نوراً)) هناك، فإن الدنيا للزرع والآخرة للحصاد، ولا يمكن أبداً رجوعهم، فالآخرة دار جزاء والدنيا دار العمل. قال الزمخشري: أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان، أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا فالتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم، وإنما هو تخييب وإقناط لهم. وكلامهم يدل على حمل النور على حقيقته، ولا مانع من أنه نور الإيمان والعمل الصالح، أي: ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا إيماناً وعملاً طيباً يهديكم في الآخرة، كما أن النور يهدي في الظلمات، والأمر هنا للتحسير والتنديم حتى يندموهم على ما كان منهم. ونقل الرازي عن أبي مسلم أن المراد بقوله تعالى: ((ارجعوا وراءكم)) منع المنافقين عن الاستضاءة فالمؤمنون لهم نور فيقترب منهم المنافقون أو يريدون أن يقتربوا حتى ينتفعوا بالنور، وربما انتفع الإنسان من ضوء مصباح غيره حينما يقترب منه. قال الرازي: فعلى هذا القول المقصود من قوله: ((ارجعوا)) أن يقطعوا بأنه لا سبيل لهم إلى وجدان هذا المطلوب ألبتة، لا أنه أمر لهم بالرجوع.

تمايز أهل الجنة وأهل النار وتحاورهم

تمايز أهل الجنة وأهل النار وتحاورهم ثم أشار تعالى إلى امتياز الفريقين في المنازل وتباينهما فيها بقوله سبحانه وتعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُور} أي: لما قال لهم: ((ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً)) أو قالت الملائكة ذلك فضرب بينهم بسور، أي: ضرب بين المؤمنين والمنافقين بحائط متين يحجبهم عن أنوار المؤمنين، ويمنعهم من أن ينتفعوا بالنور الذي يكون مع المؤمنين لتتم ظلمتهم؛ حتى يحجب عنهم النور تماماً، ((لَهُ بَابٌ)): جملة في محل جر صفة لسور، أي: لذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه، ويرى به المنافقون المؤمنين ليكلموهم، وعندما يدخل المؤمنون لا يستطيع المنافقون أن ينتفعوا بالنور، لكن وهم يمرون يستطيعون أن يحاوروهم من خلال هذا الباب كما سيأتي في المخاطبة والمحاورة بينهم: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد:14]. ((بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ)) يعني: الجانب الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وهو جانب الجنة وما فيها من رضوان الله والنعيم المقيم ((وَظَاهِرُهُ))، وهو الذي يلي المنافقين: ((مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ))، أي: من عندهم العذاب، ومن جهته الظلمة والنار. ((يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ))، يريدون أن يحتموا بلا إله إلا الله كما كانوا يحتمون بها في الدنيا، فقد كانت تحميهم في الدنيا بحيث تجري عليهم أحكام الإسلام حينما يأتون بالشرائع الظاهرة متسترين بمظاهر الإسلام، وأما في الحقيقة فهم كفار مكذبون. ((قَالُوا بَلَى))، رد عليهم المؤمنون بقولهم: بلى، وهذا الحوار كله حصل بعد السور، فمعناه أنهم ما زالوا يكلمونهم، ((وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ))، أي: شحنتموها بالنفاق، وأهلكتموها بأن وضعتموها في الفتنة والبلاء، ((وَتَرَبَّصْتُمْ))، أي: تربصتم بالمؤمنين الدوائر ليظهر الكفر فتظهرون ما في أنفسكم، وكنتم تتمنون أن يكون الخسران للمؤمنين، وأن ينتصر الكفار على المؤمنين. ((وَارْتَبْتُمْ)) أي: في توحيد الله ونبوة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو: ارتبتم بالبعث بعد الموت، أو: ارتبتم في قول الله سبحانه وتعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، ووعده بنصر المؤمنين أو بجميع ذلك من الأشياء المذكورة، سواء التوحيد أو النبوة أو البعث أو وعد الله بنصر دينه على الدين كله. ((وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ))، أي: طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار، أو قولهم: {سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169]. ((حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ))، يعني: الموت أو: حتى جاء مصداق وعده بنصره للنبي صلى الله عليه وسلم وإظهار دينه، أو: حتى جاء أمر الله بعذاب النار. ((وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ))، أي: الشيطان الذي مناكم بالفوز والغلبة. ((فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا))، هذا من تتمة قول المؤمنين للمنافقين بعد أن ميز بينهم، أي: ذلك اليوم لا يقبل منكم ما يفتدى به بدلاً من عذابكم وعوضاً من عقابكم. ((وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) الذين جهروا بالكفر من المحادين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ((مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ))، أي: هي أولى بكم، أو: تتولاكم كما توليتم موجباتها في الدنيا. ((وَبِئْسَ الْمَصِيرُ))، أي: النار.

الحديد [18 - 24]

تفسير سورة الحديد [18 - 24]

تفسير قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات)

تفسير قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:18 - 19]، أي: لهم ذلك لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه، وشهادتهم بحقية جميع ذلك، فكأن الإشارة هنا إلى نوع واحد، فتكون الواو هنا واو العطف، فكأنه إخبار عن الذين آمنوا أنهم هم أنفسهم صديقون وهم أيضاً الشهداء. يعني: أن المؤمنين يجمعون بين أمرين. وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ))، هم صديقون؛ لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه. ((وَالشُّهَدَاءُ))، وأيضاً هم أنفسهم الشهداء؛ لشهادتهم بأحقية جميع ذلك، يعني: أحقية أخبار الله وأحكامه. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وقد جوز في الشهداء وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على ما قبله، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر؛ لأن الأصل الوصل لا التفكيك. فالأصل في الكلام أنه معطوف ومرتبط ببعضه؛ لأننا إذا قلنا بالقول الثاني -كما سيأتي- فيقتضي ذلك تفكيك الكلام، وهذا خلاف الأصل. إذاً: الوجه الأول في الشهداء: أن يكون معطوفاً على ما قبله، أي: أنه أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر؛ لأن الأصل الوصل لا التفكيك. الوجه الثاني: أن يكون قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ)) مبتدأً، وخبره ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ)). والشهداء حينئذ هم الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ، أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم؛ لأن الشهداء لهم وظيفة ثانية، أو أن الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل. واختار الوجه الثاني ابن جرير رحمه الله تعالى. قال ابن جرير: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد لا بمعنىً غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجهاً وإن كان فيه بعض البعد. يعني: أن ابن جرير يرى أن الراجح أن يكون قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ)) مبتدأً، ولا تكون الواو واو عطف. قال: لأن الوصف بمجرد الإيمان لا يستلزم وصف الشهادة، يعني: ليس كل من استحق اسم الإيمان يستحق أن يوصف بأنه شهيد، إلا أن يكون شهيداً على ما آمن به وصدقه، فقوله: ((وَالشُّهَدَاءُ))، يعني: على أن ما آمنوا به هو حق من عند الله تبارك وتعالى، وهذا احتمال، لكن فيه بعض البعد على قول الإمام ابن جرير؛ لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصف، كقوله: {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فهنا أطلق الشهداء بدون وصف. فتأويل قوله: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ))، أي: والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، لهم ثواب الله في الآخرة.

كلام ابن القيم على آية: (والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون)

كلام ابن القيم على آية: (والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون) يقول القاسمي: ثم رأيت لـ ابن القيم في طريق الهجرتين نصاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية، حيث قال رحمه الله في: مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم: المرتبة الرابعة: ورثة الرسل وخلفائهم من أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة. ولهذا قرنهم الله سبحانه وتعالى في كتابه بالأنبياء فقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة، وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته. بمعنى: أن العلماء الربانيين العاملين الذين يتصفون بمرتبة الصديقية هم الذين يخلفون الرسول في إقامة الحجة وتبليغ الدين إلى أمتهم. فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه، وهم الذين لا يزالون على الحق، ولا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وقوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19]. يقول ابن القيم: الوقف على قوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ))، ثم يبتدأ: ((وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ))، فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل؛ لأنهم إذا آمنوا بالله ورسله الإيمان التام الكامل فإن هذا يستلزم أنهم عالمون عاملون داعون إلى الله سبحانه وتعالى، والإيمان التام يستلزم العلم والإيمان والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه. وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء؛ ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين. يعني: أنه هنا في سورة الحديد وفي سورة النساء قدم الصديقين على الشهداء. وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صعد جبل أحد، وكان معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فتزلزل الجبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيد)، ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله تعالى عنه، لكن الواقع أن أفضل وصف وأفضل مرتبة بعد مرتبة النبوة مباشرة هي مرتبة الصديقية، وأفضل الصديقين على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أي: أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، وعلى هذا: فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا وشهداء على الناس يوم القيامة، فهو إخبار عن الذين آمنوا بالله ورسله بأنهم في الدنيا هم الصديقون، وفي الآخرة هم الشهداء عند ربهم، يعني: أنهم في الآخرة سيكونون شهداء على أن الرسل بلغوا أممهم، فيكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين. وقيل: (والشهداء): هم الذين قتلوا في سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله تعالى: ((وَالشُّهَدَاءُ))، مبتدأً خبره ما بعده؛ لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله، ويرجحه أيضاً: أنه لو كان (الشهداء) داخلاً في جملة الخبر لكان قوله: ((لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ))، داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنهم -أي: المؤمنون- هم الصديقون. الثاني: أنهم هم الشهداء. والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم، وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مدرجاً بدون عطف. وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال، كذلك قال هنا: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ)) كقولك: زيد كريم وعالم، ثم قال: ((عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)). فهنا عطف الثانية على الأولى، وأتى بالثالثة بدون عطف. يقول ابن القيم: والأحسن في هذا تناسب الأخبار؛ بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً، فتأمله. فيستبعد ابن القيم رحمه الله تعالى احتمال العطف هنا؛ لأنه لو كان بالعطف سيبقى مثل قولنا: زيد كريم وعالم له مال، والأنسب أن تقول: زيد كريم عالم له مال، أو تقول: زيد كريم وعالم وله مال. أما ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف فإنه يكون قولاً مرجوحاً بالنسبة لما ذكرناه. يقول ابن القيم: ويرجحه أيضاً: أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون والشهداء والصالحون. وهذا الكلام من هذا الإمام من الدقائق الرائعة الرائقة النفيسة. يعني: أنه يذكر هنا مرجحات كون كل جملة مستقلة، وأنه لا عطف. وإذا قلنا: إن قوله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ)) [الحديد: 19]، يصبح هنا الكلام انتهى عن الصنف الأول من أصناف السعداء، وهم الأنبياء، ثم تكلم على الصنف الثاني من أصناف السعداء، وهم الصديقون؛ لأن الصنف الأول هم الأنبياء، وقد ذكروا في نفس السورة في موضع آخر. فذكر من أصناف السعداء الصديقين، ثم عطف عليهم نوعاً آخر مغايراً؛ لأن الواو تقتضي المغايرة. ويرجح احتمال عدم العطف: أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً. ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25]، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء؛ ففي سورة النساء قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69].

أصناف الناس وموقف الخوارج والمعتزلة من عصاة الموحدين

أصناف الناس وموقف الخوارج والمعتزلة من عصاة الموحدين يقول ابن القيم: ثم ذكر تعالى الأشقياء، وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا))، هؤلاء هم الكفار. وقد ذكر المنافقين في قوله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [الحديد:13]، فهؤلاء هم أصناف العالم كلهم. يقول: وترك سبحانه ذكر المخلط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء دون المخلطين غالباً؛ لسر اقتضته حكمته تبارك وتعالى، فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله. وإذا تأملنا القرآن نجد أنه دائماً يذكر السعداء والأشقياء، والمؤمنين والكفار، والمؤمنين والمنافقين، وهكذا. أما المخلطون فإن القرآن الكريم يترك ذكرهم غالباً، كما يقول ابن القيم: لسر اقتضته حكمة الله تبارك وتعالى، وهذا السر يحاول أن يبينه بقوله: فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله. بخلاف المؤمن، والصديق، والشهيد، والصالح، أي: الذي لا يخلط، فالنصوص واضحة تماماً في أن له ضماناً عند الله سبحانه وتعالى بأنه يثيبه على ذلك. يقول: فليحذر صاحب التخليط؛ فإنه لا ضمان له على الله، ولا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله؛ فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد؛ كل منهما يدعوه إلى موجبه؛ لأنه أتى بسببه. أي: أنه أتى بموجب الوعد؛ لأنه وحد الله سبحانه وتعالى، وأتى بموجب الوعيد؛ لأنه عصى الله، فهو بين الوعد والوعيد لا ضمان له في أي الفريقين يلحق. وهذا هو الذي لحظه المعتزلة القائلون بالمنزلة بين المنزلتين. فالمعتزلة قالوا: إن الفاسق الملي -يعني: العاصي- في منزلة بين المنزلتين. وهم خالفوا الخوارج، فالخوارج قالوا: إن العاصي كافر. والفرق بينهم أن المعتزلة يقولون: نحن لا نقول: مؤمن ولا كافر، لكنه في منزلة بين المنزلتين. لكن في الآخرة كلاهما متفق على الاعتقاد بأنه يخلد ولا يكون إلا في جهنم مع الكفار. ونفس الفكرة كان يقول بها جماعة التوقف، فعندهم أن الإنسان مسلم مؤمن، أو كافر، أو متوقف فيه، فهم أعادوا من جديد صيحة: المنزلة بين المنزلتين، إلا أن ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: إن كلمة: المنزلة بين المنزلتين يمكن أن نستعملها في حق المخلط الذي يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لكنهم غلطوا في تخليده في النار. ولو نزلوه منزلة بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا. قال القاسمي: انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير رحمه الله تعالى في الآية. يعني: أنهم نزلوه في منزلة بين المنزلتين، كما عبر عنها علماء العقيدة كالإمام الطحاوي في قوله: إننا نرجو للمحسن من المؤمنين، ونخاف على المسيء، ولا نقطع لمسلم بجنة ولا نقطع لمسيء بالنار. فهذا معنى المنزلة بين المنزلتين فيما يتعلق بالآخرة، أما في دار الدنيا: فما دام يؤمن بالإسلام فله أحكام الإسلام الظاهرة، كما بينا ذلك. ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم بقوله: ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)).

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر)

تفسير قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر) قال الله عز وجل: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]. قوله: ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ))، يعني: تفريح، ((وَلَهْوٌ)) يعني: باطل. ((وَزِينَةٌ)) أي: منظر حسن. ((وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ)) أي: في الحسب والنسب. ((وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ))، أي: كمثل مطر. ((أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ))، يعني بالكفار هنا الزراع؛ لأنهم يكفرون البذر والحب داخل أرضه، والكفر بمعنى الستر والتغطية كما في قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، يعني: يعجب الزراع أن الزرع نما، فيغيظ الكفار أن الجذور ما نمت، فكذلك قوله هنا: ((كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ))، أي: الزراع، يعني: أن الزارع يزرع الحب، فإذا رأى نباتاً مزدهراً مثمراً لا شك أنه يعجبه، كما قال سبحانه: ((أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ))، أي: أن هذا الزرع يهيج، يعني: يجف بعد خضرته ونضرته. وقوله: ((فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا))، أي: من اليبس، ((ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا))، أي: هشيماً متكسراً، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات. وقوله: ((وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ))، أي: لمن ترك طاعة الله، ومنع حق الله. وقوله: ((وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ))، أي: في الآخرة لمن أطاع الله، وأدى حق الله من ماله. وقوله: ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))، قال المهايمي: يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين، ولهوها بملاذ الجنة، وزينتها بزينة الجنة، والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب منه، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها)

تفسير قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها) قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية وصورها في صورة الحقراء السريعة الانقباض دعا إلى الحياة الباقية، فقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، أي: بادروا بالتوبة من ذنوبكم إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم. والعلماء يقولون: إن تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه، فالتوبة تجب على الإنسان في كل لحظة، وفي كل نفس، بل الإنسان مطالب بها في الحال، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة كلها تحث على المسارعة والمبادرة والمسابقة إلى التوبة، فقال هنا: ((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ))، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وقال تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]. إذاً: لا ينبغي تأخير وتسويف التوبة، كقول الإنسان: سوف أتوب، وسوف أصلي، ومن أول يوم السبت سأفعل كذا، أو يقول: سوف أعتمر عمرة أو أحج ومن بعدها سأستقيم، أو نحو ذلك. فينبغي أن يشاع بين الناس هذا المعنى، وهو أن تأخير التوبة في حد ذاته ذنب جديد، يجب التوبة منه على الفور، وهذه هي عبارة الإمام ابن القيم في مدارج السالكين في الجزء الأول حينما فصل في أحكام التوبة حيث قال: تأخير التوبة أو تسويف التوبة ذنب يجب التوبة منه. وقوله: ((أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) يعني: الإيمان اليقيني، ((ذَلِكَ)) يعني: المغفرة والجنة، ((فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)) أي: ممن كان أهلاً له. ((وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) أي: بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النعم، وعرفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة ما وصف أنه أعده لهم. ((ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)).

تفسير قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم)

تفسير قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم) قال تبارك وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ))، أي: من قحط وجدب وبلاء وغلاء ومرض ونحو ذلك. ((وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) من خوف ومرض وموت أهل أو ولد أو ذهاب مال. وقوله: ((إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، يعني: إلا في علم أزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس، وما علم الله كونه فلابد من حصوله، وبلا شك أن هذا من أعظم ما يفرق بين المؤمن وغيره، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فالمؤمن عنده ثبات عند البلاء واحتساب عند المصيبة، وهذا من آثار الإيمان بالقدر السابق، كما قال تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، ولذلك طالما يتعزى العلماء والصالحون في بلائهم بهذا الأمر، ومن ذلك أن أحد العلماء سلخه العبيديون الفاطميون لما أبى أن يفتي بالفطر من رضمان اعتماداً على الحساب الفلكي كما هو العيد؛ لأنهم كانوا يعتدون للعيد بالحساب الفلكي، وليس برؤية الهلال، وهذا هو مذهب الباطنية الملاحدة، فقال: لا أتحمل وزر تفطير الناس؛ لأنه لم تظهر الرؤية الشرعية، وإنما أنتم تعتمدون على الحساب، فألح عليه الفاطمية بأن يفعل ذلك فأبى، فأتوا برجل يهودي يسلخ جلده وهو حي، فسلخ كل بشرة رأسه، حتى إذا وصل إلى قلبه رق له اليهودي وهو يسلخ جلده، وجعل العالم يقول: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58]، ويردد هذه الآية، يعزي نفسه بأن هذا قدر سابق ولا يمكن أن يحصل شيء مخالف لما سبقت به المقادير، وهذا من أعظم ما يصبّر المؤمن عند البلاء؛ لذلك تجد المؤمن يتميز تماماً عن الكافر في هذا. وحكي أن أحد الإخوة الملتزمين كان في حادث اختطاف الطائرة الجابرية التي حصلت في الكويت منذ سنوات طويلة، فكان هذا الرجل في الطائرة وقد اختطفت، والذين فيها مهددون بالقتل كلهم، فكان إلى جواره رجل أمريكي ساحر، والناس كانوا في حالة فزع شديد؛ لأنهم يخافون أن يقتلوا ويؤخذوا رهائن، فينتهي بهم الأمر إلى تفجير الطائرة، فكان الأخ في غاية الثبات، وكأنما يستغيث بالله، ويدعو الله سبحانه وتعالى، ويذكر الله، وظهر عليه الرضا بما يقدره الله، وكان الناس في حالة فزع وهلع وصراخ فتعجب الأمريكي جداً، ولفت نظره حال هذا الأخ، فلم يطق أن يسكت، فقال للأخ: ما بالك لا تخف كما يفعل الناس؟ وما بالي أراك ساكناً ثابتاً مستقراً هادئاً، تذكر الله سبحانه وتعالى؟ فقال له: أنا مسلم، وأنا أؤمن بأن كل شيء يجري بقدر الله عز وجل؛ ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، فأنا راضٍ بقدر الله، ومستعد للقاء الله، فالرجل قال له: إذاً: هذا الإسلام الذي يجعلكم تثبتون عند المحن، ولا شك أنه يكون دين الحق، ثم قال له: نحن لو خرجنا من الطائرة ونجونا فسوف أدخل في الإسلام، لكن للأسف الشديد أن في هذه الحادثة قتل أمريكي واحد كان هو هذا الرجل. الشاهد: أن هذا يلاحظ جداً في المؤمن، وهذا مما يميز به بين المؤمن بالقضاء والقدر وبين غير المؤمن بذلك، وهذه إحدى ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر: أنك تتعزى بأنه مهما كانت هذه المصيبة التي حصلت بك فقد سبق بها القضاء والقدر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف). فهذه إحدى ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي ثمرة الثبات عند الابتلاء، فالإنسان لابد أن يراقب هذا، وإذا صادفت شخصاً مبتلىً فتأكد تماماً أن هذا المبتلى حتى لو كان حافظ القرآن كله فإنه يحتاج إلى التذكير، فاذكر هذه الآيات عليه، كقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] وقوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، إذ لا يستطيع أحد أن يمحو شيئاً مما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ولا يمكن أن يحصل هذا كما في الحديث: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)، فلا يمكن أن يغير فيها شيء. وقوله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)) (مصيبة) هنا نكرة في سياق النفي، فظاهرها العموم. ((إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))، يعني: في علمه الأزلي من قبل خلق المصيبة أو الأنفس، وما علم الله كونه فلابد من حصوله، ((إنَّ ذَلِكَ))، أي: حفظه وتقديره على الأنفس، ((عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ))؛ لسعة علمه وإحاطته، فلا يقع الأمر إلا موافقاً لما سبق في علم الله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم)

تفسير قوله تعالى: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) يقول تبارك وتعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]. ((لِكَيْلا تَأْسَوْا))، يعني: كي لا تحزنوا. ((عَلَى مَا فَاتَكُمْ))، أي من عافية ورزق ونحوهما، فأي شيء يترتب على أنه فاتك شيء من الأرزاق أو الفسحة ونحو ذلك؟ فالإنسان لا يشتغل بالتحسر على هذا الفائت؛ لأن التحسر لن يعيده. ((وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))، أي: لا تتبختروا بما آتاكم من نعم الدنيا، والمعنى: أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير، ولا تبديل ولا تغيير، فلا الحزن يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه. قال القاسمي: أي: لتعلموا علماً يقينياً أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم مدخل ولا تأثير، ولا لعجزكم وإيمانكم وغفلتكم وقلة حيلتكم وعدم احترازكم فيما فاتكم مدخل، فلا تحزنوا على فوات خير ونزول شر، ولا تفرحوا بوصول خير وزوال شر؛ إذ كلها مقدرة. والاحتجاج بالقدر لا يكون إلا في المصائب، فلا تقل: (قدر الله وما شاء فعل) إلا في المصائب التي لا يد منها، كما إذا ابتليت ببلاء أو بمرض أو بفقر، فإن كان هناك مصيبة قدرها الله عليك وامتحنك بها فلك أن تتعزى بالقدر، وتقول: هذا سبق في علم الله، وهذا قضاء سابق من الله سبحانه وتعالى. أما في المعاصي فلا تقل: (قدر الله وما شاء فعل) إلا إذا علمت أن الله قد عفا عنك، وهذا لا يعلمه أحد إلا آدم، فآدم عليه السلام هو الذي عرف أن الله تاب عليه، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، فموضوع خطيئة آدم انتهى، إذ قد تاب الله سبحانه وتعالى عليه، أما من عداه فإنه لا يدري ما الله صانع به، فالإنسان في المعاصي يظل على وجل وخوف واستغفار وطلب العفو من الله سبحانه وتعالى إلى أن يموت. ففي المصائب لك أن تحتج بالقدر، لكن لا تحتج بالقدر في المعائب وفي الذنوب وفي التقصير، بل عليك أن تعاتب نفسك وتظل وجلاً خائفاً من مصيرك عند الله بسبب هذا الذنب. وقوله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ))، أي: كل متبختر من شدة الفرح بما آتاه. وقوله: ((فَخُورٍ))، أي: فخور على الناس بالنعمة التي أعطاه الله إياها؛ لعدم يقينه، ولبعده عن الحق بحب الدنيا واحتجابه بالظلمات عن النور.

تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل)

تفسير قوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) قال تعالى: ((الَّذِينَ يَبْخَلُونَ))، يعني: بالإنفاق في سبيل الله؛ لشدة محبة المال. ((وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ))، يعني: لاستيلاء الرذيلة عليهم. والمقصود: أن لهم وعيداً شديداً؛ لأنهم هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل. ((وَمَنْ يَتَوَلَّ))، أي: يعرض عن ذكر الله وما أمر، ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ)) أي: غني عنهم؛ لاستغنائه بذاته. ((الْحَمِيدُ)) لاستقلاله بكماله. وفي هذا تهديد وإشعار بأن الأمر في الإنفاق هو لمصلحة المنفق، لا لما يعود عليه تعالى، فإنه سبحانه الغني المطلق. فقوله تبارك وتعالى: ((الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ))، يعني: عن النفقة في سبيل الله، ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))، يعني: ومن أقبل فإنه إنما ينفع نفسه، ولن يضر الله شيئاً؛ لأن الله غني عنه، ولا يحتاج منه شيئاً.

الحديد [25 - 29]

تفسير سورة الحديد [25 - 29]

تفسير قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات)

تفسير قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) يقول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد:25]، أي: بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه، فإن الرسل تأتي مؤيدة بالمعجزات والبينات والحجج على صدقهم في دعواهم الرسالة. ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ))، أي: التام في الحكم والأحكام. ((وَالْمِيزَانَ))، أي: العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة. ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))، أي: بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، فالتنزيل عبارة عن خبر وحكم، أما أخباره فكلها صدق، وأما أحكامه فكلها عدل. فقوله تعالى: ((لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))، إشارة إلى أن الحق والعدل لا يمكن أن يكونا فيما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما زين شياطين الإنس دعاواهم بافتراءاتهم الظالمة فيما يوشوش به بعض الشياطين مما يسمونه بحقوق الإنسان أحياناً، ويحاولون إظهار الإسلام كأنه عدو لحقوق الإنسان، وأن العقوبات الشرعية عقوبات وحشية وصارمة إلى آخر هذا الإلحاد! وهذا كفر، ولا يصدر إلا ممن لا يؤمن بمثل هذا الوصف لكتاب الله تبارك وتعالى. والناس لا يمكن أن يقوموا بالقسط ولا يمكن أن يتحقق بينهم العدل إلا بتطبيق شرع الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال تعالى بعدما ذكر الحدود الشرعية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45]، لأن هذا هو الحد، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، ففي هذه بالذات وصفهم بالظلم؛ لأن هذا مما يخالف العدل، فالحدود هي العدل، والقصاص فيه المعاملة بالمثل، فمن اعتدى على أرواح الناس وقتل يقتل، ومن قطع أذن غيره تقطع أذنه، فليس لهذا حرمة أعظم من حرمة ذاك، فهذا مقتضى العدل بين الناس؛ فلذلك نقول قطعاً وجزماً: إن كل من يحكم بخلاف شرع الله فهو ظالم مهما وسوس له إخوانه من شياطين الإنس أو الجن بأن هذا هو العدل. ونقول: كل العدل في كتاب الله تبارك وتعالى. ويقول تعالى: ((وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ))، يعني: أن هذا الحديد هو الآلة المهمة والأساسية في صناعة أدوات القتال، سواء في القديم أو في الحديث، فقوله: ((فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ))، يعني: القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه. ((وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ))، أي: في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها. فإن قيل: هذه الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة؛ ولكن أين هي المناسبة بين قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}؟ ف A أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا حتى تنال السعادة في الأخرى، فمن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، وكذلك من أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، ومن تمرد وطغى ضرب بالحديد الراد لكل مريد. فقول الله تبارك وتعالى هنا أولاً: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ))، مع ذكر الحديد فيه إشارة إلى أن العدل في الناس يقوم بأمرين: بالقرآن وبالسلطان، فالناس يدعون بالحجة والبيان، فمن أبى فبالسيف والسنان. هذا هو المعنى المأخوذ من هذه الآية الكريمة.

العقوبة على المعاصي بالغفلة

العقوبة على المعاصي بالغفلة فالإنسان لا يمكن أبداً أن يجد السعادة في غير شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يوجد إنسان على وجه الأرض ينحرف عما أنزل الله على رسوله عليه الصلاة والسلام من البينات والهدى ويعيش سعيداً بل يحرم من السعادة، ويقاسي التعاسة بقدر بعده عن دين الله. وحالة الغفلة هي أشد ما يعاقب الله سبحانه وتعالى به عبداً من العبيد، حيث إنه يعاقب وهو لا يحس بأنه يعاقب؛ لأن العقوبات الشرعية كثيرة، فهناك عقوبات كونية قدرية كالزلازل والخسف والأمراض والأوبئة ونحو ذلك. وهناك عقوبات شرعية كقطع اليد والرجم والجلد ونحو ذلك. ويوجد نوع آخر من العقوبات وهو تسليط الغفلة على الخلق، ودليله قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، هنا نسي بمعنى ترك. وقال سبحانه: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]. وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، وهذه هي أشد أنواع العقوبات؛ لأن الإنسان يُستدرج حينما يفتح الله عليه، فكلما زاد كفراً وعتواً زاده الله من النعم فتنة له واستدراجاً، كما قال تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44]، فالله سبحانه وتعالى يمهل ويملي للظالم، وكلما تمادى في المعاصي وفي الكفر وفي البعد عن الله زاد ما يستحقه من العذاب، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]. وقال تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]، فهي أشد أنواع العقوبات؛ لأن مثل هذا لا يرجى له توبة إن لم يوفقه الله؛ لأنه يرى عمله صواباً، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]. فليحذر الإنسان من هذه العقوبة، فأشد أنواع العقوبة أن يفقد الإنسان الإحساس بأنه معاقب، وهذا بخلاف الشخص الذي يشعر ويقول: إن الله ابتلاني بالذنب الذي فعلته، وامتحنني بالمرض بسبب المعاصي، فهذا الشخص كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن)، بمعنى: أن مثل هذا الإنسان لا زال فيه روح وإحساس، ومعناه أنه قد يستدرك ويفتح صفحة جديدة ويتوب، لكن الميت إذا وخزته وقطعته بالسيف فإنه لا يتألم؛ فما لجرح بميت إيلام. ففقدان الإحساس علامة خطر، وهذا هو حال الكفار والعياذ بالله! لأنهم لا يحسون بأنهم يعاقبون، فبالتالي يتمادى أحدهم ويلهو في الدنيا حتى تفوت فرصته، ويموت دون أن يتوب؛ لأنه زين له سوء عمله فرآه حسناً، فيرى أن هذه هي السعادة، مع أنه أبعد ما يكون عن شرع الله تبارك وتعالى، لكن السعادة الحقيقية هي في موافقة شرع الله سبحانه وتعالى، فمن أراد اختصار طريق السعادة فليمش على نور الوحي، ولا ينشغل بفلسفات ولا ببحوث، ولا يلتفت لكلام ووساوس الشياطين، وإنما عليه أن يستقيم على طاعة الله، هذا هو أخصر طريق يؤدي إلى السعادة في الدارين.

مناسبة عطف إنزال الحديد على ما قبله

مناسبة عطف إنزال الحديد على ما قبله يقول: فإن قيل: الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟ ف A أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينال السعادة في الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، أما من تمرد وطغى وقسى فيضرب بالحديد الراد لكل مريد، وإلى الأولين أشار بقوله: ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ))، هذه للناس الذين عندهم عقول، ويعملون عقولهم، ويتدبرون في الحجج والبينات، فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة، حيث جمع العقلاء ومن وافقهم من العامة على الخير، فأشار إليهم بقوله: ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)). وخلاف ذلك فالجبار العنيد الطاغي القاسي القلب لا ينفعه إلا التأديب بالحديد، فقال تبارك وتعالى: ((وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ))، فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواص وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة. قال العتبي في أول تاريخه: كان يحتمل في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيل العلة وينقى الغلة، حتى أعملت التفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حذر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة. يعني: أن مجرد الوعظ بالأوامر والنواهي الشرعية لا يكفي في إصلاح حال الناس؛ إذ ليس كل الناس ينزجرون بالأدلة الشرعية، وبسلطان الشرع، ولذا فلابد من السلطان مع الحكم، وهذا ليس فقط في الإسلام، بل في كل النظم، يعني: لو أن دولة تريد أن تنفذ قوانينها بالمواعظ والكلام الرقيق والنظيف، والبيان أن هذا صحيح وهذا خطأ، وهيئة المرور تعمل كذا، وهيئة كذا تفعل كذا، فهل يستقيم حال الناس؟ A لا؛ فمن الناس من يعمل عقله ويستجيب للحجج والبينات، ومنهم من ليس كذلك، وإنما هو مثل المسمار، ولا يمشي إلا إذا كنت تضربه على رأسه كعبد السوء، فإذا صفعته على رأسه بالقوة فإنه يمشي، ومن دون ذلك لا يتحرك، فمن الناس من يقيمه الحجة والبيان، ومنهم لا يقيمه إلا السيف والسنان. يقول: حتى أعملت الفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد خطر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة؛ فلذا جمع الكتاب والميزان. وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف وجدوة عقابه، وقوة عذابه، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب، متباينة الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع. قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، أي: أنه يستعمل في القتال، وأنه آله السلطان؛ كي يقهر من لا يقتنع بالحجة والبيان بالسيف والسنان. وقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}، أي: باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه، عطف على محذوف دل عليه ما قبله، يعني: أنزله ليعلم. وقلنا: إن قوله تعالى: ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ))، المقصود به: ليعلم علم شهادة، أما علم الغيب فلا شك أن الله يعلم ذلك منذ الأزل. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ}، أي: على إهلاك من أراد إهلاكه، {عَزِيزٌ}، أي: غالب قاهر لمن شاء.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم)

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم) يقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26]. خص بالذكر الأبوين: الأب الأول وهو نوح عليه السلام؛ لأنه الأب الثاني للبشرية بعد آدم عليه السلام، والأب الثاني هو إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أبو الأنبياء، فإبراهيم عليه السلام ما أتى نبي بعده إلا من صلبه. فقوله: ((وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ))، يعني: ذرية الأنبياء بعد نوح، ولا شك أن الأنبياء بعد نوح كانوا من ذرية نوح، والأنبياء بعد إبراهيم كانوا من ذرية إبراهيم عليهما السلام. وقوله: ((فَمِنْهُمْ))، أي: من الذرية، {مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، أي: خارجون عن طاعته؛ بترك نصوص كتبه وتحريفها، وتقديم آراء الأحبار والرهبان عليها، واقتراف ما نهوا عنه.

تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا)

تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا) قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27]. {ثُمَّ قَفَّيْنَا} أي: أتبعنا، {عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، أي: حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة. وأما إعراب رهبانية في قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا} ففيها قولان: القول الأول: أنها معطوفة على ما قبلها، أي: على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة. القول الثاني: أن الكلام ينتهي عند قوله: ((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً))، ثم تبدأ الكلام وتقول: {وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا}، فيكون معناها: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فتكون مفعولاً به لفعل محذوف تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها. وإذا قلنا بالقول الأول: وهو أن رهبانية معطوفة على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة، فالمعنى أن الذي جعل الرأفة والرحمة والرهبانية هو الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فمن أي قسمي الجعل يكون قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا))؟ A يكون من الجعل القدري؛ لأن الرهبانية مذمومة عند الله سبحانه وتعالى، وهي بدعة وضلالة ومصادمة للفطرة، حتى لو قلنا: إن الله هو الذي جعل في قلوبهم جانب الرأفة والرحمة. والجعل الكوني القدري يمكن أن يكون شيئاً مما يبغضه الله، لكن يشاؤه كوناً وقدراً، ولا يأمر به ولا يحبه ولا يرضى بهذا الفعل. وأما على القول الثاني فيكون الجعل هنا شرعياً إرادياً؛ لأن الرأفة والرحمة مما يحبه الله ويأمر بها. قوله تعالى: ((وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً))، ونقف هنا، فالمعنى: أن الله سبحانه وتعالى خص قلوب الذين اتبعوا عيسى عليه السلام بالرأفة والرحمة. ولا يفهم من ذلك أن هذا مدح للكفار الذين ألهوا المسيح أو عبدوه، حيث جعلوه إلهاً أو ابن الله أو نحو ذلك؛ لأن هؤلاء ليسوا أتباع المسيح، بل هم أعداء المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، أي: من المسلمين؛ لأنهم هم الذين اتبعوا المسيح عليه السلام.

بعض خصائص دعوة المسيح عليه السلام

بعض خصائص دعوة المسيح عليه السلام قوله: ((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً))، هذا مدح للذين اتبعوا المسيح على دين الإسلام الذي جاء به. وهذه من خصائص رسالة المسيح عليه السلام أنه غلب عليها جانب الزهد، والرقة، واللطف، والمسامحة ونحو ذلك. والمسيح جاء برسالة مكملة لما جاء في التوراة.

الرهبانية بدعة نصرانية لا شريعة سماوية

الرهبانية بدعة نصرانية لا شريعة سماوية وعلى القول بالوقف عند كلمة: ((وَرَحْمَةً))، فقوله: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا))، يعني: أنهم هم الذين ابتدعوها، ونحن ما أمرناها بهم، ولا كلفناهم، وليس ذلك من شرعنا. فقوله: ((مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ))، أي أنها من ابتداعهم، وليست شرعاً شرعه الله لهم. وقوله تعالى: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، قد يحصل إشكال ثانٍ عند بعض الناس؛ حيث قد يفهم منها الشخص العادي الغير متخصص أن الله ما كتب الرهبانية إلا ليبتغوا بها رضوان الله، وهذا ليس صحيحاً؛ لأنه بين أنهم الذين ابتدعوها، وليس لها أصل شرعي من عند الله، فيبقى الجواب عليه أن نقول: إن الاستثناء في قوله: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16]، فإنهم لا يعبدون الله، بل هم اعتزلوا عبادة الله، لكن الاستثناء المنقطع تأتي فيه (إلا) بمعنى (لكن)، فيكون معنى الآية: وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم؛ لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقد وضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، فله فيه بحث وافٍ في تفسير هذه الآية الكريمة.

المقصود بالذين اتبعوا عيسى

المقصود بالذين اتبعوا عيسى يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)): حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة. وهذه كما قلنا هي في الذين اتبعوه على دين الإسلام والتوحيد، فلا يقال: إن القرآن مدح الوحوش الصربية الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، والذين لا يعرفون الرقة والرحمة، أو أصحاب المذابح التي كانت في لبنان، أو المذابح التي حصلت في جزر الملوك في أندونيسيا على يد الصليبيين، من ذبح المسلمين وإحراقهم، فأين هي الرأفة والرحمة من هؤلاء؟ وأين الرأفة والرحمة التي كان يمارسها الأوربيون الأمريكان والكنديون في الصومال في حملة بعث الأمل أو إحياء الأمل، حينما كان يتسلى الجنود بأنهم يأتون بالأخ الصومالي ويشووه على النار وهو حي، ثم يضحكون ويمرحون ويتسلون بآلامه وصراخه؟! فهؤلاء لا يقتدون بالمسيح عليه السلام ولا بدعوته، إنما المقصود هنا الذين اتبعوه من المسلمين، أما الكافر فكيف نقول: إن في قلبه رأفة ورحمة، واسألوا محاكم التفتيش في الأندلس: ماذا فعلوا في المسلمين؟! واسألوا البعوث الصليبية وما فعلوه في فلسطين لما دخلوا القدس وجرت الأنهار من الدماء، فكلام الرقة والرأفة والرحمة مع هؤلاء الناس ومداهنتهم بآيات القرآن مما لا يجوز؛ لأن قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً)) إنما هو في اتبعوا المسيح على الإسلام وعلى الدين الحق. وكان في عهد المسيح عليه السلام أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، فالمسيح عليه السلام عانى من هاتين الأمتين اللتين هما من أشد الأمم قسوة وبطشاً: اليهود لعنهم الله، والرومان أيضاً لعنهم الله، والرومان كانوا أشد قسوة؛ لأن اليهود على الأقل كانوا كتابيين، لكن الرومان كانوا وثنيين. وقد كان لهم أساليب في تعذيب النوع البشري، ومنها تكليف الوحوش المفترسة بالانقضاض على من يريدون تعذيبه، وكانوا يربونها لذلك، وهذا معروف ومشهور؛ حيث إنهم كانوا يأتون إلى الساحات العامة، ويأتون بأسود جائعة ويسلطونها على من يريدون تعذيبه!! وصبغ الأسكندرية بالصبغة الرومانية واليونانية من جديد ما هي إلا مسخرة؛ وصبغ المدن الأخرى بالصبغة الفرعونية شيء يؤسف في الحقيقة، فالله المستعان. أما الوحشية فما زالت موجودة عند الغربيين عموماً، فالغربيون عندهم تلذذ بهذه الأمور الوحشية، فهم يتلذذون جداً بما يحصل في أسبانيا من مصارعة الثيران، ويتسلون إذا قتل الثور الشخص الذي يصارعه، ويقعدون ينظرون ويتلذذون بذلك؛ لأن في نفوسهم حباً لهذا العنف وهذه الوحشية، وهم أخذوا هذه النفسية الأوروبية أو الغربية من جذور الحضارة اليونانية والرومانية، فالعنف والقتل والإحراق والتخريب والتدمير هذا شيء يتلذذون به جداً. يقول: وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، وهؤلاء أشد قسوة وأعظم بطشاً، لاسيما في العقوبات، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشري، ومنها: تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره، كما بينه الله عز وجل في آخر سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]، فكانت العاقبة لأتباع المسيح عليه السلام. فقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، أي: ما فرضناها عليهم، وإنما التزموها من عند أنفسهم. وقوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله عنهم.

تعريف البدعة

تعريف البدعة قوله: ((إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ))، إما أن يكون المعنى: ولكنا كتبناها عليهم، أي: كتبنا عليهم أن يبتغوا مرضاة الله باتباع ما شرعه وليس بالبدع الرهبانية. أو: ما كتبناها عليهم، لكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله تعالى عنهم، وهذا ركن رشيد في تعريف البدعة؛ لأن البدعة لابد أن يكون فيها ابتغاء المبالغة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، كما يقول العلماء: البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، وهذا مما يميز البدعة عن العادة، فالبدعة لابد أن يريد بها المبتدع تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.

سبب عتاب الله للذين ابتدعوا الرهبانية

سبب عتاب الله للذين ابتدعوا الرهبانية وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، هذا أيضاً قد يلتبس عند بعض الناس، فيقولون: لو كانت الرهبانية مذمومة فكيف عاتبهم الله سبحانه وتعالى على أنهم لم يحترموا قوانين الرهبانية؟ فنقول: هذا من باب إلزامهم بما ألزموا أنفسهم به، كما نقول: إن الذين يتبنون ميثاق حقوق الإنسان لا يلتزمون به، وهكذا الذين يتبنون ما يسمى بالديمقراطية، فإنهم لا يلتزمون بذلك، ونحن نعرف أنها مخالفة للشرع، وأنها في الشرق والشريعة في الغرب، فلا تلاقي بين الديمقراطية التي هي حكم الشعب للشعب، وبين دين الإسلام الذي ينص صراحة على: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]. ومع ذلك من حقنا أن نلزم هؤلاء القوم بما ادعوه، ونقول لهم: أنتم تؤمنون بالديمقراطية، ويلزم من هذه الديمقراطية كذا وكذا مما تخالفونه! فالإنسان يعاب إذا ألزم نفسه بشيء ثم لم يحترمه، حتى لو كان هذا الشيء خطأً، ومثل هذا يكون أشد قبحاً ممن لم يلزم نفسه به. والديمقراطية هذه أعظم تشبيه لها أنها مثل صنم العجوة، حيث كان المشركون في الجاهلية يصنعون الصنم من العجوة فإذا جاع الواحد منهم أكله، فعند الحاجة هؤلاء يبتلعون هذه الديمقراطية، والإنسان يسمع في هذا الباب عجباً، وبالذات من تركيا التي تأتي منها أخبار عجيبة جداً، تركيا الممسوخة التي باءت بالسخطتين، كما يقول الشاعر: باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت ولا عنه أرضى العدى تركيا التي تتذلل وتتمسح بأعتاب الغرب، وتتقرب منه بكل ما تستطيع، ومع ذلك يزيدها هذا ذلاً وهواناً واحتقاراً، بل وصل الأمر إلى أن رئيس الوزراء اقترح أن أي موظف حكومي عنده تعاطف مع المتطرفين أو الانفصاليين -يعني: مع الإسلاميين- يفصل من عمله، وكان فاقع اللون من الذل، لدرجة أن رئيس الجمهورية رفض أن يوقع على هذا الأمر، وقال: هذا يتعارض مع حقوق الإنسان! وهذا شيء عجيب جداً! والآن هناك عالم كبير جداً مسئول اسمه: فتح الله جولان يحاكم بتهمة أنه ينوي إقامة حكم إسلامي. فتهمته أنه ينوي! ولم يصرح أنه سيرتكب هذه الجريمة، فهو يتكلم في كذا وكذا من الأمور العادية جداً، ويحفّظ الناس القرآن، لكنهم قالوا: هذا ينوي! فالتهمة أنه ينوي، وهذا مثل ما في القانون الجنائي، من أنهم يشقون قلوب الناس ويحاسبونهم على النية، فهذا تهمته أنه ينوي إقامة حكم إسلامي، ومن قبل أربكان عندما كان سيمسك رئاسة الوزراء، في الانتخابات عُمل له فخ، وجاء صحفي خبيث يسأله، قال له: بأي قانون تنوي أن تحكم تركيا إذا مكنت من رئاسة الوزراء؟ فلو قال: القانون الإسلامي، فسيعاقب ويحكم عليه بالسجن على الأقل عشر سنوات، ويمنع من ممارسة ما يسمى بحقه السياسي، فتصور بعدما كانت تركيا عاصمة الخلافة بماذا يجيب أربكان؟ قال: أنوي أن أحكم تركيا بالقانون الذي حكمت به يوم كانت سيدة العالم، ولم يقدر أن يقول كلمة: الإسلام، وظل يردد هذه العبارة حتى لا يمسك عليه أحد كلمة الإسلام، فالله المستعان! لقد وصلت الغربة إلى هذا الحد، فهو خائف أن يقول: بالإسلام؛ لأنه سوف يترتب على ذلك عقوبات؛ لكن رد برد دبلوماسي فقال: أنوي أن أحكم تركيا بالقانون الذي حكمت به يوم كانت سيدة العالم، يعني: يوم أن كنا سادة العالم، فالله المستعان! على أي الأحوال فإن الشخص الذي يلزم نفسه بنظام أو بقانون أو بمبدأ، ثم لا يحترم هذا المبدأ الذي ألزم نفسه به، حتى لو كان خطأً، أولى بالتوبيخ؛ وهو مثل صنم العجوة، الذي يؤكل عند الحاجة!

استغلال النصارى للناس باسم الرهبانية

استغلال النصارى للناس باسم الرهبانية يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، أي: ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد والتخلي للعبادة وعلم الكتاب. يعني: هم ابتدعوا الرهبانية، وأنهم سينعزلون في الصوامع، ويعبدون الله، ويتعلمون ويقرءون، لكنهم اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد وإخضاع الشعب لأهوائهم، فمن درس تاريخ أوروبا خاصة في القرون الوسطى المظلمة يجد ذلك جلياً. وكل قرونهم مظلمة، وبعضها أشد ظلمة من بعض، لكن هكذا جرى العرف بأن القرون الوسطى هي المظلمة، ويأتي الببغاوات الجهلة عندنا هنا ويقولون على المسلمين: يريدون أن يرجعونا إلى العصور الوسطى، وهذا الغبي الجاهل لا يعرف أن العصور الوسطى كانت أبهى عصور المسلمين، لأن هذه العصور الوسطى كانت مظلمة في الغرب، لكن المسلمين ما عرفوا أي عصر مظلم إلا من بعد أن تخلوا عن الإسلام، فليتنا نرجع إلى العصور الوسطى؛ لأننا كنا في العصور الوسطى سادة الدنيا كلها، وكان المسلمون هم الذين يحكمون العالم، ولم يحصل منهم هذا الظلم الذي يحصل الآن حينما يعلو الكافرون. فهم بدل أن تكون الرهبانية وسيلة للزهد جعلوها عكس ذلك، والثورة التي حصلت في أوروبا كانت موجهة لطائفتين بلغتا من الطغيان مداه: الطائفة الأولى: كانت من القساوسة والرهبانيين، والطائفة الثانية: كانت من الملوك؛ ولذلك كان شعارهم: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس! فعانى الناس طغيان الكنيسة من محاكم التفتيش والتعذيب، ومحاسبة الناس على الخواطر، حيث كانت متسلطة جداً، بل كانت تتسلط على الملوك أنفسهم، ولو أصدر البابا قرار حرمان، فيا ويل الملك! بل قد يلزم الملك أو الإمبراطور أن يأتي حافي الرأس والقدمين، ويتذلل له، ويقبل الأعتاب، ويظل راكعاً أمام البابا حتى يعفو عنه ويزيل قرار الحرمان. فالشاهد: أنهم عانوا عناءً شديداً من القساوسة والرهبانيين، ولذلك جاء رد الفعل عكسياً، حيث رفضوا هذا الدين وهذا التسلط، ولكن لم يبحثوا عن الدين الحق، وهذا هو الانحراف الشديد الذي حصل في مسيرة الغرب. فالشاهد: أنه كان هناك تسلط شديد جداً من رجال الكنيسة على الشعب، وإذلال الناس بالضرائب الباهظة والإقطاعات، بل كان الرهبانيون الذين في الصوامع أشهر إقطاعيين، وكانوا يستذلون الناس، ويمتصون أموالهم، ويعذبونهم، ويقيمون محاكم التفتيش والتعذيب والسجن والقهر إلى آخره. وقوله: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}، يعني: الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع، ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليه المبشر به عندهم، وهم الذين اتبعوا المسيح على دينه الحقيقي. وقوله: ((وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ))، أي: خارجون عن الإيمان ومقاصده.

تعريف الرهبانية

تعريف الرهبانية وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فقال: التنبيه الأول: الرهبانية هي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، والرهبان: بفتح الراء هو الخائف، فعلان: من رهب، كخفيان من خفي.

أوجه الذم للذين ابتدعوا الرهبانية

أوجه الذم للذين ابتدعوا الرهبانية التنبيه الثاني: قال ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، ذم لهم من وجهين: أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، أو أن المبتدعين ابتدعوا ما لم يأذن به الله، وهي بدعة الرهبانية. ثانياً: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه يقربهم إلى الله عز وجل.

ذم بعض علماء النصارى لبدعة الرهبنة

ذم بعض علماء النصارى لبدعة الرهبنة التنبيه الثالث: رأيت في كثير من مؤلفات علماء النصارى المتأخرين ذم بدعة الرهبنة، وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار. ثم ذكر كلاماً لصاحب (ريحانة النفوس) عن هؤلاء النصارى أنهم يشيعون ذلك في الكتاب المقدس، وذكر هذا الرجل أن الرهبانية عادة سرت في النصارى من الهنود الوثنيين الذين كان لهم أنواع كثيرة من العبادات، وهي تأمر كهنتها بالبتولية -عدم الزواج- والامتناع من أكل اللحم، وأمور أخرى مقرونة بخرافات.

موقف قساوسة النصارى من المرأة وأثر ذلك على البيئة النصرانية

موقف قساوسة النصارى من المرأة وأثر ذلك على البيئة النصرانية والنصارى ينظرون إلى الزواج على أنه نوع من القذارة أو النجاسة؛ لأنهم يرون أن المرأة شر كلها، وأن الاقتراب من المرأة أشد من الاقتراب من الأفاعي! وأعلن القساوسة والبابوات أن الزواج أمر يجب الابتعاد عنه، وأن العزب أكرم عند الله من المتزوج، وأعلنوا أنها -أي: المرأة- باب الشيطان، وأن العلاقة بالمرأة رجس في ذاته، وأن السمو لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج. قال أحد قديسي الكنيسة: إنها -أي: المرأة- مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، متوهة للرجل. وقال آخر ملقب أيضاً بالقديس: إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية ملوحة. وفي القرن الخامس اجتمع بعض اللاهوتيين ليبحثوا ويتساءلوا في مجمع ميكن: هل المرأة جثمان بحت، أم هي جسد ذو روح يناط به الخلاص والهلاك؟ وغلب على آرائهم أنها خلو من الروح الناجية، وليس هناك استثناء بين جميع بنات حواء من هذه الوصمة إلا مريم أم المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام! وعقد الفرنسيون في عام خمسمائة وستة وثمانين -يعني: في فترة شباب النبي صلى الله عليه وسلم- مؤتمراً، كان موضوع هذا المؤتمر: هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان؟ وهل لها روح أم ليس لها روح؟ وإذا كان لها روح، فهل هي روح حيوانية أم روح إنسانية؟ وكل هذا الكلام للذين يدعون أن الإسلام أهان المرأة واحتقرها، إلى آخر هذه الأراجيف الشيطانية، وانظر كيف كان هؤلاء الناس ينظرون للمرأة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؟! وإذا كانت روحاً إنسانية، فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منه؟ وكان القرار النهائي في المجمع أن قرروا أنها إنسانة، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فقط! فيرى هذا الجيل المنحرف أن المرأة ينبوع المعاصي وأصل السيئة والفجور، وأن المرأة للرجل باب من أبواب جهنم من حيث هي مصدر تحركه وحمله على الآثام، ومنها انبجست عيون المصائب على الإنسانية جمعاء. وهذه مأخوذة من التصور التوراتي؛ فإن التوراة تنسب الخطيئة إلى حواء؛ فهي بزعمهم التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة، وهي أتت بكل المصائب للبشرية؛ بسبب إغواء آدم بالأكل من الشجرة؛ ولهذا يقول بعض المصنفين: ولما كانت المرأة - حسب رواية سفر التكوين - هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم؛ لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته. ومن أساسيات النصرانية المحرفة: التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الزوجية وإن كانت حلالاً، حتى بالنسبة لغير الرهبان. يقول أحد رجال الكنيسة بونافنتورا -الملقب بالقديس-: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذين تسمعون منه هو صفير الثعبان. وهذه الحكايات موجودة في قصة الحضارة. ويقول آخر: إن القس يجب أن يكرس حياته لله وبني الإنسان، وإن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب، وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لابد منها؛ لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه. وأحد الكتاب الأوروبيين مؤلف كتاب (المشكلة الأخلاقية والفلسفية)، يعلق على كلام القساوسة في هذا الباب فيقول: عظمة وعلاء، ولكنه قضاء قاسٍ على الإنسانية، وإن التصديق الكامل لمثل تلك المبادئ لا يمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهائي للنوع الإنساني. وأصدر البرلمان الإنجليزي قراراً في عصر هنري الثامن ملك انجلترا يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب (العهد الجديد)، أي: الإنجيل؛ لأنها تعتبر نجسة!. وتذكر بعض المصادر أنه شُكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصاً لتعبيد النساء، وذلك سنة ألف وخمسمائة ميلادية، وكان من ضمن مواده: تعذيب النساء وهن أحياء بالنار! ونص القانون المدني الفرنسي وهو يدافع عن حقوق الثورة الفرنسية على: أن القاصرين هم: الصبي والمجنون والمرأة، حتى عدل عام ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثين، ولا تزال فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة. وظلت النساء يُسخرن بالقانون الإنكليزي العام حتى منتصف القرن الماضي تقريباً، وكن غير معدودات من الأشخاص أو المواطنين الذين اصطلح القانون على تسميتهم بهذا الاسم؛ حيث لم يكن لهن حقوق شخصية ولاحق في الأموال التي تحتسب لهن، ولا حق في ملكية شيء، حتى الملابس التي كن يلبسنها، بل إن القانون الإنجليزي حتى عام ألف وتسعمائة وخمسة ميلادية كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته! وقد حدد القانون ثمن الزوجة بستة سنتات، يعني: نصف شلن، وقد حدث أن باع إنجليزي زوجته سنة ألف وتسعمائة وواحد ثلاثين بخمسمائة جنيه، وقال محاميه في الدفاع عنه: إن القانون الإنجليزي عام ألف وتسعمائة وواحد يحدد ثمن الزوجة بستة سنتات، بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوج، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغي عام ألف وتسعمائة وخمسة، بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر! وجاء في مجلة حضارة الإسلام: حدث في العام الماضي أن باع إيطالي زوجته لآخر على أقساط، فلما امتنع المشتري عن سداد الأقساط الأخيرة قتله الزوج البائع! وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: من الغرائب التي نقلت عن بعض الصحف المنشورة في هذه الأيام- يعني: قبل حوالي ستين سنة- أنه لا زال يوجد في الأرياف الإنجليزية رجال يبيعون نسائهم بثمن بخس جداً، كثلاثين شلناً، وقد ذكرت الصحف الإنجليزية أسماء بعضهم! وهذا الوضع للمرأة هو عند أن كانوا متمسكين بدينهم المحرف، أما الآن بعدما صاروا ملاحدة لا دين لهم فالوضع أخس؛ لأن المرأة أحقر من السلعة، فوضع المرأة في الغرب وضع مشين للغاية. يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: وأما المرأة فقد دفع بها الوضع الاجتماعي الذي لا يرحم إلى أنها تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة، ولا يستطيع أحد أن يعترض ولا أن يتكلم في مجلس الشعب، إلا إذا حصل اتفاق مع الأخ أو الأم أنها تشارك في كل التكاليف في البيت، فهنا لها أن تبقى! فأصبحت البنت تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة؛ لكي تبدأ في الكدح لنيل لقمة العيش، وإذا ما رغبت أو أجبرتها الظروف في البقاء في المنزل مع أسرتها بعد هذه السن، فإنها تدفع لوالديها إيجار غرفتها، وثمن طعامها وغسيل ملابسها، بل تدفع رسماً معيناً مقابل اتصالاتها الهاتفية! وحدث ولا حرج عن ندرة الزواج وكثرة بيوت البغاء وتفشي الفواحش وكثرة اللقطاء وارتفاع نسبة الطلاق!

مؤامرة الغرب على المرأة المسلمة

مؤامرة الغرب على المرأة المسلمة وحقيقة أن الغرب يحسدنا؛ فكلام الغرب في قضية المرأة بالذات هي عملية حسد، وليس أكثر من هذا، فإذا حسدونا على السلام وعلى التأمين، أفلا يحسدوننا على المرأة التي ما زالت عفيفة مصونة محترمة، لها قيمتها ولها احترامها ولها وزنها؟! فهي مؤامرة لإخراج المرأة من بيتها، وهذه أكبر شيء يطعن المسلمين في القلب، ويلحق ديار المسلمين ومجتمعات المسلمين بـ (الغابات) المتحدة الأمريكية وغيرها، فلا ينبغي لنا أن نتأثر بمنهج العولمة الذي يلزم في الوقت الجديد أن تخرج المرأة بأية طريقة، حتى إنه قد يحصل خداع لبعض الأخوات المسلمات، فتريد إحداهن أن تخرج من بيتها، وأن تُرشح في مجلس الشعب، وهذه بدعة وضلالة ما حصلت من قبل، وليس هناك داع أن ننخرط في مناهج هؤلاء الكفار. فنحن المسلمين حالنا كحال حزب الوفد الذي تحالف مع بعض الأحزاب لما كان ضعيفاً جداً، فلما وصل إلى ما يريد تخلص ممن استعملهم كعامل مساعد، فلا ينبغي لنا أن نتورط في مثل هذا. وأما خروج مسلمة متدينة فاضلة لانتخابات مجلس الشعب فهذا لا ينبغي، وهل الرجال استطاعوا أن يعملوا شيئاً؟! فالرجال ما عملوا شيئاً حتى تأتي امرأة وتدخل في الانتخابات، فيجب على المرأة أن تقر حيث أمرها الله سبحانه وتعالى، فكيف تخرج في وسط هؤلاء الناس، وفي وسط هذه الأوضاع العجيبة؟! وأي مكسب ستجنيه؟! وماذا فعل الرجال من قبل حتى تصنع مثله النساء؟! فالشرع رفض أن تؤذن المرأة في الصلاة، أو تؤم المصلين، ولا تجب عليها صلاة الجماعة، ولا الجهاد؛ لأن الأصل هو القرار في البيت، كما قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]. وأيضاً القرار في البيت ليس تعطيلاً لنصف المجتمع كما يرجف الملاحدة ويزعمون، فالمرأة التي في بيتها ليست عاطلة، بل هي العاملة في الوظيفة المقدسة، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المرأة راعية في بيت زوجها)، فهذه هي الوظيفة الأساسية للمرأة. أما المرأة الخارجة هذه فهي امرأة هاربة من مسئوليتها، وهناك حالات استثنائية، يعني: أنه يعفى عن المرأة في بعض الظروف، خاصة في هذا الزمان؛ فبعض النساء قد يكون لهن ظروف تعذرهن في الخروج للعمل؛ لكن القاعدة أن كثيراً من النساء يصرفن المرتب في المساحيق والزينة والملابس، فالله المستعان! يقول الدكتور نور الدين عتر: حدثني صديق أنهى تخصصه العالي في أمريكا حديثاً: أن في الأمريكيين أقواماً يتبادلون زوجاتهم لمدة معلومة، ثم يسترجع كل واحد زوجته المعارة، فيعيرها كما يعير القروي دابته، أو الحضري في بلادنا شيئاً من متاع بيته! يقول الشاعر: إيه عصر العشرين ظنوك عصراً نير الوجه مسعد الإنسان لست نوراً بل أنت نار وظلم مذ جعلت الإنسان كالحيوان فادعوا المساواة، ولكنها مساواة بين الإنسان وأخيه الحيوان. ونحن نحتاج هنا إلى وقفة، وبالذات إذا ذكرنا قضية الرهبنة، وسوف نشير إشارة لابد منها فنقول: إذا نظرنا إلى شؤم هذه الرهبانية وماذا صنعت في الإنسانية، فسنجد أن الرجل كان يمدح بها عندهم، وكان يقال: فلان الفلاني مكث في بئر نزح ماؤه خمسين سنة، أي: وهو قاعد في بئر نزح ماؤه، ومعتزل فيه؛ كي يقرصه البعوض والذباب وهذه الحشرات، ويتقرب إلى الله بذلك! ويقول الواحد منهم: لقد كنا فيما مضى يمكث الواحد منا عشرات السنين لا يمس جسده الماء، وها نحن الآن ندخل الحمامات! أي أنه يقول: نحن الآن في انحراف عن هذا الهدي؛ لأننا الآن ندخل الحمامات. ومن دخل ديراً سوف يجد ذلك، ولا أريد أن أدخل في التفاصيل، فسوف يجد الناس في داخل الدير المعتزلين هناك، وسيجد أن التراب الأسود على وجوههم قد أصبح زيادة على سواد الكفر؛ لأنهم لا يتنظفون، ولا ينظفون أنفسهم، بل يزعمون أن هذا يقرب إلى الله سبحانه وتعالى. ونحن لا نتكلم على النظافة في الإسلام وسماحة الإسلام؛ فهذا أمر فوق الوصف، فالإسلام جاء بنظافة العقيدة؛ وذلك بتزكية القلب بالتوحيد، وبلا إله إلا الله، والكفر بالأوثان التي يشرك بها مع الله سبحانه وتعالى. وهكذا جاء بنظافة الأخلاق، ونظافة الأجسام والأبدان، ونظافة السلوك، ونحو ذلك، فهو دين النظافة في كل شيء ولله الحمد، فإن الله جميل يحب الجمال.

نظرة الإسلام إلى الزواج

نظرة الإسلام إلى الزواج وسنقف هنا على نظرة الإسلام للزواج؛ لنرى أن هذا الإسلام دين حياتي، كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، فلا يمكن أن تستقيم حال البشرية إلا بهذا الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى شرع لبني آدم الزواج، وجعل تناسلهم يتم بطريقة شريفة منظمة محفوظة مصونة؛ كي لا تختلط المياه، ولا تشتبك الأنساب، وبهذا مُيز الإنسان عن البهائم والحيوانات. وانظر إلى واقع الكفار الآن في الغرب، تجد الفوضى التي لا خطام لها ولا زمام، وكثير من الأبناء هناك لا يعرفون آباءهم، ولا يعرفون لهم أمهات، ولذا فإن مستشفيات النساء في أوروبا وفي الغرب إذا جاءت امرأة لتلد في تلك المستشفى فإنهم يذكرون في البطاقة الخاصة بمعاملة الولادة هل له أب أم ليس له أب، وهل تعرف أباه أم لا تعرف الأب، وهذه البطاقة يشرح فيها الطبيب حالة المريض، فأي امرأة تدخل مستشفيات الولادة يكون في بنود هذه البطاقة: متزوجة أم غير متزوجة؟! وهذا شيء عادي جداً عندهم، وليس فيه أدنى حرج. والمرأة التي لا تنحط في حمأة الفاحشة هذه معقدة نفسياً، ولو وجدت طالبة في الكلية أو في المدرسة ولم يكن لها خليل أو خدن تعاشره سفاحاً، فهذه تحال للطبيب النفسي! لأنها في زعمهم معقدة، فنحمد الله على العافية! فلم تعد المرأة في ظل الإسلام كما كانت عند الآخرين نجسة ومدانة يجب التنزه عنها، ولكن تسامى الإسلام بالمرأة إلى علياء السمو. فالإسلام لم يعتبر الزواج لعنة وشراً، ولم يجعل صوت المرأة مثل صوت صهيل الثعبان إلى آخره، بل جعل الزواج من أعظم نعم الله عز وجل على عباده، فقال سبحانه وتعالى وهو يمدح الرسل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، وهذا جاء في سياق الامتنان. وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]. وقال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ} [الروم:21]، وكلمة (آيات) في القرآن الكريم لا تستعمل إلا في الأمور الجليلة العظيمة التي تعكس قدرة الله سبحانه وتعالى، وقد بلغ من تعظيم الإسلام للزواج أنه قرن آية التكوين الأخرى بتكوين العالم كله، فقال سبحانه وتعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، وقال عز وجل وهو يقرن آياته العظمى في تكوين الأسرة بآياته العظمى في خلق الكون، فقال عز وجل بعدها مباشرة: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]. فالزوجة نفسها ينظر الإسلام إليها أنها نعمة، فيجب على الإنسان أن يشكر ربه عليها، ولا يكفرها، ويعلم أنه سيسأل يوم القيامة عن هذه النعمة، كما جاء في الحديث: (سيلقى العبد ربه، فيقول الله عز وجل: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول بلى أي رب! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني)، رواه مسلم وغيره. فالشاهد هنا: قوله عز وجل: (ألم أكرمك، وأسودك وأزوجك)، فهذه من نعم الله التي يحاسب عليها، ويسأل عنها يوم القيامة.

حث الإسلام على الزواج

حث الإسلام على الزواج أما موضوع الترغيب في الزواج والحث عليه فهذا مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فالإسلام اختص بالحث على الزواج. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله فيما بقي)؛ لأن النكاح يعف عن الزنا، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن النبي عليه السلام عليهما الجنة، فقال: (من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الزواج، وكان يقرأ لمن يطلب إباحة التبتل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى). وأما التبتل فقد أتى عثمان بن مضعون رضي الله عنه يستأذن الرسول عليه السلام في أن يتبتل، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيَّ أسوة؟! فوالله إني أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده). فالتعبد بترك النكاح لا أصل له في الإسلام، فلم تعد رابطة الزوجية دناءة بهيمية، فالإسلام أتى نوره وبدد تلك الظلمات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسامى الإسلام بتلك الرابطة، فجعلها ذريعة لواجبات كثيرة رفع الإسلام قدرها. يقول الإمام الفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام رحمه الله تعالى: ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب للأخلاق، وتوسعة الباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع. فالإنسان يجاهد نفسه ويحصل تعديل لسلوكه وأخلاقه السيئة. يقول: وتربية الولد، والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها، كالنفقة على الزوجة وعلى الأولاد، والنفقة على الأقارب والمستضعفين، وإعفاف الحرم -يعني: إعفاف الزوجة- وإعفاف نفسه، ودفع الفتن عنه وعنهن، ودفع التقتير عنهن بحبسهن لكفايتهن مئونة الخروج -يعني: لأجل طلب الرزق- ثم الاشتغال بتأديب نفسه وتأهلها للعبودية، ولتكون هي أيضاً سبباً لتأهيل غيرها، وأمرها بالصلاة، فإن هذه الفرائض كثيرة لم يكد يقف عن الجزم بأنه أفضل من التخلي. يعني: أن الزواج أفضل من التخلي للعبادات المستحبة والنافلة، ولو خير رجل بأن يتزوج رغم ما في الزواج من عناء ومشقة، وبين أنه ينفرد في صومعة يؤدي الفرائض، ويعتزل ليتقرب إلى الله بالنوافل فأيهما أفضل؟ A لا جدال بأن الزواج أفضل، هكذا هي نظرة الإسلام للزواج، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (من أماثل أعمالكم إتيان الحلال)، يعني: من أفضل أعمالكم إتيان الحلال. وقد يتعجب القارئ أو المستمع كما تعجب الصحابة رضي الله عنهم من قبل عندما قال ناس منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور -أي الأغنياء- بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان فيها وزر؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له فيها أجر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر في ضمن وصية جامعة له: (ولك في جماعك زوجتك أجر، قال أبو ذر: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات، أكنت تحتسبه؟ قال: قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلقه، قال: أفأنت هديته؟ قال: بل الله هداه؟ قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه، قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر). بل تسامى الإسلام بهذه الرابطة، حيث أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى استصحاب نية طلب الأولاد، والتسمية، وحض على ذلك؛ لما فيه من الخير الكثير، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك اليوم لم يضره الشيطان أبداً). ونحن نختصر الكلام في هذا الموضع وإن كان يحتاج إلى تفصيل؛ لكن هذه الإشارة العابرة تعكس مدى نظرة الإسلام للزواج وتكريم المرأة بصورة لا تترك لعاقل أي شك في أن هذا هو أعظم تكريم للإنسان، وأعظم تكريم للرجل، وأعظم تكريم للمرأة، بخلاف هذه الحضارة البهيمية التي تريد أن تسوي لا بين الرجل والمرأة كما يزعمون؛ ولكن بين الإنسان والحيوان، بل حتى الحيوانات قد تكون أفضل، وأحوال القوم لا تخفى على مسلم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله) يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28]. قال ابن كثير: حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين، كما في الآية التي في القصص: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [القصص:54]، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل كتاب آمن بنبيه وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مولاه، فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران) متفق عليه، فانظر إلى حث الإسلام على التأديب وعلى التعليم وعلى التربية، حتى الجارية نفسها أمر بتأديبها. وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، فقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، المقصود بالآية مؤمنو أهل الكتاب. وقوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)). قال سعيد بن جبير: لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة. والظاهر أن لفظها أعم، وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات على الإيمان، والرسوخ فيه، والانصياع لأوامره. ومنه ما حث عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله، وسخاوة النفس فيه، وأن لهم في مقابل ذلك أجراً وافراً، كما قال في أول السورة: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7]، وآخر السورة فيه رجوع لأوائلها؛ لتذكير ما أمرت به وما سبق نزولها لأجله. وقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}، الكفل: الحظ، وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط، والتثنية في مثله إما على حقيقتها أو هي كناية عن المضاعفة. (ويجعل لكم نوراً) النور: هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة، ويكشف الحق لقاصده، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، فكلما اتقيت الله سبحانه وتعالى فإنه ينور قلبك، ويعطيك القوة على التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال. ومعنى الآية: إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كفلين، ويجعل لكم كذا وكذا.

تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء)

تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء) قال تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:29]. ((لِئَلَّا يَعْلَمَ)) أي: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا عدم قدرتهم على شيء من فضل الله، وثبوت أن الفضل بيد الله. والمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به؛ لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع الخلق. فأهل الكتاب كانوا يعتقدون أنهم أفضل الخلق، وزنادقة اليهود يقولون كما حكى الله عنهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، كانوا يحسبون أنهم أفضل من جميع الخلق، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم؛ ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، أي: ليسوا هم الذين يوزعون فضل الله على الخلق. والتفضيل بين الأمم راجع إلى قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، فأنتم لا تقدرون على شيء من فضل الله، فإذا كنتم لا تقدرون على شيء من فضل الله، فكيف تكون لكم قدرة على ما هو أعظم فضل الله. إذاً فالمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به؛ لأن أهل الكتاب كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع الخلق، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة مالم يؤتهم؛ ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة، فيخص بها من أرادوا، وأن الفضل بيد الله دونهم. قوله: ((وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ))، يعني: ليس بأيديكم أنتم يا أهل الكتاب! دون غيركم من الخلق، بل الله عز وجل يؤتيه من يشاء من عباده. (ولا) في ((لِئَلَّا)) صلة، وقال بعضهم: وهو حرف شاعت زيادته. بل هذا في الحقيقة من أوضح الأدلة على أن (لا) قد تكون أحياناً زائدة، ولا تعني النفي، وهذا أحد الأوجه في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]. فهنا قوله تعالى: ((لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ))، تفسيرها: ليعلم أهل الكتاب. قال ابن جرير: وذكر أن في قراءة عبد الله: (لكي يعلم)، قال: لأن العرب تجعل (لا) في صلة كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، كقوله في البحث السابق الذي لم يصرح به: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12]، وتفسيرها: ما منعك أن تسجد لما أمرتك، وقال تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109]، يعني: أنهم سوف يؤمنون. وقال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95]، في التفسير: أنهم يرجعون؛ فالأمة التي تهلك لا ترجع إلى الدنيا مرة أخرى؛ فهذا حرام بتحريم كوني قدري، أي: حرام عليهم أن يرجعوا إلى الدنيا. ونقل الثعالبي في فقه اللغة زيادتها في عدة شواهد في فصل (الزوائد والصلات التي هي من سنن العرب) فانظره تزدد علماً. وهذا آخر تفسير سورة الحديد. والله أعلم.

المجادلة [1 - 4]

تفسير سورة المجادلة [1 - 4]

تفسير قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وللكافرين عذاب أليم)

تفسير قوله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وللكافرين عذاب أليم) قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:1 - 4]. قال الجوهري: (قد) حرف لا يدخل إلا على الأفعال، وقال الزمخشري: معنى (قد) التوقع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا متوقعين أن ينزل الله في شكواها ما يفرج عنها. ومعنى سماع الله تعالى لقولها إجابة دعائها لا مجرد علمه تعالى بذلك، فهذا كقول المصلي: (سمع الله لمن حمده). قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ))، هذه الواقعة تدل على أن من قطع رجاؤه عن الخلق فلم يبق له فيما أهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك الأمر. وصيغة المضارع: يسمع: يفيد التجدد: ((وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا))، للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدده، ويأتي بالمضارع هنا؛ لأن فيه تحاوراً ومراجعة في الكلام، فكلما ترد الكلام فإن الله سبحانه وتعالى يسمعه، وذكرها مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الخطاب في قوله: ((تَحَاوُرَكُمَا))، تكريم لها بهذا الخطاب الكريم، فقد ذكرت مقترنة باسمه الشريف عليه الصلاة والسلام، فهذا بلا شك تكريم عظيم لها، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لغرض المهابة والروعة في قلوب المؤمنين: ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)).

معنى الظهار لغة وشرعا

معنى الظهار لغة وشرعاً قال ابن منظور: كانت العرب تطلق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة: أنت علي كظهر أمي، كأنه يحرم نكاحها بهذه اللفظة؛ لأن الظهر ما يركب، وفي بعض الأحاديث: (ما لنا من ظهر سوى هذا البعير)، يعني: من مركوب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)، فالمقصود بالظهر المركوب. وقال الرازي: ليس الظهار مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء، بل الظهر هنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] يعني: إن يعلوه، وكل من علا شيئاً فقد ظهر، ومنه سمي المركوب ظهراً؛ لأن راكبه يعلوه. ويدل على صحة هذا المعنى: أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها. وفي قولهم: أنت علي كظهر أمي: حذف وإضمار؛ لأن تأويله ظهرك علي، أي: ركوبي إياك وعلوي عليك حرام كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي. أيضاً المظاهر شبه الزوجة بالأم، ولم يقل: هي أم، فكيف كان ذلك منكراً وزوراً؟ وأجيب عن ذلك بأن الكذب إنما لزم لأن قوله: أنت علي كظهر أمي، إما أن يكون إخباراً أو إنشاء، فعلى الأول: إن قصد أنها كظهر أمه فقد كذب؛ لأن الزوجة محللة والأم محرمة، وتشبيه المحللة بالمحرمة في ضبط الحل والحرمة كذب، وعلى الإنشاء كان ذلك أيضاً كذب؛ لأن معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاء لوقوع هذا الحكم كذباً وزوراً. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر في خلافته على امرأة وكان راكباً على حمار والناس معه، فاستوقفته تلك المرأة طويلاً ووعظته، وقالت له: عهدي بك يا عمر! وأنت صغير تدعى عميراً، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين: فاتق الله يا عمر في الرعية، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة:2] الخطاب في لفظ: (منكم) فيه مزيد توبيخ للعرب، وتهجين لعاداتهم في الظهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم. أيضاً مما يناسب ذكره عن الكفارة: ما رواه الإمام الترمذي عن سلمة بن صخر البيهقي أنه قال: (كنت امرأً أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثت أن نزوت عليها، فلما أصبحت أخبرت قومي، فقلت: امشوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: ليستفتي- فقالوا: لا والله، فانطلقت فأخبرته صلى الله عليه وسلم فقال: أنت بذاك يا سلمة؟! قلت: أنا بذاك يا رسول الله! مرتين، وأنا صابر لأمر الله؛ فاحكم فيَّ بما أراك الله، قال: حرر رقبة. قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين. قلت: هل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام. قال: فأطعم ستين وسقاً من تمر ستين مسكيناً. فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام -يعني: مقفرين لا طعام لهم- قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك؛ فأطعم ستين مسكيناً وستين وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها، فرجعت إلى قومي أقول: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمرني بصدقتكم).

تحريم الظهار

تحريم الظهار أما ما يتعلق بالأحكام الشرعية؛ فالحكم الأول: هل الظهار مشروع كالطلاق أم هو محرم؟ كان الظهار في الجاهلية طلاقاً، بل كان أشد أنواع الطلاق عندهم؛ لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التي تحرم على التأبيد، وجاء الإسلام فأبطل هذا الحكم، وجعل الظهار محرماً قربان المرأة حتى يكفر زوجها، ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتبرونه في الجاهلية. فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق كان ظهاراً، ولو طلق يريد به الظهار كان طلاقاً، والعبرة باللفظ لا بالنية؛ فلا يقوم أحدهما مقام الآخر. قال ابن القيم: وهذا لأن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فنسخ فلم يجز أن يعاد إلى الحكم المنسوخ، أي: أن يتلفظ بلفظ الظهار وهو يريد به الطلاق، وأيضاً إن نوى به الطلاق فعلى ما كان عليه، وأجري عليه حكم الظهار دون الطلاق، وأيضاً فإنه صريح في حكمه؛ فلم يجز جعله كناية في الحكم الذي قضاه الله بشرعه، وقضاء الله أحق، وحكم الله أوجب. وقد دلت الآية الكريمة: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، على أن الظهار حرام، بل قال فقهاء الشافعية إنه من الكبائر، فمن أقدم عليه اعتبر كاذباً معانداً للشرع. وقد اتفق العلماء على حرمته، فلا يجوز الإقدام عليه لأنه كذب وزور وبهتان؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4]. فالظهار محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وهو يختلف عن الطلاق؛ فالطلاق مشروع وهذا ممنوع، ولو أقدم الإنسان عليه فيكون قد ارتكب محرماً، ويجب عليه كفارة بالتفصيل الذي ذكرناه.

حرمة إتيان الزوجة قبل الكفارة

حرمة إتيان الزوجة قبل الكفارة ما الذي يترتب على الظهار من أحكام؟ إذا ظاهر الرجل من امرأته ترتب على ذلك أمور: فأول ما يترتب على الظهار: حرمة إتيان الزوجة حتى يكفر كفارة الظهار؛ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3]. أما الثاني فهو وجوب الكفارة بالعود؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3]. والعود له مبدأ وله منتهى، فمبدأ العود هو العزم على الوطء، ومنتهاه هو: الوطء بالفعل، فمن عزم على الوطء فقد عاد في النية فينطبق عليه قوله تعالى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا))، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء، ومن وطأ بالفعل تحتم في حقه اللزوم وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فبين أن العزم على الفعل عمل يؤخذ به الإنسان، فمثلاً من ذهب إلى المكان الذي فيه الخمر ليشتري الخمر فهو حريص وعازم لكن وجد المكان مغلقاً، فقد وصلت النية لمرحلة العزم والإصرار. والنبي عليه السلام قال: (إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالعزم مما يؤاخذ به الإنسان. وكما يحرم المسيس تحرم مقدماته. وهذا مذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة. وقال الثوري والشافعي في أحد القولين: إن المحرم هو الوطء فقط؛ لأن المسيس كناية عن الجماع. واستدل الجمهور بالعموم الوارد في قوله تعالى: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا))، فقالوا: إن هذا يعم جميع أوجه الاستمتاع. واستدلوا أيضاً بمقتضى التشبيه الذي هو سبب الحرمة في قوله: (كظهر أمي). كذلك استدلوا بأمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي ظاهر من زوجته بالاعتزال حتى يكفر، وفي الحديث: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به). أما الشافعي في أحد قوليه والثوري فقد استدلا على قصر الحكم على الوطء بأن الآية ذكرت المسيس، وهو كناية عن الوطء فيقتصر عليه، وأن الحرمة ليست هي معنى يخل بالنكاح، فأشبه الحيض الذي يحرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة. على أي الأحوال ربما يكون الأحوط هو الأخذ بمذهب الجمهور لما ذكرناه.

المراد بالعود في قوله: (ثم يعودون لما قالوا)

المراد بالعود في قوله: (ثم يعودون لما قالوا) اختلف الفقهاء -كما ذكرنا آنفاً- في المراد من العود في قوله تعالى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)). قال أبو حنيفة: العود: هو عبارة عن العزم على استباحة الوطء والملامسة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] المقصود: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وقال أيضاً: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98]، معناها: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، فكذلك قوله: ((ثم يعودون لما قالوا))، يعني: ثم يريدون أو يعزمون على أن يرجعوا إلى ما قالوا. وقال الشافعي: العود هو أن يمسكها بعد الظهار مع القدرة على الطلاق فلا يطلق، أي: يمسكها بعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه مع القدرة على الطلاق ومع ذلك لا يطلق، فالمعنى: والذين يظاهرون ثم يعزمون على الجماع مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا. وقال مالك وأحمد: العود: هو العزم على الوطء والإمساك. يعني: إمساك الزوجة معه. وقال أهل الظاهر فقال أبو الظاهر: العود أن يكرر لفظ الظهار مرة ثانية؛ فإن لم يكرر لم يقع الظهار. والآراء الثلاثة الأولى متقاربة في المعنى؛ لأن العودة إلى الإمساك، أو الوطء، أو إبقاؤها بعد الظهار بدون طلاق كلها تدل على معنى الندم، وإرادة المعاشرة للزوجه التي ظاهر منها، فاللام في (لما) بمعنى: إلى، أي: ثم يعودون إلى ما قالوا، والمعنى: يرجعون إلى تحليل ما حرموا على أنفسهم بالعزم على الوطء إلى آخر الأقوال فيها. وقال الفراء: معنى الآية: لا يرجعون عما قالوا، وفي نقض ما قالوا. وقال بعض العلماء: معنى قوله: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا)) أي: ثم يعودون لما قالوا إنه حرام عليهم، وهو الجماع، ونظيره قول الله تبارك وتعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:80]، من أنه يؤتى مالاً وولداً، عندما قال: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]. استدل أهل الظاهر: بأن العود معناه تكرار لفظ الظهار وإعادته، بقوله: ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا))؛ قالوا: فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد اللفظ، وظاهر مرة ثانية، لكن لا تلزم كفارة الظهار لأول مرة، وقالوا: الذي يعقل من قولهم: عاد إلى الفعل أنه فعله مرة ثانية، كما قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، فإذا لم يتكرر الظهار لا يقع التحريم. قال الزجاج راداً على أهل الظاهر: هذا قول من لا يدري اللغة، وقال أبو علي الفارسي: (ليس هو كما ادعوا؛ لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن عليه الإنسان قبل وقد سميت الآخرة معاداً ولم يكن فيها أحد، ثم عاد الناس إليها. قال الهذلي: وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى الحق شيئاً واستراح العواذل وقال ابن العربي راداً على الظاهرية أيضاً: ويشبه أن يكون هذا من جهالة داود وأشياعه، وهو باطل قطعاً؛ لأنه قد رويت قصص المظاهرين، وليس فيها ذكر لعود القول منهم، وأيضاً فإن المعنى ينقضه؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزوراً، فكيف يقال له: إذا أعدت القول المحرم، والسبب المحذور؛ وجبت عليك الكفارة! كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار، هل كرر زوجها لفظ الظهار أو لا؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال. فما قاله جمهور الفقهاء من أن المراد بالعود ليس تكرار اللفظ، وإنما هو معاشرتها والعزم على وطئها، هو الصحيح المعقول لغة وشرعاً؛ لأن المظاهر قد حرم على نفسه قربان الزوجة؛ فهو يريد أن ينقض ذلك ويعيدها إلى نفسه، فيلزمه التكفير بهذا العزم. وأما ما قاله أهل الظاهر فباطل لا يقوم عليه دليل، بل هو من آثار الفهم السقيم الذي تخبط بهؤلاء في كثير من الأحكام الشرعية، ويكفي لبطلانه حديث أوس بن الصامت؛ فإنه لم يكرر الظهار، وقد ألزمه النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة، وحديث سلمة بن صخر؛ فقد أمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة، مع أنه لم يكرر اللفظ وقد تقدم ذكرهما، وكفى بذلك حجة قاطعة، ولا رأي لأحد أمام قول المعصوم صلى الله عليه وسلم.

حكم ظهار غير المسلم

حكم ظهار غير المسلم هل يصح ظهار غير المسلم كالذمي والكتابي؟ ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن ظهار الذمي لا يقع؛ لأن الله تعالى يقول: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ} [المجادلة:2] وظاهر قوله: ((مِنْكُمْ)): أن غير المسلم لا يتناوله الحكم. وقالوا أيضاً: إن الذمي ليس من أهل الكفارة؛ لأن فيها إعتاق رقبة وصوماً، ولما كان الصوم عبادة لا تصح من غير المسلم فلا يصح ظهاره، فالظهار لا يكون إلا من الزوج العاقل البالغ المسلم. وقال الشافعي: كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه كذلك يقع ظهاره. وقالوا: يكفر بالإعتاق والإطعام ولا يكفر بالصوم؛ لأنه عبادة ولا تصح إلا من المسلم. قال الألوسي: والعجب من الإمام الشافعي عليه الرحمة أن يقول بصحته، مع أنه اشترط النية في الكفارة، والإيمان في الرقبة، والكافر لا يملك المؤمن. يعني: الشافعية تشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة، وهنا يجيز أن يكفر الذمي بتحرير رقبة، والكافر لا يملك المؤمن فكيف يجيز الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق هذه الرقبة للذمي. على أي الأحوال فإن مذهب الجمهور قوي. أما الاستدلال بمفهوم الصفة في قوله: ((مِنْكُمْ)) فليس بذاك؛ لأن الآية وردت مورد التهجين والتشنيع، لما مر أن الظهار لم يعرف إلا عند العرب، فليس فيها ما يدل عليه، والله تعالى أعلم.

حكم ظهار المرأة

حكم ظهار المرأة هل يقع ظهار المرأة؟ اتفق الفقهاء على أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها بقولها: أنت علي كظهر أمي فلا كفارة عليها، ولا يلزمها شيء، وكلامها لغو. قال ابن العربي: وهو صحيح في المعنى: بأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح من الرجال، ليس بيد النساء منه شيء.

ما يقع به الظهار من الألفاظ

ما يقع به الظهار من الألفاظ هل الظهار مختص بالأم؟ ذهب الجمهور إلى أن الظهار يختص بالأم كما ورد في القرآن الكريم وكما جاء في السنة المطهرة، فلو قال لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي كان مظاهراً، ولو قال لها: أنت عليَّ كظهر أختي أو بنتي لم يكن ذلك ظهاراً. وذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين: إلى أنه يقاس على الأم جميع المحارم، فالظهار عندهم تشبيه الرجل زوجته بإحدى المحرمات عليه على وجه التأبيد بالنسب أو الرضاع إذ العلة هي التحريم المؤبد. وأما من قال لامرأته: يا أختي أو يا أمي على سبيل الكرامة والتوقير فإنه لا يكون مظاهراً، ولكن يكره له ذلك، واستدل من كره ذلك بما رواه أبو داود عن أبي تميمة الهذلي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته: يا أخية! فكره ذلك ونهى عنه) وهذا الحديث مضطرب. ومما ورد أيضاً في بعض الروايات: (أن رجلاً قال لامرأته: يا أختي! فقال عليه الصلاة والسلام: أختك هي؟). وقد قال الخليل عليه السلام عن زوجته سارة: (إنها أختي) ثم قال لها: (إن هذا سألني عنك فأنبأته أنك أختي، وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك، وإنك أختي في كتاب الله، فلا تكذبيني عنده! وهذا متفق عليه، وهذا من التعظيم. لكن بعض العلماء قالوا: لو خاطب الرجل امرأته بقوله: يا أختي أو يا أمي صار مظاهراً إذا قصد الظهار، والحديث كما ذكرنا حديث ضعيف مرسل، ولو قلنا بصحته يكون فيه تنبيه بأن يجتنب الإنسان الألفاظ المتشابهة.

كفارة الظهار

كفارة الظهار كفارة الظهار واجبة على الترتيب بلا خلاف، ولابد فيها من النية سواء كانت عتقاً أو صياماً أو إطعاماً. وفي حالة الصيام لابد أن ينوي في الليل أن صيامه فريضة وأنه واجب عليه، كصيام رمضان. أما في عتق الرقبة فالنية تكون مع نفس فعل العتق أو قبله. كذلك في إطعام ستين مسكيناً تكون النية مع الفعل أو قبله؛ لأن النية تفرق بين أنواع الكفارات؛ ولأن النية أيضاً تفرق بين الفرض والنفل، فلذلك لابد لهذه الأفعال من النية. أول ما يجب في كفارة الظهار الإعتاق، وقد أطلقت الرقبة في الآية، فهل تجزئ أي رقبة ولو كانت كافرة؟ ذهب الحنفية إلى أنه يجزئ في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير ولو رضيعاً؛ لأن الاسم ينطبق على كل ذلك. وذهب الشافعية والمالكية إلى اشتراط الإيمان في الرقبة، فلا يصح عتق غير المؤمن حملاً للمطلق على المقيد في آية القتل في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] بجامع السبب في كل منهما، أي أن سبب هذا محرم وهو القتل الخطأ، وسبب الكفارة هنا محرم وهو الظهار. وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد إلا بحكم واحد في حادثة واحدة؛ لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوماً عقلياً، إذ الشيء نفسه لا يكون مطلوباً إدخاله في الوجوب مطلقاً ومقيداً، كالصوم في كفارة اليمين ورد مطلقاً ومقيداً بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها. أما الإمام أحمد ففي المسألة عنه روايتان على التفصيل الذي ذكرناه. فمن لم يستطع عتق رقبة ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين، ولابد أن يعتبر الشهر بالهلال، فلا فرق بين التام والناقص، فلو شرع في أول يوم من رجب وكان رجب تسعة وعشرين يوماً، وشعبان مثله، لم يعد ناقصاً؛ لأنه صام شهرين متتابعين، فيعتبر الشهر بالهلال وليس بعدد الأيام، فلا فرق بين التام والناقص. أما إن صام بغير الأهلة، كأن صام يوم خمسة عشر من شهر جماد الآخر، فلابد من ستين يوماً عند الحنفية، وعند الشافعية والمالكية يصوم إلى الهلال ثم يصوم شهراً بالهلال ثم يتم الأول بالعدد حتى يتم شهرين متتابعين، وبالمعنى الشرعي لا يجوز له أن يفطر فيهما، ولا أن يصوم فيهما عن غير الكفارة، فلو صام أثناء الشهرين تطوعاً أو قضاء أو عن نذر أو غير ذلك انقطع التتابع، فيعيد صيام شهرين متصلين. وكذلك لو أفطر لغير عذر يعيد الصوم من جديد. فإن تخلل صومهما صوم شهر رمضان، بأن بدأ صيام الشهرين في شعبان، ثم بدأ بصيام شهر رمضان، ففي هذه الحالة لا ينقطع التتابع لتعين رمضان للصوم الواجب فيه، أو تخلله فطر يجب كعيد وأيام التشريق لم ينقطع التتابع لتعين الفطر فيه؛ لأنه زمن منعه الشرع عن صومه. وإن أفطر لعذر يبيح الفطر كسفر لم ينقطع التتابع. هذا باختصار فيما يتعلق بصيام الشهرين متتابعين. والحالة الثالثة: إن عجز عن عتق رقبة وعن صيام شهرين؛ فيطعم ستين مسكيناً، فمن لم يستطع الصيام أو لم يستطع تتابعه لسبب من كبر أو فرط شهوة أو مرض لا يرجى زواله عادة بقول طبيب فعليه إطعام ستين مسكيناً.

حكم إخراج القيمة بدل الإطعام

حكم إخراج القيمة بدل الإطعام ولا تجزئ القيمة عند الحنابلة ومالك والشافعي بخلاف أصحاب الرأي. ودليل القول الأول قول الله: ((إطعام ستين مسكيناً)) وأوله أهل الرأي بأن المعنى: (فقيمة إطعام)، وهذا من التأويل الذي لا يقوم عليه دليل. قال أبو حيان: والظاهر مطلق الإطعام، وتخصصه ما كانت في العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يجزي من غير تحديد بمدّ. ولا يجزي عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكيناً. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه. وإن عجز عن الإطعام، فلم يقدر على أن يعتق رقبة، ولا استطاع أن يصوم شهرين متتابعين، ولا إطعام ستين مسكيناً، سقطت الكفارة. والعبرة بحالة وقت العود لا وقت المظاهرة؛ لأنه الوقت الذي تجب فيه الكفارة، فربما كان عندما ظاهر يستطيع الصيام؛ لكن طرأ عليه مرض يمنعه من الصيام حينما أراد العود، فالعبرة بحاله عند العود لا حالة المظاهرة.

حكم جماع المظاهر قبل التكفير

حكم جماع المظاهر قبل التكفير هل تتغلظ الكفارة بالمسيس قبل التكفير؟ قلنا: إن العود له مبدأ وله منتهى، فالأدنى هو العزم، فإذا عزم على العود وأراد أن يعود ففي هذه الحالة يجب عليه أن يكفر. وإذا ارتكب الحد الأقصى وهو أنه عاد بالفعل بالمسيس قبل أن يكفر؛ ففيه الآتي: ذهب أبو حنيفة إلى أن المظاهر إذا جامع زوجته قبل أن يكفر أثم وعصى الله، وتسقط عنه الكفارة لفوات وقتها. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه أثم وعصى ويستغفر ويتوب، ويمسك عن زوجته حتى يكفر كفارة واحدة. ومعنى: ((ثُمَّ يَعُودُونَ)) عند الإمام أحمد كما قلنا: يعود إلى الوطء أو إلى العزم عليه؛ فإن ظاهر وجامع قبل التكفير لزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر، ويلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير، فهذا الواضح في قوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا))؛ لأن الآية على هذا القول إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير، وأن وجوب التكفير قبل مسيس آخر، ففي هذه الحالة إذا حصل المسيس قبل التكفير فيجب عليه أن يتوقف عن هذا المسيس إلى أن يكفر. قال الجصاص: إن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء، ولا يرتفع التحريم إلا بالكفارة، فإذا لم يرد وطأها فلا كفارة عليه، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه، إذ كان حكم الظهار أيام التحريم مؤقتاً بأداء الكفارة، وأنه متى لم يكفر فالوطء محظور عليه، فإن وطئ سقط الظهار والكفارة، وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوقت لقوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا))، فمتى وقع المسيس فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة؛ لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط، فإنه متى فات الوقت وعدم الشرط لم يجب باللفظ الأول، واحتيج إلى دلالة أخرى في الإيجاب مثله في الوقت الثاني. فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (استغفر الله، ولا تعد حتى تكفر)، فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة، وهذا رواه ابن ماجة والنسائي والدارقطني والترمذي وأبو داود. والظاهر والله تعالى أعلم أن مذهب الجمهور هو الصحيح، وأنه يأثم بهذا الفعل، وأنه تجب عليه كفارة واحدة.

خلاصة ما ترشد إليه الآيات في الظهار

خلاصة ما ترشد إليه الآيات في الظهار خلاصة ما تشير إليه الآية: استجابة الله سبحانه وتعالى دعاء الشاكي الصادق إذا أخلص الدعاء. عدم جواز تشبيه الزوجة بمحرم من المحرمات على التأبيد. عدم جواز مس المرأة قبل أداء كفارة الظهار. الكفارة مرتبة ولا يصار إلى التالية قبل العجز عن التي قبلها. حدود الله يجب التزامها ولا يجوز تعديها. وأما عن حكمة التشريع في هذا الموضوع: فإن الإسلام شرع الزواج عقداً دائماً غير مؤقت لا يقطعه إلا هادم اللذات أو أبغض الحلال إلى الله. وبالزواج يحل للرجل كل شيء من زوجه في حدود ما أباحه الله تعالى له. فإذا جاء الإنسان يريد أن يغير ما أباحه الله له فيجعل الحلال حراماً فقد ارتكب كبيرة لا محالة وتجاوز بذلك الحدود التي شرعها الله له، فلهذا كان عقابه كبيراً، وكانت أولى أمور الكفارة ما فيه فائدة للمجتمع، ألا وهي تحرير رقاب العبيد، وهذه إحدى سبل تحريرهم، فإذا لم يستطع شراء العبد وعتقه فليصم شهرين متتابعين، والصوم مدرسة تهذب خلقه، وتربي نفسه، وتقوي ما اعوج من تربيته، هذا إذا كان صحيح الجسم موفور الصحة، وإلا فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالمريض الذي لا يستطيع الصوم ينتقل الواجب في حقه إلى المجتمع أيضاً؛ فيطعم ستين مسكيناً، وهكذا تنتقل خصال الكفارة بين فائدة المجتمع وفائدة الرجل نفسه.

المجادلة [5 - 13]

تفسير سورة المجادلة [5 - 13]

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله ورسوله) قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5]. ((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: في مخالفة حدوده وفرائضه، وأصله من المحادة بمعنى المعاداة؛ لأن كلاً من المتعاديين في حد غير حد الآخر، فالمحادة تعني المعاداة؛ لأن المعاداة تجعلهما ينفصلان، ويكون كل منهما في حد غير حد الآخر. ((كُبِتُوا))، أي: أخذوا، ((كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، يعني: من كفار الأمم الماضية، ((وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ))، أي: دلالات مفصلات وعلامات محكمات تدل على حقائق حدود الله عز وجل، ((وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ))، يعني: للكافرين منكري تلك الآيات وجاحديها عذاب مهين. وفسر بعض العلماء قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، بمعنى: يختارون حدوداً غير حدودهما، وينشئون شرائع وقوانين من عند أنفسهم ومن تلقائها مخالفة لما شرعه الله تبارك وتعالى. ففيه وعيد عظيم للملوك والحكام وأمراء السوء الذين وضعوا أموراً خلاف ما حده الشرع وسموا ذلك قانوناً. يقول الإمام القاسمي رحمه الله تعالى: وقد صنف العارف بالله تعالى الشيخ بهاء الدين قدس الله روحه رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما. أي: في سياق المساواة بين القانون والشرع، وبيَّن أدلة تكفير من يسوي بين شرع الله عز وجل وشرع من عداه من المخلوقين، فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. وقوله: لأن الدين وفقاً لهذه الآية وصل إلى مرتبة من الكمال لا تقبل التكميل. يعني: لا يمكن أبداً الزيادة عليه، ولا يمكن أن يوجد فيه نقصان بحيث يجبر باختراع أو ابتداع قوانين ما أنزل الله سبحانه وتعالى بها من سلطان. ومما يجري على ألسنة الناس اليوم للأسف الشديد الحديث عن المساواة بين القانون والشرع، أو بين القانونيين وغير المنقادين لشرع الله وبين الشرع، فيقال: الشرع والقانون يحكمان بكذا وكذا، على سبيل المقابلة بينهما والاحتجاج بهما على حد سواء. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر. وهنا يعقب على ما نقله عن الشيخ بهاء الدين في قوله: بكفر من يقول يعمل بالقانون والشرع، يعني: إذا قابل بينهما، فيشير القاسمي رحمه الله تعالى إلى وجوب الاحتياط في مثل هذه العبارة، فيقول: ولا يخفى أن إطلاق الكفر لمجرد ذلك من غير تفصيل فيه نظر. أي: لابد أن يستفصل عن حال قائل هذه الكلمة ماذا يقصد بها؟ وما السياق الذي وردت فيه؟ يقول: لأنه من تنطع الغالين من الفقهاء الذين زيف أقوالهم في التكفير كثير من العلماء النحارير، فإن التكفير ليس بالأمر اليسير. والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها كفر وضلال. مثلاً من يصدر قانوناً بمساواة الرجل بالمرأة في ميراثها، هذا لا يحتمل التأويل؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، مع العلم بأن هناك حالات تتساوى فيها المرأة مع الرجل، وهناك حالات يفوق فيها نصيب المرأة نصيب الرجل، لكن القاعدة والأساس: أن للذكر مثل حظ الأنثيين. فمن أبطل هذه الشريعة كما حصل في الصومال من سياد بري الملحد المارق فهذا بلا شك كفر وردة وخروج عن دين الإسلام؛ لأنه محادة لشرع لله عز وجل الواضح البين الذي لا يحتمل التأويل، والله تعالى أعلم. ولعلكم تذكرون أنه لما حصل ذلك فإن العلماء جزاهم الله خيراً قاموا ضد هذا الملحد المارق وأنكروا عليه هذا الخروج من الدين، فجمع العلماء وأحرقهم في الميادين العامة وهم أحياء، ولعل ما وقع في الصومال من العبر التي هي ممتدة إلى اليوم من الانشقاق والحروب والدمار والمجاعات؛ لعله من شؤم هذا الموقف، ومن شؤم هذه السياسة الظالمة الضالة! ولا يبعد أن يكون ذلك من شؤم هذه المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومثله أيضاً: القانون الذي صدر في تونس يحرم تعدد الزوجات، في حين أنه يبيح تعدد الخليلات، فهذا القانون حرم تعدد الزوجات مع أن هذا حلال في كتاب الله تبارك وتعالى. فوقعت قضية لرجل تزوج امرأتين فدافع عنه محاميه بأن هذه الثانية خليلة ومعشوقة له وليست زوجة، فحينئذٍ لم يعاقب؛ لكن لو كانت زوجة فإنه يعاقب طبقاً لهذه القوانين، فكذلك أمثال هذه القوانين الصارخة في مصادمتها لشرع الله تبارك وتعالى، والتي تهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل وتفسدها وتمسحها، فهذا بلا شك كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون؛ فمن زعم أن القوانين أفضل من الشرع فهذا كافر كفراً أكبر لا خلاف فيه، ومن زعم أن القوانين الوضعية تحقق العدل بين الناس أكثر من الشرع فهذا لا شك في كفره، ومن ساوى بين الشرع الإسلامي وبين ما خالفه من القوانين الوضعية، فهذا أيضاً لا شك في كفره. أما من حكم بغير شرع الله تبارك وتعالى في بعض المسائل، كمن اتبع الهوى، بمعنى أنه يرفع راية الشريعة؛ لكنه خالف شرع الله بسبب رشوة أو لمحسوبية أو لغير ذلك من المعاني، فهذا يطلق عليه كفر, ولكنه كفر دون كفر؛ لأن هذا كفر عملي وليس كفراً اعتقادياً، يعني: هو يعتقد وجوب تحكيم شرع الله, ويرفع راية الشريعة, وتحكيم شرع الله، ثم هو في بعض المسائل يحكم بما يخالف شرع الله لهوى أو لرشوة أو لمحسوبية أو نحو ذلك، فهذه معصية، وهذا هو الذي روي فيه عن بعض السلف أنه كفر دون كفر، وليس الكفر الذي يذهبون إليه، على تفصيل في المسألة. يقول: والحق في ذلك أن القانون الذي يهدم نصوص الشرع التي لا تحتمل التأويل ويفسدها وينسخها؛ فإنه كفر وضلال لا يقول به ولا يعول عليه إلا المارقون الجاحدون. أما غير المنصوص عليه، أعني: ما لم يأتِ فيه آيات محكمة أو خبر متواتر أو إجماع، والمسائل الاجتهادية المدونة؛ فمخالفتها إلى قانون عادل لا يعد ضلالاً ولا كفراً. فهو يبين هنا الأشياء التي قد تنسب إلى الشرع وهي ليست من الشرع، كاجتهادات بعض الفقهاء، وهي اجتهادات قد تكون مرجوحة. فالعدول عن الاجتهاد المرجوح الذي لا يؤيده الدليل إلى قاعدة عدلية تتواءم مع قواعد الشرع في مراعاة العدل والإنصاف بين الناس ليس فيه مخالفة للشرع؛ لأن الشرع الذي نتكلم عنه هو الشرع الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأحكم الأمر فيه، وبين بياناً رفع كل لبس، وليس الشرع ما تخالف فيه الفقهاء، وكان مأخذه من الاجتهاد والرأي؛ فإن ذلك لا عصمة فيه من الخطأ بلغ رائيه من المكانة ما بلغ. وكثيراً ما تتشابه فروع الفقهاء مع مواد القانون، ولذا ألف بعض المتأخرين كتاباً في مطابقة المواد النظامية للفروع الفقهية؛ لأن مورد الجميع واحد وهو الرأي والاجتهاد، ورعاية المصلحة. فأيضاً لابد أن ننتبه إلى أن هناك قوانين لا بأس بالعمل بها، وهي القوانين التي تصطبغ بالصبغة الإدارية، أي القوانين واللوائح التي تنظم أحوال الناس من الناحية الإدارية، فهذه ليست داخلة في القانون الذي يذم العمل به، فإن هناك فرقاً بين الأحكام والحدود الشرعية وبين القوانين الإدارية، فإن القوانين الإدارية غالباً ما تدور مع مقاصد الشريعة في رعاية المصالح ودفع المفاسد، وتنظيم أمور العمل ونحو ذلك، فهذه لا تدخل فيما نحن بصدده. ولـ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة في هذا المعنى وهي: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. ولتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتاباً في نفس الموضوع، لكنه أوسع وأجمع وهو: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، أو يسمى أيضاً: الفراسة المرضية في السياسة الشرعية.

تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعا)

تفسير قوله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً) يقول الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]. قوله تعالى: ((أَحْصَاهُ اللَّهُ))، أي: أحاط به علماً ولم يذهب عنه شيء، ((وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، أي: رقيب يعلمه ولا يغيب عنه. وهذه الآية مما ينبغي أن يتدبرها كل مؤمن؛ لأن الإنسان يأتي الذنوب والمعاصي، ثم مع تطاول الأمل ينسى، ولكن الله سبحانه وتعالى لا ينسى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، فإن الذنوب ينساها الإنسان وهي قد دونت في صحيفته، وسوف يذكر بها يوم القيامة حينما يقول الله سبحانه وتعالى له: أتذكر يوم كذا؟ أتذكر يوم كذا؟ ويقرره بذنوبه، وهذا يقع حتى مع المؤمن، إلا أن من نوقش الحساب عذب، فأما العبد المؤمن فإن الله سبحانه وتعالى يقرره بذنوبه كلها، ويذكره بما نسي منها، حتى إذا أُسقط في يده، وظن أنه هالك لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى: (فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم)، لكن متى ما نوقش الإنسان في الحساب فهذه أمارة على أنه سوف يعذب. ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، والحساب اليسير هو عرض الأعمال عليه فقط. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق:10 - 11]، يعني: يقول: وا ثبوراه! وا هلاكاه! {وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق:12 - 14]. وقوله تعالى هنا: ((أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))، هذه تقدمة للإخبار بسعة علم الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه الآية تمهيد لما يأتي بعدها من النهي عن النجوى بالإثم تحذيراً وتنفيراً، وقد أكد ذلك بتفصيل علمه عناية بالمنهي عنه والمحذر منه.

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات) قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]. ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى))، النجوى هنا مصدر معناه: التحدث سراً، مأخوذة من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ لأن السر يصان عن الغير، فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء. وقيل: بل سميت النجوى بهذا؛ لأن المتسارين يخلوان بنجوة من الأرض، أو هو من النجاة. وتخصيص العددين: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ)) إلى آخره، إما لخصوص الواقعة، فكان قوم من المنافقين على هذا العدد اجتمعوا مغايظة للمؤمنين، أو لأن التناجي للمشاورة وأقله ثلاثة، يعني: أن أقل ما تقع به مشورة ثلاثة؛ لأن التشاور لابد له من اثنين يكونان كالمتنازعين، وثالث يرجح إحدى الكفتين. ومناسبة ضم الخمسة للثلاثة كون الخمسة أول مراتب ما فوقها في اليسرية، فذكرا ليشار بهما للأقل والأكثر، على أنه عمم الحكم بعد ذلك فقال: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ))، كالاثنين، ((وَلا أَكْثَرَ))، كالستة وما فوقها، ((إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا))، أي: يعلم ما يكون بينهم في أي مكان حلُّوا؛ لأن علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة. يعني: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يكون بينهم من المناجاة في أي مكان؛ لأن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء ليس نتيجة قرب مكاني، فالمخلوق إذا علم شيئاً عن مخلوق، أو علم ما يتكلم به مخلوق آخر، فيكون بسبب قربه منه في المكان، لكنه يغيب عن الأماكن الأخرى، أما الله سبحانه وتعالى فعلمه ليس ناشئاً عن قرب مكاني حتى يتفاوت هذا العلم باختلاف الأمكنة وتفاوتها، وإنما الله سبحانه وتعالى معهم بعلمه في كل مكان وحيث ما حلو. روى ابن جرير، عن الضحاك في هذه الآية قال: هو فوق العرش وعلمه معهم أينما كانوا. وقال ابن كثير: حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك. ولا شك أن هذا هو التفسير الصحيح للآية، ولا يمكن أبداً أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى بذاته موجود مع المخلوقين، ولذا أجمع السلف على أن الله سبحانه وتعالى عالٍ على عرشه، بائن من خلقه، منفصل عن هذا العالم، ولا يحل فيه كما قال الضالون في ذلك. وقال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. افتتح الآية بالعلم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، ثم ختمها بالعلم: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، ليلفت نظرنا إلى أن المعية المذكورة هنا إنما هي بالعلم: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى) يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8]. قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى))، قال مجاهد: هم اليهود لعنهم الله، ((ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ))، أي: يتناجون فيما بينهم ويتسارون بما هو إثم وتعد على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو السعود: وذكره صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين إليه لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم. ثم قال تعالى: ((وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ))؛ لأنهم كانوا يلحنون حينما يحيون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإما أنهم كانوا يحيونه بمثل قولهم: السام عليك، يريدون به الموت السام عليك، وكأنهم يدعون على النبي عليه الصلاة والسلام بأن يموت، ولذلك غضبت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما قال رجل يهودي ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: وعليك السام واللعنة، في حين أن الرسول عليه الصلاة والسلام رد عليه وقال: (وعليك)، فبين النبي عليه الصلاة والسلام لـ عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه رد عليه مثل ما قال، لكن أرشدها إلى الترفق في الخطاب، وفي تأويل ذلك كما قلنا: وعليك مثلما قلت، أو: والسام عليك، يعني: الموت مكتوب علينا جميعاً، وكل مخلوق سوف يموت. ومن ذلك تحيته صلى الله عليه وسلم بما نسخه الإسلام من تحايا الجاهلية، فالله سبحانه وتعالى حيَّا نبيه عليه الصلاة والسلام بالسلام في قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181]، فهذا هو الذي يليق أن يحيا به نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم. أما هم فإنهم كانوا يحيونه بهذه اللفظة، وإما أنهم كانوا يحيونه بشيء من تحايا الجاهلية التي نسخها الإسلام. يذكر بعض العلماء أن تحية أهل الكتاب إذا ألقوا السلام أن يقال لهم: وعليكم. وللأسف الشديد أن من المسلمين الآن من يقول: السام عليكم؛ فيسقط اللام بغير قصد، ولا يلتفت إلى خطورة هذه اللفظة، وأنه تشبه باليهود فيها، لكن حقيقة السلام: السلام عليكم، حتى قال بعض العلماء: إن العلة في الرد المقتضب على أهل الكتاب إذا حيونا بأن نقول لهم: وعليكم؛ خشية أن يكونوا يلحنون في السلام. قال بعض العلماء: أما إذا تحققت وتثبت من أن الكتابي لم يلحن وقالها صحيحة صريحة فلا بأس أن ترد عليه السلام بنفس اللفظ الذي قاله، أخذاً بعموم قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]. ((وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ))، يعني: كأنهم يقولون في أنفسهم: ها نحن نسخر من النبي صلى الله عليه وسلم، وها نحن نؤذيه بقولنا: السام عليك، أو بالتحريف في التحية استهزاءً وسخرية، وأيضاً بالتناجي المذموم فيما بيننا مكيدةً للنبي عليه الصلاة والسلام، فلو كان محمد هو عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهلا عجل الله عقوبتنا بذلك. فرد الله سبحانه وتعالى عليهم قائلاً: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، يعني: يكفي قائلي ذلك تعذيبهم في جهنم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم) نهى الله تبارك وتعالى المؤمنين وحذرهم أن يجترموا في النجوى ما اجترمه أولئك، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة:9 - 10]. ((وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ))، أي: بطاعة الله وما يقربكم منه عز وجل، ((وَالتَّقْوَى))، أي: في اجتناب ما يأثم، ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))، يعني: سيجزيكم بما اكتسبتم مما أحصاه عليكم. ثم شجع الله سبحانه وتعالى المؤمنين على قلة المبالاة بمناجاة أعدائهم، وأرشدهم إلى ألا يبالوا بمناجاة أعدائهم، وبين لهم أنها لا تضرهم ما داموا على وصاياه، متكلين عليه تبارك وتعالى، فقال عز وجل: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، أي: النجوى التي ذمها الله سبحانه وتعالى؛ و (أل) هنا للعهد، لأن هناك من النجوى ما هو خير، كما قال عز وجل: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. إذاً: النجوى يمكن أن يتناجى أناس بكلام فيه بر وتقوى وخير، لكن قوله تبارك وتعالى هنا: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ}، هذه (أل) العهدية، والمراد بها النجوى التي سبق ذمها، وليست كل نجوى. وهي كقول الله تبارك وتعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:16] الرسول (أل) في (الرسول) للعهد؛ لأن الرسول المقصود به هنا موسى عليه السلام. ومثل قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فالرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن، كذلك هنا: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي: التي ذمها الله، والمزين لهذه النجوى بالسر والحامل عليها هو الشيطان. {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} المقصود هنا: إما الشيطان وإما التناجي المذكور، يعني: وليس الشيطان بضارهم شيئاً، أو: وليس التناجي الذي يحصل بأمر من الشيطان بضارهم شيئاً، ((إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))، أي: بمشيئته عز وجل. {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، يعني: بالمضي في سبيله، والاستقامة على أمره، وانتظار النصر على إثره. قال القاشاني: إنما نهوا عن النجوى لأن التناجي اتصال واتحاد بين اثنين في أمر يختص بهما لا يشاركهما فيه ثالث، وللنفوس عند الاجتماع والاتصال تعاضد وتظاهر يتقوى ويتأيد بعضها ببعض فيما هو سبب الاجتماع، لخاصية الهيئة الاجتماعية التي لا توجد في الأفراد، فإذا كانت شريرة -مجموعة من الناس غلب عليها الشر أو هي من الأشرار- فإنهم يتناجون في السر، ثم اجتماعهم يزيد ملكة الشر عندهم. ويقوى فيهم المعنى الذي يتناجون به بالاتصال والاجتماع، ولهذا ورد هذا النهي بعد قوله: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، بالإثم الذي هو رذيلة القوى البهيمية، والعدوان الذي هو رذيلة القوى الغضبية، {وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}، التي هي القوة النطقية بالجهل وغلبة الشيطانة. ألا ترى كيف نهى المؤمنين بعد هذه الآية عن التناجي بهذه الرذائل المذكورة وأمرهم بالتناجي بالخيرات؛ لأن هذا يقوي المؤمنين ويؤزهم أزاًً على المزيد من المناجاة بالبر والتقوى، فقال: ((وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى)). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك إيذاء لمؤمن، فقد روى الإمام أحمد بسنده، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا الحديث متفق عليه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)، وهذا انفرد بإخراجه مسلم. وجمهور العلماء على مراعاة الأخذ بهذا الشرط الذي أشار إليه ابن كثير؛ حيث ورد في السنة النهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على المؤمن. قالوا: إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزن هذا الثالث، فجمهور العلماء على تأويل الحديث بأنه: إذا تأكدتم أن ذلك لا يحزنه فلكما أن تتناجيا دونه. وأخذ بعض العلماء بظاهره: أن تناجي الاثنين دون الثالث يحزنه، فبالتالي يحمل الحديث على ظاهره ولا داعي لهذا الشرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يحزنه، إذاً هو يحزنه حتى لو ظن ظان أنه لا يحزنه. فالأحوط والله تعالى أعلم الأخذ بظاهر الحديث، فلا يتناجى الإنسان مع أخيه إلا إذا كان العدد أكثر من ثلاثة؛ ففي هذه الحالة يخرج من مخالفة الحديث، فلو كانوا أربعة مثلاً لم ينه من أن يتناجى اثنان دون الاثنين الآخرين. ومما في معنى هذا الحديث: أن يتكلم الاثنان بصوت عال لكن بلغة لا يفهمها الثالث، فهذا أيضاً في معنى المناجاة؛ نعم هي ليست منجاة لأنها ليست في السر؛ لكنها تؤدي إلى نفس الشيء، لأنه ربما يظن أنهما يدبران له سوءاً، أو يذكرانه بسوء في كلام لا يفهمه، وتوجد حالات مستثناة يمكن استنباطها.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا) يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11]. هذا تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس، وأدب المجالس باب مستقل من أبواب الأدب، صنف العلماء فيه كتباً مستقلة، وهو موضوع طويل لكن نمر عليه مروراً سريعاً ضمن تفسير الآية. فهنا يعلم الله سبحانه وتعالى المؤمنين ويؤدبهم على الإحسان في أدب المجالس. ومن هذه الآداب: أن يفسح المرء لأخيه ويتنحى توسعة له. وارتباط هذه الآية الكريمة بما قبلها ظاهر؛ لأنه في الآية الماضية نهى عن التناجي والسرار، فلما نهى عن التناجي والسرار علم معه الجلوس مع الملأ، فذكر آدابه. يعني: أن التناجي لا يكون إلا في مجلس، فذكر آداب هذا المجلس، ورتب على امتثالهم فسحه لهم فيما يريدون من التفسح في المكان والرزق والصدر، فتأمل الفعل وتأمل المكافأة! أما الإفساح فهذا شيء نشعر به من بركات مجالس المسلمين واجتماعهم وتزاحمهم في مجالس الرحمة والذكر، ونلاحظ أن الناس إذا ضيقت على أنفسها وبخلت تضيق عليها الأمور، وربما يريد شخص أن يدخل في الصف فإذا أخذ الناس الأمر بسهولة تجد أن الفسحة تحصل في الصف وذلك من بركة الإسلام وبركة الصلاة وبركة امتثال هذا الأمر، وإذا أتى رجل وحاول أن يدخل في الصف فقد يأتي ثان وثالث مع أن الناس كانوا يتصورون أن أول واحد هذا لن يكفيه المكان، فتجد أن البركة تحصل. قال ابن كثير: وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، ولهذا أشباه كثيرة، وقد جمع أحد إخواننا الأفاضل الدكتور سيد حسين وأحفاده قاعدة: الجزاء من جنس العمل في كتاب كبير حافل بهذه الأشباه التي يشير إليها الإمام ابن كثير هنا. قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا)). ((وإِذَا قِيلَ انشُزُوا)) أي: انهضوا، يعني أن التوسعة لن تتم إلا إذا قام البعض أو ارتفعوا في المجالس. أو: انهضوا عن مجلس الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أمرتم بالنهوض عنه، ولا تملوه بالارتكاز فيه. يعني: إذا أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم أن تنهضوا عنه وتنصرفوا فانصرفوا، ولا تملوه بالارتكاز في المكان وعدم الحركة. ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))، أي: يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، والعالمين بها الجارين على موجبها بمقتضى علمهم، درجات دنيوية وأخروية. قال الناصر: لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء؛ ليدخل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعاً لله تبارك وتعالى. نلاحظ هنا أن الأمر والتكليف شمل المؤمنين جميعاً: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، ولكنه عند ذكر الجزاء فصّل فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))؛ لأن أهل العلم في الغالب يصدرون في المجالس وترفع مجالسهم؛ فخصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما خصوا به من الرفعة في المجالس؛ تواضعاً لله تبارك وتعالى. وهذا كما قال الشهاب: من مغيبات القرآن، لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس ومحبة التصدير، يعني: كأن هناك بعض من ينتسب إلى العلم ينشغل كثيراً بموضوع الرفعة في المجالس، وأن يكون له الصدارة فيها، ويحب الظهور على مقعد أو في مكان مميز، وهذا لم يكن معروفاً في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وفي كلام الزمخشري ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام تعظيماً له بعدّه كأنه جنس آخر. يعني أن قوله: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، يعني: ما عدا أهل العلم، أما أهل العلم فهم فئة مستقلة. قول الزمخشري: إن هذا من باب عطف الخاص على العام، بمعنى أن قوله تعالى: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، هذا عام فيشمل في ضمن ما يشمل أهل العلم، ثم خص من هذا العموم أهل العلم بقوله: ((وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ))، فهذا كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فهذا تخصيص بعد تعميم؛ لأن جبريل وميكال من الملائكة، ولذا أعاد الموصول في النظم فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ))، ولم يقل: (يرفع الله الذين آمنوا منكم وأوتوا العلم) وإنما كرر (الذين)، فقال: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)). والمراد بالعلم: علم ما لابد منه من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. وفي الآية استحباب التفسح في مجالس العلم والذكر وكل مجلس طاعة. ومن آداب المساجد أن يفسح الإنسان لأخيه، خاصة عند الزحام في بعض التجمعات مثل صلاة العيد والجمعة ودروس العلم، فينبغي أن يحرص المسلمون على التفسح في المجالس والتسامح في هذا الأمر. ويفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا)، رواه الإمام أحمد والشيخان. وهذا التعبير من القاسمي رحمه الله تعالى دقيق: إذ إنه يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن ضد ذلك، فمن جلس في مجلس فيه زحام وقال للناس: تفسحوا، فليس معنى تفسحوا قوموا، بل: كونوا جالسين ولكن كل واحد يفسح لكي يجد الآتي مكاناً فيجلس فيه، وإلا لو كان يجوز للشخص القادم أن يقيم واحداً ويجلس مكانه لما أمروا بالتفسح. فإذاً يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه، فهذا ممنوع شرعاً، خاصة في المكان العامر لجميع المسلمين، كالمساجد أو غيرها من الأماكن العامة. لكن لو كان في بيته وسلطانه، وله مكان خاص فلا يجوز لأحد أن يجلس فيه؛ لأن هذا خاص وفي ملكه، وقال النبي عليه السلام: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، فالإنسان إذا دخل عند شخص ضيفاً لا يتحرى مكان الصدارة أو المكان الخاص بصاحب البيت، مثل كرسي المكتب الخاص به، أو مقعد معين له صدارة معينة، بل يترك هذا لصاحب البيت، فإن أذن له فلا بأس. وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم)، رواه الإمام أحمد. وفي رواية بلفظ: (لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه، لكن افسحوا يفسح الله لكم)؛ وهذا الكلام يقودنا إلى موضوع آخر من الموضوعات المتعلقة بآداب المجالس، وهو: حكم القيام للشخص القادم.

حكم القيام للقادم

حكم القيام للقادم يقول ابن كثير: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث: (قوموا إلى سيدكم)، رواه البخاري. ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار). ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل له قصة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريظة، فلما رآه مقبلاً قال للمسلمين: (قوموا إلى سيدكم)، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، والله تعالى أعلم، فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن: (أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك). أما القول بمنع القيام للقادم فهو مستنبط من حديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، والحكم الذي نستنبطه من هذا الحديث: تحريم محبة الوارد -القادم- أن يقوم الناس له. وفي هذا دلالة واضحة وصريحة على تحريم حب القادم أن يتمثل له الرجال قياماً، وهذا الأمر في غاية الخطورة. أما قيام الناس للقادم فهذه فيها الخلاف الذي سنذكره، وبالتالي هذا فيه إنذار خطير جداً للرؤساء والوجهاء والمدراء والنظار والمدرسون إلى آخره إذا وقع في قلبه محبة أن يقوم الناس له، بل ربما شعر أنهم هدموا حقه، وأنهم أساءوا إليه، وأنهم لا يحترمونه؛ لأنهم لم يهبوا قياماً إذ رأوه قادماً. هذا أولاً. ثانياً: الاستدلال بها في حق الجالسين. وفيه التفصيل الآتي: نأخذ بمفهوم الحديث، أو بتعبير أدق: استدلالاً بقاعدة سد الذرائع، نستنبط منها أنه يكره للجالسين القيام للوارد إذا أقبل عليهم إلا في حالات مستثناة، لماذا قلنا: يكره؟ لأن الدليل هنا لا يتعرض لذلك مباشرة، وإنما يكره؛ لأنه قد يكون في تعويده القيام له كلما دخل زرع لمحبة ذلك في قلبه، فإذا توقفوا عن بذل ذلك مرة من المرات سوف يبغض ذلك ويكرهه، ويرى أنهم لم يحترموه، فبالتالي يقع في الوعيد المذكور في هذا الحديث. أما من أجاز ذلك؛ فقد استدل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم). في الحقيقة هذا الحديث كثير من الناس يستدلون به؛ لأن لفظه يدل على التعظيم، لكن يرد عليهم بقوله: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، وذلك لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه كان مجروحاً، وقد استشهد رحمه الله تعالى من أثر تلك الجراح، وكان قد أتى على دابة، فلما رآه النبي عليه السلام مقبلاً وهو مجروح قال: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه)، فهذا القيام كان لأجل إنزاله؛ لأنه كان جريحاً، فأيضاً هذا مما يرد به على من جوز القيام للقادم. وجاء أيضاً في السنن: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له؛ لما يعلمون من كراهته صلى الله عليه وسلم لذلك، فهذه أقوى حجة بعيداً عن الأحكام الفقهية الدقيقة، لكن يكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يكره ذلك، وأن الصحابة مع أنهم أشد الناس تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك كانوا يتحاشون هذا.

حكم المجازفة في المديح

حكم المجازفة في المديح بمناسبة الكلام على هذا الأمر يحصل أحياناً نوع من الترخص أو التجافي من الإخوة في مخالفة بعض الآداب الشرعية في عامة المناسبات الاجتماعية، وخاصة في حفلات الزواج وما شابهها، نجد الإخوة يسنون سنة سيئة جداً وسنة قبيحة، وهي سنة المجازفة في المدح؛ لأننا بهذا المدح نعود إخواننا على هذه الأساليب التي لا تليق بالمسلمين، وإنما هي نفخ في الأشخاص ومجازفة، فلماذا نكذب؟ والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن مثل هذا المدح حيث قال: (إياكم والتمادح فإنه الذبح)، وقال النبي عليه الصلاة السلام: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، فهذا هو اللائق مع من يجادلون في المدح، ولو أن الناس الذين يجادلون في المدح التفتوا لهذا الحديث لكان خيراً لهم. ولو أن أحد المادحين حثي بالتراب لكانت موعظة عملية تجعلهم يكفون عن هذا الأمر، وأحياناً الواحد كلما حضر مناسبة لبعض الإخوة يجدهم يتكلمون مع بعض الشيوخ بكلام غريب جداً، هل كل من يتكلم يبدأ بالمديح في كل مناسبة، ينبغي أن نتنزه عن مثل هذا السلوك، وليس هذا من سلوك السلف، وعلينا أن نتذكر قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49]. فمن كان من عباد الله باراً وتقياً وصالحاً لم ينقصه الله حقه، بل يضمن من عمل أعمالاً صالحة أنها عند الله سبحانه وتعالى، فعلينا أن نعد السيئات ولا ننشغل بالمجازفة في المديح حتى يشيع الدجل والنفاق كما يشيع في الأوساط السياسية، فعلينا أن ننزجر وأن نكف عن المجازفة في المديح؛ لأن ذلك يكون فتنة، فنرجو من الإخوة أن يلتفتوا لهذا الأمر. فمن لقي عالماً أو رجلاً صالحاً أو شيخاً مسناً فقبل رأسه أو يده خاصة الوالدين، فلا بأس، لكن لا تستبدل هذه التحية بتحية وأدب الإسلام في المصافحة وإلقاء السلام؛ نعم هي رخصة لكننا نبالغ في الرخص ونضاعفها؛ فهذا أيضاً مما يخالف هدي السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

حكم المعانقة عند اللقاء

حكم المعانقة عند اللقاء يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث: (قوموا إلى سيدكم). ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار). ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر. وهذا عليه دليل صحيح، وهو قول بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أرأيت إذا لقي أحدنا صاحبه أيلتزمه ويعانقه؟ قال: لا. قال: أينحني له؟ قال: لا. قال: يصافحه؟ قال: نعم)، فهذا هو الأدب. وفي الأثر: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا تلاقوا صافح بعضهم بعضاً، وإذا قدموا من سفر تعانقوا، فالمعانقة تكون عند القدوم من السفر، أما عند الملاقاة العادية فالأصل هو المصافحة. فموضوع المعانقة عند كل لقاء مخالف لأدب السلف ولهدي النبي عليه الصلاة والسلام في تأديبه أصحابه، فإذا كنا نحن ننكرها على النساء مع أنها من العادات المتأصلة في مجتمعات النساء؛ لكن الواقع أن المصافحة أدب لكل المسلمين رجالاً ونساء. أما المعانقة والالتزام فيمكن عند القدوم من سفر، أو كما قال العلماء: إذا غاب عنه مدة طويلة واشتاق إلى أخيه، لكن أن تكون ديدناً وعادةً وشيئاً يستبدل عن الأدب الشرعي الذي هو مجرد المصافحة، فهذا مخالف لآداب السلف رحمهم الله تعالى.

تفصيل ابن كثير في حكم القيام للقادم

تفصيل ابن كثير في حكم القيام للقادم وبعضهم قال: يجوز للحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد بن معاذ، وسبق الجواب عن الاستدلال بها، والعلماء الذين أجازوا ذلك قالوا: القيام له مما يجعل له هيبة وسطوة؛ بحيث يستجيب الناس لحكمه وينقادون له. يقول: فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار الأعاجم. ولذلك فإن المجتمعات الإسلامية يتشبهون دائماً بالكفار ويعظمون هذا الأدب، فإذا دخل شخص فالكل يقوم ويصفق. وعلى قول بعض العلماء: يمكن أن يكون تقبيل اليدين والرأس مثلاً للوالدين كنوع من البر والإكرام، وأنا أعرف رجل أعمال كان ناجحاً جداً رحمه الله تعالى، فكان يحكي لي أن أباه كان يحب أن يقبل يده، فيمد له يده ليقبلها، فعندما ينتهي يقول له: قم وستفلح، وبالفعل قد أفلح هذا الرجل جداً، فالشاهد أن هذا يجوز إذا كان مما يرضي الوالدين، فيدخل تحت قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: لم يكن من عادة السلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كما يفعله كثير من الناس. بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك، ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام لـ عكرمة، وقال للأنصار لما أتى سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)، وكان سعد متمرضاً بالمدينة، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقي المدينة. والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، ولا يعقل أن يكون هناك خير حجبه الله عن خير القرون ثم نستأثر نحن بهذا الخير؛ لأن شعارنا الذي نرفعه ونتشدق به ونفخر به: أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أي أمر يرد علينا فنحن نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه، ولا نقول كما قال الكفار: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، وحينها فلا يعقل أن يختصنا الله بخير يحجبه ويحرم منه أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وخير القرون. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق وهدي خير القرون إلى ما هو دونه. وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ فهي في الحقيقة مسئولية الرئيس أو الزعيم أو المدير أو المدرس؛ إذ هو الذي ينبغي أن يعلن هذا الأمر عند الناس ويؤدبهم عليه، فيقول لهم: إذا دخلت فلا تقوموا؛ لأني أكره ذلك، ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كان أحب إنسان إلى الصحابة ومع ذلك كانوا يطيعونه في عدم القيام؛ لأنهم يعرفون أنه يكره ذلك، ويبين لهم أن لنا في ذلك أسوة حسنة إلى آخره. نعم قد توجد الآن حالات من الاضطراب يحتاج معها بعض المدرسين والمدراء وفي بعض المرافق إلى استخدام القيام، وهذا موضوع آخر يدخل في باب الفتوى، وكل سؤال له جواب خاص به، لكننا نتكلم عن القاعدة العامة. يقول: وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له، ولا يقوم لهم إلا في اللقاء المعتاد. الكلام هنا في موطن يكون والناس فيه جلوس، ثم يدخل عليهم واحد فيقومون له، فهذا هو محور كلامنا الآن، لكن في اللقاء المعتاد هذا أمر آخر. فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن. وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك إصلاح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء. الكلام هنا مقيد بشروط: وذلك بأن تكون هذه عادة عند الناس، وهي إكرام الجائي بالقيام، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه، أو أنهم يقصدون إهانته، وأنهم لا يحترمونه، وهذا الجائي لم يعلم العادة الموافقة للسنة، فيمكن أن يقوم له لإصلاح ذات البين، ولإزالة البغضاء والتشاحن، لكن نقول: فيقام له ثم يبين له بعد ذلك أن الامتناع سنة إلى آخره. يقول: وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة، فليس في ترك ذلك إيذاء له. أي: أما في المجتمعات الملتزمة بالسنة، المعظمين لهدي الرسول عليه الصلاة والسلام وهدي السلف؛ ففي هذه الحالة إذا ترك القيام للقادم لا يحتمل أن يكون ذلك إيذاء أو احتقاراً له أو عدم احترام. وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فإن ذلك أن يقوم وهو قاعد، وليس أن يقوم لمجيئه إذا جاء. هذا أيضاً مما يوضحه الإمام ابن كثير، فهو يرى أن القيام في هذه الحالة ليس هو القيام المذكور في الحديث، يقول: لأن القيام المذكور في الحديث ليس القيام للجائي تلقياً له، وإنما هو القيام لمن يدخل المجلس فيقوم الناس له ثم لا يجلسون حتى يجلس، وهذا يظهر جلياً في دواوين الملوك. هذا رأي ابن كثير، وإن كان قد يكون فيه شيء من النظر، وللعلماء وجهات نظر مخالفة لبعض، لكن هو يرى أن الحديث يشمل من هو قاعد وهم قيام، لهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه وقمت له، والقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القيام للقاعد، والقاعد إذا قام للتلقي فهو قائم مساو له، لكن في الصورة التي يذكرها ابن كثير يكون هذا الشخص قاعداً وهم قيام على رأسه. قال: وقد ثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه، وصلوا قياما، فأمرهم بالقعود، وقال: لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضهم بعضاً)، فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد؛ لئلا يشبه الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود. وجماع ذلك أن الذي يصلح اتباع عادة السلف وأخلاقهم، والاجتهاد بحسب الإمكان، فمن لم يعقل ذلك أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكرنا في هذه المسألة: فمن لم يعتد ذلك. يعني: عادات السلف، أو لم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مصلحة راجحة فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما؛ خاصة بالذات لو كان هذا الشخص معظماً عند أتباعه، وخلفه أناس وأتباع كثيرون. يقول ابن كثير: روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما: أنهم قالوا في قوله تعالى: ((إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا)): يعني: في مجالس الحرب، قالوا: ومعنى قوله: ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، أي: انهضوا للقتال. وقال قتادة: ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا))، أي: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا. وقال أبو القاسم: إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده، فربما يشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، وقد تكون له الحاجة، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]. ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ لأن كلاً منها تفسير للفظ العام ببعض أفراده وما يصدق عليه إشارة إلى تناوله لذلك؛ لا أن أحدها هو المراد دون غيره، فذلك ما لا يتوهم، فقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف في كثير من الآي، وكله مما لا اختلاف فيه كما بيناه مراراً. حاصل الكلام: أن الآية إذا وردت فيها أقوال عدة لا تتصادم ويحتملها معنى الآية، فالأصل هو الحمل على هذا العموم؛ إذا قيل لكم: تفسحوا في المجالس، سواء قلنا: في مجالس العلم، أو صلاة الجمعة، أو صلاة العيد، أو الاجتماعات عموماً، أو الحرب ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا)) يعني: انهضوا للقتال ((فَانشُزُوا))، أو ((وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا))، بمعنى: أن صاحب الدار أمر الحاضرين بالانصراف ((فَانشُزُوا)) أي: انصرفوا، فتضاف إلى آداب الاستئذان، مثل قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، فتضاف أيضاً على هذا القول إلى المعنى العام.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول) قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ))، يعني: إذا ساررتم الرسول صلى الله عليه وسلم، ((فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً))، أي: قبل مسارته في بعض شئونكم قدموا صدقة لله تبارك وتعالى. وفي ذلك تعظيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إحسان إلى الفقراء والمساكين ببذل الصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تمييز بين المؤمن والمنافق. ((ذَلِكَ))، أي: ذلك التقديم ((خَيْرٌ لَكُمْ))، أي: لأنفسكم؛ لما فيه من مضاعفة الأجر والثواب، والقيام بحق الإخاء بالعون لذوي المسكنة بالمواساة والمؤنة. ((وَأَطْهَرُ))، أي: أطهر لأنفسكم من رذيلة البخل والشح، ومن حب المال وإيثاره الذي قد يكون من شعار المنافقين. وكأن الأمر بالتصدق المذكور نزل ليتميز المؤمن من المنافق؛ فإن المؤمن تسخو نفسه بالإنفاق كيفما كان، والثاني يغص به ولو في أضر الأوقات، ومعظم أوامر السورة هو التصدق. ((فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا))، ما تتصدقون به أمام مناجاتكم الرسول صلوات الله عليه. ((فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))، لمن لم يجده، إذ لم يحرجه ولم يضيق عليه رحمة منه.

تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات)

تفسير قوله تعالى: (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات) قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:13]. هذا الاستفهام معناه التقريع، يعني: أخفتم من تقديم الصدقات الفاقة والفقر؟ وهذا توبيخ بأن مثله لا ينبغي أن يشفق منه، فمثل هذا التقديم، وهو تقديم الصدقة والإحسان إلى الفقراء، ليس مما يشفق الإنسان منه، للزوم الخلف للإنفاق لزوم الظل للساقط بوعد الله الصدق. وهذه هي سنة الله الجارية: أن كل من أنفق يخلف الله عليه، وهذه الدعوة التي يدعوها الملكان في كل صباح: (اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط ممسكاً تلفاً). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث أحرص عليهن: منها: ما نقص مال من صدقة). بما أن الإخلاف يلازم الإنفاق لزوم الظل للساقط فالنفقة في سبيل الله والصدقة لا ينبغي أن يشفق منها الإنسان، فالإنسان قد يشفق ويخشى الفاقة والفقر إذا أنفق؛ ولكن الله سبحانه وتعالى ضمن للمنفق أن يخلف عليه، وضمن له الثواب الجزيل، والفضائل الكثيرة المعروفة في ثواب الصدقة، فهل مثل هذا يشفق الإنسان منه؟ ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، يعني: إذ لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقة، وشق ذلك عليكم، ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ))، بأن رخص لكم ألا تفعلوا ذلك رفعاً للحرج عنكم ((فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، يعني: فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات؛ فإن ذلك يكسبكم ملكة الخير والفضيلة. ((وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))، فيجزيكم بحسبه. وقوله تعالى: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ)) إلى آخر الآية، منسوخة بالتي بعدها، وفيه دليل على جواز النسخ بلا بدل خلافاً لمن أبى ذلك، وقد كانت تكاد تتفق كلمة المفسرين على أن هذه الآية نسخت بالتي بعدها، ولا يشترط أن يكون المقصود بالنسخ نسخ الحكم ورفعه بالكلية، فهذا أحد معاني النسخ.

نقل عبارات السلف في معنى الآية

نقل عبارات السلف في معنى الآية أما عبارات السلف فهم يطلقون النسخ ويريدون به عدة معان، من ضمنها الإفهام بعد الإيهام، وهو أن يأتي نص فيه نوع من الإيهام غير واضح في دلالته، فيأتي نص آخر يوضحه ويبينه، فيقول بعض السلف في مثل هذا: هذه الآية نسختها آية كذا، يعني: وضحتها وبينت المقصود منها. أما المعنى الأصولي للنسخ، وهو أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، فهذا المعنى أحياناً يكون هو المراد وأحياناً لا يكون هو المراد من النسخ، كما سبق أن بينا ذلك مراراً. فاشتهر القول بالنسخ في كتب التفسير كلها تقريباً. فقد روى ابن جرير عن مجاهد قال: قال علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله عز وجل لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12]، قال علي رضي الله تعالى عنه: كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلما ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد. وروي عن ابن عمر أنه قال: ثلاث فضل بهن علي رضي الله تعالى عنه: ما يسرني أن لي بها الدنيا، وذكر منها آية النجوى هذه، وذكر منها: إعطاءه الراية في خيبر، وذكر منها: تزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياه من فاطمة رضي الله تعالى عنها. يقول القرطبي: ما روي عن علي رضي الله عنه في هذه الآية ضعيف؛ لأن الله تعالى قال: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء، والله تعالى أعلم. فهنا يرد القرطبي الخبر المروي عن علي بنفس هذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا))، فظاهرها أن أحداً لم يتصدق بشيء. وقد اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ: فقيل: بقي التكليف عشرة أيام ثم نسخ، وقيل: ما بقي إلا ساعة من النهار ثم نسخ. وعن مجاهد قال: نهاهم عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا. فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدم ديناراً فتصدق به، ثم أنزلت الرخصة في ذلك. وعن قتادة: أنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار. وعنه أيضاً قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، أي: أحرجوه وشقوا عليه، فوعظهم الله بهذه الآية، وكان الرجل تكون له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: ((فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المجادلة:12]. وعن الحسن وعكرمة قالا: ((إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ))، نسختها التي بعدها: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)) إلى آخر الآية.

الكلام على نسخ الصدقة بين يدي المناجاة

الكلام على نسخ الصدقة بين يدي المناجاة هذه الآثار وأمثالها هي مستند مدعي النسخ وقوفاً مع ظاهرها، وقد أسلفنا في مقدمة التفسير ومواضع أخرى أن النسخ في كلام السلف أعم منه في اصطلاح الخلف، كما أن المراد من سبب النزول مما يتبادر إليه الفهم، فحينما يقال: نزلت هذه الآية في كذا، ليس المقصود في كل الأحوال أنها بالفعل كذا، وتكون قد نزلت الآية، وإنما المقصود: أن هذه الآية يشمل حكمها الواقعة المذكورة، وسبق التنبيه إلى ذلك مراراً. كذلك كلمة النسخ أعم من المعنى الضيق الذي هو: رفع الحكم وإزالته بالكلية حتى لا يجوز امتثاله. فقول قتادة هنا: (فأنزل الله الرخصة بعد ذلك)، ليس مراده إبانة أن الأمر ليس بعزيمة في الآية الثانية، لا أن نزولها كان متراخياً عن الأولى، فإن ذلك مستحيل على رونق نظمها الكريم. يعني القاسمي رحمه الله تعالى يستبعد القول بالنسخ بمعنى الإزالة ورفع الحكم الذي هو النسخ الأصولي المعروف؛ لأن هذا مستحيل على رونق الآية، ولو تأملنا سياق الآيات، على القول أنها نزلت الأولى أولاً، ثم بعد عشرة أيام أو حتى بعد ساعات يأتي ما يتنافى معها، فهذا لا يتناسب مع رونق هذه الآية، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12]، ثم قال تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:13]. فإن القول بتراخي النزول مستحيل على رونق نظمها الكريم، والأصل في الآي المقررة لحكم النسخ هو اتصال جملها وانتظام عقدها، إذ به يكمل سحر بلاغتها، وبديع بيانها، وتمام فقهها. والذين ذهبوا إلى عدم وقوع النسخ في التنزيل لهم في الآية وجوه: الوجه الأول: منها قول أبي مسلم إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقياً، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى؛ ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيماناً حقيقياً عمن بقي على نفاقه الأصلي، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة بذلك الوقت، فلا جرم أن يقدر هذا التكليف بذلك الوقت. يقول الرازي: وحاصل قول أبي مسلم: أن ذلك تكليف كان مقدراً بغاية مخصوصة، -يعني: التكليف بالصدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم كان له أمد محدود وغاية مخصوصة- فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخاً. وهذا الكلام حسن ما به بأس. انتهى كلام الرازي. الوجه الثاني: أن شبهة مدعي النسخ ذهابهم إلى أن الأمر بتقديم الصدقة للوجوب، يعني: أن الذين قالوا إن النسخ هنا هو النسخ الأصولي، استندوا إلى أن الأمر بالصدقة على سبيل الوجوب، ودفعهم إلى أن يقولوا بالوجوب قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12]، ففهموا منه أن من وجد ولم يقدم صدقة يكون آثماً، أما من لم يجد ((فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)). وقال تعالى: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ))، فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه. و A أن لا قاطع في كون الأمر للوجوب، بل الظاهر أنه للندب، والدليل أن الله تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [المجادلة:12]، وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض. والثاني: أنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه بكلام متصل به؛ لأن الله قال: ((أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ)) إلى آخر الآية. فهذا يزيل ما في الأمر الأول من احتمال الوجوب، ويبقى الأمر للندب، فإذا قلنا: إنه على الندب فحينئذ لا نحتاج إلى الكلام في قضية النسخ بالمعنى الأصولي، وإنما النسخ بمعنى التبيين والتوضيح ونحو ذلك. الثالث: الذي يدل على أنه للندب أن قول الله تبارك وتعالى: ((فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم؛ فإذا ندبكم إلى هذا الأمر ولم يجعله عليكم فرضاً كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة؛ فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله. فقوله: ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) معناه هنا: الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها. وقوله: ((وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) ليس معناه التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب، وإنما معناه الرجوع إلى التخفيف والتسهيل، ورفع الحرج عن هذه الأمة، والعدول عن معاملتها كسابقيها من الأمم، كما قال الله تعالى في سورة المزمل: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20]، يعني: رجع إليكم بالتخفيف، ورفع عنكم ما يشق عليكم، وليس معناه في هاتين الآيتين: العفو عن الذنب؛ إذ لم يصدر منهم هنا ذنب أصلاً حتى يقال إن الله تاب عليهم.

المجادلة [14 - 22]

تفسير سورة المجادلة [14 - 22]

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوما)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين تولوا قوماً) قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14]. ((ما هم منكم)) يعني: ليسوا أهل دين فيكونوا من المسلمين، ((ولا منهم)) يعني: من اليهود، كقوله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] وهذا شأن هؤلاء المنافقين في كل زمان ومكان، عندما يسارعون في موالاة الكفار يقولون: إذا تغلب هؤلاء نقول لهم: كنا معكم، وإذا تغلب هؤلاء ندلي إليهم بما كان من مودة من قبل، فهم لا يلتمسون رضا الله، وإنما يلتمسون هذا الأمر عند هؤلاء وعند هؤلاء، فكل من عمل عملاً لا يريد به وجه الله سبحانه وتعالى فإنه ينقلب عليه بعكس ما أراد ويعامله الله بنقيض قصده، فالذي يريد أن الكفار يرجعون أعزة لا يرجع إلا في ذل وهوان، فيقول الشاعر: جاء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا أرضى عنه العدا يقول تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وذلك قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم (نشهد إنك رسول الله)، يحلفون ويستجنون بالأيمان فيجعلون الأيمان الكاذبة وقاية وجُنة تحميهم من العقاب الدنيوي. فهم في الحقيقة كاذبون غير مصدقين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يحلفون أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) يعني: وهم يعلمون أن المحلوف عليه كذب بحت. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قال بعض أهل العلم: معنى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) يعني: ألم ينته علمه إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم؟ فالرؤية هنا رؤية علمية. ولفظة: ((أَلَمْ تَرَ)) يزعم البعض أنها لا تعدى إلا بحرف الجر الذي هو إلى، لكن الراجح أنها في الغالب لم تأت في القرآن الكريم إلا متعدية بإلى، لكن تعديتها إلى المفعول بنفسها صحيح بدون حرف جر، وهذا يقع في اللغة العربية، ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقاً وجدت بها طيباً وإن لم تطيب والمراد إنكار الله على المنافقين توليهم القوم الذين غضب الله عليهم وهم اليهود والكفار، وهذا الإنكار يدل على شدة منع ذلك التولي، وأن هذا الشيء من كبائر المحرمات، وقد صرح الله بالنهي عن ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة:13]، ((مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ))، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من القوم الذين تولوهم وهم الذين غضب الله عليهم من اليهود، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقول الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:142 - 143].

تفسير قوله تعالى: (أعد الله لهم عذابا فلهم عذاب مهين)

تفسير قوله تعالى: (أعد الله لهم عذاباً فلهم عذاب مهين) قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة:15 - 16]، ((جنة)) أي: وقاية وعصمة لأنفسهم، فهم يستجنون بالأيمان يعني: يتخذونها جنة ووقاية يحتمون وراءها حتى لا يعاقبوا، ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: فحالوا بأيمانهم عن حكم الله في أمثالهم وهو القتل، إراحة للمؤمنين من فسادهم. هذا أحد التفسيرين. يعني: عطلوا حكم الله في قتلهم إراحة للمؤمنين من شرهم بسبب الاستجنان وراء الأيمان الكاذبة، أو ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) صدوا الناس في خلال أمنهم وسلامتهم عن الإيمان ((فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) أي: مذل لهم في الآخرة. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل هنا: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين اتخذوا أيمانهم جنة، والأيمان جمع يمين، وهي الحلف، والجنة: هي الترس الذي يتقي به المقاتل وقع السلاح، والمعنى: أنهم جعلوا الأيمان الكاذبة وهي حلفهم للمسلمين أنهم معهم وأنهم مخلصون في باطن الأمر، ترساً لهم يتقون به الشر الذي ينزل بهم لو صرحوا بكفرهم. وقوله تعالى: ((فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، الظاهر أنه من (صد) المتعدية؛ وأن المفعول محذوف أي: فصدوا غيرهم ممن أطاعهم؛ لأن صدودهم في أنفسهم دل عليه قوله: ((اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً))، والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التوكيد كما أوضحناه مراراً. وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة وهما: كون المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة لتكون لهم جنة، وأنهم يصدون غيرهم عن سبيل الله، جاءا موضحين في آيات أخر من كتاب الله. أما أيمانهم الكاذبة فقد بينها الله جل وعلا في آيات كثيرة، كقوله هنا في هذه السورة: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] يعني: أنهم كاذبون، وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]، وقال تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [التوبة:95]، وقال تعالى: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42]. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2]. وأما صدهم من أطاعهم عن سبيل الله فقد بينه الله في آيات من كتابه، كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:18 - 19] إلى آخره. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72] إلى آخرها. وقوله هنا في هذه الآية: ((فلهم عذاب مهين))؛ لأجل نفافقهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145].

تفسير قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم هم الخاسرون)

تفسير قوله تعالى: (لن تغني عنهم أموالهم هم الخاسرون) يقول الله عز وجل: {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:17 - 19]. {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: من عذابه شيئاً ما، كما كانوا يفسدون بذلك في الدنيا. {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، كما يحلفون لكم في الدنيا كاذبين مبطلين، فهذا الحلف الكاذب مرنوا عليه، أي: صار عادة لازمة لهم، حتى إنهم يوم القيامة أيضاً يحلفون بالله كاذبين، كما قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]. فقوله تعالى: ((يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)) يعني: السبب هنا الكذب في الحلف سواء في الدنيا أو في الآخرة: ((كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ))، في الدنيا كاذبين مبطلين؛ إشارة إلى مرونهم على النفاق ورسوخهم فيه حتى لدى من لا تخفى عليه خافية. قد يروج كذبهم على الناس في الدنيا بأن الناس لا يصلون إلا إلى الظواهر، أما البواطن فالله وحده يعلمها، وفي الآخرة مع أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم لكنهم أيضاً يستجنون بالأيمان الكاذبة. {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} يعني: من النفع أو من الحق، ((أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ)) فيما يحلفون عليه في الدارين. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} أي: استولى عليهم حتى صار الكذب والفساد ملكة لهم، {فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}، أي: بتصوير اللذات الحسية والشهوات البدنية لهم، وتزيين الدنيا وزخرفها في أعينهم: وأسند إنساء ذكر الله إلى الشيطان كما قال: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]، وقال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف:42]، وقال أيضاً في الكهف: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، فكذلك هؤلاء المنافقون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي: أتباعه في الفساد والإفساد، {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: الخسارة في الدارين. والأحزاب في الإسلام نوعان: حزب الله وأحزاب الشيطان، فأحزاب الشيطان يجمعها دعوة واحدة، أما حزب الله فسوف يأتي ذكر وضعهم في آخر هذه السورة الكريمة، وكل من لم يرفع بالإسلام رأسه فهو من حزب الشيطان.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله قوي عزيز)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحادون الله قوي عزيز) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]. {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} يعني: في أهل الذلة؛ لأن الغلبة لله ولرسوله، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}. فقوله: (فِي الأَذَلِّينَ) لا يعني فقط الذين فيهم وصف الأذلين، وإنما ينسب إليهم أنهم أعظم الناس ذلاً. والأذلون: جمع الأذل أي: الذين هم أعظم الناس ذلاً، والذل: هو الصغار والهوان والحقارة. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الذين يحادون الله ورسوله هم أذل خلق الله ذكره تعالى وبينه في غير هذا الموضع، وذلك بذكره أنواع عقوبتهم المفضية إلى الذل والخزي والهوان، كقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة:63]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]، وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:3 - 4]، وقال تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال:13 - 14]. ((لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، المفعول مقدر، أي: لأغلبن أنا ورسلي حزب الشيطان المحادين. ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))، أي: قوي على إهلاك من حاده ورسله، عزيز فلا يغلب في قضائه تبارك وتعالى. وقد دلت هذه الآية الكريمة كما يقول الشنقيطي رحمه الله على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم. وقوله: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، تحمل نفس المعنى الوارد في جملة من الأحاديث، كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري).

تفسير قوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)

تفسير قوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) قال تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، فالرسل غالبون لكل من غالبهم، والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميع الرسل، وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر بها. وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، على أنه لم يقتل نبي في جهاد قط على الإطلاق؛ لأن المقتول ليس بغالب، فالقتل في جانب والغلبة في جانب آخر، بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74]، هي واحدة من الاثنتين فقط: إما أن يقتل وإما أن يغلب، فدل على أن القتل غلبة. وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقد نفى الله عن الشخص المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً في قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] وقوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] لم يقتلوا في جهاد، وإنما قتلوا صبراً كما حصل لزكريا وغيره من الأنبياء الذين قتلتهم بنو إسرائيل. وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى هذا المعنى بصورة مفصلة في أثناء تفسير سورة آل عمران عند تفسير قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران:146]. يقول: هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ (قُتل) للمفعول: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ))، لا تدل على أن النبي قد يقتل، لكن على قراءة أخرى يحتمل ذلك، فالآية: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]. فعلى قراءة من قرأ: (قتل معه) بالبناء للمفعول يحتمل أن نائب الفاعل يكون لفظة: (ربيون)، يعني: قتل ربيون معه، وعليه فليس في (قتل) ضمير أصلاً؛ لأن نائب الفاعل اسم ظاهر. وهناك احتمال آخر: أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتل)، وفي هذه الحالة تعرب جملة: ((مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)) بأن (ربيون) مبتدأ مؤخر مرفوع بالواو، و (معه): شبه جملة في محل رفع خبر مقدم. أما بالنسبة للفعل: (قتل)، فنائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود إلى النبي. يقول: ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميراً عائداً إلى النبي، وعليه فمعه خبر مقدم، و (ربيون): مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصله بما بعده، والجملة حالية والرابط الضمير، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلماً، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول. يقول: وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالاً، والآيات القرآنية مبينة أن النبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب، كما صرح تعالى بذلك في قوله: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، وقال قبل ذلك: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، ثم قال: ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)). وأغلب معاني الغلبة في القرآن: الغلبة بالسيف والسنان، كقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65]، وقال تعالى بعدها: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66]، وقال تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4]، وهذه الغلبة بالسيف والسنان في القتال، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] أي: بالسيف والسنان، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران:12]، إلى غير ذلك من الآيات. يقول: وبين تعالى: أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74]، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعاً على النبي المقاتل؛ لأن الله كتب وقضى له في أجله أنه غالب، وصرح بأن المقتول غير غالب. وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميعهم. وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله. قال: وتصريحه تعالى بأنه كتب أن رسله غالبون شامل لغلبتهم لمن غالبهم بالسيف، كما بين أن ذلك معنى الغلبة في القرآن، وشامل أيضاً لغلبتهم بالحجة والبيان، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} [الصافات:171 - 172]، نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد؛ لأن الغلبة التي بين أنه كتبها لهم أخص من مطلق النصر؛ لأنها نصر خاص، والغلبة لغة الثقل، والنصر لغة إعانة المظلوم، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص. وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير الحافظ ابن جرير رحمه الله تعالى ومن تبعه في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] إلى آخره، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد، وأن نصرة المنصوص في الآية حينئذ يحمل على أحد أمرين: أحدهما: أن الله ينصره بعد الموت، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكريا وشعيبا من تسليط بختنصر عليهم ونحو ذلك. إما أن يسلط الله على من قتل النبي في الجهاد بأن يقتل وينكل به انتقاماً. الثاني: حمل الرسل في قوله تعالى: ((إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا))، على خصوص نبينا صلى الله عليه وسلم. لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين: أحدهما: أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جداً غير معروف في لسان العرب، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر، وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده صلى الله عليه وسلم بعيد جداً أيضا، والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة لا نزاع فيها. أيضاًً الله سبحانه وتعالى لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم؛ لأن النصر كما قلنا في اللغة: هو إعانة المظلوم، أما الغلبة لغة فهي القهر. فالله سبحانه وتعالى لم يقتصر على مطلق النصر الذي هو في اللغة: إعانة المظلوم بل صرح بأن ذلك النصر المذكور هو للرسل هو نصر غلبة وقهر، وليس النصر بمعنى إعانة المظلوم؛ لأن الله قال: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي))، فلابد أن يحمل النصر على هذه الغلبة والقهر كما ذكرنا. يقول: (وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن، ومر عليك أن الله جعل المقتول قسماً مقابلاً للغالب في قوله: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ} [النساء:74]، وصرح تعالى: بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]، ((وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) ومن كلمات الله الكونية القدرية: أن الرسول لا يمكن أن يقتل في الجهاد أبداً، ولا شك أن قوله تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)) من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها، وقد نفى الله جل وعلا عن المنصور أن يكون مغلوباً نفياً باتاً بقوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]. وذكر مقاتل: أن سبب نزول قوله تعالى: ((كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)): أن بعض الناس قال: أيظن محمداً وأصحابه أن يغلبوا الروم وفارس كما غلبوا العرب، زاعماً أن الروم وفارس لا يغلبهم النبي صلى الله عليه وسلم لكثرتهم وقوتهم فأنزل الله الآية، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان؛ لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها). وسبب النزول يكون دخولاً في حكم الآية قطعياً، ويدل له قوله قبله: ((أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ))، وقوله بعده: ((إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)). وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان) أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة فيشهد للبيان الذي بينا به أن نائب الفاعل: (ربي

تفسير قوله تعالى: (لا تجد قوما يؤمنون بالله)

تفسير قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله) قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] إلى آخره. ((مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: شاقهما وخالف أمرهما، يعني: لا تجد قوماً جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر وبين مودة أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد بنفي الوجدان نفي الموادة على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم. يعني: ((لا تجد قوماً)) أسلوب خبري؛ لأن (لا) هنا نافية وليست ناهية؛ لكنه ظاهره النفي ومراده النهي، كقوله: (لا ضرر ولا ضرار) وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] فهذا خبر لكن المقصود به: (لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا) فالمقصود هنا: أن هذا من شدة تأكده ولزومه على المؤمنين، كأنه لا يمكن أن تجد مؤمناً يحب الله ورسوله يجمع بين الإيمان ومودة أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بنفي الوجدان نفي المودة، يعني: لا توادوهم أبداً، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية في التصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز من مخالطتهم ومعاشرتهم. وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) إلى آخره. ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) يعني: آباء الموادين، والضمير في (كانوا) لمن حادوا الله ورسوله، يعني: ولو كان هؤلاء الذين حادوا الله ورسوله آباءهم أو أبناءهم إلى آخره، ونلاحظ هنا جمعاً وإفراداً، الإفراد بقوله: (حاد الله) وفاعله ضمير تقديره هو، يعود إلى (من) فالإفراد بالنظر إلى اللفظ، ثم باعتبار المعنى فقال: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) فلذلك يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والجمع باعتبار معنى (من)، كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها، فإن قضية الإيمان هجر المحادين. ((أُوْلَئِكَ)) إشارة إلى الذين لا يوادونهم ((كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ)) أي: أسسه فيها ((وأيدهم بروح منه))، أي: بنور وعلم ولطف حيت به قلوبهم في الدنيا، وأشار إلى مآلهم في الآخرة بقوله: ((وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، أي: الناجحون الفائزون بسعادة الدارين. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر: ((لا تَجِدُ قَوْمًا)) والمراد بها الإنشاء، وهذا للنهي البليغ والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء كما هو معلوم بمحله. ومعنى قوله: ((يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))، أي: يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وما جاء في هذه الآية من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله جاء موضحاً في آيات أخر، كقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. أكاد أجزم والله تعالى أعلم لو أن هؤلاء المؤمنين إبراهيم والذين معه عاشوا في عصرنا لقيل لهم: أنتم متطرفون وإرهابيون إلى آخر هذه القائمة من الشتائم المعروفة. فحقيقة ما يحصل الآن هو غسيل مخ للمسلمين في ظل نظام العولمة، وهذا يهدم أصلاً أصيلاً من أصول الإيمان بعد التوحيد مباشرة، وهو حق من حقوق التوحيد، ألا وهو قضية الولاء والبراء؛ فالآن تجري عملية تغريب عن طريق بث هذه الأفكار المسمومة، وليس التغريب بمعنى التبعية للغرب كما هو شائع، لكن التغريب زيادة غربة الإسلام بين أهله، حتى أن الذي يقول هذا الكلام أصبح إنساناً شاذاً متطرفاً مهووساً مجنوناً يريد الفتنة، ويريد كذا وكذا. فهذه زيادة غربة الإسلام بإشاعة المفاهيم المسمومة حتى تزداد غربة المفاهيم الصحيحة، ويصبح القائم بها هو الشاذ المتطرف الإرهابي. ويقول تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، الآن نحل محلها الأخوة الإنسانية، وحقوق الإنسان، إلى آخر هذه المصطلحات. ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]. وقوله هنا في هذه الآية الكريمة: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قائلاً: إنه قتل أباه كافراً يوم بدر أو يوم أحد. وقيل نزلت: في عبد الله بن عبد الله بن أبي وزعم من قال ذلك أن عبد الله استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه عبد الله بن أبي فنهاه. وقيل نزلت: في أبي بكر، وزعم من قال ذلك أن أباه أبا قحافه سب النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط. ((أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمن يوم بدر. ((أَوْ إِخْوَانَهُمْ)) زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير، قالوا: قتل أخاه عبيدة بن عمير؛ وقال بعضهم: مر بأخيه يوم بدر وقد كان يأسره رجل من المسلمين، فقال: شدد عليه الأسر، فإن أمه ملية وستفديه. ((أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) قال بعضهم: نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة في المبارزة يوم بدر وهم بنو عمهم؛ لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى. ((أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ))، أي: ثبته في قلوبهم بتوفيقه. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحاً في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8].

وجوب التصلب في الدين في مقابلة المبطلين

وجوب التصلب في الدين في مقابلة المبطلين يقول القاسمي في تفسير هذه الآية الكريمة: من أشباه هذه الآيات قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]. ثم نقل عن ابن كثير ما نقلناه آنفاً عن سبب نزول هذه الآيات: أن آية كذا نزلت في فلان قتل أخاه، وفلان قتل أباه إلى آخره. قال القاسمي: وقد بينا مراراً أن المراد بسبب النزول في مثل ذلك: صدق الآية على هؤلاء، وما أتوا به من التصلب في دين الله في مقابلة المبطلين، ولو كانوا من أقرب الأقربين. قال ابن كثير: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم؛ وقال عمر: لا أرى ما يرى يا رسول الله، إلا أن تمكني من فلان، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن فلاناً من فلان ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين. وقال ابن كثير: في قوله تعالى: ((رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى، عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم والفضل العميم.

أهل الذمة لا يدخلون في حكم المحادين لله ورسوله

أهل الذمة لا يدخلون في حكم المحادين لله ورسوله يقول أيضاً: يفهم من قوله تعالى: ((مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) وقوله في آية أخرى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]: أن المراد به المحاربون لله ولرسوله، الصادون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء، وهم الذين أخبر عنهم قبل بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، فتشمل الآيات المشركين وأهل الكتاب المحاربين المحادين لنا، أي: الذين هم على حد منا ومجانبة لشئوننا، تحقيقاً لمخالفتنا، وترصداً للإيقاع بنا. أي: فالمقصود من قوله: ((من حاد الله ورسوله)) وقوله: ((لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)) المجانبون لنا من أهل الكتاب والمشركين الذين هم على حد منا، نحن في جهة وهم في جهة، وهم في مجانبة لشئوننا تحقيقاً لمخالفتنا وترصداً للإيقاع بنا. وأما أهل الذمة الذين هم بين أظهرنا ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا واستكان لأحكامنا وقضائنا، فأولئك لا تشملهم الآية؛ لأنهم ليسوا بمحادين لنا بالمعنى الذي ذكرناه، وإذا كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وجاز التزوج منهم ومشاركتهم، والاتجار معهم، وعيادة مرضاهم؛ فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً وعرض عليه الإسلام فأسلم، كما رواه البخاري، وعلى الإمام حفظهم، والمنع من أذاهم واستنقاذ أسراهم؛ لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام. وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم في كثير من الرخص المشروعة ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب من دعاه فيأكل طعامه، وأضافه يهودي بخبز شعير وإهالة سنخة، وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب، وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مر بهم من المسلمين، فقال: أطعموهم مما تأكلون. وقد أحل الله عز وجل ذلك في كتابه، ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة. فكره دخولها؛ وقال لـ علي رضي الله عنه: اذهب بالناس، فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا، وجعل علي رضي الله عنه ينظر إلى الصورة، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل، والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. وعن الإمام محمد بن المطهر: أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي أن تحب الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته لا لسبب آخر من جلب نفع أو دفع ضر، أو خصلة خير فيه. فهذا آخر تفسير سورة المجادلة وهي هذه الآية الكريمة: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].

بشائر ومبشرات لأهل القرآن

بشائر ومبشرات لأهل القرآن من البشريات للإمام العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: أن هذه الآية هي آخر آية في تفسيره المبارك أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، فقد وقف عند تفسير هذه الآية؛ لأنه أتى موسم الحج سنة ألف وثلاثمائة وثلاثة وتسعين هجرية، فخرج من الموسم ثم رجع فمرض ومات بعد أيام قليلة من موسم الحج رحمه الله تعالى، فكانت آخر آية فسرها في كتابه المبارك هي هذه الآية التي تنتهي بقوله: ((أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))؛ فلعل هذه علامة حسن خاتمة بإذن الله لهذا الإمام القرآني الفذ، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة. ونظير ذلك أيضاً: أن تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى توقف عند قوله تبارك وتعالى في سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. وذات يوم جافاني النوم فأخذت ملزمة مقدمات سكب العبرات للموت والقبر والسكرات وقرأت مقدمة الشيخ محمد صفوت نور الدين، وكان مما قال فيها: شهدت أحد أعمامي وهو في موته يحتضر، وكان قد طال به المرض وكان يتأوه كثيراً، وقد أصيب بالاستسقاء، وكان من أول من دعا للسنة في البلدة التي كان يعيش فيها، وكان جهاده فيها رغم ضعفه وفقره جهاداً عظيماً متصلاً، فإذا به يقرأ قبل موته: {َيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] لا يتعداها ويكررها وهكذا، وقد ذهب عنه كل شكوى كان يشتكي بها، ثم أخذ ينادي على بعض من مات منذ عشرات السنين، وأخذ يردد كلمات قال فيها: فرح فرح فرح، ما هو هذا الكرم كله يا رب ويكررها. كل ذلك وأنا أنظر إليه متعجباً وأقول في نفسي: سيفيق، فأسأله عن ذلك، لكن اتصل هذا بخروج روحه، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة. فالشاهد من القصة: لما قرأت قوله: ثم أخذ يردد كلمات قال فيها: فرح فرح فرح، ما هو الكرم هذا كله يا رب، في نفس هذه اللحظة دق جرس التليفون فرفعت الهاتف فإذا به أحد الإخوة يخبرني بوفاة الشيخ محمد صفوت رحمه الله تعالى رحمة واسعة، والشيخ له جهد مشكور في الدفاع عن السنة والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على بصيرة. وكان بعدما عاد من العمرة بأيام قليلة أخذ أولاده جميعاً وأهله وذهب لزيارة بعض أهله، وبعد ما صلى هناك صلاة المغرب إذا به تحصل له حادثة في الطريق فيموت فيها رحمه الله تعالى؛ وكانت زوجته رأت قبل وفاته أنه يزف إلى عروس جميلة، فلعلها من الحور العين إن شاء الله تعالى. كذلك الرجل الذي كان يقرأ سورة يس، فعندما وصل إلى قوله تعالى: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، فاضت روحه. والله أعلم.

الحشر [1 - 5]

تفسير سورة الحشر [1 - 5]

بين يدي سورة الحشر

بين يدي سورة الحشر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: نشرع بإذن الله تعالى في تفسير السورة التاسعة والخمسين من سور القرآن الكريم، وهي: سورة الحشر. قال المهايمي: سميت به لدلالة إخراج اليهود عنده على لطف الله وعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وقهره وغضبه على أعدائهم، فهو من أعظم مقاصد القرآن، وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير، وبنو النضير: هم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد نزلوا في المدينة في فتن بني إسرائيل؛ انتظاراً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما قص الله عليه هنا في هذه السورة. وسبب وجود اليهود في المدينة وفي بلاد المغرب الإسلامي هو أنهم كانوا دائماً لا يجدون مأمناً إذا نزل بهم الفزع إلا في ظل الحكم الإسلامي، فلما حصل الاضطهاد والقتل لهم في الأندلس فزعوا إلى المغرب الإسلامي، وما زالوا موجودين فيه إلى الآن، بل ولهم فيه ثقل. وكذلك كانوا يفرون من الفتن التي تعرض لهم إلى المدينة؛ انتظاراً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا حصل بينهم وبين المشركين نزاع فإنهم يقولون: نحن في انتظار نبي سوف يبعث، فإذا بعث لنؤمننّ به ولنتبعنّه، ثم نقاتلكم فنغلبكم، وقد ذكر الله تعالى عنهم ذلك في سورة البقرة: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس: سورة الحشر، قال: سورة بني النضير. يعني: سمِّها سورة بني النضير. وعنه قال: قلت لـ ابن عباس: سورة الحشر، قال: سورة بني النضير، وهم قوم من اليهود كما ذكرنا. وهذه السورة مدنية، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف. قال الله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد:1]. تقدم القول في تأويل نظيره في القرآن الكريم، وهنا سنتجاوزه اختصاراً، وقد بدأ الشيخ عطية سالم رحمه الله -وهو أخص تلامذة العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى- تتمة (أضواء البيان) ببحث مفصل جداً عن التسبيح.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر)

المقصود بالحشر هنا

المقصود بالحشر هنا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. أشار الله تبارك وتعالى بعدما وصف نفسه بقوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) إلى بيان بعض آثار عزته تعالى، وإحكام قسمته، وذلك إثْرَ وصفه بالعزة القاهرة، والحكمة الباهرة على الإطلاق، فهو العزيز الحكيم، فبيّن وفصّل آثار هذه العزة والحكمة، فقال: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) يعني: بني النضير من اليهود، ((مِنْ دِيَارِهِمْ)) أي: من مساكنهم التي جاورا بها المسلمين حول المدينة؛ لطفاً بالمسلمين. وقوله: ((لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) يقول القاسمي: أي: لأول الجمْع؛ لقتالهم، يعني: أن الله سبحانه وتعالى أخرجهم بقهره لأول الحشر، فكأن القاسمي ينتحي منحى من ذهب إلى أن أول الحشر هنا توقيت زماني، وقال بعض المفسرين: إنه حشر مكاني، وأنه يقصد به الأحساء أو غير ذلك كما سيأتي، فـ القاسمي يرى أن أول الحشر توقيت زماني، والتوقيت به إشارة إلى شدة الأخذ الرباني لهم، وقوة البطش والانتقام بقذف الرعب في قلوبهم، حتى اضطروا في أول الهجوم عليهم إلى الجلاء والفرار، فأول ما حشر وجمع الجيش الإسلامي لمواجهتهم لم يحتج الأمر إلى حشر ثانٍ وثالث، بل قذف الرعب في قلوبهم، ففروا وهربوا، هذا هو الذي اختاره العلامة القاسمي رحمه الله تعالى. وأما القرطبي فيقول: إن ((الْحَشْرِ)): هو الجمع، وهو على أربعة أوجه: حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة. فأما اللذان في الدنيا: فالأول: حشرهم للقتل، كقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ))، قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء، فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أول حشر حشروه في الدنيا إلى الشام، وقال ابن عباس وعكرمة: من شك أن المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، يعني: ((لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) أي: لأول مكان يحصل منه حشر الناس يوم القيامة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (اخرجوا، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر). قال قتادة: هذا أول المحشر، وقال ابن عباس: هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من ديارهم. وقيل: إنهم أخرجوا إلى خيبر، وأن معنى: (لأول الحشر) إخراجهم من حصونهم إلى خيبر، وآخره: إخراج عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعاء، وقيل: شيما وأريحاء -وأريحاء ما زالت تسمى إلى الآن أريحاء-؛ وذلك لكفرهم، ونقضهم عهدهم. وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلف. وهذا ثابت في الصحيح. وقال ابن وهب لـ مالك: هو جلاؤهم من ديارهم، فقال لي: الحشر يوم القيامة حشر اليهود، قال: وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه، فاستحلهم بذلك. وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: في الحشر أولٌ ووسطٌ وآخر. فالأول: إجلاء بني النضير، والأوسط: إجلاء خيبر، والآخر: حشر يوم القيامة. وفصّل ذلك أيضاً الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى -وقد توفي في عام الحزن، وذلك في السنة الماضية التي شهدت وفاة جمع كبير من العلماء وأهل الخير- فيقول رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ)): أجمع المفسرون أنها في بني النضير، إلا قولاً للحسن إنها في بني قريظة، ورُدَّ هذا القول: بأن بني قريظة لم يخرجوا ولم يجلوا، ولكن قتلوا. ويسمي الناس هذه السورة بسورة بني النضير.

سبب نزول سورة الحشر

سبب نزول سورة الحشر اتفق المفسرون على أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر، قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة، فإنه لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة، فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة، فأخبر جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأمر بقتل كعب، فقتله محمد بن مسلمة غيلة وكان أخاه من الرضاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمَين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة، فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله عليه وسلم، وأرادوا اغتياله صلى الله عليه وسلم، فأوحي إليه بذلك، وعصمه الله تعالى منهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. ولما قتل كعب أمر صلى الله عليه وسلم بالمسيرة إليهم، وطالبهم بالخروج من المدينة، فاستمهلوه عشرة أيام كي يتجهزوا للخروج، فأرسل إليهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين سراً ألا تخرجوا من الحصن، ولا تمتثلوا أمره بالجلاء، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه، ومساعدة بني قريظة وحلفائهم من غطفان أو الخروج معهم، فتآمروا مع رأس النفاق في المدينة عبد الله بن أبي، فدربوا أنفسهم، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين ليلة. وقيل: أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: اخرج في ثلاثين من أصحابك، ويخرج إليك ثلاثون منا؛ ليسمعوا منك، فإن صدّقوا آمنا كلنا، ففعل، فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون؟ أي كيف نفهم دعوة الإسلام، وأدلة النبوة، ونحن ستون: أنتم ثلاثون، ونحن ثلاثون؟! اخرج في ثلاثة، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا يناظرونك، يناظرونك عن الإسلام، ففعلوا، فاشتملوا على الخناجر، أي: أخفوا الخناجر، وأرادوا الغدر، فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها -وكان مسلماً- فأخبرته بما أرادوا، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي، فطلبوا الصلح، فأبى عليهم صلى الله عليه وسلم إلا الجلاء، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة -وهي أدوات السلاح- فكانوا يحملون كل ما استطاعوا عليه ولو أبواب المنازل، فكانوا يخلعون أبواب المنازل ويحملونها معهم، كما قال تعالى: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ))، فكانوا يحملون ما استطاعوا معهم، فانظر إلى العبرة، والى مشيئة سبحانه وتعالى الذي جعلهم يخربون بيوتهم، فينقضونها ويهدمونها بأيديهم بعد أن كان المسلمون ينظرون إليهم على أنهم قوة قوية ومنعة منيعة، وحصون لا تُهد. يقول الشيخ عطية رحمه الله: وقد ذكرنا هذه القصة في سبب نزول هذه السورة؛ لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في أصول التفسير: إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير، وليعلم المسلمون مدى ما جُبل عليه اليهود من غدر، وما سلكوه من أساليب المراوغة، فما أشبه الليلة بالبارحة، وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أسند إخراجهم إلى نفسه عز وجل، فقال: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) مع وجود حصار المسلمين لهم، وقال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25]، فذكر عز وجل أنه هو الذي رد الذين كفروا بغيظهم، ولم يبين السبب الذي ردهم به. أي: أن الإرادة والمشيئة الحقيقة هي إرادة الله، وأما السبب الذي به تنفذ إرادة الله فهم جند الله كالريح والملائكة وغير ذلك من جنود الله، ولذلك قال عز وجل في شأن هؤلاء الأحزاب الذين قال فيهم: ((وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ)) [الأحزاب:25]، قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]، فرد الله غيظهم بأسباب كالريح والجنود التي لم يرها المؤمنون، وكذلك هنا: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ)) فأسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب الحقيقي لإخراجهم في قوله عز وجل: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))، فهذا من أهم أسباب إخراجهم، وسبب قذف الله تعالى الرعب في قلوبهم أنهم كانوا في موقف القوة وراء الحصون، ولم يتوقع المؤمنون خروجهم، ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا))، وقد كان هذا الإخراج من الله لهم بوعد سابق من الله لرسوله، وهو في قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137]، فقوله: ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ)) خبر ووعد من الله سبحانه وتعالى أنه سوف يكفيه إياهم، وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إياهم، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم، فكان إخراجهم حقاً من الله تعالى، وكان بوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطباً المسلمين في خصوصهم في أوقات الجلاء، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]، وتسليط الرسول صلى الله عليه وسلم هو بما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فإذا كان ينصر بالرعب من مسيرة شهر فما ظنك بمسيرة ميلين من المدينة، فلا شك أنه أولى أن يُقذف الرعب في قلوبهم، وهذه من خصائص النبي عليه الصلاة السلام على غيره من الأنبياء فضلاً عن سائر البشر. إذاً: فالذي أخرجهم في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى كما قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:6]، وسلط عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرعب، (نصر بالرعب مسيرة شهر)، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) أي: من قلوبهم، فقد أُلقيتْ الهزيمة في قلوبهم، وقد كانوا يظنون أنهم مانعتهم حصونهم من الله، بل كان المؤمنون أنفسهم يظنون ذلك كما قال الله: ((مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا))، فالمؤمنون أنفسهم كانوا يظنون أنهم لا يستطيعون أن يخرجوهم؛ لشدة تحصنهم في هذه الحصون المنيعة، وكذلك كان اليهود أنفسهم في غاية الثقة بما هم عليه من الحصون، ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)) أي: من جهة قلوبهم، فألقى الرعب في قلوبهم، ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم. ثم قال الله تعالى بعد ذلك: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، وذلك أن المسلمين تطلعوا إلى حظهم من هذا المال الذي غنموه من اليهود، فبين الله سبحانه وتعالى لهم وأفتاهم أن هذا إنما هو للرسول عليه الصلاة السلام خاصة يتصرف فيه بما يشاء، وليس غنيمة للمسلمين؛ لأنه لم يكن لهم أي فضل في إخراج اليهود، {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] أي: أنكم ما أسرعتم بالخيل، ولم تقاتلوا، ولم تفعلوا شيئاً، وسيأتي ذلك بتفصيل إن شاء الله تعالى. إن السياق هنا في هذه السورة في شأن اليهود لعنهم الله، وهو يتفق مع السياق في سورة الأحزاب في شأن بني قريظة سواء بسواء، وذلك في قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:26 - 27]، وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)). كما أنه تعالى هو الذي ردَّهم فقال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25]، وذلك بما أرسل عليهم من الرياح والجنود، وهو الذي كفى المؤمنين القتال كما في قصة الأحزاب {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، وهو تعالى أيضاً الذي أنزل بني قريظة من صياصيهم، وأورث المؤمنين ديارهم وأموالهم، وكان الله على كل شيء قديراً، ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية. أي: أن التذييل في آخر الآية هو الذي يقوي هذا المعنى من أن الإخراج في الحقيقة هو إخراج الله سبحانه وتعالى، وقد يجعل الله بعض الأشياء في الظاهر هي سبب هذا الإخراج كالملائكة أو الريح كما حصل في غزوة الأحزاب، أو كإلقاء الرعب في قلوب اليهود لعنهم الله كما حصل في بني النضير. ولذلك جاء التذييل هنا بقوله تبارك وتعالى: ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ))، فهذا التذييل يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم، أي: اعتبروا واتعظوا بإخراج الذين كفروا من حصونهم وديارهم ونواصي قوتهم، ((مَا ظَن

آثار الرعب وآثار الطمأنينة

آثار الرعب وآثار الطمأنينة قوله تعالى: ((وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))، يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود، ومفهوم المخالفة يدل على أن العكس بالعكس، أي: أن الهزيمة تكون بسبب الرعب، وأيضاً فالطمأنينة التي هي ضد الرعب تكون سبباً من أسباب النصر كما قال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18]، وقال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:25 - 26]. ومنها قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]، فهذا الأمر لا شك أنه آية من آيات الله، وهذه الآية أيضاً دليل على هذا المعنى الذي نذكره وهو: أن السكينة سبب النصر، والرعب سبب الخوف، فاثنان أعزلان يتحديان قريشاً بكاملها بعددها وعُددها، فيخرجان تحت ظلال السيوف، ويدخلان الغار في سدفة الليل، وتأتي الأصنام على فم الغار بقلوب حانقة، وسيوف مصمتة، وآذان مرهفة، حتى يقول الصديق رضي الله عنه: والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غاية الطمأنينة والسكينة: (ما بالك باثنين الله ثالثهما!). ووقع نفس الأمر أيضاً في غزوة بدر، قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) [الأنفال:9 - 11] إلى آخره، وقد كان الإمداد بالملائكة؛ لتطمئن به قلوبهم، وإنزال النعاس بهم أمنة منه تبارك وتعالى، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم كما ربط على قلوب أهل الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] إلى آخر الآية. فهذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب التي نستدل عليها بمفهوم المخالفة في قوله هنا: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)). وقد جمع الله سبحانه وتعالى المنطوق والمفهوم في قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]، فنص على الطمأنينة بالتثبيت في قوله: ((فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا))، ونص على الرعب فقال: ((سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ))، فكانت الطمأنينة تثبيتاً للمؤمنين، والرعب زلزلة للكافرين. وفي حديث جبريل لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى بني قريظة، قال: (إني متقدمكم لأزلزل بهم الأقدام)، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] * {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وهذا المعنى الذي ندندن حوله الآن هو أثر التأثير في الحالة النفسية والإيمانية والقلبية على الإنجاز في ساحة القتال، ومن ثَم نجد في الحروب الحديثة استخدام هذا السلاح، وكما هو معلوم أن السلاح ليس بذاته، وإنما هو بضاربه، وضاربه نفسه لا قيمة له إلا إذا كان عنده شجاعة وقوة وطمأنينة. فالآن تجدون ما يسمى بالحرب الباردة، فإنهم يستخدمون الحرب النفسية، وذلك ببث الدعايات، وإلقاء المنشورات، ففي بعض الحروب تلقى منشورات تدعو الناس إلى الاستسلام، وإلى عدم المقاتلة، وأنهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً، وأنهم لا محالة مهزمون، فما عليهم إلا أن يستسلموا، وكذلك يلجأ إليها أيضاً المتصارعون في حلبات الملاكمة، فيلقي بعض التصريحات حتى يلقي الرعب في قلب من يريد أن يوهن عزيمته بالحرب الباردة. ومن الحرب الباردة أيضاً ما سلكه أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:72 - 73]، فهذه حرب نفسية أيضاً، وهي حرب باردة، فيأمرون بعضهم أن يدخل في الإسلام في أول النهار، ثم يرتد عنه في آخر النهار، ثم يقول: دخلنا في هذا الدين فما وجدنا فيه خيراً، وهذا نوع من الحرب النفسية، ففيه زلزلة قلوب المؤمنين. ويقول الله تبارك وتعالى محذراً من هؤلاء، ومحذراً من هذا النوع من الحرب؛ {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18]، و ((الْمُعَوِّقِينَ)) هم المنافقون الذين يندسون وسط المسلمين، فيلقون فيهم الإرجاف والشبهات والتشكيك وروح الانهزامية، ولذلك حذر الله سبحانه وتعالى من الإنصات لهذا الإرجاف؛ لأن الإرجاف والتعويق والتثبيط له أثر خطير على المسلمين، يقول تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]. ولما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب، وبلغ الرسولَ عليه الصلاة والسلام أن اليهود نقضوا عهدهم، أرسل إليهم من يستطلع له خبرهم، وأوصاهم إن هم رأوا غدراً ألا يصرحوا بذلك، أي: ألّا ينشروا الخبر في أوساط المسلمين، ولكن عليهم أن يعرِّضوا بالكلام ويلحنوا به لحناً؛ حفاظاً على طمأنينة المسلمين، وإبعاداً للإرجاف عن صفوفهم. ثم بيّن الله سبحانه وتعالى أثر الدعاية الحسنة، والإعلام الخيّر في قوله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ} [الأنفال:60]، فهذا وإن كان استعداداً مادياً إلا أن الهدف منه الإرهاب النفسي، فهذه حرب باردة أيضاً، وحصل بالفعل هذا الاستعداد، فخرج جيش أسامة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعند تربص الأعراب، فكان لهذا الخروج الأثر الكبير في إحباط نواي المتربصين بالمسلمين، وقالوا: ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية، والقوة اللازمة. وأيضاً ما أجراه الله سبحانه وتعالى في غزوة بدر كان من هذا القبيل، وهو أكبر دليل عملي، فقد قلل الله سبحانه وتعالى كل فريق في أعين الآخرين، يقول تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال:43 - 44]. وفاتنا أن ننبه على أمر يتعلق بقراءة قوله تعالى: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ))، فعامة القراء قرءوها: ((يُخْرِبُونَ))، بالتخفف، من أخرب، أي: يهدمون، وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو: (يُخْرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) بالتشديد، من التخريب، قال أبو عمرو: إنما اخترت التشديد؛ لأن الخراب ترك الشيء خراباً بغير ساكن، وبنو النضير لم يتركوا خراباً وإنما خربوها بالهدم، ويؤيده قوله تعالى: ((بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ))، وقال آخرون: التخريب والإخراب بمعنى واحد، والتشديد بمعنى التخريب. وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير: لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلّت الإبل كانوا يستحسنون الخشبة والعمود، فيهدمون بيوتهم، ويحملون ذلك على إبلهم، ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضاً قال: كانوا يخربونها؛ لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وهذا كما فعلوا في سيناء وغيرها، فأي مكان ينسحبون منه فإنهم يخربونه؛ حتى لا ينتفع بها م

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا) قال الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] أي: ولولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم، وأنهم سيبقون مدة فيؤمن بعضهم، ويولد لهم من يؤمن، فهذه حكمة استبقائهم، وأما غيرهم فقد أبيدوا وقتلوا. {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر:3] أي: بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة، والجلاء: هو مفارقة الوطن، يقال: جلا بنفسه جلاء، وأجلاه غيره إجلاء، والفرق بين الجلاء والإخراج -وإن كان كلاهما فيه معنى الإبعاد- من وجهين: الأول: أن الجلاء يكون مع الأهل والولد، والإخراج: قد يكون مع بقاء الأهل والولد، أي: أنه ينفى ويبقى أهله وولده في البلد. الفرق الثاني: أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج يكون لواحد ويكون لجماعة، قاله الماوردي.

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله)

تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:4] أي: خالفوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما نُهوا عنه من الفساد ونقض الميثاق. قوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:4] أي: شديد العقاب له في الدنيا وفي الآخرة. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:4]، المشاقة: العصيان، ومنه شَقُّ العصا، بمعنى المخالفة، وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم، وتخريب بيوتهم بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، فالمشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك التخريب. ويقول أيضاً: وهكذا اليهود، فإن داءهم الدفين هو الحسد والعجب بالنفس، فجرّهم إلى الكفر، ووقعوا في الخيانة، وكانت النتيجة القتل والطرد. فمشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه، وعاقبهم عليه مرتين، وتهددهم إن هم عادوا للسالفة عاد للانتقام منهم، {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا} [الإسراء:4 - 7] أي: الثانية من المرتين، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7] * {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] أي: إن عدتم للإفساد في الأرض عدنا لتسليط عباد لنا أولي بأس شديد عليكم، فينتقمون منكم، وهاهم قد عادوا إلى الخيانات كما حصل منهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، وشاقوا الله ورسوله، فسلط الله عليهم رسوله والمؤمنين. فقوله تعالى: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} لم يبين هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا، لكن هناك آيات أخرى تدل على أنهم عادوا فعلاً للإفساد، فقد عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتْم صفاته، ونقْض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وجرى على بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وخيبر ما جرى من القتل، والسلب، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة وغيرها، ومن الآيات التي تدل على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:89 - 90]، فقال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]، وقال تعالى: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13]. ومن الآيات التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى عاد إلى الانتقام منهم لما عادوا إلى الإفساد بمحاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، ونقض العهود، وموالاة المشركين، والاتفاق السري مع المنافقين في المدينة، هذه الآيات التي في سورة الحشر: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ)) إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال تعالى أيضاً يبين أنه عاد إليهم بالانتقام لما عادوا إلى الإفساد: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، وقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب:26 - 27]، إلى آخر الآية. فالمشاقة التي وقعت من اليهود تخالف المشاقة التي وقعت من غيرهم، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود بسبب تخلف بعض العلة في الحكمين، فليس كل من شاق الله ورسوله يخاطب بهذا التقريع، لكن المقصود هنا أن اليهود صدرت منهم مشاقة تقتضي هذه العقوبات.

تفسير قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها)

تفسير قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها) قال الله تبارك وتعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5]. (ما) في قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) في محل نصب مفعول به، والناصب له (قطعتم)، والمعنى: أي شيء قطعتم، فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم على حصون بني النضير وهو غضبان عليهم حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد، فأمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فقام الصحابة بقطع هذا النخل بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أنهم فعلوا ذلك وأقرهم عليه، وكان هذا الفعل إما لإضعاف اليهود وإلقاء الهيبة في قلوبهم، وإما لتوسيع المكان؛ حتى يتمكنوا من مقاتلتهم، فشق ذلك عليهم، فقال اليهود: يا محمد! ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح؟ أفمن الصلاح قطع النخل، وحرق الشجر؟ وهل وجدت في ما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ووَجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا، فقال بعضهم: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا، يعني: هذا النخل بكل الأحوال هو لنا، فإذا كان لنا فلماذا نقطعه؟! وقال بعضهم: اقطعوه؛ لنغيظهم بذلك، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع، وتحرير من قطع من الإثم، وذلك لبيان أن كل الفريقين اجتهد وأصاب، فأخبر أن قطْعه وترْكه إنما هو بإذن الله وإباحته تبارك وتعالى، وهذا يرفع عنهم الشعور بالحرج. قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) اللينة تطلق على كل النخل ما عدا العجوة، وقد كان هذا النخل في مكان يسمى البويرة، وهو بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء. وقال ابن كثير في قوله تبارك وتعالى: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) يعني بالإذن: القدري والمشيئة الإلهية، كما في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152]، إذاً: فـ ابن كثير يرى أن هذا الإذن إذن كوني قدري. ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي إرادي، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]، فيكون المقصود من قوله: (فبإذن الله)، أي: بإباحة الله لكم أن تغيظوا هؤلاء اليهود بحرق نخيلهم. يقول: فلأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه القتال بناء على قاعدة الأمر بالشيء أمر به، وأن ما لا يتم إلا به فإنه يؤمر أيضاً به، والحصار نوع من القتال، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل؛ لتمام الرؤية، أي: أنهم قد يتخفون فيها ويفرون، فربما كانت هناك مصلحة في قطع النخيل؛ حتى تكون المنطقة مكشوفة فتسهل الرؤية، أو لإحكام الحصار عليهم، أو لإذلال وإرهاب العدو بحصاره، وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله وممتلكاته، وقد يكون فيه إشارة له ليندفع بحمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله، فينكشف عن حقوله، ويسهل القضاء عليه، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية التي أشار الله تعالى إليها بقوله: ((وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)) أي: بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم وهم يرون نخيلهم يقطع ويحرق فلا يملكون له دفعاً. وعلى كل؛ فالذي أذن بالقتال، وسفك الدماء، وإزهاق الأنفس ألا يأذن بإحراق أموالهم، وما يترتب على هذا القتال من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر. ويمكن أن يقال: إن ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبإذن الله أذن، ويكون هذا قريباً مما فعل الخضر بالسفينة، ففي الظاهر أن الخضر كان يتلف السفينة، {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، مع أن الخضر أراد من خرقها أن يعيبها بإتلاف بعضها، ليستخلصها من التقاط الملك إياها، وقال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]. واعترض أيضاً المشركون على المسلمين حينما حصل منهم القتال في شهر من الأشهر الحرم كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، فتعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام، أي: أن المسلمين لم يكونوا متثبتين من دخول الشهر الحرام، فاتُّهموهم بالاعتداء على حرمة الأشهر الحرم، ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)) أي: تقاتلون أيها المسلمون! في الشهر الحرام؟ فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، فقال: ((قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ)) أي: أنه أمر عظيم وخطير. وهنا تنبيه وهو: أننا مقبلون في هذه الليلة على أول ليلة في شهر رجب، وهو من الأشهر الحرم، فينبغي الحذر الشديد من أي معصية؛ لأن الله سبحانه تعالى يقول: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، فينبغي الاحتراز الشديد من أي نوع من أنواع الظلم والمعاصي وخصوصاً القتال؛ مراعاة لحرمة الأشهر الحرم، فالمعاصي فيها قد تضاعف عقوبتها؛ لحرمة هذه الأشهر عند الله، وبسبب هجرنا الآن للتقويم الهجري فإن الناس لا يفرقون بين شهر الحرام وغيره، فالمؤمن الذي يفقه عن الله كلامه ينبغي أن يحترس في الأشهر الحرم عن أي معصية كما قال تعالى: ((فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ))، فالنهي عن ظلم النفس بالمعاصي وغيرها، وكذلك النهي عن ظلم الآخرين حاصل في كل وقت، لكنه يزداد حرمة بحرمة الزمان، كما في هذه الأشهر الحرم، فلنلتفت جميعاً إلى هذا المعنى. يقول: فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله، والكفر بالله، والصد عن المسجد الحرام، وإخراج أهله منه أشد من القتال الذي ارتكبه المسلمون في الأشهر الحرام، والفتنة عن الدين أكبر من القتل الذي تستنكرونه من المسلمين. وهكذا هنا أيضاً؛ فقد تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال، فكيف بغدرهم وخيانتهم ونقضهم للعهود؟ وكيف بممالأتهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك وهو يذكر إجلاء بني النضير، وقتل ابن الأشرف فيقول: لقد خزيت بغدرتها الحبور كذاك الدهر ذو صرف يدور وذلك أنهم كفروا برب عظيم أمره أمر كبير وقد أوتوا معاً فهماً وعلماً وجاءهمُ من الله النذير إلى أن قال: فلما أشربوا غدْراً وكفراً وجد بهم عن الحق الثغور أرى الله النبي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجور فأيده وسلطه عليهم وكان نصيره نِعم النصير إذاً: فالأقرب في الإذن بقطع النخيل أنه إذن شرعي، ويمكن أن يقال: هو عمل تشريعي إذا دعت إليه الحاجة. قوله: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)) أي: من نخلة من نخيلهم؛ إغاظة لهم، ويطلق كما ذكرنا على النخل كله إلا العجوة، ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا)) أي: سواء ما قطعتم وما تركتم من النخيل، ((فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) أي: بأمر الله ورضاه، وذلك ليس للعبث ولا للإضرار، بل لتأييد قوة الحق، وتصلب أهله، وإرهاب المبطلين وإذلالهم، كما قال تعالى: ((وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ))، لما فيه من إهانة العدو وإضعافه ونكايته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذكر علماء الأخبار وأئمة السير أن سبب الأمر بجلاء بني النضير هو نقضهم العهد، قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا ولا يوالوا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسم تاركوه، فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه صلى الله عليه وسلم. ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن؛ ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريضة، فكان بنو قينقاع أول من نقض ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، ثم نقض العهد بنو النضير، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم، فتآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو رجل فيلقي صخرة عليه، فانتدب لذلك عمرو بن جحش بن كعب أحدهم، وصعد ليلقي عليه صخرة، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراد القوم، فقام ورجع بمن معه من أصحابه إلى المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم، ثم سار بالنا

الحشر [6 - 8]

تفسير سورة الحشر [6 - 8]

تفسير قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم)

تفسير قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم) قال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]. الضمير في قوله تعالى هنا: ((مِنْهُمْ)) يعود إلى بني النضير، والفيء: هو المال الذي يؤخذ من الكفار بدون قتال، سواء فروا وتركوه، أو أُجلوا عنه. وقد قال بعض العلماء: إن كلمة الفيء معناها الرجوع، من فاء بمعنى رجع، والمعنى: أن هذا المال إنما خلقه الله سبحانه وتعالى ليعبد به، وليستعمل في طاعته وفيما أحله، لا فيما حرمه، فبما أن هذا المال رجع إلى المسلمين الموحدين المجاهدين، فقد رجع إذن إلى أهله الذين يستحقونه، ويستدل على ذلك بقرآن منسوخ وهو: (إنما أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). إلى آخره. قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي: لما كان إخراج اليهود مردُّه إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم من الرعب، وبما سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشاركه فيه غيره، ففي حادثة بني النضير لم يقاتل المسلمين قتالاً حقيقاً، وربما كانت هناك مبادئ قتال، إلا أنه لم يحصل قتال، فكان اليهود في غاية اليقين بأنهم مانعتهم حصونهم من الله، وكان المسلمون أنفسهم لا يؤمِّلون على الإطلاق أن يهزموا اليهود؛ لشدة منعتهم، وكثرة عدتهم وقوتهم، فهزمهم الله سبحانه وتعالى بأن قذف في قلوبهم الرعب، وبأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا المال بالذات لا يقسم إلا وفق ما يشاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يشاركه فيه غيره. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في سورة الأنفال: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من الغنائم، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لهما: إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا لشيء ولم يعطه أحداً غيره، فقال عز وجل: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: لم تتعبوا أنتم فيه، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]، والنبي صلى الله عليه وسلم والله! ما احتجبها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، مع أن الله أباحها له، وفوض الأمر إليه، فقد أعطاكموها وبثها فيكم، ووزعها في المهاجرين حتى بقي منها هذا المال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقي فيجعله في الفقراء. فكانت هذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) وهذا عام في جميع القرى، إلا أن الفيء الذي حصل من بني النضير خصوصاً كان خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية مع عمومها مصدراً ومصرفاً فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة. فقوله عز وجل هنا: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)) أي: ما أعاد عليه من أموال بني النضير، ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) أي: فما أجريتم على تحصليه خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، والإيجاف مأخوذ من الوجيف، والوجيف: هو سرعة السير. فقوله: ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ)) أي: ما أجريتم على تحصيله خيلاً ولا ركاباً، ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم، ولم تحتاجوا إلى أن تركبوا الخيل وتسرعوا بها، ولا إلى أن تبذلوا جهداً في ذلك، والإيجاف: من الوجيف، وهو سرعة السير، والركاب: ما يركب من الإبل، وقد غلب فيه كما غلب الراكب على مركوبه، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ))، أي: من أهل الفساد والإفساد؛ ليقوم الناس بالقسط، ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). يقول الزمخشري: المعنى: أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه من القتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوَّض إليه صلى الله عليه وسلم يضعه حيث شاء، أي: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها، وأخذت عنوة وقهراً، فلما طلبوا القسمة نزلت: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) إلى آخره، وهذا الحكم عام في جميع القرى، لكن المعني به هنا حادثة بني النضير، فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ)) يعني: ما رده الله على رسوله، وهي أموال بني النضير، ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ))، يعني: فما أوضعتم عليه، والإيجاف: هو الإيضاع في السير، أي: الإسراع في السير، يقال: وجف الفرس إذا أسرع، وأوجفته أنا أي: حركته وأتعبته، ومنه قول تميم بن مقبل: مذاويد بالبيض الحديد صقالها عن الركب أحياناً إذا الركب أوجفوا يعني: أسرع، والركاب: الإبل، واحدها راحلة. يقول: لم تقطعوا إليها شقة، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين، قاله الفراء، فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف، فافتتحها صلحاً وأجلاهم، وأخذ أموالهم، فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم لهم فنزلت: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ)) إلى آخر الآية، فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين.

تفسير قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى)

تفسير قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) قال الله تبارك وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. قوله: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) أي: من أموال محاربيها، فهذا بيان للأول، فالآية الأولى فيها: ((وَمَا)) بالواو، والآية الثانية لما كانت بياناً للأولى لم يأت فيها الواو، فتأملوا ذلك. قوله: ((فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً))، ((كَيْ)) أي: أن فيء بني النضير حقه أن يكون لمن ذكر، ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)) أي: يتداولونه وحدهم دون من هم أحق به، وهي دولة جاهلية؛ إذ كان من عوائدهم استئثار الرؤساء والأغنياء بالغنائم دون الفقراء، ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)) أي: ما آتاكم الرسول من قسمة غنيمة أو فيء فخذوه، ((وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ)) أي: عن أخذه منها ((فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) أي: لمن خالفه إلى ما نهاه عنه. يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً))، وفي قراءة أخرى: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةٌ) بالرفع، أي: كي لا تقع دولة، على أن (كان) تامة. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: وقال أبو عمرو بن العلاء: الدولة: الظَّفَر في الحرب وغيره، وهي المصدر، وبالضم: اسم الشيء الذي يُتَداول من الأموال، وقال أبو عبيدة: الدُّولة اسم الشيء الذي يتداول، والدَّولة الفعل، والمعنى: فعَلنا ذلك في هذا الفيء كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع، ثم ينتقي منها أيضاً بعد المرباع ما يشاء، وفيها يقول شاعرهم وهو عبد الله الضبي يخاصم بسطام بن قيس ويقول له: لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول فالنشيطة: هي ما أصاب الرئيس في الطريق قبل أن يصل إلى مجتمع الحي، أي: قبل أن يرجع إلى البلد، والفضول: هو ما فَضُل من القسمة مما لا تصح قسمته على عدد الغزاة، كالبعير والفرس ونحوهما. فالمقصود من قوله: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً)) على هذا كي لا يُعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية، فجعل الله هذا لرسوله صلى الله عليه وسلم يقسمه في المواضع التي أمر بها، وليس فيه خمس، فإذا جاء الخمس وقع بين المسلمين جميعاً. وقد عقد الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى رحمة واسعة هنا بحثاً؛ لأن هذا الجزء من الآية له ذكريات، فقد كان في عهد عبد الناصر كل من يريد أن يتزلف إليه بمدح الاشتراكية والنظام الاشتراكي فإنهم يستشهدون بهذا الجزء من الآية: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، فكانوا يتلقطون أشياء من الإسلام ويجعلون منها عباءة يتغطى بها الاشتراكيون، فالشاهد من الكلام: أن هذه المبادئ هي مبادئ الإسلام، وبعض الناس كانوا يقولون: إن أبا ذر هو أول شيوعي في الإسلام!! فهذا ديدن بعض الناس فإنهم يحاولون أن يلفقوا هذه المذاهب بالإسلام كنوع من الانهزامية، أو ربما أكره بعضهم على ذلك في وقت من الأوقات حتى ألف كتاب (اشتراكية الإسلام)، والشاعر الآخر يقول لهم: الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواء فلا نطيل في ذلك فقد عقد الشيخ عطية بحثاً طويلاً في الرد على هؤلاء الناس، ورد فيه على من كانوا يستدلون بهذا الجزء من الآية على إباحة العدوان على أموال الناس بالغصب والمصادرة ونحو ذلك، وهذا من شؤم عهد عبد الناصر، فكانت هناك محاربة للملكية الخاصة، وهناك ما سموه بالإصلاح الزراعي، وغير ذلك من ظلمه وعدوانه على ملكية الناس، فقد عقد بحثاً طويلاً في بيان أن الملكية الفردية محترمة في الإسلام، وما دام أن الإنسان يجلب هذا المال من الحلال، ويؤدي زكاته، فلا يجوز أن ينتزع منه قهراً وغصباً. وأشار أيضاً إلى أن الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى ناقش هذه المسألة أيضاً في تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] رداً على هؤلاء الاشتراكيين، وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71]. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله: دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا وهي قوله تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل:71] ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية. وأقول: إن كلامنا الآن في هذا الموضوع لم تعد له فعالية كبيرة؛ لأن الزمن والأيام قد فضحت الشيوعية، وبينت إفلاسها، وأنها من أشد المذاهب عداوة للتراحم الإنساني، فهي توزع الفقر بالتساوي، وأما الرأسمالية فتترك بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء، وإن كانت أيضاً لها عوراتها وجرائمها، وفيها استعباد للناس، والإسلام بلا شك هو المنهج الوسط، والمنهج العدل. يقول: فتفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية، فلا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها إلى وجه من الوجوه، يقول تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، وبذلك يتحقق أن ما تذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس؛ لينعموا بها، ويتصرفوا فيها كيف شاءوا، حتى نشأ ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم، فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينضم إليهم هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير، مظلومون في كل شيء حتى ما كسبوه بأيديهم، يُعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير، وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه سيأتي أناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، فقال تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135]، وهذا وعيد شديد تجده لمن فعل ذلك. ثم يقول الشيخ عطية سالم: والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده، وفي الحديث القدسي المروي: (إن من عبادي لمَن يصلح له الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي لمَن يصلح له الغنى، ولو أفقرته لفسد حاله)، ولم يخرِّج الشيخ هذا الحديث. فهو سبحانه يعطي بقدَر، ولا يمسك عن قَتَر، لكن مراعاة لما يصلح العباد، فالإنسان لا يدري ما الذي يصلحه. وقوله تعالى: ((نَحْنُ قَسَمْنَا)) هذا الضمير للتعظيم والتفخيم، ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ)) أي: فلا مجال لتدخل المخلوق، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك، والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك، بل يتوقف عليه، كما قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32]، وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك، ويقرّون نظام الطبقات عمال وغير عمال إلى آخر. يقول الشيخ: ولا دليل لهم في سورة الحشر وهي قوله تعالى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل، والله تعالى أعلم. يقول الله تبارك وتعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. قال السيوطي في (الإكليل): استُدل بالآية على أن الفيء ما أخذ من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب، ومنه ما جلوا عنه خوفاً، أي: أن الكفار إذا رأوا جيوش المسلمين ففروا وتركوا المال فهذا أيضاً يدخل في الفيء، والغنيمة ما أخذ منهم بقتال، كما قال تعالى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ))، خلافاً لمن زعم أنهما بمعنى واحد، أو فرق بينهما بغير ذلك الفرق. وكأن الذي زعم أنهما بمعنى واحد رأى أن مجمل هذه الآية بينته آية الأنفال، حتى زعم قتادة أن هذه منسوخة بتلك، فقال فيما رواه عنه ابن جرير: كان الفيء في هؤلاء ثم نس

تفسير قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم)

تفسير قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8]. يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) أي: الفيء والغنائم للفقراء المهاجرين. وقيل: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ))، ولكن يكون للفقراء المهاجرين. وقيل: هو بيان لقوله تعالى: ((وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) فلما ذكروا بأصنافهم قيل: المال لهؤلاء؛ لأنهم فقراء ومهاجرون وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به. وقيل: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)) للفقراء المهاجرين؛ لكيلا يكون المال دولة للأغنياء من بني الدنيا. قول آخر: أن الآية التي قبلها تنتهي بقوله تعالى: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) [الحشر:7 - 8] يعني: من أجل الفقراء المهاجرين أو بسبب الفقراء المهاجرين، أي: هو شديد العقاب لمن أخرجهم من ديارهم، ولمن آذاهم، والمهاجرون هنا: هم من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حباً فيه، ونصرة له. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والأهلين والأوطان حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى إن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه؛ ليقيم به صلبه من الجوع، وهذه طريقة من طرق تلافي الإحساس بالجوع، لأن الضغط بالحجر على المعدة يقلل حجمها فبالتالي لا يشعر الإنسان بالجوع، وهذه الطريقة موجودة حتى الآن بأجهزة حديثة لمحاولة علاج الذين يبتلون بالسمنة، فسبحان الله! هؤلاء يبحثون عن ربط هذه الأشياء على بطونهم من شدة الترف والسمنة، والمهاجرون الأولون كانوا يعصبونها لشدة الجوع والجهد الذي كانوا يلقونه رضي الله تعالى عنهم، فكان الرجل منهم يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها، قال عبد الرحمن بن أبزى وسعيد بن جبير: كان ناس من المهاجرين لأحدهم العبد والزوجة والدار والناقة يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى الفقر، وجعل لهم سهماً من الزكاة. ومعنى قوله تعالى: ((أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ)) أي: أخرجهم كفار مكة، وذلك أنهم أحوجوهم إلى الخروج، وكانوا مائة رجل. ((يَبْتَغُونَ فَضْلًا وَرِضْوَانًا)) أي: من الله تعالى: ((وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) أي: في الجهاد في سبيل الله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] أي: في فعلهم ذلك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية -وهي بلدة في دمشق- فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض -أي: المواريث- فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تعالى جعلني له خازناً وقاسماً، ألا وإني بادٍ -أي: بادئ- بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمعطيهن، ثم المهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا.

الحشر [9 - 10]

تفسير سورة الحشر [9 - 10]

تفسير قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم)

تفسير قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) قا الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) أي: توطنوا دار الهجرة وهي المدينة. ((وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل مجيء المهاجرين إليهم، فالكلام هنا في الأنصار، وعطْف الإيمان على الدار بتقدير عامل، والعامل هنا فعل، أي: والذين تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان. وقيل: استُعمل التبوّء في لازم معناه، وهو اللزوم والتمكّن، والمعنى: لزموا الدار والإيمان. فالمقصود: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) أي: لزموا الدار، وهي دار الهجرة بالإقامة فيها والاستقرار، ولزموا أيضاً الإيمان بأن ثبتوا عليه ولم يتحولوا، وجُوَّز أيضاً تنزيل الإيمان منزلة المكان الذي يتمكن فيه، وكأن الإيمان نفسه مكان يستقر فيه الإنسان. قوله: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) أي: لوجود الجنسية في الصفاء والموافقة في الدين والإخاء؛ وذلك لأن المحبة لا تكون إلا عن تناسب، وكلما كثرت وجوه المناسبة والائتلاف والتوافق ازدادت هذه المحبة، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فلم يجعل الله تعالى هؤلاء الأزواج من الجن مثلاً، أو من خلق غير الإنس، وإلا لما وجد هذا التناسب، فقوله: ((مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)) يشير إلى هذا التناسب وهذه الموافقة، وكذلك كل محتابين تزداد المحبة بينهما كلما ازداد هذا التناسب والتوافق. وكذلك هنا؛ فهؤلاء الأنصار إنما أحبوا المهاجرين لوجود أعظم أسباب الجنسية والتناسب والموافقة، ألا وهي أخوّة الإيمان. ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) مع أنهم من غير بلادهم، ولا يكون ذلك إلا بسبب أخوّة العقيدة. وتأملوا فيما حصل بعد ما يقارب خمسين سنة من الحرب العالمية الثانية، وما حصل من تقسيم برلين إلى نصفين، فحصل انقطاع بين الأسر في هذه المدة البعيدة، ثم بعد ذلك هللوا لتحطيم سور برلين وتوحيد ألمانيا، ولكن تعجب بعد ذلك مما فعلوه -كما سمعنا من بعض إخواننا ممن يقيمون في ألمانيا- فقد قيل: إن الذين كانوا في ألمانيا الشرقية التي ابتليت بالشيوعية ذهبوا وهرعوا عند ذلك إلى أقاربهم الذين هم من نفس الأسر في برلين الغربية، فما كانوا يفتحون لهم الأبواب أصلاً! ويرفضون أن يدخلوهم، ويردوهم عن أبوابهم كأنهم متسولون! وهذا شيء لا يستغرب في العلاقات الاجتماعية في الغرب، بل أوضاعهم أشنع من ذلك. فالشاهد: أن الذي حدا بهؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الأنصار، وجعلهم يرحبون بإخوانهم المهاجرين ويؤثرونهم على أنفسهم، ولا يحسدونهم على نعمة أنعمها الله عليهم أو على عطاء قد خصوا به -إنما هو غاية الإيثار مع شدة الحاجة إلى هذه الأموال، وأخبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ذلك كثيرة مما لا تجد له مثلاً في التاريخ كله على الإطلاق، فلم يوجد جيل مثل هذا الجيل الفذ الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه. قوله: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) لوجود الجنسية -أي: التجانس-، والتوافق في الصفاء وطهارة القلوب، والموافقة في الدين والإخاء؛ لأن أقوى رابطة على الإطلاق هي رابطة الدين، فالله سبحانه وتعالى ربط المسلم بأخيه المسلم كما ربطت الكف بالمعصم، وكما ربطت القدم بالساق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) ونحن نعجب أشد العجب أنه في الوقت الذي يُنكَّل فيه الأقذار الأنجاس الأخباث أرذل خلق الله من اليهود -لعنهم الله سبحانه وتعالى- بإخواننا المستضعفين، ونحن هنا نحتفل بالنصر عن طريق الأغاني والرقص وغيرها، فهل هذه هي المشاركة الإيمانية؟! فتجد برامج اللهو واللعب والكرة والعبث وإخواننا ينكَّل بهم على يد هؤلاء الأنجاس أخبث خلق الله من أحفاد القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. فما يحصل الآن مع الإخوة في فلسطين شيء لا يتصوره العقل، فأين حقوق الإنسان؟! وأين الأمم المتحدة؟! وأين هذا السراب كله؟! وأين أثر تلك الصورة التي يقولون: إنها هزت ضمير العالم؟ أعني صورة الأب وابنه اللذي كانا يحتميان وراء البرميل، فقتلوا الطفل الصغير عن سبق إصرار وتعمد، وهذا كان واضحاً في الصورة! مع أنه لم يشارك في المظاهرة، ولا كان يحمل سلاحاً ولا غيره!! وهكذا تقوم الطائرات المروحية بقصف الفلسطينيين بصواريخ مضادة للدبابات!! وكل ذلك يقوم به المجرم السفاح شارون، الذي هو مجرم دولي معروف، وهو الذي كان وراء مجزرة صبرة وشاتيلا، ومثل هؤلاء لا يقال عليهم: إرهابيون! لكن الإرهابية صارت حكراً على المسلمين إذا دافعوا عن دينهم وبلادهم وأوطانهم! فالله المستعان! فينبغي أن نتذكر ونحن نتكلم عن ترحيب الرعيل الأول والتعاطف والمجانسة والمناصرة التي كانت بين المهاجرين والأنصار؛ ما نحن عليه الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، قال الشهاب: المراد بمحبة المهاجرين هنا مواساتهم، وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ)) أي: في أنفسهم: ((حَاجَةً)) أي: طلباً أو حسداً، ((مِمَّا أُوتُوا)) أي: مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره؛ لسلامة قلوبهم وطهارتها عن دواعي الفرك، ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) أي: حاجة وفاقة.

الإيثار في حظوظ النفس لا في الطاعات

الإيثار في حظوظ النفس لا في الطاعات يقول السيوطي في (الإكليل): في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. وإنما قيد السيوطي مدح الإيثار بأن يكون في حظوظ النفس والدنيا؛ لأن الإيثار في الطاعات لا يمدح، بل نحن في الطاعات مطالبون بالتنافس والمسابقة، وقد عكس الناس الآن هذا الأمر، فصاروا يتنافسون في الدنيا ولا يتنافسون في الدين، والصواب أن يكون هناك إيثار في حظوظ الدنيا كما ستأتي آثار عن الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم في ذلك، فتؤثر أخاك المسلم بالطعام وبالملبس وبالأموال وتواسيه بذلك، لكن إذا كانت هناك مسابقة في الآخرة فلا إيثار، فمثلاً تجد بعض المسلمين بسبب قلة الفقه في الدين كل واحد منهم يعزم على صاحبه أن يتقدم إلى الصف الأول فيقول له: تفضل تفضل، فيقول الثاني: لا، تفضل أنت!! فالطاعات ليس فيها إيثار؛ لأننا أمرنا بالتنافس في أمر الآخرة، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في الأذان والصف الأول لاستهموا على ذلك)، أي: لحصل بينهم من المشاكل ما لا ينهيها إلا القرعة! وقد كان الصحابة يبتدرون السواري إذا أُذن لصلاة المغرب، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، ومعنى المسابقة أن كل واحد يريد أن يكون هو الأول، فكذلك المسابقة في أعمال الآخرة، فإنه يكره ولا يستحب الإيثار فيها، وقد اختلف أحد الصحابة مع ابنه فيمن يخرج للجهاد، وفيمن يمكث عند النساء والأولاد يرعاهم، فقال له ابنه: والله يا أبي! لولا أنها الجنة لآثرتك على نفسي!! فهكذا كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يفقهون هذا المعنى، فالإيثار إنما يكون في أمور الدنيا، وأما أمور الدين فلا، فمثلاً عندما تسمِّع القرآن على الشيخ لا تضحي بدورك وتعطيه لشخص آخر، بل تسابق ولا تتنازل عن دورك؛ لأن تنازلك هذا فيه معنى الإعراض والزهد في ذلك، فالإنسان في أمور الطاعات والعبادات لا يؤثر على نفسه؛ لأننا -كما قلنا- أمرنا بالتنافس في الآخرة، وأما أمور الدنيا وحظوظها من المال والطعام ونحو ذلك فهذا هو محل الإيثار المستحب؛ فلأجل هذا قال السيوطي هذه العبارة: في الآية مدح الإيثار في حظوظ النفس والدنيا. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذا المقام أعلى من حال الذين وصفهم الله بقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، وقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177] إلى آخره، فهاتان الآيتان دلتا على أنهم يحبون ما تصدقوا به، وكقوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، فهم يحبونه لكنهم غير محتاجين إليه، وليسوا في حالة اضطرار ولا فقر ولا عَوز، وأما هؤلاء المذكورون هنا في هذه الآية فإنهم آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وشدة الحاجة، فهم بلا شك يحبون هذا المال، لكن يزيدون على المذكورين في الآيات الأولى بأنهم محتاجون إلى هذا المال، فقد آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوا، ومن هذا المقام تصدُّق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أبقيت لأهلك؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أبقيت لهم الله ورسوله). ومثل ذلك الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكان كل واحد منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم، ولم يشرب أحد منهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.

المعاملة بالمال تكشف حقيقة الإنسان

المعاملة بالمال تكشف حقيقة الإنسان قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) يعني: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، فالإنسان إذا ترك الأمر لنفسه فالنفس شحيحة في المال، والمال أعز شيء على الإنسان؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ((إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا)) يعني: الأموال: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:37] فالمال يفضح الإنسان؛ ولذلك فإن أدق الموازين التي تستطيع أن تحكم به على خلق الإنسان وأمانته هو التعامل معه بالمال؛ ولذلك لا تشهد لأحد لم يتم بينك وبينه تعامل بالمال؛ لأن المال هو الذي يفضح النفوس؛ ولذلك كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية من سورة القتال: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد:36] * {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد:37] أي: يحرجكم، ((تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ)) قال: اللهم لا تبلنا! فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا. فالشخص الذي تريد أن تحكم عليه، أو أن تعرف حقيقة أخلاقه وأمانته، إذا شهد له بحسن المعاملة في المال فهذا جزء كبير جداً من مقومات الشهادة له أو عليه؛ لأن المال هو الذي يخرج ضغائن النفس، والتنافس على المال هو سبب أكثر الصراعات بين الناس في هذه الدنيا، وهو السبب في قطع الأرحام، وفي الشحناء بين الناس، والبغي وغير ذلك مما يحصل، فلا تشهد لأحد إلا إذا كنت قد تعاملت معه بالمال، ولا تشهد لأحد إلا إذا سافرت معه؛ لأن الإنسان في الأحوال العادية يستطيع أن يضبط نفسه، ويتحكم في خلقه ودينه؛ لأنها معاملات مؤقتة، وتكون تحت جو من الرفاهية والراحة والاستيطان في بلده ووطنه، فهو يلقى أخاه أو صديقه ساعات ثم يفترقان وكل واحد في حاله، وأما في حال السفر وما يكون فيه من مشقة وعناء فإن هذا مما يكشف حقيقة أخلاق الإنسان، ولذلك سمي سفراً؛ لأنه يسفر ويكشف حقيقة أخلاق الإنسان، فمن عاشرته وتعاملت معه في السفر فهو الذي تستطيع أن تشهد له، وأما أن ترى رجلاً رائحاً غادياً إلى المسجد، وكل معلوماتك عنه أن يصلي في المسجد فهذه لا تكفي في الشهادة له بأكثر مما تراه، وبعض الناس يقول: هذا ملتحي! وكأن اللحية هذه ختم التوثيق، لا، فاللحية تساوي رجلاً في وجهه شعر فقط، لكن لا يلزم من وجودها أنه يكون شخصاً أميناً مثلاً!! لكن هذا يظن فيه بالذات في عصرنا هذا وفي مجتمعنا؛ لأن هذا سيترتب عليها ثمن ومعاناة واضطهاد وأشياء كثيرة، فمن ثبت عليه فهذه أمارة تدل على أنه متمسك بدينه، وهناك من قد يتخذ اللحية ليخدع الناس من أجل غرض دنيوي مثلاً؛ فلذلك قد يوجد شخص له لحية ومع ذلك يخون الأمانة. إذاً: فلا تشهد لشخص في وجهه شعر أو ملتحٍ بأنه أمين أو غير ذلك، فتربية اللحية شيء وكونه يحافظ على الأمانة مثلاً شيء آخر، فالأمانة لها مقاييس أخرى. فقوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: فيخالفها فيما يغلب عليها من حب المال، وبغض الإنفاق، ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالسعادتين، ونلاحظ هنا في قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أن الوقاية من شح النفس ليست بيد وشطارة الإنسان، وليست بجهد منه، بل هي بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ووقاية؛ ولذلك قال هنا: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ))، فالله سبحانه وتعالى يحميه من شر نفسه، فإذا رفعت عنه عناية الله صدر عنها كل سوء وشر، ولولا عناية الله وحمايته وحفظه لعبده المؤمن لتصرف على مقتضى طبائع هذه النفس الشحيحة الضنينة البخيلة، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) فيخالفها وخصوصاً في جانب المال، فإنه يغلب عليها حب المال، وبغض الإنفاق، ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: الفائزون بالسعادتين.

خطورة الشح

خطورة الشح إنّ إضافة الشح إلى النفس كما في قوله تعالى أيضاً: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، وفي قوله: ((شُحَّ نَفْسِهِ)) إشارة إلى أن النفس مأوى كل شر ووصف رديء، وموطن كل رجس وخلق دنيء، والشح من غرائزها المعجونة في طينتها؛ لملازمتها الجهة السفلية، ومحبتها الحظوظ الجزئية، فلا ينتفي منها إلا عند انتفائها، ولكن المعصوم من تلك الآفات والشرور من عصمه الله سبحانه وتعالى. يقول ابن جرير: الشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل من المال. وعن ابن زيد قال: ومن وقي شح نفسه فلم يأخذ من الحرام شيئاً ولم يقربه، ولم يدعه الشح أن يحبس من الحلال شيئاً فهو من المفلحين. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفحش؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح؛ فإنه أهلك من قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً) أي: أن صفة الشح تتنافى مع صفة الإيمان وتضادها. يقول القرطبي في قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)): لا خلاف أن الذين تبوءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها، ((وَالإِيمَانَ)) نصب بفعل غير تبوأ، أي: استوطنوا الدار، وهي دار الهجرة، (والإيمان) أي: وأخلصوا الإيمان، أو ولزموا الإيمان، يقول: لأن التبوء إنما يكون في الأماكن، لكن الإيمان ليس بمكان، ((مِنْ قَبْلِهِمْ))، والمعنى: والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه؛ لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ، وهذا كقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71] أي: فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم، وهذا كله من باب قولهم في الشاهد المشهور في الشواهد العربية: علفتها تبناً وماءً بارداً، أي: علفتها تبناً، وسقيتها ماءً بارداً، فهذا من أساليب اللغة العربية، ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ، ومواضع الإيمان، أو لزموا الدار، ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون (تبوأ الإيمان) على طريق المثل كما تقول: تبوأ من بني فلان الصميم، والتبوّء: التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد أنهم آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: من قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إليهم.

هل هذه الآية معطوفة على ما قبلها أم مقطوعة؟

هل هذه الآية معطوفة على ما قبلها أم مقطوعة؟ اختلف المفسرون هل هذه الآيات مقطوعة عما قبلها أو معطوفة عليها، فقال بعضهم: إنها معطوفة على قوله تعالى: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ))، وإن الآيات التي في الحشركلها معطوفة بعضها على بعض، ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2] إلى قوله تعالى: {الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5] , فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع، ثم قال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر:6]، فأخبر أن ذلك الفيء هو للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه لم يوجف عليه حين خلوه، وما تقدم فيه من القتال وقطع الشجر منه فقد كانوا رجعوا عنه، وانقطع ذلك الأمر، وقد سبق أن شرحنا ذلك. ثم قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7]، وهذا كلام غير معطوف على الأول بل هو كلام مستأنف، وكذلك أيضاً قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) هو ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين، وكأنه قال: الفيء للفقراء المهاجرين، ثم استأنف مدح الأنصار فقال: وأما الأنصار فإنهم يحبون هؤلاء المهاجرين، ولم يحسدوهم على ما صفى لهم من الفيء. وكذلك أيضاً قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ))، وهذا ابتداء كلام، والخبر: ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ))، فالراجح أن آيات سورة الحشر ليست معطوفة. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] فقال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] فقال: هذه لهؤلاء، ثم قال: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)) حتى بلغ: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ))، ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ))، ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ))، ثم قال: لأن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير -وهي: منازل حمير بأرض اليمن، والسرو من الجبل: ما ارتفع عن مجرى السيل، وانحدر عن غلظ الجبل- ليأتين الراعيَ وهو بسرو حمير نصيبُه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ، ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات أنزلت في ذلك، فلما غدا عليهم قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة الحشر وتلا: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)) إلى قوله: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ))، فلما بلغ قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] قال: ما هي لهؤلاء فقط، وتلا قوله: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) إلى قوله: ((رَءُوفٌ رَحِيمٌ))، ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك، وذلك لأن اللفظ على هذا التفسير فيه عطف في هذا الجزء، أي: أنه جعل مال الفيء مستحقاً لثلاث طوائف وهي: المهاجرون والأنصار، ثم من يأتي بعد المهاجرين والأنصار بشرط أن يحب المهاجرين والأنصار، فدل هذا على أن المبغضين للصحابة رضي الله تعالى عنهم لا حظ لهم في ذلك الفيء. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.

المفاضلة بين مكة والمدينة

المفاضلة بين مكة والمدينة من المسائل المعروفة التي هي محل نزاع بين العلماء: مسألة التفضيل بين مكةوالمدينة، يقول ابن وهب: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق، فقال: إن المدينة تبوأت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ)) وهذه المسألة لها موضع آخر تناقش فيه، وليس الوقت وقت التفصيل فيها، وفي المقابلة بين مكة والمدينة، وهناك قدر متفق عليه بين أصحاب القولين وهو: أن أفضل بقعة على وجه الأرض هي البقعة التي ضمت الجسد الشريف؛ جسد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة أخرى غير مسألة تفضيل الحرم المكي على الحرم المدني، فأطهر وأشرف بقعة على وجه الأرض هي البقعة التي ضمت جسد الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك يقول الشاعر: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه الفداء وفيه الجود والكرم قوله تعالى: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيء وغيره، فقد ذكرنا سابقاً أن هذا المال كان لرسول عليه الصلاة والسلام خاصة يتصرف فيه كيف يشاء، وذكرنا العلة: ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ))، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم في فقراء المهاجرين، وأعطى اثنين من الأنصار اشتكيا الفاقة، فقوله هنا: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: لا يحسدونهم على اختصاصهم بمال الفيء وغيره. وقيل في تفسيرها: يقدر فيها حذف مضافين، أي: ولا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة، وكان المهاجرون في دُور الأنصار، فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم لهم في أموالهم، ثم قال: (إن أحببتم قسمت ما أفاء الله علي من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم فخرجوا من دوركم، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رضي الله عنهما: بل نقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم الأنصار! وأبناء الأنصار) رضي الله تعالى عنهم، وقال أيضاً في الأنصار: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بعض الأنصار)، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، ولم يعط الأنصار شيئاً إلا من ذكرنا من قبل.

من الصور المشرقة في الإيثار

من الصور المشرقة في الإيثار قوله تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، جاء في الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نوَّمي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وخرجه مسلم أيضاً. وخرج أيضاً عن أبي هريرة رضي عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود -أي: متعب من شدة الجوع والفقر- فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق! ما عندي إلا ماء، فقال: من يضيف هذا الليلة رحمه الله، فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء -أي: أشغليهم ووليهم عن الجوع بشيء آخر-، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل -لأن الطعام لا يكفي الثلاثة- قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم، قد عجب الله عز وجل من صنيعكما بضيفكما الليلة). وفي رواية عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه، فلم يكن عنده ما يضيفه، فقال: ألا رجل يضيف هذا رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فانطلق به إلى رحله) وساق نحو الحديث، وذكر فيه نزول هذه الآية. وذكر المهدوي عن أبي هريرة: أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار نزل به ثابت يقال له: أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: أطفئي السراج، ونومي الصبية، وقدم ما كان عنده إلى ضيفه، وهكذا ذكر النحاس. وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة رضي الله تعالى عنه، وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثه إليه، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك. أي: ظل كل واحد يقع في يده يقول: أخي أو جاري أحوج إليه مني فيعطيه إياه، والثاني يقول نفس الشيء، فطاف على سبعة أبيات، حتى رجع إلى الأول فنزل قوله تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)). وعن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً فتوجه به إلى جار له فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول فنزلت: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)). وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم المخلاف من أرضه حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه)، وهذا لفظ مسلم. وقال الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمئونة، وكانت أم أنس بن مالك تدعى أم سليم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، وكان أخاً لـ أنس لأمه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها -أي: نخلة- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، وهي أم أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: (أن رسول صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه).

مدح التنافس في الآخرة وذمه في أمور الدنيا

مدح التنافس في الآخرة وذمه في أمور الدنيا قال القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية. وهذا كما قلنا من قبل: إن الإيثار يكون في الحظوظ الدنيوية؛ رغبة في الثواب وفي الحظ الأخروي، لذلك؛ فإن الحظ الأخروي ليس محل إيثار، بل هو محل تنافس، والتنافس في الدنيا مذموم، وأما التنافس الأخروي فمأمور به؛ لأن الدنيا ضيقة تضيق على أصحابها، فمن ثم يتنافسون فيها، وأما الآخرة فواسعة، والجنة واسعة عرضها كعرض السموات والأرض، وأدنى أهل الجنة منزلة له مثل ما في الأرض مرتين، فالجنة واسعة جداً، فمن ثَم فالتنافس على الجنة لا يورث البغضاء، بل العكس فإن المؤمن يحب للناس كلهم أن يكونوا مثله في الإيمان والعمل الصالح، إلا شواذ من الناس قد يحصل على الأمور الدينية وهو في هذه الحالة لا يحصل على الدين وإنما في الغالب يحصل على الدنيا، ومتى ما دخلت الحظوظ في الأعمال الدينية خرجت إلى التنافس على الدنيا كالتنافس على الشهرة والجاه وغيرها، فهذه دنيا في أمور وليست في أمور الدين، فالمفروض أنك تحب للآخرين أن يكونوا أيضاً طائعين لله سبحانه وتعالى، وهذه هي نفسية الداعية الذي يدعو الناس ويرشدهم إلى الخير؛ لأنه يحب لهم هذا الخير ويرجو لهم النجاة في الآخرة، فقد توجد في بعض طلبة العلم نوع من الأنانية أو الأثرة، فمثلاً قد يكون أخوه في حاجة ماسة إلى الكتاب وهو يخفيه عنه ولا يدله عليه، هذا نوع من الأنانية والأثرة التي لا تليق بطالب علم، وهذا خروج من التنافس على الطاعات إلى التنافس على حظوظ الدنيا، فينبغي إحياء خلق الإيثار وبالذات في الحظوظ، فمتى ما أحسست أن أي أخ لك في الله، أو زميل لك في العمل، أو زميل في الدراسة يحتاج إلى مذكرات، أو يحتاج إلى كتب، أو يحتاج إلى نصيحة، واطلعت أنت على شيء مما يفيده وهو لم يطلع عليه فلا تكتم عنه هذا الشيء، بل ينبغي أن نعيد سيرة السلف في الإيثار وعدم حجب أي شيء عن المؤمن إذا كان ينفعه. يقول القرطبي: الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية؛ رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي: خصصته به وفضلته، ومفعول الإيثار محذوف: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)) يعني: يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم لا عن غنىً، بل مع احتياجهم إليها.

سخاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

سخاء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جاء في موطأ مالك: أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن مسكيناً سألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها -أي: أن الشاة كانت ملفوفة بالرغف- فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت -أو إنسان- ما كان يهدى لنا شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كُلي من هذا، فهذا خير من قرصك، أي: القرص الذي كانت أعطته. ففي هذا أن عائشة كانت قوية التوكل على الله سبحانه وتعالى، وأن الله عوضها وأبدلها خيراً مما بذلته لوجه الله عز وجل، ورزقها من حيث لا تحتسب. يقول القرطبي: قال علماؤنا هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى، يعجل منه ما شاء، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه. يعني: أن مثل هذا الفرج هو سنة ماضية من سنن الله سبحانه وتعالى، فمن أعطى شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ومع ذلك فإن هذا لا ينقص شيئاً من أجره المدخر على ما أنفقه في سبيل الله تبارك وتعالى، ومن ترك شيئاًَ لله لم يحسن بفقده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أن يعقبه غنى النفس وهو أعلى درجات الغنى على الإطلاق، وإما أن يعقبه ما هو خير منه، وهناك كتاب مؤلف يحتوي على من بذل شيئاً لله فعوضه الله خيراً منه، وهناك كتب كثيرة جداً في هذا المجال. وعائشة رضي الله تعالى عنها في شأنها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وُقي شح نفسه، وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده، وفي بعض المناسبات الأخرى: أن عمر بعث إليها بعشرة آلاف من الدراهم، فأخذت تأمر الخادمة أن توزع: أعطي آل فلان، وأعطي بني فلان، فوزعته حتى لم تُبقِ درهماً واحداً، فلما أتى وقت إفطارها لم تجد شيئاً تفطر عليه، فقالت لها الخادمة: هلا استبقيت لنا مالاً نشتري به شيئاً نفطر عليه؟ فقالت لها: لا تعنفيني أو لا توبخيني، لو أذكرتني لفعلت. فهكذا عائشة رضي الله تعالى عنها، فذلك الجوع والنصب قد انتهى، فليست الآن حية حتى تعاني منه، لكنها إن شاء الله الآن في نعيم لا ينقطع، ورضا من الله سبحانه وتعالى، فهكذا العمل الصالح يُذهب النصب، ويبقى الأجر والنعيم، بخلاف السيئات. يقول: ومعنى: شاة وكفنها: أن العرب أو بعض وجوه العرب كان هذا من طعامهم، فيأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه فيغطونه كله بعجين البر ويكفنونه به، ثم يعلقونه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن، وذلك من طيب الطعام عندهم.

سخاء بعض الصحابة

سخاء بعض الصحابة روى النسائي عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما اشتكى واشتهى عنباً فاشتري له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل فقال: أعطوه إياه، قال: فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل، فقال: أعطوه إياه، ثم قال: فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه، فأراد السائل أن يرجع فمُنع، ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه. وذكر ابن المبارك بسنده عن مالك الدار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربع مائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، ثم تلكأْ ساعة في البيت، -أي: أنه أمر الخادم أنه يتلكأ في البيت- ثم تلكأْ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى انفذها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل فقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل وتلكأْ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، وقال: يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله! مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا دينارين قد جاء بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسر بذلك عمر وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها وكان عشرة آلاف، وكان المنكدر هو الذي دخل عليها.

حكم التصدق بجميع ما يملكه الإنسان

حكم التصدق بجميع ما يملكه الإنسان فإن قيل: قد وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل: إنما كُره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177]، فكانوا يصبرون على الفقر ولا يلجئون إلى سؤال الناس، وكانوا لا يتسخطون في الصبر على الفقر، وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر، ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار، فالذي لا يضمن نفسه ويخشى ألا يصبر، أو أنه سيتعرض لسؤال الناس فإنه يترك في جيبه ما يغنيه عن ذلك، لكن إن كان على ثقة من أنه سيصبر، ففي هذه الحالة له أن يتصدق بما فضل عن النفقة الواجبة عليه، فلا يتصدق بكل ماله ويترك أولاده مثلاً جوعى وعراة ولا ينفق عليهم، ثم يضطر للسؤال بعد ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، والعفو: هو ما فضل وما زاد عن النفقة الواجبة. وروي: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس؟)، والله تعالى أعلم.

أعلى درجات الإيثار: الإيثار بالنفس

أعلى درجات الإيثار: الإيثار بالنفس يقول القرطبي رحمه الله تعالى: والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس، يعني: أن المال لا يراد لذاته، وإنما يراد لإشباع حاجات النفس من الطعام أو الكسوة أو غيرها، لكن أقوى من ذلك الإيثار بالروح وبالنفس، وقد رأيتم صورة الأخ الفلسطيني وهو يذب عن ابنه، وهو شيء لا يستغرب ففيه حنان الأبوة وإيثارها، فالرجل كان هو وابنه قاعدين على الأرض في العراء إلى جانب برميل، وقد ضم الولد إليه، واليهود لعنهم الله وأذلهم، ونكس راياتهم وراية من يوالونهم يضربون النار بصورة متتابعة على المكان، والمكان خالٍ تماماً!! وهما بعيدان تماماً عن المظاهرة!! وهذا من جبن اليهود ونتنهم، فهم قد علو في الأرض وأفسدوا فيها كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وكانوا قبل هذا يستعملون الرصاص المسمى الرصاص المطاطي، وأما الآن فيستخدمون رصاصات تدخل داخل الجمجمة ثم تنفجر، وهذه محرمة دولياً، ومع ذلك فإنهم يضربون بها المدنيين، فهل هذه أخلاق الرجال؟! وهل هذا ما يسمونه بحقوق الإنسان: أن يُضرب هؤلاء المدنيون الذين لا يملكون إلا الحجارة من قبل هؤلاء الأنذال أخس خلق الله لعنهم الله بالصواريخ والدبابات والطايرات الهيلوكبتر. والشاهد منظر الأخ الفلسطيني وهو يذب عن الولد ويحاول أن يحميه بقدر الاستطاعة، ثم إذا بالرصاصة تصيب قدم الطفل ابن اثني عشر سنة ويتمدد على الأرض بعد أن قتله اليهود، والصورة الأخيرة للأب وقد أغمي عليه من الذهول من هذا الموقف، فهذه الصورة التي هزت ضمير العالم! أهي أول مرة يحصل ذلك بضمير العالم؟! إن المسافر والذاهب إلى إمريكا قد يسمع أصوات سيارات الإسعاف فيجد المرور متوقفاً، ويرى حالة من الفزع لا تتصور، ويرى التحقيقات والتدقيقات من أجل قطة صدمت بالسيارة! فيا لها من رحمة ورقة؟! هكذا تكون رقة القلب الأوروبي الرحيم مع القطط والكلاب!! وقد تصل إلى أن يستعملوا الطيارات أحياناً لإنقاذ طائر محبوس في مكان معين! وهكذا تفيض قلوبهم رقة على هذه الأشياء، وتجد الملايين من الدولارات تكتب في الميراث للكلاب، فالرجل عندهم قد يخلف الملايين من الدولارات، فيكتبها ميراثاً للكلب، ويحرم أولاده من صلبه! فالذي حصل من هذا الأخ الفلسطيني هي صورة من صور الإيثار بالنفس، وهذا من رحمة الأبوة التي وضعها الله في قلوب الخلق بجانب أخلاق الإيمان والإسلام، وهذا لا يستغرب في تراثنا، وكذلك الأم دائماً تضحي من أجل ابنها، وقد تغرق هي حتى ينجو كما هو مذكور في كثير من القصص. إن الإيثار بالنفس أقوى من الإيثار بالمال قال الشاعر وهو ابن الوليد: تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود ومن العبارات الرشيقة في تعريف المحبة: أنها الإيثار، يقول: ألا ترى أن امرأة العزيز لما تناهت في حبها ليوسف عليه السلام آثرته على نفسها فقالت: {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51] وأفضل الجود بالنفس ما يجود فيه الإنسان بالنفس لحماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء كان في الصحابة معروفاً، وهذا أعلا أو أغلا ما يبذله الإنسان أن يفدي رسول الله عليه الصلاة والسلام بنفسه. ففي الصحيح: (إن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد) أي: أنه جعل جسده مثل الترس أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى إذا جاء سهم أصابه هو وبخا الرسول عليه السلام. يقول: ففي الصحيح: (أن أبا طلحة رضي الله عنه ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله! لا يصيبونك، نحري دون نحرك، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده رضي الله تعالى عنه). وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته فإذا أنا به، فقلت له: أسقك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلي ابن عمي: أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار: أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام: أن انطلق إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد! ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا، أي: ما هو الفرق؟ فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا. وسئل ذو النون المصري: ما حد الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. وتفريق المجموع هو أن يجتمع لديه مال فيفرقه في أوجه الخير، وترك طلب المفقود: هو ألا يشتت نفسه في تتبع المفقود الذي لم يوجد، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري -والري هي طهران حالياً، وإليها ينسب الرازي - أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري ومعهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان، وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما فرغوا من الطعام أُضيء السراج فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئاً؛ إيثاراً لصاحبه على نفسه. قوله تعالى: ((وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)) الخصاصة: الحاجة التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر، فالخصاصة الانفراد بالحاجة، فمعنى: (ولو كان بهم خصاصة) أي: لو كان بهم فاقة وحاجة, ومنه قول الشاعر: أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المكثر

الفرق بين البخل والشح

الفرق بين البخل والشح قوله تعالى: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) الشح والبخل سواء، يقال: رجل شحيح، من الشُحّ والشَحْ والشحاحة، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل، وفي الصحاح: الشح: البخل مع حرص. والمراد من الآية: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام، والضيافة وما شاكل ذلك، فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه. وروى الأسود عن ابن مسعود: أن رجلاً أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله عز وجل يقول: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود: (ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل). ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحلال والحرام ولا يقنع. وقال ابن جبير: الشح: منع الزكاة، وادخار الحرام. وقال ابن عيينة: الشح: الظلم. وقال الليث: هو ترك الفرائض، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان فذلك الشحيح. وقال أبو الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو: اللهم! قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك شيئاً، فقلت له: لماذا تصر على هذا الدعاء؟ فقال: إذا وُقيتُ شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم: حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم). وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضر لابن آدم؟ قالوا: الفقر، فقال كسرى: الشح أضر من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً.

تفسير قوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفرلنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان)

تفسير قوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفرلنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] يعني: بالذين جاءوا من بعدهم الذين هاجروا حين قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم، فالسابقون الذين مر ذكرهم في الفقراء المهاجرين هم الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم على الصفة التي ذكرنا، وأما هؤلاء: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) فيقال: إنهم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم. فالمراد مجيئهم إلى المدينة بعد مدة، والمجيء هنا حسي حقيقي. وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة؛ لأن هذه صريح في هذه الآية: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا)) إلى آخره، فهذه الآية تتناول كل مؤمن يأتي بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة. إذاً فالمجيء هنا إما إلى الوجود أو إلى الإيمان، (والذين جاءوا من بعدهم) أي: الأجيال الأخرى التي توجد في الدنيا بعد ذلك، أو جاءوا إلى الإيمان، ونظير هذه الآية قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. وقال الشهاب: والمراد بدعاء اللاحق للسابق -وهم الخلف للسلف-: أنهم متبعون لهم، أو هو تعليم لهم بأن يدعو لمن قبلهم ويذكرونهم بالخير. ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه ويدعو له، ابتهاجاً بما أتوا، واغتباطاً بما عملوا؛ لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله محبة في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين محب لمن هاجر مكرِم له بل مؤثر إياه، مما أسفر عن قوة الإيمان والإخلاص في تدعيم روابط الإخاء. أي: أنك لا تدع للمهاجرين والأنصار إلا إذا كنت معجباً وراضياً ومقدراً لهم ما فعلوه، سواء كان المهاجرين أو الأنصار. يقول: لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله محبة في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين محب لمن هاجر مكرِم له بل مؤثر إياه، مما أسفر عن قوة الإيمان والإخلاص في تدعيم روابط الإخاء، فهذا هو الظاهر من لفظ الآية الكريمة وذوق سوقها، وأما فقراء الصنفين الآخرين فإنهم يستحقون من الفيء قياساً على الصنف الأول لاشتراكهم في الفقر، إلا أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكُ أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقراً إلا سهل بن حنيف سهلاً وأبا دجانة كما تقدم، فأعطاهما صلى الله عليه وسلم، وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها الغنائم فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبيّن في آيات أخر. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)) يعني: التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجهد أن لا تخرج من هذه المنازل. يعني: كن مهاجراً، فإن لم تستطع أن تكون مهاجراً الآن فافعل ما فعله المهاجرون، فإن لم تستطع فكن أنصارياً، فإن لم تستطع فكن محباً للمهاجرين والأنصار، ومستغفراً وداعياً لهم. وقال بعضهم: كن شمساً، فإن لم تستطع فكن قمراً، فإن لم تستطع فكن كوكباً مضيئاً، فإن لم تستطع فكن كوكباً صغيراً، ومن جهة النور لا تنقطع، ومعنى هذا: كن مهاجرياً، فإن لم تستطع فكن أنصارياًً، فإن لم تستطع فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله. وروى مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي! أنت من قوم قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] إلى آخر الآية؟ قال: لا، قال: فوالله! فإن لم تكن من أهل هذه الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ))؟ قال: لا، قال: فوالله! فإن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، فمن وجد في قلبه غلاً وحقداً على أي أحد من الصحابة: مهاجرياً أو أنصارياً فليتهم إيمانه، فهذه علامة النفاق في قلبه؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] أي: أنه اشترط الإحسان فيمن يأتي بعدهم، أما هم فهم محسنون بطبيعة الحال؛ ولذلك لم يشترط فيهم الإحسان، وإنما يشترط الإحسان فيمن يأتي بعدهم. وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم روى عن أبيه: أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، ثم عثمان رضي الله عنه فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا، قال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين -أي: لستم من المهاجرين ولا الأنصار- وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، قوموا فعل الله بكم وفعل، أي: يدعو عليهم. ففي هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظاً من الفيء ما أقاموا على محبتهم، وموالاتهم، والاستغفار لهم، وأن من سبهم، أو سب واحداً منهم، أو اعتقد فيه شراً فلا حق له في الفيء، وروي ذلك عن مالك وغيره. قال مالك رحمه الله تعالى: من كان يبغض أحداًَ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)). يعني: أن الفيء يكون للمهاجرين المذكورين في قوله: (للفقراء)، أو الأنصار الذين تبوءا الدار والإيمان، أو لمن يأتي بعدهم بشرط أن يلتزم هذا الخلق: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا))، وهذا: من شدة الحب كما قلنا، وهذه الدعوة لا تنطلق من اللسان فقط، بل لابد أن يكون هناك إعجاب وغبطة بما فعله الصحابة فتدعو لهم، وهذا هو الذي تستطيع أن تفعله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. كما قال الله سبحانه وتعالى أيضاً في آخر سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] يعني: التواضع والمسكنة والخشوع، ((ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)) أي: أنهم قوم رضي الله سبحانه وتعالى عنهم ومدحهم وأثنى عليهم قبل أن يخلقوا في التوراة، أي: أن التوراة فيها هذا النص: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، ومن هنا ذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى تكفير من في قلبه غيظ وغل وحقد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان في هذا نقاش واختلاف، لكن هذا ما استنبطه الإمام مالك من هذه الآية، فهذا يدل وجوب محبة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإذا وجب علينا محبتهم فإنه يجب علينا أن نبغض من أبغضهم. والحديث في هذا الأمر ذو شجون، ولا نستطيع أن نفصل فيه الآن، ولكن هذه إشارة عابرة إلى حال رافضة إيران وغيرها من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، وأغلب الناس إلى الآن رغم أن الرافضة قد فضحوا، وفُضحت مؤامراتهم وعداءهم لأهل السنة وأهل الحق، لكن مع ذلك هناك أناس ليسوا مستعدين أصلاً حتى الآن لسماع صوت الحقيقة، ويعبر موقفهم على الأقل عن الموقف القلبي عن الموالاة لهؤلاء الشيعة المجرمين الذين يعتقدون تحريف القرآن، والذين يكفرون الصحابة، فالصحابة عند هؤلاء كلهم مرتدون إلا عدد قليل قد يصل إلى خمسة من الصحابة، فهؤلاء هم الذين بقوا على الإسلام! ومن إجرامهم أيضاً اتهام أبي بكر وعمر بأنهم زنادقة ومنافقون وكفار إلى آخر هذا الكلام الفاحش، فمثل هؤلاء لا يمكن أبداً أن يجتمع في قلب أحد محبة الصحابة مع محبتهم، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد قال في علامة الفرقة الناجية: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فهل يعقل أن تكون الفرقة الناجية ف

تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا)

تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا) قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ثم ثنى بالأنصار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]. يقول صاحب (الظلال) في تفسير هذه الآيات: وهي صورة صادقة تبرز فيها أهم الملامح الممِّيزة للمهاجرين، فقد أُخرجوا إخراجاً من ديارهم وأموالهم، وأكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر من قرابتهم وعشيرتهم في مكة، وذلك لا لذنب إلا أن يقولوا: ربنا الله، وقد خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم؛ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، اعتماداً على الله في فضله ورضوانه لا ملجأ لهم سواه، ولا جناب لهم إلا حماه، وهم مع أنهم مطاردون قليلون فإنهم ينصرون الله ورسوله بقلوبهم وسيوفهم في أحرج الساعات، وأضيق الأوقات، فأولئك هم الصادقون الذين قالوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وصدقوها بعملهم، وكانوا صادقين مع الله في أنهم اختاروه، وصادقين مع رسوله صلى الله عليه وسلم في أنهم اتبعوه، وصادقين مع الحق في أنهم كانوا صورة منه تدب على الأرض، ويراها الناس. ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))، وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار؛ هذه المجموعة التي تفرغت لصفة وبلغت إلى آفاق، ولولا أنها وقعت بالفعل لحسبها الناس أحلاماً طائرة، ورؤىً مجنحة، ومُثُلاً عليا قد صاغها خيال محلِّق.

تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان)

تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان) قال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: دار الهجرة، وهي يثرب مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، كما تبوءوا فيها الإيمان وكأنه منزل لهم ودار، وهو تعبير ذو ظلال، وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان، لقد كان الإيمان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، ويثوبون إليه، ويطمئنون له، كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار. ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))، ولم يَعرف تاريخ البشرية كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الرضية، وبهذا التسابق إلى الإيواء، واحتمال الأعباء، حتى ليُروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بسرعة؛ لأن عدد الراغبين في الإيواء، والمتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين. قوله: ((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا)) أي: مما ناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع، ومن مال يختصون به كمال الفيء، فلا يجدون في أنفسهم شيئاً من هذا، ولم يقل تعالى: (ولا يجدون في صدورهم حسداً ولا غلاً ولا ضيقاً)، وإنما قال: (حاجة) يعني: شيئاً، مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم، والبراءة المطلقة لقلوبهم، فلا تجد شيئاً أصلاً. قوله: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا، وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيراً، وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديماً وحديثاً. قوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))، فشح النفس هو المعوِّق عن كل خير؛ لأن الخير هو بذل في أي صورة من الصور: بذل في المال، وبذل في العاطفة، وبذل في الجهد، وبذل في الحياة عند الاقتضاء، ولا يمكن أن يصنع الخير أبداً من يهمّ دائماً أن يأخذ، ولا يهمّ مرة أن يعطي، ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) [الحشر:9] فقد وقي هذا المعوِّق عن الخير، فانطلق إليه معطياً باذلاً كريماً، وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه.

تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا)

تفسير سيد قطب لقوله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا) قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وهذه هي الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية، وهي تبرز أهم ملامح التابعين، كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان، فهؤلاء هم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا قد جاءوا بعدُ عند نزول الآية في المدينة، وإنما كانوا قد جاءوا في علم الله، وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان، وقيمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة لا لذاتها فحسب، ولكن أيضاً لسلفها الذين سبقوا بالإيمان، وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق ممن يربطهم معهم رباط الإيمان، مع الشعور برأفة الله ورحمته، ودعائه بهذه الرحمة وتلك الرأفة ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)). وتتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها، وآخرها بأولها، في تضامن، وتكافل، وتواد، وتعاطف، وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب، وتتفرغ وحدها في القلوب؛ لتحرك المشاعر خلال القرون الطويلة، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة كما يذكر أخاه الحي أو أشد، في إعزاز وكرامة وحب، ويحسب السلف حساب الخلف، وينفي الخلف على آثار السلف، صفاً واحداً، وكتيبة واحدة على مدار الزمان، واختلاف الأوطان، تحت راية الله تغذ السير صعداً إلى الأفق الكريم، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم. إنها صورة باهرة تمثل حقيقة قائمة، كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم، صورة تبدو كرامتها وبراءتها على أتمها حين تقرن مثلاً إلى صورة الحقد الذميم، والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل (كارل ماركس)، وصورة الحقد الذي ينزل في الصدور، وينشر في الضمير على الطبقات، وعلى أجيال البشرية السابقة، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذليل، وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل جيل. صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة، ولا لمسة ولا ظل: صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراتبها، وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها، صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب، متضامنة، مترابطة، متكافلة، متوادة، متعارفة، صاعدة في طريقها إلى الله عز وجل، بريئة الصدور من الغل، طاهرة القلوب من الحقد، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين، يلقى بعضهم بعضاً بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء، وحتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة، فالصلاة ليست سوى أحبولة، والدين كله ليس إلا فخاً ينصبه أصحاب رأس المال للكادحين. قال تعالى: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))، فهذه هي قافلة الإيمان، وهذا هو دعاء الإيمان، وإنها لقافلة كريمة، وإنه لدعاء كبير.

الحشر [11 - 24]

تفسير سورة الحشر [11 - 24]

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم)

تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم) يقول الله سبحانه وتعالى تعجباً من اغترار اليهود بما وعدهم المنافقون به من النصر، مع علم اليهود أن هؤلاء المنافقين لا يعتقدون ديناً ولا كتاباً، فكيف صدقوهم واغتروا بهم؟! فقال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] وهم بنو النضير المتقدم ذكرهم، وأخوتهم معهم ليست أخوة نسب، وإنما هي أخوة دين واعتقاد، أو أخوة صداقة وموالاة؛ لأنهم كانوا معهم سراً على المؤمنين، فانظر كيف وصف هؤلاء المنافقين بأنهم إخوان لليهود أهل الكتاب! هذا خبر من الله سبحانه تعالى الصادق أن هؤلاء الكفار جميعهم على المؤمنين، وأنهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فقوله: (ولا يزالون) تفيد الاستمرار، والعالم كله يشاهد انحياز الشيطان الأكبر أمريكا إلى جانب اليهود لعنهم الله سبحانه وتعالى وأذلهم، فرغم كل هذا الظلم ترى التكاتف العجيب الغريب من هؤلاء الكفار مع إخوانهم الذين كفروا. فاليوم هناك مظاهرة يهودية في نيويورك يقوم بها جماعات يهودية تساند عصابة اليهود، وتتزعم وتشترك في هذه المظاهرة زوجة كلينتون؛ لأنها رشحت نفسها لعمدة مدينة نيويورك، فتخرج لتؤيد اليهود مع كل جرائمهم التي أجمع كل العقلاء من البشر أنها عدوان وحشي، وليس هذا فحسب، بل حصل اليوم في رام الله أن قتل الفلسطينيون جاسوسين مجرمين دخلا متنكرين، فانهالت عبارات الاحتجاج، وحصل القصف بالطائرات والصواريخ للمدينة، وقصفوهم أيضاً من البحر، وقصفوا مدينة غزة أيضاً، فالدمار شامل للمدينتين، وهو في مدينة غزة بالذات، ويقول اليهود: إن ما فعله هؤلاء الفلسطينيون بالجنديين الإسرائيليين هو منتهى الوحشية، وهذه أشياء لا تفعلها حتى الحيوانات، وأنه لا مكان لهذه التصرفات في العالم المتحضر، فنقول: نحن الآن صرنا وحوشاً! وصرنا نفعل فعل الحيوانات! وأنه لا مكان لهذه التصرفات في العالم المتحضر! فماذا تقولون فيما حصل مع الطفل رامي أو محمد بن الدرة وأبيه، وفيما حصل بالأمس في تل أبيب، فقد تجمع اليهود على ثمانية من العرب وضربوهم ضرباً مبرحاً، وكلهم موجودون حتى الآن في العناية المركزة، وحصل قبل يومين أن ما يسمى بالمستوطنين أخذوا رجلاً وعذبوه بالإحراق والضرب، حتى أحرقوا عينيه وكل جسده بالسجائر، حتى قتلوه ثم ألقوه، أليست هذه وحشية من اليهود أم أنها شيء جائز عندهم؟! وأما إذا صدر رد فعل من المسلمين فهذه وحشية وهمجية، وهذا يذكرنا تماماً بنفس منطق بعض المستعمرين الأوروبيين في إحدى الدول الإسلامية، فقد كانت مجموعة منهم تحاول قتل أو ذبح مسلم، فبعدما فرغوا من ذبحه وتقطيع جثته التفت واحد منهم إلى من حوله وقال: هؤلاء أناس متوحشون، لماذا متوحشون؟ لأنه وهو يحاول أن يذبحه عض يده!! فهكذا حضارة الغرب المجرمة، تتمسح بالكلاب، والكلاب هناك تعظم وتوقر، وتوهب لها الهبات، وتعيش حياة في غاية الترف، فهذه هي الحضارة الغربية، وقد بدت كل سوءاتها، حتى لم يعد شيء يرغِّب فيها. فنحن بلا شك في وضع مؤلم، خاصة وأننا منذ هذه المعاهدات ونحن في ذلّ، ونحارَب بكل الصور: في عقيدتنا، وفي أخلاقنا، وفي كل شيء، وأما اليهود فقد حوّلوا أماكنهم إلى ترسانة من الأسلحة النووية والذرية ونحو ذلك، ومع ذلك فنحن على ثقة بوعد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الهزيمة ليست حالة عسكرية، وإنما هي حالة نفسية، فالله سبحانه وتعالى قد تكفل بأنه يبعث على اليهود من يسومهم سوء العذاب، وهذا الضمان إلهي: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، فاليهود لن يستريحوا أبداً، ولن يذوقوا طعم الراحة حتى ولو قامت لهم دولة، ورُفع فوق رءوسهم علم، فهذه آية من آيات الله، فإنهم مع ما هم فيه من العتاد العسكري، والقوة العسكرية الشديدة إلا أنهم في حالة ضعف وخور وجبن وهلَع كما هو معلوم، فهذه سنة ماضية من الله سبحانه وتعالى، ولن ينعم اليهود أبداً بهذا السلام الذين يزعمون أو يتطلعون إليه، وعزاؤنا في ما يلقاه إخواننا الآن في فلسطين هو ما فعله المشركون بالصحابة من قبل في غزوة أحد حينما قالوا للمشركين: (قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار)، فمن يقتل من المسلمين فهو إلى الجنة بإذن الله، وقتلاهم في النار، ونقول لهم أيضاً: الله مولانا ولا مولى لكم، فهم يحتمون وراء أمريكا، ووراء الغرب الكافر الظالم، وينبغي لنا أن نأوي إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نعتصم بحبله من شر هؤلاء أجمعين. فقول الله تعالى هنا: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] وهم بنو النضير، وأخوتهم معهم أخوة دين واعتقاد، أو أخوة صداقة وموالاة، فقد كانوا معهم سراً على المؤمنين. قوله: ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ)) أي: من دياركم، ((لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا)) لا نطيع في خذلانكم أحداً أبداً، يعني: سواء الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين، ((وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ)) أي: لنعاونّنكم. قال ابن جرير: ذُكر أن الذين نافقوا هم: عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس، فقد بعثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرب: أن اثبتوا وتمنعوا فإنّا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم -أي: ترقبوا أن يأتوا لينصروهم ضد الرسول عليه الصلاة والسلام- فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح كما تقدم بيان ذلك.

تفسير قوله تعالى: (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم)

تفسير قوله تعالى: (لئن أخرجوا لا يخرجون معهم) قال الله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك، كما قال: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [الحشر:12] وقوله: (ليولن الأدبار) أي: منهزمين، (ثم لا ينصرون) أي: بنوع ما من أنواع النصر. ففي هذه الآية دليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة علم الغيب؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم، (والله يشهد إنهم لكاذبون)، والضمير هنا في قوله تعالى: (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) يعود إلى المنافقين أو إلى اليهود.

تفسير قوله تعالى: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله)

تفسير قوله تعالى: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله) قال الله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] أي: أنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله عز وجل؛ لاحتجابهم بالخلق عن الحق، وذلك بسبب جهلهم بالله، وعدم معرفتهم له، إذ لو عرفوه لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه، ولم يستخفوا بمعاصيه، ولم يستخفوا بأوامره، والضمير هنا يعود إلى المنافقين أو إلى اليهود. ومن هذه الآية نستنبط: أن الفقيه هو من يخشى الله سبحانه وتعالى، وليس من يحشد المعلومات في ذهنه، والدليل على ذلك هذه الآية الكريمة: ((لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ))، ثم علل ذلك بقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))؛ لأنهم لا يخشون الله سبحانه وتعالى حق الخشية. والمقصود بقوله تعالى: ((وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ)) أي: ولئن قُدِّر وجود نصرهم، لكن لا يمكن أن يكون نصراً حقيقياً، فالاحتمال هنا في هذه الآية ليس على ظاهره، وبفرض أنهم ينصروهم: ((وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ)). إذاً: فلابد أن نفهم قوله وتعالى: ((وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)) أنه على سبيل التقدير فقط، ولا يمكن أن يقع؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ))، فالله تعالى نفى نصرهم، فلا يجوز وجوده.

تفسير قوله تعالى: (لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة)

تفسير قوله تعالى: (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصنة) قال الله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]. قوله: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ)) أي: اليهود وإخوانهم، ((جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ)) أي: في الحصون، فلا يبرزون إلى البراز وهو المكان الفضاء، ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ)) أي: من خلف حيطان؛ لفرط رهبتهم منكم، فهم لابد أن يستتروا بالحيطان والدور؛ لجبنهم ورغبتهم في الحياة، وهذه الصفة تكاد تكون صفة لازمة من صفات اليهود، والذي نسمعه جميعاً من العسكريين خاصة الذين حاربوا اليهود في حرب رمضان يدلنا على هذه الصفة الملازمة لليهود، فقد كانوا -خاصة في الريف- يتحصنون انطلاقاً من هذه الطبيعة التي لا تتخلف عنهم أبداً. قوله: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)) أي: أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، فإنهم إذا اقتتلوا فيما بينهم يكونون ذوي بأس شديد على بعضهم البعض، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة؛ لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهذه العبارة في غاية القوة وهي للزمخشري. قوله: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)) أي: تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرقة لاختلاف مقاصدها، وتجاذب أدوائها، وتفرقها عن الحق بالباطل، فأهل الباطل تفرقهم الأهواء شتى، وآية ذلك: أن هذا الخبيث المدعو باراك حينما دعا إلى حكومة وحدة وطنية ويسمونها حكومة طوائف رفض ذلك زعيم المعارضة الخبيث السفاح شارون، وتتكلم الأحزاب اليهودية الآن وتقول: لا يُعقل أن نقعد معهم! فلا يمكن أن يجتمع هؤلاء أبداً مع بعضهم في ساعة واحدة، وذلك من شدة العداوة التي بينهم. ونرجو ألا ينطبق هذا الوصف على حكام العرب: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، فالذي يجمع ويوحد هي وحدة العقيدة، وعلل الله سبب تفرقهم بقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))، فمتى ما تخلف العقل والحكمة وجد التفرق، فدل هذا على أن الذين يتفرقون هم قوم لا يعقلون. فمعنى قوله: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)) أي: تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرقة؛ لاختلاف مقاصدها، وتجاذب دواعيها، وتفرقها عن الحق بالباطل، ((ذَلِكَ)) أي: ذلك الاجتماع في الظاهر مع افتراق البواطن ((بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) أي: أن ذلك يوجب جبنهم المفضي إلى الهلاك الكلي. وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم والحمل عليهم، وتذكير لهم بأنهم المنصورون الغالبون. وانظروا إلى الحزب المسمى: بحزب الله، فعلى ما هم فيه من الضلال المبين إلا أنهم يرغمون أنف اليهود في التراب، وباللغة التي يفهمها اليهود جيداً، ونحن نسمع الأخبار في ذلك، وكيف أنهم أجبروهم على الخروج من الجنوب اللبناني بدون مقابل، وبدون أي اشتراط، فهرعوا كالجرذان الهاربة خوفاً من هؤلاء مع بدعتهم وضلالتهم، فكيف يكون الأمر لو كان الذين يقاتلونهم هم أهل الحق وأهل السنة؟! فلا يستطيع أن يرد للأمة المسلمة اعتبارها إلا المجاهدون الذين ينطلقون من عقيدة التوحيد، وعقيدة القتال في سبيل الله، فلا ينفعنا شيء آخر: لا وطنية، ولا قومية، ولا هذه الشعارات الرنانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تدخل الجنة ولا تنقذ من النار، وإنما يكون ذلك بأن ترفع راية لا إله إلا الله، وقبل ذلك بأن نعود إلى ديننا عوداً جميلاً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام حينما توعدنا إذا تخلينا عن ديننا: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلّاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، فهذا شرط يشترطه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حتى تتألف وتجتمع هذه الأمة، وهو: أن تراجع الأمة دينها، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10]، فالمطلوب من جميع من حاربوا المسلمين أن يكفروا عما مضى، وأن ينووا في المستقبل الكف عن محاربة الدين، فقد حورب هذا الدين بشتى الطرق التي فيها إضعاف لقوة هذه الأمة، وذلك منذ بداية هذه المعاداة المشئومة مع أعداء الله اليهود الذين لا يعرفون إلا الغدر والخيانة، وهذا كله من الوحشية.

تفسير قوله تعالى: (كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم)

تفسير قوله تعالى: (كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم) قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر:15]. أي: مَثل هؤلاء اليهود من بني النضير فيما نزل بهم من العقوبة كمثل من نال جزاء بغيهم من قبلهم، وهم كفار قريش في وقعة بدر، أو بنو قينقاع، قال ابن كثير: والثاني أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا، قال قتادة: إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوه فيما بين بدر وأحد. وكان من أمرهم -فيما روي- أن أمرة من العرب قدمت بجلَب لها فباعته بسوق بني قينقاع، فجلست إلى صائغ، فجعلوا -أي: اليهود- يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها -وهي جالسة على الأرض- فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستطرق أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الثأر بينهم وبين بني قينقاع، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى الشام. وقال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عز وجل مثّل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب مما هو مذيقهم من نكاله بالذين من قبلهم من مكذبي رسوله صلى الله عليه وسلم الذين أهلكهم بسخطه، وأمْر بني قينقاع ووقعة بدر كانا قبل جلاء بني النضير، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمرهم، فمن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون بهم فيما عنوا به من المثل. أي: أن ابن جرير -وهو إمام المفسرين وشيخهم- يرى تعميم الآية وعدم تخصيصها ببني قينقاع، بل هي تشمل بني قينقاع، وتشمل أيضا المشركين في بدر، ((كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)) يقول كل ذائق وبال أمره ممن قربت مدته منهم قبلهم فهم ممثلون به فيما عنوا به من المثل. يقول صاحب (الظلال) رحمه الله تعالى: وحين ينتهي السياق من رسم هذه الصورة الوضيئة، ورفعها على الأفق في إطار النور يعود إلى الحادث الذي نزلت فيه السورة؛ ليرسم صورة لفريق آخر ممن اشتركوا فيها: فريق المنافقين. قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا} [الحشر:11] يقول: وهي حكاية لما قاله المنافقون ليهود بني النضير، ثم لم يفوا به، وخذولهم فيه حتى أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، ولكن في كل جملة قرآنية لفتة تقرر الحقيقة، وتمسّ قلباً، وتبعث انفعالاً، وتقرّ مقوِّماً من مقومات التربية والمعرفة والإيمان العميق، وأول لفتة هي تقرير القرابة بين المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب، ((أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))، فأهل الكتاب كفار، والمنافقون إخوانهم ولو أنهم لبسوا رداء الإسلام. ثم هذا التوكيد الشديد في وعد المنافقين لإخوانهم ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ))، فاللام لام القسم، ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ))، فالله الخبير بحقيقتهم يقرر غير ما يقررون، ويؤكد غير ما يؤكدون ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، ((لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)) أي: لو احتُمل وقُدّر نصرهم هذا مع أنه لا يقع، ((لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)) وكان ما شهد به الله، وكذَب ما أعلنوه لإخوانهم وقرروه. ثم يقرر حقيقة قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]، فهم قوم يرهبون المؤمنين أشد مما يرهبون الله، ولو خافوا الله ما خافوا أحداً من عباده، فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة، ولا يجتمع في قلب خوف من الله وخوف من شيء سواه، فالعزة لله جميعاً، وكل قوى الكون خاضعة لأمره، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56]، فمم يخاف إذن ذلك الذي يخاف غير الله، ولكن الذين لا يفقهون يخافون عباد الله أشد مما يخافون الله، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))، وهكذا يكشف عن حقيقة القوم الواقعة، ويقرر في الوقت ذاته تلك الحقيقة المجردة، ويمضي يقرر حالة قائمة في نفوس المنافقين والذين كفروا من أهل الكتاب تنشأ من حقيقتهم السابقة، ورهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله، وهي أنهم {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14]، وهذا وصف لحالة مستقرة، وصفة لازمة من صفاتهم، فقد أتت هذه الصفة بصيغة الخبر: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ))، ثم يقول: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)) وهذا مبتدأ وخبر، وهذا الخبر حقيقة واقعة لا تتغير أبداً، ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، والفعل المضارع يفيد الاستمرار أيضاً، ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)) يقول -وما أعجب ما يقول! فإنه قال هذا من عدة عقود رحمه الله- يقول: وما تزال الأيام تكشف حقيقة الإعجاز في تشخيص حالة المنافقين وأهل الكتاب حيثما التقى المؤمنون بهم، في أي زمان وفي أي مكان، بشكل واضح للعيان. ولقد شهدتْ -ولا أدري هل هذا الكلام كان في سنة ثمانٍ وأربعين مثلا- الاشتباكات الأخيرة أو بعدها في الأرض المقدسة بين المؤمنين الفدائيين وبين اليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة في أرض فلسطين، فإذا انكشفوا لحظة واحدة ولّوا الأدبار كالجرذان، حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء، وسبحان العليم الخبير. وتبقى الملامح النفسية الأخرى ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، على خلاف المؤمنين الذين تتوحد أجيالهم، وتربط بينهم العقيدة، وتقفز وراء حدود الزمان والمكان والجنس والنوع والانتماء لتوحد قلوبهم، فتتضامن أجيالهم حتى إن الخلَف ليدعون للسلف الأول: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا)). وعلى خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم، وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء فواصل الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة. قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))، والمظاهر قد تخدع، فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحياناً في معسكر واحد، والناس الذي يتابعون الأخبار منذ مدة يحكون كيف أنهم في مجلس الكنيسة يضربوا بعض نساءهم ضرباً حقيقياً، وهذا شيء سهل معتاد عندهم، فهذا كله يعكس ظلال هذه الآية: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا)) في الظاهر، وأما في الخفاء: ((وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)). يقول: والمظاهر قد تخدع فنرى تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم، ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض، كما نرى تجمع المنافقين أحيانا في معسكر واحد، ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، إنما هو مظهر خارجي خادع، وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخدّاع، فيبدو من وراءه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور، وينكشف الحال عن نزاع في داخل معسكر واحد قائم على اختلاف المصالح، وتفرق الأهواء، وتصادم الاتجاهات. فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل بأسهم بينهم شديداً، وما صدَق المؤمنون مرة وتجمعت قلوبهم إلّا وقُذف في قلوب أعدائهم الرعب، فإنه من أعظم جنود الله، ولنا في هذه السورة عبرة، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]. فالله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين في هذه الغزوة: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]، فهم لم يفعلوا شيئاً، وإنما الذي فعل هذا هو الله، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] أي: أن القوة في الحقيقة هي القوة القلبية، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، فنحن نرى هذا الجيش المدجج بالسلاح أمام أناس عُزَّل، فأقصى شيء يملكه الشباب والأطفال الفلسطينيون هي الحجارة، ومع ذلك فانظر إلى الفزع والهلع الذي هم فيه، وانظر إلى سعيهم لإدخال القريب والبعيد، وقد أعلنت إسرائيل اليوم عن غضبها من أمريكا؛ لأن أمريكا لم تضغط على الفلسطينيين بالصورة الكافية حتى يكفوا عن هذه العمليات، فماذا يصنع أطفال وشباب بالحجارة إزاء هذا الجيش المدجج بالسلاح؟! يقول: وما صدق المؤمنون مرة، وتجمعت قلوبهم على الله حقاً إلا وانكشف المعسكر الآخر أمامهم عن هذه الاختلافات فهذا التضارب، وهذا الرياء الذي لا يمثل حقيقة الحال، وما صبر المؤمنون وثبتوا إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل يتفسخ وينهار، وينكشف عن الخلاف الحاد، والشقاق والكيد، والدس في القلوب الشتيتة المتفرقة. إنما ينال المنافقون والذين كفروا من أهل الكتاب من المسلمين عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلم يعودوا يمثلون حقيقة المؤمنين الذي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة، فأما بغي

تفسير قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر وذلك جزاء الظالمين)

تفسير قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر وذلك جزاء الظالمين) قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17]. وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان، تتفقان مع طبيعته ومهمته، فأعجب العجب أن يجتمع إليه الإنسان وحاله هو هذا الحال، وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة، فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن، فالحقائق المجردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة، وهذا فصلُ ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين، وتنتهي قصة بني النضير وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات، واتصلت أقداسها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة، وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته، وتختلف روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر، فكم ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقارن. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17]، (كمثل الشيطان) أي: مثَل المنافقين في إغراء بني النضير على القتال، ووعدهم النجدة أو الصمود معهم، ومثَل انخداع بني النضير لوعد أولئك الكاذب كمثل الشيطان، ((إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ)) أي: إذ غر إنساناً ووعده على اتباعه وكفره بالله النصرة عند الحاجة إليه، ((فَلَمَّا كَفَرَ)) أي: بالله، واتبعه وأطاعه ((قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)) أي: مخافة أن يسنده في عذابه متيماً له، ((إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ)) أي: فلا أعيذك، ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) أي: في نصرتك، فلم ينفعه التبرؤ كما لم ينفع الأول وعده الإعانة، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:17] أي: في حق الله تعالى، وحق العباد، وهكذا جزاء اليهود من بني النضير والمنافقين الذين وعدوهم النصرة، وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به؛ إنهم في النار مخلدون. وقيل: إن المقصود بهذه الآية: ((كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ)) هو راهب تُركت عنده امرأة، فزين له الشيطان وطأها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له، فتبرأ منه وأسلمه، وهذه القصة مذكورة في كتب التفسير بطولها، وهي في حديث صححه الحاكم وسلم له الذهبي هذا التصحيح، وقال ابن الجوزي: إن الصحيح أن هذه القصة موقوفة على علي رضي الله تعالى عنه، وهذا خلاف قول ابن عطية، فإنه لما علقها قال: منسوبة للقصاص ضعيفة، وقال بعض العلماء: لعلها من الإسرائيليات. قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)): المعروف أن إبليس مُنظَر ومؤجّل، فقد سأل الله سبحانه وتعالى أن ينظره ويؤجله إلى يوم القيامة، قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:14 - 15]، فإبليس ما زال حياً إلى الآن، وهو الآن ليس في النار، بل لا يزال يمارس مهمته في إغواء البشر، ((إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)) قال بعض المفسرين: يعني: إني أخاف أن يعجل لي عذابي الآن في الدنيا، فهو الآن ما زال موجوداً في الدنيا كما هو معلوم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]. قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي: بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، قال المهايمي: يعني: أن مقتضى إيمانكم ألا تأمنوا مكر الله، فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر، ثم يتبرأ منكم، ((وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)) أي: لما بعد الموت من الصالحات، ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) يعني: فيجازيكم بحسبها. يقول صاحب (الظلال): وعند هذا الحد من رواية الحادث والتعقيب عليه، وربطه بالحقائق البعيدة المدى، يتجه الخطاب في السورة إلى المؤمنين، فيهتف بهم باسم الإيمان، ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب، وتيسر عليهم الاستجابة لتوجيهه وتكليفه، ويتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه للآخرة، واليقظة الدائمة، والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل، ممن رأوا مصير فريق منهم، وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:18 - 20]. والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ))، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها، فهي حالة تجعل القلب يقظاً حساساً، شاعراً بالله في كل حالة، خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها، وعين الله على كل قلب في كل لحظة، فمتى يأمن ألّا يراه؟! وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)) تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته؛ لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع خطأ، ومواضع نقص، ومواضع تقصير مهما يكن قد أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً؟! إنها لمسة لا ينام عن معناها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب، ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع. قوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))، فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء، والله خبير بما يعملون، وبمناسبة ما تدعو إليه هذه الآية من يقظة وتذكُّر يحذرهم في الآية الثانية من أن يكونوا ((كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ))، وهي حالة عجيبة، ولكنها حقيقة، فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى وهي: نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.

تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم)

تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] أي: المنحرفون الخارجون، وهذه الآية إحدى الآيات التي يستدل بها في حظر التشبه بالكفار. وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقاً غير طريقهم، وهم أصحاب الجنة، فطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] لا يستويان طبيعة وحالاً، ولا طريقاً وسلوكاً، ولا وجهة ومصيراً. فهنا على مفرق طريقين لا يلتقيان أبداً في طريق، ولا يلتقيان أبداً في سمة، ولا يلتقيان أبداً في خطة، ولا يلتقيان أبداً في سياسة، ولا يلتقيان أبداً في خط واحد في دنيا ولا آخرة، ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ))، فيثبت مصيرهم، ويدع مصير أصحاب النار مسكوتاً عنه معروفاً وكأنه ضائع لا يُعنى به التعبير. ويقول القاسمي في تفسير قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:18 - 19]، قال ابن جرير أي: لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم فأنساهم فضول أنفسهم من الخيرات، وأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً. ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة): تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى فريداً عظيماً، وهو: أن من نسي ربه أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده، فصار معطلاً مهملاً بمنزلة الأنعام السائبة، بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه؛ لبقائها على هداها الذي أعطاها أياه خالقها، وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه، فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل وتزكو وتسعد به في معاشها ومعادها، يقول تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فغفل عن ذكر ربه فانصرف عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله وما تزكوا به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر حيران لا يهتدي سبيلاً. فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد لسعادته، وكماله، ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستديم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها، وما تزكوا وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] أي: الذين خرجوا عن الدين القيم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقالوا وغدروا ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا. ومن المعلوم أن عقوبات الله سبحانه وتعالى تتنوع، فمن العقوبة ما يكون ظاهراً ملموساً محسوساً، ومنها ما يكون خفياً وهو أخطر، والعقوبات الظاهرة: منها عقوبات كونية قدرية كالزلازل والمكر والخسف والصواعق ونحو ذلك، ومنها عقوبات شرعية: كالحدود الشرعية: من رجم وجلد وقطع، ونحو ذلك. ومنها ما يصيب الإنسان في بدنه، ومنها ما يصيبه في ماله أو في عافيته وهكذا، فقد يعاقب الله سبحانه وتعالى العبد على ذنوبه بمثل هذه العقوبات، وهذه العقوبات ظاهرة واضحة. وهناك نوع آخر من العقوبات، وهي أخطر العقوبات على الإطلاق وهي: العقوبات الخفية التي لا تظهر ولا يحس صاحبها أنه معاقب، فالإنسان إذا عوقب ربما انتبه، وإذا أحس أن هذا العذاب من الله سبحانه وتعالى إنما هو من جراء ما هو فيه فربما أقلع، وهذا كالزلزال مثلاً الذي حصل هنا في مصر، أو الذي حصل في تركيا، فهذه الأشياء إشارة بلا شك من الله سبحانه وتعالى إلى عدم رضاه عن أفعال العباد، فهذه عقوبة لهم؛ لتذكرهم وتنبههم، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42] أي: لعلهم يتوبون، فهذا تنبيه وإيقاظ، وهذه رسائل من الله سبحانه وتعالى إلى العباد. فأقسى العقوبات ما كان خفياً كهذه العقوبة المشار إليها هنا في هذه الآية: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) أي: عن أن ينظروا فيما يصلحها، فيزين لهم سوء أعمالهم، فإذا زُيِّن للعبد سوء عمله فرآه حسنا فممَ يتوب؟! فإنه لن يستقبح فعلاً يراه حسنا، فبالتالي يتمادى فيه ولا يستيقظ منه حتى يستدرك، ولذلك تجد الله سبحانه وتعالى كلما أمعن العبد في المعاصي زاده من النعم استدراجاً، حتى إذا أخذه لم يفلته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل، وأخذه أخذ عزيز مقتدر. فيسلط الله النسيان على العبد حتى ينسى مصالح نفسه، فينسى الآخرة فلا يراجع نفسه ولا يحاسبها؛ لأن هذه وسيلة التصحيح، فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد على معاصيه) أي: على تماديه في المعاصي، والله سبحانه وتعالى يعطيه ويعطيه ويعطيه فاعلم أنه استدراج، ثم تلى قوله تعالى {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].

تفسير قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة)

تفسير قوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) قال الله تبارك وتعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. كما قال أيضا: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100]، وقال تعالى {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]. قوله: ((لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ)) وهم الناسون الغادرون، ((وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ)) وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم، ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)) أي: بالنعيم المقيم. وقد استدل أصحاب الشافعي بهذه الآية الكريمة على أن المسلم لا يقتل بالكفار، لأنهما لا يستويان. ونوقش هذا: بأنه لم يسوّ أحد العلماء بينهما، فهل أبو حنيفة الذي يقول بقتل المسلم بالكافر يساوي بين المسلم والكافر؟ A لا يسوي بينهما، فإيجاب القصاص ليس بتسوية؛ لأنه ما من متباينين من وجوه إلا وقد استويا في وجه أو وجوه، فلا يكون إيجاب القَوَد استواء، كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواءً.

تفسير قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا)

تفسير قوله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً) قال الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]. قوله: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ)) أي: الجامع للمواعظ، والموجب للنظر والتقوى لكل حال، ((عَلَى جَبَلٍ)) أي: بأن يفهمه الجبل ويكلف بما فيه، ((لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا)) أي: متذللاً لعظمة الله، ((مُتَصَدِّعًا)) أي: متشققاً، ((مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)) وذلك مع عظم مقداره، فالجبل على صلابته وتناهي قساوته وقوته لو أنزل عليه القرآن لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله عز وجل. يقول القاشاني: أي: أن قلوب هؤلاء الكافرين أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول؛ إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع والانصداع. فهذه الآية الكريمة تدل على أنه لا عذر لأحد في ترك تدبر القرآن الكريم، فالقرآن هو هو كما أنزله الله سبحانه وتعالى، لكن القلوب هي التي تغيرت، وهي التي اختلفت، وأما لو سلم القلب من الحجب والحواجز لكان بلا شك أشد انفعالاً بالقرآن الكريم من هذا الجبل. يقول ابن الجوزي في تفسير هذه الآية الكريمة: وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثر في قلبه مع الفهم والعقل. قوله: ((وَتِلْكَ الأَمْثَالُ)) أي: وتلك الأمور ((نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) أي: ليعلموا أنهم أولى بذلك الخشوع والتصدع، والغرض من ذلك توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره، فهذا هو التفسير المشهور لهذه الآية، وهو المعتمد فيها. وهناك تفسير آخر في الآية وهو: أن المخاطب بهذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله سبحانه وتعالى يمتن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ومع ذلك امتن عليك يا محمد! بأن ثبتك لما لا تثبت له الجبال، فثبتك لنزول الوحي والقرآن عليك. ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك العباد الخشوع لكلام الله الذي يحتوي على أسمائه وصفاته، مع أنه عز وجل هو الله الذي لا إله إلا هو؟! أي: كيف لا تخشعون لهذا الكلام الذي يحتوي على أسماء الله وصفاته وأفعاله مع أن مُنزله {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]؟! يقول صاحب (الظلال): ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه، وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] وهي صورة تمثل حقيقة، فإن لهذا القرآن ثقلاً وسلطاناً وأثراً مزلزلاً لا يثبت له شيء يتلقاه في حقيقته، ولقد وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما وجد عندما سمع قارئاً يقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:1 - 8]، فارتكن إلى الجدار، ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهراً مما ألمّ به. واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحاً لتلقي شيء من حقيقة القرآن فإنه يهتز فيها اهتزازاً، ويرتجف ارتجافاً، ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغناطيس والكهرباء بالأجسام أو أشد، والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)). والذين أحسوا شيئاً من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقاً لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع بالوحي: ((وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))، وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكر.

تفسير قوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة)

تفسير قوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]. وأخيراً تجيء تلك التسبيحة المجيدة بأسماء الله الحسنى، وكأنما هي أثر من آثار القرآن في كيان الوجود كله، ينطلق بها لسانه، وتتجاوب لها أرجاؤه، وهذه الأسماء واضحة الآثار في صميم هذا الوجود، وفي حركته وظواهره، فهو إذ يسبح بها يشهد كذلك بآثارها، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]. ولكل اسم من هذه الأسماء الحسنى أثر في هذا الكون ملحوظ، وأثر في حياة البشر ملموس، فهي توحي إلى القلب بفاعلية هذه الأسماء والصفات، فاعلية ذات أثر وعلاقة بالناس والأحياء، وليست هي صفات سلبية أو منعزلة عن كيان هذا الوجود وأحواله وظواهره المصاحبة لوجوده. ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، فتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد، ووحدانية العبادة، ووحدانية الاتجاه، ووحدانية الفاعلية من مبدأ الخلق إلى منتهاه، ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفسير، والشعور، والسلوك، وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء، وارتباطات الناس بعضهم ببعض. ((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) فيستقر في الضمير الشعور بعلم الله للظاهر والمستور، ومن ثَم تستيقظ مراقبة هذا الضمير لله في السر والعلانية، ويعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقَب من الله المراقِب لله، ويتكيف سلوكه بهذا الشعور الذي لا يغفل بعده قلب ولا ينام. ((هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) فيستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح، ويتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة، فالله في عقيدة المؤمن لا يطارد عباده ولكنه يراقبهم، وهو لا يريد الشر بهم بل يحب الهدى، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء.

تفسير قوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن)

تفسير قوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن) {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23]. قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، فيعيدها في أول التسبيحة الثانية؛ لأنها القاعدة التي تقوم عليها سائر الصفات، ((الْمَلِكُ)) فيستقر في الضمير أن لا مُلك إلا لله الذي لا إله إلا هو، وإذا توحدت الملكية لم يبقَ للمملوكين إلا سيد واحد يتجهون إليه، ولا يخدمون غيره، فالرجل لا يخدم سيّدين في وقت واحد، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]. ((الْقُدُّوسُ)) وهو اسم يشع القداسة المطلقة، والطهارة المطلقة، ويُلقي في ضمير المؤمن هذا الإشعاع الطهور، فينظف قلبه ويطهره؛ ليصبح صالحاً لتلقي قيود الملك القدوس، والتسبيح له والتقديس. ((السَّلامُ)) وهو اسم كذلك يشيع السلام والأمن والطمأنينة في جنبات الوجود، وفي قلب المؤمن تجاه ربه؛ فهو آمن في جواره، سالم في كنفه، وحيال هذا الوجود وأهله من الأحياء والأشياء، ويعود القلب من هذا الاسم بالسلام والراحة والاطمئنان وقد هدأت شرّته، وسكن بلباله، وجنح إلى الموادعة والسلام. ((الْمُؤْمِنُ)) واهب الأمن وواهب الإيمان، ولفظ هذا الاسم يشعر القلب بقيمة الإيمان حيث يلتقي فيه بالله، لأن المؤمن يسمى مؤمناً، والله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى المؤمن، ويتصف بإحدى صفات الله، ويرتفع إلى الملأ الأعلى بصفة الإيمان. (({الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} صفات تتعلق مجردة بذات الله، وأما هذه فتتعلق بذات الله فاعلة في الكون والناس، وتوحي بالسلطان والرقابة، كذلك {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} فهي صفات توحي بالقهر والغلبة والجبروت والاستعلاء، فلا عزيز إلا هو، ولا جبار إلا هو، ولا متكبر إلا هو، ولا يشاركه أحد في صفاته هذه، ولا يتصف بها سواه، فهو المنفرد بها بلا شريك. ومن ثَم يجيء ختام الآية: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23].

تفسير قوله تعالى: (هو الله الخالق البارئ المصور)

تفسير قوله تعالى: (هو الله الخالق البارئ المصور) قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24]. ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المجيدة ((هُوَ اللَّهُ))، فهي الألوهية الواحدة، وليس غيره بإله، {الْخَالِقُ الْبَارِئُ}، الخلق هو التصميم والتقدير، والبرء هو التنفيذ والإخراج، فهما صفتان متصلتان، والفارق بينهما لطيف دقيق. قوله: {الْمُصَوِّرُ}، وهي صفة مرتبطة بالصفتين قبلها، ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة، وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلةً مرحلةً، حسب التطور الإنساني، فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات، وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة، فهذه لا يعرفها إلا الله، وإنما ندرك شيئاً من آثارها، فهو الذي نعرفها به في حدود طاقتنا الصغيرة، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي: الحسنى في ذاتها بلا حاجة إلى استحسان من الخلق، ولا توقف على استحسانهم. والحسنى هي التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها، وهي الأسماء التي يتدربها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها؛ إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف به، وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها. وخاتمة هذه التسبيحة المجيدة بهذه الأسماء الحسنى، والسفحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضاتها العديدة هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود، وينبعث من كل موجود، {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء، ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء، كما يتلاقى فيه المطلع والختام، في تناسق والتئام، وهذا من باب رد العجز على الصدر، ففي الأول السورة: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:1] وفي آخرها: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24]. فهذا أنموذج من خصائص (الظلال)؛ وهو الاهتمام بموضوع الوحدة الموضوعية، ويعتبر هذا المرجع أفضل مرجع تقريباً في جانب موضوع الوحدة الموضوعية لسور القرآن الكريم وآياته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه مع أنه ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)) أي: المعبود التي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له. وقوله: ((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)) أي: ما غاب عن الحس وما شوهد، ((هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) أي: المنعم بالنعم العامة والخاصة، ومن كان مطلعاً على الأسرار يحب أن يُخشع له، ويخشى منه لاسيما من حيث كونه منعماً، إذ حق المنعم أن يخشع له، ويخشى أن تسلب نعمه. قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} [الحشر:23] أي: الغني المطلق الذي يحتاج إليه كل شيء، المدبر للكل في تركيب نظام لا أكمل منه، ((الْقُدُّوسُ)) [الحشر:23] أي: المنزه عما لا يليق بجلاله تنزهاً بليغاً، ((السَّلامُ)) قيل: هو ذو السلامة من كل عيب ونقص، وذو السلامة أي: سلم الخلق من ظلمه، أو السلام: المسلِّم على عباده في الجنة، وذلك إشارة إلى قوله تعالى {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]. يقول القاسمي: ((السَّلامُ)) أي: الذي يسلم خلقه من ظلمه، أو السلام المبرأ عن النقائص كالعجز، ((الْمُؤْمِنُ)) أي: لأهل اليقين بإنزال السكنية، ومن فزع الآخرة، أي: أنه يؤمنهم، {الْمُهَيْمِنُ} أي: الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلاءه وحفظه، ((الْعَزِيزُ)) أي: القوي الذي يغلب ولا يغلب، ((الْجَبَّارُ)) أي: الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، والذي لا يخرج أحد عن قبضته عز وجل. وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية: وكذلك الجبار من أوصافه والجبر في أوصافه قسمان جبر الضعيف وكل قلب قد غدا ذا كثرة فالجبر منه دان والثاني جبر القهر بالعز الذي لا ينبغي لسواه من إنسان وله مسمى ثالث وهو العلـ وفليس يدنو منه من إنسان من قولهم جبارة للنخلة ال عليا التي فاتت لكل بنان

معنى اسم الله: المتكبر

معنى اسم الله: المتكبر قوله تعالى: ((الْمُتَكَبِّرُ)) أي: الذي يرى الكل حقيراً بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد، فالكبرياء إذا نسب إلى الله سبحانه وتعالى فهو صفة مدح، وإذا نُسب إلى المخلوق فهو ذم، وجاء في الحديث القدسي: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني في واحد منهما قصمتة). قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: من الأوثان والشفعاء. وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} أي: المقدر للأشياء على مقتضى حكمته، ((الْبَارِئُ)) أي: الموجد لها بعد عدم، {الْمُصَوِّرُ} أي: مصور الكائنات كما شاء سبحانه وتعالى، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي: الدالة على محاسن المعاني، وأحسن الممادح، {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] أي: في تدبيره خلقه، وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم. وهنا نقف عند واحد فقط من هذه الأسماء المذكورة وهو: (المتكبر والكبير)، فهما متقاربان من حيث المعنى، يقال: كبر يكبر، أي: عظم فهو كبير. وقال ابن سيده: الكِبَر نقيض الصغر، وكبّرَ الأمر، أي: جعله كبيراً، واستكبره: رآه كبيراً، كقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف:31] أي: أعظمنه، والتكبير: التعظيم، والتكبر والاستكبار: التعظم، والكبر: الرفعة في الشرف، والكبرياء: الملك، كقوله تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78]، والكبرياء أيضاً: العظمة والتجبر، والتاء التي في المتكبر ليست تاء التعاطي والتكلف كما يقال: فلان يتعظم، أي: يتكلف العظمة وهو ليس بعظيم، ويتسخّى وليس بسخي، وإنما هي تاء التفرد والتخصص. قال الأزهري: التفعّل قد يجيء لغير التكلف، ومنه قول العرب: فلان يتظلم، أي: يظلم، وفلان يتظلم، أي: يشكو من الظلم، وهذه الكلمة من الأضداد، فثبت أن هذا البناء غير مقصور على التكلف. وقال الرازي بعد أن ساق كلام الأزهري: وأنا أقول: إنه يمكن أن يجاب بوجه آخر وهو: أن المتفعل هو الذي يحاول إظهار الشيء ويبالغ في ذلك الإظهار، ثم إن كان صادقاً فيه كان ذلك الإظهار منه صفة مدح، وإن كان كاذباً فيه كان صفة ذم، وقد سمى الله سبحانه وتعالى نفسه بالمتكبر في آية واحدة من القرآن الكريم، في قوله: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} وأما اسمه الكبير فقد ورد في ستة مواضع من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]، وقال {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، وقد جاء مقترناً باسمه العلي والمتعال. وأما معنى المتكبر والكبير، فقد قال قتادة: المتكبر أي: تكبر عن كل شر، وقيل: المتكبر: هو الذي تكبر عن ظلم عباده، وهذا يرجع إلى المعنى الأول. وقال الخطابي: هو المتعالي عن صفات الخلق، ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة. وقال القرطبي المتكبر: الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله. وقيل: المتكبر عن كل سوء، المتعظم عما لا يليق به من صفات الحدَث والذم، وأصل الكبر والكبرياء: الامتناع وقلة الانقياد. قال حميد بن ثور: عفت مثلما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول وقال عبد الله النسفي: هو البليغ الكبرياء والعظمة. وكذلك قال العلماء في معنى الكبير، فقال ابن جرير: الكبير يعني: العظيم الذي كل شيء دونه، ولا شيء أعظم منه. وقال الخطابي: الكبير: هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن، فَصَغُر دون جلاله كلُّ كبير. ويقال: هو الذي كبر عن شَبَه المخلوقين. إذاً: فمعاني المتكبر والكبير: أولاً: الذي تكبر عن كل سوء وشر وظلم. ثانياً: الذي تكبر وتعالى عن صفات الخلق، فلا شيء مثله. ثالثاً: الذي كبر وعظم، فكل شيء دون جلاله صغير وحقير. رابعاً: الذي له الكبرياء في السماوات والأرض، أي: السلطان والعظمة. وأما آثار الإيمان بهذين الاسمين الشريفين: الكبير والمتكبر فالآتي: فأولاً: أن الله سبحانه وتعالى أكبر من كل شيء، وأكبر من أن يُعرف كنه كبريائه وعظمته، وأكبر من أن يحاط به علماً، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، فالله جلت عظمته أكبر من أن نعرف كيفية ذاته أو صفاته، ولذلك نهينا عن التفكر في الله؛ لأننا لن ندرك ذلك بعقولنا الصغيرة القاصرة المحدودة، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل). وقد وقع الفلاسفة في ذلك، فحاولوا أن يدركوا كيفية وماهية ربهم بعقولهم، فتاهوا وضلوا ضلالاً بعيداً، ولم يجنوا سوى الحيرة والتخبط والتناقض فيما سطروه من الأقوال والمعتقدات، فمن أراد معرفة ربه وصفاته فعليه بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أعلم الخلق بالله وصفاته، فعليه أنزل الكتاب العزيز الذي لا تكاد الآية منه تخلو من صفة لله عز وجل، وعليه أنزلت أيضاً السنة الشريفة الشارحة للكتاب. فالتكبر لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى، فصفة السيد: التكبر والترفّع، وأما العكس فصفته التذلّل والخشوع والخضوع، وقد توعد الله سبحانه وتعالى المتكبرين بأشد العذاب يوم القيامة؛ لأنهم ينازعون سبحانه في صفة من صفاته، فهو السيد، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأحقاف:20]، وقال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60]، واستكبارهم هذا هو رفضهم الانقياد لله وأوامره، ورفضهم عبادة ربهم، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية:31]. ومن تكبُّر المشركين قولهم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111]، فكان الكبر سبباً للطبع على قلوبهم كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]، وكذلك هلاك إبليس نفسه كان بسبب التكبر، قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، ولا يكاد يخلو طاغية في الأرض من هذا المرض العضال الذي كثر التحذير منه في القرآن والسنة. إن الكبر أيضاً يمنع من طلب العلم والسؤال عنه؛ لأن المتكبر يترفع عن الجلوس بين يدي العالم للتعلم، ويرى أن ذلك فيه مهانة له، فيؤثر البقاء على الجهل، فيجمع بين الكبر وبين الجهل، بل قد يجادل ويناقش ويخوض في المسائل بدون علم؛ حتى لا يقال إنه لا يعلم، فيصغر عند الناس، قال تعالى ذكره: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:8 - 9]، وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، ونحو ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56]. وقد ذم السلف الكبر في العلم فمن أقوالهم: من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ، ومن تكبر على الناس ذلّ، ومن خالط الأنذال حُقر، ومن جالس العلماء وُقر. وقال إبراهيم بن الأشعث سألت الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: أن تخضع للحق، وأن تنقاد له ممن سمعته. أي: ولو كان أجهل الناس؛ فإنه يلزمك أن تقبله منه. وقال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم، وظن أنه قد استغنى، واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون. ونبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم تمنعه منزلة النبوة من أن يطلب العلم ممن هو دونه، فقال للخضر عليه السلام: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66].

معنى اسم الله: الجبار

معنى اسم الله: الجبار وأما معنى اسم الله (الجبار)، فجبر الرجل على الأمر يجبره جبراً وجبوراً، وأجبره أي: أكرهه عليه، والجبر خلاف الكسر، تقول: جبر العظم يجبر جبراً. والجبر: أن تغني الرجل من الفقر، أو يُجبر عظمه من الكسر. وتجبر النفس والشجر: أي اخضر وأورق. والجبار: العظيم القوي الطويل، قال الله تعالى {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] أرادوا طول القوة والعظم، فكأنه ذهب به إلى الجبار من النخيل، فالنخلة الجبارة: هي الطويلة التي تفوت يد المتناول، ونخلة جبارة، أي: عظيمة سمينة، وتجبّر الرجل إذا تكبّر، قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32] أي: متكبراً على عبادة الله تعالى. وهذا الاسم (الجبار) ورد في القرآن مرة واحدة في هذه الآية {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] ومعناه: المصلح أمور خلقه، الذي يصرّفهم فيما فيه صلاحهم. وقال قتادة: جبر خلقه على ما يشاء من أمره. وقال الخطابي (الجبار): هو الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه. وقيل: هو الذي جبر مفاقر الخلق، أي: كفاهم أسباب المعاش والرزق، ويقال: بل الجبار: العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات، إذا علا واستهل، ويقال للنخلة التي لا تنالها اليد طولاً: الجبارة؛ لأنها لا تصل إليه اليد. وقال الشوكاني (الجبار): جبروت الله وعظمته، والعرب تسمي الملك: الجبار. وقال السعدي (الجبار): هو بمعنى: العلي الأعلى، وبمعنى: القهار، وبمعنى: الرءوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه. إذاً: فخلاصة الكلام في معنى اسم الله عز وجل (الجبار): أنه العالي على خلقه، لأن (فَعّال) من أبنية المبالغة، والجبار: هو المصلح للأمور، من جَبَر الكسر، إذا أصلحه، وجبر الفقير، إذا أغناه، والجبار: هو القاهر خلقه على ما أراد من أمر أو نهي، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] أي: لست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، ولم تكلف ذلك.

الممتحنة [1 - 7]

تفسير سورة الممتحنة [1 - 7]

تسمية سورة الممتحنة وسبب نزولها وما يتعلق به

تسمية سورة الممتحنة وسبب نزولها وما يتعلق به نشرع بإذن الله تعالى في تفسير السورة الستين من القرآن الكريم، وهي سورة الممتحنة بفتح الحاء، وقد تكسر؛ فعلى الفتح هي صفة للمرأة التي نزلت فيها هذه السورة، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. قال الله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10]، فهذه المرأة التي نزلت فيها السورة ممتحَنة تصديقاً لهذه الآية، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف، وقد ولدت له إبراهيم بن عبد الرحمن. وأما بالكسر فهي بمعنى المختبِرة، فهي صفة للسورة نفسها، أي: السورة المختبِرة، كما سميت سورة براءة: المبعثرة والفاضحة؛ لأنها كشفت عن عيوب المنافقين. قال المهايمي: سميت بها لدلالة آية الامتحان على أنه لا يكتفى في باب الصحة بظواهر الأدلة كالهجرة، بل لابد من اختبار البواطن، فدلائل الاعتقادات أولى بذلك، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وفي اصطلاح القراء أنها تسمى سورة الامتحان، وسورة المودة. وهي سورة مدنية كلها بإجماعهم، وآيها ثلاث عشرة آية.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]. قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) أي: أنصاراً، فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي.

لفظ (العدو) معناه وإطلاقه

لفظ (العدو) معناه وإطلاقه وقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) لفظ العدو مفرد، ويطلق على الفرد وعلى الجماعة، فمن إطلاقه على الفرد قول الله سبحانه وتعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، ومن إطلاقه على الجمع قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. والمراد بلفظ (العدو) في قوله: ((لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) الجمع؛ لأن في سياق الآية قرائن تؤكد أن المراد الجمع، مثل كلمة (أولياء)، فهي جمع، وقوله أيضاً: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)) وقوله أيضاً: ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) وقوله أيضاً: ((إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً)) إلى آخره، فهذا كله مما يرجح أن المراد بلفظة (العدو) الجمع.

سبب تقديم قوله تعالى: (عدوي) على (عدوكم)

سبب تقديم قوله تعالى: (عدوي) على (عدوكم) يلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى قدم ذكر عداوته على عداوة المؤمنين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)) فذكْرُ المقابلة هنا بين: عدوي وعدوكم فيه إبراز صورة الحال وتقبيح الفعل؛ لأن العداوة تتنافى مع الموالاة، وتتنافى أيضاً مع المسارة للعدو بالمودة. قال الفخر الرازي في سر تقديم (عدوي) على (عدوكم): سر التقديم أن عداوة العبد لله بدون علة، فالذي يعادي الله سبحانه وتعالى ليس له علة تعلِّل هذه العداوة، أما عداوة العبد للعبد فإنما تكون لعلة. يقول: وما كان بدون علة -يعني: كعداوة الكفار لله- فإنه يقدم على العداوة التي تكون لِعلة، وهي عداوة الناس بعضهم لبعض. ويقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن التقديم لغرض شرعي وبلاغي، وهو أن عداوة العبد لله هي الأصل، يعني: أن من عادى الله فإنه بعد ذلك يعادي أولياء الله، وعداوة العبد لله أشد قبحاً من عداوته لعبد مثله؛ فلذا قدمت، وقبحها في أنهم عبدوا غير خالقهم، وشكروا غير رازقهم، وكذبوا رسل ربهم، وآذوهم، فلا يتصور أن يعادي عبدٌ الله سبحانه وتعالى وهو مفتقر في وجوده إلى الله، فهو الذي خلقه، ورزقه، ووهبه الحياة، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة، فلم يأته من الله سبحانه وتعالى إلا كل خير، فمقابلة هذا الإحسان الذي لا إحسان مثله بالعداوة لا شك أنه أقبح ما يكون، ولذلك روي في بعض الأحاديث الإلهية: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر غيري)، وفيه أيضاً: (خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي!) وهذا الحديث وإن لم يصح فإن معناه صحيح. كما أن تقديم عداوة الله سبحانه وتعالى على عداوة الخلق يؤكد بأنها هي السبب في العداوة بين المؤمنين والكافرين، فإن العداوة التي تقع بين المؤمنين والكافرين إنما هي ناشئة عن عداوة الكفار لله تبارك وتعالى، فتراهم يسبون الله، ويشركون به، ويكذبون أولياءه، فلما كانوا أعداء لله وجب على المؤمنين أن يتخذوهم أيضاً أعداء. والدليل على تقديم عداوة الله على عداوة المؤمنين، وأنها هي الأصل: أن الكفار لو آمنوا بالله وانتفت عداوتهم لله لأصبحوا إخواناً للمؤمنين كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فبمجرد التوبة، والدخول في الإسلام، والانقياد لشرع الله؛ يصبحون إخواناً للمؤمنين، وتنتفي العداوة بينهما، فقد جعل هذا الأمر مغياً لغاية في قوله تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:89]، ومثله أيضاً قول الله تعالى في قوم إبراهيم: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فإذا آمنوا بالله صاروا بالتبع إخواناً لهم، وانتفت هذه العداوة، فإذا هاجر المشركون وآمن الكافرون انتفت العداوة، وحلت محلها الموالاة، فسبب النهي عن موالاة الأعداء هو الكفر.

بيان أنه ليس كل عداوة تقتضي المقاطعة وعدم الموالاة

بيان أنه ليس كل عداوة تقتضي المقاطعة وعدم الموالاة إذا وجدت عداوة لا لسبب الكفر فلا ينهى عن تلك الموالاة، فقد توجد عداوة لكن لسبب آخر غير سبب الكفر، فلا تعامل نفس المعاملة التي في معاداة سببها الكفر، فمن الممكن أن تحصل عداوة بين اثنين من المسلمين بسبب محاقة أو مخاصمة أو اختلاف، فمثل هذا لا يوجب نفس النوع من العداوة، ولا يترتب عليه ما يترتب على المعاداة التي يكون سببها الكفر. فمثال ذلك قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] فهنا وصف الأولاد والأزواج بأنهم قد يكونون أعداء، وهذه العداوة تختلف تماماً عن العداوة التي سببها الكفر، لأن عداوة الشخص المحبوب كائنة في أن يفتنك لترضيه، مثل أن تحرض الزوجة زوجها على أن يأتي بالمال ولو من الحرام، وأن تشغل محبة الولد الأب عن العبادة مثلاً كما قال تعالى: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9]، فإذا حرضت الزوجة أو الأولاد الرجل على معصية الله، أو على الكسب الحرام، أو على أي مخالفة شرعية، فهذه هي العداوة المقصودة هنا في هذه الآية. وهذه الآية التي فيها العداوة لسبب غير الكفر: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) قال الله سبحانه وتعالى بعدها مباشرة: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14] فانظر كيف أتبعها الله سبحانه وتعالى بالتحريض على العفو والغفران والمسامحة، فلما تخلف السبب الأساسي في النهي عن موالاة الكفار الذي هو الكفر، جاء الحث على العفو والصفح والغفران؛ لأن هذه العداوة لسبب آخر بينه قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] فكان مقتضاها الحذر من أن يفتنوه أو يؤزوه على المخالفات الشرعية، لا أن يتخذ الرجل زوجته وأولاده أعداء، فإن مقتضى الزوجية حسن العشرة وليس المعاداة؛ لأن السبب هنا ليس هو الكفر. وقد نص صراحة على عدم النهي المذكور في خصوص من لم يعادهم في الدين فقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]. وإعراب (أولياء) من قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)): مفعول ثانٍ، والمفعول الأول هو: (عدوي)، ومعنى أولياء: أنصار كما ذكرنا سابقاً. فهذا نهي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقتئذ؛ لما فيها من الفتنة بالدين وأهله.

تفسير قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم)

تفسير قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم) قوله: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)). قيل: بصميم المحبة، والمعنى: تلقون إليهم المودة، وقال بعض العلماء: المقصود بالمودة المودة الظاهرة؛ لأن هذه السورة نزل جزء منها في شأن حاطب بن أبي بلتعة لما دل قريشاً على أخبار النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه قد أعد جيشاً ليغزوهم كما سنبين إن شاء الله تعالى بالتفصيل. وقد اعتذر حاطب للنبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل، وذكر أنه محب لله ورسوله، وموال لله ورسوله، وأنه مبغض للكافرين، وإنما عذره كذا وكذا مما تأوله، فمن ثم قيد بعض المفسرين المودة هنا بأنها المودة الظاهرة، وليست المودة القلبية؛ لأن قلب حاطب كان سليماً؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة بعدما اعتذر إليه حاطب: (أما صاحبكم فقد صدق) يعني: أنه تأول ولم يكن فعله عن كفر، أو عن حب للكفار والعياذ بالله. والباء في قوله: ((بِالْمَوَدَّةِ)) زائدة كما في قوله تعالى: {َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] أي: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم. أو أن الباء ثابتة، ويكون الضمير متعلقاً بقوله: تلقون، تقول: ألقيت إليه بكذا، والمراد: تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الباء هنا سببية، أي: تلقون إليهم بسبب المودة التي بينكم وبينهم. والواو في قوله: ((وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) هي واو الحال؛ أي: والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه الذي هو نهاية الهدى وغاية السعادة. ثم أشار إلى أن هؤلاء الذين توالونهم، أو تودونهم، أو تلقون إليهم بالمودة، لم يكتفوا بالكفر بما جاءكم من الحق، بل آذوا المؤمنين، فأضافوا إلى الكفر أذية المؤمنين، وهذا الأمر يقتضي قطع العلائق معهم بأي نوع من المودة. فانظر إلى الجريمة الثانية بعد الكفر بالله والكفر بالقرآن، ((يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)) فقد آذوا الرسول، وآذوا المؤمنين، فهذا الأمر يستوجب قطع العلائق معهم رأساً، والمعنى يخرجون الرسول وإياكم من أرضكم ودياركم.

تفسير قوله تعالى: (أن تؤمنوا بالله ربكم)

تفسير قوله تعالى: (أن تؤمنوا بالله ربكم) قوله: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)). أي: ما يخرجونكم إلا لأنكم آمنتم بالله ربكم، فلم تظلموهم، ولم تبخسوهم حقاً، ولم تؤذوهم في شيء، وإنما الأمر كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] فالجريمة إذاً هي الإيمان بالله عز وجل، والمعنى: يخرجونكم لإيمانكم بالله الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لاسيما باعتبار اتصافه بكونه رباكم بالكمالات، فهي في الحقيقة عداوة مع الله عز وجل، فقوله: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) أي: ربكم الذي أحسن إليكم، وغذاكم بنعمه، وأفاض عليكم من خيراته، فهم ما نقموا منكم إلا أن تؤمنوا بالله ربكم. قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم، فهذه الأسباب الثلاثة المذكورة في الآية كلها مما يهيج المؤمنين ويوقظ في قلوبهم عداوة الكفار، وعدم موالاتهم، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)) هذه واحدة، ((يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ)) وهذه الثانية، وثالثاً: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) بسبب إيمانكم؛ لأنهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال تعالى: ((أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ)) أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]، وكقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]. ثم يقول تبارك وتعالى: ((إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي)) أي: بالجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به، والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق بقوله: ((لا تَتَّخِذُوا)) أي: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. فقوله هنا: ((إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي)) هذا شرط، وجوابه متقدم، أي أن الكلام فيه تقديم وتأخير، فيكون تفسير الآية هكذا: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء. وهناك قول آخر: وهو أن في الكلام حذفاً، أي: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تلقوا إليهم بالمودة. وقوله تعالى: ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) الباء في قوله: (بالمودة) كالباء في لفظة (بالمودة) السابقة في قوله: ((تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ))، فـ (تسرّون) بدل من قوله تبارك وتعالى: ((تُلْقُونَ))؛ لأن الأفعال تبدل من الأفعال، وذلك مثل قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69] وقول الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ((تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ)) أي: من المودة معهم وغيرها، ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ)) والهاء تعود إلى المصدر نفسه وهو الإسرار، فمع أن المذكور هو الفعل لكن يفهم منه المصدر، ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ)) أي: الإسرار والإلقاء إليهم بالمودة، أو الإسرار إليهم واتخاذهم أولياء. ((فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)) أي: جار عن السبيل السوي الذي جعله الله سبحانه وتعالى هدى ونجاة. وقد أشرنا أن هذا السياق كله نزل في شأن حاطب بن أبي بلتعة، فقد وقع منه هذا الأمر، وهو إخبار الكفار بسر الرسول عليه الصلاة والسلام لعلة سوف نبينها، مع أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، وله فضل عظيم جداً، لكن كل هذا السياق كما نلاحظ يؤخذ منه معاتبة حاطب رضي الله تعالى عنه. فقوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) خطاب للمؤمنين، لكن سبب نزولها في حاطب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] فالمعاتبة من الله سبحانه وتعالى لـ حاطب رضي الله عنه، وهي في حد ذاتها تدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق إيمانه؛ لأن المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيبه، وأما الشخص الذي تيئس منه فإنك تطرحه ولا تبالي بما فعل؛ لأن شأنه لا يهمك، أما الشخص الذي بينك وبينه مودة فهذا الذي يستحق أن تعاتبه، ولذلك يقول الشاعر: أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني فيه اجتناب إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتاب يعني: يبقى الود إذا كان هناك أمل في هذا الشخص ومحبة، فيستحق أن تعاتبه، أما إذا ارتفع العتاب فهذا يعني ارتفاع المحبة أصلاً.

تفسير قوله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم)

تفسير قوله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم) ثم يقول تبارك وتعالى مبيناً حال الكافرين مع المؤمنين: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]. قوله: ((إِنْ يَثْقَفُوكُمْ)) أي: إن يدركوكم ويظفروا بكم، وتقول: رمح ثقيف أي: صنع بحذق ومهارة ودقة، واستعمل هنا للإدراك. فـ ((إِنْ يَثْقَفُوكُمْ)) أي: إن يدركوكم ((يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً))؛ لأنهم لا يصلون إلى المؤمنين بسبب الهجرة، فالمؤمنون لا يقيمون معهم في مكة، لكن إن ظفر المشركون بهم، يكونون لكم أعداء، أي: حرباً، فواجبكم أن تقابلوا هذه العداوة بعداوة مثلها، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم، ولا يجدي معهم أن تلقوا إليهم المودة. ((وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ)) أي: يبسطوا إليكم أيديهم بالقتل أو الضرب، وألسنتهم بالشتم بالسوء. ((وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)) بما جاءكم من الحق وترجعون عن دينكم إلى دينهم. وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب في أنهم يودون لو تكفرون، وهو أنهم يحسدون المؤمنين على نعمة الإيمان، ونحن نعرف أن اليهود كانوا يعرفون أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق من عند الله، وكانوا يعلمون أنه نبي مرسل من الله سبحانه وتعالى، لكن ما الذي منعهم من الإيمان؟ إنه الحسد. فالحسد يعمي قلوبهم عن أن يدركوا أن هذا الأمر سيئول بهم إلى نار جهنم؛ لأنه مادام أنه رسول حقاً من عند الله، وأنه أتى بما ينسخ شريعتهم ودينهم، فمن خالفه فلا شك أن مأواه جهنم، ولكن لتمكن صفة الحسد في قلوبهم عموا وأصروا على كفرهم واستكبارهم. ويقول الله تبارك وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] ويقول الله تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88] إلى قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]. وهذا معروف حتى على مستوى أقل من قضايا الكفر والإيمان، فتجد الشخص المنحرف أو الفاسد يحب جداً أن يفسد الناس مثله، وأن يصيروا كلهم منحرفين؛ لأن هذا يحدث له نوعاً من الألفة، وأنه لم يكن ضائعاً بمفرده، لذلك فإنه يفرح بتضييع من حوله؛ لأن هذا يؤنسه في هذه الوحدة، فكذلك هؤلاء: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)) حسداً من عند أنفسهم.

تفسير قوله تعالى: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة) قال تعالى: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة:3]. ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ)) يعني: قراباتكم، وليست على ظاهرها، فالأرحام هنا ليس المقصود بها الأرحام نفسها، لكن المقصود ذوو الأرحام، يعني: لن تنفعكم ذوو أرحامكم، أي: قراباتكم، ((وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وجاء هذا السياق لأن السورة نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وحاطب إنما أراد أن تكون له يد -أي: جميل- عند أهل مكة المشركين؛ لأنه لم يكن له في مكة من يحمي عشيرته من أذى المشركين، فأراد أن يسدي إليهم جميلاً حتى يكفوا الأذى عن أهله وعشيرته، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه يوم القيامة لن تنفعكم هذه القرابات، أي: القرابات التي ارتكب حاطب هذه الكبيرة بسببها: ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)) بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين. وقوله: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيه عدة قراءات، منها: (يوم القيامة يُفصَل بينكم)، وقرئ: (يوم القيامة يُفصَّل بينكم)، وفي قراءة: (يوم القيامة يُفصِّل بينكم)، وقرئت: (يوم القيامة نُفصِّل بينكم) على العظمة، وقرئت أيضاً: (يوم القيامة نَفصِّل بينكم). وقال القاشاني: أي لا نفع لمن اخترتم موالاة العدو الحقيقي لأجله؛ لأن القيامة مفرِّقة، ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)) فهؤلاء الذين اختاروا موالاة العدو الحقير لأجلهم، وهو حاطب والى العدو الحقير لأجل قرابته الذين في مكة، فهؤلاء القرابة الذين تهلكون أنفسكم بسببهم لن ينفعوكم يوم القيامة، ولن يغنوا عنكم شيئاً؛ لأنه يوم القيامة يفصل بينكم: أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار؛ لأن القيامة مفرقة، وهذا معنى قوله تعالى: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)) أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]. وهذا تأويل جيد. أما فيما يتعلق بالقراءة في قوله تعالى: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) فيجوز في قوله تعالى: ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وجهان: الأول: أن يتعلق بما قبله أي: لن تنفعكم أرحامكم يوم القيامة، فيوقف عليه هنا، ويبتدأ بقوله: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ). والوجه الثاني: أن يتعلق (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أولادكم، ويبتدأ بيوم القيامة. وقوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) يعني: فيجازيكم عليه.

قصة حاطب بن أبي بلتعة مع المشركين

قصة حاطب بن أبي بلتعة مع المشركين يقول شيخ المفسرين وإمامهم الحافظ ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: ذكر أن هذه الآيات من أول هذه السورة نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم. روى البخاري هذه القصة عن علي رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها) وروضة خاخ مكان بين المدينة ومكة على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، الظعينة: هي المرأة داخل الهودج، أم إذا كانت خارج الهودج فلا يقال عنها ظعينة. قال: (فذهبنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب! فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها -أي: من ظفائرها- فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه سلم: ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم، فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). ومعنى هذه العبارة الأخيرة: أن الله سبحانه وتعالى علم من شأن أهل بدر أنهم كلما أذنب الواحد منهم ذنباً أحدث بعده توبة فيغفر الله عز وجل له. قال عمرو بن دينار راوي الحديث: ونزلت فيه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)) إلى آخر الآيات. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كان حاطب هذا رجلاً من المهاجرين، ومن أهل بدر، وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفاً لـ عثمان رضي الله عنه، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز لغزوهم، فقال: (اللهم عَمِّ عليهم خبرنا، فعمد حاطب فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم؛ ليتخذ بذلك عندهم يداً) كما ذكر في الحديث. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: يعني بقوله عز وجل: ((لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله والمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)) يعني: من يحبهم بقلبه ويواليهم فإنه يصير كافراً مثلهم. وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144]، وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]؛ ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش؛ لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.

منزلة الولاء والبراء في الدين

منزلة الولاء والبراء في الدين إن هذه السورة كلها أصل في النهي عن موالاة الكفار، فضلاً عما أشرنا إليه وما لم نشر إليه من الآيات؛ لأن قضية موالاة الكفار تحتل في الإسلام المرتبة الثانية من حيث كثرة الأدلة عليها بعد قضية التوحيد، فما عرفت قضية تكثر أدلتها بعد قضية التوحيد مثل قضية الولاء والبراء، وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بل إنها في الحقيقة من حقوق التوحيد، ولذلك فإن أي خلل في قضية الولاء والبراء فأمره خطير، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]. فإذا ذاب هذا الحاجز النفسي بين المؤمنين والكافرين ترتب على ذلك اختلاط الأمور على الناس، فمثلاً: ياسر عرفات زوجته نصرانية، وأعلنت أنها ترغب في أن تدخل في الإسلام، فقال لها: لا داعي لذلك؛ فإن هذه الأديان كلها شيء واحد! والله المستعان. فانظر إلى الخلل في الولاء والبراء، فإنه أوصل إلى تسوية الإسلام بالكفر وصدور هذا التصرف الخطير، هذا أنموذج عملي واحد وإلا فكل ما نحن فيه من خلل واختلال في أحوالنا وأمورنا هو بسبب الاختلال في قضية الولاء والبراء، ولذلك تجد الآن من يحملون أسماء المسلمين وهم أشد عداوة للإسلام وأهله من أبي جهل وأبي لهب؛ بسبب الخلل في قضية الولاء والبراء، فإذا أردت أن تفتش عن سبب هذا الفساد فاقرأ قوله تعالى: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] أي: فتنة الناس في دينهم؛ لأنه حينئذ يتلاشى الخط الفاصل بين الكفر والإيمان، بين النور الظلام، بين الهدى والضلال. وكان ينبغي أن نقف وقفة طويلة عند قضية الولاء والبراء، لكن الوقت يضغط علينا، فإننا نريد أن ننجز ما نحن فيه بقدر المستطاع، وسوف نقف عند هذا الأمر المهم ونعطيه أو نوفيه حقه لاحقاً إن شاء الله تعالى. وقد قبل الله سبحانه وتعالى عذر حاطب لما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله، ولأجله نزلت السورة، فقد كان متأولاً في أن هذا جائز، وقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام بأي حال من الأحوال سوف ينصره الله على هؤلاء المشركين، فأنا أسدي إليهم هذا الجميل حتى يدفعوا عن أقاربي في مكة. وقد أخطأ في هذا الاجتهاد، لكن قلبه عامر بالإيمان، ومحب لله ولرسوله، وموال للمؤمنين، ولذلك ذكر أن حاطباً لما سمع صدر السورة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)) غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان، أي: أنه سر جداً بأن الله ما زال يخاطبه بوصف الإيمان.

الاعتدال في الحكم على الأشخاص والمناهج

الاعتدال في الحكم على الأشخاص والمناهج يستفاد من هذه السورة أن الإنسان إذا أراد أن يحكم على شخص فلابد من الاعتدال والموازنة؛ لأن من الخلل عند الحكم على الأشخاص، أو على المناهج، أو على المواقف من خلال موقف واحد، فنهدر كل ما عند الشخص من الحسنات، فلا نذكر عنه إلا المساوئ. فترى بعضهم يقول: إن هذا العالم أخطأ في قضية كذا، وأخطأ في الموضوع الفلاني، ويحبط كل حسناته بسبب هذا الخطأ، فهذا غير صحيح؛ فانظر إلى حاطب بن أبي بلتعة تحصل منه هذه المصانعة للمشركين، ومع ذلك عرف له الرسول عليه الصلاة والسلام حقه، فكون الرجل بدرياً شرف وفضل عظيم جداً لا يمكن أن يقارن: (وما يدريك يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فموقعة بدر وقع فيها الفرقان ونصرة الحق، وكانت فيها بداية انطلاق الدعوة إلى الأمام، وهي موقعة أذل الله فيها الكفار وأعز المسلمين، وهؤلاء البدريون لاشك أنهم أعلى طبقة في الصحابة، ففي هذا مراعاة مقام الناس والإحسان، وعدم نسيان حسناتهم إذا ما أساءوا. وقد أحزنني كثيراً الحوار الذي يجري بين بعض الشباب حول الدكتور طارق سويدان، فإنه أخ فاضل على خير، وقد فتح الله على يديه خيراً كثيراً، فكم رأيته في أمريكا، فإنه في غاية النشاط في الدعوة إلى الله تعالى، فله محاضرات كثيرة جداً باللغة الإنكليزية، فالرجل له نشاط وهمة عالية في الدعوة إلى الله، وكذلك أشرطته يغلب عليها الخير، وموضوع أشرطة السيرة جيدة ونقول للمثبطين: أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا أما كلامه في قضية الفتنة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد أوضحناه أكثر من مرة، وقلنا: إن فيه نوعاً من الخطأ، وهو خطأ محدد في أن هذه القضية لا ينبغي أن تثار للعامة، بل ينبغي أن نشغل العامة بمناقب الصحابة وفضائلهم، ولا نفتح عليهم الكلام فيما شجر بين الصحابة، وهذا منهج أهل السنة. والرجل -إن شاء الله- لعله يكون قد انتفع بهذه النصيحة، وهذا هو الظن به، وقد بلغني أنه أمر بإيقاف هذه الأشرطة بالذات، وبلغني بعض الشباب أنه الآن -عافاه الله وعافى سائر المسلمين- مصاب بالسرطان، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه، وأن يصرفه عنه وعن سائر المسلمين. فيخوض بعض الشباب ويقول: أليس هذا الذي فعل كذا، أليس هذا الذي عمل الأشرطة التي فيها كذا!! فما هذا أيها الإخوة؟! الرجل مسلم وداعية إلى الله سبحانه وتعالى، وهو ليس من كبار علماء المسلمين، إلا أنه داعية ناصح، وقد خدم الدعوة كذا وكذا، فينبغي أن نعتزل عند نزال الأقران، ونستحضر موقف حاطب بن أبي بلتعة، وأن كونه بدرياً هو الذي أنقذه من وصف النفاق، ومن معاقبته بسبب تجسسه لصالح الأعداء كما بينا.

الخوف على المال والولد لا يبيح التقية بإظهار الكفر

الخوف على المال والولد لا يبيح التقيّة بإظهار الكفر قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم. فالعذر المعتبر للإنسان في النطق بكلمة الكفر هو إنقاذ نفسه من القتل كما قال الله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]. ففي حالة الخوف على النفس من العطب والقتل يجوز للإنسان أن ينطق بكلمة الكفر، ولو صبر فهو أولى وأفضل، لكن هل الخوف على المال والولد يبيح له التقية في إظهار الكفر؟ يقول القاضي أبو يعلى: لا؛ لأن في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر كما يبيح ذلك في الخوف على النفس، فلو كان الخوف على المال والأولاد عذراً في إظهار التقية لجاز للمؤمنين الذين هاجروا إلى المدينة أن يبقوا في مكة ويظهروا التقية، ويبقوا على إيمانهم خفية؛ حفاظاً على أموالهم وعلى أولادهم، ولكن لم يحصل هذا لأن الله أوجب عليهم الهجرة، فدل على أنه لا تقية في حالة الخوف على المال والولد. يقول: ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يأمرهم بالتخلف لأجل أموالهم وأولادهم. وقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق؛ لأنه ظن أنه فعل ذلك من غير تأويل. فقبل الرسول عليه الصلاة والسلام عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة وإن أخطأ، والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثل الذي لأجله نزلت السورة، ولذا قال الإمام ألكيا الهراسي: يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية؛ لأنها في موضوع آخر.

أنواع الموالاة للناس

أنواع الموالاة للناس بسط الكلام في موضوع الولاء والبراء المتعلق بهذه الآية ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق، في المسألة الثامنة، وبعدما أورد الآيات والأحاديث في هذا قال: هذا كله في الحب الذي هو في القلب والمخالطة لأجل الدين؛ وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة. وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق. هو هنا يتكلم على قضية الموالاة لمن تكون فيقول: الموالاة التي هي بمعنى الحب الخالص في القلب والإخلاص الشديد في هذا الحب من أجل التوحد في الدين، ومن أجل وحدة العقيدة، فهذه الموالاة مختصة بالمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم، وأما المخالقة، أي: حسن الخلق، وتبادل المنافع، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، أي: أن الإنسان مطالب بحسن الخلق مع كل خلق الله، حتى مع الكافرين، وليس معنى حسن الخلق أنه يحبه بقلبه، بل لابد أن يبغضه بقلبه، لكن حسن الخلق في المعاملة وأداء الحقوق ونحو ذلك. يقول: وأما المخالقة، والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك؛ فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما أشارت إليه الآية. أي: إذا كان الوضع كحالة الحرب فإنه لا يصلح أن تسلك هذه المسالك؛ لأنها في حالة الحرب تكون بمعنى التذلل للعدو، والمسلم لا يذل، وأما الشخص الذي لا يكون محارباً للمسلمين فإنه يتعامل معه معاملة حسنة، ولو كان كافراً، وأما المحارب الذي يحارب الله ورسوله، ويقاتل المسلمين فهذا لا يستحق هذه المعاملة، فالمعاملة بحسن الخلق ونحوه إنما تكون لمن لا يحاربوننا في الدين. قال: وإليه أشارت الآية الكريمة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:8 - 9]. قال: أما التقية فتجوز للخائف من الظالمين القادرين. أي: لأنه قد يكون الإنسان ظالماً ولكنه لا يقدر على إنفاذ ظلمه، أما إذا كان ظالماً وقادراً على الأذية فهذا لك أن تتقي منه. قال: وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء: فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة، وما كان من أمر الدين فهو الرياء المحرم. ومن كلام الإمام يحيى بن المحسن في كتابه (الرسالة المخرسة لأهل المدرسة)، يقول: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيراً من أهل البيت عُرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولى الناصر الكثير منهم وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم، وذكر المهدي أن الموالاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك. والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثرة: منها قول الله تعالى في الوالدين المشركين بالله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فأمر الله سبحانه وتعالى ببر الوالدين وإن كانا مشركين، وقال عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فانظر إلى هذين الوالدين: فهما مشركان، ويدعوان ولدهما إلى الإشراك، بل ويجاهدانه في سبيل الإشراك، ويبذلان أقصى ما في وسعهما لأجل فتنته عن دينه وإدخاله في الشرك، ومع ذلك يقول الله تعالى: ((فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا))، وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] إلى آخر الآية. وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء بعد آيات التحريم، وسوف يأتي ذلك بالتفصيل.

إشكال وجواب

إشكال وجواب فإن قيل: قد دلّ القرآن على أن حاطباً أذنب؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)) فكيف يقبل ما ذكره من العذر؟ ف A إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، أي: أن هذا الذي حصل ليس لمودة ومحبة وموالاة موجودة في قلبه، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث، وأما ذنبه فإنه لا يحل، فهو مثل ذنب فعله أحد الجيش بغير إذن أميرهم، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] إلى آخر الآية؛ ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من الحيل لحفظ المال، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم؛ لما فيه من الخيانة، فلو تجرد نفس الفعل من الكتم والخيانة لجاز، والله تعالى أعلم. ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشف عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقله، مضطرباً في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم، وهذا هو السر في هذا الأمر الخطير. أي: لأن المشركين يرون حاطباً وهو يفعل هذا، فيزيدهم ذلك فتنة بما هم عليه من الشرك، ويظنون أنه ترك دينه، أو أنه متشكك في دينه وعقيدته؛ فلذلك يواليهم، فهذا السلوك مما يزيدهم فتنة أو يكون سبباً لفتنتهم وإعجابهم بما هم عليه من الشرك، وذلك يبينه قوله تعالى: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)).

تفسير قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه)

تفسير قوله تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. ثم علم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم؛ فقال تبارك وتعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. قوله تعالى: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ)) أي: قدوة، ((حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) يعني: أتباعه الذين آمنوا معه، لكنها نزلت أساساً في حاطب، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم وقومه، فتبرأت من أهلك كما تبرءوا هم من قومهم؟ وأتباع إبراهيم عليه السلام هم الذين آمنوا به، ولوط عليه السلام أيضاً. ((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ)) أي: الذين أشركوا بالله وعبدوا الطاغوت، ((إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ)) برآء: جمع بريء، كظريف وظرفاء، ((إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ)) أي: بدينكم ومعبودكم، قال ابن جرير: أي أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقاً. ((كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) فهذه غاية العداوة، فإذا آمنتم بالله وحده تنقلب المعاداة موالاة أي: لا صلح بيننا ولا مودة إلى أن تؤمنوا بالله وحده، أي: توحدوه وتفردوه بالعبادة. ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) هذا استثناء من قوله تعالى: ((أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) يعني: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم إلا في قوله لأبيه: لأستغفرن لك، فليس لكم في ذلك أسوة؛ لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم -أيها المؤمنون بالله- تبرءوا من أعداء الله المشركين به، ولا تتخذوا منهم أولياء، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده. روي عن مجاهد أنه قال في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم فيستغفروا للمشركين، وفي سورة التوبة بيان علة ذلك، وأن إبراهيم ما استغفر لأبيه إلا أنه وعده بذلك، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. فقوله تعالى: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) يعني: لا تأتسوا به في ذلك. وهذا فيه دلالة على تفضيل نبينا على سائر الأنبياء؛ لأن الله سبحانه وتعالى حين أمرنا بالاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا به أمراً مطلقاً فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ولم يستثن، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثنى بعض أفعاله فقال: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)). وهناك قول آخر في الآية: وهو أن الاستثناء هنا منقطع، فتكون (إلا) بمعنى (لكن)، والمعنى: لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك إنما جرى لأنه ظن أنه أسلم، فلما تبين له أنه لم يسلم تبرأ منه، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظن، فلِمَ توالونهم؟ فهل وجد حاطب ظن إسلام هؤلاء المشركين؟ ما وجد هذا الظن، فإذاً: لماذا والاهم، وأسر إليهم بهذا الكتاب؟ قوله: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) أي: وما أدفع عنك من عقوبة الله شيئاً إن أراد عقابك، والجملة من تمام المستثنى، فهذا كله من قول إبراهيم عليه السلام، إلا أنه لا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم أفراده. أي: فكون الاستثناء يأتي على لفظة: ((لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) لا يعني الاستثناء أيضاً في قوله: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ))، فلا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم الضمير، ولذلك قال الزمخشري: والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. انظر كيف فهم الزمخشري قوله تعالى: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) فكأنه قال: سأستغفر لك، وما في طاقتي إلا الاستغفار، فعبر عن هذا المعنى الأخير بقوله: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)). قوله: ((رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا)) هذا مما يدل على أن هذا الدعاء من دعاء إبراهيم وأصحابه، وهو من جملة الأسوة الحسنة، وهو متصل بما قبل الاستثناء، يعني لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ))، و ((رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ))، لكن اعترض السياق للاستثناء. وقيل: هو أمر منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوا ذلك تسليماً لما وصاهم به من قطع الصلات المضرة بينهم وبين المحاربين لهم. ومعنى (إليك أنبنا) أي: رجعنا بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: وقد بين تعالى هذا التأسي المطلوب وذلك بقوله: ((إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) فالتأسي هنا في ثلاثة أمور: أولاً: التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله. ثانياً: الكفر بهم. ثالثاً: إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبداً إلى الغاية المذكورة، أي: حتى يؤمنوا بالله، وهذه غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبداً، والسبب في ذلك هو الكفر، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم. وموضع الأسوة إبراهيم والذين معه، بدليل العطف بينهما، فقوله تعالى في إبراهيم والذين معه: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ)) فقائل القول لقومهم: إبراهيم والذين مع إبراهيم، وهذا محل التأسي بهم فيما قالوه لقومهم، وقوله تعالى: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) هو هذا القول من إبراهيم ليس من موضع التأسي، وموضع التأسي المطلوب بإبراهيم عليه السلام هو ما قاله مع قومه المتقدم، وهو ما فصله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27] وهذا معنى: لا إله إلا الله، وهو موضع الأسوة، وهذا التبرؤ جعله باقياً في عقبه كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28]. قوله: ((إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ)) لم يبين هنا سبب هذا الاستثناء، وقد بينه تعالى في موضع آخر في قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] تلك الموعدة التي كانت له عليه في بادئ دعوته حينما قال له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] فكان قد وعده ووفى بعهده، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، فكان محل التأسي في إبراهيم في هذا التبرؤ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله، فإذاً: يكون التأسي بإبراهيم هنا بأن نتبرأ من الكافر ولو كان أقرب الأقربين إذا ظهر منه أنه عدو لله. وقد جاء ما يدل على أنها قضية عامة وليست خاصة بإبراهيم عليه السلام، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]. وفي هذا أقوى دليل على أن دين الإسلام ليس فيه تبعية لأحد، بل كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِم

بعض ضلال النصارى

بعض ضلال النصارى أشير إشارة جزئية إلى ما يعتقده النصارى من أن آدم لما أكل من الشجرة فكان أثر هذه المعصية موروثاً في ذريته، وبنوا عليه أساطير في سبب الصلب، وأنه لتطهير البشرية من ذنب آدم! وهذا ضلال مبين، وعندهم أن أشد الأيام سواداً في حياة الإنسان هو يوم أن يولد، وأنه ملوث بخطيئة آدم بسبب أكله من الشجرة، ولذلك يعملون عملية التعميد؛ ليطهره من خطيئة آدم ويدخله في ملتهم، وعندهم بعض الكنائس لها أوقاف يدفن فيها الموتى، ويمنعون دفن أي ميت لم يتم تعميده. الشاهد: أن خطيئة آدم عليه السلام قد غفرت له قبل أن يهبط إلى الأرض، كما قال الله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيه} [البقرة:37]، فزعم أن آدم نزل إلى الأرض ملوثاً بالخطيئة غير صحيح، وهذا من خرافاتهم وافترائهم على الله، فآدم عليه السلام طهر تماماً من الخطيئة، وشاء الله أن ينزل إلى الأرض لحكم جليلة وعظيمة، والخطيئة قد عفا الله عنها كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، ولا يوجد ميراث للخطيئة كما يزعم النصارى، حتى أنهم يعتقدون أن الأنبياء كانوا محبوسين في سجن جهنم قبل المسيح عليه السلام، لأنهم كانوا ملوثين بخطيئة آدم عليه السلام! وهذا من ضلالهم الذي اقتبسوه من عقائد الهندوس والوثنيين والفراعنة، أما عندنا في الإسلام فإن الرسول عليه الصلاة والسلام جعل ثواب بعض الأعمال الصالحة أن الإنسان يخرج منها بلا ذنب كيوم ولدته أمه، من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، والمسئولية في الإسلام مسئولية فردية، فكل إنسان يحاسب على عمله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: ومن عجب أن يأتي نظير موقف إبراهيم من أبيه في مواقف مماثلة في أمم متعددة منها: موقف نوح عليه السلام من ابنه لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] فلما تبين له أمره تركه أيضاً كما في قوله تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة: (إنه عَمِل غيرَ صالح). وقوله تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ليس المراد بذلك: أنه من غير صلبه معاذ الله، بل المقصود ليس من أهلك المؤمنين، وأما من حيث النسب فهو ابنه من صلبه قطعاً، وكذلك قوله تعالى: {فََخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] فنُسبت الخيانة إلى امرأة نوح؛ لأنها لم تدخل معه في دين الإسلام ولم تتابعه على الإسلام، فهذه هي الخيانة، ولا يمكن أبداً أن تفجر زوجة نبي، فزوجات الأنبياء محفوظات من الفاحشة، فتجويز مثل هذا طعن في الله سبحانه وتعالى نفسه كما سبق أن بينا في سورة النور، ولذلك أنزل الله في قصة الافتراء ما أنزل، فزوجة نوح كانت كافرة، وزوجة لوط كانت كافرة، فالخيانة التي نسبها الله إليهما إنما هي خيانة في العقيدة وعدم الموافقة على الدين، وليست الخيانة المعروفة، فأبناؤهما من صلبيهما ولا شك في ذلك. وهذا مما يرينا خطورة قضية الولاء والبراء، فلما لم يتابعه على عقيدته قال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فلما تبين له الأمر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود:47]، فكان موقف نوح من ولده كموقف إبراهيم من أبيه. ومنها: موقف نوح ولوط من أزواجهما كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم:10]. ومنها: موقف زوجة فرعون من فرعون في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فتبرأت الزوجة من زوجها. فهذا التأسي قد بُيِّن تمام البيان في قول الله سبحانه وتعالى: ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وفي هذه الآية إشارة إلى أن قراباتك يا حاطب! الذين ارتكبت من أجلهم هذه المخالفة لن يغنوا عنك شيئاً يوم القيامة، وإنما ستحاسب على فعلك أنت، فقوله: ((لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ)) أي: ولا آباؤكم ولا أحد من أقربائكم، ((يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)). وقول إبراهيم لأبيه: ((وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)) بينه ما قدمنا من أن الإسلام ليس فيه تبعية كما في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، وقوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19].

تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا) قال تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:5]. قال مجاهد: قوله تعالى: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: لا تعذبنا بأيديهم؛ لأن الفتنة تطلق على العذاب كقوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] يعني: عذابكم، فالمعنى: لا تعذبنا على أيدي الكفار، ولا بعذاب من عندك فيفتن الكفار ويقولون: لو كانوا على حق لما أنزل الله بهم العذاب، وكذا قال قتادة: لا تظهرهم علينا فيفتتنوا بذلك، ويرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. ومآل هذا الدعاء هو التعوذ من مثل صنع حاطب مما يورث افتتان المشركين بالدين؛ إذ يكون ذلك مدعاة لقولهم: لو كان هؤلاء على حق، وما يزعمون به من الظفر بالحق، لما صانعنا مؤمنهم. إذاً: ما هم عليه أماني، فانتبهوا لهذا الفرق بين هذه الدعوة وبين غيرها من الدعوات، فهذا الدعاء حينما نفهمه ونفقهه يئول إلى التعوذ من مثل فعل حاطب؛ لأن الذي فعله حاطب قد يكون من عواقبه وآثاره أن يصير سبباً لفتنة الذين كفروا فيقولون: لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه على حق، ولو كان الوعد الذي وعدوه من الغلبة والظفر حقاً؛ لما صانعنا هذا المؤمن ولما داهننا، ولما جاملنا، فيتمسكون بما هم عليه. ففي الآية معنى كبير، وتأديب عظيم، أي: ربنا لا تجعلنا نهمل من ديننا ما أمرنا به، أو نتساهل فيما عزم علينا منه، حتى لا تنحل بذلك قوتنا، ويتزلزل عمادنا، ويُفتح لعدو الدين الافتتان به؛ لأن المؤمنين إذا ما زالوا متمسكين بآداب الدين، ومحافظين عليها، وقائمين بها حق القيام، فإن النصر قائدهم، والظفر رائدهم، ولذلك أصبح المسلمون في القرون الأخيرة بحالهم السيئ حجة على دينهم أمام عدوهم، ولا مسترد لقوتهم، ولا مستعاد لمجدهم إلا بالرجوع إلى كتابهم، والعمل بآدابه، والمحافظة على أحكامه، ونبذ ما ألصق به مما يحرف كلمه، ويجافي حقيقته.

تصرف المسلمين السيئ وأثره على هذا الدين

تصرّف المسلمين السيئ وأثره على هذا الدين إن السلوك السيئ لبعض المسلمين قد يكون فتنة للذين كفروا، فتخيل مثلاً بعض الملوك أو الرؤساء الكفرة حينما يتعاملون مع عيّنة من الناس في حلبة السياسة، ويرونهم يبيعون أوطانهم، ويخونون شعوبهم، ومع ذلك ينتسبون للإسلام، فهل سيرغب هؤلاء في الإسلام؟!! وقد سبق أن تكلمنا في تفسير سورة النحل، عند قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النحل:94] إلى آخر الآية، أن قوله: ((وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ)) يعني: لا تخادعوا الناس، وتستغلوا اسم الله والحلف به، فتقول: والله العظيم هذا الشيء ما كسبت فيه كذا، ووالله سأكون خاسراً في البيعة الفلانية، أو يعقد عقداً ويغش ويخدع، والرجل يصدقه؛ لأنه حلف، ثم يكتشف بعد ذلك أنه ما انخدع إلا بسبب تصديقه له لما حلف، ويترتب على فعل ذلك أمران خطيران: الأول: أنكم بعد أن كنتم توصفون بالاستقامة سوف توصفون بالفسق والخروج عن طاعة الله: ((فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)) أي: إذا انحرفتم عن الاستقامة وخادعتم الناس بالأيمان الكاذبة فحينئذ ستزل قدم بعد ثبوتها. الثانية: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} يعني: أن هذا السلوك يترتب عليه فتنة الناس عن الدخول في الدين؛ لأنهم يقولون: لو كان ما هم عليه حقاً لزجرهم عن الغش، ولزجرهم قرآنهم عن الحلف بالله وهم كاذبون. فإذاً: هذا الأمر ليس أمراً سهلاً، بل فيه عذاب وفيه عقاب، فالسلوك الذي يترتب عليه فتنة الكفار عن الدخول في الدين تشويه لجمال الإسلام، وصد عن سبيل الله، فعلى فاعل ذلك إثم كبير، ووزر عظيم، ولذلك قال تعالى: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فهذا لفت إلى خطورة أن نكون نحن فتنة للكفار بأن ننفرهم من الدين بسبب سوء سلوكنا. فهناك بلاد عظيمة جداً وتعدُّ أكبر بلاد العالم الإسلامي من حيث عدد السكان وهي إندونيسيا، وهي في شرق آسيا، وكل هذه المناطق دخل الملايين من أهلها في دين الله عز وجل، ولم تفتح بالسيوف ولا بالجهاد، بل فتحت عن طريق تجّار كانوا يخرجون للتجارة، وقد كانوا دعاة يتقمصون زي التجار، فكانوا يخرجون ويتعاملون مع هذه الشعوب معاملة حسنة، فكان أبناء تلك الشعوب ينبهرون جداً بخلق المسلمين، وبأمانة المسلمين، وبتقواهم لله سبحانه وتعالى، فكل هذه البلاد إنما فتحت بالأسوة الحسنة فقط، فلم تُفتح بسيف ولا بجهاد. وهذا الكلام قاله أناس ليسوا من المسلمين كصاحب كتاب: (دعوة الإسلام) واسمه أرنلد كونجي، وهو بريطاني له باع كبير جداً في معرفة حقائق الدعوة الإسلامية، فكان مما قاله هذه العبارة: إن هؤلاء كانوا دعاة في زي تجار، وهم الذين فتحوا هذه البلاد بالدعوة فقط، ولم يرفعوا السيوف أمامهم قط!

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة)

تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] يقول الله تبارك وتعالى وهو يعيد الكلام في ذكر الأسوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فأسوة هنا: اسم كان، وهذا التأنيث جائز، بدليل أنه جاء في الآية التي قبلها: ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) فكانت للتأنيث، أما هنا فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فهذا يدل على أن التأنيث جائز. ((لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ)) وإعراب (لِمَن) بدل من قوله تعالى: (لَكُمْ). وهذا الأمر بالتأسي بإبراهيم وأصحابه لمزيد الحث على التبرؤ من المشركين، فإن محبة المفسدين فيها تخريب لمباني الحق، وتوهين لقوى أهله، وتشكيك لضعفاء القلوب، مما يفسد عمل المصلحين، ويزلزل مساعيهم، ويفتن أعداءهم بهم، لذلك كان البغض في الله من شعب الإيمان، فإن الحق لا يقوى إلا باعتصام أهله على كلمته، ورمي أعدائه عن قوس واحدة، وفي إبدال: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} من (لكم) دلالة على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وأنّ ترْكه مؤذن بسوء العاقبة. إذاً: فمعنى ما سبق: أن من تورط وتلطخ بموالاة الكفار فإنه ليس ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، فإن الذي يرجو الله واليوم الآخر ويؤمن بذلك، ويخاف الحساب، ويذكر الله، ويستقيم على دينه؛ يلزمه أن يبغض أعداء الله، ويتبرأ من الكفار، فإذا وقع ذلك من شخص فإنه يشير إلى سوء عقيدته، ومعنى ذلك أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. ولذلك عقبه الله بقوله تبارك وتعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6] أي: من يتول عما أمر به، ويوالي أعداء الله عز وجل، ويلقي إليهم بالمودة، فإنه لا يضر إلا نفسه، والله عز وجل غني عن إيمانه به وطاعته، وهو المحمود على كل حال. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموماً، ويحتمل أنه تولي الكفار وموالاتهم. وقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). قال ابن عباس: غني: كمل في غناه، ومثله قوله تعالى: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن:6]، وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموماً وخصوصاً: فجاء في خصوص الحج قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، فالله لا ينتفع بعبادة الناس، ولا يحتاج إليها. وجاء في العموم قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8] لأن أعمال العباد لأنفسهم والله لا ينتفع بها شيئاً كما قال عز وجل: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]، وكما جاء أيضاً في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً). وقال تعالى مبيناً غناه المطلق: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26].

تفسير قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة)

تفسير قوله تعالى: (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة) يقول الله تبارك وتعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:7]. هذا وعد من الله سبحانه وتعالى؛ لأن (عسى) في القرآن واجبة، وهي للترجي، وهي من الله واجبة الرجاء، فهذا وعد من الله، وقد أنجزه بأن أسلم كثير منهم بعد وصاروا لهم أولياء وأحزاباً، والآية من معجزات القرآن، لما فيها من الإخبار عن مغيب وقع مصداقه. ((وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) غفور لهمرحيم بهم بعدما أسلموا، فإن الإسلام يجب ما قبله. وقيل في تفسير ذلك: إن الضمير يعود إلى كفار مكة. وقيل: المودة هي تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فإنه لما تزوج الرسول عليه الصلاة والسلام أم حبيبة بنت أبي سفيان لانت عريكة أبي سفيان يعني: طبيعته ونخوته، واسترخت سكينته في العداوة حتى دخل هو نفسه في الإسلام. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا؟ ولكن (عسى) من الله للتأكيد، يعني: أن (عسى) فيها فتح باب الرجاء والتأليف بأن يهدي الله منهم من يشاء، وهذه كأنها مكافأة من الله سبحانه وتعالى، أي: إن أنتم صارمتم وقطعتم وتبرأتم من هؤلاء مع كونهم من ذوي قرابتكم، فإن الله يكافئكم على ذلك أن يجعل بينكم وبينهم مودة. وقوله: ((وَاللَّهُ قَدِيرٌ)) تشعر بأن الله فاعل ذلك، وأن هذا الوعد سوف يتحقق، وقد جاء ما يدل على أنه فَعله كما في سورة النصر حين قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا خلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم أبو سفيان وغيره، وجاء الوفود في عام الوفود إلى المدينة بعد الفتح. وقوله تعالى: ((وَاللَّهُ قَدِيرٌ)) يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده كما قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63]، ولأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار لن تحصل حتى يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفهم من قوله تعالى: ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)) أن منهم من سيدخل في الإسلام، فيترتب عليه أن تكون بينكم وبينهم مودة بعد العداوة؛ لأن هذه العداوة نشأت أساساً بسبب الكفر، فلا يزيلها إلا أن يؤمنوا بالله وحده، فلذلك يفسر هنا قوله: ((عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً)) بدخولهم في دين الإسلام؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].

الممتحنة [8 - 11]

تفسير سورة الممتحنة [8 - 11]

تفسير قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين فأولئك هم الظالمون)

تفسير قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين فأولئك هم الظالمون) {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9]. قال بعض العلماء في تفسير: (المقسطين) هنا: إنه مأخوذ من القسط وهو العدل، أي: إن الله يحب أن يحكم بين الناس بالعدل، إلا أن الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى فسرها بمعنى آخر، فقال: أن تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة خاصة، إذ تضمن ذلك سبب نزول هذه الآيات، وهو مجيء قتيلة أُم أسماء راغبة في صلتها. فالله سبحانه وتعالى يقول: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ)) عن الكفار، ((الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) مع أن هناك كفاراً هم من أعداء الله، لكن الكفار نوعان: كافر منشغل بحاله، ويمكن أن يحصل نوع من حسن الخلق معه كما بينا، وكافر يحارب الله والرسول والإسلام، ويقاتل المسلمين، فهذا محارب لا يدخل في هذا القسم، إنما تتناول هذه الآية الكافر الذي تنتفي عنه صفة العداوة، فيجوز الإحسان إليه والبر والصلة، فقوله تعالى: ((أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) أي: تعطوهم قسطاً أي: نصيباً من أموالكم على وجه صلة الرحم، أو الإحسان، وليس المقصود بها أن تعدلوا، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، فلا يختص بأناس دون أناس، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فيجب العدل حتى مع الكافر. وهناك مواقف كثيرة جداً في التاريخ الإسلامي تبيِّن عدل المسلمين، فما ملكت أمة قط وحققت العدل كما حققه المسلمون، فالعدل واجب فيمن قاتل، وواجب أيضاً فيمن لم يقاتل، لذلك جاء في تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] أي: ولا تظلموا. وقد دخل ذمي على إسماعيل بن إسحاق القاضي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون ذلك، فتلا عليهم هذه الآية: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] أي: أن هذا ذمي وليس محارباً، ثم بين الله من الذين ينهانا عن فعل ذلك معهم فقال: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9]. فهذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين، ولم يقاتلوهم، فهو في المعنى تخصيص لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاء} [الممتحنة:1] فقوله هنا: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) أي: من أهل مكة ((وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)) وذلك بالبر والإحسان إليهم. فهذا القدر من الموالاة -إن سميناه موالاة- من الإحسان إليهم، والصلة بالمال أو بنحو ذلك، وحسن الخلق، هذا لا حرج فيه، بل مأمور به في حقهم، والخطاب وإن كان في مشركي مكة إلا أن العبرة بعموم لفظه، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه، فرد ذلك الإمام ابن جرير بقوله: والصواب قول من قال: عنى بقوله تعالى: ((لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)) من جميع أصناف الملل والأديان أياً كان، أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، فإن الله عز وجل عمَّ بقوله: ((الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)) وهذه صيغة عموم عمَّ بذلك جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض. ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ -أي: أن بعض الناس قالوا: إن هذه الآية نسخت بآية السيف- لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورات لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح. ومما يوضح المعنى الذي نقصده أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: (قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدت -تعني: في فترة صلح الحديبية- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك) ويفهم من بعض الروايات أن قولها: (أفأصلها؟) تعني: هل أعطيها مالاً وغيره، ويحتمل أن المعنى: أصلها بقبول ما جاءت به معها من هدايا. وهذا الحديث رواه أحمد والشيخان، وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم، صلي أمك). وعن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة -وهي: بنت عبد العزى - على ابنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا: ضباب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها، وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها. وقال الرازي: قوله تعالى: ((أَنْ تَبَرُّوهُمْ)) بدل من: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ)، وكذلك قوله: ((أَنْ تَوَلَّوْهُمْ)) بدل من قوله: (الذين قاتلوكم)، والمعنى: لا ينهاكم عن برّ هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهناك فرق بين البر وبين التولي والموالاة، فالموالاة للكافر لا تحل بحال من الأحوال، كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28]، وقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] إلى آخر الآيات. فالموالاة التي هي بمعنى المحبة القلبية لا تكون على الإطلاق بين مسلم وكافر، فيقول: والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة. وهذه الآية تدل على جواز البر بين المسلمين والمشركين الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة، لكن البر والإحسان جائز.

أهمية الولاء والبراء في هذا الدين

أهمية الولاء والبراء في هذا الدين وقبل أن نختم الكلام على أن أي خلل في قضية الولاء والبراء، يؤدي إلى فتنة في الأرض كما قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فنجد الآن أن كل من صوب سهامه تجاه المسلمين فإنهم يصبونها في قضية الولاء والبراء خصوصاً، فتجد التشويش لجودة الدين ولبِّه، فإن من أعظم حقوق لا إله إلا الله موالاة من والى الله، ومعاداة من عادى الله، ففي الإسلام عبادات قلبية وقولية ومالية وبدنية، ومن أعظم العبادات القلبية عبادة الحب والبغض. فالحب عبادة، والبغض عبادة، فحب الله ورسوله والمؤمنين عبادة كما قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]، والبغض عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)، فمن عادى الله، وعادى الرسول، وعادى الإسلام فلابد أن تعاديه، وأن تبغضه من قلبك. وأما الكلام في السموم التي تنفث في كل مكان: في مناهج التعليم، وفي الإعلام ليل نهار، فهي محاولة لكسر هذا الحاجز، وقد فُتح على الناس باب فتنة، وشر كبير، والمشكلة أن بعض الناس لا يسمي الأشياء بمسمياتها، فهناك تلاعب كبير في المصطلحات، ومن أخطر هذه المصطلحات الذي تروج لهذه الأفكار مصطلح التعصب، وأن هذا من التعصب، فإذا وجدت رجلاً يدعو بالرحمة لكافر مثلاً فقلت له: لا تدع لكافر، فإنهم يقولون لك: لا داعي للتعصب، الإسلام دين التسامح! أقول: لا، لن يجد في الإسلام دليلاً واحداً على ذلك لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من سيرة السلف، ولا حتى الخلف إلا خلفنا الذين نعيش بينهم الآن، فلن يجد أبداً تسامحاً بمعنى أنه يصف الكافر بأنه مسلم، أو بتعبير أدق أن يجعل الكفر سواسية مع الإيمان، فهذا لا يحصل أبداً، وهذا تحريف للدين، فعدم التمييز بين الأمرين يأتي بكثير من الخلط بين الأوراق وبين الأمور، فهناك فرق بين التعصب والتسامح.

الفرق بين التعصب والتسامح

الفرق بين التعصب والتسامح فالتعصب والتسامح له مجال معين، فليس من مجال التعصب والتسامح مجال العقيدة، أو المفاهيم التي تستقر في قلب الإنسان، فهذه الأمور لا يوجد فيها تعصب ولا تسامح، حتى عند الكفار فإنهم يسمونها حرية الاعتقاد، فكل واحد حر يعتقد بقلبه ما شاء عندهم، لكن التعصب والتسامح له منطقة معينة وهي: منطقة المعاملة، فتكون متعصباً إذا ظلمت أحداً، أو بخسته حقه، أو آذيته بدون وجه حق. أما إذا اعتقدت بقلبي أن أحداً من الناس كافر بالله ورسوله، وأنه مكذب فأبغضته لذلك، فهذا ليس من التعصب في الدين، بل هذا من واجبات الدين وأركانه الركينة، فإن محبة الكافر وموالاته، واعتقاد أنه متساوٍ مع المسلم خروج من الملة كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:24]. إن بعض الناس يخلطون بين لفظة التعصب ولفظة التسامح خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم وأنت تقول: لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني مثلاً؛ لأنه لا يدخل الجنة، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وعد نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام، وأنه أولى بالإسلام منك، فالإسلام دين السماحة، وأنت متشدد متعصب متطرف؛ لأنك تصف الكفار بأنه كافر! فنقول له: إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة فقط، فالتعصب أن تعامل الذمي مثلاً -يهودياً كان أو نصرانياً- فتظلمه أو تبخسه حقه، فالشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من ظلم معاهداً، أو كلفه ما هو فوق طاقته، فأنا خصيمه يوم القيامة)؛ ولأن هؤلاء لهم عهد الله وعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم هذه الحقوق، فالمتعصب هو الذي يبخسهم حقهم أو يظلمهم، والتسامح هو أن تعامل الكافر بعدل بشرط ألا يكون محارباً.

أحوال اليهود وأذنابهم في حرب الإسلام والمسلمين

أحوال اليهود وأذنابهم في حرب الإسلام والمسلمين من غير المعقول أن آتي إلى الإخوة الفلسطينيين وأقول لهم: لابد من التسامح وحسن الجوار، مع أناس فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، فاليهود المحاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، يفتعلون الحرب، ومع ذلك هي حرب ليس فيها أدنى قدر من التكافؤ، حرب بين مدنيين عزّل وبين جيش مزود بالطيارات والدبابات والقذائف. فهؤلاء اليهود الجبناء الأنذال يفعلون ذلك مع أناس لا يملكون إلا الحجارة، ومع ذلك يفعلون بهم ما يفعلون، ولذلك تجد ما يسمونه بالمجتمع الدولي وعلى رأسهم الفتوة العالمي أمريكا الظالمة الباغية، يتلاعبون بالألفاظ، فبدلاً من أن يقولوا: نريد وقف إطلاق النار من قبل اليهود، فإنهم يقولون: نريد وقف إطلاق النار! فهلا استحوا على أنفسهم؟ فإنه أمر مخجل عندما يقولون: وقف إطلاق النار، أيّ نار يعنون؟! فليس هناك إلا شباب وأطفال مساكين لا يملكون إلا الحجارة، فهم لما أحسوا أن كلمة وقف إطلاق النار لا تركب، وأن النار لا تطلق إلا من طرف واحد فقط، أتوا بكلمة جديدة، وهي من ألاعيب السياسة، فقالوا: وقف أعمال العنف! فينبغي أن ننتبه لمثل هذه المصطلحات، فيقولون لك: وقف أعمال العنف. والحقيقة هي أن الموضوع أخطر مما نتصور، فاليهود يتدرجون في سبيل هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل على أنقاضه، فهذه هي القضية، وقد أعطت السلطات اليهودية تصريحاً لجماعة بناء الهيكل بوضع حجر الأساس لهيكل سليمان بجوار قبة الصخرة، لكن فيما يبدو أن المظاهرات التي حصلت في نفس اليوم صوروها لنا على أنّها إما مؤيدة أو معارضة لشرم الشيخ، وهي ليست من أجل موضوع شرم الشيخ في الحقيقة، بل كانت من أجل موضوع الهيكل، لكن لو أنهم أذاعوا هذا الكلام فإن العالم الإسلامي سيثور من جديد، فأرادوا تهدئته، فسحبوا الترخيص بوضع حجر الأساس للهيكل إلى حين؛ لأن هذا هو المعهود من مكر اليهود وخداعهم أنهم يؤجلوا القضية شيئاً فشيئاً. وسوف يجتمع المحامون عن قضية فلسطين في قمة، فنرجو منهم ألا يخيبوا أملنا، فقد كشفت لنا الحقائق وكشف لنا التاريخ فيما مضى أن هؤلاء الحكام هم أفشل محامين في أعدل قضية على الإطلاق، فنرجو ألا يخيبوا أمل المسلمين، وأن يعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى تطبيق شرع الله، وإلى معاهدة سلام مع الإسلام، ونقول لهم: ساوونا باليهود على الأقل، واعملوا معاهدة سلام مع الإسلام، وكفوا عما فعلتموه من الصد عن سبيل الله، وتشويه الدين، وقولكم إن هذا الدين هو دين تطرف، إلى آخر هذا الكلام، ونقول: كفوا عن حرب الإسلام، وسووا بين المستقيمين وبين الفنانين والفسقة والرياضيين، فكل الناس قد تركت لهم الحرية، فسوونا بهم فقط، وارفعوا عنا الظلم الذي نعانيه ليل نهار، والمحاولات الدءوبة لإطفاء نور الله عز وجل، وإطفاء نور الإسلام في بلاد المسلمين. والحديث في هذا الأمر ذو شجون، لكن إن لم يعودوا إلى موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين وبقوا في أحضان الكفار، واستمروا في حربهم للإسلام؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. وأما بالنسبة لهؤلاء الأشاوس فإن آخر شيء كنت قرأته: أن مجموعة من المثقفين يسمونهم: (مثقفين يهود) تكلموا في الإذاعة الإسرائيلية فيما يبدو عن الاستغراب الشديد الذي عمهم حينما حصل رد الفعل الغريب من هذه الأمة الإسلامية، فقد ظنوا أنها قد خمدت أنفاسها إلى الأبد، فقال بعضهم -وهو الشاعر اليهودي باراك - يفتخر بأنه يحفظ أشعاراً له كثيرة، فقال: أنا آسف، ليس في كل من حكموا إسرائيل من يفهم العرب أكثر من بنيامين نتنياهو، فقالوا له: لماذا؟ قال: لأنه هو الوحيد الذي أصر على أن العرب لا يصلح معهم سلام على الإطلاق، فقالوا: لماذا؟ قال: قال نتنياهو: إن السلام الذي نصنعه هو مع الحكومات وليس مع الشعوب، لأن هؤلاء الحكام يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، فمتى ما تخلصوا من هؤلاء الحكام ستعود إلينا العداوة من جديد، وتنكشف الحقيقة، فالسلام ليس مع الشعوب! وهذا الكلام موافق للواقع إلى حد كبير؛ فانظر إلى هذا اليهودي الخبيث كيف تفطن للأمر! ولذلك قال بعضهم في نفس البرنامج وهو يعبر عن الصدمة والذهول: حتى المغرب التي كنا نظن أنها في جيبنا تخرج فيها مسيرة مليونية! أي: مظاهرة من مليون شخص تنادي بمحاربة اليهود لعنهم الله، فهم كانوا يؤملون أملاً كبيراً أن المغرب قد هدأت، لأن أقوى موضع في العالم الإسلامي لليهود هو في المغرب، فلهم هناك وضع متميز جداً، فوزير السياحة هناك يهودي، ومع ذلك ذهل اليهود من ردّ الفعل في المسلمين. فالحاصل أن المجتمعين في القمة هداهم الله وأجرى على أيديهم كل خير، على الأقل ينبغي أن يصطلحوا فيما بينهم ويكفوا عن محاربة الدعوة الإسلامية، فإن بعض البلاد تحارب الإسلام حرباً لا يقدر اليهود أنفسهم على القيام بها، فلعلهم يتوبون ويرجعون إلى الله سبحانه وتعالى، ويثوبون إلى رشدهم، ويكفوا عن حرب الإسلام. وهذا هو المفتاح الصحيح؛ لأن القضية قضية عقيدة شئنا أم أبينا، وهذه الحرب دينية بين الإسلام وبين الكفر، ولن تتغير طبيعتها، ولن يقوى أحد على الإطلاق أن يغير طبيعتها مهما فعل، فإن أردنا الطريق الصحيح فهو أن نعود إلى ديننا.

أثر مقاطعة المسلمين لمنتجات من حارب الإسلام والمسلمين

أثر مقاطعة المسلمين لمنتجات من حارب الإسلام والمسلمين نعود إلى ما تبقى من الكلام عن الفرق بين التعصب والتسامح، وقد ذكرنا أن التسامح هو أن تعامل الكافر بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك؛ لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كالقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله ألا يكون محارباً. فلو كانت هناك شركات اقتصادية يهودية أو أمريكية مثلاً ممن يحاربون الإسلام والمسلمين، ويؤيدون اليهود، فيمكن مقاطعتها إضعافاً لاقتصادها، فيستطيع كل مسلم أن يستغني عن البيبسي والكوكاكولا وغيرها من الأشياء التابعة للأمريكان. وقد أعلنت بعض الشركات إعلاناً تصرخ فيه من مقاطعة المسلمين لمنتجاتها، وذلك في جريدة (الأهرام)؛ تقول فيه: إن أكثر من 1500 عامل فقدوا عملهم بسبب المقاطعة. وهذا التصرف كان فردياً، لكنه أثر عليهم لدرجة أن شركة أمريكية عملت إعلاناً تقول فيه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] ويسردون الآيات، ويقولون بأنهم تبرعوا بـ (10%) تقريباً لإخواننا الفلسطينيين في فلسطين من ضحايا هذه المجازر، والسبب أن المسلمين حصل منهم مقاطعة أثرت على اقتصادهم، فإذا كان مجرد الإعراض عن هذا الاقتصاد له هذا الأثر الكبير، فكيف لو أن الجماعة الأشاوس أصحاب البترول قطعوا عنهم البترول؟! أليس كل مرة يقولون: سنقاتل حتى آخر جندي مصري، فليأتوا هذه المرة وليعملوا كما عمل الملك فيصل يرحمه الله، فالملك فيصل في حرب رمضان قال للأمريكان: لا يوجد بترول، فركع الغرب أمامه، وقال لهم: سنرجع مرة أخرى إلى حياة البدو، ولا توجد أي مشكلة في أن نعيش في الصحراء والخيام، ونرجع للفقر، وأبى رحمه الله، فهلا يأتسون به؟ فهم يملكون أسلحة في غاية القوة، فنرجو أن يهديهم الله. فكما قلنا: لا بأس بجريان بعض المعاملات الدنيوية مع الكافر من قرض أو رهن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على صاع من شعير، فكل ما لا تعلق له بالدين فلا بأس من التعامل مع الكافر فيه بشرط ألا يكون محارباً. ومع حسن المعاملة والبر والإحسان للكافر، فيجب عليك أن تعتقد اعتقاداً جازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً فلا يجوز الترحم عليه، ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} [الفرقان:23] أي: في الخير من بر أو صلة رحم ونحو ذلك: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] فلا ثواب له في الآخرة. إذاً: لا يوجد من الكفار ولي أو قدّيس كما يقولون؛ لأن الولاية أو القداسة هي في العمل الصالح المقبول، وأعمال هؤلاء غير مقبولة، بل مردودة؛ لأن دينهم مخالف للإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). فمن جوز وجود ولي منهم، أو تبرك بأحد قديسيهم فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما يظن المخلِّطون الواهمون، لكنه تنازل عن العقيدة يلزم منه الخروج من الدين؛ لأن الدين مبني على العقيدة، فإذا فُقدت العقيدة فقد الدين، فينبغي عدم إقرار الكافر على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه لبغض الله تعالى له، وعدم موالاته ومودته {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطر إلى أضيق الطريق، فهذا كله من الدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل! فالعبارات التي نسمعها والناس يرددونها حتى لا يكاد يشك فيها أحد كقولهم: إن الإسلام يحترم الأديان! عبارت باطلة، فكيف يحترم الإسلام الأديان التي جاء لهدمها والقضاء عليها؟! فعجيب أن يسمى هذا تسامحاً، إن التسامح لا يكون إلا في منطقة التعامل فقط. حدثني أحد الإخوة بالأمس أنه رأى أحد الدعاة ظهر في قناة تلفزيونية، وهو داعية مشهور جداً من خارج مصر، فظهر يتناقش مع المذيعة، وهي متبرجة، فتناقشه وهو آخذ موقف الدفاع، ويحامي عن الإسلام في قفص الاتهام، والمذيعة تقول له: أنتم تقولون عنا إننا كفار؟ وتقولون عن النصارى إنهم كفار؟ فرد عليها رداً متميعاً جداً من ذلك الكلام الذي تعودنا أن نسمعه، ولو أنه رد عليها وقال لها: نعم، نحن نعتقد أنكم كفار، لكن لا نبخسكم حقوقكم التي أعطاكم إياها الشارع الشريف، وأنتم الذين تقولون علينا كفار، لاعتقادكم أنني إذا لم أؤمن بالمخلص فأنا كافر، وهكذا في كل ملة من الملل، واليهود ألا يقولون: إننا لسنا على شيء، ومعلوم أن عقيدتهم باطلة؛ لكن أقول: لسنا نحن فقط الذين يعتقدون هذا. فمن لازم إسلامي وإيماني أن كل ما خالف الإسلام من الأديان فهو دين باطل، فليس من التسامح تمييع الدين بهذه الطريقة، ولا علاقة لذلك على الإطلاق بالتسامح، بدليل أن هذا الذي يقول: إن الإسلام يحترم الأديان، فإن أصغر طفل يأتي له بآيات من القرآن تفحمه وتسكته، وتبين أنه ينافق، ويداهن، ويزور، فعندما يقال له: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، ويقال له: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]، ويقال له: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ماذا سيقول إزاء هذه الآيات؟ هل سيقول: نسخت؟ وبماذا نسخت؟ فأي إنسان مزور ومداهن يفتضح في النهاية، فالعقيدة لا تنازل عنها، والتمسك بالعقيدة ليس تعصباً، إنما يكون التعصب في المعاملة بإضاعة الحقوق ونحو ذلك.

بعض صور معاملة الإسلام الحسنة للمشركين وأهل الذمة

بعض صور معاملة الإسلام الحسنة للمشركين وأهل الذمة وقد ذكر الشيخ عطية سالم بعض صور المعاملة الحسنة لأهل الذمة، فقال: وقصة الظعينة صاحبة المزادتين في صحيح البخاري، فلم يقتلوها، أو يأسروها، أو يستبيحوا ماءها، بل استاقوها بمائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من مزادتيها قليلاً، ودعا فيه، وردَّه، ثم استقوا فقال لها: (اعلمي أن الله هو الذي سقانا، ولم ننقص من مزادتك شيئاً) وأكرموها وأحسنوا إليها، وجمعوا لها طعاماً، وأرسلوها في سبيلها، فكانت تذكر ذلك، وتدعو قومها للإسلام، وقد كانت مشركة. وقصة ثمامة لما جيئ به أسيراً ورُبط في سارية المسجد، وبعد أن أصبح عاجزاً عن القتال لم يمنعهم ذلك من الإحسان إليه، فكان يراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق، حتى فُكّ أسره، فأسلم طواعيه. وهكذا قول الله تبارك وتعالى أيضاً: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] * {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] فلا يتصور أن يكون هناك أسير بين يدي المسلمين وهو مسلم، فإن الأسير لا يكون إلا كافراً، فالمقصود بهذه الآية الأسير الكافر قطعاً. وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] يعني: يؤثرون على أنفسهم {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، فهذه الآية تدل على جواز الإحسان بالإطعام ونحو ذلك كما ذكرنا. وفي سنة تسع -وهي سنة الوفود- كان يقدم إلى المدينة المسلمون وغير المسلمين فيتلقون بالبر والإحسان، كوفد نجران وغيرهم، وهاهو ذا وفد تميم جاء يفاخر ويفاوض في أسارى له، فيأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع مفاخرتهم، ويأمر من يرد عليهم من المسلمين، وفي النهاية يسلمون، ويجيزهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالجوائز، فهذا الوفد أتى متحدياً مفاخراً بالشعر، ومع ذلك أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أحد الصحابة أن يرد عليهم بنفس طريقتهم؛ وذلك بالشعر، وجاءوا بأمر جارٍ في عرف العرب، فجاراهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلن لهم أنه بُعث ما بالمفاخرة، ولكن ترفق بهم إحساناً إليهم، وتأليفاً لقلوبهم، وقد كان، فأسلموا. يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] من كانوا كذلك من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم، وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، فعم بقوله: ((الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمنين لأهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم، ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)). قال الشافعي رحمه الله تعالى: وكانت الصلة بالمال والبر والإقساط ولين الكلام والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين؛ وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين، والإقساط إليهم إلى آخر كلامه. ثم يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: فهذا هو الذي يقتضيه روح التشريع الإسلامي، ويقول معبراً عن وجهة نظره: إن المسلمين اليوم مختلطة مصالحهم بعضهم ببعض، ومرتبطة بمجموع دول العالم من المشركين وأهل الكتاب، ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش منعزلة عن المجموعة الدولية في تداخل المصالح وتشابكها، ولاسيما في المجال الاقتصادي عصب في الحياة اليوم: من إنتاج، أو تصنيع، أو تسويق، فعلى هذا تكون الآية مساعدة على جواز التعامل مع أولئك المسالمين، ومبادلتهم مصلحة بمصلحة على أساس ما قاله ابن جرير، وبينه الشافعي، وبينه الشيخ أيضاً -يعني: الشيخ الشنقيطي رحمه الله- في حقيقة موقف المسلمين اليوم من الحضارة الغربية، وبشرط سلامة الباطن، بمعنى: أن القلب لا يميل إليهم بمحبة ومودة، وإنما هذه في المعاملة الظاهرة فقط، ومع عدم وجود تلك المصلحة عند المسلمين أنفسهم، فالمسلمون أولى بالتكافل فيما بينهم. يقول: ومما يؤكد ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، ومع ذلك لا توجد موالاة قلبية في كل الأحوال، ولكن لما أخرجهم النبي عليه السلام من المدينة، وحاصرهم بعد ذلك في خيبر، ففتح الله عليه خيبر، وأصبحوا في قبضة يده، فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين، ولا المظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم، فحينئذ عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسط، فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها، وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأُجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين، فلم يتخذهم عبيداً يسخرهم فيها، وبقيت معاملتهم بالقسط مع أنهم يحرم موالاتهم. والآية نصت في النهي: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] لكن في المعاملة ماداموا غير محاربين، ولا يخرجون المسلمين من ديارهم، ولا يظاهرون عليهم فلا حرج، كما جاء في قصة ابن رواحة رضي الله عنه لما ذهب يخرص عليهم النخيل بخيبر: وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة؛ ليخفف عنهم، فقال لهم كلمته المشهورة: والله لأنتم أبغض الخلق إلي، وقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي عليه الصلاة والسلام، ولن يحملني بغضي لكم ولا حبي له أن أحيف عليكم -أي: أظلمكم- فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت، وإما تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت، فقالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض! أي: بالعدل والقسط، وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه عليه الصلاة والسلام، وخلافة الصديق، وصدراً من خلافة عمر حتى أجلاهم رضي الله تعالى عنه عنها، وكذلك المؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي عليه السلام بعد الفتح، وأعطاهم الصديق، ثم منعهم عمر رضي الله تعالى عنه. إن أشد ما يظهر وضوحاً في هذا المقام هو قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فهذه حسن معاملة وبر وإحسان لمن جاهد المسلم على أن يشرك بالله ولم يقاتل المسلمين، فكان حق الأبوة مقدماً ولو مع الكفر والمجاهدة على الشرك. وكذلك جاء في نهاية هذه السورة: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))، فتأمل قول الله تعالى بعد ذلك: ((وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا)) أي: آتوا المشركين ما أنفقوا، بيان ذلك: أن المؤمنات المهاجرات كن متزوجات بأزواج مشركين، وهؤلاء المشركون عندما تزوجوا بهن دفعوا لهن مهراً، فأسلم النسوة وهاجرن، فالله سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين أن ادفعوا للمشركين الذين هم أزواج المؤمنات المهاجرات ما أنفقوا على أزواجهم، لأنها بعد أن أسلمت وهاجرت، انحلت العصمة بينها وبين زوجها الكافر، وفاتت عليه ولم يقدر عليها، فيأمر الله المسلمين أن يؤتوا أزواجهن -وهم مشركون- ما أنفقوا من صداق عند الزواج، لعجزهم عن استرجاع الزوجات، وعدم جواز إرجاعهن إليهم. فجاء الأمر بالمعاملة بالقسط، مع أن هؤلاء الكفار لم يقهروا المسلمين على ذلك. فهذه كلها نماذج تؤكد هذا المعنى الذي نذكره وهو أن التسامح والتعصب دائرته هي المعاملة فقط، وأما العقيدة فلا لا نسمي الكلام فيها تسامحاً؛ لأنه خروج من الملة، ومصادمة لأحكام القرآن.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة:10]. فيما تقدم من الآيات بيّن الله تبارك وتعالى وجوب ترك موالاة المشركين، وبما أنه يجب ترك موالاة المشركين فإن ذلك يقتضي الانفصال عن المشركين، والهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد الإسلام، وهذه الهجرة يترتب عليها فراق المؤمنات المتزوجات بالكافرين أزواجهن الكافرين، وأن يهاجرن إلى ديار الإسلام، فيقول تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)). فالخطاب هنا للمؤمنين، والمقصود به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ((مُهَاجِرَاتٍ)) أي: من مكة إلى المدينة، ((فَامْتَحِنُوهُنَّ)) أي: فاختبروهن بما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان، ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)) أي: الله سبحانه وتعالى هو المطلع على قلوبهن لا أنتم، فإنه غير مقدور لكم، فحسبكم أماراته وقرائنه. والمقصود بالامتحان هنا كما بينت بعض الروايات: بأن تشهد الشهادتين، وقال بعضهم: بأن تحلف أنها ما هاجرت إلا حباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما هاجرت بغضةً لزوج، أو غير ذلك من الأغراض، فتذكر المرأة ما عندها، ويقبل منها قولها في الظاهر. فإذاً: هذا لا يعني التفتيش عما في الباطن؛ لكن هناك أمور اقتضت هذا الامتحان في حق النساء دون الرجال، فإنه لم يحدث امتحان للرجال، وإنما كان الامتحان للنساء خصوصاً، وإلا فقد أتى كثير من المهاجرين من مكة إلى المدينة ولم يحدث مثل هذا الامتحان وسوف نبين إن شاء الله تعالى الفرق بين الرجال والنساء في ذلك. فالمقصود من قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)) يعني: اختبروهن كي تسمعوا منهن ما يغلب على ظنكم صدقهن في الإيمان، ولا يلزم من هذا الامتحان القطع بأنهن مؤمنات في القلب؛ لأن ما في الباطن لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

معاملة الناس على الظاهر والله يتولى السرائر

معاملة الناس على الظاهر والله يتولى السرائر وقوله: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)) أي: الله هو المطلع على قلوبهن لا أنتم، فهذا لا يدخل تحت قدرتكم، وإنما يكفيكم قرائن الإيمان وأماراته، كأن تأتي بالشهادتين، وتجيب ما يوجه إليها من السؤال. وهذا هو الذي ينبغي أن نعتمده في الحكم على إيمان الناس، فيقبل من الناس الظواهر والله سبحانه وتعالى يتولى السرائر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)، فالشاهد في قوله: (وحسابهم على الله) يعني: حسابهم في الآخرة، فنقبل منهم الظاهر، وأما هل هم صادقون في ذلك أم لا؟ فهذا أمره إلى الله سبحانه وتعالى. فالنبي نفسه عليه الصلاة والسلام لا يملك ذلك، فيقول في الحديث: (إني لم أومر أن أنقب عما في قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم، وإنما نقبل من الناس ظاهرهم)، هذه هي معاملة العبيد للعبيد، وقد تجد بعض العباد يصرون على أن يعاملوا الآخرين معاملة الرب للعبد، وهي التفتيش عما في قلوبهم، وهذا خطأ، فإن هذه المعاملة هي معاملة الرب للعبد، ولذلك جاء في موطأ مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن المسيح عليه السلام أنه قال: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد، إنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية. فيحذر الإنسان أن يتعامل مع الآخرين معاملة الرب للعبد، بل عليه أن يعامل العبد كعبد مثله، فيكتفي منه بما يظهره، ولا يفتش عما يبطنه. روى الإمام ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانت المرأة إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفها بالله ما خرجت مهاجرة من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت في التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم). يقول ابن زيد: وإنما أمرنا بامتحانهن؛ لأن المرأة كانت إذا غضبت على زوجها بمكة قالت: لألحقن بمحمد عليه الصلاة والسلام، كأنها تريد أن تكيد زوجها! وقال مجاهد: فامتحنوهن، أي: سلوهن ما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن، أو سخط أو غيرة ولم يؤمن، فارجعوهن إلى أزواجهن. قوله: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ))، قال الزمخشري: يعني: إن علمتموهن العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات، وإنما سماه علماً إيذاناً بأنه كالعلم في وجوب العمل به. قوله: ((فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)) أي: فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين؛ إذ لا حلّ بين المؤمنة والمشرك؛ لأن إيمانها قطَع عصمتها من المشرك المعادي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

ما يوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة وزوجها المشرك

ما يوجب الفرقة بين المسلمة المهاجرة وزوجها المشرك قوله تعالى: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)). يقول القرطبي: وهذا أول دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتُها، وهذا محل خلاف بين العلماء: فجمهور العلماء على أن الذي أوجب الفرقة هو إسلامها، فمتى أسلمت فإنها تنقطع العصمة بينها وبين زوجها؛ لأن الكافر لا يكون كفؤاً للمسلمة. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين؛ لأنها صارت في ديار الإسلام وهو باق في ديار الكفر. يقول القرطبي: والصحيح الأول، يعني: أن الذي أوجب الفرقة هو اختلاف الدين بإسلام المرأة، وليس اختلاف الدارين، لأن الله تعالى قال: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))، فبين أن العلة هي عدم الحل بالإسلام، وليس باختلاف الدار، والله تعالى أعلم. وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: عندنا إذا هاجرت الحرة بعد دخول زوجها بها وقعت الفرقة على انقضاء عدتها، يعني: تمهل حتى تنقضي العدة لاستبراء الرحم، وهذا قول الأوزاعي والليث ومالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: تقع الفرقة باختلاف الدارين كما ذكرنا. قوله: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)) قال الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وإنما قيل ذلك للمؤمنين لأن العهد كان جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش في صلح الحديبية أن يرد المسلمون إلى المشركين من جاءهم مسلماً، فأبطل الله سبحانه وتعالى ذلك الشرط في حق النساء إذا جئن مؤمنات مهاجرات فامتُحن فوجدهن المسلمون مؤمنات، وصح ذلك عندهم بما ذكرنا، وأمروا ألا يردوهن إلى المشركين إذا علموا أنهن مؤمنات. وقال بعض العلماء: إن النساء لم يدخلن أصلاً في عقد الحديبية، فالمشهور في الروايات: لا يأتيكم رجل منا، والأرجح -والله تعالى أعلم- أنه عام في الجميع، إلا أن هذا العموم خصه الله سبحانه وتعالى في حق النساء، فقد قالت طائفة من العلماء: إنه لم يشترط ردهن في العقد لفظاً، أي: لم ينص على حالة النساء، وإنما أطلق العقد في رد من أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهن من هذا العموم، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم؛ لأن حكم الشرع أن المرأة المسلمة لا يحل لها أن تكون تحت كافر، لذلك لا يصح أن ترجع إلى زوجها الكافر. الأمر الثاني: أن النساء أرق قلوباً، وأسرع تقلباً من الرجال، فيسهل أن يفتنها المشرك عن دينها. فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليه، فلو أن امرأة أتت المدينة تلتجئ إليها لأي سبب من الأسباب، ولم تزل باقية على شركها؛ فهذه ترد إلى مكة. قوله: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ))؛ لأن المرأة مؤمنة ومسلمة، وزوجها مشرك فتنقطع العصمة بينهما؛ ولأن الكافر ليس كفؤاً للمسلمة. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وكان هو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، فأثارت عواطف النبي عليه السلام، وذكرته بـ خديجة وأبكته. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد الوفاء لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، وكان يكرم من يأتي من النساء ممن كان بينهم وبين خديجة مودة، ويقول وقد سمع صوت بعضهن: (قد كانت تغشانا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)، فهذا من وفائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها. فلما رأى قلادتها تبذلها زينب في فكاك زوجها الأسير في بدر رق لها رقة شديدة، وقال للمسلمين: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا، ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه)؛ فوفى بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقاً، ومنهم من يقول: بعد سنتين وهو الصحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين.

سبب امتحان النساء المهاجرات دون الرجال المهاجرين

سبب امتحان النساء المهاجرات دون الرجال المهاجرين وهنا يرد سؤال وهو: أن الله سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)) فقيل: كان امتحانهن بأن يأمرها النبي عليه السلام أن تحلف بأنها ما خرجت كرهاً لزوج، أو فراراً لسبب آخر، وقيل: كان امتحانهن بالبيعة الآتية في قوله {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] إلى آخر الآية في آخر السورة. ومفهوم هذه الآية الكريمة أن الرجال المهاجرين لا يمتحنون، وأن هذا الامتحان خاص بالنساء فقط، فلم تخصيص النساء بالامتحان؟ يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: وفعلاً لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمتحن من هاجر إليه من الرجال، والسبب في امتحانهن دون الرجال هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى: ((فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)) فكأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال، فالرجل يقبل منه إذا أتى مهاجراً، وأما المرأة فلا يقبل منها، إلا بشرط أن تمتحن هذا الامتحان. وأما الرجال فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجراً فإنه يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة، وهو يعرف جيداً ما الذي تعنيه الهجرة من التضحية بماله، ومفارقة أهله ووطنه، ثم الانتقال إلى المدينة حيث يجب عليه أن يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ينصره، فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان، ومستعد لأن يتحمل تبعات هذه الهجرة، لذلك لم يحتج إلى امتحان. ولا يرد على ذلك حديث مهاجر أم قيس؛ لأنه أمر جانبي، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنها في أول السورة في قوله تعالى: {إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} [الممتحنة:1]، وهذا بخلاف النساء، فليس عليهن جهاد، ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعة، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره فإنه قد يجعلهن يخرجن باسم الهجرة، والأمر على خلاف ذلك، بل هي هاربة من زوجها لسوء العشرة مثلاً، أو أرادت أن تكيده، كما كان النسوة يهددن أزواجهن أحياناً في مكة، وتقول إحداهن لزوجها: والله لألحقن بمحمد عليه الصلاة والسلام، وليس ذلك إيماناً بالله وبرسوله، فكان ذلك الأمر موجباً للتوثق من هجرتهن، وذلك بامتحانهن؛ ليعلم إيمانهن. ويرجح هذا المعنى قولُه تعالى: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ))، وفي حق الرجال قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]. ومن جانب آخر: فإن هجرة المؤمنات يتعلق بها حق لطرف آخر وهو زوجها المشرك، فإن هذه الهجرة يترتب عليها أن ينفسخ نكاحها منه، وأن تنقطع العصمة بينهما مباشرة، وأن يعوض هو عما أنفق عليها، وهذه الأمور: من إسقاط حقه في النكاح، وإيجاب حقه في العوض، قضايا حقوقية تتطلب إثباتاً، وذلك يكون بالامتحان، بخلاف هجرة الرجال.

كيفية امتحان النساء المهاجرات

كيفية امتحان النساء المهاجرات إن الامتحان للنساء إما أن يكون بالبيعة المذكورة في آخر السورة، وإما بأن يأتين بالشهادتين، وإما بأن يحلفن ما خرجن سخطةً لزوج أو غير ذلك من الأسباب، ويقبل هذا الظاهر كما بينا. وهذه الآية كانت عمدة فرقة الخوارج الجدد وزعيمها شكري مصطفى، فقد كانوا يوجبون ما أسموه: التوقف والتبين، بمعنى أنه لا يكتفى بظهور الإسلام حتى يمتحن هذا الذي يدعي الإسلام امتحاناً معيناً، فإذا تبين لنا إيمانه حكمنا عليه بالإيمان! وهذا استدلال في غير موضعه؛ لأن الامتحان كانت كيفيته ما قام به الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا دليل على تعميمه في الأمة كلها بعد ذلك. ثانياً: أن هذا الامتحان كان بالصور التي ذكرناها، وأما هم فالامتحان عندهم كان عبارة عن عرض قضايا المنهج، فتجلس المرأة من خلف ستار، ويقوم بتلاوة الأدلة عليها بزعمهم، وتتلى عليها قضايا منهجية طويلة وعريضة، ثم بعد ذلك إن قبلتْ ذلك فهي مسلمة وإلا فإنها بعد إقامة الحجة عليها تصير كافرة. وقد كانت من وراء ذلك فتن كثيرة جداً، ونرجو -إن شاء الله تعالى- فيما بعد حينما نعود لدراسة قضايا الكفر والإيمان أن نفصّل في هذا الموضوع، أعني موضوع التوقف والتبين، وما ذكرنا هنا إشارة عابرة على أن الامتحان هنا ليس كالامتحان الذي زعموه.

تخصيص السنة بالقرآن

تخصيص السنة بالقرآن قوله: ((إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ)) قال كثير من المفسرين: إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية، وقد كان في هذه المعاهدة: من جاء من الكفار مسلماً إلى المشركين ردوه على المشركين، ومن جاء من المسلمين كافراً لم يردوه على المسلمين، فأخرجت هذه الآية النساء من المعاهدة وأبقت الرجال، وذلك من باب تخصيص العموم، وهذا تخصيص للسنة بالقرآن، وتخصيص القرآن بالسنة معلوم، وقد قال في مراقي السعود: وخص بالكتاب والحديث به أو بالحديث مطلقاً أن تنتبه ومن أمثلة تخصيص السنة بالقرآن الكريم: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أبين من حي فهو ميتة)، فلو جاء رجل إلى كبش مثلاً وقطع ذيله لأجل ما فيه شحم، فهل يجوز أكله؟ A لا يجوز أكله؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أبين من حي فهو ميت) أي: ما فصل من حي فهو ميت، ولذلك فإنّ الإنسان الذي بترت ذراعه أو ساقه فإنها تعامل معاملة الميت؛ فتكفن، وتدفن إلى آخره. وهذا العموم في قول النبي عليه الصلاة والسلام جاء تخصيصه بقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأشْعَارِهَا} [النحل:80] يعني: ليس محرماً، فهذا تخصيص، فالقرآن الكريم يخصص عموم السنة. ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3]، فجاء تخصيص هذا العموم في هذا الحديث -إن صح-: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالجراد والحوت). وقال القرطبي: (جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب -يعني: صلح الحديبية- والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعدُ، فأقبل زوجها -وكان كافراً- فقال: يا محمد! اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله هذه الآية). وقال بعض المفسرين: إنها ليست مخصصة للمعاهدة؛ لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء، وإنما كانت في حق الرجال فقط. وذكر القرطبي وابن كثير (أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت فارّةً من زوجها عمرو بن العاص، ومعها أخواها: عمارة والوليد، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها، فقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: ردها علينا بالشرط، فقال صلى الله عليه وسلم: كان الشرط في الرجال لا في النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية)، فالظاهر أن الآية مخصصة لمعاهدة الهدنة، أي: أنّ القرآن مخصص للسنة، وهذا من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن. ومما يدل على أنها مخصصة أمران مذكوران في الآية: الأول منهما: أنها أحدثت حكماً جديداً في حقهن، وهو عدم الحِلِّيَّة بينهن وبين أزواجهن، فلا محل لإرجاعهن، ولا يمكن تنفيذ معاهدة الهدنة مع هذا الحكم، فخرجن منها، وبقي الرجال. والثاني منهما: أنها جعلت للأزواج حق المعاوضة على ما أنفقوا عليهن، ولو لم يكنَّ داخلات أولاً لما كان طلب المعاوضة ملزماً، ولكنه صار ملزماً، وموجب إلزامه أنهم كانوا يملكون منعهن من الخروج بمقتضى المعاهدة المذكورة، فإذا خرجن بغير إذن الأزواج كُنّ كمن نقض العهد، فلزمهن العوض المذكور، والله تعالى أعلم.

معنى قوله تعالى: (وآتوهم ما أنفقوا)

معنى قوله تعالى: (وآتوهم ما أنفقوا) يقول تعالى: ((وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا)) أي: أعطوا المشركين الذين جاءت نساؤهم مؤمنات إذا علمتموهن مؤمنات فلم ترجعوهن إليهم، أعطوهم ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق. قال مقاتل في قوله تعالى: ((وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا)) هذا إذا تزوجها مسلم، يعني: لا ندفع لزوجها المشرك الصداق الذي بذله إلا إذا تزوجها مسلم، فإن لم يتزوجها أحد فليس لزوجها الكافر شيء. وقال القرطبي: وذلك من الوفاء بالعهد؛ لأنه لما منع من أهله بحرمة الإسلام أمر الله عز وجل برد المال إليه؛ حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين، أي: خسارة الزوجة، وخسارة الصداق الذي بذله. وهذا من عدل الإسلام حتى مع الكفار. وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد إليهم الصداق.

معنى قوله تعالى: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن)

معنى قوله تعالى: (ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) يقول الله تبارك وتعالى: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)). (أجورهن) هنا بمعنى: صداقهن، فهذا المنطوق، ويدل بمفهومه على أن النكاح بدون الأجور فيه جناح، أي أن من نكح بدون صداق، أو أسقط المهر، فعليه جناح وإثم في ذلك، أي: فلابد في الزواج من مهر. فالمهم في عقد الزواج ألا يتم الاتفاق فيه على إسقاط المهر، فذلك خطأ كبير فادح، لكن لو لم يتحدث عن المهر أصلاً، وحصل الزواج، ثم حصل طلاق، أو وفاة للزوج، أو طالبت المرأة بحقها في الطلاق، فإنها تعطى صداق المثل، ولذلك إشارة في قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]. والمهر قد يكون مسمى أو غير مسمى، والمسمى قد يكون مقدماً كله أو مؤخراً كله، أو بعضه مقدماً وبعضه مؤخراً، وذلك حسب تفاوت الأحوال، فأهم شيء ألا يكون هناك اتفاق على إسقاط المهر. ويؤخذ وجوب الصداق أيضاً من قوله تبارك وتعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فهذه المرأة وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، وَهِبَةُ المرأة نفسها بدون صداق حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، ولا يحل لغيره على أي حال. وقوله: ((إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)) ظاهر في أن النكاح لا يصح إلا بإتيان الأجور، وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق؛ وذلك في قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]. وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة: أنه إن دخل بها فلها صداق المثل، يعني: إذا تزوجها ولم يحدد لها مهراً فالزواج صحيح، لكن المهم ألا يكون هناك اتفاق على إسقاط المهر، ويجوز تأخير الكلام في المهر لسبب أو لآخر، ففي هذه الحالة تسمى هذه المرأة بالمفوضة، قال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:236]. ويدل على إطلاق الأجور على الصداق آيات عدة في القرآن الكريم، فإن الصداق من أسمائه الأجر، وهذه الملاحظة مهمة جداً حتى نحذر من تلبيس الشيعة الرافضة في تحليلهم نكاح المتعة، واستدلالهم بلفظ: (الأجر) فنقول: قد أُطلق الأجر في القرآن مراداً به الصداق، مثل قول الله تبارك وتعالى في نكاح الإماء لمن لم يستطع طولاً للحرائر: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] إلى أن قال تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:25] يعني: مهورهن. وفي نكاح أهل الكتاب قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة:5] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب:50] فبهذا كله يرد على من استدل بلفظ الأجور على نكاح المتعة. ثم قال الله عز وجل: ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ)) يعني: أن تنكحوا هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب مفارقات لأزاجهن، وإن كان لهن أزواج ((إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)) أي: مهورهن. قال ابن زيد: لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن.

معنى قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)

معنى قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) قوله: ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)). أشار إلى أنه كما بطل نكاح المؤمنة عن الكافر بطل نكاح الكافرة عن المسلم، فكما أن المؤمنة لا تتزوج كافراً بحال من الأحوال، كذلك أيضاً يبطل نكاح المسلم الكافرة، فقال عز وجل: ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)) قرئت: (ولا تُمسِّكوا بعصم الكوافر) وقرئت أيضاً: (ولا تَمَسَّكوا بعصم الكوافر) يعني: بعقودهن التي يتمسك بها في الاستحلال. يقول ابن جرير: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأستارهن، والكوافر: جمع كافرة، وهي تشمل كل من يطلق عليها لفظ الكافرة بما في ذلك الكتابية من اليهود والنصارى، والعصم: جمع عصمة، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب، وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن الإقدام على نكاح المشركات من أهل الأوثان، وأمر لهم بفراقهن. ثم روى ابن جرير عن مجاهد قال: أُمر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بطلاق نساء كوافر بمكة قعدن مع الكفار. وليست هذه الآية على عمومها ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ))، فقد خص من الكوافر حرائر أهل الكتاب، والمخصص هو قول الله تعالى في سورة المائدة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة:5]. وعن الزهري قال: لما نزلت هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) إلى قوله: ((وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ)) كان ممن طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، طلق امرأتين كانتا له بمكة: ابنة أبي أمية، وابنة جرول، وطلحة بن عبيد الله، طلق زوجته أروى بنت ربيعة، ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر. وكان ممن فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ممن لم يكن بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فحبسها وزوجها رجلاً من المسلمين: أذينة بنت بشر الأنصارية، كانت عند ثابت بن الدحداحة، ففرت منه -وهو يومئذ كافر- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف أحد بني عمرو بن عوف، فولدت عبد الله بن سهل.

جواز استمتاع المسلم بالمشركة بملك اليمين

جواز استمتاع المسلم بالمشركة بملك اليمين وننبه هنا على أمر: وهو أن مفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين، فإذا قلنا: إنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تتزوج مسلمة بكافر، فكذلك المسلم لا يحل له أن يتزوج بكافرة مشركة وثنية بأي حال من الأحوال، لكن هل هذه العصمة تمنع الإمساك بملك اليمين؟ A لا تمنع الإمساك بملك اليمين، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين على أساس أنها سرّيّة، أي: أمة وليست زوجة حرة، فمفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين، وعليه تكون حرمة المسلمة على الكافر مطلقاً، لقوله تعالى: ((لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ)) أي: الآن، ((وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)) يعني: في المستقبل.

الحكمة من حل نكاح المسلم الكتابية وحرمة المسلمة على الكتابي

الحكمة من حلّ نكاح المسلم الكتابية وحرمة المسلمة على الكتابي يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: إذا كان الكفر هو سبب فك عصمة الكافرة من المسلم، وتحريم المسلمة على الكافر، فلماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب؟ والجواب من جانبين: الأول: أن الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه، والقوامة في الزواج تكون من جانب الرجولة قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فالقوامة واليد العليا في الزواج تكون للرجل وإن تعادلا في الحلِّيَّة بالعقد؛ لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين، فإذا امتلك رجل امرأة حلَّ له أن يستمتع بها بملك اليمين، وأما المرأة إذا امتلكت عبداً فلا يحل لها أن تستمع به بملك اليمين. وكذلك باعتبار قوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر، فإنه لا يَسْلم لها دينها، فلو تزوجت مسلمة بكافر فإنه لا يصحح دينها، ولا دين أولادها، بل سيفسد عليها دينها هي وأولادها؛ لأن الرجل هو صاحب القوامة. الجانب الثاني: شمول الإسلام وقصور غيره من الأديان، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة؛ وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية فهو يؤمن بكتابها وبرسولها، فيكون معها على مبدأ من يحترم دينها؛ لإيمانه بدينها في الجملة. وهذا التعبير حساس قليلاً أعني جملة: (يحترم دينها) وذلك أننا معشر المسلمين نؤمن بجميع الأديان وجميع الرسل، فنؤمن بموسى وعيسى ومحمد، وأما الكافر فحتى لو زعم أنه مؤمن بموسى أو بعيسى فهو لا يؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يتصور أن مسلماً إذا تزوج كتابية يسب عيسى، أو يسب موسى، أو أحداً من الأنبياء، بحجة أن هذا نبي اليهود أو النصارى، فموسى نبي الإسلام، وعيسى نبي الإسلام وموسى وعيسى عليهما السلام يعاديان هؤلاء الذين حرفوا دين الإسلام الذي بعثا به، فكفروا بسبب ذلك، بدليل أن المسيح سوف يقاتل اليهود، وأن المسيح نفسه إذا نزل في آخر الزمان فإنه سيحكم بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما الإسلام وإما القتل، ولذلك قال تعالى على أحد وجهي التفسير: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} [النساء:159] أي: بالمسيح {قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] قبل موت المسيح عليه السلام حينما ينزل إلى الأرض. فالشاهد أن المسلم لا يتصور منه أن يؤذيها في موسى، أو في عيسى، وأما الكافر إذا تزوج مسلمة فإنه سوف يؤذيها في نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلا تعلم أمة هي أشد تعظيماً للأنبياء، وأشد حفظاً لحرمتهم من المسلمين، فهؤلاء اليهود والنصارى في هذه المسألة يشتركون في الهوى، فإن النصارى يؤمنون بالتوراة وبالإنجيل، واليهود يؤمنون بالتوراة، فالتوراة التي هي فاصل مشترك بينهم اشتملت على نصوص كثيرة فيها سب مُقذع للأنبياء، فسليمان عليه السلام ليس بنبي عندهم؛ بل هو مَلِك، وأما عندنا فسليمان نبي معصوم. وعندهم أن سليمان عليه السلام عبد الأصنام قبل موته، وأنّ داود عليه السلام فعل كذا وكذا من الفواحش، وشرب الخمر والعياذ بالله، وأن لوطاً عليه السلام فعل كذا، فتجدهم ينسبون كثيراً من الفواحش التي يتأذى أفسق الفساق أن تنسب إلى الأنبياء عليهم السلام، فهم لا يعرفون حرمة الأنبياء، لذلك فنحن أولى بالأنبياء منهم، فبالتالي لا يتصور أن مسلماً يسب موسى أو عيسى عليهما السلام، ومن فعل ذلك فإنه يخرج من ملة الإسلام. وأما ما حصل في الحوادث الأخيرة من أنّ بعض الإخوة الفلسطينيين هدموا ضريح يوسف عليه السلام، فأخبرتُ أنّ بعض الناس حاول إقناعهم بأننا نقدس ضريح يوسف عليه السلام، فأقول: نحن لا نقدس الأضرحة، ثمّ من ذا الذي قال: إن هذا الضريح ليوسف عليه السلام؟! فإنه عاش في مصر، وطلب أهله فجاءوا إلى مصر، ومات ودفن في مصر، أما أن يظن أن هذا هو ضريح يوسف عليه السلام فهذا غير صحيح، فإنه لا يقطع بضريح نبي من الأنبياء غير نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وما عدا ذلك فإنه لا يعلم على وجه التحديد. فالشاهد: أنّ هذا الجدال ليس في محله؛ لأن يوسف عليه السلام عاش في مصر، ومات فيها، ودفن فيها. وكذلك أيضاً فإن المرأة الكتابية إذا كانت تحت المسلم الموحد فإنه قد يكون هناك مجال للتفاهم والتواد بينهما، فلعل ذلك يكون سبباً في دخولها في الإسلام، وقد وقع هذا كثيراً، فالأخ المسلم بحسن خلقه، واجتهاده في طاعة الله سبحانه وتعالى، وحسن أسلوبه، يجل الزوجة تنقاد إلى الدخول في الإسلام، ونتذكر هنا حادثة ثمامة بن أثال حينما أسر، وربطه النبي عليه الصلاة السلام في سارية من سواري المسجد، وجاء في القصة: (أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام في أول يوم أتاه فقال له: كيف تجدك يا ثمامة؟! قال: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تعف تعف عن كريم، وفي اليوم الثاني هدأت اللهجة، فسأله النبي عليه الصلاة السلام، فقال له: إن تعف تعف عن كريم، وإن تقتل تقتل ذا دم)، ففي المرة الأولى بدأ بالقتل وفي الثانية بالعفو، وفي اليوم الثالث أطلق النبي عليه الصلاة والسلام سراحه، فذهب ثمامة فاغتسل، ثم أتى وشهد الشهادتين. وهذه حكمة تربوية رائعة جداً، وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحبس هذا الأسير في منزل، أو في حجرة، وإنما ربطه في سارية من سواري المسجد؛ حتى يراقب المسلمين، ويرى أخلاقهم، ويسمع كلامهم في التوحيد وغيره، ويرى آيات النبوة، ويرى حسن خلق المسلمين، ويرى نموذجاً حياً للمجتمع المسلم، فالمسجد في ذلك الوقت كان هو المركز للواقع الحياتي بالنسبة للمسلمين، فيرى صورة الإسلام مرسومة على الواقع، فأسلم بسبب أنه رأى هذا النموذج المبشر بالخير. وعلى الجهة الأخرى -للأسف الشديد- فإن الزوج إذا كان غير ملتزم فإنه ينفرها من الدين، بل وجدت حالات أن المرأة أسلمت، ثم هي تشكو من زوجها الذي يضربها، ولا يصلي الفجر، وغير ذلك من الشكاوى. فالشاهد من الكلام: أن المرأة المسلمة إذا كانت تحت كافر فلن يرقب فيها إلاً ولا ذمة، وربما آذاها في نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وفي القرآن، وفي الإسلام، وخاصة أن المستشرقين والكفار قد أوصلوا كثيراً من الشبهات التي يرددونها إلى كثير من الناس، فربما يرددها كثير من الناس على حد قول الكافر: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته). وكذلك الذرية سوف تتأثر بالأب، وبالتالي يكونون مشركين، فالمرأة نفسها يمكن أن تفتن في دينها، وإذا فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام. وأيضاً فنكاح الكتابيات لا ينبغي التساهل فيه في هذا الزمان؛ لأن القوامة الآن لا تكون كما يريد الزوج المسلم، ففي المجتمع الغربي بجانب تبرج المرأة واسترجالها هناك أمر آخر أخطر من ذلك، وهو أن القوانين التي تعلو الناس هناك تعطي المرأة حقوقاً مبالغاً فيها، بحيث إن الرجل لابد أن يخضع -شاء أم أبى- لكثير من قوانينهم التي ربما يترتب عليها أنها تستأثر بالأولاد، فتسميهم بأسماء النصارى، فيكونون من الذرية الكفار، والحوادث في ذلك كثيرة. فعلى أي الأحوال: فإن الكتابي إذا تزوج امرأة مسلمة فهو لا يؤمن بدينها، ولا يحترم دينها، ولا يوجد مجال للتفاهم معه في أمر هو لا يؤمن به بالكلية، فلا جدوى من هذا الزواج؛ لذلك مُنع منه ابتداء، لكن لا توجد هذه المشاكل فيما يتعلق بزواج الكتابيات، مع أن كثيراً ما يطلق عليهن الآن وصف كتابيات وهن في الحقيقة لم يعدن كتابيات، فالكتابية هي التي تؤمن بعيسى أو بموسى، أو بدينهما حتى مع تحريفهم له، وأما الآن فمعظمهن وثنيات لا دين لهن، وهذا حكم عام سواء في الزواج أو في الذبائح؛ لأنهن في الغالب لم يعدن أهل كتاب: لا نصارى ولا يهود ولا غير ذلك، فهذا أمر ينبغي الانتباه له، وسبق أن وضحناه بالتفصيل في محاضرة: (حكم نكاح الكتابيات). وقد تكلم أحد العلماء أيضاً في الحكمة من إباحة زواج المسلم بالكتابية، وحرمة زواج المسلمة بالكتابي، فيقول: إن المسلمين يؤمنون بجميع الأنبياء الذين منهم موسى وعيسى، ويؤمنون بكتب الله المنزلة كلها، لكن الكتابيين -وهم اليهود والنصارى- لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا بكتابه، ويوجهون إلى شخصه الكريم وكتابه العظيم جملة من المطاعن التي تنبئ عن داء دفين، وحقد كمين، والمنصفون منهم يعترفون بعظمته، ولا يؤمنون بنبوته، فمن ثَم جاز لنا أن ننكح نساءهم، ولم يجز لهم أن يتزوجوا نساءنا، فهذه حكمة. وحكمة ثانية: وهي أن الإسلام دين التسامح، فلا يجيز إكراه أي شخص على اعتناقه، وهو يعتمد في نشر دعوته على الإقناع بالحجة والبرهان، قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يكرهها على مفارقة دينها، بل يدعها حرة في عقيدتها، ولا يحل له شرعاً أن يكرهها على الدخول في الإسلام. وليس معنى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أننا لا نبين الحق، ولا ندعوها إلى سماحة الإسلام، ونقدم لها الحق، وكذلك ليس معناها أن نمتنع نحن عن إبطال العقائد الشركية، والأديان المحرفة، وإقامة الأدلة على صدق النبوة والتوحيد وغيرها! فإن هذا ليس من الإكراه، فأنت تعطي اليهود بضاعتك. فحين يتزوج المسلم بكتابية فإنه لا يفكر في إكراهها على مفارقة دينها، وأما الكتابي إذا تزوج بمسلمة فإنه يحاول إخراجها من دينها بمختلف الوسائل ولو بالتهديد، يقول: والشواهد على ذلك كثيرة أقربها: أن نضلة أم الملك فاروق تزوجها طبيب أمريكي، فأخرجها عن دينها فهي الآن نصرانية -وهذا الكتاب مطبوع سنة (1968م) - وبنتها فتحية تزوجها قبطي مصري بدعوى أنه أسلم، ثم تبين عدم إسلامه، فحملها على أن تنصرت معه، وأخذ مالها وفارقها، وقد تزوج فرنسيون بمسلمات جزائريات أيام استعمارهم للجزائر، فأخرجوهن عن دينهن بترغيب مشوب بترهيب

حرمة أذية الأنبياء

حرمة أذية الأنبياء إن الكلام عن شيء يؤذي الرسول عليه السلام لا يجوز، مثل كثرة الجدال، فبعض الناس يروق لهم أحياناً فتح بعض الموضوعات، وكثرة الجدل والسؤال فيها، ونحن لا نقول فيها بخلاف الحق، لكن يكفي فيها التنبيه، مثل كثرة الكلام في مصير أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهما في النار، فهذه المسألة دليلها واضح، ولا تحتاج إلى كلام كثير، فقد كره بعض العلماء ذلك؛ لما فيه من إيذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا نقول كما تقول الصوفية: إن الله قد أحيا له والديه فآمنا ثم ماتا، فهذه من خرافاتهم، ولكن نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل أين أبي؟ (قال: إن أبي وأباك في النار)، وقوله: (استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته بأن أزورها فأذن لي أن أزورها) يعني: أمه عليه الصلاة والسلام، فالإنسان يكفيه هذا ولا يكثر الكلام؛ مراعاة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] فهذا من مظاهر أذية اليهود -لعنهم الله- للأنبياء حتى وصل بهم الأمر إلى حد القتل، فقد قتلوا بعض الأنبياء، وهنا آذوا موسى عليه السلام الذي يتشدقون بأنه نبيهم، وأنهم يعظمونه ويحبونه، فقد آذوه مراراً، وقاسى منهم الأمرين عليه السلام كما حكى الله عنه مخاطباً قومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:5]، فالشر كامن في بني إسرائيل فهم كالذيب، ومن التعذيب تهذيب الذيب، فلو أردت أن تهذب الذيب أو أن تعدل أخلاقه فإنه لا يتعدل ولا يقبل التعديل، وهذا مما يستفاد من قصص القرآن الكريم في شأن اليهود -لعنهم الله- فإن أخلاقهم واحدة في كل جيل، ففيهم نفس اللؤم والغدر، ونقض العهد، والكفر، والمكر، وكراهية الخير للناس، والحسد، فكل هذه الصفات لاصقة فيهم، وغير قابلة للمحو والتغيير من طباعهم.

تفسير قوله تعالى: (واسألوا ما أنفقتم)

تفسير قوله تعالى: (واسألوا ما أنفقتم) قوله تبارك وتعالى: ((وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ)). أي: إذا ذهبت أزواجكم فلحقن بالمشركين فاطلبوا ما أنفقتم عليهن من الصداق ممن تزوجهن منهم، فلو أن رجلاً مسلماً لحقت امرأته بالمشركين كافرة، وتزوجها أحد المشركين، فإنه يطالب من تزوجها بما أنفق من الصداق. ((ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) أي: هذا الحكم الذي حكم به بين المؤمنين والمشركين في هذا الأمر، فهذا حكم الله الحق الذي لا يعدل عنه.

تفسير قوله تعالى: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار)

تفسير قوله تعالى: (وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار) يقول تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة:11]. ((وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ)) أي: وإن ارتدت منكم امرأة فلحقت بالكفار فلم يردوا مهرها: ((فَعَاقَبْتُمْ)) وفيها قراءة أخرى: (فعقبتم)، وقراءة ثالثة: (فعقّبْتم)، وكلاهما بدون ألف ومعناهما: وكانت العقبى لكم بأن غلبتم وانتصرتم عليهم، وبالتالي أخذتم الغنائم. ((فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ)) أي: من الغنيمة التي أخذتموها في هذا القتال، وذلك من رأس الغنيمة قبل التوزيع، فالمراد: أخرجوا الصداق المستحق لزوج تلك المرأة التي فرت إلى المشركين. ((فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ)) يعني: من المسلمين: ((مِثْلَ مَا أَنفَقُوا)) في مهورهن. قال مجاهد: مهر مثلها يدفع إلى زوجها. وقال قتادة: كن إذا فررن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفار -أي: ليس بينهم وبين نبي الله عهد-، فأصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة أعطي زوجها ما ساق إليها من جميع الغنيمة، ثم يقتسمون غنيمتهم. وقوله: ليس بينه وبين نبي الله عهد، إنما اشترط هذا الشرط؛ لأنه لو كان هناك عهد لم تحصل حرب. ((وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)) يعني: فإن الإيمان به يقتضي أداء أوامره، واجتناب نواهيه تبارك وتعالى.

الممتحنة [12 - 13]

تفسير سورة الممتحنة [12 - 13]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12]. قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} قال ابن كثير: يعني: لا يسرقن أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج معسراً في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان من غير علمه؛ عملاً بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل علي جناح إن أخذت من ماله بغير عمله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلي من ماله ما يكفيك ويكفي بنيك بالمعروف). وهذا الحديث متفق عليه. وقد قيد الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال: وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب، ولا يضبط عليه بقفل، فإنه إذا هتكته الزوجة، وأخذت منه كانت سارقة تعصي به، وتقطع يدها. إذاً: يحل للمرأة إذا كان زوجها شحيحاً يمسك عليها في النفقة، ولا يعطيها ما يكفيها هي وأولادها، وله مال آخر في درج مفتوح، أن تأخذ ما يكفيها بالمعروف، ولا تزيد على حاجة ما جرت به عادة أمثالها، لكن إذا كان له مال ووضعه في خزانة، وأقفل عليه، أو وضعه في حرز، فإنها إذا أخذت منه في هذه الحالة فهي سارقة؛ لأنها أخذته من الحرز.

حكم إجهاض الجنين

حكم إجهاض الجنين قوله: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} قال الزمخشري: يريد وأد البنات. قال ابن كثير: هذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، فإنها تطرح نفسها لئلا تحبل، إما لغرض فاسد أو ما أشبهه. وهذه المسألة يحصل فيها تساهل؛ لأن الأمور قد اختلطت، وتأثر المسلمون كثيراً بمناهج الكفار الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يخشون يوم الحساب، خاصة في قضية الإجهاض، فهنا ابن كثير يقول: إن قوله تعالى: ((وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ)) عام يشمل قتل الطفل بعد وجوده، وهذه الحالة وجدت في أهل الجاهلية، فقد كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر والإملاق، ويشمل قتله وهو جنين، وذلك يكون بعد مضي مائة وعشرين يوماً رحمياً، ويبدأ حساب ذلك من التلقيح. فلو مرت مائة وعشرون يوماً ويوم، ونفخت فيه الروح، فهذا إنسان محترم، وحياته محترمة لا يجوز التعدي عليها، وبعض الناس -لسبب أو لآخر- يتأولون تأويلات غريبة، وذلك كأن يأتي مثلاً بعض الأطباء ممن لا فقه عندهم فيقول: هذا جنين مشوه، ويكون قد نفخت فيه الروح وقد كان في الشهر السادس أو السابع مثلاً، فيقتلونه ويجهضونه رحمة به زعموا، فهذه جريمة قتل؛ لأنه ما دام أنه قد نفخت فيه الروح فقد انتقل من الحياة النباتية إلى الحياة الحيوانية بنفخ الروح، فهذا إنسان له حرمة، والإسلام يأمرنا مع الضعيف أن نرحمه لا أن نقتله، فمثلاً لو كان هناك شخص عنده عاهة من عمى، أو أي عاهة أخرى، فهل تقتله من أجل أن تخفف عنه؟! كذلك نفس الشيء إذا حصل تشوه ولم يكتشف، أو لم يقطع بدون تشويه إلا بعد مضي مدة تزيد على مائة وعشرين يوماً فلا يجوز الإجهاض قولاً واحداً، حتى ولو كان مشوهاً؛ لأن المشوه قد يمكن علاجه. فالطب الآن -بفضل الله سبحانه وتعالى- قد تطور وتقدم، وهناك حالات كثيرة يتم علاجها، أو التخفيف من آثارها، حتى ولو افترضنا أن الطفل سيخلق -والله تعالى أعلم- متخلفاً عقلياً مثلاً فلا يجوز قتله، فهل كل من عنده تخلف عقلي يقتل؟! وما الفارق بينهما: فهذا حي داخل الرحم، وهذا حي في الخارج؟ لا فرق بينهما في الإسلام، فهذا الجنين له حرمة لا يجوز الاعتداء عليها، وقاتله مجرم آثم قاتل للنفس التي حرم الله عز وجل، فلينتبه إلى هذا. أما ما قبل مائة وعشرين، أو قبل الأربعين، فهذه قضية أخرى تخرجنا عن موضوعنا. قوله: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قال ابن عباس: أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. أي أن المرأة تلتقط لقيطاً وتقول للرجل: هذا ابني منك، أو تفحش وتنجب ولداً، فتنسبه لفراش زوجها، فهذا أيضاً مما ينهى عنه. فللمفسرين في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: لا يُلحقن بأزواجهن غير أولادهم. القول الثاني: إنه السحر. القول الثالث: المشي بالنميمة، والسعي بالفساد. ولعل هذه البيعة التي أُخذت على النساء كانت تؤخذ على الرجال كما في بعض الروايات. وقال ابن عباس: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)) أي: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وأوضحه الزمخشري بقوله: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وموضع الولادة بين الرجلين. وهذا الأمر في هذه الآية مخالف للزنا. وقال الشهاب في شرح البخاري: لا تأتوا ببهتان من قبل أنفسكم، واليد والرجل كناية عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، مع أنه ما فعله بيديه، ولكنه قاله بلسانه، فيعبر عن أفعال الإنسان باليدين؛ باعتبار أن معظم الأفعال تمارس باليدين، أو بالرجلين أحياناً. أو معناه: ((وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ)) أي: لا تنشئوا البهتان والافتراء من ضمائركم وقلوبكم؛ لأنه من القلب الذي مقره بين الأيدي والأرجل، والأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهم، والثاني كناية عن إنشاء البهتان من دخيلة قلوبهم مبنياً على الغش الباطني. وقال الخطابي: معناه لا تبهتوا الناس كفاحاً ومواجهة، كما يقال للآمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورُدَّ: بأنهم وإن كنوا عن الحاضر بكونه بين يديه فلا يقال: بين أرجله، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها، أما مع الأيدي تبعاً فلا، فالمخطئ مخطئ، وهو كناية عن خرق جلباب الحياء والمراد النهي عن القذف ويدخل فيه الكذب والغيبة. قوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} يعني: من أمر الله تأمرهن به، وقد شاع عند بعضهم ممن يريد أن يحارب ويحذر من التقليد الأعمى، واتباع أقوال الرجال وتقديمها على الكتاب والسنة، شاع عندهم الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يطاع إلا في المعروف فكيف بغيره؟! والمفروض التحرز في التعبير وأن يكون فيه شيء من الدقة؛ حتى لا يفهم الكلام خطأً. فهنا قيد عدم المعصية بكونها في معروف، أي: ما دمت تأمرهن بالمعروف فلا يعصينك، فهذا القيد إنما هو للبيان، والمعنى: ولا يعصينك في معروف، وكل ما تأمر به معروف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بالمعروف، ولا يمكن أن يأمر بمعصية، أو منكر معاذ الله وحاشاه عليه الصلاة والسلام، فالقيد هنا للبيان، ولا مفهوم له، فهو مثل قوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112] فهذا ليس له مفهوم، ولو قال: (قال رب احكم) لكفى؛ لأن الله لا يحكم إلا بالحق، ومثله أيضاً قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:112] فهذا لا مفهوم له، فلا يمكن أن يقتل نبي ويكون قتله بحق، فهذا هو أشقى الناس كما قال عليه الصلاة والسلام: (أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي). إذاً: فهذا القيد للبيان، وليس له مفهوم، فكل ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم معروف، وفيه حياة للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، فكل ما يأمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام هو حياة لنا، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه).

معنى المعروف في قوله: (ولا يعصينك في معروف)

معنى المعروف في قوله: (ولا يعصينك في معروف) أما كلام المفسرين في المقصود بالمعروف في هذه الآية: ففي صحيح مسلم عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (كان منه النياحة، فكان يأمرنا ألا ننوح)، وجاء في بعض الروايات في كلام ولا ينحن النياحة، ومنها: لا يدعين ويلاً، ولا يخدشن وجهاً، ولا ينشرن شعراً، ولا يسرقن ثوباً. فهذه من أفعال الجاهلية، فلا يجوز لامرأة مسلمة أن تأتي بشيء من هذه الأفعال. (لا يدعين ويلاً) أي: لا يصرخن، وهذا غالباً مما يحصل من المرأة، لأنها عبارة عن كتلة من العاطفة، فإذا لم تحجزها التقوى ورزانة الإيمان الصادق فإنها تخرج عن طورها وتجزع، خاصة عند المصيبة الكبرى التي هي مصيبة الموت، فنجد بعض النساء قد يتلفظن بألفاظ شنيعة ويأتين بأفعال تتنافى مع الإيمان، فكان مما بايعهن عليه الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً أن لا يدعين ويلاً، أي: لا تقل يا ويلتاه! (ولا يخدشن وجهاً ولا ينشرن شعراً) نشر الشعر أن تفرق شعرها كأمارة على الجزع من قضاء الله سبحانه وتعالى، وفي معنى نقض الشعر ما يفعل بعض الرجال من إطلاق وإعفاء اللحية عند المصيبة، فترى الرجل يحلق لحيته دائماً، فإذا حصل مصاب عنده من موت قريب له أو حبيب فإنه يعبر عن جزعه بأن يعفي لحيته ولكن لفترة مؤقتة، فنقول: هذا حرام؛ لأنه في معنى النهي عن نشر الشعر، وإن كان يجب عليه أن يعفي لحيته في كل أحواله، لكن الأمر هنا فيه موافقة لهذا الفعل الجاهلي، وهو نشر الشعر عند المصيبة، فالمرأة تنشر شعرها تعبيراً عن الجزع، وهذا يترك لحيته تعبيراً عن الجزع، لذلك فهو في معناه. قوله: (ولا يشققن ثوباً): هذه أيضاً من أفعال الجاهلية. وقيل: ((لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)) يعني: كل ما يأمر به النبي عليه الصلاة والسلام من شرائع الإسلام وآدابه. فالمعروف اسم جامع لكل ما عُرف من طاعة الله، والإحسان إلى الناس، وكل ما أمر به الشرع ونهى عنه. وقوله: ((إِذَا جَاءَكَ)): جملة شرطية، و (إذا) أداة شرط غير عاملة مثل: لو، ولولا، و (جاء) فعل الشرط.

كيفية مبايعة الرجال والنساء

كيفية مبايعة الرجال والنساء وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فقال: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، فمن أقر بهذه الشروط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً، ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك). قال ابن حجر: أي: لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، يعني: أن عادة الرجال عموماً عند المبايعة؛ سواء كانت هذه المبايعة مع الأمير، أو في البيع والشراء، أو عند توثيق العقود للناس، أن يضع أحدهم يده في يد الآخر، فهذه أمارة على التوثيق وشدة الاتفاق الذي يحصل بين الناس، كما يحصل من بعض المأذونين أثناء العقد من جعل الولي والزوج يصافح أحدهما الآخر، ويقول لكل واحد منهما: انظر إليه، فهذا لا بأس به، ولا ينبغي أن نتحرج منه؛ لأنه نوع من التوثيق، وأما وضع المنديل فلا أعلم له أصلاً، ولا أعرف السر في وضعه. يقول أحد الإخوان هنا: السر في وضع المنديل أنهم كانوا يضعون المهر قل أو كثر في يدهم فيما بينهم، على أنه المهر المسمى بينهم. وعلى أي الأحوال فلا حرج في ذلك على الإطلاق، بل الأمر بالعكس، فإن هذا مما يزيد التوثيق مع أمارات التأكيد كالنظر إليه، فإذا قلت لك: زوجتك ابنتي، فإنك لا تدري إلى أين تنظر، فربما تنظر إلى الناحية الثانية، أو تكون خجلاً، أو تنظر في الأرض، فيأمر المأذون أن تنظر إلى عينيه، وتضع يدك في يده؛ لأن هذا نوع من توثيق العقود بينهم، وحتى البيعة -وهي من هذه الحالات- تكون بالمصافحة، ولذلك احتاجوا إلى ذكر أن بيعة الرسول عليه السلام للنساء لم تكن بالمصافحة؛ لأن الأصل أن البيعة تكون بالمصافحة. يقول ابن حجر: أي لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة، ثم قال: وروى النسائي والطبري: (أن أميمة بنت رقيقة أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع فقلن: يا رسول الله! ابسط يدك نصافحك، فقال: إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن، فأخذ علينا حتى بلغ: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] فقال: فيما أطقتن واستطعتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا). وفي رواية الطبري: (ما قولي لمائة امرأة إلا كقولي لامرأة واحدة). وقد جاء في أخبار أخرى: (أنهن كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب) وهذا لم يصح. وجاء كذلك في المغازي لـ ابن إسحاق عن أبان بن صالح: (أنه كان يغمس يده في إناء فيغمسن أيديهن فيه)، وهذا أيضاً ضعيف لم يصح، والمعول على رواية البخاري الأولى؛ لصحتها.

الأدلة على منع مصافحة النساء

الأدلة على منع مصافحة النساء وهنا نمر على أدلة هذه المسالة باختصار شديد، وهي مسألة: مصافحة النساء الأجانب، فقد قلنا من قبل: إن المرأة الأجنبية هي كل من عدا المحارم من النساء، والمحارم: أصحاب القرابة الرحمية المحرمية، وهم الذين لا يحل نكاحهم لشدة القرابة، فيكون الرجل منهم محرماً لقريبته في أي سفر كالزوج أو الأب، وكما قلنا من قبل: إن حقيقة المحرم من النساء هي التي يجوز النظر إليها والخلوة بها، والسفر بها، فهي كل من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمته، سواء المحرمات بالنسب، أو المحرمات بالمصاهرة على التفصيل المعروف. وبعض الناس يسأل ويقول: هل يجوز أن أصافح شقيقة زوجتي؟ فهو يتصور أنه ما دام يحرم عليه الجمع بينهما فهي محرم له يجوز مصافحتها!! والضابط في ذلك: أن كل النساء اللاتي هن محرمات عليك تحريماً مؤقتاً لسن محارماً لك، فزوجة الجار مثلاً محرمة عليك، لكنه تحريم مؤقت، بحيث إذا مات عنها أو طلقها يمكن أن تتزوجها، فالأصل في الفروج التحريم، والأصل أن كل النساء حرام عليك. فيختلط الأمر على بعض الناس أحياناً، ويظن أنه يجوز له أن يصافح أخت زوجته؛ لأنه لا يقدر أن يجمع بينهما. ولا يقال للمرأة إنها محْرم إلا أن يحرم الزواج منها على التأبيد كالأم والأخت والبنت وأم الزوجة والعمات والخالات. أما بالنسبة لأدلة ذلك فمنها: حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن أحدكم في رأسه بمخيط من حديد خير له من أن يمس جلد امرأة لا تحل له) يعني: لا يحل له نكاحها، وهذا مجرد مس، ويصدق وصف المس بما كان لغير شهوة، فكيف بما فوقه؟ الدليل الثاني على تحريم مصافحة الأجنبية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه). متفق عليه. يعني: أن من الناس من يكون زناه حقيقياً، ومنهم من يكون زناه مجازياً وذلك بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنا وما يتعلق بتحصيله، أو بالمس باليد، وقوله: (واليد تزني وزناها البطش) لا يلزم أن يكون معنى البطش الضرب، فالمس يدخل فيه، وذلك بأن يمس امرأة أجنبية. وكذلك هذه الأحاديث التي أشرنا إليها من امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء حال المبايعة، تقول عائشة: (فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك، كلاماً، ولا والله! ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك)، فإذا كان هذا في حق المعصوم عليه السلام فكيف في حق غيره؟ ونساء الأمة في حق الرسول عليه الصلاة والسلام محارم، فكيف بمن يخالف في ذلك؟ وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا يملكها) أي: إلا امرأة يملك نكاحها. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء في البيعة). وفي حديث أميمة بنت رقيقة -وأبوها عبد الله بن بجاد، وأمها رقيقة بنت خويلد أخت أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها، قالت: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه على الإسلام، فقلن: يا رسول الله! نبايعك على ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم بنا نبايعك يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة)، وفي بعض الروايات: (لا أمس أيدي النساء). وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، فإذا امتنع عن المصافحة في حال المبايعة التي تقتضي المصافحة فهذا يدل على تحريم ذلك على الأمة بطريق الأولى؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مشرع لهذه الأمة، ولا شك أن أخف أنواع اللمس هو المصافحة، ومع ذلك امتنع منها النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها، وهو وقت المبايعة، فهذا يسقط كلام بعض الناس القائلين: إن هذا حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم! كيف وهو صاحب العصمة الواجبة، فإذا كان يحل له ذلك فلماذا يحرم على غيره!! وقد سدت الشريعة ذرائع الافتتان، وحرمت هذا المس؛ لأنه قد يكون ذريعة إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى؛ لقلة تقوى الله في هذا الزمان، وضياع الأمانة، وعدم التورع والريبة. يقول صاحب مراقي السعود: سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم وبعض الناس يعترضون على ذلك ويقولون: بأن هذه مثل أختك، وهذا مع الصغيرة، وأما مع الكبيرة يقولون: هذه مثل أمك، فيصافح النساء بحجة أن قلبه طاهر، ونيته سليمة. فالجواب عن ذلك: أن الشريعة تمنع الفعل المؤدي إلى الفساد بغض النظر عن نية صاحبه، فهي تنظر إلى مآلات الأفعال، فإذا كان المآل فاسداً كان الفعل المؤدي إليه ممنوعاً، سداً لذريعة الفساد وإن لم يقصد الفاعل الفساد بفعله. فإذا خفي القصد والنية فالراجح عدم اعتبار القول؛ لأن النية أمر غير منضبط، فقولهم عند مصافحة النساء: هذا قلبه سليم! فنقول: وكيف نعرف أن قلبه سليم أو غير سليم؟ فقد يكون قلب أحدهم سليماً، والثاني قلبه مريضاً، وفي هذه الحالة مادام أن هذا الأمر غير منضبط فلابد أن نعتبر المنضبط؛ لأن الشريعة جاءت لكل الناس وليست لطائفة مخصوصة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالباً فإنه يحرمها مطلقاً، وكذلك إن كانت قد تفضي وقد لا تفضي، لكن الطبع يقضي بإفضائها، فيرجح جانب إفضائها إلى التلذذ بذلك، فيحرم على الإنسان، فهذا الكلام المتعلق بهذه المسألة باختصار. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] قالت: كان منه النياحة. أي: مما أخذ عليهن العهد به. ولفظ البخاري عنها قالت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علي: ((أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا))، ونهانا عن النياحة). وأخرج الطبري بسنده إلى امرأة من المبايعات قالت: (كان مما أخذ علينا ألا نعصيه في شيء من المعروف، ولا نخدش وجهاً، ولا ننشر شعراً، ولا نشق جيباً، ولا ندعو ويلاً). وعن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم: (أخذ عليهن يومئذ ألا ينحن، ولا يحدثن الرجال إلا رجلاً منكن محرماً، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله! إن لنا أضيافاً، وإنا نغيب عن نسائنا، فقال: ليس أولئك عنيت). وهذا ليس متصلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وقال ألكيا الهراسي: يؤخذ من قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] أنه لا طاعة لأحد في غير المعروف، قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا بمعروف، وإنما شرطه في الطاعة لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين. وقد ورد ذلك صريحاً في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق). وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال في هذه الآية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيُّه وخيرته من خلقه، ثم لم يستحل له أمر إلا بشرط، فكيف ينبغي لأحد أن يطاع في غير معروف وقد اشترط هذا على نبيه؟! وأعتقد أن الأخبار التي ذكرناها من قبل أضبط، وهي أن هذا القيد للبيان.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم) ثم نبه تعالى في آخر السورة بما نبه به في فاتحتها من النهي عن موالاة محاربي الدين؛ تحذيراً من التهاون في ذلك، وزيادة اعتناء به، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) هذه الآية الأخيرة من السورة، وفيها الخطاب بالإيمان: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) ويدخل في هذه الآية حاطب بن أبي بلتعة قبل غيره؛ لأن الله قال في أول السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] فالخطاب كان لـ حاطب، وقلنا قبل: إن في ذلك إثباتاً لإيمان حاطب رغم ما أتى به حاطب، والمخاطب هنا أيضاً حاطب وغيره. ((لا تَتَوَلَّوْا)) يعني: لا تناصحوهم، فرجع تعالى بقوله وفضله على حاطب، فكما بدأ الآية بالفضل والإكرام لـ حاطب بوصف الإيمان، كذلك ختمها بوصفه بالإيمان. ((قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: سخط عليهم؛ لمعاداتهم الحق، ومحاربتهم الصلاح، ونشرهم للفساد، وهو عام في كل محارب، ومن المفسرين من خصه باليهود؛ لأنه عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، واقتصر عليه الزمخشري فقال: إن المقصود بقوله: ((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) اليهود لعنهم الله. قال الناصر: قد كان الزمخشري ذكر في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} [فاطر:12] إلى قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر:12] إن آخر الآية استطراد، وهو فن من فنون البيان مبوب عليه عند أهله، وآية الممتحنة هذه قد تكون من هذا الفن، فإنه ذم اليهود واستطرد في ذمهم بذم المشركين: ((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)). فذم اليهود أولاً، ثم استطرد من ذمهم إلى ذم المشركين على نوع حسن من النسبة، ولا يمكن أن يوجد للفصحاء في الاستطراد أحسن ولا أمكن منه، ومما صدروا به هذا الفن، قوله: إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه فليس به بأس وإن كان ذو الجرم وقول حسان: إن كنت كاذبة الذي حدثتني فنجوت من ذا الحارث بن هشام وقوله: ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ونجا برأس طمرة ولجام فلما بدأ السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات، أنهى نفس السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] فهي كلها تحيط بالكفار، فهذا كما قلنا: يحتمل أن يكون استطراداً من ذم اليهود إلى ذم المشركين، أو أنه -إذا قلنا إنه في الكفار- من باب رد العجز على الصدر، كما يسمى التصدير، ومنه قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] فذكر كلمة شركاء أولاً ثم رد العجز على الصدر، ومنه قولهم: القتل أنفى للقتل، فهذا من رد العجز على الصدر، ومنه أيضاً قولهم: الحيلة ترك الحيلة، ومنها قول الشاعر: تسير نجوم الدائرات بحكمه وذاك إذا عدت علاه يسير ومنها أيضاً: لقد حاز أنواع الفضائل كلها وأمسى وحيداً في فنون الفضائل ومنها قوله: سألت صروف الدهر حظ مملك فشحت وجادت لي بحظ أديب يقصد بحظ الأديب الفقر، فإن الأدباء يقولون: إن من حكمة الله سبحانه وتعالى أننا نجد الشخص الأديب العالم فقيراً، ونجد الجاهل المغرق في الجهل غنياً.

فائدة في معنى الاستطراد

فائدة في معنى الاستطراد وهنا ننبه تنبيهاً حول الاستطراد، فنقول: الاستطراد هو التعريض بعيب إنسان بذكر عيب غيره لمتعلق، أو نفي عيب عن نفسه لذكر عيب غيره، مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم:45] فهنا تعريض بأولئك الذين يسكنون حالياً في مساكنهم، فهذا استطراد، وذلك أنه أتى في حق هؤلاء الذين سكنوها من قبل، مع أن المقصود عين هؤلاء الحاضرين، ومثل قوله تعالى أيضاً: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:13 - 14] إلى آخره، فما أحسنه من استطراد! ومثله أيضاً قول الله تعالى: {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95]. ومنه في الشعر قول السموأل بن عادياء: وإنا لقوم لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول فهو يريد يمدح قبيلته بعيب غيرها. ثم قال: يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول وقال آخر: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل فهذه يريد أن يقول أنا لست مجوسياً؛ لأن المجوس يبيحون زواج المحارم والعياذ بالله، ويزعمون أن الرجل منهم إذا تزوج أخته أو بنته فجاءت منه بولد فإن ذلك الولد إذا خط بيده على داء النملة أبرأته، وهذا من ضلالهم وأساطيرهم، فهذا الرجل يذم هؤلاء ويقول: إني أتبرأ من المجوسية، فيقول: ولا عيب فينا غير عرق لمعشر كرام وأنا لا نخط على النمل أي: العيب الوحيد فينا أن فينا عرق من قوم كرام من آبائنا. فالاستطراد هو التعريض بعيب إنسان بذكر عيب غيره لمتعلق، والاستطراد في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ))، أنه ورد في ذم اليهود، فاستطرد من ذمهم إلى ذم المشركين.

معنى قوله: (قوما غضب الله عليهم)

معنى قوله: (قوماً غضب الله عليهم) قوله: ((غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: يرى المفسرون أن هذه الآية في ختام هذه السورة كالآية الأولى في أولها، وهذا ما يسمى عوداً على بدأ. قال أبو حيان: لما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ختمها بمثل ذلك؛ تأكيداً لترك موالاتهم، وتنفيراً للمسلمين عن توليهم، وإلقاء المودة إليهم. وقال ابن كثير: ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها. قال الشيخ عطية سالم: يظهر لي -والله تعالى أعلم- أنها لم تكن لمجرد التأكيد للنهي المتقدم، ولكنها تتضمن معنى جليلاً وذلك للآتي: أولاً: أنها نص في قوم غضب الله عليهم، وعلى أنها للتأكيد حملها البعض على العموم؛ لأن كل كافر مغضوب عليه، وحملها البعض على خصوص اليهود؛ لأنه صار وصفاً لهم، وهو قول الحسن وابن زيد، قاله أبو حيان. ومما تقدم للشيخ الشنقيطي في مقدمة (الأضواء): أنه إذا اختلف في تفسير آية وكان أكثر استعمال القرآن لأحد المعنيين فإنه يكون مرجحاً له على الآخر، وهو محقق هنا كما قال الحسن؛ لأن صفة الغضب أصحبت عرفاً على اليهود، فإذا قلنا: أمة الغضب، انصرف الذهن مباشرة إلى اليهود لعنهم الله، فهذا الوصف أصبح من جهة العرف وصفاً لليهود، وقد خصهم الله تعالى بهذا الوصف في عدة آيات مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] وقال تعالى: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90]، وقد فرق الله بينهم وبين النصارى في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وصحت الأحاديث بأن المقصود بالضالين: النصارى، وغير المغضوب عليهم: اليهود. ولو قيل: إنها في اليهود وفي المنافقين لما كان بعيداً؛ لأنه تعالى نص على غضبه على المنافقين في سورة المجادلة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] وعلى هذا فهي تشمل اليهود والمنافقين. والغرض من تخصيصها بهما، وعودة ذكرهما بعد العموم المتقدم في: (عدوي وعدوكم) هو -والله تعالى أعلم- أنه لما نهى أولاً عن موالاة الأعداء، وأمر بتقطيع الأواصر بين ذوي الأرحام، جاء بعدها ما يشيع الأمل فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7]، و ((عَادَيْتُمْ)) عامة باقية على عمومها، ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى). يعني: لأن احتمال إسلام اليهود نادر جداً، فيكاد أن ينقطع الأمل في إسلامهم، لذلك لو عملت إحصائية في عدد اليهود الذين دخلوا في الإسلام فستجد ذلك نادراً جداً، ولا ننكر وجود ذلك فإن الله على كل شيء قدير، فيصطفي من يشاء من عباده، لكنه نادر، بخلاف النصارى وغيرهم فإن أعداداً ضخمة منهم تدخل في الإسلام. يقول: ولكن اليهود والمنافقين لم يدخلوا في مدلول (عسى) هنا، فنبه تعالى عليهم بخصوصهم في هذه الآية؛ لئلا يطمع المؤمنون أن ينتظروا شيئاً من ذلك، فأيأسهم من موالاتهم ومودتهم، العدم الإيمان الذي هو رابطة الرجاء المتقدم في (عسى) أي: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] بأن يدخلوا في الإسلام بعد أن قاطعتموهم لوجه الله وصدقتم في ذلك، فالله قادر على أن يكافئكم بأن يهديهم للإسلام فتنقلب المعاداة إلى مودة. فكان الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فقد جعل المودة من بعض المشركين، وذلك أن كثيراً منهم آمن بعد ذلك، ولم يجعلها من المنافقين ولا اليهود، فهي إذاً مؤسسة لمعنى جديد، وليست مؤكدة لما تقدم، والعلم عند الله تعالى. فهذا فيما يتعلق باختيار الشيخ عطية سالم في تفسير هذه الآية.

معنى قوله: (قد يئسوا من الآخرة)

معنى قوله: (قد يئسوا من الآخرة) قوله: ((قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ)) يعني: قد يئسوا من جزاء الآخرة؛ لأنهم كذبوا بها، ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا، فإذا قلنا: إن الذين غضب الله عليهم هم اليهود، فاليهود قد يئسوا من الآخرة؛ لأنهم بتكذيبهم للنبي محمد عليه الصلاة والسلام قد يئسوا من أن يكون لهم في الآخرة خير؛ ولذلك طغوا وبغوا وعاثوا. وقوله: ((غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) صفة لـ (قوماً) في محل نصب، وقوله: ((قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ)) صفة ثانية. وقيل: ((قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ)) يعني: من جزاء الآخرة، ((كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ)) أي: كما يئس سلفهم من إخوانهم الكفار المقبورين، يعني: أنهم على شاكلة من قبلهم، وكل مؤاخذ بكفره. وقيل المعنى: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا، وقيل: كلاهما ييئس من جزاء الآخرة. وقيل: إن كلمة (يئس) مرتبطة بحرف (من)، أي: أن الكفار الأحياء يئسوا من أصحاب القبور؛ لأنهم هم الذين يقولون: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] فلا آخرة ولا بعث ولا نشور بزعمهم. وعلى القول بأن المعنى: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا، يكون في الآية وضع الظاهر موضع المضمر، أي: قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من أصحاب القبور، لكن آثر المظهر على المضمر فقال: ((كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ))؛ لكي يثبت عليهم صفة الكفر، وأيضاً ليبين لهم ما هو الشيء الذي اقتضى الغضب عليهم، وهو الكفر. وهذا آخر ما تيسر في تفسير سورة الممتحنة.

الصف [5 - 14]

تفسير سورة الصف [5 - 14]

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني) يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]. ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى)) يعني: واذكر لمن يؤذيك من المنافقين ما صنعت بالذين آذوا موسى عليه السلام. وهنا نذكر بعض الفوائد في التفسير تعيننا على فهم هذه الآيات، منها: قال الله حكاية عن موسى: ((وإذا قال موسى لقومه)) بينما قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الصف:6]، ولم يقل عيسى: يا قوم! والعلة في ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه؛ لأنه لا أب له، وأما موسى فأبوه وأمه من بني إسرائيل. (لم تؤذونني) أي: لم توصلون إلي الأذى بالمخالفة والعصيان لما آمركم به؟ و (قد) هنا على سبيل التحقيق، (تعلمون) أي: وأنتم تعلمون علم اليقين صدقي بما جئتكم به من الرسالة؛ لما شاهدتم من الآيات البينات، ومقتضى علمكم بذلك تعظيمي وطاعتي؛ فمن عرف الله وعظمته عظم رسوله، لأن تعظيم رسوله من تعظيمه. قال ابن كثير: وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر، يعني: لست بدعاً من الرسل، ولست أول رسول يؤذى، بل سبقك موسى عليه السلام، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رحمة الله على موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وفيه نهي للمؤمنين أن يوصلوا له صلوات الله وسلامه عليه أي أذى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]. وهنا أنبه على شيء مما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام وهو كثرة الجدال في بعض الأمور فأحياناً بعض الناس يروق لهم فتح بعض الموضوعات وقتلها بحثاً، ويكثر الجدال والسؤال فيها، ونحن لا نقول فيها بخلاف الحق، ولكن يكفي فيها التنبيه، والإنسان لا يخوض أكثر من هذا، فمثلاً مسألة مصير أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام وأنهما في النار، هذه المسألة دليلها واضح، وهما كلمتان وينتهي الموضوع، وأما كثرة الكلام فيها فقد كرهه بعض العلماء؛ لما فيه من إيذاء رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولا نقول فيها كما يقول الصوفية: إنهما قد أُحييا له فآمنا به ثم ماتا، فإن هذا من خرافات الصوفية، ولكننا نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما سأله رجل، أين أبي؟ قال: (إن أبي وأباك في النار) وقوله: (استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي) فالإنسان يكفيه هذا، ولا يخوض ولا يكثر الكلام؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

بعض صور إيذاء اليهود لعنهم الله للأنبياء والمؤمنين

بعض صور إيذاء اليهود لعنهم الله للأنبياء والمؤمنين قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا موسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)) هذا مظهر من مظاهر أذية اليهود -لعنهم الله- للأنبياء، حتى وصل الأمر إلى حد القتل، فقتلوا بعض الأنبياء، وآذوا موسى عليه السلام الذي يتشدقون بأنه نبيهم، وأنهم يعظمونه ويحبونه إلى آخره، وقد لقي موسى عليه السلام منهم الأمرين. فالشر كامن في بني إسرايل كمون اللؤم في الذئب، وقد قيل: من التعذيب تهذيب الذيب، فإذا وجدت ذئباً مثلاً فلا تحاول أن تهذبه أو تعدل من أخلاقه، لأنه لا يتعدل، ولا يقبل التعديل أبداً، وهذا مما نستفيده من قصص القرآن الكريم في شأن اليهود لعنهم الله، فالعنصر الجيني والعنصر الوراثي وأخلاقهم واحدة في كل حين، وفيهم نفس اللؤم، ونفس الغدر، ونقض العهود، وكراهية الخير للناس، والحسد؛ فكل هذه الأشياء صفات راسخة فيهم غير قابلة للتغيير، فلا أمل في إصلاحهم، واليهود ليسوا كأي عدو، فيا سوء من ابتلي بعداوة اليهود؛ فإنه قد ابتلي بشيء عظيم جداً. فالمهم أن هذه إحدى صور الإيذاء كما هي واضحة في الآية: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، وكذلك ما يفعله اليهود اليوم من أذية المسلمين ويتفننون في ذلك، فقد قامت بعض مصانعهم بكتابة لفظ الجلالة على الأحذية والنعال قبحهم الله، وما أكثر ما يفعلونه استفزازاً مما تتزلزل له الجبال، وترتجف له القلوب، وتندك له الأرض والجبال، ففي بعض المناطق دخل بعض جنودهم المجرمين في أماكن الخلاء، واستنجوا بصفحات من القرآن الكريم، فهذه طباعهم: أذية الله، وأذية الرسل، وحتى موسى ما سلم منهم، وهم يتشدقون بأن موسى هو نبيهم المعظم، وكذلك كثير من أنبيائهم ما سلموا منهم، فافتروا كذباً عليهم، ولا أمل في تغيرهم؛ بدليل أن صفاتهم هي نفسها في كل الأيام لم تتغير. وقد عاتب الله الذين عاصروا منهم النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة على أشياء فعلها أجدادهم لكنه نسبها إليهم كما قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة:72]، لأنها أصيلة في طباعهم، وقد يمكن أن تكون الجينات أو الخريطة الوراثية لليهود مختصة ببعض الصفات الإجرامية، وبالذات التخصص في أذية الله، وأذية رسوله، وأذية المؤمنين. وبسبب نزول قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى)) معروف، وهو ما جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن موسى عليه السلام كان حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر موسى هذا التستر إلا من عيب في جلده: إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، فأراد الله عز وجل أن يبرئه مما قالوا، فخلا يوماً وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه -أي: جرى الحجر بالثوب- فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يضربه ويقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل، وبرأه الله مما يقولون). فإيذاؤهم له هنا إيذاء شخصي، فإن أذية بني إسرائيل للأنبياء متنوعة وكثيرة وعديدة، فمن ضمن هذه الأذية أذيتهم له في شخصه، وذلك بأن اتهموه أن فيه عيباً جسدياً في الخلقة، وسبب النزول هذا صحيح في آية الأحزاب، لكنه لا يصح هنا في آية الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))؛ لأن قول موسى عليه السلام: ((وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) يشير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي؛ بدليل قوله تعالى بعدها مباشرة: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)). يعني: فلما زاغو بما آذوا به موسى، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال، وقد آذوه كثيراً في ذلك كما بينه الله تبارك وتعالى في قوله عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55]، وكذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93]. وطباع اليهود -كما قلنا مراراً- غير قابلة للعلاج؛ لأنها مترسخة فيهم إلا من يشاء الله سبحانه وتعالى هدايته منهم؛ ولذلك تجد الذين يسلمون من اليهود قليلين جداً كالكبريت الأحمر، في حين نجد النصارى يدخلون الإسلام بالآلاف، وكذلك غيرهم من أهل الملل الأخرى، أما اليهود فهذا شيء نادر؛ وذلك لشدة قسوة قلوبهم. وقصص اليهود وحكاياتهم لا تنتهي من كثرتها، فتجدهم يتحايلون على بعض الأشياء في شريعتهم، فالنساء اليهوديات في كثير من البلاد خصوصاً في منطقة بروكلين في أمريكا وهذه المنطقة اليهود فيها أقوى من اليهود في فلسطين المحتلة، فتجد أن النساء كلهن يلبسن باروكة من نوع واحد، وذلك لأنهن يحلقن رءوسهن بناء على شيء معين في شريعتهم -والله أعلم- يلزم النساء بالحلق، فيتحيلن عليه بأن يعملن شعرهن بهذه الطريقة، ثم يلبسن فوقه باروكة، وهو أيضاً نوع من التبرج، وقصصهم في ذلك تطول جداً.

خسة اليهود وغدرهم

خسة اليهود وغدرهم فاليهود فيهم اللؤم والغدر والخسة والنذالة ونقض العهود، والناس يرون أخلاقهم عياناً الآن، ولا يبعد أن الغربيين جمعوهم في فلسطين كي يتخلصوا من شرهم، ومع ذلك لم يتخلصوا منهم، وقد خطب إبراهام لنكولن رئيس أمريكا السابق خطبة شديدة حذر فيها من اليهود، وقال: إن أمريكا في يوم من الأيام سوف يستعبدها اليهود إن تركتموهم ولم تلتفتوا إليهم. وهذا هتلر أُثر عنه أنه قال: قتلت نصف اليهود، وتركت النصف الثاني؛ لتعرف البشرية لماذا قتلت النصف الأول. لقد ابتلينا بعدو من نوع خاص، وهو من أصعب الأعداء؛ للؤمه وغدره وخسته، وما يحصل الآن مع الفلسطينيين يكشف هذه الخسة وهذه النذالة. يقول الله لهم بعد ما رفع فوقهم الطور: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة:93] وانظر إلى الرد: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93]. فأخذ الميثاق عليهم، ورفع الطور فوقهم، وقوله لهم: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا) هذا كله يساوي قول موسى عليه السلام: (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)؛ لأن (قد) هنا للتحقيق كقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144]، ومع ذلك يؤذونه بقولهم: (سمعنا وعصينا). وقد كانوا يخاطبون نبيهم باسمه: يا موسى! كذا وكذا، وقالوا له أيضاً: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فقد آذوا سيدنا موسى عليه السلام إيذاء عجيباًً، وآذوه عندما أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم، قال الله عنهم: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا موسى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]، وهذه مواساة للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لست أنت أول من يؤذى، فهذا نبيهم قد أوذي منهم. إذاً: الإيذاء المنصوص عليه هنا في سورة الصف: ((يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ))، هو في خصوص الرسالة، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه، كما في آية الأحزاب، وعاقبهم على إيذائه بما أرسل به إليهم لغيظ قلوبهم.

نوع الأذية اليهودية لموسى المشار إليها في سورة الصف

نوع الأذية اليهودية لموسى المشار إليها في سورة الصف يقول الإمام المفسر أبو السعود في تفسير هذه الآية: ((وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)): هذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال، و (إذ) منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين، أي: واذكر هؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عصيان حيث قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22] إلى قوله: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وأصروا على ذلك، وآذوه عليه الصلاة والسلام كل الأذية، هذا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم، ويرتضيه الذوق السليم. وأما ما قيل بصدد بيان أسباب الأذية من أنهم كانوا يؤذونه بأنواع الأذى: من انتقاصه، وعيبه في نفسه، وعصيانه فيما تعود عليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، فمما لا تعلق له بالمقام. فقوله: ((لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)) هو الذي حدا ببعض المفسرين -كما ترون- إلى القول بأن الأذية هنا أذية موسى بخصوص الرسالة، فخلاصة الكلام أن المقام يعين نوع الأذية ويخصصها، والقرينة إحدى مخصصات العام، إلا أن أخذها عامة أعظم في في المواساة وأولى؛ وقوفاً مع عموم اللفظ الكريم، وسواء قلنا بالعموم في أنواع الأذية، أو الإيذاء في الرسالة خاصة فكل ذلك يفيد مواساة النبي عليه الصلاة والسلام بما وقع لموسى عليه السلام من اليهود.

معنى قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)

معنى قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) قوله: (فَلَمَّا زَاغُوا) يعني: مالوا عن الحق مع علمهم به؛ وذلك لفرط الهوى، وحب الدنيا. ((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)) أي: عن طريق الهدى، وحجبهم عن نور الكمال؛ لفرط انحرافهم نحو الغي والضلال. ونلاحظ هنا أن محل الزيغ ومحل الهداية إنما هو القلب؛ لذلك قال تعالى: ((أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ))، فإن القلب إذا زاغ زاغ البدن، فالقلب ملك البدن، لذلك فأصل الزيغ يكون فيه. والهداية أيضاً تكون للقلب بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، ولذلك جاء في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]. فجمع بين الأمرين: الزيغ والهداية (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) يعني: أمالها عن الحق؛ جزاء لما ارتكبوه كما قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، وقوله أيضا: ً {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، وقال تعالى: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101]. ويشهد لهذا التفسير قياس العكس، وبيان ذلك: أن الله تعالى قال في حق هؤلاء اليهود: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقياس العكس: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل)

تفسير قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل) يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6] ذكرنا قبل أن الله تعالى حكى عن عيسى قوله: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل)، في حين حكى عن موسى قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ)، وذلك أن عيسى عليه السلام ليس له في بني إسرائيل نسب من جهة أبيه، وإن كان هو من بني إسرائيل من جهة أمه؛ لأن أمه من نسل هارون كما في قوله تعالى: (يَا أُخْتَ هَارُونَ)، بخلاف موسى عليه السلام، فإن له نسباً فيهم. قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي: التي أنزلت على موسى، وذلك مما يدعو إلى تصديقه عليه السلام.

البشارة ببعثة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب الماضية

البشارة ببعثة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب الماضية قوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) صلى الله عليه وسلم، وهناك قراءة أخرى وهي: (من بعديَ اسمه). (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: بالدلالات التي آتاه الله إياها حججاً على نبوته (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي: سحر بيِّن. يقول ابن كثير: فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل، فقد أقام في ملأ بني إسرائيل مذكراً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. إن كلمة الإنجيل معناها البشارة، يعني: أنه الذي يبشر بمحمد عليه الصلاة والسلام، فالبشارة التي نطق بها عيسى والتي بشر بها حتى وهو في المهد هي المقاصد الرئيسية لرسالة المسيح، فقد بشر بالنبي الآتي للعالمين وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فكلمة الإنجيل لها ارتباط بالبشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والإشارة في قوله: ((قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) إلى ما جاء به، وتسميته سحراً مبالغة، يريد عليه السلام أن ديني هو التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر، فقوله: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، هذا فيما تقدم وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) عليه الصلاة والسلام هذا فيما سيأتي. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عيسى فذكرها معه، مما يدل بمفهومه على أنه لم يبشر به إلا عيسى عليه السلام، وهذه الطريقة في الاستنباط مبنية على الاحتجاج بمفهوم اللقب، ومفهوم اللقب لا عمل عليه عند الأصوليين، وقد بشر به صلى الله عليه وسلم جميع الأنبياء، ومنهم موسى وإبراهيم عليهما السلام، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم) يعني قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129] وهو محمد عليه الصلاة والسلام. فجميع الأنبياء -بمن فيهم موسى- بشروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومما يشير إلى أن موسى أيضاً قد بشر به قول المسيح في هذه الآية: (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ)، وما بين يديه هي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، وكذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]. وقوله في سورة الفتح: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] فهذا وصف الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة في التوراة، {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] وهذا يدل أيضاً على أنهم وصفوا في الإنجيل. وجاء النص في حق جميع الأنبياء في آية آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. وجاء أيضاً مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عليه السلام سورة مريم فقال: أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الذي بشر به عيسى عليه السلام، وقال أيضاً: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي التي رأ) أي: حينما رأت أم النبي عليه الصلاة والسلام نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام. وهنا خُص عيسى بالنص على البشرى به عليه الصلاة والسلام، لأن عيسى آخر أنبياء بني إسرائيل فهو ناقل تلك البشرى لقومه عمن قبله، وقال أيضاً: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [آل عمران:50]، ومن قبله ناقل عمن قبله، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام وأداها إلى قومه؛ لأن أهم نبي من الأنبياء يشهد لمحمد بالرسالة، ويبشر به هو الذي ليس بينه وبينه نبي، فلابد أن يذكر لهم ذلك قبل أن يغادر الدنيا؛ ففيما مضى كان كل نبي يبلغ البشارة لمن بعده، وكان بين عيسى وموسى أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، فكل نبي يحملها إلى من بعده، إلى أن أتى المسيح عليه السلام فصار ذلك في حقه أوكد، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى؛ ليس بيني وبينه نبي). فعيسى خاتم أنبياء بني إسرائيل، ونبينا خاتم الأنبياء على الإطلاق عليه الصلاة والسلام. وقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) جاء في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أسمائه: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وأنا العاقب). وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه أحمد، وذكر باسمه محمد في أكثر من موضع من القرآن الكريم كما في سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وسورة آل عمران، وذكر بصفات عديدة كقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. وهذا الموضوع -أعني: البشارة بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الموضوعات التي تستحق أن تفرد، وقد أفرد كثيرون في شتى العصور هذا الموضوع بالدراسة المستفيضة، وجرياً منا على سنن الاختصار سنحاول أن نجمل الإشارة إلى بعض هذه البحوث.

الفرق بين محمد وأحمد من حيث اللغة

الفرق بين محمد وأحمد من حيث اللغة قال الإمام ابن القيم في (جلاء الأفهام في التفرقة بين محمد وأحمد عليه الصلاة والسلام): إن محمداً هو المحمود حمداً بعد حمد، فهو دال على كثرة حمد الحامدين له، وذلك يستلزم كثرة موجبات الحمد فيه. أي: كثرة الصفات التي تجعل الناس يحمدونه عليها. أما أحمد فهو أفعل تفضيل من الحمد، فيدل على أن الحمد الذي يستحقه أفضل مما يستحقه غيره، فمحمد فيه زيادة حمد في الكمية، وأحمد فيه زيادة حمد في الكيفية، فيُحمد أكثر حمد، وأفضل حمد حمده البشر. وهذا هو الوجه الأول في الفرق بين محمد وأحمد. ومن العجيب أن مدح الرسول عليه السلام وحمده لم يقتصر على المسلمين والمؤمنين به، بل تجد بعض المنصفين من الكفار يثنون على النبي صلى الله عليه وسلم ثناء عجيباً، فهنا يتبادر سؤال وهو: لماذا لم يسلم هذا الشخص؟ وقد قرأنا مدحاً كثيراً للنبي صلى الله عليه وسلم من بعض المستشرقين وغيرهم من الكفار، ومنهم أديب ألماني له قصائد عجيبة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك هناك رجل روسي له مقالات رائعة في حمد النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك ابن المهاتما غاندي الذي انتهى به الأمر إلى الإسلام، وقد أثنى على الرسول عليه الصلاة والسلام ثناء عجيباً، وهو من الهند. ومنهم أيضاً صاحب كتاب (دعوة إلى الإسلام)، وهذا الكاتب عندما أقرأ كتابه هذا لا أتصوره إلا مثل شيوخ المسلمين: بعمامة، ولحية وغير ذلك، فهو يتكلم بإعجاب وانبهار غير عاديين عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك عن المسلمين! فإذا كان الكفار قد أثنوا هذا الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بالمؤمنين!! والرسول صلى الله عليه وسلم له اختصاص بصفة الحمد، فاسمه أحمد ومحمد، وأمته أمة الحمد، وهو حامل لواء الحمد يوم القيامة، وافتتح كتابه بالحمد، وآخر دعوة لأهل الجنة في الجنة هي الحمد: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10]. والحمد أعم من الشكر، ويعتقد بعض الناس أن الحمد لله بمعنى شكر الله، وهذا غير صحيح؛ فالشكر نوع من أنواع الحمد، فالحمد يشمل الثناء على الله بما هو أهله من المدح والثناء. الوجه الثاني في الفرق بين محمد وأحمد: أن محمداً هو المحمود حمداً متكرراً، وأحمد هو الذي حمده لربه أفضل من حمد الحامدين غيره، فدل أحد الاسمين -وهو محمد- على كونه محموداً، ودل الاسم الثاني -وهو أحمد- على كونه أحمد الحامدين لربه، وهذا هو القياس، فإن أفعل التفضيل والتعجب عند جماعة البصريين لا يبنيان إلا من (فَعل) الفاعل لا من (فُعِل) المفعول؛ ذهاباً إلى أنهما إنما يصاغان من الفعل اللازم لا المتعدي. ونازعهم آخرون، فجوزوا بناءهما من الفعل الواقع على المفعول؛ لقول العرب: ما أشغله بالشيء! قال ابن مالك في ألفيته: فصغهما من ذي ثلاث صرفا قابل فضل تم غير ذي انتفاء وغير ذي وصف يضاهي أشهلا وغير سالك سبيل فُعلا ثم قال ابن القيم: والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم سُمي محمداً وأحمد؛ لأنه يحمد أكثر مما يحمد غيره، وأفضل مما يحمد غيره، فالاسمان واقعان على المفعول، وهذا هو المختار، وذلك أبلغ في مدحه، وأتم معنى، ولو أريد به اسم الفاعل لقلنا: الحماد، وهو كثير الحمد، كما قلنا: محمد وهو المحمود كثيراً، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمداً لربه، فلو كان اسمه باعتبار الفاعل لكان الأولى أن يسمى حماداً، كما أن اسم أمته الحمادون. وأيضاً: فإن الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصاله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمداً وأحمد عليه الصلاة والسلام. فهو الذي يحمده أهل الدنيا وأهل الآخرة، ويحمده أهل السماوات والأرض، فلكثرة فضائله التي تفوت عد العادين سمي باسمين من أسماء الحمد يقتضيان التفضيل والزيادة في القدر والصفة.

التوراة تبشر بالنبي الأمي

التوراة تبشر بالنبي الأمي سنقف هنا وقفة مع الإشارة التي ذكرها عيسى عليه السلام في هذه السورة: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6]. إن ظاهرة عامة، وحدثاً خطيراً كنبوة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وبعثته إلى الناس كافة تترتب عليها آثار عظيمة؛ لأن دعوته تتضمن دعوة كل الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفقاً لما يوحيه في رسالته الخاتمة إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فمثل هذا الأمر الخطير لا بد أن تسبقه إرهاصات ومقدمات ومبشرات تهيئ البشرية لاستقبال هذا الحدث الجلل، وتوجد في قلوبهم استعداداً كاملاً لتقبل هذه الحقيقة، يقول الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157].

هرقل يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم

هرقل يقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إن هناك ظاهرة هامة جديرة بالتسجيل، يدركها الدارسون للنصوص التاريخية التي تتحدث عن فترة ما قبل البعثة المحمدية الشريفة، وهي: أن الناس الذين كان لهم صلة بكتاب سماوي كانوا يرتقبون ظهور نبي على وشك أن يبعث، بل إن بعض علمائهم قد بادر إلى إعلان إسلامه بمجرد اجتماعه برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا هرقل لما سمع أبا سفيان وقد سأله أسئلة معينة عن صفات الرسول عليه الصلاة والسلام ودعوته قال في نهاية الحديث: (إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه) رواه البخاري. إن هرقل لم يفهم رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام التي أرسلها له، والتي فيها: (أسلم تسلم) فقد وعده بالسلامة، وهو يقول هنا: (فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه) وكأنه يقول: أخاف إن ذهبت إليه مؤمناً به أن تقتلني النصارى، فلم يفقه معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم)، فكان ينبغي أن يضحي بالملك ولا يبالي، وأما ضمان السلامة فقد ضمنها له، لكنه لم يفقه هذا الوعد، والله تعالى أعلم.

إسلام سلمان والجارود بن أبي العلاء ناجم عن البشارات

إسلام سلمان والجارود بن أبي العلاء ناجم عن البشارات ومن ذلك ما ثبت بإسناد حسن أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تنقل بين علماء النصارى حتى دله آخرهم على قرب مبعث نبي في بلاد العرب، فكان ذلك سبب مجيئه إلى المدينه وسكناه فيها، وذلك في قصة طويلة معروفة. وكذلك المقوقس ملك القبط، لما كتب إليه الرسول عليه السلام داعياً إياه للإسلام، رد عليه المقوقس بقوله: أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك. وجاء الجارود بن العلاء -وكان من علماء النصارى في قومه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مما قال: والله! لقد جئت بالحق، ونطقت بالصدق، والذي بعثك بالحق نبياً! لقد وجدت وصفك في الإنجيل، وذكر بك ابن البتول عليه السلام. يعني: المسيح، وأسلم الجارود، ومعه قومه.

أم المؤمنين صفية تذكر عن أبيها وعمها معرفة الرسول المبشر به

أم المؤمنين صفية تذكر عن أبيها وعمها معرفة الرسول المبشر به ومن ذلك أيضاً قصة ذكرتها أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها عن أبيها وعمها، وكان أبوها وعمها يهوديين، قالت صفية رضي الله تعالى عنها: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مغلسين -أي: في وقت الغلس، وهو الظلمة التي تكون بعد طلوع الفجر- فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما، فما التفت إلي أحد منهما، فسمعت عمي يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتثبته وتعرفه؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت أبداً)، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكن هذا هو جحود اليهود ونكرانهم.

إسلام عبد الله بن سلام بسبب معرفة صفات النبي المذكورة في كتبهم

إسلام عبد الله بن سلام بسبب معرفة صفات النبي المذكورة في كتبهم ومن ذلك أيضاً قصة إسلام عبد الله بن سلام، وقد كان من علماء اليهود وأحبارهم، قال رضي الله عنه: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له -يعني: ننتظره- فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادماً ما زدت! فقلت لها: أي عمة! هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، وبعث بما بعث به، فقالت: فذاك إذن، قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.

إسلام النجاشي بسبب البشارات

إسلام النجاشي بسبب البشارات ومن ذلك أيضاً ما وقع من النجاشي ملك الحبشة حين هاجر إليه بعض الصحابة، وأرسلت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد لحث النجاشي على طردهم، فلما قرأ عليه جفعر بن أبي طالب سورة مريم قال النجاشي: فأنا أشهد أنه رسول الله، والذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.

تبشير اليهود بمحمد هو سبب مبادرة الأنصار إلى الإسلام

تبشير اليهود بمحمد هو سبب مبادرة الأنصار إلى الإسلام وكذلك اشتهر حديث اليهود للأوس والخزرج عن خروج نبي، وكان ذلك من جملة العوامل التي هيأتهم للإيمان، وجعلتهم مستعدين لتقبل الرسالة. فعن سلمة بن سلامة رضي الله عنه قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً، علي برد مضطجعاً فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائناً بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان! ترى هذا كائناً: أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بعملهم؟! قال: نعم، والذي يحلف به! لوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك! وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن في الجنوب، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي، -أي: إلى سلمة بن سلامة - وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، -يعني: إذا كبر هذا الغلام وقارب الموت يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد بعث- قال سلمة: فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به! أي: لما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام كفر به ذلك اليهودي بغياً وحسداً. إن اليهود ينظرون إلى العرب الذي هم من نسل إسماعيل على أنهم أولاد الجارية سارة، أما هم فأولاد الحرة هاجر؛ ولذا ينظرون إلى العرب نظرة الازدراء والاحتقار، وكذلك ينظرون إلى العرب على أنهم أناس أميون، وأما هم فأهل كتاب، وشعب الله المختار، فهذه النظرة تجعلهم يظنون ألن يبعث الله نبياً من هؤلاء: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةَُ} [القصص:68]، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

ذكر بشارة من الإنجيل

ذكر بشارة من الإنجيل وجاء في إنجيل يوحنا أن اليهود من أورشليم -وهو الاسم القديم للقدس- أرسلوا كهنة ليسألوا المعمدان الذي هو يحيى أو يوحنا المعمدان، حين ذاع خبر نبوته، فذهب إليه هؤلاء الكهنة وقالوا: المسيح أنت؟ فقال: لست أنا المسيح، فسألوه: إذن ماذا؟ إيلياء أنت؟ فقال: لست أنا، فقالوا: النبي أنت؟ فأجاب: لا. فيظهر لنا من الكلام أنهم سألوه: أأنت النبي؟ واللام هنا للعهد، أي: أن هناك نبياً سيأتي وهو وغير المسيح وغير إيليا، النبي أنت؟ فأجاب: لا، والمقصود أنهم سألوه، أأنت النبي المعهود الذي أخبر به موسى؟ فعلم من ذلك أن هذا النبي كان منتظراً مثل المسيح وإيلياء، وكان مشهوراً، بحيث لا يحتاج إلى ذكر اسمه، بل كانت الإشارة إليه بمجردها كافية. ومع وقوع التحريف في كتب القوم إلا أنها بقيت تحوي كثيراً من البشارات ببعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانت كتبهم فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم محمد أو أحمد أو ما يقاربهما. وللإمام الشوكاني رسالة صغيرة حققها الدكتور إبراهيم هلال، ذكر فيها أنه نقل عن توراة كانت موجودة ومشهورة جداً عند رجل من أحبار اليهود في اليمن، فنقل منها نصوصاً فيها لفظ محمد وأحمد بهذه الصراحة، أي: أن هذا كان موجوداً في عهد الإمام الشوكاني. وحتى التوراة والأناجيل التي في أيديهم الآن مع التحريف الذي وقع فيها مازالت تحوي عبارات من البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

البشارة بالفارقليط

البشارة بالفارقليط كانت كتب النصارى فيما مضى تحوي بشارات صريحة تحمل اسم محمد أو أحمد عليه الصلاة والسلام أو ما يقاربهما، وذلك يعلم بالتأمل في النقول التي نقلها بعض علماء المسلمين من الأناجيل في عصرهم كما نطقها المسيح عليه السلام تماماً: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، فما كان من القوم إلا أنهم ترجموا الاسم العلم -أحمد- وحولوه إلى صفة؛ والأصل أن الاسم العلم عندما يترجم من لغة إلى أخرى يبقى النطق به كما هو، فمثلاً رجل اسمه (كريم) فإذا نقلته إلى الإنجليزية فإنك تكتبها (كريم)، ولكنهم حولوها إلى صفة، وهذا هو الذي حصل مع كلمة (أحمد) التي هي أفعل التفضيل من الحمد، وهو لفظ (فارقليط). وهذا التحريف عندهم هواية، فأول شيء فعلوه لكي يضلوا الناس عمدوا إلى كلمة (أحمد) فحولوها عند الترجمة إلى (فارقليط) فعاملوها كصفة، ثم ترقوا إلى أبعد من ذلك فمارسوا هوايتهم القديمة في التحريف اللفظي، فحولوا كلمة (فارقليط) التي تعني من الناحية اللغوية البحتة: الأمجد والأشهر والمستحق للمديح، إلى المحامي، أو الوصيف، أو الشفيع، ولن أسرد الفروق بينها وبين (فارقليط)؛ لأنها لا تعني ذلك في اللغة القديمة. فهذا: عبد الأحد داود وهو من أكابر علماء النصارى، وكان عالماً مفخماً جداً، وقد هداه الله سبحانه وتعالى إلى الإسلام، وله كتابان: كتاب (الإسلام والتوحيد)، وكتاب (محمد في الكتاب المقدس). يقول معلقاً على هذه الجزئية: والجهل يؤدي إلى ارتكاب أخطاء عديدة، وللقرون المتطاولة كان الأوروبيون واللاتينيون الجهلة يكتبون اسم محمد على أنه (مامومد) فهل من عجب أن يكون أحد الرهبان النصارى والنساخين قد كتب الاسم الصحيح في صيغة خاطئة وهي فارقليط، وتعني: الشهير أو الجدير بالحمد، ولكن الصيغة المحرفة لا تعني شيئاً إلا العار لأولئك الذين جعلوها تحمل معنى المعزي أو المحامي منذ مدة ثمانية عشر قرناً. فالكلمة اليونانية التي ترادف المعزي ليست (فارقليط)، وإنما هي: (فاركلون) وأما الفارقليط فمعناها بالضبط أحمد، وهذا ما قرره البروفسور عبد الأحد داود وكان من كبار علماء النصارى الكاثوليك المتبحرين، وكان أيضاً على دراية مباشرة باللغات القديمة التي احتفضت بها الأناجيل المقدسة عند النصارى، إضافة إلى إلمامه بالعلوم الإسلامية، الأمر الذي أداه في النهاية إلى أن أسلم، وصنف كتباً في دحض عقيدة النصارى. وممن برع جداً في هذا الباب الأستاذ أحمد ديدات حفظه الله وشفاه، وهو يعاني الآن من شلل كامل، ولا يتعامل مع الناس إلا بعينه فقط، وهذا الرجل له باع كبير في توضيح هذه الحقائق. وقد بلغ من وضوح الإشارة إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل يوحنا حداً دفع أحد علماء الإنجليز وهو آدم جونز إلى تأليف كتاب سماه: نشأة الديانة المسيحية، زعم فيه أن في الأناجيل أشياء مأخوذة من الديانة الإسلامية، وأن الأناجيل مملوءة بالأفكار الإسلامية! وذكر أمثلة على ذلك مثل لفظة: (فارقليط) وهذا الإنجليزي طوعت له نفسه أن يقول: إن هذه الكلمة دخلت في الإنجيل بعد القرآن، والمسلمون يقولون: إنها كانت في الإنجيل الأصلي طبقاً للآية الكريمة الواردة في القرآن. وقد ذكر هذا العالم الإنجليزي حجة ناصعة على هذه الدعوى، فقال: إن المسيحيين لا يمكنهم أن ينكروا أن لفظة: (فارقليط) معناها محمد صراحة! وقد كان الأولى به أن يقول: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، بدلاً من افتراض وهمي لا يقبله عقل، بل هو محض تخمين. وجاء أيضاً في جريدة (المؤيد) تحت عنوان: لا يعدم الإسلام منصفاً، وقد نقله القاسمي في التفسير فقال: وقال أحد رواد مدرسة اللغات التركية: إن محمداً هو مؤسس الدين الإسلامي، واسم محمد جاء من مادة حمد، ومن غريب الاتفاق أن نصارى العرب كانوا يستعملون اسماً من نفس المادة يقرب في المعنى من محمد وهو أحمد لتسمية الفارقليط به، ومعنى أحمد: صاحب الحمد، وهذا ما دعا علماء الدين الإسلامي أن يثبتوا أن كتب المسيحيين قد بشرت بمجيء النبي محمد، وقد أشار القرآن بنفسه إلى هذا بقوله: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). وقيل عندهم: إن هذه الآية تشير إشارة خاصة إلى عبارة إنجيل يوحنا، حيث وعد المسيح تلامذته ببعثة صاحب هذا الاسم.

البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا

البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا أما إنجيل برنابا ففيه العبارات الصريحة المتكررة، بل الفصول الصافية التي يذكر فيها اسم محمد عليه الصلاة والسلام في عرضها ذكراً صريحاً، ويقول: إنه رسول الله، وقد نقل عن رحالة إنجليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحميري قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها يقول المسيح: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ). وقد بدل رهبان النصارى لفظة (الفارقليط) في المطبوعات الأخيرة بالمعزي، وقال بعضهم: لا عجب من هذه التحريفات المتجددة، لتجدد الطبعات، فإنها فرية القوم في كتبهم. ومن البشارات التي ما زالت موجودة إلى الآن في الإنجيل حتى بعد تحريفه ما جاء في آخر أبواب إنجيل يوحنا، ونصها: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط ليثبت معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله؛ لأنه ليس يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه؛ لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم، والفارقليط الذي يرسله الأب باسمي، وهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم، والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون. وفي الباب الثالث عشر من إنجيل يوحنا: لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على الخطية، وعلى الجرم، وعلى حكم، أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على الجرم فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم فإن آراكون هذه قد زيل، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن، وإذا جاء روح الحق ذلك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع -يعني: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]- ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم.

إسلام المايورقي بسبب البشارات

إسلام المايورقي بسبب البشارات فنتجاوز عن شرح هذه الوصية بالتفصيل، ونذكر بقصة إسلام عالم من أكبر علماء النصارى في القرن التاسع الهجري، كان يعيش في الأندلس، وهو من جزيرة مايورقا، وهي جزيرة في جنوب إيطاليا، وهي ومن أجمل الأماكن في العالم، واشتهر بالترجمان أبي محمد عبد الله بن عبد الله الترجمان المايورقي، توفي سنة (832) من الهجرة. وقد ذكر هو قصة إسلامه في كتاب له يسمى: (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب) وقد ذكر قصة طويلة يقول فيها: إنه لازم أحد القساوسة الكبار، ثم قال: فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوماً من الدهر فتخلف عن حضور مجلس أقرانه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله عز وجل على لسان نبيه عيسى عليه السلام في الإنجيل: إنه يأتي من بعدي نبي اسمه الفارقليط، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء؟ وقال كل واحد منهم بحسب علمه وفهمه، فعظم بينهم في ذلك مقالهم -أي: اختلفوا اختلافاً كبيراً- وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة في تلك المسألة. فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور، فقال لي: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم الفارقليط، وأن فلاناً قد أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل، فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل. يقول إنثل: فبادرت إلى قدميه أقبلهما وقلت له: يا سيدي! قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جليل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم، فبكى الشيخ، وقال لي: يا ولدي! والله إنك لتعز عليّ كثيراً من أجل خدمتك لي، وانقطاعك إلي، إن في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف أن يظهر ذلك عليك فتقتلك عامة النصارى في الحين، فقلت له: يا سيدي! والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به! لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك. فقال لي: يا ولدي! إني سألتك في أول قدومك علي عن بلدك، وهل هو قريب من المسلمين؟ وهل يغزونكم أو تغزونهم؟ لأختبر ما عندك من المنافرة للإسلام. يعني: مدى حساسيتك للمسلمين، هل تكره المسلمين أم لا؟ فاعلم يا ولدي! أن (الفارقليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام، وأخبر أنه سينزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل، قلت له: يا سيدي! وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي! لو أنّ النصارى أقاموا على دين عيسى الأول لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا. فقلت له: يا سيدي! وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي! بالدخول في دين الإسلام. قلت له: هل ينجو الداخل فيه؟ قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة! فقلت: يا سيدي! إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال لي: يا ولدي! إن الله تعالى لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به من فضل الإسلام وشرف نبي الإسلام إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولا عذر لنا فيه بل هو حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعلم والشرف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم، وخلصت إلى المسلمين فأقول لهم: إني جئتكم مسلماً، فسيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك في الدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخاً كبيراً فقيراً ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم جوعاً، وأنا -والحمد لله- على دين عيسى، وعلى ما جاء به يعلم الله ذلك مني! فقلت له: يا سيدي! أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل في دينهم؟ فقال لي: إن كنت عاقلاً طالباً للنجاة فبادر إلى ذلك، تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي! هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه غاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني فإني أجحدك، وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، فأنا بريء من ذلك إن فهت بشيء من هذا، فقلت: يا سيدي! أعوذ بالله من سريان الوهم لهذا، وعاهدته بما يرضيه إلى آخر القصة، وهي طويلة.

متخصص في الآداب اليونانية يفسر الفارقليط بأحمد

متخصص في الآداب اليونانية يفسر الفارقليط بأحمد وقد وقع نقاش بين الأستاذ عبد الوهاب النجار صاحب كتاب (قصص الأنبياء)، ودكتور يدعى كارلو مينو حول معنى كلمة أحمد، (الفارقليط) يقول الأستاذ عبد الوهاب: ثم قلت له وأنا أعلم أنه حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة: ما معنى الفارقليط؟ فأجاب بقوله: إن القُسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها المعزي. فقلت: إني أسأل الدكتور كارلو مينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيساً! فقال: إن معناها الذي له حمد كثير، فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حَمِد؟ فقال: نعم. فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسمائه أحمد! فقال: يا أخي! أنت تحفظ كثيراً، واكتفى بهذا.

بشارات من كتب المجوس

بشارات من كتب المجوس فهذا الموضوع من الموضوعات المهمة والشيقة، حتى أن كتب البراهمة في الهند يوجد فيها بشارات في غاية الصراحة، ويوجد عندي صور منها، وهي مكتوبة باللغة السانسكريتية القديمة، وهي لغة البراهمة، وهي تذكر كلمة أحمد في غاية الوضوح، ويقول بعض الباحثين: إن أصل الديانة البرهمية -على التحريف الذي دخل عليها- هي الملة الإبراهيمية. وقد قرأت فيها أشياء في غاية العجب، ففيها وصف عجيب لغزوة بدر بأعداد الصحابة، وأعداد جيش الكفار، وأرجو فيما بعد أن تحصل فرصة نتكلم فيها بالتفصيل، لكن أنقل بواسطة العقاد بعض النصوص الموجودة في كتب البراهمة، حيث يقول: إن اسم الرسول العربي أحمد مكتوب بلفظه العربي في السماديدا من كتب البراهمة، وقد ورد في الفقرة السادسة، والفقرة الثامنة من الجزء الثاني ونصها: إن أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة بالحكمة، وقد قذفت منه النور كما يقذف من الشمس. وفي كتب زرادشت التي اشتهرت باسم كتب المجوسية، استخرج منها نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة أبا لهب، ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفواً أحد، وليس له أول ولا آخر، ولا ضريع ولا قريع، ولا صاحب، ولا أب، ولا أم، ولا صاحبة، ولا ولد، ولا ابن، ولا مسكن، ولا جسد، ولا فتح، ولا لون، ولا رائحة. وفيها: إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، فبعد عبادة النار في هياكلهم يولون وجههم نحو كعبة إبراهيم التي تطهرت من الأصنام، فيومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة العالمين، وسادة لفارس وغيرها من الأماكن المقدسة للزرادتشيين ومن جاورهم، وإن نبيهم ليكون فصيحاً يتحدث بالمعجزات.

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله)

تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله) يقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف:7]. أي: لا أحد أظلم ولا أشد عدواناً ممن يدعى إلى الإسلام الظاهر حقيقته، المسعد له في الدارين، فيستبدل إجابته بافتراء الكذب واختلاقه على الله، وذلك قوله عن كلامه تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة:110] وقوله عن رسوله صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر. وهذه الآية إما مستأنفة لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون طليعة للآيات بعدها، وإما متممة لما قبلها. يعني: أن هذه الآية إما متعلقة بما سبق، فتكون متممة للكلام عن المسيح والتكذيب المذكور في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) فعلق الله على ذلك بقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ) يعني: يدعوه المسيح إلى الإسلام، وقرئت: (وهو يدّعي إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين). وإما أنها استئناف لكلام جديد، وهي طليعة لما يأتي من قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] إلى آخره. قال: وهذه الآية إما مستأنفة لتحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون طليعة للآيات بعدها، وإما متممة لما قبلها لتقبيح ما بهت به الإسرائيليون عيسى عليه السلام، مع الإشارة بعمومها إلى ذم كل من كان على شاكلتهم، ولا يقال: (الإسلام) يؤيد الأول من القولين، فالإسلام دين محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن جميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد وهو الإسلام؛ فالإسلام هو عنوان الملة الحنيفية، فالمراد به هنا معناه اللغوي، وقد جاء ذلك في آيات شتى. قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بما أنزل من الحق.

تفسير قوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)

تفسير قوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم) يقول تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] وفي قراءة أخرى: (والله مُتِمٌ نوره) بالتنوين، فهي تعمل كالفعل. قال ابن جرير: أي: يريد هؤلاء القائلون لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا ساحر؛ ليبطلوا الحق الذي جاء به بقولهم، والله معلن الحق، ومظهر دينه، وناصر رسوله على من عاداه، فذلك إتمام نوره. إذاً: فقوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله) يعني: دين الله، استعارة حيث شبه حالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه؛ تهكماً وسخرية بهم، كما يقول الناس: هو يريد أن يغطي عين الشمس. واللام هنا فيها كلام كثير، لكن أشهر ما قيل: إنها مزيدة للتأكيد، أي: تأكيد معنى الإرادة؛ لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9]. أي: على كل دين سواه، وذلك عند نزول عيسى بن مريم، وحين تصير الملة واحدة فلا يكون دين غير الإسلام. وقال الزمخشري: أي: ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولعمري! لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور لدين الإسلام. وهذه حقيقة في كثير من بلاد العالم، فالمسلمون هم ثاني ديانة مثلاً في أمريكا بعد النصرانية، وثاني ديانة في بريطانيا، وثاني ديانة في فرنسا، وهي في الحقيقة أول ديانة؛ لأن النصارى في الغرب لم يعودوا نصارى أساساً، بل هم كافرون بالنصرانية في الغالب، فالأعم الأغلب أنهم لا دين لهم. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} يعني: ما فيه من محض التوحيد، وإبطال الشرك.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم وبشر المؤمنين)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم وبشر المؤمنين) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:10 - 13]. ولما قال الصحابة: لو عهدنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به أبداً، دلهم الله على ذلك، وجعله بمنزلة التجارة؛ لمكان ربحهم فيه، ونزلت هذه الآيات. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ} [الصف:10] وفي قراءة: (تنجِّيكم) {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11]. {يَغْفِرْ لَكُمْ} هذا جواب قوله: (تجاهدون)، أي: فإن تجاهدوا يغفر لكم. وأصل معناها معنى الأمر، أي: آمنوا بالله وجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم. يقول تعالى: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: إيماناً يقينياً لا يشوبه أدنى شك {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11] يعني: إن كنتم من أهل العلم، أو: إن كنتم تعلمون أنه خير. والشرط هنا ليس على حقيقته، بل هو من باب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، فالمقصود بالشرط هنا التنبيه على المعنى الذي يقتضى الامتثال، وإلهاب الحمية بالطاعة، كما تقول لمن تأمره بالانتصاف من عدوه: إن كنت حراً فانتصف، تريد أن تثير منه حمية الانتصاف لا غير. وقوله: (يغفر لكم ذنوبكم) هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما تقدم. (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي: مساكن إقامة لا ظعن فيها. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: النجاء العظيم من نكال الآخرة وأهوالها. {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] أي: عاجل، وهو فتح مكة. وهذا يدل على أن السورة نزلت قبل فتح مكة بقليل، وكان القصد منها تشجيع المؤمنين على قتال محاربيهم، والثبات أمامهم، والتحذير من الزيغ عن ذلك، والتحريض في السخاء ببذل الأنفس والأموال في سبيل الحق؛ لإعلاء شأنه وإزهاق الباطل. والمعنى: ويؤتكم أخرى تحبونها، أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة وهي: ((نصر من الله)) لكم على أعدائكم ((وفتح قريب)) يعجله لكم. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بنصره تعالى لهم وفتحه في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]. وفي قراءة أخرى: (كونوا أنصاراً لله). أي: دوموا على ما أنتم عليه، وانصروا دين الله مثل نصرة الحواريين إذ قال لهم عيسى: (مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) أي: من يتوجه معي إلى نصرة الله. ((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)) أي: ننصر دينه وما أمر به، وندعو إليه، ونضحي لأجله بحياتنا. ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) أي: بعيسى عليه السلام، ونهضت تدعو إلى ما بعث به وتنصر دعوته. ((وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ)) يعني: برسالته، وبالحق الذي معه، قيل: هم اليهود الذين جحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم. وقيل: كفرت طائفة من أتباعه الذين غلوا فيه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة، واقترفوا الشرك، وافترقوا في ذلك شيعاً: فمن قائل إنه ثالث ثلاثة، وهؤلاء قال تعالى فيهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وهؤلاء هم الكاثوليك الذين يعتقدون بالثالوث، وأن كل إله له الهوية الخاصة به. ومن قائل إنه ابن الله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]. ومن قائل إنه هو الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17]. وكانت أول كلمة نطق بها المسيح في المهد: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] وكذلك: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران:51]، وقال تعالى عنه: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. فانظر إلى دعوة الإيمان كيف فرقتهم مع أنهم من قبيلة واحدة، وهي بنو إسرائيل؛ لكن على أساس الموالاة في الله والبراء من الكفار انقسموا. فقوله: ((فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ))، فهذه هي المعاداة في الله لأقرب الأقربين. (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي: بعيسى (عَلَى عَدُوِّهِمْ) من اليهود والرومان الوثنيين ((فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ))، أي: غالبين عليهم بالبراهين الواضحة، والحجج الظاهرة، والسلطة القاهرة. وفيه بشارة للمؤمنين بالتأييد الرباني لهم إذا كانوا متناصرين على الحق، مستمرين عليه، غير متفرقين ولا متخاذلين عنه، كما وقع لسلفهم، فإذا اتفقوا ملكوا، وإذا تفرقوا هلكوا. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ)، إلى آخره، هذا أمر للمسلمين أن يكونوا أنصاراً لله كما كان الحواريون، لكن لم يبين هنا هل كان المؤمنون الذين خوطبوا بهذه الآية أنصاراً لله أم لا؟ و A نعم، كانوا كذلك، وقد بين الله ذلك في سورة الحشر في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8]. كذلك قال عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]، فقوله: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) معناه: أنهم ينصرون الله ورسوله. وقال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]. فسماهم أنصاراً، وبين نصرتهم سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وقال الرازي: قال أصحاب عيسى: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)، ولم يقل أصحاب محمد ذلك، فما هي الحكمة في ذلك؟ و A أن خطاب عيسى عليه السلام كان بطريق السؤال، فلابد من الجواب، فأجابوا بذلك، ولم يقولوا ذلك ابتداء. وأما خطاب محمد صلى الله عليه وسلم فهو بطريق الإلزام، فالجواب غير لازم، بل اللازم هو امتثال هذا الأمر وهو قوله تعالى: (كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ)، وامتثال ذلك يكون بالفعل، والقرآن أثبت أنهم قد نصروا الله، قال تعالى: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) إلى آخره. إذاً: فأصحاب المسيح سئلوا سؤالاً لا جواب له إلا هذا ما داموا مؤمنين، ف Q ( مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ) والجواب: (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) وأما الصحابة فأمروا بأن يكونوا أنصار الله، فكانوا كذلك فعلاً وامتثالاً، ولم يحتاجوا إلى أن يردوا نفس الرد، ونختم الكلام بقول الشاعر: سيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج وهذا قول لبعض الشعراء ختم به إحدى قصائده التي أشار فيها إلى أن جميع المؤمنين في كل زمان مطالبون أن يمتثلوا هذا الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14]. فالشاعر يقول في القصيدة: وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم فأحرِ بهم أن يغرقوا حيث لحجوا لعل لهم في منطوي الغيب ثائراً سيسموا لكم والصبح في الليل مولج بمجر تضيق الأرض عن زفراته له زجل ينفي الوحوش وهزمج على حين لا عذرى لمعتذركم ولا لكمُ من حجة الله مخرجُ فيأخذ ثأر الله أنصار دينه ولله أوس آخرون وخزرج والله أعلم.

الجمعة [1 - 5]

تفسير سورة الجمعة [1 - 5]

تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك)

تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك) سورة الجمعة هي السورة الثانية والستون في ترتيب السور القرآنية، وهي سورة مدنية في قول جميع المفسرين، وآيها إحدى عشرة. روى مسلم في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقون). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1]. سبق أن تكلمنا في نظائرها مراراً، فهذه السورة من السور المسبحات أي: التي تُفتتح بالتسبيح.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]. ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ)) المقصود بالأميين العرب. يقول الحافظ ابن كثير ٍ رحمه الله تعالى: وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] وهو ذكر لهم ولغيرهم؛ وكذلك قال تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وهذا وأمثاله لا ينافي قول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقوله تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقوله تعالى إخباراً عن القرآن الكريم {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم.

أمية النبي صلى الله عليه وسلم من معجزاته

أمية النبي صلى الله عليه وسلم من معجزاته فقوله تعالى هنا: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ)) يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الأميون هم العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب. فالعرب وصفوا بأنهم أميون لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، وسمي الشخص أمياً نسبة إلى أمه يوم ولدته؛ لأنه يوم ولدته أمه لم يعرف القراءة ولا الكتابة وبقي على ذلك، هذا هو سبب تسمية من لم يعرف القراءة والكتابة بوصف الأمي. قال عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ولقد وصف الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم بالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، يقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، وقال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]. ويمتن الله على المؤمنين بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا منهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]. ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي ما هو إلا إحدى معجزاته صلى الله عليه وسلم، فكثير من الناس يخلطون بين الأمي وبين الإمام الأمي، نقول: قد يكون المرء عالماً ومجتهداً وإماماً في أعلى درجات العلم وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ؛ لأن القراءة والكتابة ما هما إلا من وسائل التعلم، بدليل أننا نرى كثيراً من العلماء الأفاضل الكرام الذين ارتقوا ذُرى العلم، وكانوا عميان لا يرون ولا يقرءون. إن الأمية في حق النبي عليه الصلاة والسلام غير الأمية في حق غيره من البشر؛ فغيره من الناس لو كان أمياً فهو يتلقى من مصدر بشري، فيدخل احتمال الخطأ عليه، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فإنما كان العلم الذي آتاه الله علماً وهبياً؛ لأن النبوة لا تكتسب، إنما هي هبة من الرب سبحانه وتعالى، فهو علم وهبي من مصدر معصوم، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم إن الله آتاه من المعجزات والآيات في قرآنه الكريم وفي سنته الشريفة تتقاصر دونها وتقهر أمامها كل قوى علماء الأرض قاطبة، سواء في علوم الدين أو الدنيا، فقد آتاه الله من العلم ما لم يؤت أحداً من العالمين، ولم يأمره سبحانه وتعالى بطلب الاستزادة من شيء غير الاستزادة من العلم، قال عز وجل مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. إذاً: كون النبي عليه الصلاة والسلام أمياً لا يقرأ ولا يكتب فهذه معجزة له عليه الصلاة والسلام، لا كما نصف نحن الأميّ بأنه الشخص الجاهل، فالأميّ لا يشترط أن يكون جاهلاً، بل الأميّ من لا يعرف القراءة والكتابة لسبب من الأسباب، كأن يكون أعمى البصر لا يستطيع القراءة ولا الكتابة، أو كما كان الحال الغالب على العرب من عدم القراءة والكتابة، لكن نفس هؤلاء العرب كانوا يحفظون من الأشعار آلاف الأبيات، وقد كان حفظ السنة في القرون الأولى مبنياً على القدرات الخارقة للصحابة من الحفظ. فهذا ابن عباس رضي الله عنهما وغيره كانوا يسمعون قصيدة من سبعين بيتاًًً مرة واحدة فيحفظها أحدهم ولا يخطئ فيها حرفاً، فهذه منة من الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بالذاكرة القوية، ثم انضم إلى حفظ الصدور حفظ السطور بالكتابة؛ وذلك لما كثر القتل في الصحابة والمجاهدين في سبيل الله، وخشي من اندراس العلم. يقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] كان يمكن أن يشك فيه أحد لو كان يقرأ ويكتب من قبل، لكنهم كانوا يعرفون ذلك: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس:16]. فلو كان يقرأ أو يكتب لقالوا: إنه أملي عليه هذا القرآن من طرف آخر، وإن كان هؤلاء الكفار لم يعجزهم هذا الادعاء الكاذب فقد ادعوا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]. قال الله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113] فالعلم الذي أوتيه النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل إليه غيره من البشر على الإطلاق، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (إني أعلمكم بالله وأخشاكم له) فقوله: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ)) أي العرب. ((رَسُولًا مِنْهُمْ)) أي: من أنفسهم. ووصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه منهم بعد وصفهم بالأميين يقوي القول بأن تفسير (رسولاً منهم) أي: أمياً مثلهم. فإذا قيل: السياق هنا سياق امتنان بنعمة عظيمة أنعمها الله سبحانه وتعالى على الأميين، بل على البشرية كلها، فما وجه الامتنان في وصفه بالأمية؟ ف A أن هذه الأمية دليل على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم، ولموافقته ما تقدمت البشارة به في كتب الأنبياء قبله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف في الكتب السابقة بأنه النبي الأميّ، يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]. إذاً: وصفه بهذه الصفة كانت إحدى علاماته، ووصفه بالأمية لا زال مكتوباً في التوراة والإنجيل، كما في قوله: (وأجعل كلامي في فمه). أيضاً في وصفه بالأمية بقوله: ((رَسُولًا مِنْهُمْ)) بيان لمشاكلة حاله لأحوالهم، فيكون أقرب لموافقتهم؛ لئلا يظن به أنه يعلم كتب من قبلهم، وأنه يقتبس منها، أو أنها تملى عليه.

شريعة النبي صلى الله عليه وسلم تخاطب الأميين وغيرهم

شريعة النبي صلى الله عليه وسلم تخاطب الأميين وغيرهم والنبي عليه الصلاة والسلام هو دعوة إبراهيم؛ لأن إبراهيم دعا بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129] أي: من العرب الأميين، وجاء في الحديث أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا) وهذا حكم على المجموع الغالب وليس حكماً على الجميع؛ لأنه كان يوجد في العرب من يكتب، فمنهم كتبة الوحي عمر وعلي ومعاوية وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (إنا أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب ولا نحسب) فيه إشارة إلى أن هذه الشريعة تخاطب الناس بما هو معروف ومعهود عند الأميين؛ لأن هذه الشريعة لم تأت لأجل طبقة معينة من الناس. فمثلاً: هناك قسم كبير من العبادات تعتمد على مراعاة أحوال السماء والكواكب والقمر والشمس إلى غير ذلك، كالصلاة والصيام، فيحتاج ضبط مواقيت العبادات إلى مراعاة هذه الأهلة والشمس ونحوها فيرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذه الأمة مخاطبة بما هو في معهود الأميين، الذين لا يتقنون علوم الفلك والرياضيات وعلوم الحساب ونحوها، وبالتالي فإن معرفة الشهر أمر سهل، فأشار بيده وقال: الشهر هكذا وهكذا) أي: أن الشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون. أما التوصل إلى ذلك عن طريق الحساب فهذا ليس مما هو معهود عند الأميين، فالشريعة كما تخاطب عالم الفلك والذي حضَّر الدكتوراه تخاطب البدوي الذي يعيش في الصحراء، فهذا يستطيع تحديد وقت الصلاة، وهذا أيضاً يستطيع تحديدها في غاية السهولة، وكذلك بداية الشهور والأهلة إلى آخره. فقوله: (إنا أمه أمية) ليس معناه الفخر بالأمية، وإنما هو وصف للواقع، ولسهولة الشريعة وأنها لا تخاطب طائفة خاصة من العلماء. والدليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحارب الأمية، أنه كان يجعل فكاك الأسير أن يتولى تعليم القراءة والكتابة لواحد من أبناء المسلمين، فالحث على العلم بكل وسائل العلم المختلفة النافعة المفيدة أمر معروف، لكن علينا أن نبذل فيه وقتاً وجهداً أكثر من هذا، فإن الإسلام هو دين العلم لا شك في ذلك، لأن العلم دائماً منحاز إلى الإسلام، ومؤيد لدين الإسلام. قوله: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ)) أي: من أنفسهم أمياً مثلهم.

أمية النبي وهو معلم البشرية

أمية النبي وهو معلم البشرية ((يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)) أي: مع كونه أمياً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولا تعلَّم إلا أنه يتلو عليهم آيات الله تبارك وتعالى. وتلاوته الآيات لم تكن عن طريق المدارسة، وإنما كانت الآيات تلقى في قلبه عليه الصلاة والسلام ويضمن الله له حفظها كما قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18] أي: ما عليك إلا أن تستمع {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] فضمن الله له أنه يحفظ القرآن ولا ينسى منه شيئاً صلى الله عليه وآله وسلم. ((وَيُزَكِّيهِمْ)) أي: من خبائث العقائد والأخلاق. ((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)) هو أمي ومع ذلك فهو الذي يعلمهم، وهذا مما يدلنا على أن الأمي قد يكون عالماً، بل هو أعلم البشر على الإطلاق صلى الله عليه وسلم. ((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ)) أي: القرآن. ((وَالْحِكْمَةَ)) أي: السنة. نقول: إنه متى جاءت الحكمة مقترنة بالكتاب في سياق الامتنان على الأمة المحمدية، فالحكمة هي السنة لا شك في ذلك، وهذا اتفاق من السلف. ((وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ))، أي أنهم من قبل إرساله صلى الله عليه وسلم كانوا في جور عن الحق وانحراف عن سبيل الرشد، وهو لبيان شدة افتقارهم وحاجتهم إلى بعثة هذا النبي، وإرساله صلى الله عليه وسلم منة من الله عليهم؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فبعثه الله سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة- على حين فترة من الرسل، وطموس من السبل، وقد اشتدت الحاجة إليه. وذلك أن العرب كانوا قديماً متمسكين بدين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فبدلوا وغيروا، واستبدلوا بالتوحيد شركاً وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق، فيه هدايتهم، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى، حاكم وفاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب، في الأصول والفروع، وجمع الله تعالى له ولله الحمد والمنة جميع المحاسن فيمن كان قبله. كما قال البوصيري: وغاية القول فيه إنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم صلى الله عليه وآله وسلم وليس على الله بمستبعد أن يجمع العالم في واحد فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع الله له جميع المحاسن التي كانت فيمن كان قبله من الأنبياء، فإذا كان في بعض الأنبياء تميز بقوة البدن فهو أقوى بدناً، وإن تميز بعضهم بالجمال فهو أجمل، وإن تميز بعضهم بالفصاحة فهو أفصح، وهكذا. ثم يقول ابن كثير: وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين، ولا يعطيه أحداً من الآخرين، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. إنما جعلت بعثته صلى الله عليه وسلم في الأميين من العرب؛ لما لهذه الأمة من خصائص فطرية أيضاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فأنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم) فالعرب الأميون كانوا أحد الناس أذهاناً، وأقواهم جمالاً، وأصفاهم فطرة، وأفصحهم بياناً، لم تفسد فطرتهم بغواشي المتحضرين، ولا بأساليب وتلاعب المتمدنين، ولذا انقلبوا إلى الناس بعد الإسلام بعلم عظيم، مما يدل على تمكن هذه الصفات النادرة في العرب، فبمجرد أن اصطفاهم الله سبحانه وتعالى بنعمة الإسلام استوعبوا الإسلام وارتقوا إلى أعلى الدرجات، ثم انقلبوا بعد ذلك إلى الناس بعلم عظيم، وحكمة باهرة، وسياسة عادلة، قادوا بها معظم الأمم، ودوخوا بها أعظم الممالك. فإيثار البعثة في العرب وإظهارها فيهم لا ينافي عموم الرسالة؛ لأنها أولاً ظهرت فيهم، ثم بعد ذلك انتشرت في العالمين، كما قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جميعا) [الأعراف:158]، وقال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: لأنذركم به أيها العرب، وكل من بلغه القرآن والإسلام فهو مسئول عنه، وقد أنذره النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم)

تفسير قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3]. قوله: (وآخرين) معطوف على الأميين، أي: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم وبعثه في آخرين من غير الأميين الذين كانوا موجودين في زمن بعثته عليه الصلاة والسلام، ومن يأتي بعدهم. فهذه إشارة إلى عموم رسالته، وأنها تشمل الذين سوف يدخلون في الإسلام فيما بعد، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم ممن يدخل في الإسلام إلى يوم القيامة كما فسره مجاهد وغيره واختاره شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى. فإذاً: هذه بشارة بانتشار الدين في الآفاق كلها، وأن الإسلام سوف يعم البشرية فيما بعد. قال الرازي: فالمراد بالأميين: في قوله (هو الذي بعث في الأميين) العرب، والمراد بالآخرين في قوله: (وآخرين منهم) سواهم من الأمم. وجعلهم منهم فيه إشارة إلى رابطة العقيدة، وأنها تجعل المسلم أولى الناس بأخيه المسلم، وأن رابطة الدين تكون فوق رابطة الجنس والنسب، فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم، كما قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]. هناك إعراب آخر لقوله تعالى: (وآخرين) فإنه يجوز أن يكون معطوفاً على الأميين كما مر معنا، والقول الآخر: أن يكون معطوفاً على الضمير (هم)، في قوله: (يعلمهم ويزكيهم) بمعنى: يعلمهم ويعلم الآخرين من المؤمنين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخرِ الزمان كان كله مسنداً إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ذلك، فهو علم الصحابة، والصحابة علموا التابعين، ثم التابعون علموا الأمم، وهكذا صار العلم ينتقل من جيل إلى جيل، لكن هذا العلم إذا تناسق في سلسلة متصلة من أهله وطلابه إلى آخر الزمان، فهو في الحقيقة مسند إلى أوله، فمن الذي علم العلماء في زمننا وقبل زمننا وبعد زمننا إلى أن تقوم الساعة؟ إنه النبي عليه الصلاة والسلام، فيصدق عليه أيضاً أنه الذي يزكيهم كما علمهم. أيضاً هناك إشارة إلى نفس المعنى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يقاتلون فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] فقوله تعالى: ((فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ)) يساوي قوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3].

القومية والقطرية وأثرهما على المسلمين

القومية والقطرية وأثرهما على المسلمين قال بعض المحققين: في الآية معجزة من معجزات النبوة، وذلك بالإخبار عن غيب وقع في أمم من غير العرب، وذلك أن تلك الأمم التي أسلمت صارت من العرب؛ لأن بلادهم صارت بلاد العرب، ولغتهم صارت لغة العرب، وكذلك دينهم وعاداتهم، حتى أصبحوا من العرب جنساً وديناً ولغة، وحتى صار لفظ العرب يطلق على كل المسلمين من جميع الأجناس؛ لأنهم أمة واحدة، يقول تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]. وهذا كلام طيب وجميل، لكننا ابتلينا فيما بعد بالدعوة للقومية العربية في القرن الأخير، وكان مؤسسو فكرة القومية العربية هم النصارى، وأرادوا بها أن يجمعوا هذه البلاد العربية على رباط آخر غير رابطة الإسلام وهو العروبة، حتى وصل الأمر إلى أقصى درجات الغلو عند الملاحدة الذين ينتمون إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو حزب مشرك كافر بالله وبرسوله وبالأديان، وهذا الحزب يريد أن يقتلع الإسلام ويستبدله بالعروبة. فهم لا يتذكرون الإسلام، ولكن عندهم تعصب للغة العربية، وهذا واضح بالذات في العراق وفي سوريا، ولذلك فإن مستوى اللغة العربية عند السوريين والعراقيين قوي جداً، لكن يحكمهم حزب البعث الذي لا دين له، والعروبة عندهم نوع من التراث، فهم يشيدون بأمجاد العرب وأنهم أمة عظيمة حتى بدون الإسلام، والإسلام عندهم أحد معالم الطريق، لكنه ليس هو المحور الرئيسي، فالكلام على حزب البعث الكافر الملحد يطول، ولا نريد أن نخرج الآن عن التفسير. وقد صار يقصد بالعروبة إشغال الناس برابطة غير رابطة الإسلام، ثم فصل البلاد العربية عن البلاد الإسلامية، فكأن العروبة تضم اليهودي والنصراني وأي ملة أخرى، أما العالم الإسلامي فهو العالم الأوسع، فوضعوا هذه الحواجز بين العرب وبين المسلمين، ولعلكم تلاحظون تأثير هذا التقسيم عند وقوف المسلمين في أي قضية ضد أعدائهم، فتجدون ضعف رد الفعل العربي ورد فعل ما ينسبونه للإسلام، وهذا التفكيك له آثاره المدمرة. وكان بعض هؤلاء إذا أذن المؤذن للصلاة يقفون صفاً يشوشون على الأذان ويقولون: انتقل عني فهذي قيمي أنا ماركسي لينيني دولي وأيضاً كانوا يقولون: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني. ونحن الآن نعاني مما هو أسوأ من العروبة وهو القطرية، فقد كان بين العروبة والإسلام حاجز واحد فقط وهو القومية، لكن حصلت الفرقة أعظم بسبب الدعوات القطرية، فتجد كل قطر يدعو إلى الأمن القومي الخاص به، وكل بلدة لها علمها، ولها نشيدها، فالمصريون يفخرون بالفراعنة، واللبنانيون بالفينيقيين، والعراقيون بالآشوريين، وكل بلد تدندن حول قوميتها الوطنية الخاصة بها. فهذا من التفكيك، فمع بغضنا للقومية العربية، لكن نرى أنها بلاء أخف من بلاء القطرية، لأن القطرية حصل بها ضعف أكثر للمسلمين، وبعد عن الرابطة الإسلامية. لقد كان المسلمون قديماً إذا دخلوا بلداً صبغوها بالهوية الإسلامية، وكانت أهم هذه الملامح اصطباغهم باللغة العربية، وهذه من نعمة الله علينا. هناك ارتباط وثيق جداً بين الإسلام واللغة العربية، وكل من أراد أن يحارب الإسلام لا بد أن يحارب اللغة العربية. السؤال المحير هو: الدولة العثمانية التركية التي حكمت العالم الإسلامي عدة قرون، كيف لم تصطبغ باللغة العربية، ولم يحصل فيها تعريب للحروف التركية قبل أتاتورك؟ ربما لأن الدولة العثمانية ما أعطيت فرصة لتستريح أبداً، الدولة العثمانية كانت في حال جهاد دائم لا ينقطع، وكان هناك حوالي مائة مشروع لتفتيتها والقضاء عليها، فربما كان هذا السبب في أنهم ما التفتوا لعملية التعريب، وللأسف هذه مأساة، ولذلك انتهت العربية بمجرد إلغاء الحروف العربية واستبدالها باللاتينية على يد أتاتورك، حتى وجد من لم يستطع أن يقرأ في المصحف، ولم يستطع التعامل مع مراد الفقه والشريعة.

معنى حديث: (لو كان الإيمان في الثريا)

معنى حديث: (لو كان الإيمان في الثريا) روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرةً أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء) أي: من قوم سلمان الفارسي. وفي رواية: (لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس، أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله)، وهذا لفظ مسلم. في هذا الحديث إشارة إلى أنهم سيدخلون في الإسلام ويعز الله سبحانه وتعالى بهم الإسلام، فالعبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب. إن من بدع التفسير وخرافاته ما حاول بعض المساكين الجهلة أن يحمل الآية وهذا الحديث على الخميني، وأنه هو الرجل الذي لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس، ولا حول ولا قوة إلا بالله! حملوه على عدو الإسلام وعدو الله ورسوله وعدو أهل السنة، الخميني الهائج الضال المنحرف، هذا من الإغراق في الجهل. مثل هذه التفسيرات فيها تحريف لكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث يجب أن يحمل على العلماء والأئمة من أهل فارس كـ أبي حنيفة فهناك عشرات من العلماء بل مئات من الأئمة الحفاظ الذين حرسوا هذا الدين وحفظوه من أهل فارس، فلم تركتم هؤلاء جميعاً وتمسكتم بهذا الضال المجرم الخميني؟!

تفسير قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)

تفسير قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4]. فقوله: (هو الذي بعث في الأميين) أي: العرب وبالذات قريش. (وآخرين منهم) وهم العجم، مع أن قريشاً هي أشرف القبائل، والله شرفها من حيث النسب، وشرف من عداهم بأن ألحقهم بهم. وقوله تعالى: (ذلك فضل الله) أي: أنه فضل من الله حيث ألحق العجم بالعرب. (يؤتيه من يشاء) أي: من حيث نوعية الأجناس، فلا شك أن أفضل جنس هو الجنس العربي، كما ورد في الحديث: (إن الله اصطفى إبراهيم، واصطفى من ولد إبراهيم عليه السلام إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار). فأفضل الجنس هو الجنس العربي؛ لأن الله اختصه بأن أخرج منه محمداً صلى الله عليه وسلم، فمثل هذا لا يجعلنا نعتقد الاعتقاد العنصري، فليست العبرة بمجرد هذا النسب، وإنما العبرة أساساً بالعمل الصالح والإيمان. وإخواننا الذين في مجاهل أفريقية أو في شرق آسيا أو الهند، أو غيرها من البلاد كبلدان الجمهوريات السوفيتية السابقة إذا رأوا واحداً من العرب يقبلون رأسه ويديه ويقبلون قدمه، ويقولون له: أنت عربي من بلاد العفاف والطهر، وهذا من شدة تعظيمهم للعرب؛ لأنهم يعتبرونهم من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (ذلك فضل الله) قيل: الإسلام. وقيل: الوحي والنبوة وقيل: الفضل المالي الذي يلحق بالطاعة، وهؤلاء الذين ذهبوا إلى هذا القول اعتمدوا على حديث رواه الإمام مسلم بسنده، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة. قال أبو هريرة: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، فقول النبي عليه الصلاة والسلام في الفصل بينهما (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، كان السبب الذي جعل بعض المفسرين يفسر الآية بأن المراد منها هو الأموال. وقيل: (إن فضل الله) هو الانقياد التام إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته. يقول القاسمي: (ذلك فضل الله) أي: بعثته تعالى رسولاً في الأميين وفي الآخرين فضل تفضل به على من اصطفاه واختاره لذلك: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]. والآيات هذه فيها ردٌ على من أنكر نبوته من يهود المدينة الذين استنكفوا واستكبروا وحسدوا العرب كيف يخرج منهم نبي؟! وقد كانوا يعرفون أن هناك نبياً سوف يظهر، فلما عرفوا أنه من نسل إسماعيل وليس من بني إسرائيل حسدوا المسلمين وحسدوا النبي صلى الله وسلم على ذلك، فأنكروا نبوة النبي عليه الصلاة والسلام حسداً وعناداً، مع أن لديهم من شواهد رسالته في كتبهم ما لا ترتاب أفئدتهم معه في صدق هذه النبوة، ولذلك جاء في الآية التالية مباشرة النعي عليهم لمخالفتهم موجب علمهم، فإن علمهم يوجب عليهم أن ينقادوا ويؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى: (ذلك) أي: النبوة. (فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها)

تفسير قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها) قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]. قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أي: أن اليهود لم يعملوا ولم ينقادوا للبشارة ببعثة النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فنعى عليهم مخالفتهم لموجب علمهم، فإن علمهم بالتوراة يوجب عليهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم مع علمهم بذلك جحدوا وحسدوا، وبغوا وعاندوا، وأبوا الانقياد لنبوته عليه الصلاة والسلام. {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} جملة (يحمل أسفاراً) في محل نصب حال. أي: كحال الحمار الذي يحمل أسفاراً، والأسفار جمع سفر، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرئ. قال الزمخشري: شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، ولم يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، أي: كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. أي: أن الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زنبيل! ولا يفقه شيئاً مما يحمله، وهكذا اليهود مثل الحمار، لكونهم لم ينتفعوا بالتوراة التي أرشدتهم إلى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم. بعض الناس يشتم إنساناً بأنه حمار أو كلب أو خنزير فنقول: لا يجوز وصف الإنسان بهذه الصفات؛ لأنه كذب، فهو ليس بكلب، لأن خلقته خلقة إنسان، فلا يجوز لك أن تقول له: هو كلب أو حمار، ولأن المسلم ينبغي ألا يكون فاحشاً ولا متفحشاً في كلامه، أما استدلالهم بهذه الآية فخطأ بين؛ لأن الآية ورد فيها أداة تشبيه، فلم يقل الله سبحانه وتعالى لليهود: أنتم حمير، وإنما قال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] تشبيه صورة بصورة، وقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] فهنا تشبيه وليس وصفاً له بأنه كلب. فمثل هذا لا يستعمل حتى مع اليهود أنفسهم أو النصارى. فكيف يجوز أو يسوغ للإنسان أن يصف واحداً من العلماء أو الدعاة بهذه الصفات؟! لقد وجدنا بعض من ينسبون إلى العلم يذم بعض العلماء المخالفين له في المنهج، وقد يكون هذا العالم المنتَقَد عنده أخطاء فادحة ومشهور بالتسيب في فتاواه الفقهية، لكن الواجب نصيحته بالحسنى وبالأدلة الشرعية، والرد عليه واجب، ولا نقول: إنه يجامل ويغض الطرف عن أخطائه، لكن أن يقوم أحد العلماء ويؤلف كتاباً باسم (إسكات الكلب العاوي فلان ابن فلان) فالله المستعان، إذا كان الله عز وجل لم يقل لليهود: أنتم حمير، وإنما قال: ((كَمَثَلِ الْحِمَارِ)) وقال: في الأعراف: ((كَمَثَلِ الْكَلْبِ)) ولم يصفه مباشرة بهذا الوصف، فكيف يجوز لمن يدعي أنه ينسب إلى العلم أن يفعل هذا بحق عالم من علماء المسلمين، وإن أخطأ أخطاء فادحة في اختياراته الفقهية. ثم يقول الزمخشري: وكل من علم ولم يعمل بعلمه، فهذا مثله وبئس المثل! {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى: (حملوا التوراة) أي: كلفوا علمها والعمل بها. (ثم لم يحملوها) أي: ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل. يقول تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام:91] أي: علمتم فلم تعملوا بما علمتم به. وفي شأن يعقوب عليه السلام قال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] أي: لذو عمل لما علمناه. قال الجرجاني في قوله تعالى: ((حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ)): هو من الحمالة بمعنى الكفالة، أي: ضمنوا أحكام التوراة. يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: قاس من حمّله سبحانه وتعالى كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه، ثم خالف ذلك ولم يحمله، فهو كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها، وحظه منها حملها على ظهره كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره، فهذا المثل وإن كان قد ضُرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته، يقول الشاعر: زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأوساقه أو راح ما في الغرائر قال يحيى بن اليمان: يكتب أحدهم الحديث ولا يتفهم ولا يتدبر، فإذا سئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب. {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بآيات ربهم تبارك وتعالى. وقيل في تفسيرها: والله لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون كافراً. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله -يعني: التشبيه في هذه الآية- من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد، وهو عدم الانتفاع بالمحمول، كالبيت الذي فيه: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ثم يقول: والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتباً نافعة. إذاً: الفرق بين التشبيه في البيت الشعري وبين التشبيه في الآية هو أن العير في الصحراء القاحلة يقتلها الظمأ، مع أنها حاملة فوق ظهرها ماء. فإذا شربت من هذا الماء فإنها تنتفع، لكن الحمار لا يمكن أن يقرأ ما في الأسفار، فضلاً عن أن ينتفع به؟! علينا أن نستبعد أن يكون التشبيه الذي في الآية كالذي في هذا البيت. يقول: أولاً: والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتباً نافعة. ثانياً: كون الحامل لها حماراً لا علاقة له بها، بخلاف العيس؛ لأن العيس يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينيه. وفيها إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل بالكلية أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بتمام التدبر والعمل، حتى صاروا مثل الحمار يحمل أسفاراً، لا أمل في أن يفقهوا عن الله، أو أن يحملوا أمانة الله، وأن يبلغوا دين الله وأن يعملوا به، فمن ثم نقلها الله سبحانه وتعالى إلى قوم هم أحق بها، وأحق بالقيام بها وهم العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام.

الجمعة [6 - 11]

تفسير سورة الجمعة [6 - 11]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم) يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]. لما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] ولو دخلنا النار: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] أي: مدة عبادة آبائهم العجل وهي أربعون يوماً. وقالوا أيضاً: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، اختبرهم الله وامتحنهم؛ ليبينوا صدق هذه الدعوى، فقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}. هذا رد على عنصريتهم وزعمهم أنهم شعب الله المختار، وأن كل من عداهم من البشر خلقوا كالحمير ليسخرها الله لهم، وقد خطب أحد كبار حاخامات اليهود خطبة وشتم فيها كلينتون بأقبح الشتائم وقال: إنه فاجر وفاسق وعربيد، وإنه فعل كذا وكذا من الأشياء المعروفة عن كلينتون، فعوتب على ذلك وحصل رد فعل شديد يقول: إن كلينتون خدم إسرائيل، فقال: أنا أقر وأعترف بأنه فعل ذلك خدمة لدولة إسرائيل، لكن هذا لأن الله سخره ليخدم شعب الله المختار. إذاً: عقيدتهم أن كل الدول الأخرى يجب أن تكون خدماً لإسرائيل. فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى وضعهم في هذا الاختبار لما ادعوا هذه الفضائل كلها. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: كان اليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، فقيل لهم: إن كنتم صادقين في زعمكم وعلى ثقة من أمركم، فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى الآخرة، فإن الحبيب يتمنى لقاء من يحب ولا يفر منه، ويود أن يستريح من كرب الدنيا وغمومها، ويطير إلى روح الجنان ونعيمها. فرق بين عقيدة الإنسان وبين إقدامه وشجاعته، فهو يتصف بصفتين: الصبر واليقين، مادام عندهم إيمان بأن لهم الجنة عند الله سبحانه تعالى، فهذا لا شك أنه سيكون له أثر في الإقدام والتضحية في الجهاد؛ لأن المؤمن لو ضرب بصاروخ ونسفه نسفاً، فهو لن يحس قطعاً بألم هذا الانفجار أو الوخز أو الطعنة إلا كلسع نحلة أو بعوضة، ويكون بذلك قد تجاوز الامتحان ونجح؛ لأنه يعلم أن الشهيد تغفر له ذنوبه عند أول دفعة من دمه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا). ففيه تأييد من الله سبحانه وتعالى وضمان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهْ} [التوبة:111] وكذلك وصفها الله بأنها تجارة: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] فإذاً اليقين بما بعد الموت من الثواب العظيم الذي أعده الله لمن يقتل في سبيله هو الذي يجعل المرء يطلب الاستشهاد، وهو الذي يجعل الموت أحب إليه من الحياة. وقلنا من قبل: إن هذا هو اللغز المحير، وأعداء الإسلام لم يستطيعوا أن يستوعبوه حتى الآن، فاليهود يقولون: نحن أتينا إلى هذه الأرض لكي نعيش، أما هؤلاء فهم يقاتلون لكي يموتوا، فلذلك يستغربون من الإقدام والشجاعة الناشئة عن اليقين، فيكون اليقين أولاً ثم يأتي بعده الصبر والإقدام والشجاعة. أما تمني الموت وحبه فإنه يرتبط بما يكون عند الإنسان من الفطرة والجبلة، فتراه يكره الموت، وقد سماه الله مصيبة، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت عائشة: كلنا يكره الموت -أي: كراهية فطرية جبلية- فقال: إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة أتته ملائكة) إلى آخر الحديث المعروف. فإذا كان عند الإنسان يقين قوي تنكشف له الحجب، كأن يرى الجنة ويرى الحور العين ويرى النعيم المقيم، ويعلم يقيناً أن ذنوبه سوف تمحى عند الله: (إن للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويأمن الفزع الأكبر، ويجار من عذاب القبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)، كل هذا مضمون إذا بذل نفسه في سبيل الله. الإنسان مهما عاش فإنه سوف يموت، فلماذا لا يختار أشرف موتة؟! وجود اليقين بما بعد الموت هو الذي يجعل الإنسان يبذل روحه في سبيل الله. أما الخوف من الموت فإن الإنسان يخاف من لقاء الله سبحانه وتعالى ومحاسبته له على ما فعل، فإذاً: هناك ارتباط بين اعتقاده بالفارق بين الدنيا والآخرة، فإذا كان الإنسان قد خرب الدنيا وعمّر الآخرة فإنه يحب الانتقال من الخراب إلى العمران؛ لكن إذا كان قد عمّر الدنيا وخرّب الآخرة فهو يخاف الانتقال من العمران إلى الخراب، فلذلك كان هذا الارتباط في غاية الدقة وفي غاية القوة والمصداقية.

تفسير قوله تعالى: (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم)

تفسير قوله تعالى: (ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم) يقول الله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7]. ((وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم)) أي: بسبب المعاصي والسيئات والكفر، وأعظم الكفر الذي وقعوا فيه هو ما أسلفوه من تكذيب النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، جاء في بعض الأحاديث: (أنهم لو تمنو الموت لماتوا)، فكان في ذلك بطلان قولهم وما ادعوا أنهم أولياء لله وأحباء الله تبارك وتعالى. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) أي: سيجازيهم على أعمالهم، وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:94 - 95] ففي هذا إخبار عن الغيب، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث إنهم لم يتمنوا الموت ولم يستجيبوا لهذا التحدي.

تفسير قوله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه)

تفسير قوله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه) قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]. (قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي تخافون أن تتمنوه بألسنتكم مخافة أن يصيبكم فتقهروا بأعمالكم. (فإنه ملاقيكم) لا مفر من الموت، يقول زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلم وقال طرفة: وكفى بالموت فاعلم واعظاً لمن الموت عليه قد قدر فاذكر الموت وحاذر ذكره إن في الموت لذي اللب عبر كل شيء سوف يلقى حتفه في مقام أو على ظهر سفر والمنايا حوله ترصده ليس ينجيه من الموت الحذر قوله: (قل إن الموت الذي تفرون منه) أي: الذي إن فررتم منه، (فإنه ملاقيكم) فكلمة: (الذي) مع إنها اسم موصول لكنها تضمنت معنى الشرط والجزاء، فقوله: (فإنه ملاقيكم) فيه مبالغة للدلالة على أنه لا ينفع الفرار من الموت. {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: من الأعمال حسنها وسيئها فيجازيكم عليها. وقوله: ((فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)) مثل قول الله تبارك وتعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]، وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس فتمنوا الموت؛ لأن ولي الله حقاً يتمنى لقاءه والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم. يقول: هذا الزعم المجمل هنا: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) بينه بقوله عن اليهود وعن النصارى حين قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فرد الله عليهم هذا الزعم بقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18]. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة:94 - 95]، وقيل: المراد بقوله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ)) أي: تعالوا نباهلكم حتى يظهر الله الكاذب من الفريقين، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء لله. وقوله تعالى: ((إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ)) ثم قال: ((إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)) شرطان يترتب الآخر منهما على الأول، أي: فتمنوا الموت إن صدقتم في زعمكم، ونظيره في كلام العرب قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن ترعووا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم إذاً: اليهود لا يتمنون الموت أبداً، وهذا معروف عن اليهود، فشيمتهم التشبث الشديد بالحياة وحب المال، والسبب في عدم تمنيهم الموت هو ما قدمت أيديهم، لكن لم يبين هنا في هذه السورة ما هو الذي قدمته أيديهم، والذي حال دون تمني الموت هو شدة حرصهم على الحياة، كما بينه قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار، ولو تمنوا لماتوا من حينهم. ((بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) هذه الباء سببية، والمسبب انتفاء تمنيهم. ومن هذه الأسباب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181] والذين قالوا هذا القول الكفري هم اليهود. فبسبب هذه المذكورات لم يتمنوا الموت، بل هم كما قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] فهم قد أيقنوا بالهلاك ويئسوا من الآخرة، قال تعالى في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13] أي: أن هؤلاء اليهود آيسون من رحمة الله، ولذلك لم يتمنوا أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة. ((لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) الغضب يكاد يكون عَلماً على اليهود، وقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وهم اليهود كما جاء في الحديث الصحيح، {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهم النصارى. فغضب الله من خصائص اليهود؛ لأنهم أحق الناس بصفة الغضب، وهم الأمة المغضوب عليهم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي) يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]. هذا الموضع يتعلق بتفسير آيات الأحكام، أحكام الأذان وأحكام يوم الجمعة وصلاة الجمعة، وقد سبق أن درسناه بالتفصيل في الفقه، لكن من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب تفسير آيات الأحكام. قوله: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) (من) هنا بمعنى: (في) كما في قول الله تبارك وتعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} [فاطر:40] أي: أروني ماذا خلقوا في الأرض. وقيل: إن (من) في قوله: ((مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) تبعيضية. لقد ربط الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بين صلاة الجمعة وبين الحج حيث يقول: هذه الآية الكريمة وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28] وقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198]. ففي كلٍ منهما نداء للصلاة، ففي الجمعة قال: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) وفي الحج قال: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)) كلاهما أذان وإعلان وأذان الحج فيه صلاة وسعي وذكر لله ثم انتشار وإفاضة، {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وهذا مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلفا في الكيف. وهذا أيضاً مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهميةً عن مباحث الحج، وتتطلب عناية بها كالعناية به، ومن هنا فصل الشيخ عطية سالم الكلام في أحكام الجمعة، اقتداءً بشيخه الشنقيطي، فإنه في الجزء الخامس لما شرح تفسير سورة الحج توسع في أحكام الحج، وهو حوالي ثلاثمائة وخمس وخمسين صفحة كلها في فقه الحج، ما عدا مائة واثني عشر صفحة في أحكام صلاة الجمعة، فهو رابط بينهما لوجود وجه الشبه بين الحج وصلاة الجمعة. يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) أي: عند جلوس الإمام على المنبر؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداءٌ سِواه، كان إذا جلس على المنبر أذن بلال رضي الله تعالى عنه. ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) ذكر الله الخطبة والصلاة؛ لأن الخطبة والصلاة هما المؤكدتان في ذلك. ((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) أي: ذروا البيع في ذلك الوقت. قال أبو مالك: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير فيشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة يوم الجمعة ولا يقومون، فنزلت: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ)). قوله: ((ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ)) أي: سعيكم للصلاة وترك البيع خير لكم مما نفعه يسير وربحه فائض. ((مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)) أي: من الصلاة في يوم الجمعة. ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)) لقد منع الله سبحانه وتعالى من البيع عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها، بخلاف من تسقط عنهم صلاة الجمعة كالمسافر والصبي والمرأة والمريض. البيع يطلق على الشراء أيضاً فلذلك اكتفى الله سبحانه وتعالى بذكر أحدهما: ((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) مثل قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: وتقيكم البرد؛ وخص البيع لأن أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، لأن المشتري لا بد له من بائع، فإذا سُد المنبع ومُنع البائع من أن يبيع، فالمشتري لن يجد أحداً يشتري منه. ((وَذَرُوا الْبَيْعَ)) هذا أمر بالترك وهو أقوى من النهي، أي: أقوى من أن يقال: (لا تبيعوا) وهو مثل قوله تعالى في الخمر: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] وهو أقوى من قوله: (لا تشربوه). في هذه الآية أوضح دليل يُرد به على من يُلبس الشيطان عليهم بانشغالهم بأمر الرزق، وبما يزعمونه من أن العمل عبادة، مثلما يقول أحدهم: نحن في عبادة والعمل عبادة، فيضيعون الصلاة احتجاجاً بالرزق. هذه الآية تأمر أمراً واضحاً بترك السعي للرزق إذا جاء وقت الصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]. {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي: اتجروا واربحوا كما تشاءون، فمثلها أيضاً قوله تعالى في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37] إلى آخره، فهذا أيضاً مما يبطل الدعوى في الانشغال بالرزق عن الصلاة، فأشار الله سبحانه وتعالى إلى أن الانشغال بالصلاة هو أحد أسباب إدرار الزرق كما في سورة طه يقول تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].

معنى السعي في قوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله)

معنى السعي في قوله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله) اُختلف في المقصود بقوله تبارك وتعالى: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)). فالسعي يطلق على أمور عدة: الأول: أن السعي يأتي بمعنى القصد. قال الحسن في تفسير هذه الآية: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. القول الثاني في تفسير السعي: أن المقصود بالسعي العمل، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] وقوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4]، وقال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وقال زهير: سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم أي: أن هناك رجلين من قبيلة غيظ بن مرة سعيا في تحصيل الديات فعملا عملاً حسناً، لكن بعد أن قام ناس فقتلوا قتيلاً فحصل بينهم تصدع في القبيلة، فسعى هذان الرجلان من قبيلة غيظ بن مرة في جمع الديات حتى لا يحصل تصدع بين الناس وقتال. وقال الشاعر أيضاً: إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد يعني: أن أفضاله عليه لا يمكن أن يوفيها. المعنى الثالث من معاني السعي: المشي على الأقدام المنافي للركوب، وذلك له فضل، ذكر البخاري (أن أبا عبس بن جبر رضي الله عنه مشى إلى الجمعة راجلاً على قدميه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) إذاًَ: الأفضل أن يخرج العبد المسلم إلى الصلاة ماشياً؛ استدلالاً بهذا الحديث. فالسعي هنا بمعنى المشي على الرجلين مخالف للركوب. المعنى الرابع من معاني السعي: الجري السريع والاشتداد، فهذا هو أحد معاني كلمة السعي، لكنه غير مراد هنا، ولذلك قال المفسرون: وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: (فامضوا إلى ذكر الله) وهذه قراءة تفسيرية. وقال ابن مسعود: (لو قرأت: (فاسعوا) لسعيت حتى يسقط ردائي). وهذا كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير والتعليم والإفهام، فتكون قراءة مفسرة، وليس معنى ذلك أنها أوحيت إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك قال الشاعر: أسعى على جل بني مالك كل امرئ في شأنه ساعي يسعى عليهم يعني: ينفق عليهم. ومما يدل على أنه ليس المراد بالسعي هنا العدو حديث (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (فلا تأتوها وأنتم تسعون) أي: لا تأتوها بالجري، فهذا منهي عنه إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان قريباً من المسجد وسمع إقامة الصلاة، فهنا يجري كي يدرك تكبيرة الإحرام. وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك. فجمع مع السعي بالقلب القصد والعمل. هذا فيما يتعلق بمعنى قوله تعالى: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)). مسألة: كره بعض السلف التفرغ عن العمل يوم الجمعة، ورأى بعضهم أن في ذلك تشبه باليهود؛ لأن العمل يوم الجمعة فيه التزام بالأمر هنا، كما في قوله سبحانه: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].

تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة)

تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة) قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]. قوله: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ)) أي: إذا أديت وفُرغَ منها. ((فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) الأمر هنا في قوله: (فَانتَشِرُوا) ظاهره الوجوب، لكن هناك قرائن تفيد الإباحة، وهي أنه جاء بعد نهي، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] بعد النهي عن الصيد في حال الإحرام أتت الإباحة. قوله: ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) قال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله تعالى، فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر، وإن كان كثير التسبيح. ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) أي: اذكروا أمره ودينه وشرعهُ دائماً، لتصير ملكة لكم تظهر آثارها على أعمالكم وأخلاقكم، فتفلحوا بسعادة الدارين. وقال ابن جرير: أي: اذكروه بالحمد له، والشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق بأداء فرائضه لتفلحوا، فتدركوا طلباتكم عند ربكم، وتصلوا إلى الخلد في جنانه.

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها)

تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11]. ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً)) سبب نزولها: أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة، فأقبلت عير من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً. ((أَوْ لَهْوًا)) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع. ((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها وإنما أوثر ضميرها فقال: ((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) ولم يقل: (انفضوا إليهما) ولا قال: (انفضوا إليه)؛ لأن التجارة هي الأساس، أما اللهو فهو شيء تابع. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها. قال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر قراءة أخرى: (انفضوا إليه) بعود الضمير إلى اللهو، وهذا التوجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذيبان: وقد أراني ونعماً لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار فهنا ذكر الدهر والعيش وأعاد عليهما ضميراً منفرداً؛ اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به، وهو كما قال ابن مالك: وحذف ما يعلم جائز أي: وحذف ما يعلم من السياق جائز. فلم يقل: (يهمّا)، فهو كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: تقي الحر وتقي البرد، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر. لكن المقام هنا خلاف ذلك، وقد قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب: لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو. أي: أن الضمير يعود إلى أحد الأمرين التجارة أو اللهو. قال: بدلالة لفظة (أو) على ذلك. أي: فإنه قال: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا)) أي: إذا رأوا أحد الأمرين. قال: ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة. و A أن التجارة أهم من اللهو، وأقوى سبباً في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم انفضوا من أجل العير، واللهو كان من أجل قدومها. مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله، أما في العطف بـ (أو) فواضح، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:112]، وأما (الواو) فهو فيها كثير مثل قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة:45]. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:62]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34]. قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} [النساء:112] الخطيئة والإثم متساويان في النهي والعصيان. وكذلك قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] فالصبر هو حبس النفس على الطاعة، والصلاة هي جزء من الصبر، ووجود الأخف يقتضي وجود الأعم؛ لأن الصلاة وسيلة للصبر: (وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة). كذلك قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:34] فالضمير في قوله: (ولا ينفقونها) عائد على الفضة؛ لأن كنز الفضة أكثر، وصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع لدى كثير من الناس، فكان توجيه الخطاب إليهم بها أولى، والقيمة النقدية للفضة أقل والذهب أعظم، فكأن هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه أشمل وأعم وأشد تخويفاً للناس! أما الآية هنا فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ رحمه الله تعالى لعود الضمير على التجارة، فإنه في السياق ما يدل عليه، وذلك في قوله تعالى بعدها: ((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)) فذكر السببين المتقدمين لانفضاضهم عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عقبه بقوله تعالى، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] والرزق ثمرة التجارة. ونقل أبو حيان عن ابن عطية: تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤيا؛ لأنها أهم، وأُخرت مع التفضيل؛ لتقع في النفس أولاً على الأبين. يريد بقوله: (في الرؤيا) قوله: ((وَإِذَا رَأَوْا)) وبقوله: (مع التفضيل) قوله: ((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)) أي: لأن اللهو أبين في الظهور. يقول: والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط؛ لأن اللهو لا خير فيه مطلقاً فليس محلاً للمفاضلة، وأخر التجارة لتكون أقرب للرزق؛ لارتباطهما معاً؛ لأن التجارة من الأصلح كونها عند الله خيراً من اللهو. فلو قدمت التجارة هنا لكان ذكر اللهو فاصلاً بينها، فلو قال: (قل ما عند الله خير من التجارة ومن اللهو والله خير الرازقين). لكان أنسب أن تؤخر التجارة حتى تكون ملتصقة بما هو مرتبط بها وهو الرزق. وقال الشهاب في قوله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً)): كما قلنا إنها التجارة. ((أو لهواً)) أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد والنفع. ((انفَضُّوا إِلَيْهَا)) أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم والمقصود. ((وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) على المنبر. ((قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ)) أي: من الثواب المرجو بسماع الخطبة والعظة بها. ((خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ))؛ لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه من التجارة فثوابها نافذ. وقال الشهاب أيضاً: وتقديم اللهو؛ لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم. ((وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ويرزق من يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل ويبتدئ بالإعطاء من لا يسأل، وغيره إنما يرزق من يرجو منفعته ويقدر على خدمته، ويقبل على خدمته، حتى الذي يعطي شخصاً فقيراً صدقات مثلاً فهو يعطيه هذه النفقة لأجل منفعة، وهي أنه يقصد بذلك الثواب والأجر في الآخرة، أما الله سبحانه وتعالى فهو الغني الحميد، والله غني عن عباده، فقوله تعالى: ((وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) أي: اعملوا الأعمال الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل والثقة بفضله فإنه خير الرازقين.

تنبيهات وأحكام تؤخذ من سورة الجمعة

تنبيهات وأحكام تؤخذ من سورة الجمعة التنبيه الأول: قد عرفنا الارتباط الموضوعي بين الآيات في الجزء الأول من السورة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:2 - 4]، ثم قال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة:5] وتكلمنا عن الارتباط بين هذه وبين ما قبلها: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] إلى قوله تبارك وتعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا))، ثم قال تعالى بعد قوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} [الجمعة:8] إلى آخر الآية، ثم ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)). يقول الرازي: وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت بمتاع الدنيا وطيباتها، والذين آمنوا يبيعون ويشرون بمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم الله تعالى بقوله: ((فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) إلى ما ينفعهم في الآخرة وهو حضور الجمعة؛ لأن الدنيا وما فيها فانية، والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]. ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم بقوله: ((فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))، وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، وافتخروا بالسبت وأن ليس للمسلمين مثله فشرع الله للمسلمين يوم الجمعة. قال المهايمي في وجه المناسبة: بيَّن تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير، لاسيما الشكر على الإنسانية؛ لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر الذي جرهم إلى الحمارية أو البهيمية. التنبيه الثاني: وقال السيوطي في الإكليل في قوله تعالى: ((إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)): فوائد الآية باختصار: مشروعية صلاة الجمعة والأذان لها، والسعي إليها، وتحريم البيع بعد الأذان، واستدل بالآية من قال: إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيها النداء، واستدل بها من قال: لا يحتاج إلى إذن السلطان؛ لأنه تعالى أوجب السعي ولم يشترط إذن أحد، ومن قال: لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور. وقال في الإكليل في قوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) فيها إباحة الانتشار عقب الصلاة فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها. ونحن نعرف أن صلاة الجمعة لابد لها من خطبة، والدليل على وجوب الخطبة من السورة قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] لولا أن حضور الخطبة والإنصات إليها واجب، لما عاب الله تركهم للخطبة؛ لأن قوله: ((وَتَرَكُوكَ قَائِمًا)) أي: قائماً في حال الخطبة. وأيضاً يؤخذ من هذا: أن الأصل في الإمام أن يخطب خطبة الجمعة قائماً. كذلك يؤخذ منها: تقديم الخطبة على الصلاة، بدليل قوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) بخلاف صلاة العيد فإن الخطبة تأتي بعد الصلاة. في الجمعة تكون الخطبة أولاً ثم الصلاة ثم الانتشار، وهذا هو الذي يفهم من الآية: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: يفهم أن الخطبة تكون مقدمة على الصلاة؛ لأنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما، غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنفل بعدها في بيته ركعتين أو أربعاً، وأما اعتقاد فرضية الظهر بعدها إذا تعددت فتعصب مذهبي لا برهان له. يقول القاسمي: الحاجة في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم ولا يمكنهم إقامة جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة، التي لم تشيد لمثلها قد هول فيه السبكي في فتاوية؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل تسميتها جمعة على وزن وصيغة (فُعلة) في اللغة للمبالغة، وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأقوام يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت والتي لا تعاد الظهر بعدها. التنبيه قبل الأخير: يدل قوله تعالى: ((وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) على عدم مشروعية تعطيل يوم الجمعة، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد، والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم ولا الهدي النبوي فهو تشريع ما لم يأذن به الله، وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، فما بالنا نستدرها إلينا بالأسباب الضعيفة، اللهم غفراً. إذاً: التحذير من التشبه باليهود أو بالنصارى وبالذات اليهود في موضوع يوم السبت؛ لأن بعض المسلمين قد يلزم نفسه بأشياء أو يمتنع عن فعل أشياء يوم الجمعة تعظيماً ليوم الجمعة، مثلاً: بعض النساء قد تمتنع من غسيل الملابس أو تنظيف البيت يوم الجمعة، فهذا فيه تشبه باليهود الذين يمتنعون عن الأعمال يوم السبت، ويجعلون ذلك من تعظيم يوم السبت، فمن ثم استحب بعض العلماء الشروع في التجارة والعمل عقب صلاة الجمعة مباشرة؛ امتثالاً لقوله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)). التنبيه الأخير: قال في الإكليل في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]: يؤخذ منه مشروعية الخطبة والقيام فيها واشتراط الجماعة في الصلاة، وسماعهم الخطبة، وتحريم الانفضاض، وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (قدمت عير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلاً، فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11]). وروى ابن جرير عن جابر قال: (كان الجواري إذا نكحوا يمرون بالكبر والمزامير ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر وينفضون إليها، فأنزل الله تعالى: ((وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا))). هذا آخر ما تيسر في تفسير سورة الجمعة، والله أعلم.

التغابن [1 - 7]

تفسير سورة التغابن [1 - 7]

تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك)

تفسير قوله تعالى: (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك) سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون، وآيها ثماني عشرة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: هي مكية على ما يظهر من أمثالها من السور، أي: موضوع هذه السورة وسياقها يستأنس به في كونها سورة مكية؛ لأنها تشبه نظائرها من السور المكية، وقيل: مدنية. قال الله سبحانه وتعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1]. قوله تعالى: ((يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ)) أي: له ملك السماوات والأرض ونفوذ الأمر فيهما. قوله: ((وَلَهُ الْحَمْدُ)) أي: له الثناء الجميل؛ لأنه مُولي النعم وموجدها.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2] أي: هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم قابل للكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر جاحد للحق كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم، فالله سبحانه وتعالى يخلقكم على الفطرة السوية فطرة التوحيد ومع ذلك منكم كافر ومنكم مؤمن، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه، بل تشعبتم شعباً وتفرقتم فرقاً. قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) هنا قدم الكافر لأنه الأكثر، قال عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فتقديم الكفر باعتبار أن أغلب الناس على هذا الكفر، وأيضاً تقديم الكفر هو الأنسب لمقام التوبيخ. قوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) أي: سيجازيكم به فآثروا ما ينفعكم، وجانبوا ما يهلككم. قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً. وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعلم أهل الجنة فيدخلها) خرجه البخاري والترمذي، وليس فيه ذكر الباع. وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم. لأنه لا يقع في هذا الوجود إلا ما سبق به علم الله عز وجل وقضاؤه وقدره، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال من وقت أن يكلف إلى أن يموت فيثبته على الإيمان، ومنهم من يريد إيمانه إلى وقت معلوم ثم والعياذ بالله بعد ذلك ينتكس عن ذلك، كذلك الكفر منهم من يشاء الله سبحانه وتعالى أن يخلقه كافراً على وجه العموم، حتى إنه يقضي عمره كله في الكفر، ومنهم من يريده كافراً إلى وقت قد قضاه الله سبحانه وتعالى. فقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) مثل قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3]. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه. يعني: يفهم من السياق أيضاً أن من الناس من يكون فاسقاً مؤمناً مرتكباً للكبائر أو المعاصي، وهذا القول قاله الحسن، وقال غيره: لا حذف؛ لأن المقصود ذكر الطرفين: الكافر والمؤمن، أما ما بينهما فما قصد الإشارة إليه في هذه الآية الكريمة. وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، قالوا: وتمام الكلام: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) فتقف ثم تبدأ وتقول: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، وهذا كقول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] قالوا: فالله خلقهم والمشي هو فعلهم. وهناك تفسير لقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) أنه إشارة إلى فعل الله فقط، وأنه هو الذي خلقكم وجعل منكم كافراً وجعل منكم مؤمناً، وهذا على أن الإنسان هو الذي شاء ذلك الكفر والإيمان، أما على القول الآخر: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) ففيه إثبات لحقيقة أن منكم من يكفر ومنكم من يؤمن، فالكلام هنا على فعل المخلوقين، مثل قوله تبارك وتعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)) وانتهى الكلام، ثم يقول تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ)) فأعاد الكلام على فعل هذا المخلوق، فالله خلقهم والمشي فعلهم، ونفس هنا المعنى في هذه الآية واختاره الحسين بن القاضي وقال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). إذاً: لا يوجد تعارض بين التفسير الأول وبين هذا الحديث؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، لكن من الناس من يشاء الله سبحانه وتعالى أنه بعد التكليف يكون كافراً، ومنهم من يشاء الله أن يكون مؤمناً، وما المقصود بالفطرة؟ المقصود بها التوحيد والإسلام، أي أن كل مولود يولد على الإسلام، وعنده الاستعداد لتقبل الحق، وليس أنه يولد فقيهاً أو حافظاً للقرآن، بدليل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] فالمقصود هنا الاستعداد لدين الحق، فالأصل هو التوحيد ثم يأتي الشرك ويطرأ عليه بعد ذلك لسبب من الأسباب، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم لأخطر سبب من هذه الأسباب -وهو تأثير البيئة على الأولاد- فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وقال الضحاك: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كـ عمار وذويه، ممن تلفظ بكلمة الكفر بسبب الإكراه. وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، وهذا إشارة إلى الحديث الذي فيه أنهم أصبحوا وقد نزل المطر من السماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة: (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) فـ عطاء بن أبي رباح فسر الآية بهذا الحديث. وقال الزجاج: وهو أحسن الأقوال، لكن الذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة: أن الله سبحانه وتعالى خلق الكافر وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجب لكل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، ولا يليقان بالله تبارك وتعالى، وفي هذا من التوسط لفهم عقيدة القضاء والقدر سلامة من بدعة الجبرية الذين يسلبون العبد إرادته، وبدعة القدرية الذين ينفون القدر السابق، فالحق وسط بين الأمرين: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو قدر وقوع الكفر من فلان ثم وقع خلاف الذي قدره الله فهذا عجز لا يليق بالله سبحانه وتعالى، وكذلك إذا علم الله سبحانه وتعالى وقوع الإيمان من شخص ثم وقع الكفر من هذا الذي علم الله منه أنه مؤمن ووقع خلاف المعلوم فهذا جهل لا يليق بالله سبحانه وتعالى، يقول الشاعر: يا ناظراً في الدين ما الأمر لا قدر صح ولا جبر لا مذهب الجبرية صحيح ولا مذهب القدرية، وإنما الحق وسط بين الطرفين. قال سيلان: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه تبارك وتعالى. قضية القضاء والقدر من أخطر القضايا؛ لأنها سدس الإيمان، فهي أحد أركان الإيمان الستة، وأركان الإيمان هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى. إذاً: لا ينجو الإنسان ولا يصح له الإيمان حتى يؤمن بقضاء الله وقدره تبارك وتعالى. وقضية القضاء والقدر ليس كما يتصورها بعض الناس أنها عقد جلسات للجدل والمماراة كما يحصل من بعض الشباب، وكل واحد يدلي بدلوه بحسب اجتهاده، هذا يقول: الإنسان مخير، والآخر يقول: هو مسير، وكأن الموضوع متروك لاجتهادات الناس! كلا، فالإيمان بالقدر هو الركن الركين من أركان العقيدة الإسلامية، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام نصوصاً من القرآن تبين لنا ما الذي يجب أن نؤمن به في القضاء والقدر، وهذه الحقائق التي اشتملت عليها هذه النصوص لا سبيل إلى اكتشافها بالعقل، فلم يبق إلا أن يوحى إلينا عن طريق الوحي الصادق بهذه الحقائق الغيبية بالنسبة إلينا، فمثلاً: آية الميثاق هذه من الأمور المتعلقة بالخوض في القضاء والقدر وهي قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] إلى آخره، فهذا أمر غيبي، لا يمكن أبداً للعقل أن يصل إليه، والإيمان بهذا الأمر وهذا التقدير أمر في غاية الأهمية، كذلك أنواع التقدير وأنواع الإرادة ونحو ذلك يجب أن نتعلمه بالتلقي

تفسير قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق)

تفسير قوله تعالى: (خلق السموات والأرض بالحق) يقول تبارك وتعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3]. قوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية. وقال القرطبي: أي: خلقها حقاً يقيناً لا ريب فيه، وقيل: (الباء) بمعنى (اللام) في قوله: (بِالْحَقِّ) أي: للحق. ما هو هذا الحق؟ هو أن يجزي الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. قوله: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)) أي: حيث برأكم في أحسن تقويم كما قال عز وجل {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]؛ وذلك أنه تعالى جعل الإنسان معتدل القامة على أحسن هيئة، وهذه بلا شك من معاني خلق الإنسان في أحسن تقويم، فإذا قارنت الإنسان بغيره من الدواب والمخلوقات لوجدت هذا التكريم العظيم، أولاً في الهيئة والصورة، فلا يوجد مخلوق هو أحسن هيئة من الإنسان؛ لأن من المخلوقات من يزحف على بطنه، ومن يمشي على أربع، أما الإنسان فهو المختص بأنه يمشي على رجلين معتدل القامة بقدرة الله تبارك وتعالى. وآتاه نعمة العقل الفارقة بين الإنسان وبين الحيوان، فهذا أيضاً من خلق الإنسان في أحسن تقويم. وآتاه قوة النطق حتى إنهم ليقولون: الإنسان حيوان ناطق. كذلك آتاه قوة التصرف في المخلوقات بحيث سخرها الله عز وجل له. كذلك القدرة على أنواع الصناعات، فالإنسان عنده من الطاقات والقدرات ما جعله الله عز وجل بها قادراً على تسخير ما في الأرض لصالحه، وهذا هو المعنى الأقرب، وإن كان بعض العلماء قالوا: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي: صور أباكم آدم عليه السلام وخلقه بيده كرامة له، لكن القول الأقرب أنه خلق جميع الخلائق وجعل الإنسان أحسن الحيوانات كلها وأبهاها صورة، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، هل يوجد إنسان يتمنى أن يكون سمكة أو عصفواً أو قرداً أو حصاناً؟ يستنكف الإنسان من ذلك، فهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى كرمه قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، والمخلوقات كلها مسخرة من أجل هذا الإنسان، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى خلقه في أحسن صورة وفي أحسن تقويم، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكس كالحيوانات التي تمشي على أربع أو غير ذلك، كما قال عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، فمن خلقه الله في أحسن تقويم هل يليق أن يزعم الزاعمون الكذابون أن الإنسان والشمبانزي (القرد) ينحدران من أصل واحد كما يزعم الضال داروين ومن تابعه؟ لا يمكن أبداً، وهذا الكلام لا يقوله إلا ملحد، أما نحن فقد علمنا حقيقة خلقنا بالوحي، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن هذا الغيب؛ لأنا لم نر آدم عليه السلام، وإنما كان آدم يعرف ربه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37]، {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23] أي: كان آدم وحواء يعرفان الله، وكانا على التوحيد، وكانا على أكمل صورة، وآدم كان نبياً كما جاء في الحديث، أما هؤلاء الملاحدة فإنهم يصورون ما يسمونه بالإنسان الأول على أنه أقرب ما يكون من القردة، ومن ثم يترقى كذا وكذا! فهذا مما يتصادم صراحة مع قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]. قوله: ((وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) أي: المرجع فيجازي كلاً بعمله.

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون)

تفسير قوله تعالى: (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون) قال الله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن:4] أي: أنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء. قوله: ((وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) أي: يعلم خفايا الصدور وما تنطوي عليه. وقوله: ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) فيه تقرير لأول الآية وهي قوله: ((يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ))؛ لأنه إذا علم السرائر وخفايا الضمائر لن يخفى عليه خافية من جميع الكائنات. قال الزمخشري: نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور؛ أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه. فالله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء على الإطلاق، ويعلم تفاصيل وجزئيات كل ما في الوجود. ثم قال: فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. أي: فتكرار صفة العلم فيها نوع من تكرار الوعيد، وأنه سوف يحاسبكم على ما يعلمه منكم. ثم قال: وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. فقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فيها وعيد بأنه سوف يجازيهم، كذلك قوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) هذه نعمة الخلق وتقتضي الشكر، وبالتالي يعاقب من كفر، وقوله: ((يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) هذه فيها معنى الوعيد.

تفسير قوله تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل)

تفسير قوله تعالى: (ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل) قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن:5] أي: ألم يأتكم معشر الكفرة الفجرة، وقيل الخطاب لقريش: ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط. ((فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)) أي: من عذاب الاستئصال، والوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور. قوله: ((أَمْرِهِمْ)) أي: كفرهم، وعبر عنه بذلك؛ للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة. قوله: ((وَلَهُمْ)) أي: في الآخرة ((عَذَابٌ أَلِيمٌ)).

تفسير قوله تعالى: ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم

تفسير قوله تعالى: ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6]. قوله: ((ذلك)) تعليل، أي ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا وما أعد لهم من عذاب الأخرى؛ بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة على حقيقة ما يدعونهم إليه فنبذوها واتبعوا أهواءهم، واستهزءوا برسلهم وقالوا: ((أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)). قال ابن جرير: قالوا ذلك استكباراً منهم أن تكون رسل الله إليهم بشراً مثلهم، واستكباراً عن اتباع الحق من أجل أن بشراً مثلهم دعاهم إليه! وهذه الشبهة طالما احتج بها الكفار، وقد اقترحوا نزول الملائكة حيث زعموا أن البشرية تتعارض مع الرسالة، وقالوا: كيف يكون بشراً رسولاً وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثلنا؟! لكن الله سبحانه وتعالى قال لهم: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8] يعني: أن الملك لا ينزل إلا بالعذاب والاستئصال، وقال لهم: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] يعني: الملك إما أن يأتيهم في صورة غير صورتهم، فهم لن يطيقوا رؤية صورته، أو يأتي في صورة بشر فيلتبس عليهم الأمر من جديد، أو يأتيهم الملك في صورته الحقيقة ولن يكون ذلك إلا إذا نزل للعذاب. وقال تعالى هنا: ((فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)) بالجمع ولم يقل: أبشر يهدينا؛ لأن البشر وإن كان يطلق على واحد فإنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: ((يَهْدُونَنَا)). قوله: ((فَكَفَرُوا)) أي: بالحق والدين والرسول، أي: كفروا بهذا القول إذ قالوه استكباراً، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده، وقيل: كفروا بالرسول وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. قوله: ((وتولوا)) أي: عن التدبر في الآيات البينات. قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)) أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى لما فعل ذلك، إذاً: الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، وهو في كل حال مستغن عن عباده. وقيل في قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)): أي: استغنى الله مما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية. وقيل: يجوز أن يكون حالاً بتقدير (قد) أي: وقد استغنى الله بكماله وذاته عرفوا أو لم يعرفوا. قوله: ((وَاللَّهُ غَنِيٌّ)) أي: بذاته عن العالمين، فإذا كان غنياً عن العالمين فهو غني بالأولى عن إيمانهم؛ لأنه لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له. قوله: ((حَمِيدٌ)) أي: يحمده كل مخلوق، أو هو حميد مستحق للحمد بنفسه وإن لم يحمده حامد؛ لأن واقع كل مخلوق أنه يحمد الله سبحانه وتعالى ويثني عليه بما هو أهله.

تفسير قوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا)

تفسير قوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا) قال تبارك وتعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7]. قوله: ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)) أي: ظنوا، والزعم هو القول بالظن، قال شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب (زعموا). وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب، ثم عمت كل كافر. ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)) قل يا محمد: ((بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ)) أي: لتخرجن من قبوركم أحياء. ((ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ)) أي: تخبرن بأعمالكم. ((وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) إذ الإعادة أسهل من الابتداء، وقد تكلمنا في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] وقلنا: إن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا على قدر عقولنا، إذا القدرة في حقنا نحن أن إعادة الشيء أسهل من القدرة على ابتدائه، وهذا أمر معروف في طاقة وعلوم البشر وفي إمكاناتهم.

التغابن [14 - 18]

تفسير سورة التغابن [14 - 18]

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14]. إن قعود الشيطان للإنسان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة. الثاني: أن يسلط على هذا الإنسان الزوجة أو الولد أو الصاحب. إذاً: الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان، وقعد له في طريق الهجرة، وقعد له في طريق الجهاد، وقلنا: إما أن يوسوس مباشرة في قلب الإنسان، وإما أن يسلط عليه نواباً يوصلون هذه الرسائل المثبطة إلى قلبه، كالزوجة أو الولد، يقول تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت:25] وفي حكمة عيسى عليه السلام: (من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً). وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة -وهي كساء أسود مربع له أعلام وخطوط-، تعس عبد القطيفة -وهي بساط له أهداب-، تعس وانتكس -يعني: هلك وانتكس حيث عاوده المرض كما بدأ به، أو انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة-، وإذا شيك -أي: إذا أصابته شوكة- فلا انتقش -أي: لم تخرج شوكته بالمنقاش-). لا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد! يقول القرطبي: كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً. أي: أن المرأة قد تكون هي الضحية؛ لأن كلمة أزواجكم في قوله: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)) عامة يدخل فيها الذكر والأنثى. قوله: ((فاحذروهم)) الحذر على النفس يكون بوجهين: إما لضرر في البدن، أو لضرر في الدين، وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة، فحذر الله سبحانه العبد بذلك وأنذره منه. عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) قال: (كان رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله عز وجل: ((وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ))). وقال مجاهد في الآية: ما عادوهم في الدنيا، ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد، وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم.

تفسير قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)

تفسير قوله تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] نجد أن هناك قاسماً مشتركاً بين الفتنة والعداوة في الآيتين، والقاسم المشترك هم الأولاد، ففي الآية الأولى قال تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)) وهنا قال عز وجل في هذه الآية: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ))، فالأولاد قاسم مشترك يدل على أن هذه الفتنه من نوع خاص، حيث يخاف منها أكثر مما يخاف من غيرها. قوله: ((فِتْنَةٌ)) أي: بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى، فلا تطيعوهم في معصية الله، وقد جاء في بعض الآثار: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أكل عيالُه حسناته). والعيال كلمة عربية فصيحة يدخل فيها كل من يعوله الإنسان، يدخل فيها الزوجة والأولاد وكل من يعولهم وينفق عليهم. يقول بعض السلف: العيال سوس الطاعات. يعني: كما أن السوس يأتي إلى لوح الخشب وينخر فيه حتى يضيع وينهار فكذلك الطاعات قد يفسدها الافتتان بالأولاد. وقال القتيبي: في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)): أي: إغرام، يقال: فتن الرجل بالمرأة أي أغرم بها، وقيل: فتنه محنه، ومنه قول الشاعر: لقد فتن الناس في دينهم وخلا ابن عفان شراً طويلاً وقال ابن مسعود: لا يقولن أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة؛ فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. أي: ما من إنسان إلا وهو مبتلى، كما قال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] وقال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وقوله سبحانه: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] فالإنسان في هذه الحياة كلها مفتون ومبتلى. وقال الحسن: في قوله تعالى: ((إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)): أدخل (من) -وهي للتبعيض- لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر (من) في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) لأن الأولاد والمال لا يخلوان من الفتنة وانشغال القلب بهما. وكيف نجمع بين قول ابن مسعود وبين الدعاء المأثور: (أعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)؟ ونقول: في هذه الحالة أنت لا تقصد بتعوذك من الفتن أصل الابتلاء؛ لأن الابتلاء لا ينفك عن الإنسان، ولا يصح أن تقول مثلاً: اللهم لا توردني على جهنم! هذا لا يليق، وليس من الأدب، وليس من فقه الدعاء أن تدعو بشيء قطع بأنه كائن؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] لم يبق أحد من الخلق إلا ويرد على النار. فكذلك إذا قصدت بالدعاء التعوذ من الفتنة التي بمعنى الابتلاء فهذا لن يقع، ولذلك لما جاء خباب بن الأرت يشكو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقوا من أذى قريش صبرهم، قال خباب: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟) فالرسول صلى الله عليه وسلم عدل عن الدعاء بعدم البلاء إلى تعزيتهم وتسليتهم، بما جرى لمن قبلهم، وبين لهم أن هذه سنة ماضية لا تتخلف. فإذا تعوذت من الفتنة عموماً فيكون تعوذك من الفتنة التي تضلك في دينك، أما الفتنة التي هي بمعنى الاختبار، فالحياة كلها اختبار، ولا يبقى أحد أبداً بدون فتنة اختبار وامتحان؛ لأن الإنسان مبتلى إما بنعمة وإما بنقمة أو مصيبة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن خلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكِّر ذكر)، وكما قال الراهب للغلام: (إنك خير مني وإنك ستبتلى)، وكما قال ورقة بن نوفل للرسول عليه الصلاة والسلام: (هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيه جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم؟! قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) فانظر إلى هذه القاعدة: (لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا أوذي)، فهذه سنة الله ماضية، ولذلك الشافعي لما قال له الرجل: أيهما خير للإنسان أن يمكن أو أن يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى. فهذه سنة ماضية، يقول الله عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:2 - 3] إلى آخر الآيات، فالشاهد أنك إن تعوذت من الفتنة مطلقاً فيكون قصدك مضلات الفتن كما قال ابن مسعود وليس أصل الاختبار والابتلاء؛ لأنه لا يوجد أحد لا يبتلى ولا يختبر، حتى ولو كان مغموراً بنعم الله؛ لأن النعم كلها -مثل: العافية- فتنة واختبار وامتحان، هل يشكر أم يكفر. قوله: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)). روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال صدق الله عز وجل: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما، ثم أخذ في خطبته صلى الله عليه وسلم). قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: الجنة، فهي الغاية ولا أجر أعظم منها. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) ولا شك أن الرضا غاية الآمال، يقول بعض الشعراء: امتحن الله به خلقه فالنار والجنة في قبضته فهجره أعظم من ناره ووصله أطيب من جنته يقول القاسمي في قوله تعالى: ((إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)): أي تفتتن بهما النفس، ويجري عليها البلاء بهما إذا أوثرا على محبة الحق. يعني المنهي عنه ليس هو محبة الأموال والأولاد، وإنما الفتنة المحظورة هي التي تقود إلى طاعتهم في معصية الله، أو الانشغال بهم عن حقوق الله تبارك وتعالى. قوله: ((وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) أي: لمن آثر طاعة الله ومحبته عليهما. روى ابن جرير عن الضحاك قال: كان هناك أناس من قبائل العرب كان يسلم الرجل أو النفر من الحي، فيخرجون من عشائرهم ويدعون أزواجهم وأولادهم وآباءهم؛ عامدين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقوم عشائرهم وأزواجهم وأولادهم وآباؤهم فيناشدونهم الله ألا يفارقوهم ولا يؤثروا عليهم غيرهم، فمنهم من يرق ويرجع إليهم، ومنهم من يمضي حتى يلحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم. عن مجاهد قال: يحمل الرجل ماله وولده على قطيعة الرحم أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه.

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)

تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16] أي: اتقوا الله جهدكم ووسعكم. قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: افهموا هذه الأوامر واعملوا بها. قوله: ((وَأَنفِقُوا)) أي: أموالكم التي ابتلاكم الله بها في مراضيه. قوله: ((خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ)) أي: اقصدوا في الأموال والأولاد ما هو خير لكم. فقوله: ((خيراً)) مفعول به، كقوله: {انتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء:171] وتقديره: يكن الإنفاق خيراً لكم، وقيل: أنفقوا أموالكم لتستنقذوا أنفسكم من عذاب الله. والخير في هذا الموضع يشمل كل خير، ويدخل فيه المال بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي: لحب المال لشديد، وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] أي: إن ترك مالاً. فهذا يدل على أن المال لا يذم لذاته؛ لأن المال هو وسيلة لتحصيل كثير من الخيرات، حتى أطلق الله عليه الخير إذا كان من حلال، وأنفق فيما يرضي الله تبارك وتعالى. قوله: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)) أي: بالعصمة من هذا الشح، فكل إنسان فيه شح، لكن من الناس من يخلى بينه وبين شح نفسه فينقاد له، ومنهم من يحميه الله من شح نفسه ويعصمه من شره. قوله: ((فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) أي: المنجحون الذين أدركوا النجاة والسعادة عند ربهم تبارك وتعالى. وقوله تعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) معناه: اتقوا الله -أيها الناس- وراقبوه فيما جعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم، أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام، فتتركوا الهجرة وأنتم للهجرة مستطيعون؛ لأن الله تعالى ذم من ترك الهجرة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97] قال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98] فهؤلاء معذورون؛ ولذلك قال سبحانه بعدها: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]، أما من استطاع فهو غير معذور في ترك الهجرة. وقيل: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي: فيما تطوع به من نافلة صلاة أو صوم أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] اشتد ذلك على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم، وتقرحت جباههم، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)). ويؤخذ من هذه الآية أن المكره على المعصية غير مؤاخذ عليها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها. قوله: ((وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) أي: اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه، وقيل: أصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله، وقيل: اقبلوا ما تسمعون، وعبر عنه بالسماع؛ لأنه فائدته. يقول القرطبي: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقصرها على عبد الملك بن مروان! يعني: أولها تأويلاً فاسداًً وقصرها فقط على الخليفة عبد الملك بن مروان. فقال الحجاج: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا)) هي لـ عبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مثنوية. يعني: لا يشاركه فيها أحد! ثم قال الحجاج: والله! لو أمرت رجلاً أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحل لي دمه! يقول القرطبي: وكذب في تأويلها، بل هي للنبي صلى الله عليه وسلم أولاً ثم لأولي الأمر من بعده، ودليله قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. وقوله: ((وَأَنفِقُوا)) قيل: الزكاة، وقيل: النفقة في النفل، وقيل: النفقة في الجهاد، وقيل: نفقة الرجل في نفسه، يقول تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]، فكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ما ينفق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له رجل: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على عيالك، قال: عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به)، فبدأ بالنفس والأهل والولد، وجعل الصدقة بعد ذلك، وهو الأصل في الصدقة، يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] أي: ما زاد وفضل عن النفقة الواجبة.

تفسير قوله تعالى: (إن تقرضوا الله قرضا حسنا)

تفسير قوله تعالى: (إن تقرضوا الله قرضاً حسناً) قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17] يعني: بالإنفاق في سبيله مما تحبون من غير منٍّ ولا أذى، وكلمة القرض هنا فيها تلطف في الاستدعاء. قوله: ((يُضَاعِفْهُ لَكُمْ)) أي: يضاعف جزاءه وخلفه. قوله: ((وَيَغْفِرْ لَكُمْ)) أي: ذنوبكم بالصفح عنها. قوله: ((وَاللَّهُ شَكُورٌ)) أي: ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله بحسن الجزاء لهم على ما أنفقوا. قوله: ((حَلِيمٌ)) أي: عن أهل معاصيه بترك معاجلتهم بعقوبته.

تفسير قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم)

تفسير قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) قال الله تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن:18] أي: لا يغيب عن أبصار عباده وما يشاهدونه. قوله: (الْعَزِيزُ) أي: الغالب في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه. قوله: (الْحَكِيمُ) أي: في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم فيما يصلحهم.

الطلاق [8 - 12]

تفسير سورة الطلاق [8 - 12]

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله قد أحسن الله له رزقا)

تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله قد أحسن الله له رزقاً) يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق:8 - 11]. قوله تعالى: (وكأين من قرية عتت) أي: عصت. (عن أمر ربها) يعني: أعرضت عن أمر ربها على وجه العتو والعناد، والمراد بالقرية هنا أهلها. (ورسله) يعني: وعتت عن أمر رسله كذلك. (فحاسبناها حساباً شديداً) يعني: على ما قدمت، فلم نغادر منه شيئاً. (وعذبناها عذابا نكراً) أي: منكراً. (فذاقت وبال أمرها) أي: عاقبة ما اكتسبت وجزاءه، فالوبال هنا بمعنى العاقبة. (وكان عاقبة أمرها خسراً) قال ابن جرير: أي: غبناً؛ لأنهم باعوا نعيم الآخرة بشيء من الدنيا قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمر الله تبارك وتعالى. والصيغة هنا جاءت بلفظ الماضي (فَذَاقَتْ) مع أن هذا سيكون في الآخرة، فهي كقوله تبارك وتعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] ونحو ذلك مما سيقع في المستقبل، ولكن عبر عنه بالماضي لتحقيق الوقوع؛ ولأن وعد الله ووعيده كأنه واقع بالفعل، وما هو مقدر لك من قبل فكأنه قد وقع بالفعل. (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) يعني: عذاب النار المعد يوم القيامة. قوله تعالى: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا)) كقوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الحج:45]، وكقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59] وهذا كله بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد الدين، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ومن هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عامة الناس للحفاظ على دينهم وسلامة دنياهم، فجعل الشارع مهمته للأمة كلها كل بحسبه باليد أو باللسان أو بالقلب، وهذا الأخير هو أضعف الإيمان، ومع أنه أضعف الإيمان لكن وجوده أمر مهم حتى يبقى إحساس القلب بالمنكر إلى أن يقدر هو أو يقدر غيره على تغييره، ولذلك فليس وراء ذلك شيء من الإيمان، ومن ثم يكون النهي عن المنكر بالقلب فرض عين على كل مسلم؛ لأنه لا يعجز أحد عن أن ينكر بقلبه، وأن يشهد الله على أن هذا منكر لا يرضيه، بخلاف اليد واللسان فلا يقدر عليها كل إنسان في كل ظرف. ومنطوق هذه الآية: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) أن هذا جزاء الذين أعرضوا عن سبيل الله تبارك وتعالى، وقد بين الله مفهوم هذه الآية صراحة بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]. (فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (يا أولي الألباب) أي: العقول. (الذين آمنوا) أي: صدقوا الله ورسله، فهذا نعت للمنادى أو عطف بيان له. قوله: (قد أنزل الله إليكم ذكراً) يحتمل أن هذا الذكر هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله نفس الذكر مبالغة؛ لذلك أبدل منه، فتعرب (رسولاً) بدلاً من (ذكراً)، ويحتمل أن يكون المراد بالذكر هو القرآن الكريم، ثم قال: ((رَسُولًا)) يعني: وأرسل رسولاً يتلو عليكم آيات الله، وهذا بتقدير (أرسل). ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الشرف، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: شرف وعلو لك ولقومك. {رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} يعني: لمن تبعها وتدبرها أنها حق من عند الله تبارك وتعالى. {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من الضلال إلى الهدى. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} يعني: رزقا طيباً، وفيه إكرام له وتعظيم، والمعنى: قد طيب الله له هذا الرزق، وهو رزق عجيب وعظيم؛ لذلك أتى به منكراً.

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن)

تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. أي: الله المعبود المستحق للعبادة هو من هذا خلقه، لا ما يشرك معه. قال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن) جاء في بيان السماوات أنها سبع طباق، وأنها سبع سماوات بعضها فوق بعض قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3] كذلك بين الحديث أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام. وجاء لفظ السماء مفرداً وجمعاً، فالمفرد كما في قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22]، أما الأرض فلم يأت لفظها إلا مفرداً، ولم يأت تفصيلها كتفصيل السماء بأنها سبع طباق. يعني أن الملاحظ في القرآن الكريم أن لفظ السماء قد أتى بصيغة الجمع، وفصل أنها سبع سماوات طباقاً بعضها فوق بعض، أما الأرض فلم يأت فيها ذلك، ومن ثم اختلف في المثلية، في قوله تعالى هنا: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، ما المقصود بهذه المثلية؟ جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها مثلية تامة من كل الوجوه، بمعنى: أنها مثلية من ناحية العدد، والطباق، والخلق، ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) يعني: أن الأرض مثل السماوات في كونها سبعاً، فهي سبع أرضين، وهي طبقات بعضها فوق بعض، فهي مثلهن خلقة، يعني: خلقت كما خلقت السماوات. وقيل: (ومن الأرض مثلهن) أي: عدداً وأقاليم تفصلها البحار، وكأنه إشارة إلى القارات السبع، فإنها يفصلها البحار، فهي من حيث العدد سبعة أقاليم تفصلها البحار. وقيل: المقصود بكون الأرض سبعاً مثل السماوات أن نفس الكرة الأرضية مكونة من طبقات كطبقات البصلة، فالبصلة تتكون من طبقات متراكبة بعضها فوق بعض، فكذلك الأرض مكونة من سبع طبقات. وحاول بعض العلماء توجيهها بصورة أخرى، وهي أن هذه المثلية هي مثلية في الخلق، كما سنبين ذلك في كلام القاسمي إن شاء الله، لكن توجد أدلة تدل في السنة على وصف الأرض بكونها سبع أرضين. قال الشيخ عطية سالم: إن من أوجه البيان إذا لم يوجد في الكتاب ووجد في السنة شيء يبين ما أجمل في الكتاب، فإنه ينبغي تبيينه بها؛ لأن السنة وحي أيضاًً، وقد جاء في السنة أن الأرض سبع أرضين، كما في حديث: (من اغتصب من الأرض قيد شبر طوقه من سبع أرضين) متفق عليه، وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين). وفي حديث موسى لما قال: (يا رب! علمني شيئاً أدعوك به، فقال: قل: لا إله إلا الله، فقال: يا رب كل الناس يقولون ذلك. قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة؛ لمالت بهن لا إله إلا الله) رواه النسائي. فهذه الأحاديث الصحيحة أثبتت أن الأرضين سبع، ولم يأت تفصيل للكيفية ولا للهيئة. يعني أن السنة دلت على وصف الأرض بكونها سبعاً، لكن لم يأت في الوحي الشريف ما يفصل الكيفية أو الهيئة. يقول: فثبت عندنا العدد ولم يثبت غيره، فنثبته ونكل غيره لعلم الله تعالى. أي: فنثبت هذا العدد كما هو، أما المقصود بسبع أرضين فنكل العلم في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الوحي لم يفصل الكيفية. قال: ومما يؤيد ثبوت العدد على سبيل الإجمال، أن مثلية الأرض للسماء لم تذكر إلا عند ذكر السماء مجملة مع ذكر العدد، وهذا هو الموضع الوحيد الذي وصفت فيه الأرض بأنها خلقت مثل السماوات، وقد ذكرت السماء مجملة، وكذلك ذكرت الأرض مجملة، ولم يذكر عند تفصيلها الطباق مما يدل على أن المراد من المثلية العدد، فالله قال: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) ولم يقل: {سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك:3]، فما خصص كلمة (سماوات) لكن ذكر العدد، وهذا يدل على أن المقصود بالمثلية العدد. وقيل: إن هذا لا يتنافى مع إفراد اللفظة؛ لأن جمعه شاذ، يعني أنه لم يقل: ومن الأرضين، لأنه جمع شاذ، قال ابن مالك في الخلاصة: وأرضون شذ والسنون وقد أشار تعالى إلى أن هناك من حالات الأرض والسماء ما لا يعلمه الخلق، كما قال عز وجل: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51] فما لم يبين لنا ويفصل فيعتبر تفصيله من التكلف، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. فالبشر لا يزالون عاجزين عن معرفة كيفية خلق أنفسهم، إلا تفصيلات جزئية، والمهم من السياق والغرض الأساسي منه: تنبيه الخلق على عظم قدرة الله تعالى. يعني أن المقصود من الآية تنبيه الخلق إلى عظم قدرة الله سبحانه وتعالى لقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} هذا هو المقصود، وهذا يحصل بالتدبر في هذه الآيات التي تدل على قدرة الله تبارك وتعالى، مع أننا نكل علم التفاصيل التي لم تتبين لنا إلى الله عز وجل وحده. يقول القاسمي في هذا الموضع: قال الزمخشري: قيل: ما في الأرض آية يفهم منها أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، وهذه الآية ليست صريحة بصورة قاطعة.

ذكر ما نقله القاسمي في معنى: (ومن الأرض مثلهن)

ذكر ما نقله القاسمي في معنى: (ومن الأرض مثلهن) نقل القاسمي عن بعض علماء الفلك قوله: أما كون الأرضين سبعاً كالسماوات فهو أمر نجهله ولا نفهمه، إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات، قال: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً هو -كما يظهر لنا- وهم من أوهام القدماء! مما يؤلم أن القاسمي في الأجزاء الأخيرة من تفسيره ينسب كثيراً من الآراء التي فيها نظر إلى مجهول، ولا يبين من القائل، وكثير منها يكون مأخوذاً من كلام الشيخ محمد عبده أو أحد أهل مدرسته، كما نقل ما ذكرنا هنا. ولا يشترط أن نفهم كل شيء؛ لأن هناك أموراً مغيبة عنا، وهناك أموراً يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، فلا نلجأ إلى أن نتكلف علمها، وهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما قرأ سورة عبس وقف عند قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] فقال: الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه وقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر! مع أن كلمة (الأب) يسهل الرجوع إلى معناها في لغة العرب، وهو يفهم من السياق، قال سبحانه: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:31 - 32] أي: الفاكهة متاع لكم، والأب متاع لأنعامكم، فالمقصود أنه مما تأكله الأنعام، أما تتبع ما وراء ذلك فسماه عمر رضي الله عنه تكلفاً. وإذا كنا نفهم التفاصيل فذلك لا يبيح لنا أن نقطع بترجيح معين في مثل هذه المواضع. أما قول هذا الذي نقل عنه القاسمي: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعاً، هو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء. فهذا كلام سخيف، ولا ينبغي أن يذكر، كيف يقول: هذا وهم من أوهام القدماء، مع أنه ليس لديه دليل قاطع على أن المقصود المثلية في العدد أم المثلية في الخلق، فهذه الآية لا يستطاع القطع فيها بمعنى معين، فكيف نقطع بنفي العدد؟! لكن نكل علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر يكون مجهولاً كسائر الأمور المغيبة التي نجهلها، وجهلنا بها لا يبيح لنا تأويلها تأويلاً فاسداً على غير علم؛ فكلام هذا الذي يسميه بعض علماء الفلك لا ينبغي أن يذكر في تفسير كلام الله تبارك وتعالى! ثم يقول: ولذلك لم يرد في القرآن الكريم لفظ الأرض مجموعاً. ونقول: لكنه ورد في السنة، فهذا الكلام نشم منه رائحة مدرسة محمد عبده، ففيها إهمال السنة إلا ما تواتر منها بشروط اخترعتها هذه المدرسة العقلية المنحرفة. فنقول: قد ورد في السنة قوله: (طوقه من سبع أرضين). ثم يقول: ولم يرد فيه مطلقاً أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات سبع مراراً عديدة، وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالإفراد، وإنما ورد قوله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع، وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً. كذا قال، مع أنها قد تفيد ذلك، فالأمر محتمل؛ لأن الله قال: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، والعلماء المنصفون -كما أشرنا في بداية الكلام- قالوا: الأمر يحتمل عدة احتمالات: فيحتمل أنها طبقات بعضها فوق بعض كطبقات البصل، ويحتمل أن هذه المثلية في العدد، وهي أقاليم مفصولة عن بعضها بالبحار، ويحتمل أنها مثلهن في الخلقة فقط، أي مخلوقة من نفس المادة، أو في أصل كونها مخلوقة لله تبارك وتعالى. إذاً: ليس لدينا ما نقطع به في المقصود، فقوله: وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقاً. ليس كما ادعى. من المؤلم أن القاسمي رحمه الله تعالى ينقل مثل هذا النقل الطويل عن مجهول، لماذا لا يصرح باسمه؟! فهذا فيه مؤاخذة على القاسمي رحمه الله تعالى، وكنا نحب أن نعرف من هذا الذي يتكلم؟ وما قدره من العلم؟ وما مدرسته التي ينتمي إليها؟ وهذا من حق القارئ؛ فلو أن رجلاً له موقف سيئ من السنة فنحن نحذر منه ونحذر من تآليفه، فينبغي للمؤلف أن ينسب الكلام إلى قارئه، وهذا من بركة العلم. ثم قال هذا القائل المجهول: ولنا في تفسيرها وجهان. -وهذان الوجهان اللذان ذكرهما مقبولان، وكلاهما محتمل لا على سبيل القطع. قال: إما أن تكون (من) في قوله تعالى: ((وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) زائدة، وإما أن تكون غير زائدة، فـ (من) لو قلنا إنها مزيدة للتوكيد فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن. وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي أنها إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وهذا من دلائل صدق القرآن، فيحتمل أن الأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها إلى آخره. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. هذا كلامه، وليس عندنا دليل على أن الكواكب الأخرى مسكونة بحيوانات، وتكلف الكلام في مثل هذا هو من التنطع الذي لا يجوز، وليس لنا أن نتكلم في الغيب بلا علم. قال: وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات متماثلة من جميع الوجوه. يلاحظ في تفسيره أنه يعتبر السماوات السبع هي الكواكب السيارة! ومن قال: إن السماوات السبع هي الكواكب السيارة فقد أخطأ، فإن كل ما نراه حولنا من الكواكب قال الله سبحانه وتعالى فيها: {وزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ * إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:5 - 6] فالكواكب هذه كلها في السماء الدنيا، فكيف يقول: إن السماوات السبع هي هذه الكواكب؟! إذا كانت سماء الدنيا مزينة بالكواكب فهذا يدل على أن هذه الكواكب ليست هي السماوات السبع، ولا يجوز إخضاع القرآن الحكيم الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى لتأويلات مبنية على نظريات علماء الفلك الذين تتغير علومهم من وقت إلى آخر، وتنهار نظريات وتنشأ نظريات أخرى، فلا ينبغي ربط كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بأمور متغيرة ونظريات متبدلة. يقول: وكلها مخلوقة من مادة واحدة وعلى طريقة واحدة، يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] يعني كانت شيئاً واحداً، (ففتقناهما) أي: فصلنا بعضهما عن بعض، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السماوات تماماً. هذا هو الوجه الأول المبني على أن (من) زائدة. الوجه الثاني: أن (من) غير زائدة، فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات، وخلق من الأرض أرضاً مثلهن، كقولك: اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي فلان صديق مثلهم، أي مثلهم في الصداقة، والمعنى: وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها، وعليه فليس في القرآن الكريم أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون. انتهى كلام هذا الذي نقل عنه القاسمي رحمه الله تعالى. وذكر ابن الأثير في المثل السائر في النوع السادس في اختلاف سير الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه ما مثاله: وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفرداً ولم يرد مجموعاً، كلفظة (الأرض) فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة، فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن الكريم، ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة في ((وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)) لم يقل والأرضين مثلهن، وإنما قال: (ومن الأرض مثلهن) بالنصب عطفاً على (سبع) وبالرفع على الابتداء، وخبره يكون (من الأرض).

معنى قوله تعالى: (يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله)

معنى قوله تعالى: (يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله) قوله: ((يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)) أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن. ((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)) فهذه علة لـ (خلق)، أو علة لـ (يتنزل)، أو لمضمر يعمهما أي: فعل ما فعل لتعلموا أن الله على كل شيء قدير إلى آخره؛ فإن كلاً منهما يدل على كمال قدرته وعلمه. قال ابن جرير: أي: فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم عقوبته فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع، وهو على ذلك قادر، ومحيط بأعمالكم، فلا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس ما كسبت. والله أعلم.

التحريم

تفسير سورة التحريم

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) نشرع في تفسير سورة التحريم، وهي السورة الثالثة والستون، وهي مدنية، وآيها اثنتا عشرة آية. يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]. قوله تعالى: ((يا أيها النبي)) ناداه بالنبوة تعظيماً له صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه من مظاهر تعظيم الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث إنه ما ناداه باسمه قط، فلا توجد آية في القرآن فيها: يا محمد! في حين نودي غيره بالاسم: يا آدم، يا موسى، يا نوح، يا عيسى، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فما ناداه الله إلا بوصفه؛ تعظيماً لجنابه صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أنه سيد الأولين والآخرين. وناداه ليقبل إليه بالكلية، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن، وعبر عنه بالمبهم إشعاراً منه بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل والتحريم الإلهي. قوله: ((لم تحرم ما أحل الله لك)) ليس المراد بالتحريم هنا اعتقاد الحلال حراماً، ولكن المقصود امتناعه من الحلال وحظره إياه على نفسه، وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح. يعني: لو أن شخصاً منع نفسه من طعام معين لسبب من الأسباب، أو حلف ألا يأكل هذا الطعام وهو لا يعتقد أن هذا الطعام حرام فلا بأس. إذاً: المقصود بالتحريم هنا أنه منع الطعام على نفسه وليس بقصد أنه صار حراماً، لأن تحليل الحرام وتحريم الحلال من الأمور المكفرة، فالخمر مثلاً من استحله واعتقد أنه حلال فإنه يصير كافراً بذلك قطعاً. فمعنى: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) لم تمتنع عن شيء أحله الله لك لترضي أزواجك؟ وهذا القدر مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قال عز وجل له: ((لم تحرم ما أحل الله لك)) رفقاً به وشفقة عليه، وتمييزاً لقدره ومنصبه صلى الله عليه وسلم أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، فهذاً جرياً على ما ألف من نصح الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليظهر الله كمال نبوته.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) نذكر اختلاف العلماء الأثريين في هذا الشيء الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، فقد جاءت في ذلك روايات منها: روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، ولا تخبري بذلك أحداً، فنزلت الآية). وروى الشيخان أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فغِرتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لـ سودة فقلت لها: إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: وما هذه الريح التي أجد، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وإذا دخل علي فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت له مثلما علمتها عائشة وأجابها بما تقدم، فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك. فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك، فلما كان اليوم الآخر فدخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به! قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي). يعني عائشة قالت لـ سودة: اسكتي. والمغافير: صبغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط، وفي هذه الرواية أن التي شرب منها العسل حفصة، وفي سابقتها أنها زينب، والاشتباه في الاسم لا يضر بعد ثبوت أصل القصة. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كانت حفصة وعائشة متحابتين، فذهبت حفصة إلى أبيها فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته -في بعض الروايات أنها مارية القبطية - فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة فوجدتها -يعني مارية -في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأرضينك، فإني مسر إليك سراً فاحفظيه، قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضاً لك حتى أرضيك، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرت إليها بذلك، فلما أخبرت بسر النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1 - 2] إلى آخر الآيات) وروي أيضاً عن الضحاك قال: (كانت لرسول صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة -وكانتا متظاهرتين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمي علي ولا تذكري لـ عائشة ما رأيت، فذكرت حفصة لـ عائشة، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف ألا يقربها أبداً فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته). وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله هذه الآية). ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية على عادته في أمثالها، ولذا قال: والصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك جاريته، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان قد أحله له، وبين له تحلة يمينه.

ما رجحه القاسمي في سبب نزول أول سورة التحريم

ما رجحه القاسمي في سبب نزول أول سورة التحريم يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والذي يظهر لي هو ترجيح رواية تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه: منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات ويهتم به لهن. وذلك لأنه أمر حساس يثير الغيرة عند الضرائر. ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه. ثم رغب إلى عائشة ألا تحدث صاحبة العسل سواء كانت زينب أو حفصة؛ حتى لا تتأذى وتقول: إنها السبب في أنها أطعمته هذا الطعام الذي يصدر منه هذا الريح، إلا أن يكن عاتبنه في ذلك ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك فحرمه، ولكن ليس في الروايات ما يشعر به، وما زاد على ذلك فمن اجتهاده هو. ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك بالاستبدال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة. يعني: لأن تأثير الغيرة في موضوع الجارية أقوى، وأن الذي جعلهن يتظاهرن هذه المظاهرة ويخططن هذا التخطيط ليس هو موضوع العسل بل موضوع الجارية. ثم يقول القاسمي: كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية، فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة. وأما تحديد رواية العسل في هذه الآية وقول بعض السلف: نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مراراً، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه.

حكم تحريم المرء على نفسه شيئا حلالا

حكم تحريم المرء على نفسه شيئاً حلالاً قوله: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) قال في الإكليل: أستدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاماً أو زوجة لم تحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في الحرام يكفر، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]. وذهب ابن جرير: إلى أنه كان مع التحريم يمين. أي: أنه قال: والله لا أقرب الجارية، أو العسل. وهذا فيه نظر. والأرجح والله تعالى أعلم أن التحريم بمجرده بدون يمين بالله عز وجل هو في حد ذاته يمين. وقال قتادة: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها -يعني: جاريته- فكانت يميناً. ابن جرير ذهب إلى أنه كان مع التحريم يمين، وهذا رده بعض المحققين؛ لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله، فمنها ما يكون قسماً بالله، ومنها ما يكون بصيغة التحريم. في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] يعاتب الله سبحانه وتعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم على تحريم ما أحل الله له ليرضي أزواجه، فكأنه يقول: لا تضيق على نفسك بتحريم سريتك لترضي أزواجك، بل هن أحق أن يسعين في رضاك ليسعدن. ثم هددهن الله سبحانه وتعالى إن لم يتبن عن ذلك فسوف يبدله الله أزواجاً خيراً منهن بالصفات التي ستأتي فيما بعد.

تفسير قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)

تفسير قوله تعالى: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2]. أي: شرع حل ما عقدتموه بالكفارة، فالتحلة مصدر بمعنى التحليل. قوله: ((وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أي: متولي أموركم. قوله: ((وَهُوَ الْعَلِيمُ)) أي: بمصالحكم. ((الْحَكِيمُ)) أي: في تدبير دنياكم بما شرعه وحكم به. وهذه الآية تدل على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به، وإنما الأمر فيه تفصيل؛ لأنه قد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بمثل قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] إلى آخره، ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام غير مقصود بهذا الخطاب؛ لأنه لم يكن يوجد في ذلك الوقت أبواه أو أحدهما، فقد ماتا قبل البعثة وهو ما زال صغيراً صلى الله عليه وسلم. أما مثل هذه الآيات التي نحن بصددها فإنه يأتي الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيه معه غيره من الأمة، ومثال ذلك قوله تعالى في أول سورة الطلاق: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، وقوله أيضاً في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]. إذاً دلت هذه الآية على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به؛ لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقبه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم أتبعه بلفظ الجمع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: التحلة مصدر حللت الشيء تحليلاً وتحلة، كما يقال: كرمته تكريماً وتكرمة، وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه وهو الكفارة، فإن أريد المصدر فالمعنى: فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذي هو خلاف العقد، ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كـ أبي بكر بن عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث؛ لأن التحلة لا تكون بعد الحنث؛ فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين؛ وإنما هي بعد الحنث كفارة؛ لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم في نقض عهد الله، فإذاً تبين أن ما اقتضت اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة، التي جعلها بدلاً من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار. يعني: بدل أن يضيق على نفسه ويلتزم هذا الذي حلف عليه، ويكون اسم الله الذي حلف به مانعاً يعرض ويحول دون إتيان ما هو أفضل، فقد فتح الله له الباب بالكفارة حتى لا يفي بما حلف عليه. قوله تعالى: ((قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)) من تحريم الحلال المذكور قبل وهو الزوجة. هذا الموضع في الحقيقة تناقش فيه قضية تحريم الزوجة، وأن ذلك على الراجح يكون فيه كفارة يمين بتفصيل نرجئه إلى باب الطلاق إن شاء الله تعالى، ومن أراد التفصيل فليعد إلى القاسمي أو إلى غيره من كتب الأحكام.

تفسير قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا)

تفسير قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً) يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3]. ((وإذ أسر النبي)) محمد صلى الله عليه وسلم. ((إلى بعض أزواجه)) هي حفصة في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك وهو تحريم فتاته في قول هؤلاء. قال ابن جرير: أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له. وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد. ((فلما نبأت به)) يعني: لما أخبرت بهذا السر صاحبتها كما تقدم. ((وأظهره الله عليه)) أي: أطلعه الله عن طريق الوحي: أن حفصة أخبرت عائشة بالسر الذي ائتمنتها عليه. ((عرف بعضه وأعرض عن بعض)) أي: عرفها بعض ما أفشته معاتباً لها، وأعرض عن بعض الحديث تكرماً، وهذا من معالي ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نوع من التغافل الذي ما يزال من فعل الكرام؛ لأنه لا يتغافل إلا كريم، أما الذي يستقصي دائماً فهو اللئيم. إذاً: الكريم إذا عاتب فإنه لا يستقصي، وإنما يتجاوز ويتغافل ويتجاهل، فهذا مما يمدح به الإنسان، فلذلك قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض)). ((فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ)) أي: الذي هو البعض. {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي: الذي لا تخفى عليه خافية. وفي الإكليل: يقول في الآية: إنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وإنه ما دام الشخص يثق بك ويسر إليك بحديث فإنه يجب عليك أن تكتم هذا السر. وكما أشرنا من قبل إلى أن استكتام السر أو استيداع السر إما يأتي بصورة واضحة وإما أن يأتي بقرينة، كما جاء في الحديث عن السر الذي أتى بقرينة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا حدث الرجل صاحبه ثم التفت فهي أمانة) يعني: عندما يتكلم صاحب السر تجده في أثناء الكلام يلتفت يميناً وشمالاً هل يوجد أحد يسمعه أم لا؟ فكأنه يقول له: هذه أمانة فلا تفشها، وهذا سر فلا تفشه، فينبغي أن يكتم السر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المجالس بالأمانة)، والأصل في المسلم إذا جلس في المجلس أنه يؤتمن على ما فيه ولا يفشوه هذا هو الأصل، فما بالك إذا صرح لك المتكلم وقال لك: هذا سر فاكتمه ولا تفشه لأحد؟ لكن على الإنسان ألا يأتمن على سره إلا من يثق به أنه يحفظ السر، كذلك من اؤتمن على سر، فلا يأتي إلى ثقة له فيحكي له هذا السر، وبالتالي لا يبقى سر فتحصل فتن كثيرة، ولذلك قال بعض الشعراء: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق وفي هذه الآية حسن المعاشرة مع الزوجات؛ لأن هذا الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام مباح أحله الله سبحانه وتعالى له، ومع ذلك تلطف في استرضائهن والتخفيف عنهن، حتى وصل به الأمر إلى أنه حلف ألا يقربها أو أنه حرمها! وفيها التلطف في العتب. الإنسان قد يعاتب لكن لا يسترسل في العتاب ولا يستقصي، خاصة أن بعض الناس إذا كان الأمر له استقصى، أما إذا كان عليه فهو يتضايق من هذا جداً، فينبغي للإنسان إذا عاتب أن يتوسط في العتب وألا يستوفي كل ما له من الحق، فما استوفى كريم قط! وفيه الإعراض عن استقصاء الذنب، وإلا فلن يبقى لك صديق. من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

تفسير قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)

تفسير قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. أشار تعالى إلى غضبه لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أتت به إحدى نسائه من إفشاء السر إلى صاحبتها، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه، فقال عز وجل: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. قوله: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) أي: إن تتوبا إلى الله فأنتما فعلاً محتاجتان للتوبة؛ لأنكما أتيتما بفعل خطير وعظيم. (فقد صغت قلوبكما) أي: قد مالت قلوبكما لتحريم مارية، ولأنكما وجدتما فرحاً كبيراً وسروراً عظيماً لما حرم على نفسه سريته، مع كراهة النبي صلى الله عليه وسلم له، وذلك ذنب يستوجب التوبة. يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)): يعني: فقد رجعتما إلى الحق وملتما إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عائشة وحفصة. وفي خطابهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغة، لأن السياق فيما مضى للغائب ((وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)) ثم يقول: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ)) التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، وهذه مبالغة، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مطروداً بعيداً عن ساحة الحضور، ثم إذا استقر به تودد إليه وعاتبه بما يريد. قوله: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ)) يعني: إن تتظاهرا وتتفقا على ما يسوءه صلى الله عليه وسلم، ((فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) أي: متظاهرون على من أراد مساءته صلى الله عليه وسلم. وهذه السورة هي إحدى السور التي تبين عظم مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فهذا الموضع بالذات منها. إذاً: فعلينا أن نعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدره، فهذه من حقائق دين الإسلام، ومن حيثيات العقيدة الإسلامية لكل مسلم أن يعرف مقام النبي عليه الصلاة والسلام، وأن له أشرف المقامات عند الله تبارك وتعالى، فتأمل على سبيل المثال هذه الآية، فقوله تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) يدل على أن عناية الله بنبيه صلى الله عليه وسلم لم يرق إليها رسول ولا ملك، فما نعلم أن الله سبحانه وتعالى نصر رسولاً على أعدائه بهذه الصورة الرائعة التي نصر بها رسوله في هذه الحادثة، ولقد كان في نصر الله كفاية وغناء: ((فإن الله هو مولاه))؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يظهر مقدار حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم ورعايته لجانبه، فجند لنصره جبريل وصالحي المؤمنين والملائكة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله: ((وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) أي: متظاهرون على من أراد مساءته، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم ختم الظهراء بهم؛ ليكون أفخم في التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وعظم مكانته والانتصار له، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار يملأ القفار يتأخر خلف أميره وقائده؛ ليحمل على عدوه ومناوئه. قوله: ((وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: كل المؤمنين الصالحين. قوله: ((وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) فهؤلاء هم المنحازون إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم المظاهرون له صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) صغا: مال ورضي وأحب. لم يقل: قد صغا قلباكما، وإنما قال: ((فقد صغت قلوبكما)) بالجمع مع انهما اثنتان وهما حفصة وعائشة رضي الله عنهما، فقيل: إن المعنى معلوم، والجمع أخف من المثنى إذا أضيف، فالمعنى المفهوم أن المقصود حفصة وعائشة بالذات في استعمال الجمع، فلا ضير، ولأن الجمع أخف من المثنى في حالة الإضافة، فقوله: (قلوبكما) أسهل من أن يقول: (فقد صغا قلباكما). وقيل: هو مما استدل به على أن أقل الجمع اثنان، كما في الميراث في قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء:11] يعني اثنان فصاعداً. قوله: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)) جواب الشرط في قوله: (إن تتوبا) محذوف تقديره: إن تتوبا إلى الله فذلك واجب عليكما؛ لأن قلوبكما مالت إلى ما لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: إن تتوبا إلى الله فذلك خير لكما. والمعنى متقارب. قوله تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ)) قال أبو حيان: الوقف على (مولاه) وتكون الولاية خاصة بالله، والمظاهرة تكون لمن أتى بعده، ويكون جبريل مبتدأً وما بعده معطوف عليه. فيقف القارئ على قوله: ((فإن الله هو مولاه)) ثم يستأنف ((وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) فالمبتدأ (جبريل) والخبر (ظهير)، وعليه يكون جبريل قد ذكر مرتين؛ بالخصوص أولاً، وبالعموم ثانياً؛ لأن جبريل من الملائكة. وقيل: إن الوقف على قوله: (وجبريل) معطوفاً على لفظ الجلالة في الولاية، تقول: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ))، ثم تبتدئ بقوله تعالى: ((وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ)) فيدخل جبريل مع الملائكة ضمناً. فعلى الوقف الأول: يكون قرن صالح المؤمنين بجبريل وبالملائكة؛ تنبيهاً على علو منزلة صالحي المؤمنين وبيان منزلتهم من عموم الملائكة بعد جبريل. وعلى الوقف الثاني: يكون قد عطف جبريل على لفظ الجلالة في الولاية بالواو ((فإن الله هو مولاه وجبريل))، وليس فيه ما يوهم التعارض مع الحديث في (ثم) إذ محل العطف هو الولاية، وهو قدر ممكن من الخلق ومن الله تعالى؛ لأن الولاية قد تكون من الخلق ومن المخلوق، يقول عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62] فالنصر يكون من الله ويكون من العباد من باب الأخذ بالأسباب، وقال عز وجل: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40]، وقال عز وجل: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8]، وقال الله حاكياً عن عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52]. وهذا بخلاف ما جاء في الحديث من قول الأعرابي: (ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده) لأن حقيقة المشيئة هي أنها لله وحده كما في قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:29] وقوله: {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد:31]، وقوله: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4]. فإذاً: لا حرج في الوقف على جبريل، والعطف بالواو يدل على أن الموالاة والمناصرة تكون من الله وتكون من جبريل عليه السلام، وهذا يقع. ومن اللطائف في قوله تبارك وتعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)) يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: إن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان فقط تآمرتا عليه فيما بينهما، فجاء بيان الموالين له ضدهما كل من ذكر في الآية: ((فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) ليدل على عظم كيدهن وضعف الرجال أمامهن. العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فهم ذلك من قوله تبارك وتعالى: {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]، بينما قال في كيد الشيطان: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]. يقول الشاعر في نفس هذا المعنى: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنساناً وقد عبر الشاعر أيضاًُ عن ذلك بقوله: ما استعظم الإله كيدهنه إلا لأنهن هن هنه

تفسير قوله تعالى: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن)

تفسير قوله تعالى: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن) يقول الله تبارك وتعالى مهدداً ومتوعداً هؤلاء اللائي تظاهرن على النبي صلى الله عليه وسلم: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5]. (مُسْلِمَاتٍ) أي: خاضعات لله بالطاعة. (مُؤْمِنَاتٍ) أي: مصدقات لله ورسوله. (قَانِتَاتٍ) أي: مطيعات لما يؤمرن به. (تَائِبَاتٍ) أي: من الذنوب لا يصررن عليها. (عَابِدَاتٍ) أي: متعبدات لله، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن حتى صارت ملكة لهن. (سَائِحَاتٍ) أي: صائمات، (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا). اعلم أن في وصف المبدلات بهذه الصفات تعريضاً بوجود اتصاف الأزواج بها، لاسيما أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)) فيه بيان أن الخيرية التي يختارها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في النساء هي تلك الصفات من الإيمان والصلاح وغير ذلك، فلم يذكر الجمال ولا الحسب ولا النسب، وإنما ذكر صفات الإيمان والصلاح. قوله: (أن يبدله أزواجاً خير منكن) كيف يكن خيراً منهن؟ قال: (مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً)، وفي الحديث: (فاظفر بذات الدين تربت يدك)، وقال تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]. وتقديم الثيبات على الأبكار هنا في معرض التخيير، وليس إشعاراً بأفضليتهن؛ لأنه ورد في الحديث: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)، وكذلك نساء الجنة وصفهن الله تعالى بقوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ففيه أولوية الأبكار. قال بعض المفسرين: قوله تعالى: (ثيبات وأبكارا) على سبيل التنويع، وأن الثيبات في الدنيا، والأبكار في الجنة كـ مريم ابنة عمران. والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه لما كان في مقام الانتصار لرسول صلى الله عليه وسلم وتنبيههن لما يليق بمقامه عندهن، ذكر من الصفات العالية ديناً وخلقاً، وقدم الثيبات ليبين أن الخيرية فيهن بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق.

النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق أزواجه

النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق أزواجه قوله: ((عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)) لم يبين هل طلقهن أم لا؟ مع أن (عسى) من الله للتحقيق، ولكنه لم يقع طلاقهن كما بينه الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب؛ لأنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخيرهن حيث قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]، وهذه آية التخيير المعروفة. فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يطلقهن ولم يبدله أزواجاً خيراً منهن. وقد بين الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه المسألة وإحلال الزواج إليه وتحريم النساء بعدهن عليه عند قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50]، وعند قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب:51]، وقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً) يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) أي: أسباب دخول النار، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، والقيام على تأديب الأهل وأخذهم بما تأخذون به أنفسكم. (وقودها الناس والحجارة) أي: تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب. (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ) أي: تلي أمرها وتعذيب أهلها، وهم الزبانية. (غِلاظٌ شِدَادٌ) أي: جفاة قساة. {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يقول الزمخشري: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا؛ فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه. وقيل: الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره، والثانية: لأنهم لا يفعلون شيئاً ما لم يؤمروا به، كقوله تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التحريم:7]. أي: يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، فالمراد باليوم وقت دخولهم إياها، فتعريفه للعهد، أي: معروف أن هذا اليوم هو يوم القيامة. وجاء النهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم، أو أن العذر لا ينفعهم، ولم يبين هنا نوع الاعتذار الذي نهوا عنه، ولا سبب النهي عنه ولا زمنه، وقد بينت آية أخرى نوع الاعتذار، يقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، هذا هو الاعتذار، ويقول تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِم} [الأنعام:23 - 24]، وقال بعدها: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فهذا النوع غاية في الاعتذار. ولكنهم نهوا عن ذلك يوم القيامة، لأن هذا الاعتذار لا ينفعهم، وذلك بقوله: ((لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ)) كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57] وقال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً) يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]. أي: توبة ترقع الخروق وترتق الفتوق، وتصلح الفاسد وتسد الخلل. والنصوح من النصح بمعنى الخياطة، أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الذي تاب منه والنظر إليه بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه. ومن أركان التوبة أن يكره الإنسان المعصية، وأن يندم عليها؛ أما ذا ترك المعصية وقلبه يشتاق إليها ويتوق إليها ويستحسنها، فهذه ليست توبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الندم توبة) كما صح عنه ذلك. إذاً: الندم ركن من أركان التوبة. قوله: {عَسَى رَبُّكُمْ} أي: بمناصحة أنفسكم بالتوبة النصوح، {أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}. قوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي: لا يذلهم، وهذا تعريض بأن الخزي والصغار إنما يكون من مصير أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. قوله: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} أي: أدمه أو زده. قوله: {وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9]. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي: بالسنان والبرهان. قوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} يعني: فيما تجاهدهم به؛ لتنكسر صلابتهم، وتلين شكيمتهم وعريكتهم، فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع. قوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9]. فالمعنى: جهاد الكفار كما هو معلوم بالقتال أو بالسيف، ولكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل المنافقين قتاله للكفار، فما نوع قتاله للمنافقين؟ فنوع جهاده صلى الله عليه وسلم للمنافقين هو مجاهدتهم بالقرآن جهاداً كبيراً. وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:89]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:51 - 52]، ومعلوم أن المنافقين كافرون، فكان جهاده صلى الله عليه وسلم للكفار بالسيف وللمنافقين بالقرآن الكريم. وورد في الحديث: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) وذلك في عبد الله بن أبي ابن سلول كبير المنافقين حينما قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] إلى آخره. وجهادهم بالقرآن لا يقل شدة عليهم من الجهاد بالسيف؛ لأنهم كانوا في حالة رعب وخوف يحسبون كل صيحة عليهم، وأصبحت قلوبهم خاوية كأنهم خشب مسندة، وكان هذا أشد عليهم من الملاقاة بالسيف.

تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح)

تفسير قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح) يقول الله تبارك وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) يعني: حال امرأة نوح وحال امرأة لوط. (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما) أي: بالمظاهرة عليهما والكفر والعصيان، فمع تمكن نوح ولوط عليهما السلام من الطاعة والإيمان، إلا أن زوجتيهما تظاهرتا عليهما بالكفر والعصيان. (فلم يغنيا عنهما من الله) يعني: من عذاب الله (شيئاً). (وقيل ادخلا النار مع الداخلين) أي: قيل لهما إما عند موتهما أو يوم القيامة: ادخلا النار مع سائر الداخلين، من الفجرة الذين لا صلة بينهم وبين الأنبياء. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)): أجمع المفسرون هنا على أن الخيانة ليست زوجية. فلا يجوز أن يفهم أن الخيانة خيانة في إتيان الفاحشة؛ لأنه لا يمكن أن تفجر زوجة نبي، ولأن جانب العفة والإحصان بالنسبة لزوجات الأنبياء لا يمكن أن يخدش، ولأن هذا طعن في النبي نفسه، والطعن في النبي طعن في ربه عز وجل؛ كما سبق أن بينا ذلك بالتفصيل في تفسير سورة النور. وقال ابن عباس (نساء الأنبياء معصومات -أي: من ارتكاب الفاحشة والخيانة الزوجية- ولكنها خيانة دينية بعدم إسلامهن، وإخبار أقوامهن بمن يؤمنون مع أزواجهن. يقول: وقد يستأنس لقول ابن عباس هذا بتحريم التزوج من نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده، والتعليل له بأن ذلك يؤذيه، كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53]، فإذا كان هذا يؤذيه، فكيف إذا كان الأمر أخطر وأبعد من التساؤل بغير حجاب أو الزواج، إن مكانة الأنبياء عند الله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك. وكون النبي عليه الصلاة والسلام أعظم وأفضل خلق الله عز وجل، هذا باب مستقل صنف فيه بعض العلماء مصنفات مستقلة، وحصل فيه نوع من الاستقراء لآيات القرآن الكريم التي اشتملت على الآيات التي تدل على ذلك، منها كتاب (القول المبين في بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين) لـ أبي عبد الله الغماري، مع أنه صوفي وفيه بدعة غليظة، لكن هذا من محاسن كتبه. وفي سورة الأحزاب بالذات آيات كثيرة تخدم هذا المعلم، ومما يبين هذا المعلم قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53] أي: في أي شأن من الشئون، لأنه إذا كان سؤال أزواجه عليه الصلاة والسلام للمتاع بدون حجاب يؤذيه، فكيف إذا كان الأمر أخطر من التساؤل وهو الزواج بهن بعده، أو الوقوع في الفاحشة، هذا غير وارد على الإطلاق؛ فإنهن محفوظات من الوقوع في الفاحشة للسبب الذي ذكرنا. قوله: ((فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)) فيه بيان أن العلاقة الزوجية لا تنفع شيئاً مع الكفر، وقد بين تعالى ما هو أعم من ذلك في عموم القرابات، كقوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34 - 35]. جعل الله هاتين المرأتين مثلاً للذين كفروا، وهو شامل لجميع الأقارب، وإذا تتبعنا القرآن الكريم سنجد فيه قصصاً توضح لنا أن القرابة لا تنفع إذا اختلفت العقيدة، مثل هاتين الزوجتين المظاهرتين على نوح ولوط، وكذلك قصة إبراهيم مع أبيه، ونوح مع ابنه؛ فهذه جهة الزوجة مع زوجها، والولد مع والده، والوالد مع ولده. وأيضاً ما ورد في الحديث: (يا فاطمة اعملي؛ فإني لا أغني عنك من الله شيئاً) فلا يملك أحد نفع أحد يوم القيامة ولو كان أقرب قريب إلا بواسطة الإيمان بالله، وبما يكرم الله به من شاء من الشفاعة، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21].

تفسير قوله تعالى: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون)

تفسير قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون) يقول الله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]. هذا المثل فيه بيان المفهوم المخالف لما قبله، وهو أن المؤمن لا تضره معاشرة الكافر الجاحد، كما أن الكافر لا تنفعه معاشرة المؤمن. ونلاحظ هنا أن امرأة فرعون قالت: (رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) فقدمت الظرفية (عندك) ثم الجار والمجرور (في الجنة) حتى تكون بجوار الله وقربه. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قولها: (ونجني من القوم الظالمين) أي: من عملهم ومن عذابهم أن يعذبوها.

تفسير قوله تعالى: (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها)

تفسير قوله تعالى: (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها) يقول الله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] أي: حفظته وصانته. قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} يعني: جبريل عليه السلام، أو من روح خلقناه بلا توسط وهو عيسى عليه السلام. والروح في قوله: ((فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)) بينته الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17]، أي: فأرسلنا إليها روحنا وهو جبريل عليه السلام، كما في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] يعني: نزل جبريل عليه السلام بالقرآن.

شبهة النصارى في كون عيسى ابن الله والرد عليهم

شبهة النصارى في كون عيسى ابن الله والرد عليهم وفي هذه الآية رد على النصارى دعواهم أن عيسى عليه السلام ابن الله ومن روحه، تعالى عز وجل عن ذلك علواً كبيراً. وبيان هذا الرد: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17] فهذا يدل على أن الذي أرسل يمكن إرساله بنفسه، وهناك فرق عند أهل اللغة بين أن يرسل نفسه وما يرسل مع غيره كالرسالة والهدية، فيقال: أرسلت إليه بهدية، فتعدى بحرف الجر (إلى)، كما في قول بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35] فالهدية لا ترسل بنفسها، بل لابد أن تكون مع أحد، ومثله بعثت كأن تقول: بعثت البعير من مكانه، وبعثت مبعوثاً، وبعثت برسالة. فأما هنا فقال تعالى: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)) فدل على أن الروح لا يمكن أن يكون هو الله نفسه، بل أرسل شيئاً آخر. وقال: ((فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)) ولفظ الروح مؤنث، وشاهد ذلك من القرآن ما ورد في سورة الواقعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي: بلغت الروح الحلقوم، فأنث الفعل (بلغت)، أما الضمير هنا فهو مذكر: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ))؛ لأنه عائد على جبريل عليه السلام، ولو أنه من روح الله على ما ذهب إليه النصارى لما كان هناك حاجة إلى هذا التمثل. وأيضاً فإنه قال لها: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم:19] ورسول ربها هو جبريل عليه السلام وليس روحه تعالى. وقال: {لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19] ولم يقل: لأهب لك روحاً من الله. وإنما اشتبه عليهم الأمر في قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، ونقول: (من) هنا ليست للتبعيض، وإنما هي لابتداء الخلق، وذلك مثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: ابتداء خلقها من الله سبحانه وتعالى. كذلك يقول الله سبحانه وتعالى للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص:71] وهو آدم عليه السلام، ثم قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:72] يعني: نفخت فيه الروح التي بها الحياة، {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72]. فلو كان الروح جزءاً من الله لكان آدم أولى بالألوهية من عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يذكر في حق آدم إرسال رسول له، في حين أنه ذكر في خلق عيسى أنه أرسل رسولاً: ((فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا)). ويقول الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، كذلك مريم عليها السلام لما بشرتها به الملائكة: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47] فكل من آدم وعيسى قال الله تعالى: له كن، فكان. ثم يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} أي: بصحفه المنزلة من عنده. قوله: {وَكُتُبِه} أي: الموحاة، والعطف هنا للتفسير، أو: الكلمات أعم من المكتوب، والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار. قوله: ((وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)) أي: من المواظبين على طاعة الله والخضوع لأحكامه، والتذكير هنا من باب تغليب الذكور على الإناث.

ما يستفاد من الأمثال المضروبة في سورة التحريم

ما يستفاد من الأمثال المضروبة في سورة التحريم

كلام الزمخشري على الأمثال المضروبة في سورة التحريم

كلام الزمخشري على الأمثال المضروبة في سورة التحريم قال الزمخشري: مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم قطع العلائق وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً من أنبياء الله؛ بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله. ثم قال: ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين وأنها لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى. ومريم بنت عمران وما أوتيت من كرامة في الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفاراً، وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمَّيْ المؤمنين المذكورتين في أول السورة -أي: حفصة وعائشة - وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده؛ لما في التمثيل من ذكر الكفر، ونحوه في التغليظ قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. وأشار إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وألا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بـ حفصة أرجح؛ لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حداً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره.

كلام ابن القيم على الأمثال المضروبة في سورة التحريم

كلام ابن القيم على الأمثال المضروبة في سورة التحريم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار، ومثلين للمؤمنين. تضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال، فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلاً بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين، قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد اتصال، فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئاً. قال تعالى: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3]. وقال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48]. وقال عز وجل: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:33]. وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة؛ أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله، أو يشفع لهم عند الله، وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم، وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم. وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما: امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئاً إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئاً في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وفي الحديث: (يهلكون جميعاً، ثم يبعثون على نياتهم). ثم يقول: فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين. أما المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر. فذكر ثلاثة أصناف للنساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة التي لا وصلة بينها وبين أحد: فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها. والثانية: لا تضرها وصلتها وسببها. والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة شيئاً. ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة؛ فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما؛ ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثال اتصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة. وفي ضرب المثل للمؤمنين بـ مريم اعتبار آخر: وهو أنها لم يضرها عند الله شيئاً قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله منه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين، وفي هذا تسلية لـ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها. كما أن في التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذيراً لها ولـ حفصة مما تعمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليها، وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولاسيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.

الأحكام المستفادة من الأمثال المضروبة في سورة التحريم

الأحكام المستفادة من الأمثال المضروبة في سورة التحريم قال في الإكليل: استدل بقوله تعالى: ((اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ)) على صحة أنكحة الكفار. أقول: ويستدل بقوله تعالى: ((اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ)) إلى قوله: ((فَخَانَتَاهُمَا)) على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع، وهو جلي، وأيضاً العكس. يعني: لو أن رجلاً طرأ عليه فسق لم يجب أن ينفصل عن امرأته؛ لأن العبرة بالكفاءة في التدين عند العقد، كما ذكرنا هذا بالتفصيل في سورة النور: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] فيحرم على العفيف أن يتزوج الفاسقة الفاجرة أو العكس. وإذا تزوج رجل صالح بامرأة صالحة ثم طرأ الفسق على الرجل، فهذا لا يستوجب فسخ النكاح أو الفراق؛ لأن العبرة بأن يكون العقد صحيحاً عند العقد نفسه، أما بعد ذلك فيجوز استدامة هذا النكاح، وإن كان على الرجل أن يسعى بكل الأسباب في علاج هذا الفسق الذي طرأ عليه وإصلاحه. ثم يقول: ويستدل بذلك أيضاً على أن نكاح المشركات كان جائزاً في شرع من قبلنا، وقد حظره الإسلام أشد الحظر كما مر في آيات عديدة. وقال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون: ((رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)) قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع. وكما يقولون: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، فانظر فيمن تصاحبه أو تسافر معه. وقال الزمخشري: في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من شيم الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين. قوله تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ)) أي: فزعت إلى دعاء الله والاستعاذة به في هذه الكربة التي حلت بها، من هذا الزوج الذي هو أكبر الكفار. قوله: ((رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) قدمت أولاً الطلب الأخروي، ثم بعد ذلك طلبت العافية في الدنيا. إذاً: الفزع إلى الله سبحانه وتعالى والاستعاذة به والالتجاء إليه عند المحن والنوازل من سيرة الصالحين التي ينبغي أن نقتدي بهم فيها، ومن سنن الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى حاكياً عن نوح عليه السلام: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:118] وقال تعالى أيضاً حاكياً دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86] وهذه الآيات تدل على أنه كان لهم اهتمام بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنهم قدموا طلب سلامة الدين أولاً ثم طلبوا سلامة الدنيا. والله أعلم.

الملك [1 - 30]

تفسير سورة الملك [1 - 30]

بين يدي سورة الملك

بين يدي سورة الملك سورة الملك هي السورة السابعة والستون في ترتيب المصحف الشريف، وسميت بالملك لاشتمالها على كثير من آثار المُلك، من كثرة الخيرات وعموم القدرة والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة، والغفران، وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وألا يقدر أحد على نصر من عاداه، فهذه كلها من آثار الملك، وهذه المعاني في عامتها مما تناولته هذه السورة الكريمة؛ فمن ثم سميت سورة الملك، وتسمى أيضاً سورة تبارك. وهي سورة مكية، وآيها ثلاثون آية. وقد صح في فضلها على الخصوص أحاديث، ولا توجد سورة في القرآن ليس لها فضل، فكل السور لها فضل، ويدل على هذا العمومات الواردة في ثواب وفضيلة من قرأ حرفاً من كتاب الله أو من قرأ القرآن كله، لكن قد ثبتت بعض الأحاديث في فضيلة بعض السور بخصوصها، وهذا تماماً كما في شأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: فهل الصحابي الذي لم يثبت بخصوصه حديث ليس له فضائل؟ معاذ الله! وإنما له فضل، وهو يدخل في عموم الآيات والأحاديث التي تثني على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهذه فضائلهم أجمعين، لكن يأتي في شأن بعض الصحابة فضائل خاصة، وكذلك هذه السورة ثبت في فضلها بخصوصها بعض الأحاديث، منها: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي (تبارك الذي بيده الملك)). وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة، (تبارك الذي بيده الملك)). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ضرب بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر، وهو لا يحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر) قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه. وقوله: (خباءه) يعني: خيمته. قوله: (على قبر) يعني: على موضع قبر. قوله: (وهو لا يحسب أنه قبر) يعني: لا يظن أنه قبر. قوله: (فإذا قبر إنسان) فإذا هذه للمفاجأة يعني: إذا مكان قبر لإنسان. قوله: (يقرأ سورة الملك حتى ختمها) يعني: أن هذا الصحابي سمع صوت الميت المدفون في هذا القبر يقرأ سورة الملك حتى ختمها، وهذا قد يقع، أن يُكشف شيء من هذه الغيبيات أحياناً لبعض الناس بإذن الله تبارك وتعالى. قوله: (فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر، فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر)، ولذلك سميت هذه السورة بالمانعة يعني: أنها تمنع من يحفظها من عذاب القبر، وسميت المنجية؛ لأنها تنجيه من عذاب القبر، وهذا أمر معروف ومشهور، فمن الأسباب التي تقي الإنسان عذاب القبر أن يكون قارئاً وحافظاً لسورة الملك. وورد في بعض الأحاديث الضعيفة قوله عليه الصلاة والسلام: (وددت أنها في قلب كل مؤمن). فعلى أي الأحوال هذه السورة لها هذا الفضل العظيم، فنوصي كل من يسمع هذا الكلام ألا يقصر أبداً في حفظ سورة (تبارك الذي بيده الملك)، خاصة الذي تقدم سنه أو مرض أو نحو ذلك، فللسورة فضائل عظيمة جداً، ومن أكثر قراءتها فيرجى أنها تنفعه في قبره وفي الآخرة، وقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا ينام حتى يقرأ {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1 - 2]-يعني: سورة السجدة- و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]) فمن وظيفة هذه السورة أنها تتلى عند النوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ هاتين السورتين.

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير)

تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1]. قال ابن جرير: أي تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة؛ لا يمنعه مانع ولا يحول بينه وبينهم عجز، فلله عز وجل الملك التام، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع، فهذا كقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83] فمعنى تبارك: تعالى وتعاظم، فهو الذي يتصرف في جميع المخلوقات كما يشاء، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات أن يوجدها على ما يشاء. ولفظة (تبارك) بحسب اللغة والاشتقاق هي: تَفاعل من البركة، أي: تكاثرت البركات والخيرات من قبله عز وجل، وهذا يستلزم تعظيمه وتقديسه سبحانه وتعالى. قوله: (الذي بيده الملك) أي: كل شيء يتصرف فيه بما يشاء لا معقب لحكمه. ونلاحظ هنا تقديم الموصول وصلته بـ (تبارك)، لم يقل: تبارك الله وإنما قال: (تبارك الذي)، فتقديم الموصول بصفة خاصة لله تبارك وتعالى -وهي تبارك- يدل على عظمة الموصول، ويدل له قوله تبارك وتعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83]؛ لأن التقديم للتسبيح -وهو التنزيه- يساوي التقديم للبركة في قوله: (تبارك الذي بيده الملك).

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم)

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم) قال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]. قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) أي: قدر الموت والحياة، فأمات من شاء وما شاء، وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم، أو أوجد الحياة وأزالها حسبما قدَّر. قوله: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) يعني: ليختبركم فيعلم أيكم أحسن عملاً، كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، فيقدر هنا (فيعلم) أي: علم وقوع، علم مكاشفة وليس علم غيب؛ لأن مثل هذا يتعلق بالأشياء بعد وجودها، وهي تقع موافقة لما سبق في علم الله تبارك وتعالى من المقادير. قوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ)) أي: الغالب الذي يقهر من أساء العمل. قوله: (الغفور) أي: لذنوب من أناب إليه وأحسن العمل. وقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقال هنا في سورة الملك: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا))، فهذا دليل على الحكمة من خلق الموت والحياة. أما تقديم الموت على الحياة فهو كما قدم الإناث في قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49]، وقيل: إن تقديم الموت هنا؛ لأن الأصل العدم، ثم بعد ذلك جاءت الحياة، والله تعالى أعلم. وقال سبحانه: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) ولم يقل: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً؛ لأن العبرة بالإحسان في العمل لا بكثرته، وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم معنى الإحسان في حديث جبريل المشهور حينما سأله: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى الإحسان المذكور في قوله: ((أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)). قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة؛ لأنه لو كان عدمياً لما تعلق به الخلق، فالموت مخلوق، ودليله قوله تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)) يعني: أن الله خلق هذا الموت.

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقا)

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً) قال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3]. قوله: (الذي خلق سبع سموات طباقاً) قال ابن جرير: طبقاً فوق طبق بعضها فوق بعض. وقال بعض علماء الفلك: اعلم أن لفظ السماء يطلق لغة على كل ما علا الإنسان. فالسماء من السمو وهو العلو، فسقف البيت سماء، ومنه قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] فقوله: (فليمدد بسبب) أي: يمدد بحبل إلى سقف بيته. أما قول علماء الفلك: وهذا الفضاء اللانهائي سماء، فهم لا يدققون في ألفاظهم، فهو في الحقيقة ليس فضاء بل هو مليء بالملائكة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فيها موضع شبر إلا وملك ساجد يسبح الله تبارك وتعالى). وقولهم: وهذا الفضاء اللانهائي سماء! فيه نوع من التجاوز؛ لأنه ما دام مخلوقاً فله حد وله نهائية وله غاية، وليس ممتداً إلى ما لا نهاية، فهذا كلام من يطلق الكلام دون أي حساب. يقول ابن جرير: ومنه قوله تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24]. ومنه قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام:99] السماء هنا هو السحاب. كذلك تسمى الكواكب سماء؛ لأنها تعلونا. إذاً: سقف الحجرة سماء، والسحاب سماء، والكواكب سماء، وما يسمى بالفضاء إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى يطلق عليه سماء. يقول القاسمي: والكواكب سموات، تلاحظون أن في أيام القاسمي لم يكن قد حصل تقدم علمي كالذي وصلوا إليه الآن من اكتشاف الأفلاك، فبعضهم كان يزعم أن السماوات السبع هي الكواكب السبعة السيارة! يقول: وهي طباق بعضها فوق بعض؛ لأن فلك كل منها فوق فلك غيره، ومعنى هذا القول في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:6 - 7] فواضح من هذا أن السماء الدنيا هي التي فيها هذه الكواكب؛ لأن السماء الدنيا هي فقط التي نراها الآن والتي فيها هذه الكواكب، أما بقية السماوات السبع الأخرى فإننا لا ندرك ما فيها. قوله: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)) [الملك:3] أي: تخالف وعدم تناسب في رعاية الحكمة، بل راعاها في كل خلقه. قوله: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ)) يعني: إن شككت فكرر النظر. قوله: ((هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)) أي: من خلل. وأصل الفطور الصدوع والشقوق أريد به لازمه كذا قالوا، والصحيح أنه على حقيقته، فمعنى قوله: ((هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)) أي: هل ترى من انشقاق وانفطار بين السماوات، بحيث تذهب من هذا الانشقاق، وتقطع علاقاتها وأحبال سببها؟ كلا، بل هي متماسكة، ومرتبط بعضها ببعض من كل جهة، كما تقدم في سورة (ق) في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]، وهذا يفسر قوله هنا: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)). وقرأها حمزة والكسائي: (ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت).

تفسير قوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين)

تفسير قوله تعالى: (ثم ارجع البصر كرتين) قال تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4]. قوله: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)) أي: كرره مرة بعد مرة. قوله: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا)) (خاسئاً) يعني: مبعداً، من قولك: خسأت الكلب، يعني: باعدته. يقول القاسمي: (ثم ارجع البصر كرتين) أي: رجعتين أخريين؛ ابتغاء الخلل والفساد والعبث، تدبر وانظر وفكر: هل تجد عبثاً أو خللاً أو تفاوتاً في خلق السماوات؟ والمراد بالتثنية في قوله: ((كَرَّتَيْنِ)) التكرار. قوله: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ)) أي: يرجع إليك البصر. قوله: ((خَاسِئًا)) يعني: مطروداً عن أن يصيب ويجد الخلل أو الفساد أو العبث في هذا المخلوق العظيم. قوله: ((وَهُوَ حَسِيرٌ)) أي: منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه، فيصيبه هذا الكلل والتعب والإرهاق؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يرجع ويرى في خلق الله سبحانه وتعالى تفاوتاً أو خللاً أو فساداً أو عبثاً. وقال الزجاج في تفسير قوله تعالى: ((وَهُوَ حَسِيرٌ)): قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً. ومعنى كلام الزجاج: أن الذي ينظر ويتأمل ويتدبر ويبحث في هذه السماء بنية أن يعثر على خلل فسوف يعيا، ويكون حسيراً متعباً كالاً مرهقاًَ، ويرجع خاسئاً خائباً، فلن يجد على الإطلاق خللاً، ولن يرى في السماء خللاً. يقول الزمخشري: نهاية كمال عالم الملك في خلق السماوات، لا ترى أحسن خلقاً وأحسن نظاماً وطباقاً منها، وأضاف خلق السماوات إلى الرحمن عز وجل؛ لأنها من أصول النعم الظاهرة، ومبادئ سائر النعم الدنيوية، وسلب التفاوت عنها لمطابقة بعضها بعضاً، وحسن انتظامها وتناسبها، وإنما قال: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))؛ لأن تكرار النظر وتجوال الفكر مما يفيد تحقق الحقائق، وإذا كان ذلك فيها عند طلب الخروق والشقوق لا يفيد إلا الخسوء والحسور تحقق الامتناع. فالشخص الذي يريد أن يفتش عن الخلل في خلق السماوات، هل سيعود بتحقيق شيء من بغيته؟ لا يمكن أبداً أن يحقق شيئاً من ذلك. وقال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7]، وقال تبارك وتعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] تبارك وتعالى. يقول الناصر في قول الله تبارك وتعالى: ((يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا)): وضع للظاهر موضع المضمر، لم يقل: ثم ارجعه مرتين، وإنما قال: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)). ثم قال: وفيه من الفائدة: التنبيه على أن الذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك. والنظر هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا شيء. إذاً: ما الذي يستعمل في النظر وفي الاطلاع والرؤية؟ العين، فلذلك قال: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4]، فالذي يرجع خاسئاً حسيراً غير مدرك الخلل هو الآلة التي يلتمس بها إدراك ما هو كائن، فإذا لم يُدرك شيء دل على أنه لا يوجد خلل ولا فطور في خلق الله تبارك وتعالى. وهذا الإتقان العظيم في خلق السماوات والأرض -كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6]- إنما هو في الدنيا فقط، أما يوم القيامة فلا شك أن السماء سوف تنفطر، كما قال الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، وقال: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1]، وقال: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، فالمقصود بهذا الإحكام والإتقان إنما هو في الحياة الدنيا.

تفسير قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح)

تفسير قوله تعالى: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]. قال ابن جرير: وهي النجوم، وجعلها مصابيح لإضاءتها، وكذلك الصبح إنما قيل له: صبح للضوء الذي يضيء للناس في النهار. قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]. قال ابن كثير: عاد الضمير في قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاهَا)) على جنس المصابيح لا على عينها؛ لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء، بل بشهب من دونها، وقد تكون مستمدة منها. جزى الله الإمام الحافظ الجليل ابن كثير خيراً، فالمستوى العلمي البشري يتفاوت عند العلماء، لقد كان العلماء قديماً في علوم الشريعة في القمة، لكن كانوا مواكبين لعصورهم في ناحية العلوم الاستكشافية حسب المستوى العلمي البشري، وقد ترك الله للبشر هذا القسم من العلوم ليكتشفوه ويتطوروا ويتقدموا فيه. لو تأملنا هنا قول الله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) هل يحتمل أن تكون المصابيح هي الكواكب؟ لا؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، والذي ترجم به الشياطين الشهب، وهذه الشهب طبيعتها نفس طبيعة النجوم، فالشمس مثلاً نجم، أما الأرض والزهرة والمشتري وزحل ونحوها كواكب. إذاً: الأشياء المتوهجة بالكتل الغازية الضخمة الملتهبة كالشهب والنجوم هي المصابيح، ولذلك الله سبحانه وتعالى قال في الشمس: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13]، لكن في القمر قال: {وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، ولم يقل في القمر: وهاجاً، بل قال: (قمراً منيراً)؛ لأنه مثل المرآة ينعكس عليه ضوء الشمس فنراه بهذه الإضاءة، لكن الشمس نفسها نجم، النجوم والشهب كذلك. إذاً: هنا يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) ما هي هذه المصابيح؟ النجوم، بدليل قوله: ((وَجَعَلْنَاهَا)) أي: هذه المصابيح. قوله: ((رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)) أي: يرجم بها مسترق السمع من الشياطين. وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] أي: في الآخرة، هذه الآية تكشف عن حكمتين من خلق النجوم: الأولى: أنها زينة: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ). الثانية: أنها يرجم بها الشياطين الذين هم أعداء البشر بانقضاض الشهب عليهم. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا)): يعني: وجعلناها رجوماً وظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون، والصواب أنها بمعنى آية الصافات وهي قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات:6 - 7] زينة وحفظاً، {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:8 - 10]، فالذي يرجم به هو شهاب ثاقب.

موقف العلماء من المخترعات والنظريات الحديثة

موقف العلماء من المخترعات والنظريات الحديثة فضيلة الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله تعالى كان أقرب تلامذة الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى، وهو الذي أتم أضواء البيان بعد وفاة الشيخ رحمه الله؛ لأن الشيخ الشنقيطي رحمه الله كان آخر آية فسرها هي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، فلعلها بشرى في كونه من حزب الله المفلحين إن شاء الله تعالى. وشيخ الإسلام ابن تيمية كان آخر ما قرأه من الآيات قبل موته: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]. وعمر بن عبد العزيز آخر آية قرأها عند الاحتضار: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم قبض رحمه الله تعالى. والشيخ محمد رشيد رضا آخر آية فسرها هي قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]. والشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى ممن لحق بربه في عام الحزن، هذا العام الذي شهد موت كواكب أئمة المسلمين أمثال الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى. يقول الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله: ظهرت تلك المخترعات الحديثة، ونادى أصحاب النظريات الجديدة، والناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يبادر بالإنكار، وآخر يسارع بالتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن والسنة، ولعل الأولى أن يقال: إن النظريات الحديثة قسمان: نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع، كنظرية ثبوت الشمس مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، وقال سبحانه: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، في هذه الحالة قطعاً لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها قائمة على رأي بشري قاصر، ومتعارضة تعارضاً صريحاً مع كلام خالق السماوات والأرض: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] سبحانه وتعالى. ثم إذا بنفس النظرية تتطور بعد ذلك ويعلنون أن الشمس بكل الأجرام السماوية المحيطة بها -أي: المجموعة الشمسية- تَسْبَحُ إلى حيث شاء الله سبحانه وتعالى في الفضاء، وحركة الأفلاك السماوية شيء ملاحظ ومحسوس، وكلها تتحرك بحكمة وبحساب، قال تعالى: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19]، فالشمس بالنسبة لما يدور حولها من الأجرام السماوية ثابتة والله أعلم، لكن نفس الشمس مع المجموعة الشمسية كلها تدور بقدرة الله سبحانه وتعالى. وقول الله تبارك وتعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا) هذه الآية من إعجاز القرآن الكريم، بل أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في صورة أوضح وأشهر، وذلك عندما بين أن الشمس حينما تغيب تذهب وتسجد تحت عرش الرحمن تبارك وتعالى، ثم تستأذن في الشروق فيؤذن لها، إلى آخر الحديث المعروف. على أي حال فأي شيء من النظريات العلمية يتعارض مع نص صحيح أو مقطوع به من آيات القرآن الكريم أو حديث نبوي واضح، وكان هذا التعارض صريحاً؛ ففي هذه الحالة لابد أن نرد هذه النظرية؛ لأنها صادرة عن علم بشري خاطئ، أما إذا كانت هذه النظرية قد وصلت إلى مرتبة الحقيقة ولا يمكن الطعن فيها، مثل: كروية الأرض، فهذه حقيقة ما ينبغي أبداً أن يأتي إنسان الآن ويدعي أن الأرض غير كروية؛ لأن كون الأرض كروية هذا شيء محسوس، ولماذا نستغرب كون الأرض كروية؟ فكل الأجسام كروية، فالقمر كروي، والشمس كروية، وقوله عز وجل: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)) قالوا: عدم التفاوت أقوى ما يكون في الشكل الكروي. ثم يقول: ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص القرآن عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا ما يرفضها، فالأولى أن يكون موقفنا منها موقف التثبت، ولا نبادر بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً. وذلك لأن القرآن الكريم ليس كتاب تكنولوجيا وإنما هو كتاب هداية، صحيح أتت بعض الإشارات تتضمن ما يسمى الآن بالإعجاز العلمي في القرآن، لكن هذا يصح الاستدلال به فيما وصل إلى مرتبة الحقيقة العلمية التي توافق ما جاء في القرآن، أما إذا كان هناك شيء ليس عندنا ما يرده ولا عندنا أيضاً ما يقبله، فهذه تترك للخبرة البشرية والعلم البشري، ولا ينبغي ربطها أبداً بالقرآن الكريم؛ لأن بعض الناس غلا في هذا الأمر غلواً مستقبحاً، حتى إن بعض الناس أراد أن يلصق نظرية داروين بالإسلام، فادعى في تفسيره أن نظرية داروين أشار إلى صحتها القرآن، وذلك في قول الله تبارك وتعالى في أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] قال: هي هذه النفس الواحدة وقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1]. وهذا من الإلحاد في آيات الله ومن تحريف كلام الله عن موضعه؛ لأن نظرية داروين نظرية فاشلة وخائبة ومزيفة، فلا يجوز أبداً أن يربط نصوص القرآن الكريم بنظريات تروح وتجيء وتخطئ وتصيب، وإنما الذي يجوز ربط القرآن به هو ما وصل إلى مرحلة الحقيقة العلمية. إذاً: ينبغي أن نتثبت ولا نتهور بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً، ونأخذ ذلك من قصة الهدهد مع نبي الله سليمان لما جاء يخبره عن قوم سبأ، يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:22 - 23]، فلما أخبر الهدهد سليمان بذلك، ولم يكن سليمان عليه السلام يعلم عنهم شيئاً، فسليمان لم يكذب الخبر الذي ورد من الهدهد ولم يصدقه؛ لأنه لم يعلم عنهم شيئاً، مع أن الهدهد وصف حالهم وصفاً دقيقاً، لكن كان موقف سليمان عليه السلام هو موقف المتثبت؛ مع ما لديه من إمكانات الكشف والتحقيق من الريح والطير والجن، فقال للمخبر -وهو الهدهد-: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27]، هذا هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى فيما لا يعلم الإنسان صدقه من كذبه، أن يتريث ويتثبت ولا يتهور في الجانب السلبي أو الإيجابي. ثم يقول الشيخ رحمه الله: ونحن في هذه الآونة لسنا أشد أو أعظم إمكانيات من نبي الله سليمان عليه السلام آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد، فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه، والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس فيه صريحاً فيه، ونحمّله ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة؛ لأن النظريات الحديثة يهدم بعضها بعضاً، فإذا ربطنا القرآن بالنظرية ثم ثبت بطلانها ففي هذه الحال نفتح باب فتنة على الناس، والخطأ منا نحن حينما نربط القرآن بهذه المتغيرات؛ لأن القرآن فوق ذلك كله، القرآن أعلى وأسمى من هذا كله، يقول الله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. ويقول أيضاً في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4]: المنصوص عليه هنا في هذه الآية هو إرجاع البصر كرتين، ولكن حقيقة النظر أنه أربع مرات، الأولى في قوله تعالى: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ))، والثانية في قوله: ((فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)) والثالثة والرابعة في قوله: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ))، وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد. والحسير هو العيي الكليل العاجز المنقطع دون غاية، كما في قول الشاعر: من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه من الطرف قد حسرا قال القرطبي: يقال: قد حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كل وانقطع نظره من طول مداه وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضاً. قال الشاعر: نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إليّ الطرف وهو حسير

الحكمة من خلق النجوم

الحكمة من خلق النجوم قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5] قوله: (الدنيا) تأنيث الأدنى، أي: السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليس فيها مصابيح، أي: النجوم والكواكب، كما قال الله: {بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، ويدل لهذا المفهوم قول قتادة: إن الله جعل النجوم لثلاثة أمور: زينة للسماء الدنيا، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها في البر والبحر، كما قال عز وجل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا؛ لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى؛ لأنها أجرام محفوظة، كما ذكر في حديث الإسراء أن لها أبواباً فلا يدخل منها إلا بإذن، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، وهذا ليس صريحاً، وإنما هو استدلال بمفهوم قوله تعالى: ((إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا))، فيفهم منها أن ما عدا السماء الدنيا ليس فيه نجوم ولا كواكب ولا شياطين ترجم. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5] الرجوم هي الشهب من النار، والدليل على أن الشهب هي النار قوله تعالى: {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]، فالشهب هي التي يرجم بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]، وقوله تعالى أيضاً: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10].

الرد على شبهة امتناع تعذيب العصاة من الجن بالنار لكونهم خلقوا منها

الرد على شبهة امتناع تعذيب العصاة من الجن بالنار لكونهم خلقوا منها هنا سؤال وهو: إذا كان الجن من نار، كما في قوله تعالى: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15] فكيف تحرقهم النار؟ A أن الله سبحانه وتعالى جعل أصل خلقتنا من الماء ومن التراب، لكن كون أصل الخلقة من شيء فإنه يختلف تماماً عن كينونة هذا الشيء وصيرورته فيما بعد، فنحن البشر بما أنا خلقنا من طين، فهل إذا ابتللنا بالماء نصير طيناً؟! لا يكون هذا، كذلك أصل خلق الجن من النار كما في قوله: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ)، لكن ما هي الصورة التي عليها الجن الآن؟ لا ندري: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فكون أصلهم من نار لا يستلزم أنهم الآن نار، وقد أجاب بعض العلماء عن هذه الشبهة بجواب آخر: أجاب عنها الفخر الرازي بقوله: إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] والسعير هو أشد النار وأقوى النار، ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضاً أقوى منها فتكسرها، أو يسلط معدن على معدن آخر فيخدشه أو يؤثر فيه، وهذا ما يعرف بخاصية الصلادة، وكما قال العرب: لا يفل الحديد إلا الحديد. إذاً: لا يمنع كون أصل الجني من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فلو أحضرت إنساناً وأحضرت كمية كبيرة من الفخار والطوب الفخار وظللت تضربه أو ترجمه بهذه الأشياء فسوف تقتله، وقد يموت الإنسان بضربة بقطعة واحدة من الفخار، مع أنه خلق من الفخار، والعلم عند الله تعالى.

تفسير قوله تعالى: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير)

تفسير قوله تعالى: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير) قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك:6]. قوله: (وبئس المصير) أي: بئس المرجع ذلك العذاب، وهذا من الاستطراد؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر وعيد الشياطين، ثم استطرد في وعيد الكافرين عموماً.

تفسير قوله تعالى: (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور)

تفسير قوله تعالى: (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور) قال تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ} [الملك:7]. الشهيق صوت مثل صوت الحمار. يقول: القاسمي: إن المقصود أنهم سمعوا لأهلها الذين سبقوهم إلى النيران -والعياذ بالله- الأصوات المنكرة المنافية لأصوات الأناسي أو لأنفسهم، فإنهم يصطرخون فيها بأصوات الحيوانات المنكرة، كما في قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106] هذا الاحتمال الأول في تفسير قوله: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ). الاحتمال الثاني في تفسير هذه الآية: أنهم سمعوا للنار أو للسعير أو لجهنم شهيقاً وصوتاً منكراً فظيعاً، أي: تغلي بهم كغلي المرجل.

تفسير قوله تعالى: (تكاد تميز من الغيظ)

تفسير قوله تعالى: (تكاد تميز من الغيظ) قال الله تعالى: ((تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ)) يعني: تكاد تتقطع من تغيظها عليهم، أو تكاد تتفرق أجزاؤها من الغيظ، على الذين أغضبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وللأسف الشديد أورد القاسمي هنا قول من ادعى المجاز في هذه الآية فقال: شبهت في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه، فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية، وهي الغضب الباعث على ذلك، واستعير لتلك الحالة المتوهمة الغيظ، وأما ثبوت الغيظ الحقيقي لها بحيث يخلق الله فيها إدراكاً فبحث آخر، لكنه قد قيل هنا: إنه لا حاجة إلى ادعاء التجوز فيه. أما استبعاد المجاز في قوله تعالى: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) فنقول: إن كلمة (تكاد) من أفعال المقاربة، أي: أنها تقارب أنها تتقطع من شدة غيظها على الكافرين، فيمتنع هنا وجود المجاز، كما في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35] وجوز بعضهم أن المراد بالغيظ غيظ الزبانية. يقول العلامة الشنقيطي: النار لها حس وإدراك وإرادة، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتقصد المجيء، كما قال عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، وكما في الحديث: (تقول النار: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين) فهذه حقيقة. كذلك قوله: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، وقال عز وجل هنا: ((تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا)) أي: كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة، وليس المراد بالفوج عصاة الموحدين الذين يدخلون النار ولا يخلدون فيها؛ لأن سياق الآية واضح جداً أنها في الكفار كفر أكبر؛ لأن تكذيب الرسل لا يكون إلا من الكفار. قوله: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ)) جماعة من الكفرة. قوله: ((سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا)) سؤال توبيخ، أي: في الدنيا ينذركم هذا العذاب. واستدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا تكليف قبل البعثة.

تفسير قوله تعالى: (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا)

تفسير قوله تعالى: (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا) قال تعالى: {قَالُوا بَلَى} [الملك:9] (بلى) هذه إثبات؛ لأن جواب السؤال المنفي بأداة نفي يكون ببلى في الإثبات، أما لو قلت: نعم، فهو جواب بالنفي، كما لو قال لك المدرس: ألم تفهم ما قلت لك؟ فإن قلت: نعم فمعناه: أنك لم تفهم؛ لأن بعد أداة الاستفهام أداة نفي وهي ألم ومثلها أليس، فإذا أردت الإثبات فتقول: بلى. أما قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44] فالسؤال هنا جاء بعد أداة الاستفهام، لكن لا يوجد نفي، فالجواب هنا في الإثبات يكون بنعم، وعندما أقول لك: هل أنت متوضئ؟ تقول: نعم أو لا. قوله: (قَالُوا بَلَى) انظر إلى الاعتراف، يعني: بلى قد جاءتنا الرسل، المصيبة الكبرى ليس فقط في اعترافهم بمجيء الرسل إليهم، وليس فقط بتكذيبهم الرسل، بل قالوا: نحن أفرطنا في التكذيب، ونفينا التنزيل والإرسال والنبوة. قوله: {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:9] (من) هنا قطعاً تدل على العموم، يعني: ما أنزل الله من شيء على الإطلاق، زيادة على هذا فقد بالغوا في نسبة الرسل إلى الضلال، وذلك بقولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9] وليس في ضلال فقط بل (كَبِيرٍ)!

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]. يقول القاسمي: قوله: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)) أي: لو كنا نسمع من النذر ما جاءت به. يعني: لو كنا نتفكر في كلام الله الذي جاء به المرسلون سماع طالب للحق وعقلنا ذلك ((مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) أي: ما كنا في عداد أهل النار. ودل قوله تعالى: ((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)) على أن الكافر لم يعط من العقل شيئاً، ولذلك القرآن الكريم ينفي عنهم أحياناً العقل، مع أنه في مواضع أخرى يثبته، فما الجمع بينهما؟ A أن العقل موجود، لكن لما كانت الحكمة من خلق الإنسان وتكريمه بالعقل أساساً هي أن يتفكر به في توحيد الله، ويتوصل به إلى إثبات الإسلام والتوحيد والنبوة، فلما عطل عقله عن هذه الوظيفة التي خلق من أجلها أساساً، فبالتالي صار مستوياً مع من لا عقل له من البهائم والجمادات ونحوها، فلذلك بعض الآيات تثبت له العقل وبعضها تنفيه، وكذلك السمع والبصر، يقول تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] يعني: عندهم قلوب لكنهم لا يستعملونها فيما خلقت من أجله وكذلك السمع والبصر. وهذا الآية أيضاً تشير إلى أن الوصول إلى الحق لا يكون إلا عن طريق السمع أو العقل، (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) السمع هو الآيات والآثار والروايات، والعقل هو الدليل الثاني. قال الناصر: لو تفطن نبيه لهذه الآية لعدها دليلاً على تفضيل السمع على البصر، فإنه قد استدل على ذلك بأخفى منها. وقال ابن السمعاني: استدل بها من قال بتحكيم العقل في موضعه. وقال الزمخشري: قيل: إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. قال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11]. ((فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ)) يعني فأقروا بجحدهم الحق، وتكذيبهم الرسل. ((فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ)) أي: بعداً لهم سواء اعترفوا أو أنكروا فإن ذلك لا ينفعهم، ولا يفيدهم شيئاً. قوله تعالى: (فَسُحْقًا) هذا منصوب على المصدر، يعني: أسحقهم الله سحقاً، ومعناه باعدهم الله من رحمته مباعدة، والسحيق هو البعيد.

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل)

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]: أي: قال أهل النار: لو كنا نسمع أو نعقل عن الله حججه ما كنا في أصحاب السعير، فهم يسمعون، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة؛ لأن الله تعالى قال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة:7]، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف:57]. قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2] فهذه إثبات لحاستي السمع والبصر، فهو عنده الآلة لكن لم يستعملها فيما خلقت لأجله، فهذه من الآيات التي تثبت حاستي السمع والبصر، ((فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) في حين يقول في آيات أخرى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]. وقال أيضاً في آخر سورة الملك: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] هذا إثبات لوجود هذه الآلات، لكنهم سمعوا وعصوا، كما في قوله: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] وهذا وإن كان في بني إسرائيل، إلا أنه تعالى قال لهذه الأمة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21] هم يسمعون الحروف لكن دون أن يعقلوها، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ))، قوله: ((كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)) أي: يرفع صوته. قوله: ((بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً)) أي: يعني لا يسمع إلا أصوات، مثله مثل البقرة أو الجاموسة أو الحمار أو غيرها من الحيوانات التي لا تعقل، إذا وقفت أمام الحمار وقرأت عليه المعلقات السبع مثلاً هل سيفهمها؟ هو يسمع أم لا يسمع؟ هو يسمع، لكن لا يفهم؛ لأنه ليس عنده عقل. والحمار يسمع الأصوات، ولذلك يسير ببعض الأصوات المعينة ليتجه إلى اليمين أو الشمال، أصوات معينة يصدرها له سائقه فيستجيب، لكن هو لا يفهم هذا الكلام، فكذلك الكفار، فهذا معنى قوله تعالى: (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً). والله سبحانه وتعالى خاطب هذه الأمة قائلاً: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:21] قوله: (وهم لا يسمعون) أي: سماعاً ينفعهم، وإلا فقد قال تعالى عنهم: {قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26]، وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:7 - 9]، وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان:7]، فقول الكفار هنا: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] يعني: لو كنا نسمع سماع تعقل وتفهم ما كنا في أصحاب السعير.

الاعتراف والتوبة والإيمان عند معاينة العذاب

الاعتراف والتوبة والإيمان عند معاينة العذاب قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:11] أي: أقروا حيث لا ينفع الإقرار ولا الندم، فاعتراف الكفار وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة لا ينفعهم، وهذا المعنى كررناه كثيراً، ولا نمل من تكراره؛ لأن التوبة أو الإيمان والإقرار والاعتراف بالحق بعد فوات أوانه لا ينفع الإنسان شيئاً، كأن يتوب عند الغرغرة؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فإذا فاجأه الموت فلا تنفعه التوبة عند الموت. وكذلك في الدنيا إذا طلعت الشمس من المغرب يغلق باب التوبة، وذلك لقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. وكذلك عند نزول العذاب من الله سبحانه وتعالى لا ينفعهم الإقرار، كما قال تعالى عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فبماذا أجيب؟ أجيب بقوله: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]. إذاً: لا تنفع التوبة ولا الإقرار بالذنب عندما يصير الغيب شهادة، وعندما يرى المرء الملائكة أتت لقبض روحه، أو حينما يلقون في النار يوم القيامة: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، فاليقين الذي ينفع هو اليقين في الدنيا في دار العمل، أما اليقين والإيمان في الآخرة عند نزول العذاب فهو يقين وإيمان رغم أنف الإنسان، ففيه نوع من الإكراه له، فلا يقبل الإيمان الذي يقع تحت الإكراه، قال الله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، وإنما الإيمان واليقين الذي له قيمة هو الذي يقع هنا في دار التكليف في مجلس الامتحان، لكن هناك تظهر النتيجة فقط؛ لأنه ليس هناك عمل، ولذلك كانت أول صفات المؤمنين في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] فالإيمان بالغيب يتوصل إليه الإنسان عن طريق التفكر والتدبر في آيات الله وتحري الحق والبحث عنه والجهاد، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، هذا الإيمان الذي له قيمة، لكن بعد معاينة العذاب لا يفيد.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين يخشون ربهم بالغيب) قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]. الخشية: هي شدة الخوف، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49]، أما محل تلك الخشية فهي أهل العلم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؛ لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه. وحقيقة خشية الله سبحانه قد بينها الله في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] وهذه حقيقة ليست مجازاً، من الحجار ومن الجبال ما يتفطر من شدة خشيته لله، قال تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخفوا وتستروا، وهم دائماً منيبون إلى الله، كما قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:32 - 33]، فهذه منزلة العلماء، وهي أعلى درجات السلوك مع الله تبارك وتعالى، وهي أيضاً منزلة الأنبياء: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39]، والعرب تمدح من يكون في خلوته كمشهده مع الناس، ومنه قول مسلم بن الوليد: يتجنب الهفوات في خلواته عف السريرة غيبه كالمشهد فقوله تبارك وتعالى هنا: ((إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)) أي: يخافونه ويخافون عذابه، مع أنهم لم يروا الله تبارك وتعالى. ما جزاؤهم؟ قال عز وجل: ((لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)).

تفسير قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به)

تفسير قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به) عاد الخطاب إلى الكفار، فقال تبارك وتعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] يعني: هو عليم بضمائرها، فكيف بما نطق به الإنسان؟! والمعنى: فاتقوه واخشوه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إن هذه الآية نزلت في المشركين الذين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل بما قالوا، فيقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد!

تفسير قوله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)

تفسير قوله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) قال تبارك وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يعني: ألا يعلم السر والجهر من خلق الأشياء؟ بلى، فإن الخلق يستلزم العلم. قوله تعالى: ((وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) أي: اللطيف بعباده، الخبير بأعمالهم. وقيل: معنى الآية: ألا يعلم الله من خلقهم وهو بهذه المثابة. قال الغزالي: إنما يستحق اسم اللطيف من يعلم دقائق الأمور وغوامضها وما خفي منها، ثم يسلك في إيصال ما يصلحها سبيل الرفق دون العنف، والخبير هو الذي لا يعزب عن علمه الأمور الباطنة، فلا تتحرك في الملك ولا الملكوت ذرة، ولا تسكن أو تضطرب نفس إلا وعنده خبرها، وهو بمعنى العليم.

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا)

تفسير قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً) قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] الذلول بمعنى: مذللة سهلة لم يجعلها ممتنعة. أي: جعل الأرض لينة سهلة المسالك. قوله: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)) أي: في نواحيها وجوانبها، قال ابن جرير: نواحيها نظير مناكب الإنسان التي هي من أطرافه. وفي قوله تعالى: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)) ثلاثة أقوال: القول الأول: مناكبها يعني: طرقها. القول الثاني: جبالها؛ لأنه إذا أمكن كون السلوك والمشي في الجبال فهذا أبلغ في تسهيلها وتسخيرها. القول الثالث: جوانبها ونواحيها. وقوله: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) لما ندبهم الله عز وجل إلى البحث عن الرزق استعمل الله لفظ المشي فقال: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا))، لكن في العبادة قال عز وجل: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقال سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقال عز وجل: {سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وهذا من أجل أن يترفق الإنسان في طلب الرزق. قوله: ((وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) أي: التمسوا من نعمه سبحانه وتعالى، فالأكل والرزق أريد به طلب النعم مطلقاً، وتحصيلها أكلاً وغيره، وهو اقتصار على الأهم الأعم. وأنت إذا تأملت نعيم الدنيا وما فيها، لم تجد شيئاً منها أحوج إلى المرء غير ما أكله، وما سواه فهو متمم له أو دافع للضرر عنه. قوله: ((وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)) أي: إليه نشوركم من قبوركم للجزاء. قال في الإكليل في قوله تعالى: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)): فيه الأمر بالتسبب والكسب، يعني: أخذ أسباب طلب الرزق. وقال ابن كثير: في الآية تذكير بنعمته تعالى على خلقه في تسخيره لهم الأرض، وتذليله إياها لهم، بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب؛ بما جعل فيها من الجبال، وأنبع فيها من العيون، وسلك فيها من السبل، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار. والمعنى سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات.

تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور)

تفسير قوله تعالى: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور) خوف الله تعالى الكفار فقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] هذا خطاب للكافرين أي: أأمنتم العلي الأعلى أن يخسف بكم الأرض، فيغيبكم إلى أسفل سافلين؟ قوله: ((فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)) أي: تضطرب وتهتز هزاً شديداً بكم، وترتفع فوقكم، وتنقلب عليكم. قوله تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] وهو التراب الذي فيه الحصباء الصغار. قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:17] أي: ستعلمون عاقبة نذيري لكم إذا كذبتم به، ورددتموه على رسولي. وقد بين تعالى نذيره لهم في غير ما آية، وهو زهوق باطلهم إذا أصروا، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم وغلبة جنده، كما قال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88].

تفسير قوله تعالى: (ولقد كذب الذين من قبلهم)

تفسير قوله تعالى: (ولقد كذب الذين من قبلهم) قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الملك:18] يعني: مع كونهم أشد منهم عَدَدَاً وعُدَدَاً، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك:18] أي: كيف كان نكيري على تكذيبهم؟ وذلك بإنزال العذاب بهم، ودحر باطلهم، وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتقوية عزيمته في الاستمرار في الدعوة والجهاد.

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات)

تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها. قوله: {وَيَقْبِضْنَ} [الملك:19] أي: ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن وقتاً بعد وقت للاستظهار به على التحريك، ولتجدده عبر عنه بالفعل؛ لأن هذا شيء مستمر، وفيه إشارة إلى أن القبض أمر طارئ على الصف، تفعله الطير في بعض الأحيان للتقوي على التحريك كما يفعله السابح في الماء، يقيم بدنه أحياناً، والبسط أو الصف هو الأصل الثابت في حالة الطيران، ولذا اختير له الاسم، فقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ)، على أنها الصفة الثابتة المستمرة لهذه الطيور، وأنهن يبسطن أجنحتهن. وقال: (وَيَقْبِضْنَ)، ولم يقل: قابضات، يعني: أحياناً يقبضن الأجنحة، لكن الأصل والأغلب أنها صافات. إذاً: فمعنى قوله تعالى: ((صَافَّاتٍ)) أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها. قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ} [الملك:19] يعني: ما يمسكهن أن يقعن من الجو {إِلَّا الرَّحْمَنُ} [الملك:19] بقدرته، وما دبر لها من بنية يتأتى منها الجري في الجو، ولو ذهبنا للتفاصيل في معرفة كيف يسر الله سبحانه وتعالى الطيران للطيور لطال الكلام جداً! حتى إن فكرة الطائرات إنما أُخذت من الطيور! هذا خلق الله، فالطائرات كلها مقتبسة من خلق الله سبحانه وتعالى للطيور، نجد مثلاً أن عظام الطيور كثيرة وخفيفة جداً، حتى تستطيع أن تطير، وكذلك عضلاتها وريشها ونحو ذلك. قوله: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19] فيعطيه ما يليق به، ويسويه بحسب مشيئته، ويودع فيه ما يريده بمقتضى حكمته، ثم يهديه إليه بتوفيقه ورحمته.

تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم)

تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم) لقد بكت تعالى المشركين بنفي أن يكون لهم ناصر غيره سبحانه وتعالى، فقال: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ} [الملك:20] هذا استفهام إنكار، والمقصود: ليس لكم جند. ولفظة (جند) هنا موحدة؛ لأنه قال: ((أَمَّنْ هَذَا الَّذِي)) ولم يقل: هؤلاء. قوله: ((جُندٌ لَكُمْ)) أي: يا معشر المشركين. قوله: {يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك:20] يعني: إن أراد الله بكم سوءاً فيدفع عنكم بأسه. قوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك:20] أي: من ظنهم أن أربابهم تنفع أو تضر، أو أنها تقربهم إلى الله زلفى.

تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه)

تفسير قوله تعالى: (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) قال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك:21] يعني: بالمطر ونحوه. قوله: {بَلْ لَجُّوا} أي: تمادوا. قوله: {فِي عُتُوٍّ} أي: في عناد وطغيان. قوله: {وَنُفُورٍ} [الملك:21] أي: شراد عن الحق واستكبار مع وضوح براهينه، حيث أصروا على اعتقاد أنهم يحفظون من النوائب، ويرزقون ببركة آلهتهم، وأنهم الجند الناصر الرازق؛ مكابرة وعناداً.

تفسير قوله تعالى: (أفمن يمشي مكبا على وجهه)

تفسير قوله تعالى: (أفمن يمشي مكباً على وجهه) لقد ضرب الله مثلاً للمؤمن والكافر فقال: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] هذا تمثيل للضالين والمهتدين. والمكب: هو المتعثر الذي يخر على وجهه؛ لوعورة طريقه، واختلاف سطحه ارتفاعاً وانخفاضاً. وأما الذي يمشي سوياً فهو القائم المعتدل السالم من التعثر؛ لاستواء طريقه واستقامة سطحه. قال قتادة: يحشر الله الكافر مكباً على وجهه، والمؤمن يمشي سوياً. وقال البيضاوي: والمراد تمثيل المشرك والموحد بالسالكين، والدينين بالمسلكين، يعني: الموحد يمشي على طريق الإسلام، والمشرك يمشي على طريق الكفران، ثم يقول: ولعل الاكتفاء بما في الكب من الدلالة على حال المسلك للإشعار بأن ما عليه المشرك لا يستحق أن يسمى طريقاً. يعني: لم يقل الله تبارك وتعالى: أفمن يمشي مكباً على وجهه على طريق وعر فيه كذا وكذا من الآفات والحفر والارتفاع والانخفاض والتفاوت؛ لأن ما عليه الكافر من الضلال والانحراف لا يستحق أصلاً أن يوصف بأنه طريق؛ لأنه وهم وضلال، فاكتفى عن التعبير عن وعورة الطريق بوصف من يمشي عليه، وهذا ملمح مهم جداً من إعجاز القرآن الكريم وبلاغته، وهذا من عجائب القرآن الكريم، حيث ذكر المسلك في الثاني دون الأول، قال سبحانه: ((أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى)) ثم قال: ((أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا)) أي: ليس منكباً مخراً على وجهه؟ لا، بل يمشي سوياً معتدلاً يرى الطريق ((عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: على طريق واضح، في حين أنه لما وصف حال الكافر لم يثبت له الطريق، فكأن ما عليه الكافر لا يستحق أن يسمى طريقاً أو منهجاً، فأهمله واكتفى بالدلالة على وعورة الطريق بذكر صفة من يمشي عليه ويعاني من حزونته وصعوبته.

تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم)

تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي أنشأكم) قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ} [الملك:23] أي: الذي خلقكم هو المستحق للعبادة وحده وسلوك صراطه. قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [الملك:23] أي: العقول والإدراكات. قوله: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] يعني: في استعمال هذه النعم فيما خلقت له.

تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي ذرأكم في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (قل هو الذي ذرأكم في الأرض) قال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الملك:24] أي: خلقكم فيها؛ لتعبدوه وتقوموا بالقسط الذي أمر به. قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك:24] للجزاء.

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)

تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك:25] الوعد المقصود به هنا العذاب، وقيل: الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور دينه. قوله: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25] أي: إن كنتم صادقين في الإنذار به والترهيب منه.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما العلم عند الله)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما العلم عند الله) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الملك:26] أي: أبين الحجة على ما أنذركم به من زهوق باطلكم إذا جاء أجله، وأما تعيين وقته فليس إلي؛ لأن العلم عند الله سبحانه. قوله: ((وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)) أي: معي البينة ومعي الحجة، فالذي يعنيكم ويهمكم أن تكون النذارة بينة ومعها دلائلها، أما متى فهذا ليس إلي، هذا إلى الله وحده.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:27]. قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ} الهاء تعود إلى العذاب، أي: فلما رأوا ما وعدوا به من العذاب وزهوق باطلهم. قوله: {زُلْفَةً} يعني: قريباً منهم. قوله: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: ظهر عليها آثار الاستياء من الكآبة والغم والانكسار والحزن، وتبين فيها السوء، وقيل: قبحت بالسوء. قوله: (وقيل) أي: لهم تبكيتاً. قوله: {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي: تطلبون وتستعجلون به. قوله: (تَدَّعُونَ) إما من الدعاء أو من الادعاء. وفي الصعيد توجد ألفاظ يستعملونها هي في غاية الفصاحة، ويبدو أنهم تأثروا بمجيء الصحابة إبان الجهاد الإسلامي وتواجدهم في الصعيد، أو لوجود قبائل أصلها قرشية عربية قديمة في الصعيد، ولذلك في لهجة الصعيد توجد كلمات عربية فصيحة، مثل قولهم: (ادْعِي لي) وهذا كلام فصيح، ومثل قولهم: (ادّلي) يعني: انزل، وهكذا تجد كثيراً من تعبيراتهم عربية فصيحة.

الأقوال في معنى قوله: (تدعون)

الأقوال في معنى قوله: (تدعون) تدعون في معناها قولان: القول الأول: يقال: دعوت وادعيت، مثل: خبرت واختبرت فالمعنى: هذا الذي كنتم به تدعون وتطلبونه، ألم يكونوا يقولوا كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]؟ أليسوا هم القائلين ما حكى الله عنهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]؟ إذاً: المعنى: هذا الذي كنتم تطلبونه وتدعوننا وتسألوننا إياه وتستعجلون نزوله بكم وهو العذاب. القول الثاني: {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] أي: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأكاذيب، حيث كنتم تدعون أنكم إذا متم لا تبعثون.

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك:28]. قوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ)) أي: بعذابه. قوله: ((وَمَنْ مَعِيَ)) يعني: من المؤمنين. قوله: ((أَوْ رَحِمَنَا)) أي: فلم يعذبنا. قوله: ((فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ)) أي: من يمنعهم ويؤمنهم من عذاب أليم. أي: أننا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، ومع أننا مؤمنون، لكننا لا نأمن مكر الله سبحانه وتعالى ونخشى عذابه. فكيف يكون حالكم أنتم أيها الكفار، وقد جمعتم بين الكفر والتكذيب واستحققتم العذاب؟! فمن يمنعكم من العذاب مع كفركم؟! لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين. المؤمنون يرجون الله سبحانه وتعالى، ولهم حق في هذا الرجاء، أما الكافرون فمن أين يأتيهم الرجاء وهم قد كذبوا وكفروا؟! كان كفار مكة يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون، يتمنون له الموت تخلصاً من دعوته وانتشارها، فأُمر أن يقول لهم ذلك، أي: أخبروني إن أماتني الله ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا بتأجيل آجالنا، فمن يجيركم من عذاب أليم أراد الله وقوعه بكم بسبب كفركم؟! وقال ابن كثير: أي: خلصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا بالتوبة والإنابة والرجوع إلى دينه، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال، فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من عذابه ونكاله الواقع بكم، سواء كان ذلك العذاب في الدنيا أو الآخرة.

تفسير قوله تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به)

تفسير قوله تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به) قال تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الملك:29]. قوله: ((قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ)) أي: إلهنا الذي نعبده هو الرحمن عز وجل. قوله: ((آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)) أي: بعد إيماننا به اعتمدنا عليه في أمورنا كلها، لا على ما تتكلون عليه من رجالكم وأموالكم. قوله: (فَسَتَعْلَمُونَ) أي: عند معاينة العذاب من الضال نحن أم أنتم؟ قوله: ((مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) أي: في ذهاب عن الحق وانحراف عن طريقه نحن أم أنتم؟!

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا)

تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30]. قوله: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ)) يعني أخبروني. قوله: ((إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا)) يعني: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، والدلاء جمع دلو، وهو الذي يستقى به الماء. قوله: ((فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)) أي: من سوى الله سبحانه وتعالى يأتيكم بماء معين جار ظاهر سهل التناول تراه العيون؟ قال الرازي: المقصود تقريرهم ببعض نعمه تعالى؛ ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر. أي: أخبروني إن صار ماؤكم ذاهباًَ في الأرض فمن يأتيكم بماء معين؟ فلابد أن يقولوا: هو الله؛ ولذلك من الأدب عند تلاوة هذه الآية أن يقول الإنسان: الله رب العالمين، أي: الله هو الذي يأتينا بهذا الماء إن حصل هذا الغوران. وقد روي أن بعض الناس سمع هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} فقال: تأتينا به المعاول والفئوس؛ فغارت عيناه والعياذ بالله! إذاً: إذا سئلوا: ((فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ))؟ لابد أن يقولوا: هو الله سبحانه وتعالى، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلاً شريكاً له في العبودية؟! وهذا كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69] أي: بل هو أنزله وسلكه ينابيع رحمة بالعباد، فلله الحمد والمنة.

القلم [1 - 33]

تفسير سورة القلم [1 - 33]

تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون)

تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) هذه سورة (نون) وتسمى (سورة القلم)، وهي سورة مكية، وآيها ثنتان وخمسون آية، وهي السورة الثامنة والستون في ترتيب المصحف. يقول الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]. (ن) بالسكون على الوقف، فهي ساكنة إذا وقفت، أما إذا وصلت فاختلف القراء، فمنهم من أدغم النون في الواو، وهم أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب، والباقون بالإظهار. و (نون) اسم للحرف المعروف قصد به التحدي، أو هو اسم، والكلام فيه كالكلام على سائر الحروف المقطعة في أوائل السور. وقد يكون (نون) مفعولاً لفعل تقديره (اذكر) أو مرفوعاً خبراً لمحذوف. (والقلم) هذا قسم، وهو القلم الذي يخط ويكتب به، (وما يسطرون) (ما) مصدرية أو موصولة. وللمفسرين أقوال عدة في المراد بهذا القلم: فمن قائل: القلم الذي يكتب به. ومن قائل: الذي كتب الله سبحانه وتعالى به كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. وعن الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحدة والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: يا رب! وما أكتب؟ فقال: اكتب القدر. فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد). وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده. وقد فصل أفضل وأحسن تفصيل عن القلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (التبيان في أقسام القرآن)، وذكر فيه أقوالاً كثيرة جداً، فليرجع إليه. وللشعراء أيضاً صولات وجولات في المفاضلة بين السيف والقلم أيهما أفضل، ومنها قول الشاعر: إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم وعدوه مما يكسب المجد والكرم كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم وقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} يعني: وما يكتبون. والمقصود الملائكة حين يكتبون أعمال بني آدم، أو المعنى: ما يكتبه الناس ويتفاهمون به ويحصل به البيان. (ما) موصلة، أو مصدرية: فإذا قلنا إنها موصولة فالمعنى: والذي يسطرون به. وإذا قلنا إنها مصدرية فالمعنى: والقلم وسطرهم. ويراد به كل من يسطر، أو المراد به الحفظة، على خلاف بين المفسرين في ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون غير ممنون)

تفسير قوله تعالى: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون غير ممنون) قال تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]. (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) هذا جواب القسم، وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون به شيطان. ويأتي قولهم الذي قصه الله تعالى عز وجل في قوله {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}، أي: برحمة ربك، فمعنى النعمة هنا الرحمة. ويحتمل أن النعمة مقسم به، وذلك على أن الباء باء القسم، والتقدير: ما أنت -ونعمة ربك- بمجنون. لأن الواو والباء من حروف القسم. وقيل: هو كما تقول: ما أنت بمجنون والحمد لله. وقيل: معناه: ما أنت بمجنون والنعمة لربك. كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك. أي: سبحان الله والحمد لله. والباء في (بنعمة ربك) متعلقة بمجنون منفياً كما يتعلق بغافل مثبتاً كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل، ومحل قوله تعالى {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}، النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك. ((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا)) أي: ثواباً على ما تحملت من أثقال النبوة ((غَيْرَ مَمْنُونٍ)) أي: غير مقطوع ولا منقوص. يقال مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين: إذا كان غير متين. قال الشاعر: غبس كواسب لا يمن طعامها وقال مجاهد: (غير ممنون): غير مكبل بالمن. وقال الضحاك: أجراً بغير عمل. وقيل: غير مقدر وهو التفضل؛ لأن الجزاء مقدر، والتفضل غير مقدر. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} جواب القسم قصد به تكذيب المشركين في إفكهم المحدث عنه بآية: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]. ((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا)) أي: ثواباً على أذى المشركين واحتمال هذا الطعن والصبر عليه ((غَيْرَ مَمْنُونٍ)) يعني: غير منقوص ولا مقطوع. قال ابن جرير: من قولهم: حبل منين إذا كان ضعيفاً. وتقول: قد ضعفت منته: أي قوته. أو: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي غير ممنون به عليك، زيادة في العناية به صلى الله عليه وسلم والتنويه بمقامه.

تفسير قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)

تفسير قوله تعالى: (وإنك لعلى خلقٍ عظيم) قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]. قال ابن جرير: أي أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) تعني: كان خلقه كما هو في القرآن. وقال الرازي: هذا كالتفسير لقوله: (بنعمة ربك)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:2 - 4]، فهذا كالتفسير لقوله: (بنعمة ربك). والدلالة القاطعة على براءته مما رمي به من الجنون؛ لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والفصاحة التامة، والعقل الكامل، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة؛ كانت ظاهرة منه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت ظاهرة محسوسة فوجودها ينافي حصول الجنون، فكذب من أضافه إليه وضل، بل هو الأحرى بأن يرمى بما قذف به. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قال ابن عباس ومجاهد: على دين عظيم من الأديان. والخلق يأتي أحياناً بمعنى الدين، كقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: دين الأولين. فيقول ابن عباس ومجاهد: (على خلق): على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن خلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن). وقال علي رضي الله عنه وعطية: هو أدب القرآن. وقيل: رفقه بأمته وإكرامه إياهم. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه. وقيل: إنك على طبع كريم. وحقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب، فإنه يصير كأنه مفطور عليه وكأنه مسلوك به، وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم. والخيم بمعنى السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه، وسيكون الخلق هو الطبع المتكلف، والخيم: الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال: وإذا ذو الفضول ضن على المو لى وعادت لخيمها الأخلاق أي: رجعت الأخلاق إلى طبائعها.

فضيلة حسن الخلق

فضيلة حسن الخلق ثم يعلق القرطبي بعدما ذكر الخلاف في المقصود بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقال: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقرأت {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك. ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ولمُ يذكَر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر. وقال الجنيد: سمي خلقه عظيماً لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق). وقيل: لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أدبني ربي تأديباً حسناً إذ قال {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فلما قبلت ذلك منه قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}). ولم يعزه القرطبي إلى أي مصدر. وروى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج)، وقال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون) والمتشدق: الذي يتطاول على الناس ويبذو عليهم بالكلام البذيء. هذه جملة من الأحاديث في فضيلة حسن الخلق، وهو ما اتصف به النبي صلى الله عليه وسلم وزكاه الله تبارك وتعالى به. وهذه الآية لا أقول: تحتاج شهوراً ولا سنوات، بل تحتاج عمراً حتى يستطيع الإنسان أن يعطيها حقها من التأمل في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من أنه في هذا الوقت المتأخر قام بعض العلماء الأفاضل فجمع موسوعة كاملة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحد المؤلفين لها فضيلة الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد، إمام الحرم المكي، حيث أشرف على تأليف موسوعة اسمها (روضة النعيم في أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، في حوالي اثني عشر مجلداً ضخماً في ذكر أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. فلا شك أننا مهما أطلنا الكلام لم نوف هذه الآيات حقها، فأعظم ما مدح الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الوصف الشامل الجامع. {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فسيرته صلى الله عليه وسلم لا شك أنها هي التي تشرح لنا كيف كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيماً، فنحيل من استطاع الرجوع إلى هذه الموسوعة الرائعة التي فيها بيان وتفسير لأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون)

تفسير قوله تعالى: (فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون) قال تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القلم:5 - 7]. (فستبصر ويبصرون) أي: أولئك الجاحدون المتفوهون بتلك العظيمة، وهي زعمهم أو رميهم النبي صلى الله عليه وسلم. بالجنون. يعني: ستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. (بأيكم المفتون)، يعني: أيكم الذي فتن بالجنون، فهو كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون:20] يعني: تنبت الدهن، وقوله {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] أي: أن الباء زائدة. وقيل: الباء ليست بزائدة، والمعنى: بأيكم الفتنة، وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه (الفتون)، أي: فستبصر ويبصرون بأي الفريقين الجنون، أفي الفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى؟ وهل الفتنة فيمن كوشف بأسرار العلوم وأوتي جوامع الكلم، أم فيمن حجب نفسه عن آيات الله والعبر، وقتل بعبادة الصنم؟ والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: المفتون المعذب. من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته، ومنه قوله تعالى: في الوليد بن المغيرة وأبي جهل: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يعذبون. قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} الذين هم على الهدى، وسيجازي كلاً غداً بعمله، فهو أعلم بمن حاد عن طريق الحق الذي أمر به، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، أي: بمن اتبع الحق وسلك سبيله.

تفسير قوله تعالى: (فلا تطع المكذبين)

تفسير قوله تعالى: (فلا تطع المكذبين) قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8]. أي المكذبين بآيات الله وما جاءهم من الحق. قال الزمخشري هذا تهييج وإلهاب على معاصاتهم، فلا يطيعهم. فهنا نهاه تعالى عن مهادنة المشركين؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن مهادنتهم كفر، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]. فهل يفهم من هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كاد أن يركن إليهم شيئاً قليلاً؟ إن قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] يفهم منه العكس، فهي تمنع وجود هذا الركون أو قليل منه؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فلوجود التثبيت امتنع منه صلى الله عليه وسلم الركون إليهم شيئاً قليلاً. وقيل: قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أي: فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث.

تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون)

تفسير قوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنون) قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]. أي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس: ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي: ودوا لو تلين فيلينون لك. وقال مجاهد: ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك. وقال الربيع وأنس: ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال الحسن: ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضاً: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. وقال زيد بن أسلم: ودوا لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون. وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم. وقيل: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه اثنا عشر قولاً، قال ابن العربي: ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقول كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون. وعلق القرطبي على قول ابن العربي بأنها كلها صحيحة -إن شاء الله تعالى- على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الدهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو وممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام، والتليين في القول، فلا شك أنها على هذا الوجه مذمومة، ولا شك أن هذا كله لم يقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول مجاهد في قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ}: ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك. وإنما هو مأخوذ من الدهن أو الدهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن.

تفسير قوله: (ولا تطع كل حلاف مهين أساطير الأولين)

تفسير قوله: (ولا تطع كل حلاف مهين أساطير الأولين) {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:10 - 15]. (حلاف) صيغة مبالغة، يعني: كثير الحلف؛ وقال الزمخشري: وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. فهذه الآية فيها زجر قبيح عن كثرة الحلف؛ لأن بعض الناس يعتادون كثرة الحلف فيما يستحق وما لا يستحق، فهذه إشارة إلى ذم من يكثر الحلف، وأن الإنسان لا يحلف إلا في الأمور العظيمة، أو الأمور المهمة والجسيمة، لكن الحلف في كل شيء حتى وإن كان تافهاً ينبغي أن يتحرج منه الإنسان.

حكم الحلف بالله

حكم الحلف بالله ومع هذا نقول: إن الحلف عبادة من العبادات القولية التي تؤدى باللسان، وفيها تعظيم لله سبحانه وتعالى، وفيها توحيد لله، لذلك لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى أو بأسمائه أو بصفاته أو بأفعاله، أما الحلف بالمخلوقين فهو شرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بنبي ولا بولي ولا بملك، ولا أبٍ، ولا شرف، ولا غير ذلك، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعنا أن واحداً من الصحابة حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذه عبادة ولا يجوز أن تصرف إلا الله. والحلف بالله وراءه معان كثيرة وعظيمة، منها أنك تحلف بمن يعلم أنك صادق، وهو الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما تكنه النفوس وتخفيه، وأنه قادر على عقابك إن كنت كاذباً، وقادر على إثابتك إن كنت صادقاً. فالمسلم يحلف تعظيماً لله، ويدخر الحلف للأمور العظيمة التي تستحق، بخلاف ما عليه بعض النصارى، حينما يترفعون عن الحلف ويعتبرون أن الحلف شيء مذموم، فالحلف ليس مذموماً إلا إذا كان كثيراً، أو إذا كان على كل شيء قليل أو حقير، لكن الحلف في موضعه وبشروطه هو عبادة وتوحيد لله تبارك وتعالى، فبعض المسلمين يقلدون النصارى، فيقول لك: صدقني. وهذه كلمة لا بأس بها في حد ذاتها؛ لكنه استعارها من ألفاظ الكفار، ولا ينبغي للإنسان أن يستعملها حتى لا يبدو منه أنه يستحسن ما عليه الكفار من أنهم يحرمون الحلف، فليس كل حلف مذموماً، والأدلة على هذا أكثر من أن تذكر. قوله تعالى هنا: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} هذه أول صفة من صفات الشخص الذي ذمه الله هنا، وهو أنه كثير الحلف، يقول الزمخشري: وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومنه قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، على أحد التفسيرين.

معنى المهين والهماز بنميم المناع للخير

معنى المهين والهماز بنميم المناع للخير والمهين: حقير الرأي والتمييز. {هَمَّازٍ}، عياب طعان. قال ابن جرير: والهمز أصله الغمز، فقيل للمغتاب: هماز لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون، وذلك غمز عليهم. {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} نقال لحديث الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم. {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} أي: بخيل بالمال ضنين به. والخير هنا المال، ولهذا نرى آيات في القرآن الكريم يطلق فيها الخير على المال، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً. فكذلك هنا {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أي: بخيل بالمال ضنين به. وقيل: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} صاد عن الإسلام. (معتدٍ) أي: على الناس متجاوز في ظلمهم، (أثيم) أي: كثير الآثام. (عتل): جافٍ غليظ. {بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} دعي ملصق في نسب القوم وليس منهم. أو (زنيم) بمعنى أنه مريب يعرف بالشر. قال ابن جرير: ومعنى (بعد ذلك) في هذا الموضع (مع). أي: عتل مع ذلك زنيم. وقال الشهاب: الإشارة لجميع ما قبله من النقائص لا للأخير فقط. يعني أن الله سبحانه وتعالى ذم هذا الشخص المذكور فقال: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)) أي: بعد هذه الأوصاف المذكورة هو زنيم. وقال بعض العلماء: الإشارة في قوله: (بعد ذلك) إلى صفة العتل، أي: هو عتل مع كونه زنيماً. وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القبح، فـ (بعد) هنا، كـ (ثم) الدالة على التفاوت الرسلي، كما قال تبارك وتعالى: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]. واختلف المفسرون في المقصود بالخطاب، قيل: هو الأخنس بن شريق. وقيل: الأسود بن عبد يغوث. وقيل: عبد الرحمن بن الأسود. وقيل: الوليد بن المغيرة. ولعل الأشهر أنها في الوليد بن المغيرة. ثم يقول الله تبارك وتعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قال الزمخشري: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}. متعلق بقوله. (ولا تطع). يعني: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)) إلى قوله: ((أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ))، يعني: ولا تطعه مع هذه المساوئ لأن كان ذا مال وبنين، فما فائدة المال والبنين إذا كان متصفاً بهذه الصفات والأخلاق السيئة كلها. ؟ يعني: لا تطعه ليساره وحظه من الدنيا. ويجوز أن تكون متعلقة بما يأتي، وهو {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} يعني: لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين. كذب بآياتنا. ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا)) أي: تقرأ عليه آيات كتابنا (قال أساطير الأولين) أي: هذا مما كتبه الأولون؛ استهزاءً به وإنكاراً أن يكون ذلك من عند الله تبارك وتعالى.

معنى قوله: (عتل)

معنى قوله: (عتل) وقوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} العتل: هو الجافي الشديد في كفره. وقيل: هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: هو الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب، مأخوذ من (العتل) وهو الجر، ومنه قوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان:47]، يعني: جروه، وفي (الصحاح): عتلت الرجل أعتله وأعتل، إذا جذبته جذباً عنيفاً، ورجل يعتل، وقال يصف فرساً: نقرعه قرعاً ولسنا نعتله. والعتل: الغليظ الجافي، والعتل -أيضاً-: الرمح الغليظ، ورجل عتل بين العتلة أي سريع إلى الشر، ويقال: لا أنعتل معك: أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير: الأكول الشروب القوي الشديد، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة. يعني: عند الله سبحانه وتعالى. وقال علي بن أبي طالب والحسن: العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر: هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر: بعتل من الرجال زنيم غير ذي نجدة وغير كريم وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى. قال: كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره)، أي: يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا، ومعناه: متواضع متذلل خاملٌ واضع من نفسه. وقال القاضي: قد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان. قال (ألا أخبركم بأهل النار؟ قالوا بلى. قال: كل عتل جواظ مستكبر)، وفي رواية عنه: (كل جواظ ذليل متكبر)، والجواظ قيل: هو الجموع المنوع. وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته. وقيل: الجواظ: العتل الذي جمع ومنع. والعتل الذميم الشديد الخلق الرحيب الجوف، الوفير الخَلْق، الأكول الشروب، الغشوم الظلوم.

معنى قوله: (زنيم)

معنى قوله: (زنيم) قوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}، والزنيم الملصق بالقوم الدعي. عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر: زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع وعن ابن عباس أيضاً: أنه رجل من قريش كانت له ذنبة كذنبة الشاة يعني: جلدة متدلية. وروى عنه ابن جبير أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة: هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. قيل: كان الوليد دعياً في قريش ليس من نسخهم -والنسخ هو الأصل- ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم وقال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد وعن علي: الزنيم: الذي لا أصل له. يقول القرطبي: معظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة، وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي: ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحدكم بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة. وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً، فقيل: مناع للخير لأنه كان لا يعطي المساكين، وفيه نزل قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7]. وقال محمد بن إسحاق: نزلت في الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي (زنيماً) يعني: بعيداًَ وملحقاً بالقوم وليس منهم. وقال ابن عباس: في هذه الآية نعت فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مرة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.

تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم)

تفسير قوله تعالى: (سنسمه على الخرطوم) قال الله تبارك وتعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16]. يعني: هو ارتكب كل هذه الجرائم فسوف نجازيه بأن نسمه على الخرطوم. وهذا وعدٌ من الله تبارك وتعالى بغاية إذلاله؛ لأنه لما تناهى كبره وعجبه وزهوه وعتله وعتوه توعده الله تبارك وتعالى بنقيض ذلك، وهو غاية الإذلال، تقول العرب: وسمته بميسم السوء: يريدون أنه ألصق به من العار ما لا يفارقه. قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل وقال الزمخشري: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له، ولذلك جعل الأنف مكان العز والحمية. فالحمية دائماً تنسب إلى الأنف، أو يقولون: أنفه في السماء إذا أرادوا أن يصفوه بالكبر، فهذه الالتفاته النفسية تنسب غالباً إلى الأنف. واشتق منه الأنفة، وقالوا: الأنف الأنف. وقالوا: حمي أنفه أي: تكبر، وفلان شامح العرنين، يعني: الأنف، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه. وهذا دعاء عليه بالذل، يعني: ذل حتى يلصق أنفه بالرغام وهو التراب. فهنا عبر الله سبحانه وتعالى بالوسم على الخرطوم، والخرطوم هو الأنف، ففيه غاية الإذلال والإهانة؛ لأن السمة على الوجه شين وإهانة، فكيف به على أكرم موضع منه، ولقد وسم العباس أبعاره في وجوهها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكرموا الوجوه)، فوسمها في ذراعيها. وفي لفظ (الخرطوم) استهانة به، فلم يقل: سنسمه على أنفه. أي: نضع له علامة من العذاب على أنفه، وإنما قال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}، فعبر عن أنفه بالخرطوم، وهذا أيضاً غاية الاستخفاف والاستهانة بهذا المتكبر الأثيم؛ لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل. وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة بان بها عنهم. يعني فإنه تمادى وطغى وتجبر وجاوز الحد، حتى صار متميزاً بأكبر قدر من عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والجزاء من جنس العمل، فسوف نعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يتميز بها عن سائر الكفرة. قيل: عني بالآية الأخنس بن شريق. قال ابن جرير: وأصله من ثفيف وأجداده في بني زهرة، أي لأنه التحق بهم حتى كان منهم في الجاهلية، ولذا سمي زنيماً للصوقه بالقوم وليس منهم. وقيل: هو الوليد بن المغيرة؛ ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقال ابن عباس: (سنسمه) سنخطمه بالسيف. وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف فلم يزل مخطوماً إلى أن مات. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها، يقال: وسمته وسماً وسمة: إذا أثخنت فيه بسمة وكي، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، فهذه علامة ظاهرة، وقال تعالى {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، وهذه علامة أخرى ظاهرة، فأفادت هذه الآية علامة ثالثة. أي: فالوجوه تكون مسودة، والعيون زرقاء بدل البياض، والأنف ذكرت علامتها هنا في هذه الآية، {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} فهذه علامة ثالثة وهي الوسم على الأنف بالنار والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:41]. وقال أبو العالية ومجاهد: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي: على أنفه، ونسود وجهه في الآخرة فيعرف بذلك، والخرطوم: الأنف من الإنسان، ومن السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم. وقال الطبري: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنبين أمره تبياناً واضحاً حتى يعرفوه فلا يخفى عليهم، كما لا تخفى السمة على الخراطيم. وقيل: سنلحق به عاراً وشدة حتى يكون كمن وسم على أنفه. قال القتيبي: تقول العرب للرجل يسب سبة سوء قبيحة باقية: قد وسم ميسمته، إذا أُلحق به عار وبقي ولم يزل عنه، أي: ألصق به عار لا يفارقه. كما أن السمة لا يمحى أثرها، قال جرير: لما وضعت على الفرزدق مسيمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل أراد به الهجاء. والبعيث هو كداك بن بشر كان يهجو جريراً. ويقول القتيبي: وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه. كما هو في هذه الآيات، وفي سورة أخرى هي سورة المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16] إلى آخر الآيات. يقول: ولا نعلم أن الله سبحانه وتعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغه منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم. وقيل: هو ما ابتلاه الله به في الدنيا في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار. وهناك قول آخر نذكره من باب الإحاطة بما قيل، وهو قول النضر بن شميل {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} قال: سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر، وجمعه خراطيم. قال الشاعر: تظل يومك في لهو وفي طرب وأنت بالليل شراب الخراطيم يعني: الخمر. وقال الراجز: صهباء خرطوماً عقاراً قرقفا. وكلها أسماء للخمر. ومما يذكر الوليد كان يأنف من شرب الخمر في الجاهلية، فالله أعلم بصحة ذلك. قال ابن العربي: كان الوسم في الوجه لذي المعصية قديماً عند الناس، حتى إنه روي أن اليهود لما أهملوا رجم الزاني اعتاضوا عنه بالضرب وتحميم الوجه، -أي: تسويده بالفحم- وهذا وضع باطل، أي: استبدال لشرع الله سبحانه وتعالى بحكم باطل؛ لأن الحكم الشرعي هو الرجم كما نعلم. يقول ابن العربي: ومن الوسم الصحيح في الوجه ما رأى العلماء من تسويد وجه شاهد الزور. فبعض العلماء قالوا: من ثبت عليه أنه شهد شهادة زور يعاقب بأن يسود وجهه. فهي علامة على قبح المعصية، وتهديدٌ لمن يتعاطاها ولغيره ممن يرجى تجنبه لما يرى من عقوبة شاهد الزور. فقد كان عزيزاً بقول الحق وقد صار مهيناً بالمعصية، وأعظم الإهانة إهانة الوجه، ولذلك كان في طاعة الله سبباً لخيرة الأبد والتحريم له على النار. أي: أن شاهد الزور كما أنه استبدل القول بالحق وشهد شهادة زور حتى ضيع حق الناس أو تسبب في ظلمهم، فيعاقب بتسويد وجهه بين الناس، إهانة له، وقد كان يريد العزة بالكذب والزور. كذلك من أذل وجهه في سبيل الله، أو أذل وجهه لله بالسجود لله تبارك وتعالى الذي يترتب عليه وجود هذه العلامة في الوجه، فالاستهانة بهذا الوجه وإذلاله لله بأن تسجد لله سبحانه وتعالى في الأرض وفي التراب وفي موطئ الأقدام، تواضع تثاب عليه بأن يكون سبباًَ لخيرة الأبد وأنه يحرمك على النار، (فإن الله تعالى قد حرم على النار أن تأكل من ابن آدم آثر السجود)، كما ثبت في الحديث الصحيح.

تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ولا يستثنون)

تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ولا يستثنون) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18]. (إنا بلوناهم) يعني: بلونا مشركي مكة واختبرناهم. والمعنى: أعطيناهم أموالاً ليشكروا لا ليبطروا، فلما بطروا وعادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط، كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم. وذلك أنها -كما قال القرطبي - كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من صنعاء -ويقال: بفرسخين- وكانت لرجل يؤدي حق الله تعالى منها، فلما صارت إلى ولده منعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله فيها، فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها. يقول القرطبي: قوله تعالى {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ}. أي: بلونا مشركي مكة فاختبرنا بهذا التنزيل الحكيم هل يذكرون نعمته فيحيوا حياة طيبة، أو يصرون على تكذيبه فلا تكون عاقبتهم إلا كعاقبة أهل الجنة في امتحانهم الآتي ثم دمارهم؟ وقيل: معناه: أصبناهم ببلية القحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}، هم قوم من أهل كتاب على ما روي عن ابن عباس، أو ناس من اليهود في قول عكرمة، أي: كتابيون. فيتفق مع ما قبله. وليس من ضرورة الاعتبار بالقصص والعظة به تسمية أهله لولا محبة المأثور. فيذكر كلام عكرمة وابن عباس في تعيين هؤلاء القوم، لأن النفس تأنس بمعرفة الشيء المنقول، لحب الاستطلاع عند الإنسان والفضول، فيريد أن يعرف أكثر ما يستطيع عن هذه المعلومة. {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي: ليقطعن ثمارها مبكرين، حيث لا يعلم مسكين بذلك. فأرادوا أن يستيقظوا مبكرين ويحصدوا الثمرات قبل أن يستيقظ الناس فيحضر المساكين، كما اعتادوا في حياة أبيهم على ما روي. {وَلا يَسْتَثْنُونَ} ليصرمنها ويحصدونها كلها ولا يستثنون، أي: لا يخرجون شيئاً من حق المساكين. وهذا أحد القولين. والقول آخر: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: ولم يقولوا إن شاء الله، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} يعني: أنهم حلفوا ليصرمنها مصبحين ولم يستثنوا في هذا اليمين، بل كانوا جازمين قاطعين بأنهم سوف يقطعونها في الصباح قبل أن يأتي المساكين.

تفسير قوله تعالى: (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون)

تفسير قوله تعالى: (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون) قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19]. أي: فطرق جنة هؤلاء القوم طارق من أمر الله لتدميرها. قال ابن جرير: ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلاً، ولا يكون نهاراً، وقد يقولون: أصبت بها نهارا. وذكر الفراء أن أبا الجراح أنشده: أصبت بها نهاراً غير ليل وألهى ربها طلب الرخال والرخال هي أولاد الضأن الإناث. فكلمة (طائف) في كلام العرب تستعمل في الليل، فهو لا يكون إلا في الليل، ولا يكون أبداً نهاراً. ((فطاف عليها طائف من ربك)) يعني: طرق جنة هؤلاء القوم طارق من أمر الله لتدميرها سواءٌ كان جبريل أو غيره، وهذا مبهم في القرآن ولم يأت مأثور يعينه. ((وَهُمْ نَائِمُونَ)) أي: مستغرقون في سباتهم غافلون عما يمكر بهم. وقوله: ((وَهُمْ نَائِمُونَ)) تأكيد للقول الأول بأن الطائف يكون ليلاً فقط. وعلى قول الثاني أن العرب قد يقولون: أطفت بها نهاراً، ففي هذه الحالة تكوت تأسيساً لا توكيداً.

تفسير قوله تعالى: (فأصبحت كالصريم)

تفسير قوله تعالى: (فأصبحت كالصريم) قال تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:20]. كالبستان الذي قطع ثمره حتى لم يبق فيه شيء. أو: (كالصريم): كالليل الأسود لاحتراقها. وأنشد في ذلك ابن جرير لـ أبي عمرو بن العلاء: ألا أبكرت عاذلتي تلوم تهددني وما انكشف الصريم يعني الليل. وقال أيضاً: تطاول ليلك الجون البهيم فما ينجاب عن صبح صريم فالمقصود بالصريم الليل لأنه أسود. قال بعض العلماء: على من حصد زرعاً أو جذ ثمرة أن يواسي منها من حضره، وذلك معنى قوله تعالى: {َ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، وأنه غير الزكاة. وقال بعضهم: وعليه ترك ما أخطأه الحصادون، وكان بعض العباد يتحرون أقواتهم من هذا. وروي أنه نهي عن الحصاد بالليل، فقيل: إنه لما ينقطع عن المساكين في ذلك من الرفق. أي: إنما كان هذا بسبب ما أرادوه من منع المساكين، فهم نووا وجزموا وقطعوا على أنفسهم أنهم في الصباح الباكر يخرجون حتى يحصدوا الثمار قبل أن يحضر المساكين فيأكلوا ما يتساقط أثناء الحصاد مما يتقوتون به. فإذاً العقوبة وقعت بسبب ما أرادوه من منع المساكين، كما ذكر الله تبارك وتعالى. وروى أسباط عن السدي قال: كان قوم باليمن، وكان أبوهم رجلاً صالحاً، كان إذا بلغ ثمره أتاه المساكين فلم يمنعهم من دخلوها وأن يأكلوا منها ويتزودوا، فلما مات قال بنوه بعضهم لبعض: علام نعطي أموالنا هؤلاء المساكين؟ تعالوا فلندلج -أي: نأتي في الظلمة- فنصرمها قبل أن يعلم المساكين. ولم يستثنوا! فانطلقوا وبعضهم يقول لبعض خفية: لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. فذلك قوله تعالى: ((إِذْ أَقْسَمُوا)) -أي: حلفوا- فيما بينهم (ليصرمنها مصبحين)، أي: لنجزنها وقت الصبح قبل أن تخرج المساكين. {وَلا يَسْتَثْنُونَ}، يعني: لم يقولوا: إن شاء الله. وقال ابن عباس: كانت تلك الجنة دون صنعاء بفرسخين، غرسها رجل من أهل الصلاح، وكان له ثلاثة بنين، وكان للمساكين كل ما تعداه المنجل فلم يجذه من الكرم، فإذا طرح على البساط فكان كل شيء سقط عن البساط فهو أيضاً للمساكين، فإذا درسوا كان لهم كل شيء انتشر، فكان أبوهم يتصدق منه على المساكين، وكان يعيش في ذلك في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، فلما مات أبوهم فعلوا ما ذكر الله عنهم فقالوا: قل المال وكثر العيال! فتحالفوا بينهم ليغدن غدوة قبل خروج الناس، ثم ليصرمنها ولا تعرف المساكين. وقوله: (إذ أقسموا) يعني: حلفوا (ليصرمنها) ليقطعن ثمر نخيلهم إذا أصبحوا بسدفة من الليل، أي: بظلمة من الليل. والصرم القطع. يقال: صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل: أي حان وقت صرامه.

تفسير قوله تعالى: (فتنادوا مصبحين إن كنتم صارمين)

تفسير قوله تعالى: (فتنادوا مصبحين إن كنتم صارمين) قال تعالى: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:21 - 22]. أي: إن كنتم عازمين على الصرام والجداد. قال قتادة: ((إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ)) يعني: حاصدين زرعكم. وقال الكلبي: ما كان في جنتهم من زرع ولا نخيل. وقال مجاهد: كان حرثهم عنباً ولم يقولوا: إن شاء الله. وقيل: معنى {وَلا يَسْتَثْنُونَ}: لا يستثنون حق المساكين. فجاءوها ليلاً فرأوا الجنة مسودة قد طاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. قيل: الطائف جبريل عليه السلام. وقيل: أمر من ربك. وقيل: عذاب من ربك. وقيل: عنق من نار خرج من وادي جهنم. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان؛ لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم. فالعزم هو الإرادة الجازمة الأكيدة، فلا يشكل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به). فالحديث في خاطر النفس العابر، والكلام فيه غير الكلام فيما جزم الإنسان فيه بالقصد، فإذا نوى قطعاً أن يفعل شراً فإنه يؤاخذ على نيته الجازمة؛ لأنه ترك الفعل بسبب أنه حيل بينه وبين الفعل، فلولا العذاب الذي نزل بأرضهم لكانوا قطعاً عازمين ولم يستثنوا أنهم سوف يحرمون المساكين من حقهم. فهؤلاء عوقبوا على العزم وعلى النية، فليست هي وساوس ولا خطرات ولا حديث نفس، بل هي نية جازمة وعازمة على هذا الفعل. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)؛ لأنه كان سيباشر القتل لولا أن أخاه غلبه، فإذاً العزيمة هنا جازمة ومبيتة، فعليها يعاتب الإنسان ويعاقب. قوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} الصريم هو الليل المظلم الأسود، أي احترقت فصارت كالليل الأسود. وعن ابن عباس قال: صارت كالرماد الأسود. وقال: الصريم: الرماد الأسود بلغة خزيمة. وقيل: الصريم كالزرع المحصود. فالصريم بمعنى المصروم، أي: المقطوع ما فيه. وقال الحسن: صرم عنها الخير: أي: قطع. فالصريم مفعول أيضاً. (فتنادوا) أي: نادى بعضهم بعضاً (مصبحين) أي: وقت الصبح، ولم يشعروا بما جرى عليهم بالليل. (أن اغدوا) أي: اخرجوا غدوة (على حرثكم) أي: على زرعكم، (إن كنتم صارمين) أي: إن كنتم قاصدين قطع ثمارها، وقد قطعها البلاء من أصلها.

تفسير قوله تعالى: (فانطلقوا وهم يتخافتون)

تفسير قوله تعالى: (فانطلقوا وهم يتخافتون) قال تعالى: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم:23]. أي: يكتمون ذهابهم ويتسارون فيما بينهم أي: يهمس بعضهم لبعض حتى لا يسمع أحد الصوت فيستيقظ أحد من المساكين فيحضر. {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} أي: فقير. فالجملة مفسرة، أو أن (أَنْ) مصدرية، أي: بأن. وقال الزمخشري: والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه. يعني ليس المقصود أن لا يدخلها مسكين فحسب، بل المقصود أن لا تمكنوا مسكيناً من أن يأخذ شيئاً من الحصاد، أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل. كقولك: لا أرينك هاهنا. قوله: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يقول القرطبي: يعني يخفون كلامهم ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد. وقيل: يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصراب.

تفسير قوله تعالى: (وغدوا على حرد قادرين)

تفسير قوله تعالى: (وغدوا على حرد قادرين) قال تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25]. (على حرد) أي: على قصد وقدرة في أنفسهم، ويظنون أنهم تمكنوا من مرادهم، قاله ابن عباس وغيره، فالحرد معناه القصد، حرد يحرد حرداً أي: قصد، تقول: حردت حردك أي: قصدت قصدك، ومنه قول الراجز. أقبل سيل جاء من عند الله يحرد حرد الجنة المغله وأنكره النحاس. فقوله: يحرد حرد الجنة المغلة يعني: ذات الغلة. وقيل: (على حرد): على جد. وقال الحسن: على حاجة وفاقة. وقال أبو عبيدة والقتيبي: على منع. يقال: حاردت الإبل حراداً أي: قلت ألبانها. والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة: قل مطرها وخيرها. وقال السدي وسفيان: على غضب. لأن الحرد يأتي بمعنى الغضب، قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي: إذا جياد الخيل جاءت تردي مملوءة من غضب وحرد ومنه قيل: أسد حارد، وليوث حوارد، أي: غضاب. وقيل: (على حرد): على انفراد. لأنه من حرد يحرد حروداً إذا تنحى عن قومه ونزل منفرداً ولم يخالطهم، وقال أبو زيد: رجل حريد: إذا ترك قومه وتحول عنهم، وكوكب حريد أي: معتزل عن الكواكب. وقال الأصمعي: رجل حريد أي: فريد وحيد، والمنحرد المنفرد، كما قال أبو لؤي: كأنه كوكب في الجو منحرد. فقوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يعني: قد قدروا أمرهم وبنوا عليه. وقال قتادة: قادرين على جنتهم بظنهم في أنفسهم أنهم قادرون عليها. وقال الشعبي: (قادرين) يعني: على المساكين. وقيل: معناه من الوجود، أي: منعوا وهم واجدون للخير، أي: ما كانوا محتاجين لهذا الذي منعوه المساكين، فإذا قلت: فلان مقتدر فمعناه أنه غير محتاج.

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون)

تفسير قوله تعالى: (فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون) قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم:26 - 27]. لما رأوها محترقة لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود، ينظرون إليها كالرماد، أنكروها وشكوا فيها، فقالوا: إنا لضالون، أي: إننا نمشي في الظلام وقد ضللنا الطريق، فنحن نمشي إلى مكان آخر غير مكان جنتنا وبستاننا. وقيل: إنا لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين، فلذلك عوقبنا. {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: حرمنا جنتنا بما صنعنا. إذاً هذا يدل على أن النية قد تحرم الرزق وتحول دون الإنسان ودون الرزق. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} [القلم:23 - 25] أي: غدوا إلى جنتهم على مفر وسرعة وجد من أمرهم، أو على منع وغضب، قادرين في زعمهم على ما أصروا عليه من الصرام وحرمان المساكين. {فَلَمَّا رَأَوْهَا}، أي: فلما صاروا إليها ورأوها محترقاً حرثها. {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: أنكروها وشكوا فيها هل هي جنتهم أم لا، فقال بعضهم لأصحابه ظناً منه أنهم قد أخطئوا طريق جنتهم وأن التي رأوها غيرها: إنا -أيها القوم- لضالون طريق جنتنا. فقال من علم أنها جنتهم وأنهم لم يخطئوا الطريق: بل نحن -أيها القوم- محرومون، حرمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها.

تفسير قوله تعالى: (قال أوسطهم إنا كنا ظالمين)

تفسير قوله تعالى: (قال أوسطهم إنا كنا ظالمين) قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم:28 - 29]. {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي: أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم وخيرهم رأياً {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أي: تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وتخشون انتقامه من المجرمين. وكان أوسطهم وعظهم حين عزموا على عزيمتهم الخبيثة، فعصوه فعيرهم، قال لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}. {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: في ترك استثناء حق المساكين ومنع المعروف عنهم من تلك الجنة. قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} يعني: يلوم بعضهم بعضاً، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:31] أي: متجاوزين حدود الله تعالى في تفريطنا وعزمنا السيئ. {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} أي: بتوبتنا إليه وندمنا على خطأ فعلنا، وعزمنا على عدم العود إلى مثله {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي: في العفو عما فرط منا والتعويض عما فاتنا. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: هذا يدل على أن هذا الأوسط كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه لما أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون. أي: اعترض الأوسط على ذلك وأمرهم بأن يستثنوا فلم يطيعوه، والدليل على هذا ما أتى بعد، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ}، وقيل: كان استثناؤهم تسبيحاً. وقيل: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أي: هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم. فإن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك وذكرهم انتقام الله تعالى من المجرمين. فقولهم: ((سُبْحَانَ رَبِّنَا)) تنزيه لله عن الظلم فيما فعل بهم، بل هذا من عدل الله، فلما حَرموا حُرموا، أي: لما حرموا المساكين من الرزق الذي يجريه الله على أيديهم، حُرموا هم أيضاً من هذا الرزق، فاعترفوا بالمعصية ونزهوا الله عن أن يكون ظالماً فيما فعل، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.

تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض إنا إلى ربنا راغبون)

تفسير قوله تعالى: (فأقبل بعضهم على بعض إنا إلى ربنا راغبون) قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم:30 - 32]. {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} أي: يلوم هذا هذا في القسم ومنع المساكين، ويقول: بل أنت أشرت علينا بهذا. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي: عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل. {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} تعاقدوا وقالوا: إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعن كما صنعت آباؤنا. فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها، وأمر جبريل أن يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام، ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها، والله أعلم بالحقيقة في ذلك؛ لأن هذا غير مستند إلى نص. قال الحسن: قول أهل الجنة: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} لا أدري إيماناً كان ذلك منهم، أو على حد ما يكون من المسرفين إذا أصابتهم الشدة، فيوقف في كونهم مؤمنين. أي: هل هذا من باب أن المشركين حينما تنزل بهم الشدة يلجئون إلى الله مخلصين أم أنهم آمنوا وتابوا حين قالوا: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ}، فيتوقف في كونهم مؤمنين. وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعباً. أي: هذا أمر صعب أن نستنبطه من الآيات. ومعظمهم يقول: إنهم تابوا وأخلصوا.

تفسير قوله تعالى: (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)

تفسير قوله تعالى: (كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) قال تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:33]. {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي: في الدنيا لمن خالف الرسل وكفر بالحق وبغى الفساد في الأرض. {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي: أعظم منه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لارتدعوا وتابوا وأنابوا. فالجواب مقدر. فقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} التقدير لو كان يعلمون لارتدعوا وتابوا وأنابوا. وهذا قيد لما قبله؛ إذ لا مدخل لعلمهم في كون العذاب أكبر، فلا علاقة بين قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وبين كون العذاب أكبر، ولذلك يقدر A لو كانوا يعلمون لارتدعوا وتابوا وأنابوا. قال صاحب الإكليل: قال ابن الفرس: استدل بهذه القصة عبد الوهاب على أن من فر من الزكاة قبل الحول بتبديل أو خلط فإن ذلك لا يسقطها. ووجه ذلك أنهم قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين، فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم. وفيها كراهة الجذاذ والحصاد بالليل، كما ورد التصريح بالنهي عنه في الحديث لأجل الفقراء. وحكى الزمخشري عن قتادة أنه سئل عن أصحاب الجنة: أهم من أصحاب الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعباً. وعن مجاهد قال: تابوا فبدلوا خيراً منها. والله تبارك وتعالى أعلم.

القلم [34 - 47]

تفسير سورة القلم [34 - 47]

تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم)

تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم) قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم:34]. أي: إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا، فمن يعيش في جنة من جنات الدنيا لا بد أن يكون في هذه الجنة ما ينغصه، وليس هذا فحسب، بل أي نعيم خلق في الدنيا لا بد أن يخالطه ما يشوبه وينغصه، إما في سبيل الحصول عليه حتى إذا ما حصل ففي سبيل استبقائه، أو إذا فاته فإنه ينغص عليه عيشه، أو إذا بقي معه فإنه ينشغل بحفظه ورعايته، أو يحزن لما يلم به من الآفات ونحو ذلك، حتى نعيم الأكل والشراب فيه كل هذا التنغيص. فقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} المقصود النعيم الخالص الذي لا يشوبه ما يكدره ولا ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا. وكان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المؤمنين قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي عليه في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا. يظنون أن الله كما آتاهم نعيم الدنيا فسوف يكون بالمثل في الآخرة، كما أوضحت ذلك آيات من كتاب الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين إن لكم لما تحكمون)

تفسير قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين إن لكم لما تحكمون) قال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 39]. قال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} يعني: في الكرامة والمثوبة الحسنى والعاقبة الحميدة. ثم وبخهم الله تبارك وتعالى فقال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} يعني: كيف تحكمون بما ينبو عنه العقل السليم؛ فإنهما لا يستويان في قضيته؟ العقل السليم يحكم بأن المسلمين ليسوا كالمجرمين، ولا يمكن أن يستويا، فكيف تحكمون هذا الحكم الأعوج، وكأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه أن لكم من الخير ما للمسلمين. {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي: ألكم كتاب تجدون فيه أن الموحد كالمشرك والمطيع كالعاصي. {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} يعني: لما تختارون وتشتهون، أو إن لكم فيه من الأمور ما تختارونه لأنفسكم وتشتهونه لكم، كقوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} [فاطر:40] أعندهم كتاب من الله أو عندهم صك فهم على بينة منه؟ وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل ويتمنون من الأماني الكاذبة. يقول القرطبي رحمه الله تعالى: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي: إن لكم في هذا الكتاب إذاًَ ما تخيرون، والمقصود: ليس لكم ذلك. ثم زاد في التوبيخ فقال: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ}. (أم لكم أيمان) أي: عهود ومواثيق (علينا بالغة) يعني: مؤكدة، والبالغة: المؤكدة بالله تبارك وتعالى، أي: أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة. ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)) كأن هذه العهود أو هذه المواثيق فيها الحلف ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)) يعني: ما تدعون، والمقصود: ليس الأمر كذلك، بما أنه ليس لكم كتاب أو ليس لكم أيمان على الله سبحانه وتعالى بالغة مؤكدة باليمين إن لكم لما تحكمون؛ فالأمر ليس كذلك. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي: تقضون من أمانيكم ومزاعمكم، قال الزمخشري يقال: لفلان علي يمين بكذا، إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به، يعني: أم ضمنا لكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ)). فمعنى ((أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا)) أم أقسمنا لكم، يعني: هل نحن قد أقسمنا لكم الأيمان المغلظة المؤكدة غاية التأكيد والمتناهية في التوكيد؟!

تفسير قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم إن كانوا صادقين)

تفسير قوله تعالى: (سلهم أيهم بذلك زعيم إن كانوا صادقين) قال تعالى: {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [القلم:40 - 41]. {سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ} أي: الحكم (زعيم) أي: كفيل به يدعيه ويصححه. أي: سل -يا محمد- هؤلاء المتقولين عليك: أيهم كفيل بما تقدم ذكره؟! وهو أن لهم من الخير ما للمسلمين، والزعيم هو الكفيل والضمين. (أم لهم شركاء) أي: ناس يشاركونهم في هذا الزعم ويوافقونهم عليه ((فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)) في دعواهم، قال الزمخشري: يعني أن أحداً لا يسلم لهم بهذا. فهذا الادعاء الذي ادعوه وتلك الأماني تعلقوا بها دون سائر الناس، وليس لهم من يشاركونهم في ذلك. فلذلك قال تعالى: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ)) يعني: أناس يشاركونهم في نفس هذا الزعم ((فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ))، فالمعنى أنه لن يجد هؤلاء أحداً يسلم لهم بهذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنهم لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به، ففيه تنبيه على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل. وقيل: (فليأتوا بشركائهم) إن أمكنهم، وهذا أمر معناه التعجيز.

تفسير قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق وهم سالمون)

تفسير قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق وهم سالمون) يقول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43]. قال ابن عباس: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) أي: عن أمر شديد مفظع من هول يوم القيامة، ألا تسمع العرب تقول: شالت الحرب عن ساق، فهذا تعبير عن الشدة. ((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ)) يعني: فلا يستطيعون السجود لما أحاط بهم من العذاب الهائل الحائل الذي يحول بينهم وبين السجود لله تبارك وتعالى. {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: تغشاهم ذلة العصيان السالف لهم. {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} أي: لا مانع يمنعهم منه، والمراد من السجود عبادة الله وحده وإسلام الوجه له، والعمل بما أمر به من الصالحات. يقول القاسمي: ما أثرناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في معنى قوله تعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) هو المعنى الظاهر المناسب للتهويل المطرد في توصيف ذلك اليوم، وعليه اقتصر الزمخشري، وعبارته: الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك. يعني أن هذا تعبير موجود في اللغة العربية، فإذا أردت أن تصف موقفاً في الشدة وفي الهول والخطب العظيم تستعمل هذا التعبير، وهو الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام، حيث إنه في الحرب إذا اشتدت الأمور فإن النساء يولولن ويهربن من ساحة القتال، فيكشفن عن سوقهن؛ فهو يستعمل في التعبير عن الروع والهزيمة وتشمير المخدرات، والمرأة المخدرة هي المستورة داخل الخدر، والخدر هو مكان في أقصى البيت تستتر فيه البكر، فالمخدرة هي التي لا تظهر للناس. فالكشف عن الساق استعمل لأنه حين يشتد الروع والفزع والهول في الحروب فإن النساء أول من يهربن، فلكي تتمكن المرأة من الهرب فإنها تحتاج إلى الكشف عن السيقان حتى تستطيع الجري بسرعة، ولا تعرقلها الثياب والذيول الطويلة، ومن ثم يكشف النساء عن خدامهن، والخدام هو الذهب والخلاخيل التي تلبس في السيقان. يقول حاتم: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا فهذا شاهد لغوي على أن التعبير بالكشف عن الساق يستعمل في شدة الأهوال وفي الحروب. فقوله: (أخو الحرب)، يعني به الإنسان الذي أصبح متمرساً في الحروب. وقوله: (وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا) كناية عن شدة الهول في أثناء الحروب، فإنه يشمر ويجتهد في القتال. وقال ابن الرقيات: تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي عن خدام العقيلة العذراء فقوله هنا: (تذهل الشيخ عن بنيه) يعني أن الحرب عندما يشتد حالها يذهل الشيخ عن بنيه، يعني أنها تنسيه بنيه وتلهيه عنهم، وخص الشيخ لوفور عقله وممارسته الشدائد، فالشيخ الكبير في السن الحكيم العاقل إذا اشتدت الحرب وشمرت عن ساقها تذهله عن بنيه مع وفور عقله وممارسته الشدائد، ومع فرط محبته للأولاد. وقوله: (وتبدي عن خدام العقيلة العذراء) المقصود بالخدام -كما قلنا- الخلاخيل، والعقيلة من النساء هي التي عقلت في بيتها، أي: خدرت وحبست. وجاء لفظ الساق منكراً في الآية ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) للدلالة على أمر مبهم في الشدة خارج عن المألوف، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر:6] كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل. وقال أبو سعيد الضرير: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) أي: يوم يكشف عن أصل الأمر. وساق الشيء أصله الذي به قيامه، كساق الشجر وساق الإنسان. أي: تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها. فالساق بمعنى أصل الأمر وحقيقته، استعارة من ساقِ الشجر.

كلام ابن حزم في معنى: (يوم يكشف عن ساق) والرد عليه

كلام ابن حزم في معنى: (يوم يكشف عن ساق) والرد عليه وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في (الفصل): ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم القيامة أن الله عز وجل يكشف عن ساقه فيخرون سجداً، فهذا كما قال الله تعالى في القرآن {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، وإنما هو إخبار عن شدة الأمر وهول الموقف، كما تقول العرب: قد شمرت الحرب عن ساقها. قال جرير: ألا رب سامي الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح، وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً، ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به، وقد عاب الله هذا فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس:39]. كأن ابن حزم يقول: إن هذا الحديث يفهم في ضوء هذه الآية، فالحديث الذي فيه الكشف عن الساق هو كما قال الله في القرآن: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ)) يقول: وإنما هو إخبار عن شدة الأمر. ثم يقول: والعجب ممن ينكر هذه الأخبار الصحاح، وإنما جاءت بما جاء به القرآن نصاً، ولكن من ضاق علمه أنكر ما لا علم له به. ونحن نتعجب من كلام ابن حزم هذا، فلا شك في أن سياق كلامه أولاً يفهم أنه يمهد لأن يحق الحق في هذا التفسير، ثم إذا به يؤول الحديث، ولا شك في أن التأويل فرع من فروع التكذيب؛ لأن التأويل صرف الكلام عن ظاهره الراجح، فإن كان بلا مرجح فهو تأويل فاسد، ولو سلمنا جدلاً بأن الكشف عن الساق ثابت في اللغة في التعبير عن الشدة والهول ونحو ذلك فلا مانع من ذلك، لكن إذا صح الحديث في ذلك فيجب المصير إليه، ولا يجوز النظر فيما خالفه. أي: فلو قلنا إن الآية معناها التعبير عن الهول والشدة فهذا لا يعني نفي ما ثبت في الأحاديث الصحيحة في شأن هذه العلامة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى بينه وبين المؤمنين يوم القيامة.

ذكر الأحاديث الواردة في صفة الساق وبيان مذهب السلف في ذلك

ذكر الأحاديث الواردة في صفة الساق وبيان مذهب السلف في ذلك وقد ثبت عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا، فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيبقى أهل التوحيد، فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا ولم نره. قال: وتعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون نعم؟ فيقول: كيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبيه له. فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجداً، وتبقى أقوامٌ ظهورهم مثل طياسي البقر)،يعني: مثل قرون البقر؛ فالذين يبقون هم الذين أظهروا الإسلام، وفيهم المنافقون، فيبقون مع الموحدين ومع المسلمين، فالعلامة التي جعل الله سبحانه وتعالى بينه وبين المؤمنين في تلك اللحظة العصيبة هي أن يكشف الرحمن عن ساقه عز وجل. وأمثال هذه النصوص التي فيها صفات الله تبارك وتعالى لا إشكال فيها على الإطلاق؛ لأننا نسلك في ذلك منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وهو أننا نثبت هذه الصفات بلا كيف، أي: نجزم بأن الله سبحانه وتعالى لا يشبهه شيء على الإطلاق، وأنه لا يعلم كيفية الله إلا هو سبحانه وتعالى، فهذا الوصف لا يترتب عليه أي تشبيه، وإنما الذين يحتاجون للتأويل هم الذين يقعون أولاً في التشبيه، ثم يفرون من التشبيه إلى النفي والتعطيل، فيقعون في كلا الأمرين: التشبيه والتعطيل. أما أهل السنة فيقولون: ظاهر هذه الصفات هو ما يليق بالله. والمخالفون يقولون: ظاهرها هو ما يليق بالمخلوقين. ونحن نقول: بل ظاهرها هو ما يليق بالله، وحينئذٍ فلا نحتاج إلى التأويل. فينبغي أن نسلك في هذا مسلك السلف الصالح في إثبات هذه الصفات وإمرارها على ظاهرها، مع أننا نجزم ونقطع بأن الله لا يشبهه شيء من خلقه تبارك وتعالى {ِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فحينما تحدث تلك العلامة التي يعرفها المؤمنون يخر المؤمنون سجداً لله تبارك وتعالى، ويحاول المنافقون أن يشاركوهم في ذلك، فكلما حاول أحدهم أن يسجد لله عز وجل يعود ظهره طبقاً واحداً ويحال بينه وبين السجود، ويعود ظهره مثل قرون البقر تلتوي إلى الجهة العكسية، فبدل أن تتجه أجسادهم للسجود تتجه إلى العكس. ثم إنه إن وصلنا الآيتين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:41 - 42]، فإن العامل حينئذٍ في قوله: (يوم) هو (فليأتوا بشركائهم) أي: فليأتوا بشركائهم يوم يكشف عن ساق. وقد يكون العامل مقدراً هو (اذكر) أي: اذكر يوم يكشف عن ساق. فالحديث فسر الآية، ومعلوم أن القاعدة أنه متى صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث في تفسير آية من القرآن الكريم فإنه يجب المصير إلى تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه أولى ما تفسر به الآية. وقد روى عبد الله بن مسعود عن عمر بن الخطاب أنه قال: (إذا كان يوم القيامة قام الناس لرب العالمين أربعين عاماً شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم أربعين عاماً، ثم ينادي منادٍ: أيها الناس! أليس عدلاً من ربكم الذي خلقكم وصوركم وأماتكم وأحياكم ثم عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم. قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله، فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون، فيقال لهم: ألا تذهبون؟ قد ذهب الناس. فيقولون: حتى يأتينا ربنا. فيقال لهم: أو تعرفونه؟ فيقولون: إن اعترف لنا عرفناه -أي أن هناك صفة معينة إذا ظهرت لنا فنحن نتحقق منها- قال: فعند ذلك يكشف عن ساق، ويتجلى لهم، فيخر من كان يعبده مخلصاً ساجداً، ويبقى المنافقون لا يستطيعون؛ كأن في ظهورهم السفافيد -جمع سفود، وهي الحديدة التي يشوى بها اللحم- فيذهب بهم إلى النار، ويدخل هؤلاء الجنة، فذلك قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:42 - 43]). وإن كان لفظ حديثي أبي موسى وابن مسعود فيها شيء من الاختلاف إلا أن الحديثين ثابتان في صحيح مسلم برواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وغيره. قوله تعالى: ((خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ)) أي: ذليلة متواضعة. وهي حال. وقوله تعالى: ((تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)) ذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ووجوههم أشد بياضاً من الثلج، وتسود وجوه المنافقين والكافرين حتى ترجع أشد سواداً من القار.

كلام السعدي على قوله: (يوم يكشف عن ساق)

كلام السعدي على قوله: (يوم يكشف عن ساق) قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. يقول علامة القصيم الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هاتين الآيتين: أي: إذا كان يوم القيامة وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه؛ فحينئذ يدعون إلى السجود لله تبارك وتعالى، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله طوعاً واختياراً، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كطياسي البقر لا يستطيعون الانحناء. يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: وهذا الجزاء من جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون لا علة فيهم فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فالجزاء من جنس العمل. وقوله: ((وقد كانوا يدعون إلى السجود)) أي: إلى الصلاة، وذلك إنما يكون بالأذان، ولذلك فهذه الآية من الأدلة القرآنية التي استدل بها على وجوب صلاة الجماعة على الرجال إلا لعذر. ((وَهُمْ سَالِمُونَ)) يعني: في الدنيا. فيأبون إجابة المنادي لصلاة الجماعة، فلا تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم، فإن الله سبحانه وتعالى سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة والاعتذار يوم القيامة، ففي هذا ما يزعج القلوب عن المعاصي ويوجب التدارك مدة الإمكان. أي: على الإنسان أن لا يضيع الفرصة؛ لأننا نعيش ونحيا مرة واحدة، وكثير من الناس يقولون: (نحن نعيش مرة واحدة) في سياق تبرير انهماكهم في الدنيا وشهواتها، ولكن العاقل يقول: نحن نعيش مرة واحدة، يعني: فالفرصة لا تتكرر. ولذلك انظر إلى قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} ففيها لفت لانتباهنا أن نغتنم حياتنا في الدنيا ونحن سالمون قبل أن تأتي تلك الأهوال.

تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون)

تفسير القرطبي لقوله تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) يقول القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} معافون أصحاء. قال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون (حي على الفلاح) فلا يجيبون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات. وقيل: أي في التكليف الموجه عليهم في الشرع. والمعنى متقارب. وكان الربيع بن خثيم قد فلج، وكان يهادى بين الرجلين يحملانه من بيته إلى المسجد، فقيل: يا أبا يزيد! لو صليت في بيتك لكانت لك رخصة. فقال: من سمع (حي على الفلاح) فليجب ولو حبواً. وقيل لـ سعيد بن المسيب: إن طارقاً يريد قتلك فتغيَّب! فقال: أبحيث لا يقدر الله عليَّ؟ فقيل له: اجلس في بيتك. فقال: أسمع (حي على الفلاح) فلا أجيب!

ذكر قول من حمل قوله: (يوم يكشف عن ساق) على الدنيا والآخرة

ذكر قول من حمل قوله: (يوم يكشف عن ساق) على الدنيا والآخرة وقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: هذا وقد ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن الآية وعيد دنيوي للمشركين لا أخروي؛ قال: إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم: ((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ))، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف، فكيف يدعون إلى السجود؟ بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22] فيرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها وهو لا يستطيع الصلاة؛ لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)) فتشتد به الشدة ((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ))؛ لأنهم في حالة الاحتضار. وإما أنها في حال الهرم والمرض والعجز أي: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} للشيخوخة والعجز، وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن، فهو إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، وإما من العجز والهرم. والذين دافعوا عن هذا التأويل بأن هذا وعيد في الدنيا وليس في الآخرة، إنما هو بحجة أنه كيف يدعون إلى السجود والآخرة ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء؟! قال الرازي: واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم. فأما قوله: إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل هاهنا، والتكاليف زائلة يوم القيامة، فجوابه: أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف، بل على سبيل التقريع والتخجيل، فلم قلتم: إن ذلك غير جائز؟!

تفسير قوله تعالى: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث إن كيدي متين)

تفسير قوله تعالى: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث إن كيدي متين) قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45]. ثم أتبع تعالى تخويفهم بعظمة يوم القيامة لترهيبهم بما عنده وفي قدرته من القهر، فقال سبحانه وتعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي: كِلْهُ إلي فإني أكفيكه، وهذا من بليغ الكناية، كأنه يقول: حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إلي وتخلي بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به قادر على ذلك. وأبهم العقوبة. وقوله تعالى: ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)) أي: سنكيدهم بالإمهال وإدامة الصحة وزيادة النعم من حيث لا يعلمون أنه استدراج وسبب لهلاكهم، يقال: استدرجه إلى كذا أي: استنزله إليه درجة فدرجة حتى يوقعه فيه، فهو يزداد في العتو والخبث والمعاصي والله سبحانه وتعالى يزيده من النعم وسعة الرزق والصحة والعافية، فهو في الظاهر يتمتع لكن في الحقيقة إنما يُمكر به، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد على معاصيه فاعلم أنه استدراج، ثم تلا قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]).

المعاقبة بالاستدراج للغافل

المعاقبة بالاستدراج للغافل وإن أعظم عقوبة يسلطها الله سبحانه وتعالى على العبد أن ينسيه نفسه؛ لأن العقوبات تتنوع، فهناك عقوبات ظاهرة، ومنها الحدود الشرعية، كقطع يد السارق، ونحو ذلك، ومنها عقوبات كونية قدرية، كالزلازل والخسف والقذف، وهناك عقوبات خفية، والعقوبة الخفية هي أخطر أنواع العقوبة؛ لأن العقوبة الظاهرة يمكن للإنسان أن ينتبه بسببها إلى أنها من غضب الله وسخطه عليه، وحينئذٍ يبادر إلى التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، لكن العقوبة الخفية يعاقب بها ولا يشعر بأنه يعاقب، بل يزين له المعاصي ويتمادى إلى أن يأخذه الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته). فهل سمعت عن جبار من الجبابرة في مراحل التاريخ حينما أتت لحظة موته وأخذه وإهلاكه استطاع أن يفلت من ملك الموت؟! إن هذا لا يمكن أبداً مهما طغى وتجبر كفرعون وأمثاله، فلا يغتر الإنسان بظاهر ما عليه الكفار أو الظالمون أو العصاة أو المفرطون، وإنما عليه أن يعلم أن هذا استدراج وعقوبة بالنسيان، كما قال الله تبارك وتعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] أي: تركهم ولم يبتلهم بما ينبههم إلى الخطر الذي يترصدهم، فلم يفكروا في عواقب أنفسهم ومصيرهم في الآخرة. فالغفلة عن المصير في الآخرة، والغفلة عن عقوبة الله تبارك وتعالى قد تكون أشد العقوبات، وهي العقوبة الخفية غير الظاهرة؛ لأن هذا يزين له سوء عمله وحينئذٍ لا يتوب، بل يحال بينه وبين التوبة، فإذا أتاه الموت نقل إلى العذاب الأليم، فكان كل ما مضى استدراجاً. ومثال ذلك -ولله المثل الأعلى- البوليس حين يتتبع شخصاً مرتكباً للجريمة وهو يريد أن يقبض عليه في حالة معينة أو في وضع معين، فيظل يراقبه ويتربص به ويملي له حتى يشعر بالأمان، فإذا حانت لحظة القبض عليه لا يستطيع أن يفلت، ولله المثل الأعلى. فقوله تعالى: (وأملي لهم) أي: أمهلهم وأنسئ في آجالهم ملاوة من الزمان لتكتمل حجة الله عليهم. أي: كيدي لأهل الكفر شديد قوي. قال الزمخشري: الصحة والرزق والمد في العمر إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف النعم بالاستدراج، وقيل: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه! وسمَّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة كيد، حيث كان سبباً للتورط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك. يعني أن هذا الإحسان الذي أحسن الله به إليه كان له أثر كبير في إيجاد الهلاك له.

أقوال السلف في معنى (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث)

أقوال السلف في معنى (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) قوله تعالى: (فذرني) أي: دعني (ومن يكذب بهذا الحديث) يعني القرآن الكريم، أو يوم القيامة. وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان أن الله تعالى هو الذي سوف يجازيهم وينتقم منهم ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)) أي: سنأخذهم على غفلتهم وهم لا يعرفون، فأخذوا يوم بدر. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر. وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. وقال أبو روق: أي: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال ابن عباس: سنمكر بهم. وقيل: هو أن نأخذهم قليلاً ولا نباغتهم. وفي أثر إسرائيلي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: كم أعصيك وأنت لا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له: كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر، إن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت! والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال، كالتدرج، ومنه قيل: درجة. وهي منزلة بعد منزلة، واستدرج فلان فلاناً أي: استخرج ما عنده قليلاً قليلاً. ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه بمعنى أدناه منه على التدريج. (وأملي لهم) أي: أمهلهم وأطيل لهم المدة، والملاوة: المدة من الدهر، وأملى الله له أي: أطال له، والملوان الليل والنهار. وقيل: (أملي لهم) أي: لا أعاجلهم بالموت (إن كيدي متين) أي: إن عذابي لقوي شديد، فلا يفوتني أحد.

تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون)

تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون) يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم:46]. (أم تسألهم أجراً) أي: أتسألهم أجراً على ما أتيتهم به من النصيحة ودعوتهم إليه من الحق. ((فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)) أي: فهم من عزة ذلك الأجر مثقلون؟! أي: هو مبلغ كبير تطلبه منهم مقابل الدعوة، ومقابل هدايتهم ((فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ)) أي: أأثقلهم أداء هذا الأجر فتحاموا لذلك قبول نصيحتك وتجنبوا الدخول فيما ما دعوتهم إليه؟! والمعنى: إنك لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً فيثقل عليهم حمله حتى يثبطهم عن الإيمان. وقال بعضهم في معناه: أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله، فهم من غرامة ذلك مثقلون بما يشق عليهم من بذل المال؟! أي: ليس عليهم كلفة، فأنت لا تسألهم أجراً، بل يستولون بمتابعتك على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم الغيب فهم يكتبون)

تفسير قوله تعالى: (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [القلم:47]. ((أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ)) أي: علم ما غاب عنهم ((فَهُمْ يَكْتُبُونَ)) أي: يحكمون لأنفسهم بما يريدون. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أي: هل اطلعوا على الغيب أو على اللوح المحفوظ ونقلوا منه وكتبوا منه ما يحكمون به من أنهم سوف يهلكون المسلمين، أو أنهم كذا وكذا من أمانيهم الفارغة، فهم يكتبون من الغيب ما يحكمون به فيجادلونك بما فيه، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به، وأنهم مستغنون عن وحيه وتنزيله؟! يقول الله تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} وهو إمهالهم وتأخير ظهورك عليهم، قضى الله أنه لا يعجل لك الظهور في الحال لكن في أجل يعلمه وحده، ولذلك يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أي: لقضاء ربك. وقيل: اصبر على ما حكم به عليك ربك من تبليغ الرسالة. وقيل: فاصبر لنصر ربك، أي: لا تعجل ولا تغاضب فلا بد من نصرك، فاصبر لحكم ربك، وهو إمهالهم وتأخير ظهورك عليهم، أي: لا يثنك عن تبليغ ما أمرت به أذاهم وتكذيبهم، بل امض صابراً عليه {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وهو يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أي: لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة، وهذه تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الحاقة

تفسير سورة الحاقة

تفسير قوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة)

تفسير قوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة) سورة الحاقة هي السورة التاسعة والستون من سور القرآن الكريم، وهي سورة مكية، وآيها اثنان وخمسون آية. قال تبارك وتعالى: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1] أي: الساعة التي تحق فيها الأمور، ويجب فيها الجزاء على الأعمال، مثل قولهم: حق عليه الشيء إذا وجب. والحاقة هي القيامة، وهذا اسم من أسماء يوم القيامة كما سميت بالقارعة ونحو ذلك من الأسماء. ولماذا سميت القيامة بالحاقة؟ قيل: سميت بذلك؛ لأن الأمور تحق فيها. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تكون من غير شك. وقيل: سميت بذلك؛ لأنها أحقت بأقوام الجنة، وأحقت بأقوام النار. وقيل: سميت بذلك؛ لأن فيها يصير كل إنسان حقيقاً بجزاء عمله. وقيل: لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل، أي: تغلب كل محاق ومجادل في دين الله بالباطل، تقول: حاققته فحققته، يعني: غالبته فغلبته، والتحاق هو التخاصم، والاحتقاق الاختصام، وكذلك بالنسبة لكلية الحقوق، فهي كلية الاحتقاق يعني: الاختصام. قوله تعالى: {مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:2] هذا من باب وضع الظاهر موضع المضمر، يعني: ما هي الحاقة؟ تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها. قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] قال بعضهم: من عوائد العرب في محاوراتهم اللطيفة إذا أرادوا تشويق المخاطب في معرفة شيء ودرايته أتوا بإجمال وتفصيل، فالإجمال مثل قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ}، ثم أتى بتفصيل أكثر فقال: {مَا الْحَاقَّةُ}، ثم زاد فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} أي: أي شيء هي؟! تأكيداً لتفخيم شأنها حتى كأنها خرجت عن دائرة علم المخاطب، يعني: لهولها وفخامتها صارت كأنها خالية عن أن يدرك المخاطب كنهها أو معناها أو ما اشتملت عليه من الأوصاف مما لم تبلغه دراية أحد من المخاطبين، ولم تصل إليه معرفة أحد من السامعين، ولا أدركه فهمه، وكيفما قدر حالها فهي وراء ذلك وأعظم، ومنه يعلم أن الاستفهام كناية عن أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دارٍ، ولا تبلغها الأبصار.

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية)

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:4 - 5]. قال تبارك وتعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4] أي: بالساعة التي تقرع الناس بأهوالها وهجومها عليهم. والقارعة هي الحاقة، وهنا أيضاً وضع المظهر هنا موضع المضمر؛ لأن دليلها أو تسميتها بالقارعة هو أيضاً اسم من أسماء يوم القيامة. قال الزمخشري: ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة، زيادة في وصف شدتها. ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك ذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيب؛ تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم، فقال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ} [الحاقة:5] وهم قوم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] أي: بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة. وإذا قلنا: إن الطاغية مصدر كالعافية فيكون المعنى: أهلكوا بطغيانهم.

تفسير قوله تعالى: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية فهل ترى لهم من باقية)

تفسير قوله تعالى: (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية فهل ترى لهم من باقية) {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:6 - 8]. قال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا عَادٌ} وهم قوم هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي: شديدة العصوف والبرد؛ فالريح الصرصر هي الريح الباردة. قال بعض المفسرين: ريح باردة تحرق ببردها كإحراق النار. وقيل: هي من الصر، والصر: هو البرد. وقيل: ((صرصر)) أي: شديدة الصوت. وقيل: كثيرة السموم. قوله: ((بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)) يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((عاتية)) أي: متجاوزة الحد المعروف في الهبوب والبرودة. وقيل: ((عاتية)) يعني: عتت على خزانها فلم تطعهم ولم يطيقوها من شدة هبوبها؛ غضباً لغضب الله تبارك وتعالى. وقيل: ((عاتية)) أي: عتت على عاد فقهرتهم. قوله: ((سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ)) أي: سلطها عليهم. قوله: ((حسوماً)) أي: متتابعة لا تفتر ولا تنقطع، من قولك: حسمت الدابة إذا تابعت بين سيرها. أو ((حسوماً)) بمعنى: قاطعات قطعت دابرهم، هذا على أن (حسوماً) جمع حاسم كشهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فكذلك حسوم جمع حاسم، فإن كان مصدراًَ فنصبه بفعل محذوف تقديره: تحسم حسوماً. وقول آخر: إن ((حُسُوماً)) مفعول له، أي: سخرها عليهم للحسوم، أي: للاستئصال. وقد قيل: إن تلك الأيام هي أيام العجز، والعامة تقول: العجوز، وهي التي تكون في عجز الشتاء، يعني في آخر الشتاء. قوله: ((فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى)) أي: هلكى، جمعُ صريع. قوله: ((كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)) أي: ساقطة مجتثة من أصولها، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]. قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} أي: هل ترى لهم بقاء؟ أو من نفس باقية؟! أو هل ترى لهم من بقية؟! وهذه الآية كقوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] يعني: المساكن التي كانوا يسكنونها، أما هم فلم يبق منهم أحد.

تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله أخذة رابية)

تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله أخذة رابية) قال تبارك وتعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:9 - 10]. قوله: ((وجاء فرعون ومن قبله)) يعني: من قبله من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود. قوله: ((وَالْمُؤْتَفِكَاتُ)) هي قرى قوم لوط، وقرية سدوم هي القرية الكبرى بالنسبة لديار قوم لوط عليه السلام، وهناك قرى أخرى لقوم لوط، فلذلك جمعت هنا بقوله: ((وَالْمُؤْتَفِكَات)). وقيل: المؤتفكات: المنقلبات؛ لأن الله سبحانه وتعالى قلبها عليهم كما قلبوا هم فطرة الله تبارك وتعالى وعكسوها. قوله: ((بِالْخَاطِئَةِ)) أي: بالخطأ، أو بالأفعال الخاطئة. فالباء تكون سببية، يعني: بسبب الخطأ والذنب والمعصية والخطيئة، أو بسبب الأفعال الخاطئة. قوله تبارك وتعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} الذي ذكر في الآية السابقة قوم فرعون وقوم لوط، فمن المقصود من قوله تعالى: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ))؟. قيل: ((رسول ربهم)) هو موسى عليه السلام. وقيل: ((رسول ربهم)) هو لوط عليه السلام. وقيل: ((رسول ربهم)) هو موسى ولوط عليهما السلام، فإنه يجوز أن يعبر بالمفرد عن المثنى، فيكون التفسير: فعصوا رسولي ربهم، يعني: موسى ولوطاً عليهما السلام، والدليل على أن رسول قد تطلق على المثنى قول الله تبارك وتعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] فأطلق المفرد على المثنى، فيحتمل هنا أيضاً أن يكون قوله تعالى: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)) يعني: رسولي ربهم، وهما موسى ولوط عليهما السلام. وهناك قول رابع في معنى قوله: ((فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ)): وهو أن رسولاً أحياناً تأتي بمعنى الرسالة، يقول الشاعر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول قوله: ولا أرسلتهم برسول، يعني: ولا أرسلتهم برسالة، فيطلق أحياناً على الرسالة رسول. قوله تعالى: ((فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً)) يعني: أخذة عالية زائدة في الشدة على الأخذات السابقة، وعلى عذاب الأمم الغابرة.

تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء أذن واعية)

تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء أذن واعية) قال عز وجل: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:11 - 12]. قوله: ((إنا لما طغى الماء)) أي: كثر وتجاوز حده المعروف؛ بسبب إصرار قوم نوح على الكفر والمعاصي، وتكذيبهم لنوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والكلام هنا على قوم نوح عليه السلام. قوله: ((حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)) أي: السفينة التي تجري في الماء. قال ابن جرير: خاطب الذين نزل فيهم القرآن، وإنما حمل أجدادهم نوحاً وولده في السفينة، كما قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3] عليه السلام؛ لأن الذين خوطبوا بذلك أولاد الذين حملوا في الجارية، فكان حمل الذين حملوا بها من الأجداد حملاً لذريتهم؛ لأنهم كانوا في أصلابهم، ولأن نوحاً هو أبو البشر الثاني، وصحيح أن نوحاً كان معه أناس آخرون، لكن غالب الذرية بعد ذلك كانت من ذرية نوح ثم من ذرية إبراهيم عليه السلام. قوله تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} [الحاقة:12] أي: لنجعل تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين تذكرة. وقال بعض المفسرين: ((لنجعلها)) أي: السفينة ((تذكرة)). وقال بعض المفسرين: وهذه السفينة رآها أناس من أوائل هذه الأمة على جبل الجودي. وهناك مجموعة من المكتشفين الإنجليز قاموا بتسجيل شريط فيديو بعد بحث طويل بأجهزة حديثة فيه أن مكان السفينة على قمة جبل الجودي، والذي أثبته هذا البحث من هذه البعثة مخالف لما ورد في التوراة وفي الكتب الأخرى، وما توصلوا إليه كان موافقاً لما صرح به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]. فيحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً) أي: أن السفينة تذكرة، أو ((لنجعلها)) أي: تلك الفعلة التي هي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ((لكم تذكرة)) وعبرة، تذكرون بها صدق وعده في نصر رسله وتدمير أعدائه. قوله: ((وَتَعِيَهَا)) أي: تحفظها. ((أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)) أي: حافظة لما سمعت عن الله متفكرة فيه.

تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة)

تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة) قال تبارك وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:13] يعني: لخراب العالم، فعلى هذا يكون المقصود بهذه النفخة: النفخة الأولى عند قيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات. وقال بعض المفسرين: هي النفخة الثانية. وبعضهم قال: هي النفخة الآخرة، أي: أن هناك نفخة ثالثة. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: هل النفخات ثلاث أم نفختان؟ فمن قال: هي ثلاث نفخات، قال: النفخة الأولى: نفخة الفزع، والنفخة الثانية: نفخة الصعق، والنفخة الثالثة: نفخة البعث والنشور. أما من قال: إنها نفختان فهي أولى وآخرة، وهذا هو الراجح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وفي الحديث الصحيح: (ما بين النفختين أربعون)، فدل على أنهما نفختان. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ أي: لخراب العالم. قال أبو السعود: هذا شروع في بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها.

تفسير قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال لا تخفى منكم خافية)

تفسير قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال لا تخفى منكم خافية) قال تبارك وتعالى: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:14 - 18]. قوله: ((دكتا)) يعني: فتتا تفتيتاً. قوله: ((دكتا دكة واحدة)) أي: رفعتا وضربتا ببعضهما من شدة الزلازل. قوله: ((فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)) في وصفها بالواحدة تعظيم لها، وإشعار بأن المؤثر لدك الأرض والجبال وخراب العالم هي دكة واحدها غير محتاجة إلى أخرى. فهذا دليل على شدة قوتها، وأنها كافية وحدها لخراب العالم، ولا تحتاج إلى دكة أخرى. قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:15] أي: نزلت النازلة وهي القيامة، وهذا يبين أن من أسماء القيامة الواقعة. قوله تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ} [الحاقة:16] أي: انصدعت. قوله: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} أي: متمزقة. قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} أي: على جوانبها وأطرافها حين تشقق، والملك هنا اسم جنس معناه: الملائكة على أرجائها. قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} أي: فوق الملائكة الذين هم على أرجائها. قوله: {يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي: ثمانية أفراد من الملائكة، أو ثمانية صفوف من الملائكة، والله أعلم بحقيقة ذلك. قال ابن كثير: يحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله تعالى أعلم بالصواب. وهذه الآيات وهذه النصوص يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت، ولا نحاول أن نتعمق أو نتنطع في معرفة كنهها وحقيقتها، بل نؤمن بها كما وردت، وتفسيرها تلاوتها وقراءتها. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]. قوله: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ)) أي: على ربكم للحساب والمجازاة. قوله: ((لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) أي: أيّ شيء كان يستر ويخفى في الدنيا بستر الله يصبح بادياً معروضاً أمام الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه)

تفسير قوله تعالى: (فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه) قال تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19]. يعني: أن علامة الفوز والنجاح يومئذٍ هي أن يعطى الإنسان كتابه بيمينه، وهذا ما فسرته كثير من الآيات والأحاديث، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. إن الآيات التي ورد فيها أمر هذا الكتاب الذي يعطاه كل إنسان هو كتاب حقيقي؛ وذلك لقوله تبارك وتعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، وقوله تبارك وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، وقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء:13 - 14]. لا شك أن هذا في جانب ما ورد من الأحاديث في وصف هذا الكتاب كله يدفع ويبطل تأويل الكتابين باليُمن والشؤم، يقول بعض المؤولين: ((من أوتي كتابه بيمينه)) هذا كناية عن اليمن، ومن أوتي كتابه بشماله هذا كناية عن الشؤم. وهذا التأويل تحريف لكلام الله عز وجل؛ لأن الكتاب المذكور في النصوص هو كتاب حقيقي، فلماذا يؤولون النصوص مع كونها واضحة. قوله: {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} يعني: تعالوا أو خذوا اقرءوا كتابيه. قوله: ((كتابية)) الهاء هنا هاء السكت، وليست ضمير غيبة. قوله تعالى: ((هاؤم)) يعني: تعالوا أو هلموا أو خذوا، وقيل: هي كلمة لإجابة الداعي عند النشاط والفرح.

تفسير قوله تعالى: (إني ظننت أني ملاق حسابيه)

تفسير قوله تعالى: (إني ظننت أني ملاق حسابيه) قال تبارك وتعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20]. قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ)) أي: علمت أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ. قوله تعالى هنا: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ معروف أن الظن واسطة بين الشك وبين العلم، وقد يأتي الظن بمعنى العلم إذا وجدت قرائن، وذلك مثل قوله تبارك وتعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف:53] قوله: ((فظنوا)) أي: علموا وتيقنوا، بقرينة قوله تعالى: {وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]. كذلك هنا في قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فهي أيضاً بمعنى العلم؛ لأن العقائد لا يصلح فيها الظن. إذاً: قوله إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ يعني: كنت أؤمن بالبعث والنشور والحساب والجزاء ولست ممن كان ينكر البعث والنشور، فظننت أني ملاق حسابيه، وأني سأُجازى يوم الحساب، فلذلك أعددت له عدة. إذاً: العقائد لا تقوم على الظن، وإنما تقوم على اليقين والعلم، فمن ثم ففي الكلام على العقائد لا يمكن أن يكون الظن بمعنى الشك، وإنما الظن بمعنى العلم، أي: علمت وأيقنت أني ملاق حسابيه. ودل القرآن أيضاً على أن الظن قد يكون بمعنى العلم؛ وذلك بمفهوم قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، هذا هو المنطوق، أما المفهوم فهو أن البعض الآخر حق وليس إثماً، وهو ما كان حقاً، وقال تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] فوصف المؤمنين بأنهم يؤمنون بلقاء الله وبالبعث وبالنشور وبالحساب والجزاء، فما دام الموضوع هنا متعلقاً بالعقيدة فلا يمكن فيها إلا اليقين وليس الظن، ويكون الظن هنا بمعنى العلم. قوله: ((إِنِّي ظَنَنتُ)) أي: علمت. قوله: ((أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ)) أي: ملاقٍ جزائي يوم القيامة فأعددت له عدته، من الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان بالبعث والنشور ركن من أركان الإيمان، ويثاب الإنسان على التصديق به، لكن لا يكفي فقط في النجاة من العذاب، فلابد مع الإيمان بالبعث والنشور أن تعد العدة للقاء الله، وأن تعد للسؤال جواباً، فمن ثم نقول في تفسير قوله: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ إني علمت أني ملاق جزائي يوم القيامة، فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.

تفسير قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية في الأيام الخالية)

تفسير قوله تعالى: (فهو في عيشة راضية في الأيام الخالية) قال تبارك وتعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24]. قوله: ((عيشة راضية)) يعني: ذات رضاً ملتبسة به، فيكون بمعنى عيشة مرضية، كقوله تبارك وتعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] بمعنى مدفوق، يعني: أتى اسم الفاعل مراداً به اسم المفعول، كذلك هنا (عيشة راضية) يعني: عيشة مرضية، أو عيشة ذات رضاً، كما تقول: لابنٌ وتامرٌ، يعني: صاحب لبن، وصاحب تمر. أو قوله: (في عيشة راضية) أي: في عيشة راض صاحبها، فأسند الرضا إليها، وجعلها كأنها نفسها راضية. قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:22 - 23]. قوله: ((قطوفها)) تقول: (قِطف) بكسر القاف، وهو ما يقطف من ثمرها. قوله: ((دانية)) أي: قريبة سهلة التناول. قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [الحاقة:24] أي: يقال لهم: كلوا واشربوا. قوله: ((هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)) أي: الماضية في الحياة الدنيا. وناقشنا مراراً الرد على الملاحدة والمشركين والكفار من النصارى المستشرقين والمنصرين الذين يطعنون في الإسلام وقلنا: إن الإسلام يعد المؤمنين بمتاع حسي في الجنة، فالجنة تشمل كل أنواع النعيم الحسي والنفسي والروحي، يقول تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: ورؤية الله سبحانه وتعالى في الجنة هي أعظم نعيم الجنة على الإطلاق، بحيث إنه إذا كشفت الحجب ورأوا ربهم سبحانه وتعالى ونظروا إليه يتلهون عن كل ما عدا ذلك من النعيم، وهذا نعيم معنوي وليس نعيماً حسياً، فالإنسان جسم وروح، جسد ونفس، فاقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى وفضله على المؤمنين أن ينعم أرواحهم وينعم أيضاً أجسادهم، وهذا ليس فيه أي معرة، وإنما حرم النصارى أنفسهم من هذا كله بسبب آثار رهبانيتهم التي ابتدعوها، وحرموا بسببها ما أحل الله من الطيبات، ونظروا إلى النعم الحسية على أنها نجس، حتى إنهم نفروا من الزواج ومن أطايب الطعام والشراب ونحو ذلك، فهذه رهبانيتهم المشئومة مخالفة لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف:32] يشتركون فيها مع غيرهم {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] فقط لمن آمن. وهناك كثير من الأدلة التي تدل على إبطال ما يزعمونه، ومن ذلك أنهم يعتقدون أن آدم وحواء كانا في الجنة، وأنهما أكلا من الشجرة، وهذا يدل على أن الجنة فيها أشجار وفيها ثمار تؤكل، وهذا مما نحتج به عليهم، وإن كانت عقيدتهم في قصة آدم وحواء دخلها شيء من التحريف كما هي في سجيتهم.

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله هلك عني سلطانيه)

تفسير قوله تعالى: (وأما من أوتي كتابه بشماله هلك عني سلطانيه) {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29]. قال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ} [الحاقة:25] أي: الكافر سيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، كما أوضحته الآية الأخرى، فعندما يلاقي العذاب ويؤتى كتابه بشماله يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26] يعني: أي شيء حسابي. قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] قال ابن جرير: يعني: يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث ولا نشور. قوله: ((يَا لَيْتَهَا)) الهاء تعود على الموتة التي ماتها في الدنيا كما يعتقد كثير من الكفار أنه لا حساب ولا بعث ولا نشور ولا حياة أخرى، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، والإنسان ينتهي بمجرد أن يموت، وهذا مخالف للحقيقة، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيّ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيِّ والقاضية بمعنى القضاء وهو الفراغ. قوله: ((يَا لَيْتَهَا)) يحتمل أن المعنى يا ليت الموتة التي متها في الدنيا كانت هي الفراغ من كل ما بعدها، ولم يكن بعدها حياة ولا بعث، أو: ((يا ليتها)) يعني: يا ليتني قبل أن آخذ كتابي وقبل أن أعذب أموت موتاً يقضي عليّ وتخرج روحي فلا تعود أبداً. قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] يعني: ما دفع عني من عذاب الله شيئاً. و (ما) هنا قيل: إنها استفهامية، وقيل: إنها نافية، فأما على القول بأن (ما) استفهامية فيكون المعنى: ما الذي أغنى عني المال الذي كنت أملكه في الدنيا؟ يعني: أي شيء أغنى عني؟ و A لا شيء. أو تكون (مَا) نافية فيكون المعنى: لم يغن عني ماليه، وهذا كقوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وقوله تبارك وتعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]. قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:29] أي: لم تبق لي حجة أحتج بها، فهذا المال والجاه والملك والتسلط على الناس لم يغن عني شيئاً.

تفسير قوله تعالى: (خذوه فغلوه فاسلكوه)

تفسير قوله تعالى: (خذوه فغلوه فاسلكوه) قال تبارك وتعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32]. قال تبارك وتعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة: 30] يعني: يقال لخزنة النار: خذوه بالقهر والشدة. قوله: ((فغلوه)) يعني: ضموا يده إلى عنقه؛ لأنه عندما ملكته هذا المال وهذا السلطان وهذه النعم التي أنعمت بها عليه في الدنيا لم يشكرني على ذلك، فجزاؤه أن يفعل به هكذا. قوله تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: أدخلوه ليصلى فيها؛ لأنه لم يشكر شيئاً من النعم، فأذيقوه شدائد النقم. قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} [الحاقة:32] أي: حلقة منتظمة بأخرى، وهي سلسلة متتابعة الحلقات متصلة. قوله: {ذَرْعُهَا} أي: مقدارها {سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}، أي: أدخلوه فيها بحيث يكون فيما بين حلقها موثقاً لا يقدر على حركة. قال بعض المفسرين: إن السبعين هنا عبارة عن الكثرة غير المحصورة، وليست هي العدد المعين، كما قيل أيضاً في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] والله تعالى أعلم. ثم أيضاً نحن لا ندري ما مقياس هذا الذارع؟ هل هو بذارع الملك أو بذارع غيره، الله أعلم، فهذا مما يوكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى. قال بعض المفسرين: إن هذه السلسة كالسيخ تدخل من فمه وتخرج من مؤخرته، والله تعالى أعلم بذلك.

تفسير قوله تعالى: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين)

تفسير قوله تعالى: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين) {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة:33 - 34]. علل الله عز وجل استحقاقهم للعذاب على طريقة الاستئناف حيث قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33] أي: المستحق للعظمة وحده سبحانه وتعالى، بل كان هذا الكافر يشرك معه الجماد المهين. قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي: كان لا يحض على إطعام المسكين، بل كان يبخل حتى بالتحريض على إطعام المسكين فضلاً عن أن يبذل هو بنفسه، ولذلك لم يقل: ولا يطعم المسكين، وإنما قال: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}. فهذا وصفه في غاية الشح؛ لأن الحض لن يكلفه سوى كلمات قليلة، يحض بها الآخرين على أن يطعموا المسكين، لكن بخل بالكلمات لشدة بخله فضلاً عن أن ينفق من ماله، فهو أبعد وأبعد عن ذلك. قوله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} معناه: أنه يعذب على عدم الحض والتحريض على إطعام المسكين. وهذا الآية فيها دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأن الكافر كما يعذب على الأصول يعذب أيضاً على الفروع، فهو مطالب بالصيام ومطالب بالصلاة وبتحريم شرب الخمر وغيرها مما حرمه الله سبحانه وتعالى، لكن هل تصح منه الصلاة؟ لا تصح منه الصلاة إذا صلى؛ لأنه لا يعرف الله، فكيف ينوي التقرب إلى الله بالعبادة، لكن حتى تصح صلاته لابد أولاً أن يسلم ويدخل في الإسلام ثم يصلي بعد ذلك، ومع ذلك هو مخاطب بفروع الشريعة كما بينا، والدليل على ذلك آيات كثيرة، منها: قوله تعالى هنا: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وقوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] على تفسير الزكاة بأنها زكاة الأموال المعروفة. وكما أن الإيمان يزيد بالطاعة، والمؤمن يثاب على إيمانه وعلى طاعته، وكلما زاد أعمالاً صالحة زاد ثوابه على الأعمال الصالحة؛ كذلك الكفر يزداد بالمعاصي، ويجازى الكافر على كفره وعلى عصيانه، فالكافر يعذب على الكفر ويعذب أيضاً على العصيان، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، فيعذبون على الكفر؛ لأنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وعذاب مزيد؛ لأنهم كانوا يفسدون في الأرض. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فدل على أن الكفر أيضاً يزيد بزيادة شعب الكفر من المعاصي ونحوها. وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران:90] وهذا يدل أيضاً على أن الكفر يزيد بالمعاصي.

تفسير قوله تعالى: (فليس له اليوم هاهنا حميم لا يأكله إلا الخاطئون)

تفسير قوله تعالى: (فليس له اليوم هاهنا حميم لا يأكله إلا الخاطئون) {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:35 - 37]. قال عز وجل: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} [الحاقة:35] يعني: قريب تأخذه الحمية له. قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36] الغسلين هو غسالة أهل النار وصديدهم. قال ابن جرير: كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: كل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين، (فِعْلِين) من الغسل من الجراح والدبر، وزيد فيه الياء والنون بمنزلة عفرين. إذاً: الغسلين يعبر عنه بما يخرج من عصارة وغسالة وصديد أهل النار، والعياذ بالله. قوله تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] أي: الآثمون أصحاب الخطايا، يقال: خَطِئ الرجل إذا تعمد الخطأ، وهناك فرق بين خاطئ ومخطئ، خاطئ يعني: آثم يتعمد الخطأ، لكن المخطئ قد يكون غير متعمد الخطأ، يقول عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)، ويقول الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. قال الرازي: قوله: ((وَلا طَعَامٌ)) الطعام ما هيئ للأكل، فلما هيئ الصديد ليأكله أهل النار كان طعاماً لهم، ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم مقام الطعام فسمي طعاماً، كما قال الشاعر: وخيل قد جنحت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع يعني: لما قام الضرب مقام التحية أطلق عليه تحية، وقوله: (ضرب وجيع) أي: ضرب مؤلم.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون)

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون) قال الله تبارك وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38 - 39] هذا القسم ينتظم جميع الأقسام التي وردت في القرآن الكريم؛ لأن هاتين الآيتين أجمل فيهما كل قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم؛ لأنه شامل لكل ما يقسم به تعالى، فهو سبحانه يقسم بشيء إما من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، فجمعهما الله هنا بقوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ يعني: عالم الشهادة، وَمَا لا تُبْصِرُونَ يعني: عالم الغيب. و (لا) هنا في قوله: ((فلا أقسم)) فيها قولان: إما أنها مزيدة للتأكيد وتقوية الكلام يعني: أقسم، وهذا معروف في كلام العرب، والقرآن عربي. وإما أن قوله: ((فلا أقسم)) هو في حد نفسه تركيبة، وهذه التركيبة كلها بتمامها صيغة من صيغ القسم، كما في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1 - 2] معناه: أقسم بهذا البلد. يقول القاسمي: قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (وَمَا لا تُبْصِرُونَ) أي: أقسم بالمشاهدات والمغيبات. يعني: المغيبات بالنسبة للبشر، وليس بالنسبة لله؛ لأنه ليس هناك غيب بالنسبة لله تبارك وتعالى، إنما الغيب يكون للمخلوقين، ولذلك نسب إليهم عدم البصر فقال: وَمَا لا تُبْصِرُونَ. قال الرازي: وهذا القسم يعم جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر، وغير مبصر، فشمل الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والعالم العلوي والسفلي، وهكذا. ومن الممكن أن نعد أي آية أخرى في القرآن ورد فيها القسم تفصيلاً لما أجمل في هذا القسم، فهو إما من المبصر المشاهد وإما من المغيبات، فهذه الآية متضمنة كل قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به في القرآن الكريم.

تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم)

تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم) قال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]. قوله: ((إنه)) أي: القرآن الكريم. قوله: ((لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) وهو محمد صلى الله عليه وسلم يبلغه عن الله تعالى؛ لأن الرسول لا يبلغ عن نفسه، ويحتمل أن يكون الرسول المذكور هنا هو النبي محمداً صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون جبريل عليه السلام، خاصة وأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21] فهذا جبريل، فيحتمل أن يكون الرسول الكريم هناك هو الرسول الكريم هنا، لكن في سورة التكوير لا تحتمل إلا جبريل، أما في سورة الحاقة فيحتمل الاثنين، لكن مما يرجح أن المراد به هنا هو النبي محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تبارك وتعالى بعد ذلك مباشرة: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41]؛ لأن الذي اتهم بأنه شاعر هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يتهم جبريل بأنه شاعر، فهذا السياق يرجح أن المقصود بالرسول هنا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم. إذاً: قوله: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) يعني: إنه لقول محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل التبليغ، وهو من عند الله، والقرينة التي تدل على أن قوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) على سبيل التبليغ لا أنه أنشأه هي: قوله بعدها بآيتين: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43]. وقد نسب القرآن إلى النبي عليه الصلاة والسلام مرة، ونسب إلى جبريل أكثر من مرة، وهذا مما يوضح ومما يرجح تفسير قوله تعالى: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) بأنه محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأننا إذا فسرناه بجبريل فتكون هذه الآية توكيداً لما ورد في سورة التكوير من أن سند القرآن الكريم يكون عن الرسول عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن الله عز وجل، ولا شك أنه يكون الأقوى أن ترد آية تنزه سند القرآن مرة من قبل الرسول البشري، ومرة من قبل الرسول الملكي، حتى يحصل التنزيه لكل سند القرآن الكريم. إذاً: الأفضل أن نقول هنا في تفسير هذه الآية: ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)): هو محمد عليه الصلاة والسلام وهذا تنزيه للرسول البشري، وهناك في سورة التكوير نقول: هو تنزيه للرسول الملكي. إذاً: خلاصة تفسير قوله تبارك وتعالى: ((إِنَّهُ)) أي: القرآن ((لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) هو محمد صلى الله عليه وسلم يبلغه عن الله تعالى؛ لأنه وصفه بأنه رسول، والرسول يبلغ ما أرسل به وليس هو المتكلم به. كذلك قوله تبارك وتعالى بعدها: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] يؤكد أن المقصود بقوله: ((لَقَوْلُ رَسُولٍكَرِيمٍ)) على سبيل التبليغ، خلافاً لكلام المستشرقين وأعداء الإسلام الأغبياء، الذين يطعنون في القرآن الكريم ويقولون: القرآن متناقض، مرة يوصف القرآن بأنه قول محمد، ومرة يوصف بأنه قول جبريل، ومرة يوصف بأنه قول الله، فهذا من سفاهة عقولهم، وجهلهم باللغة العربية، إذا كان أهل اللغة العربية يغفلون عن إدراك أسراره إن لم يكونوا من المتضلعين بها، فما بالك بأعاجم لم يشموا رائحة العلم في اللغة العربية وأسرارها وفصاحتها؟! كذلك في سورة التكوير قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] فهذا تنزيه أيضاً للرسول البشري هنا؛ لأنه قال في حق جبريل: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} أي: محمد عليه الصلاة والسلام.

عقيدة الرافضة في القرآن الكريم

عقيدة الرافضة في القرآن الكريم في هذه الآيات الكريمة رد على الرافضة، فالرافضة -قبحهم الله وأخزاهم ونكس رايتهم- يزعمون التغيير والتحريف والنقص في القرآن الكريم، مثل شيعة إيران -قبحهم الله- يزعمون أن القرآن الكريم محرف، ويتهمون الصحابة كـ أبي بكر وعمر بالكفر والزندقة، وسائر الصحابة بأنهم حرفوا القرآن الكريم، فهذه عقيدة الرافضة الملاحدة المجرمون، ولهم كتب في ذلك منها كتاب اسمه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كلام رب الأرباب) لمؤلفه حسين النوري الطبرسي، وهذا المجرم يثني عليه الخميني في كتبه كثيراً، مع أنه مؤلف هذا الكتاب الذي يزعم فيه تحريف كلام الله تبارك وتعالى، ولهؤلاء الرافضة المجرمين الكفرة كلام كثير جداً في الطعن في القرآن الكريم، ثم إذا ناقشتهم في هذه المسألة أو غيرها أنكروا؛ لأنهم يتعبدون بالتقية وليس بالتقوى، فالتقية عندهم بمعنى أن يكون ماهراً في الكذب حتى يخفي عقيدته ومذهبه، فلذلك لا تستطيع مناقشتهم؛ لأنك إذا ناقشت واحداً منهم يقول لك: رضي الله عن الصحابة! ورضي الله عن أبي بكر وعمر! وكذا وكذا، ويظل يمدح فيهم وهو كذاب، هذا ديدنهم وهذه عقيدتهم، فلا يوثق أبداً بنقاش مع شيعي أبداً؛ لأنهم كذابون يتعبدون بالكذب فلا تصلح المناظرة معهم أبداً؛ لذلك الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى لما أتى فريق منهم للمناظرة معه، قال لهم: كيف نتناظر وأنتم لكم أصول ونحن لنا أصول؟! أي: المتناظران لابد أن يرجعا إلى أصول واحدة؛ كي يبطلا الخلاف. فقال: كيف نتناظر وأنتم لكم أصول ونحن لنا أصول؟ يعني: لكم دينكم ولنا دين، قال: ثم إنكم فوق ذلك أهل كذب ونفاق فهم كذابون لا يوثق بكلامهم أبداً. والمسلمون طالما خدعوا بهؤلاء الرافضة، وأعتقد أن خطر اليهود مثل خطر الرافضة ولا يقل عنهم إن لم يكونوا هم أشد خبثاً ودهاء وعداء لله ولرسوله للمؤمنين، فهؤلاء أعداء أمة الإسلام، وللأسف الشديد نحن لم نعرف أعداءنا إلى اليوم، ولم نفقه حقيقة هؤلاء المجرمين الطاعنين في صحابة الرسول صلى الله عليه وآله سلم، فهذا الخميني نفسه يترحم على النوري الطبرسي ويلقبه بأنه عالم جليل، مع أنه هو الذي ألف هذا الكتاب الذي فيه دعوى تحريف القرآن! إن الحديث عن الرافضة حديث ذو شجون، ونرجو ألا يأتي يوم يندم فيه هؤلاء الذين لمعوا الرافضة ودافعوا عنهم، وزعموا أن الخلاف بيننا وبين الرافضة كالخلاف بين الحنبلي والشافعي والحنفي وكذا وكذا، لا، بل الخلاف بيننا وبينهم كالخلاف بين اليهودي والنصراني وبين المسلم؛ لأن لهم ديناً ولنا ديناً آخر فنحن مختلفون معهم حتى في الأصول، حتى في القرآن الكريم؛ فهم يعتقدون إما بتحريف القرآن ولهم نصوص في ذلك، وإما أنهم يعتقدون أن القرآن الحقيقي ثلاثة أضعاف القرآن الموجود بيننا، والقرآن الكامل هو مع المهدي المتخفي في السرداب في سامراء، وهذا هراء ووهم في المهدي. الشاهد من هذا أنهم حينما تواجههم بهذا الكلام يقولون: لا هذا كذب! نحن لا نعتقد بتحريف القرآن، ويدافعون بكلام ينطلي على السذج والبسطاء، لكن من كان فقيهاً بألاعيبهم فإنه يقول لهم: إذاً: أعلنوا البراءة مما جاء في كتابكم المقدس الذي هو كتاب الكافي للكليني، فهذا كتاب مقدس عندهم، فهو عند الشيعة كـ البخاري ومسلم عندنا، ويأخذون منه جل دينهم، ففي داخل هذا الكتاب سب الصحابة وكذا وكذا من هذه الضلالات والانحرافات، وفيه أيضاً الأخبار الكاذبة التي فيها دعوى تحريف القرآن الكريم، وكم مرة تحداهم علماء السنة حينما أنكروا أنهم يعتقدون تحريف القرآن بأن يتبرءوا مما ورد في كتاب الكافي من الطعن في القرآن الكريم، ومع ذلك لا يفعلون ذلك أبداً. إن الرافضة الآن خاصة بعد قيام دولتهم الشيطانية الخبيثة في إيران عدو لدود للإسلام، فنسأل الله سبحانه وتعالى ألا يمكنهم أبداً من المسلمين، ويكفي حتى تعرفوا خطر الرافضة أن تقرءوا أخبار أهل السنة في إيران، كيف يضطهد أهل السنة في إيران، وحتى الآن يمنع في العاصمة طهران من إقامة مسجد واحد لأهل السنة، مع أن هناك كنائس وهناك معابد يهودية، وهناك أيضاً في طهران معابد للزرادتش وعبدة النار والكفرة، أما أهل السنة فممنوع أن يقام لهم مسجد في طهران من عهد الشاه، وليس فقط من عهد الخميني. والشيعة الرافضة يشنون حرباً شديدة جداً من أجل تشييع شباب وأطفال أهل السنة والجماعة، ولهم حيل كثيرة جداً، وهذا حديث يطول، كنت أتكلم مع أحد الإخوة القادمين من المنطقة الشرقية في السعودية، فكان يشتكي من الرافضة وعداوتهم لأهل السنة، فقلت له: هل هم كالنصارى مثلاً في بلاد المسلمين؟ قال: لا، النصارى قد يكون عندهم رحمة بالمسلمين، أما هؤلاء فلا يرحمون أهل السنة أبداً إذا تمكنوا، والشيعة لا يعرفون إلا بشيئين اثنين: إما أن تعيش معهم وتذوق حقدهم على أهل السنة، وإما أن تتعلم من التاريخ وتتعلم من الكتب التي تتحدث عن عقائدهم وانحرافهم، ولذلك تجد الذين اصطلوا بنار الشيعة يكونون أشد الناس انفعالاً حينما يسمعون هذا الكلام؛ لأنه يثير الشجون، ويثير المشاعر الأليمة، وما أحداث الحرم التي حصلت قبل عدة سنوات وما فعلوه هناك منا ببعيد؟! على أي حال هذه الآية: ((إنه لقول رسول كريم)) فيها رد على الرافضة في دعواهم تحريف القرآن أو نقصه كما يزعمون.

تفسير قوله تعالى: (وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون)

تفسير قوله تعالى: (وما هو بقول شاعر ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) قال تبارك وتعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:41] يعني: كما تزعمون، فإن بين أسلوبه وحقائقه، وبين وزن الشعر وخيالاته بعد المشرقين. قوله: {قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41] يعني: قليلاً ما تصدقون بما ظهر من صدقه وبرهانه عناداً وعتواً، والقلة كناية عن عدم الإيمان. ونصب ((قليلاً)) على أنه نعت لمصدر، يعني: تؤمنون إيماناً قليلاً، والناصب تؤمنون أو تذكرون، و (ما) زائدة. وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون نافية ومصدرية. إذاً: قوله: ((قليلاً ما تؤمنون)) على اعتبار (ما) نافية يكون المعنى: لا تؤمنون، وعلى أنها مصدرية يكون المعنى: قليلاً إيمانكم، فيكون المقصود بالتعبير عن القلة التعبير عن العدم، يعني: أنتم لا تؤمنون، كذلك أيضاً في قوله تعالى: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:42] أي: كما تدعون بأنه من سجع الكهان. قوله: ((قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)) أي: تتعظون وتعتبرون، قيل: نفى الإيمان في الأول، ونفي الذكرى في الثاني؛ لأن عدم مشابهة القرآن بالشعر أمر بين لا ينكره إلا معاند؛ لذلك قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}، فالفرق بين القرآن وبين الشعر أمر في غاية الوضوح لا ينكره إلا معاند، فلا عذر لقائله في ترك الإيمان، وهو أضل من حمار أهله، وأما مباينته للكهانة فيتوقف على التذكر والتفكر؛ لأن الكاهن يأخذ جعلاً على كهانته، ويجيب عما سئل عنه، ويتكلف السجع، ويكذب كثيراً، وإن التبس على الحمقى بإخباره ببعض المغيبات بكلام منثور.

تفسير قوله تعالى: (تنزيل من رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (تنزيل من رب العالمين) قال تبارك وتعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة:43] أي: هو تنزيل ممن ربى العالمين بصنوف نعمه، ومنها: ما نزله وأوحاه لنهتدي به إلى سبل السعادة ومناهج الفلاح، فربط القرآن برب العالمين فيه؛ إشارة وتذكير بتربية الله سبحانه للعالمين بالنعم وإفاضة الخيرات عليهم والإحسان إليهم بإيحاء القرآن وتنزيل القرآن؛ ليهتدوا به إلى سبل السعادة والفلاح.

تفسير قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل عنه حاجزين)

تفسير قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل عنه حاجزين) قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44] عندما يقرأ المسلم القرآن الكريم يشعر بقوة الله سبحانه وتعالى وعلو الله والهيمنة الإلهية والعظمة، كما في هذا السياق: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا)) فتقطع أنه لا يمكن أن يكون المتكلم بهذا الكلام هو النبي محمداً صلى الله عليه وسلم. قوله: ((عَلَيْنَا)) هذه نون العظمة. قوله: ((بَعْضَ الأَقَاوِيلِ)) أي: لو افترى علينا، وسمي الكذب تقولاً؛ لأنه قول متكلف كما تشعر به صيغة التفعل. و ((الأقاويل)) جمع قول على غير القياس، أو جمع الجمع كالأناعيم جمع أنعام، وقيل: تسمية الأقوال المنكرات أقاويل تحقيراً لها، وأنها جمع أفعولة من القول. قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] هذا كقوله تعالى: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:8] أي: لن ينقذني من عذاب الله شيء. هذه الآية قرأها بعض القراء: (ولو تُقوِّل علينا بعض الأقاويل) وانتصر لها بعض المسلمين استبعاداً بأن يفترض في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتقول على الله ما ليس بحق، وهذا كلام في الحقيقة غير صحيح؛ لأن هذا السياق لا يوهم أنه يمكن أن يقع من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو افتراض لما لا يتصور وقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء الافتراض في القرآن الكريم فيما هو أعظم من ذلك، كما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] وهذا مجرد افتراض، وإلا فالله عز وجل منزه عن الولد سبحانه، وقال الله تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] فهذا أيضاً افتراض، ولا يحتمل أن يكون في السماوات والأرض آلهة غير الله. إذاً: ينبغي للإنسان ألا ينزعج من مثل هذه الافتراضات، فكذلك هنا قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} يعني: على سبيل الافتراض لما لا يتصور وقوعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:46] قال ابن جرير: أي: لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة. قوله: ((الْوَتِينَ)) يعني: نياط القلب، والمعنى: أنه لو فعل ذلك لعاجله بالعقوبة ولا يؤخره بها. وقد قيل: إن معنى قوله تعالى: لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه، وإذا قلنا: ((باليمين)) هي في حق الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى: بالقوة منا والقدرة، وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات:28] أي: عن القوة والقدرة. قال الزمخشري: والمعنى: ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراًً كما يفعل الملوك بمن يكذب عليهم؛ معاجلة بالسخط والانتقام، فصوّر قتل الصبر بصورته؛ ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته، وخص اليمين عن اليسار؛ لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا المراد قتله أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده -أي: في عنقه- وأن يكفحه بالسيف- أي: يعدمه- وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف؛ أخذ بيمينه. يعني: إذا أخذه بالشمال فيكون الضرب من جهة القفا، لكن الأخذ باليمين معناه: أنه يأخذه من أمامه بحيث يرى السيف وهو يقع على عنقه، وهذا أشد عليه وأصعب. ثم يقول الزمخشري: ومعنى (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لأخذنا بيمينه كما أن قوله: ((لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) لقطعنا وتينه، وهذا بين. إذاً: مما يقوي القول بأن اليمين المقصود بها يمين النبي عليه الصلاة والسلام نفسه قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) يعني: وتينه. وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يتقول على الله باطلاً. وما قرره الزمخشري أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة، والقول الأول هو أن معنى قوله: (لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) يعني لأخذنا منه بقوتنا وقدرتنا، والقول الثاني: أن معنى قوله: ((لأخذنا منه باليمين)) يعني: بيمينه، وهذا أبلغ في المراد، وهو بيان المعاقبة بأشد العقوبة. قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:47] أي: ليس أحد منكم يحجزنا عنه، ويحول بيننا وبين عقوبته لو تقول علينا.

تفسير قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين وإنه لحسرة على الكافرين)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين وإنه لحسرة على الكافرين) قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] أي: إن القرآن الكريم لتذكرة وعظة لمن يتقي عقاب الله، وذلك بالإيمان به وحده وما نزل من عنده. قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} [الحاقة:49]. قوله: ((وإنا لنعلم أن منكم مكذبين)) أي: مكذبين له صلى الله عليه وسلم أو مكذبين بالقرآن الكريم؛ إيثاراً للدنيا والهوى، فسوف يجازيكم على إعراضكم عن القرآن الكريم. قوله: ((وَإِنَّا لَنَعْلَمُ)) هذا العلم يستلزم معاقبتهم على ذلك التكذيب. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50] أي: ندامة عليهم إذا رأوا ثواب المؤمنين به، وهذا يشبه قوله تبارك وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].

تفسير قوله تعالى: (وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم)

تفسير قوله تعالى: (وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم) قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة:51 - 52]. العلم واليقين يتفاوت على درجات، فمن مراتب اليقين: مرتبة علم اليقين، ومرتبة عين اليقين، والمرتبة الأعلى حق اليقين. لو أخبرتك أن خلف هذا الجدار إناء فيه عسل، وكنت موقناً بقولي؛ فهذا يسمى علم اليقين، فإذا فتحت الباب وأريتك إياه، ورأيته بعينك؛ فهذا يسمى عين اليقين، فإذا ذقت العسل؛ فهذا يسمى حق اليقين، كذلك مثلاً من علم بوجود الكعبة المشرفة ولم يرها فهذا علم اليقين، فإذا ذهب إلى هناك ورآها فهذا عين اليقين، وإذا دخل الكعبة المشرفة فهذا حق اليقين. إذاً: حق اليقين هو أعلى درجات ومراتب اليقين. قوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) يعني: إنه هو الحق اليقين الذي لا ريب فيه، قال الله تبارك وتعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] بالعلم، ثم قال: {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:6 - 7]. ثم قال الله تبارك وتعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} يعني: دم على ذكر اسمه عز وجل، وادأب على الدعوة إليه وحده، وإلى ما أوحاه إليك، فالعاقبة لك ولمن اتبعك من المؤمنين.

المعارج

تفسير سورة المعارج

تفسير قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع)

تفسير قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع) سورة المعارج تسمى سورة (سأل سائل)، وهي مكية، وآيها أربع وأربعون. قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1]. قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قال مجاهد: أي: دعا داع بعذاب يقع في الآخرة، وهو قولهم: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، والسائل هو النضر بن الحارث بن كلدة فيما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ودعاؤه بقوله -كما قصه الله تعالى-: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ))، فلم يوفق إلى أن يقول: فاهدنا إليه. لكنه علقه على تعجل العذاب: ((اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)). وقد قيل: إن الموعود بوقوعه عذاب الدنيا. أي: هذا النضر بن الحارث الذي يدعو بالعذاب سيقع به العذاب؛ لكن على التفسير الأول سوف يقع في الآخرة، وعلى الثاني سيقع في الدنيا، وبالفعل قتل النضر بن الحارث يوم بدر، ففي هذه الآية إخبار عن مغيب وقع مصداقهُ.

تفسير قوله تعالى: (للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج)

تفسير قوله تعالى: (للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج) قال تعالى: {لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:2]. قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1]، (واقع) صفة للعذاب، وقوله تعالى: (للكافرين) صفة ثانية للعذاب، يعني: هذا العذاب الذي هو واقع هو للكافرين. أو أن (للكافرين)، متعلق بـ (واقع) أي: فسوف يقع للكافرين، واللام للتعليل، أي: لاستحقاقهم هذا العذاب بسبب كفرهم. أو أن هذه اللام بمعنى (على)، أي: فهذا العذاب واقع على الكافرين. ((لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ)) أي: لا يرده رادُّ من جهته لتعلق إرادته به من الله، وهذا كقوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47]. وقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} قال الرازي: المعارج جمع معرج وهو المقعد، ومنه قوله تعالى: (وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، وقد ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: ((ذِي الْمَعَارِجِ)) أقوالاً ووجوهاً: أحدها: قال ابن عباس -في رواية-: {من الله ذِي الْمَعَارِجِ} أي: ذي السماوات. وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها. القول الثاني: قال قتادة: معنى قوله تعالى: ((ذِي الْمَعَارِجِ)) أي: ذي الفواضل والنعم، وذلك لأن أياديه وجوده وإنعامه مراتب. يعني أن هذه النعم والفواضل التي يمن الله بها على الخلق هي مراتب ومنازل، وتصل إلى الناس على مراتب مختلفة. أما القول الثالث في تفسير ((ذِي الْمَعَارِجِ)): فهو أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها الله أولياءه في الجنة.

تفسير قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه)

تفسير قوله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه) قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألف َ سَنَةٍ} [المعارج:4]. قال ابن جرير: تصعد الملائكة والروح -وهو جبريل عليه السلام- إليه {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}، يعني: أن صعودهم كان مقدار يومه خمسين ألف سنةً لغيرهم من الخلق. يعني: لو أن الذي صعد هذه المسافة من غير الملائكة لقطعها في خمسين ألف سنة، وذلك أنها تصعد من منتهى أسفل الأرض إلى منتهى أمره من فوق السماوات السبع. وقيل: بل معناه: تعرج الملائكة والروح إليه يوم يفرغ من القضاء بين خلقه، فذلك اليوم الذي فرغ فيه من القضاء بينهم قدرهُ خمسون ألف سنة. وقد قيل: إن (في يوم) متعلق بـ (واقع)، أي: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أي: هذا العذاب يقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ويكون المراد به يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: فهذا يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة. وهذا التعبير إما حقيقي أو مجاز عن الاستطالة. قال الشهاب: وهكذا زمان كل شدة. يعني: أن زمان الشدة يطول، كما قال الشاعر: تمتع بأيام السرور فإنها قصارُ وأيام الغموم طوال فوقت الغم والهم والنكد يكون طويلاً بعكس وقت السرور، وقال الشاعر: وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازاً وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل ونقل الرازي عن أبو مسلم أن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة، ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوماً؛ لأننا لا ندري كم مضى وكم بقي. وهذا القول بعيد، وهذه الآية كقول الله تبارك وتعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألف َ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]، ولا منافاة في التقدير؛ لأن المعني به الاستطالة لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات. والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فالتفسير بأن المقصود بخمسين ألف سنة أنه مجاز، لا داعي له؛ لأنه لا يتعذر حمله على الحقيقة، فالله سبحانه وتعالى يقول: خمسين ألف سنة. هذا الزمن هو فترة عروج الملائكة والروح إليه. أما الآية الأخرى {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألف َ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5] فهذا في تقدير آخر، أي باعتبار أن موضوعه أمر آخر، وهو عروج الأمر المدبر إليه، وهذا في عروج الملائكة إليه.

تفسير قوله تعالى: (فاصبر صبرا جميلا ثم ينجيه)

تفسير قوله تعالى: (فاصبر صبراً جميلاً ثم ينجيه) يقول تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:5 - 14]. يقول تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}، يعني: على ما يقولون، ولا يضق صدرك فقد قرب الانتقام منهم. {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أي: يرون العذاب الدنيوي أو الأخروي (بعيدا) أي: بعيداً وقوعه؛ لعدم إيمانهم بوعيده تبارك وتعالى. {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} أي: قريب الحضور. {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} يعني: كالشيء المذاب، أو عكر الزيت الذي يكون في الطبقة السفلى منه إذا كان في إناء، فهذا العكر الذي يخالط الزيت هو المراد بالمهل هنا. (ويوم) ظرف يعني: قريباً. ((وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)) يعني: كالصوف. {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} يعني: لا يسأل قريبٌ قريباً عن فعله لشغله بفعل نفسه، فكل إنسان مشغول ومهتم بأمر نفسه، حتى الحبيب الذي هو في غاية الود والمحبة لمن يحب فإنه يقول: نفسي نفسي. {يُبَصَّرُونَهُمْ} يعني: يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض؛ إذ قد يقول قائل: ربما يكون المقصود من قوله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} أن بعضهم يحجب عن بعض، فلذلك ينشغل بحاله ولا يسأل عن أحوال حميمه وقريبه، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يدفع هذا التوهم ببيان شدة هذا الموقف، فقال: ((يبصرونهم)) أي أنهم سوف يعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض. وفيه تنبيه على أن المانع من هذا السؤال هو الاندهاش مما نزل لا احتجاب بعضهم عن بعض، فهم يرون بعضهم بعضاً، بل يعرف بعضهم بعضاً، فهذا أبوك، وهذا أخوك، وهذا صديقك الحميم، فيبصرونهم، وسوف يرونهم ويعرفون أقرباءهم، ومع ذلك يفر بعضهم من بعض ولا يسأل حميم حميماً. {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} أي: الذين هم محل شفقته، أي: يود الكافر أن يقع أولاده في العذاب فداءً عنه؛ رغم الشفقة المعروفة عند الأب على أولاده. {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} أي: التي هي أحب إليه ((وأخيه)) الذي يستعين به في النوائب، ((وفصيلته)) أي: عشيرته ((التي تؤويه)) أي: تضمه إليها عند الشدائد. {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} يعني: يود أن يبذل ذلك ويضحي بكل هؤلاء في سبيل أن ينجيه هذا الافتداء، أو ينجيه هذا المذكور، أو ينجيه كل من في الأرض. و (ثم) هنا للاستبعاد، أي: لاستبعاد أن ينجو حتى لو افتدى بمن في الأرض جميعاً. فإذاً الفعل هنا (ثم ينجيه) معطوف على (يفتدي) أي: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} بكذا وكذا ثم ينجيه، أي: ثم مقابل هذه الفدية ينجو من العذاب.

تفسير قوله تعالى: (كلا إنها لظى وجمع فأوعى)

تفسير قوله تعالى: (كلا إنها لظى وجمع فأوعى) قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:15 - 18]. ((كلا)) يعني: لا يكون ذلك، فهو يتمنى أن لو يتمكن من ذلك ليفتدي بهؤلاء الأقربين أو يفتدي بكل من على وجه الأرض لعل ذلك ينجيه؛ ولكن: (كلا) لا يكون ذلك. {إِنَّهَا لَظَى} أي: النار الموعود بها هذا المجرم (لظى) أي: لهب خالص. {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} أي: الأطراف كاليد والرجل. أو أن الشوى جمع شواء، والشواء: هي جلدة الرأس التي يكون عليها الشعر. (تدعو) إلى دخولها (من أدبر) عن الحق (وتولى) عن الطاعة. (وجمع) المال (فأوعى)، أي: جعله في وعاء كان كنزه، فمنع حق الله منه فلم يزك ولم ينفق فيما أوجب الله عليه إنفاقه فيه، ومنه الحديث: (لا توعي فيوعي الله عليك).

تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعا منوعا)

تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً منوعاً) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:19 - 21]. (هلوعا) قليل الصبر كثير الحرص. ولفظة الإنسان في القرآن الكريم تشير إلى هذا الكائن البشري من حيث هو عار عن الهداية الإلهية، فالإنسان بدون الهداية الإلهية والتوفيق الرباني يطلق عليه (إنسان)، فلذلك ترتبط به صفات الرذيلة، كقوله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، وقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، وكالحال هنا {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج:19 - 20]، وهكذا. فقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} أي: قليل الصبر شديد الحرص، كما بينه في قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} أي: إذا مسه الضر والبلاء (جزوعا) أي: كثير الجزع من قلة صبره. ((وإذا مسه الخير)) يعني: كثر ماله وناله الغنى، (منوعاً) أي: منوعاً لما في يده نخيلاً له لشدة حرصه. وهذه الآية مما استعمل فيها الخير بمعنى المال، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، وكما في قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً فهذه منها.

تفسير قوله تعالى: (إلا المصلين إن عذاب ربهم غير مأمون)

تفسير قوله تعالى: (إلا المصلين إن عذاب ربهم غير مأمون) يقول تعالى: {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:22 - 28]. {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} استثنى من الطباع والأخلاق السابقة المصلين، فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22 - 23] أي: مقيمون لا يضيعون منها شيئاً. وهذه الآية هي الموضع الوحيد الذي استعمل فيه اسم الفاعل للقيام بالصلاة، في حين أننا نجد في عامة آيات القرآن ذكر إقامة الصلاة، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55]، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:103]، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} [النساء:162]. فغالباً ما تأتي الصلاة بفعل الإقامة، يعني: أداء حقوقها، وأنها ليست مجرد أداء هذه الحركات، إلا أنه جاز هنا أن يؤتى باشتقاق (اسم الفاعل) على أساس أنه قرن بها صفات تفيد نفس معنى إقامة الصلاة، حيث قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي: مقيمون لا يضيعون منها شيئاً. {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] السائل هو الذي يسأل الناس ولا يجد مشكلة في أن يسأل، فإن كان مستحقاً فعلاً فهو المقصود بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} أي أن هذا حق له، وليس منة منك عليه، وإنما هو حقه الذي شرعه الله له في مال الله الذي آتاك. وهذ الحق أولاً للسائل، فربما سأل السائل صدقة أو معونة أو نحو ذلك، وهو مستحق لذلك، ومن شدة حاجاته يسأل. النوع الثاني: المحروم، والعطف يقتضي المغايرة، أي: أن المحروم غير السائل، فمن هو المحروم؟ المحروم هو المتعفف الذي أدبرت عنه الدنيا فلا يسأل الناس تعففاً. وقيل: المحروم الذي لا ينمو له مال. وقيل: المحروم هو المصاب ثمره. أي كان عنده مال ثمار أو زروع ثم أصابته جائحة، أخذاً من قول أصحاب الجنة في سورة نون: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم:27] أي: أصبنا في ثمرنا بجائحة. واللفظ أعم من ذلك كله، فيشمل كل ما يحتمل دخوله في معنى المحروم. وقد روى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الحق المعلوم: أهو الزكاة؟ فقال: إن عليك حقوقاً سوى ذلك. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هو سوى الصدقة، يصل بها رحما، أو يقري بها ضيفاً، أو يحمل بها كلاً، أو يعين بها محروماً. وعن الشعبي أن في المال حقاً سوى الزكاة، وهذه مسألة تفاصيلها في كتب الفقه. يقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] يعني: يوم الجزاء. ثم أشار الله تبارك وتعالى إلى أن العبرة في الإيمان باليوم الآخر أن يشفق الإنسان منه، ويثمر هذا التصديق ثمرة عملية وهي الخوف والوجل من عذاب الله، وهذه إشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يهتم بأن يعتقد عقيدة خاوية من العاطفة أو الوجدان أو المشاعر، وإنما الاعتقاد المثمر هو الذي ينعكس في سلوك الإنسان، فلذلك بعدما قال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} قال: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}. قال ابن جرير: أي: وجلون أن يعذبهم في الآخرة، فهم من خشية ذلك لا يضيعون له فرضاً ولا يتعدون له حداً. {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} أي: أن ينال من عصاه وخالف أمره.

تفسير قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون فأولئك هم العادون)

تفسير قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون فأولئك هم العادون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} [المعارج:29 - 31]. {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي: لغلبة ملكة الصبر؛ لأن هؤلاء المذكورين مستثنون من صفة الجزع عند البلاء والشح والبخل والحرص الشديد المذكورة في قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19 - 21 - ] فمما يعجز غير المصلين عن الصبر عليه أمر العفَّة، فغير المصلي لا يصبر؛ لأنه لا يصلي صلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فأتى في صفة المصلين {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} أي: لغلبة ملكة الصبر وامتلاك ناصيته. {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المعارج:30 - 31]، قال ابن جرير: أي: التمس لفرجه منكحا ًسوى زوجته أو ملك يمينه، ((فألئك هم العادون)) أي: الذين تعدوا ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم. فهذه إشارة إلى أثر الصلاة في العفة عما حرم الله تبارك وتعالى، ونفس هذا المعنى أشار إليه قول الله تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، فكل من يضيع الصلاة لا بد أن يقع أسيراً للشهوات. وقال تبارك وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، ولذلك لا يقع المصلي المقيم للصلاة أسيراً للفحشاء والمنكر، فكما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كذلك الفحشاء والمنكر تنهى عن الصلاة، وتصد الناس عنها. ومما يدل على ارتباط المحافظة على الصلاة بالتعفف عن المحرمات قول الله تبارك وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، فلم يقل الله تبارك وتعالى: احفظوا الصلاة والصلاة الوسطى، وإنما جاءت على صيغة المفاعلة (حافظوا)، فهذه المحافظة تقتضي التفاعل من الطرفين، إشارة إلى أن من حافظ على الصلاة حفظته الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (احفظ الله يحفظك)، فهذا هو المطلوب، وهو أن المحافظ على الصلاة يرد له مثل ذلك بأن تحفظه الصلاة عما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك نجد أهل الصلاة أقل الناس شراً، وهم بشر وليسوا معصومين، لكن المصلي يكون انقياده للشهوات أقل بكثير من مضيع الصلاة الذي يقع أسيراً للشهوات. ولذلك لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم رجل يصلي ويصوم ويفعل كذا وكذا لكنه يسرق قال: (أما إنَّ صلاته ستنهاه)، ففي الصلاة تأثير عجيب جداً في الالتفات عما حرم الله تبارك وتعالى، فإن المصلي يوفق إلى أن ينهض من جديد ويستأنف السير والسلوك إلى الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون بشهاداتهم قائمون)

تفسير قوله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون بشهاداتهم قائمون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج:32 - 33]. ((وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)) قال ابن جرير: أي: لأمانات الله التي ائتمنهم عليها من فرائضه وأمانات عباده التي اؤتمنوا عليها، وعهودهم التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم على ما أخذه لهم على نفسه، راعون؛ يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيعونه، فهذا تعميم للأمانة. فقوله: (والذين هم لأماناتهم) أي: جميع أنواع الأمانات، وسيدخل فيها أمانات الله التي ائتمنهم عليها، ومن ذلك الفرائض، والعهود التي أخذها عليهم بأن يطيعوه فيمتثلوا ما به أمر وينتهوا عما عنه نهى وزجر، فلا يضيعوها. كذلك هم لأماناتهم وعهدهم مع الخلق كأمانات العباد التي يؤتمنون عليها، فإذا أعطاك أحدٌ أمانة أو ائتمنك على سر أو نحو ذلك، فينبغي أن تحفظه وترعاه، وكذلك عهود العباد التي بذلها لهم على ما عقده لهم على نفسه (راعون)، يرقبون ذلك ويحفظونه فلا يضيعونه. {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} أي: لا يكتمون ما استشهدوا عليه، ولكنهم يقومون بأدائها حيث يلزمون بذلك غير مغيرة ولا مبدلة.

تفسير قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون مكرمون)

تفسير قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون مكرمون) قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:34 - 35]. {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: لا يضيعون لها ميقاتاً ولا حداً، قيل: الحفظ عن الضياع. ولم يقل: يحفظون الصلاة. إنما قال: (يحافظون) فهذه الصيغة التي مصدرها (المفاعلة) تقتضي أن هناك تفاعلاً بين المصلي والصلاة، فأنت تحفظ الصلاة والصلاة تُردَّ لك بأن تحفظك، كما في قول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]، فالقتال يقتضي حصول الأمر من الطرفين بخلاف القتل. فالمقصود أنهم يتمون صلاتهم بأركانها وهيئاتها. ونلاحظ أن الصلاة ذكرت مرتين مع أن الصفات متغايرة وفي غاية الدقة، لكن بدأ بالصلاة وختم بها، كما فعل عز وجل في سورة المؤمنون حيث قال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، ثم ذكر الصفات الآخرى إلى أن ختم بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]. ولذا قال القاضي: هذا التكرار بالنسبة للصلاة ووصفهم بها أولاً وآخراً لاعتبارين: للدلالة على فضلها، وإنافتها على غيرها، فهي أعلى من غيرها من العبادات، فلا شك أن الصلاة أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين. {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي: مكرمون بثواب الله تبارك وتعالى لاتصافهم بمكارم الأخلاق.

تفسير قوله تعالى: (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين الذي كانوا يوعدون)

تفسير قوله تعالى: (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين الذي كانوا يوعدون) قال تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ * فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:36 - 44]. {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين للحضور إذا ما أخبروا بما يتخذونه هزءاً، فكانوا يحضرون سراعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليروا أي شيء يهزؤون به من الوحي أو من أمر الدين. وعن ابن زيد قال: المهطع الذي لا يصرف عينه. (عن اليمين وعن الشمال عزين) أي: متفرقين حلقاً ومجالس جماعة جماعة، معرضين عنك وعن كتاب الله. (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) يعني: وإن لم يتصف بصفات أهلها المنوه بها قبل؟ فهل المسألة بالأماني، وأن الله كما آتاهم النعيم في الدنيا فسوف يؤتيهم ذلك في الآخرة، (كلا) أي: لا يكون ذلك؛ لأنه طمع في غير موطنه، بل هؤلاء حقيقون بأن ييأسوا من رحمة الله في الآخرة. {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} يعني: من النطف؛ فمن قدر على خلق هذا الإنسان من نطفة من ماء مهين لا يعجزه إهلاكهم، فليحذروا عاقبة البغي والفساد، ولذلك قال تبارك وتعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}. وسبق أن تكلمنا من قبل في معنى (لا أقسم)، وأن تفسيرها (أقسم). وقوله: ((الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)) يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه، أو مشرق كل كوكب ومغربه، أو الأقطار التي تشرق فيها الشمس وتغرب. ((إِنَّا لَقَادِرُونَ)) التوكيد بالقسم و (بإن) وباللام. ((عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)) أي: بمغلوبين إن أردنا ذلك، فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يفني الخلق أجمعين ويبدلهم بخير منهم. (فذرهم) اتركهم (يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) أي: يوعدون أخذهم فيه وهلاكهم. {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} الأجداث: جمع جدث، وهو القبر. يعني: القبور، (سراعاً)، يعني: يسرعون سراعاً (كأنهم إلى نصب يوفضون) يعني: يسرعون. والنُّصب: الصنم المنصوب للعبادة. أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السائر. أو أن النصب ما ينصب علامة لنزول اَلملِكِ وسيره، فهم يسرعون إلى عبادة الأصنام إسراع من ضل عن الطريق إلى أعلامها، أو إسراع الجند إلى راية الأمير. {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} من الخزي والهوان، {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: تغشاهم ذلة من هول ما حاق بهم. {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} يعني: بأنهم ملاقوه. والله أعلم.

الجن [1 - 10]

تفسير سورة الجن [1 - 10]

تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ولن نشرك بربنا أحدا)

تفسير قوله تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ولن نشرك بربنا أحداً) نشرع في تفسير السورة الثانية والسبعين من سور القرآن الكريم، وهي سورة الجن. قال المهايمي: سميت بذلك لاشتمالها على تفاصيل أقوالهم في تحسين الإيمان وتقبيح الكفر، مع كون أقوالهم أشد تأثيراً في قلوب العامة؛ لتعظيمهم إياهم. يعني أن عامة الإنس يعظمون الجن ويتأثرون بكلامهم بشدة. يقول عز وجل: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2]. قوله تعالى: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن)) يعني: استمع لهذا القرآن الحكيم نفر من الجن، والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط، كما في المجمل. قال القاضي: وفي الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا ما يؤخذ من ظاهر ألفاظ الآية: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ)). ((فقالوا)) يعني: لما رجعوا إلى قومهم قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً)). قال المهايمي: أي: كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية، والأحكام والمواعظ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين. قوله: ((عجبا)) أي: غريباً لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم. فهذا القرآن العظيم الكريم غريب، بمعنى: أنه لا يمكن أن يصدر عن بشر، أو أن يدخل تحت قدرة المخلوقين، بل لابد أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى، فانظر إلى أول انطباع الجن حينما سمعوا آيات من القرآن الكريم، قالوا: ((إنا سمعنا قرآناً عجباً))! يقول تبارك وتعالى: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}، أي: إلى الحق وسبيل الصواب. ((فآمنا به)) أي: فآمنا به فوراً. ((ولن نشرك بربنا أحدا)) أي: من خلقه في العبادة معه تبارك وتعالى. فهذا هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فقوله: ((فآمنا به)) فيه إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى، أي: فآمنا به وحده. وقوله: ((ولن نشرك بربنا أحدا)) هذا نفي للأنداد والشركاء، وإبطال عبادة من عدا الله تبارك وتعالى. وهذا المقام شبيه بقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29 - 31]. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء) يعني: أن السماء حفظت من الشياطين؛ لأن الجن الشياطين من قبل كان يقف بعضهم فوق بعض حتى يسترقوا السمع، وكانوا يلتقطون الكلمة مما تتحدث به الملائكة مما أوحاه الله سبحانه وتعالى وتكلم به، ثم يضيفون إليها تسعة وتسعين كذبة، ثم ينشرونها على السحرة والمنجمين والكهان. فحدثت إرهاصات بين يدي بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوادث تلفت النظر، وتنبئ عن أن هناك أمراً خطيراً سيحصل بعد ذلك، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى.

عالمية الدعوة المحمدية دون غيرها

عالمية الدعوة المحمدية دون غيرها قوله: ((قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به)) دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث قطعاً للجن والإنس، ولن أتكلم عن صحة الاستدلال بالآية هنا؛ لأن مجرد الاقتصار على الآية يفيد أنهم تبعوا القرآن فآمنوا به، لكن هل فيها أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث إلى الجن والإنس؟ ليس فيها ذلك، والله تعالى أعلم. مثلاً: سحرة فرعون ليسوا من بني إسرائيل، وموسى عليه الصلاة والسلام إنما بعث إلى بني إسرائيل، فهل يمنع السحرة من الإيمان بموسى عليه السلام أنه بعث إلى بني إسرائيل فقط؟ لا، هم آمنوا بأن لا إله إلا الله، وأن موسى رسول من عند الله تبارك وتعالى، وإن لم يكن مبعوثاً إلى أناس معينين. فكذلك هذه الآية لا يؤخذ منها هذا الأمر، وغاية ما يؤخذ منها أن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم. أما حقيقة المسألة فلا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما قال في الحديث: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. فأدلة عموم رسالته كثيرة جداً، بل إن الصفة العالمية والشمولية للجن والإنس بالنسبة لبعثة الرسول عليه الصلاة والسلام هي من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث نقول: إن هذه العالمية حكر على دعوة الإسلام، وليس من حق أي ديانة أخرى أن تدعي أنها جاءت ليبشر بها الناس أجمعون. ونستطيع أن نأتي بكثير من النصوص من كتب النصارى، تؤكد أن المسيح عليه السلام لم يبعث إلا إلى بني إسرائيل فقط، ومن هذه الأقوال: قول المسيح عليه السلام: (إنما بعثت إلى حراب بيت إسرائيل الضالة). والنصوص في ذلك كثيرة. أما اليهود فقد كفونا شرهم؛ وذلك باعتبار اليهودية دعوة عنصرية، وعندهم أن الجنة خلقت لليهود فقط، وكل الشعوب إنما خلقت ليركبها اليهود كالحمير كما يزعمون. فاليهود أصلاً ليس عندهم تبشير ودعوة إلى الدخول في اليهودية، وأهم شيء عندهم حتى ينسب المرء إلى اليهودية أن تكون أمه يهودية. بل لو أن يهودياً دخل في الإسلام فإنه يبقى على يهوديته ولا يزول عنه وصف اليهودية، وقد انتشر خبر المغنية اليهودية التي قيل إنها أسلمت، والله تعالى أعلم، فلما توفيت قبل سنوات أراد اليهود أن يستولوا على بيتها ويحولوه إلى متحف فقيل لهم: إنها أسلمت، قالوا: حتى ولو أسلمت فهي يهودية، ولا يزول عنها هذا الوصف أبداً، لأن اليهودية دعوة عنصرية وليست رحمة للبشر، ولأنهم يعتقدون أنهم شعب الله المختار، فمن ثم أراحوا العالم من شر الدعوة إلى دينهم المحرف. ولأنهم يعتبرون أنفسهم سلالة من نوع خاص يجب أن يعامل معاملة خاصة، قال عز وجل حاكياً قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، فبالتالي هم لا يريدون خيراً لأحد، وليس عندهم نشاط تبشيري يدعون به الناس إلى الدخول في دينهم، وإنما عندهم نشاط تدميري لتحطيم الأمم؛ كي يقيموا ملك يهود على أنقاضها، سواء عن طريق نشر الإلحاد أو الفساد الأخلاقي ونحو ذلك. أما النصارى فليس في دينهم أي نص يدل على عالمية دينهم، بل في كتبهم ما ينفي العالمية، ويثبت أن دينهم خاص ببني إسرائيل كما قال تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:49]. ودين النصارى حرف على يد بولس، وهو اليهودي الذي ابتدأ الدعوة إلى التنصير، وذلك أنه ادعى أنه دخل في النصرانية، وكذب على النصارى حيث قال: إنه رأى المسيح وأوحى إليه بأشياء زعمها فصدقوه، ومنها الدعوة والتبشير بالنصرانية، ومن هنا بدأت فكرة التبشير بالنصرانية. والنصرانية ليس من حقها أن تدعي أنها دعوة عالمية لغير بني إسرائيل؛ لأن العالمية لا تصح على الإطلاق إلا لدين الإسلام، ورسالة سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم، وسبق أنا تكلمنا على هذا بالتفصيل عند دراسة قضية ختم النبوة. أيضاً من فوائد هذه الآية: أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الفوائد: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس. ومنها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا. ومنها: أن المؤمن من الجن يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وهكذا الإنسان إذا آمن فإن من واجباته المقدسة أن يدعو غيره إلى هذا النور والإيمان، كما فعل الجن، إذ فزعوا إلى قومهم داعين إياهم إلى الله عز وجل، مع أن عمر إيمانهم كان قصيراً. ومنها: أن الجن لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان تنبهوا إلى الخطأ الذي اعتقده كفرة الجن، من اتخاذ الله صاحبة وولداً، فاستعظموا ذلك ونزهوا الله سبحانه عنه! انظر إلى جوهر الإيمان عندهم، فكل هذا الكلام يدور حول التوحيد بكل معانيه: تنزيه الله عز وجل في أسمائه وصفاته وأفعاله عما لا يليق به قالوا: ((فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً)) وهذا هو معنى: لا إله إلا الله.

تفسير قوله تعالى: (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا)

تفسير قوله تعالى: (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولداً) يقول الله عز وجل: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3]. قوله: ((وأنه تعالى جد ربنا)) أي: تعالى ملكه وعظمته وربوبيته عن اتخاذ الصاحبة والولد. قال ابن جرير: الجد بمعنى الحظ. وفي الدعاء: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يقال: فلان ذو جد في هذا الأمر، إذا كان له حظ فيه، وهو الذي يقال له بالفارسية: البخت. والمعنى: أن الله عز وجل المتصف بالملك والسلطان والقدرة العظيمة منزه عن أن تكون له صاحبة وولد؛ لأن الصاحبة إنما تكون للضعيف العاجز الذي حملته الشهوة إلى اتخاذها، والولد إنما يكون عن شهوة أزعجته إلى الوقاع الذي يحدث منه الولد، فقال النفر من الجن: علا ملك ربنا وسلطانه وقدرته وعظمته أن يكون ضعيفاً ضعف خلقه الذين تضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو وقاع ليحصل منه الولد. فهنا تنزيه الله عز وجل عن أن يكون له ولد؛ لعظم ملكه وقدرته وسلطانه، فمن كان هذا شأنه، فإنه يستغني عن الاحتياج إلى صاحبة وإلى ولد.

تفسير قوله تعالى: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا)

تفسير قوله تعالى: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططاً) يقول عز وجل: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن:4]. ((وأنه كان يقول سفيهنا)) يعني: الذي أضلنا وأغوانا قبل أن ندخل في الإسلام ونستمع القرآن. ((على الله شططا)) أي: قولاً ذا شطط، أو جعل القول نفسه عين الشطط مبالغة فيه، وأصل الشطط الزيادة في الحد. والمراد منه أن نسبة الصاحبة والولد إلى الله تبارك وتعالى من القول الشطط.

تفسير قوله تعالى: (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا)

تفسير قوله تعالى: (وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً) يقول عز وجل: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن:5]. هنا يعتذر هؤلاء المؤمنون من الجن عن اتبعاهم قبل إسلامهم لسفيههم وزعيمهم، أو كبيرهم ورئيسهم الذي كان يدعي لله الصاحبة والولد، فيقولون: نحن ما تصورنا أبداً أن هناك شخصاً يكذب على الله، وينسب إلى الله ما لا يليق به عز وجل. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ((وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً)) أي: في نسبة ما ليس بحق إليه سبحانه، وهو اعتذار عن اتباعهم السفيه في ذلك؛ لظنهم أن أحداً لا يكذب على الله فيتبعونه، يعني: هؤلاء الجن ظنوا أن زعيمهم صادق فيما يخبر به، فلما تبين لهم من القرآن كذب هذا الزعيم السفيه وافتراؤه تبرءوا منه واعتذروا إلى الله من اتباعه قبل إسلامهم. هذا الموقف في سورة الجن له نظائر، مما يلفت نظرنا إلى ضرورة الاستدلال من الآيات القرآنية عند دعوة الآخرين إلى الدخول في دين الإسلام؛ لأن بعض الناس يتكلمون بكل الأدلة ويهجرون أدلة القرآن. فانظر إلى هؤلاء الجن بمجرد أن سمعوا آيات القرآن الكريم أسلموا وتوصلوا من خلالها إلى الحق، فلا توجد أدلة ولا براهين أقوى ولا أوضح ولا أنصع من أدلة القرآن الكريم، فلنحذر خداع الشيطان إيانا؛ لأن الشيطان يأتي بعض الناس ويقول لهم: كيف تحاجونه بالقرآن وهو لا يؤمن بالقرآن، فهذا من تلبيس إبليس يريد أن يبطل أقوى الأسلحة مفعولاً، وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. بل من الكفار من إذا سمع القرآن الكريم وقعت في قلبه الرهبة والتعظيم للقرآن، ولو لم يفهم منه حرفاً واحداً؛ بسبب السلطان القرآني على القلوب، وما حديث كفار قريش منا ببعيد، لاسيما الوليد بن المغيرة. اطلع بعض الناس على كتاب لأحد المؤلفين في قضية شرعية، أنكر فيه على من يعود إلى الآيات والأحاديث وكلام الفقهاء والعلماء في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وقال: إذا أردت أن تدعوهم إلى الإسلام فقل: قال الخواجة الفلاني: كذا، لماذا؟ قال: لأنه أقرب لقبول الناس لكلامك إذا نسبته إلى الخواجات وغيرهم من غير المسلمين. انظر إلى المصيبة التي حلت بنا، يعتقد هذا وأشباهه أن الناس يتأثرون بكلام هؤلاء الكفار ولا يتأثرون بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. على كل حال عندما نخاطب مسلماً أو كافراً فلا بد أن تعطى الأدلة الشرعية قدرها والمكان اللائق بها في الاستدلال.

تفسير قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن)

تفسير قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]. روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي، فزادهم ذلك إثماً. أي: كان الواحد من الإنس إذا نزل في الوادي يهيم في الظلام بالليل فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي، بدلاً من أن يستعيذ بالله سبحانه وتعالى فإنه يستعيذ بزعيم الجن سكان هذه المنطقة، فزادهم ذلك إثماً، أي: إما زاد الكفار إثماً وإما زاد الجن أنفسهم رهقاً وإثماً. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن، وأن رؤسائهم تحميهم منهم. وقال إبراهيم النخعي: كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فتقول الجن: ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضراً ولا نفعاً. وقال الربيع بن أنس: كانوا يقولون: فلان من الجن رب هذا الوادي، فكان أحدهم إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله، قال: فيزيدهم ذلك رهقاً أي: خوفاً. وقال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم. وذلك لأن التعوذ بغير الله سبحانه وتعالى من الشرك، ولذلك نزلت سورة المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره. قال عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:1 - 3] إلى آخره. وقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]. إذاً التعوذ والاحتماء والالتجاء لا يكون إلا بالله عز وجل وحده دون غيره، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة ومنها: ما روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء، حتى يرحل من منزله ذلك). قال بعضهم: هذا الحديث فيه تفسير آية الجن، وهي قوله تعالى: ((وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)). فالحديث أتى بما يبطل هذا الشرك. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أعوذ بكلمات الله التامات) هذا أحد الأدلة الواضحة التي استدل بها أهل السنة على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق؛ لأن كلمات الله لو كانت مخلوقة فهل يجوز التعوذ بمخلوق؟ لا، هذا شرك، فما دام الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا أن نتعوذ بكلمات الله فإن هذا يدل على أن كلام الله ليس مخلوقاً وليس محدثاً. والضمير المرفوع في قوله: ((فزادوهم رهقا)) عائد على الجن يعني: فزاد الجن الإنس باستعاذتهم بهم غياً وإثماً وضلالاً، أو أن الضمير يكون عائداً على الإنس يعني: فزاد الإنس الجن باستعاذتهم رهقاً وكبراً وعتواً، لأنهم لما رأوا الإنس يخافونهم ازدادوا كبراً وعتواً وتسلطاً عليهم. والرهق في الأصل غشيان الشيء، فخص بما يعرض من الكبر أو الضلال. وموضوع الجن موضوع ذو شجون، وقد سبق أن تكلمنا فيه بالتفصيل، وخاصة عند التعليق على الظواهر المرضية والشيطانية التي فشت وتغلغلت في عقول كثير من الناس في هذا الزمان، فلن نعيد الحديث؛ لأن من أبغض الأشياء إلينا أن نعيد هذا الكلام على موضوع الجن، وأعتقد أنه بدأ شيء من الحصار في موجة الجن هذه التي غلا فيها كثير من الناس الذين امتثلوا للدعوة، وكما قلت مراراً: أي إنسان فيه خير لا يستمر أبداً في هذا الموضوع. فنرجو أن تواجه وتحارب هذه الظاهرة تماماً ولا يبقى لها وجود. ونعود إلى ما كنا عليه من الاشتغال بمعالي الأمور، وأنت نترك هذه المصطلحات التي لا تليق بالمسلم العادي فضلاً عن الملتزمين والدعاة.

تفسير قوله تعالى: (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا)

تفسير قوله تعالى: (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحداً) يقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7]. ((وأنهم ظنوا)) يعني: وأوحي إلي أن الجن ((ظنوا كما ظننتم)) يعني: كما ظننتم أيها الأنس في جاهليتكم ((أن لن يبعث الله أحداً)) أي: رسولاً إلى خلقه يدعوهم إلى توحيده وما فيه سعادتهم. وقيل في قوله: ((أن لن يبعث الله أحداً)) يعني: ألن ينشر الله أحداً من قبره للحساب والجزاء. فالبعث لفظ مشترك يحتمل أنه من البعث والنشور أو من إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: الضمير في قوله: (وأنهم) عائد على الإنس المذكورين في قوله: ((وأنه كان رجال)) والمعنى: وأنهم ظنوا أي: من كلام الجن والخطاب لهم.

تفسير قوله تعالى: (وأنا لمسنا السماء شهابا رصدا)

تفسير قوله تعالى: (وأنا لمسنا السماء شهاباً رصداً) يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:8 - 9]. ((وأنا لمسنا السماء)) يعني: تطلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، ((فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً)) أي حصبة رواجم. نفهم من ذلك أنها قبل ذلك لم تكن مملوءة بالحرس والرواجم من الشهب وغيرها. أي: كنا نقعد من السماء مقاعد لنستمع ما يحدث وما يكون فيها، فمن يستمع الآن فيها يجد له شهاب نار قد رصد له. وقوله: ((رصداً)) يعني: مرصوداً. قال الزمخشري: قوله: ((نقعد منها مقاعد)) أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته. يعني: ما هو هذا الشيء الجديد الذي هو ملأ السماء حرساً شديداً وشهباً، ولم يعد هناك أي مقعد يقعدون عليه بعد أن كانوا يقعدون؟ إن هذا الحدث الجديد هو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونزول الوحي من السماء.

تفسير قوله تعالى: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض)

تفسير قوله تعالى: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض) يقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]. يعني: ما منعنا السمع من السماء ورجم من استمع منا بالشهب إلا لأمر عظيم أراده الله لأهل الأرض، وذلك بعثة هو النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود أننا كنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً، حتى علمنا بعد استماعنا للقرآن الكريم أن هذا حصل لرشد وخير أراده الله لأهل الأرض، وهو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

أسلوب القرآن في نسبة الشر إلى غير الله تعالى

أسلوب القرآن في نسبة الشر إلى غير الله تعالى قال الناصر: ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل، وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد. وهذه قاعدة تكلمنا عنها مراراً: وهي أنه لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الشر هو من خلقه عز وجل، والله يريده كوناً وقدراً، ولكن لا يريده شرعاً وطلباً وإرادة، فمن ثم ينبغي لنا أن ننسب الشر إلى الله، كما في دعاء القنوت: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) فليس في أفعاله شر، بل أفعاله كلها خير محض. أما الشر في القرآن الكريم فإما أن تأتي نسبته إلى اسم الفاعل مثل قوله: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]. أو يؤتى باسم مفعول: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]. أو الفعل المبني للمجهول كما في هذه الآية {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:10]. ثم قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] فنسبوا الخير إلى الله سبحانه وتعالى. وهناك شواهد من القرآن تبين هذا المعنى، منها قول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشفِينِ} [الشعراء:77 - 80] فنسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله. ثم قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] فنسب الخطيئة إلى نفسه، ونسب المغفرة إلى ربه. كذلك في قصة الخضر في حادثة السفينة، قال الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب العيب إلى نفسه؛ لأن العيب لا يصلح أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، وكذلك قال في قتل الغلام: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]. أما في بناء الجدار الذي هو خير محض لا شر فيه، قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]. وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1 - 4] فنسب للشيطان، {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6] أي: من الجن والإنس. وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] أي: من شر الخلق، فالشر ينسب إلى المخلوقين، ولا ينسب إلى الله سبحانه وتعالى.

الجن [11 - 28]

تفسير سورة الجن [11 - 28]

تفسير قوله تعالى: (وأنا منا الصالحون بخسا ولا رهقا)

تفسير قوله تعالى: (وأنا منا الصالحون بخساً ولا رهقاً) يقول الله عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} [الجن:11 - 13]. ((وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ)) أي: المسلمون العاملون بطاعة الله. ((وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ)) أي: قوم دون ذلك وهم المقصرون في الصلاح، غير الكاملين فيه، يعني أن المؤمنين درجات: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163]. وقيل: ((وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ)) هم الكافرون، أي: ومنا المسلمون ومنا الكافرون. قوله: ((كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)) أي: كنا قبل إسلامنا أهواء مختلفة وفرقاً شتى. فهذا حكاية عن حالهم قبل أن يدخلوا في الإسلام لما سمعوا القرآن. والطرائق جمع طريقة، وهي طريقة الرجل ومذهبه، والقدد: الضروب والأجناس المختلفة، جمع قدة كقطعة. قوله: ((وَأَنَّا ظَنَنَّا)) أي: علمنا وأيقنا، والظن يأتي بمعنى العلم. ((أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ)) يعني: إن أراد بنا شيئاً. ((وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا)) إن طُلِبْنَا فلا مهرب لنا من الله عز وجل. قال الزمخشري: هذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار ومقتصدون، وأنهم يعتقدون أن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا ينجي منه مهرب. قوله: ((وأنا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى)) أي: القرآن الذي يهدي إلى الطريق المستقيم. (آمنا به)، أي: صدقنا بأنه حق من عند الله. ((فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا)) يعني: لا يخاف أن ينقص من حسناته فلا يجازى عليها. ((وَلا رَهَقًا)) يعني: ولا يخاف أن ترهقه ذلة وتلحقه هيئة معذبة موجبة للخسوء والطرد، وإنما يكون له الجزاء الأوفى والعاقبة الحسنى.

تفسير قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون لجهنم حطبا)

تفسير قوله تعالى: (وأنا منا المسلمون لجهنم حطباً) {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15]. يقول تعالى: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)) أي: الكافرون الجائرون عن طريق الحق. إذاً: المقسط هو العادل، والقاسط هو الجائر. ((فَمَنْ أَسْلَمَ)) يعني: من أذعن وانقاد. ((فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)). أي: ترجوا وتوخوا رشداً عظيماً، وقصدوا صواباً واستقامة. وقوله: ((فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) قيل: إنه من كلام الله عز وجل، وقيل: هو من كلام الجن. قال الزمخشري: وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم، وما وعد مسلميهم. وقد تعرضنا لذلك في سورة الأحقاف عند قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] يعني: منذرين العذاب، {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:30 - 31]. فزعم البعض أن الجن إن آمنوا وعملوا الصالحات فثوابهم أن تغفر لهم ذنوبهم، وأن يجاروا من العذاب الأليم، أما الجنة فإنهم لا يدخلونها؛ لأن هذا فقط هو ثوابهم كما في قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]. واستدلوا أيضاً بهذه الآية: ((وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) قالوا: إن قوله: ((فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)) يعني: اختاروا الطريق الصحيح، وهو طريق الإسلام: ((وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)) فزعم الفريق الذي لا يرى للجن ثواباً أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم. فرد الزمخشري عليهم بقوله: وكفى به وعداً أن قال: ((فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)). فتحري الرشد لا شك أنه من أعظم أسباب الثواب وموجباته، والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثيب الراشد. وقد تكلمنا كثيراً في سورة الرحمن، وذكرنا أن من أقوى ما يدل على أن مؤمني الجن في الجنة، قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]. فالمخاطب في هذه الآية هم الجن والإنس، بدليل قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن:33]، فواضح أن السياق الذي فيه ذكر النعيم الموجود في سورة الرحمن في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] عام في الجن والإنس، كذلك قوله تعالى في الحور: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، فدل على أن مؤمني الجن في الجنة. وقوله تعالى: ((وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)) أي: توقد بكفار الجن كما توقد بكفار الإنس.

تفسير قوله تعالى: (وألوا استقاموا على الطريقة عذابا صعدا)

تفسير قوله تعالى: (وألّوا استقاموا على الطريقة عذاباً صعداً) {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16]. يقول عز وجل: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا)) أي: الجن أو الإنس، أو كلاهما. ((عَلَى الطَّرِيقَةِ)) أي: على طريقة الحق والعدل. ((لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)) أي: لوسعنا عليهم الرزق، وإنما عبر بالماء الغدق -وهو الكثير- عن سعة الرزق؛ لأن الماء الكثير هو أصل المعاش وسعة الرزق، ولعزة وجوده بين العرب، فهم يعظمون الماء أكثر من غيرهم؛ فمن ثم وعد الله هؤلاء بقوله: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)). ((لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)) أي: لنختبرهم ونبتليهم فيه كيف يشكرون ما خولهم الله سبحانه وتعالى من النعم وأعطاهم. ((وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ)) أي: عن عبادته أو موعظته. ((يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)) أي: شديداً شاقاً. قال الزمخشري: والصعد مصدر صعد يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذب، أي: يعلوه ويغلبه، فلا يطيقه.

تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا)

تفسير قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ)) أي أن المساجد التي هي أشرف بقاع الأرض مختصة بالله عز وجل، ومقامة لأجل عبادة الله وحده لا شريك له. (فلا تدعوا) أي: لا تعبدوا، والدليل قوله تعالى في سورة غافر: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فكثيراً ما تأتي تتناوب هاتان العبارتان فأحياناً يعبر عن الدعاء بالعبادة، وأحياناً يعبر عن العبادة بالدعاء. والمعنى: لا تعبدوا مع الله سبحانه وتعالى أحداً في المساجد، وهذا فيه تعريض لما كان عليه المشركون من عبادتهم غيره تعالى في المسجد الحرام، ونصبهم فيه التماثيل والأنصاب، وبما عليه أهل الكتاب، فإن المساجد لم تشد ولم تبن إلا ليذكر فيها اسمه تعالى وحده، ومن هنا ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وأن أيهما طرأ على الآخر وجب هدمه. والغريب أن القاسمي ينسب هذا إلى الحنابلة فقط، لأن العبارة من عبارات ابن القيم في زاد المعاد، لكن الحقيقة أن هذا كلام أئمة المذاهب الأربعة، وعلمائها. نحن في مصر متخصصون في وضع المساجد على القبور، وأوسع كتاب اشتهر بجمع أقوال المذاهب الأربعة التي تثبت أن جميع المذاهب المتبوعة تنهى عن بناء المساجد على القبور هو كتاب (تحذير الساجد من اتخاذ القبور على المساجد) وهو للعلامة الألباني رحمه الله تعالى، وهذا من أوائل الكتب التي ألفها الشيخ الألباني، ألفه وهو شاب صغير، رحمه الله تعالى. فإذا كنا نهمل القضايا التي تمس صلب عقيدة التوحيد، والأمور التي تمس واقعنا، فكيف بما هو أقل منها. فإذاً: ابن القيم ذكر في زاد المعاد أنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، والحكم يكون للأصل، والطارئ هو الذي يزال، يعني: إن كان هناك قبر ثم بني عليه المسجد فالمسجد يهدم ويزال، أما إذا كان هناك مسجد ثم طرأ عليه قبر، فالقبر هو الذي يزال، أما مسجد وقبر فلا يجتمعان في دين الإسلام أبداً، والأدلة على ذلك واضحة وضوح الشمس. وأنا كلما تلوت قوله عز وجل: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) تذكرت حادثة هدم المسجد البابري في الهند، والذي قاد الحملة لهدمه رجل هندوسي وثني مشرك، كان زعيماً لجماعة من الهندوس الكفرة، ظل مدة كبيرة يدربهم على هدم المسجد، لكن أذيع في الأيام الأخيرة أن هذا الرجل دخل في الإسلام، وظل يبكي ويدعو الله سبحانه وتعالى أن يمحو عنه وزر تحطيم هذا المسجد.

تفسير قوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا)

تفسير قوله تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً) يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]. ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ)) أي: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لقد وصف الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأشرف الصفات في أشرف المقامات، وهي صفة العبودية لله، فبعض الفئات من الناس تظن أنها لن تعظم النبي صلى الله عليه وسلم حق قدره حتى تبالغ في وصفه بما يكرهه، وبما يقدح في عقيدة التوحيد، فيظنون أن هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم في هذه الحالة يفعلون فعل النصارى، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). إن فخر الرسول عليه الصلاة والسلام هي العبودية لله التي هي غاية الحب وغاية الذل، فمن أراد أن يمدحه فليمدحه بالعبودية والتواضع لله؛ لأن القاعدة أن من تواضع لله رفعه، ولا يمكن أن نبياً يبعث إلى الناس ويدعوهم إلى عبادة الله والكفر بالأنداد ثم هو نفسه يدعوهم إلى عبادة نفسه؛ لأن هذا تعارض، يقول عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:79 - 80]. فالغلو في النبي عليه الصلاة والسلام قد يصل إلى الكفر والعياذ بالله، خاصة بعض الصوفية الذين يوجد عندهم انحرافات كثيرة في هذا الباب، فلنحذر الغلو والمبالغة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما عند بعض الشعراء وأشهرهم هو البوصيري في البردة المشهورة، وفيها كلام بشع يتناقض مع التوحيد تناقضاً جذرياً، مثل قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها. يعني: من كرم الرسول عليه الصلاة والسلام أنه خلق الدنيا وضرتها، أي: الآخرة. ومن علومك علم اللوح والقلم. وقوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم أو قول بعضهم عند التعوذ: أعوذ بمحمد من شر ما خلق الله، هل يعظم بهذا؟! والرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: (ما شاء الله وشئت، غضب وقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)، والأدلة في ذلك كثيرة. قوله: ((يَدْعُوهُ)) يعني: يعبد ربه. قوله: ((كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)) يعني: أن الجن لما رأوا النبي عليه الصلاة والسلام وهو يعبد الله عز وجل ازدحموا عليه طبقات فوق طبقات وجماعات بعضها فوق بعض؛ تعجباً مما رأوه من عبادته، واقتداء أصحابه به، وإعجاباً بما تلا من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره. والضمير في قوله: ((كَادُوا)) عائد على الجن، أي: كاد الجن يكونون عليه لبداً؛ لأن الحديث في البخاري يدل على أنهم الجن. وجوز رجوع الضمير على المشركين بمكة، والمعنى: لما قام الرسول يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين. قوله: ((لِبَدًا)) جمع لبد، وهو ما تلبد بعضه على بعض، يعني: طبقات بعضها فوق بعض، ومنها لبدة الأسد وهو شعر زبرة الأسد.

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا)

تفسير قوله تعالى: (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحداً) يقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن:20]. وقرئ ((قَاْل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)). قوله: ((إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي)) أي: أعبد ربي وأبتهل إليه وحده. ((وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا))، أي: فليس ذلك ببدع ولا منكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي، يعني: هذه دعوتي صريحة واضحة، فمن أي شيء تتعجبون؟! أتتعجبون أنني أدعو إلى لا إله إلا الله، أو أني أقول: ربنا الله؟! ماذا تنكرون من حالي وأنا لا أقول إلا: لا إله إلا الله؟ ولا أدعو إلا إلى توحيد الله تبارك وتعالى ونبذ الأنداد. فهذا كقول الله عز وجل: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]. وقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. وقوله تعالى عن لسان المؤمنين السحرة: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} [الأعراف:126]. فلذلك قال هنا: ((قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)) أي: فليس ذلك ببدع ولا بمنكر يوجب تعجبكم أو إطباقكم على مقتي.

تفسير قوله تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا وأقل عددا)

تفسير قوله تعالى: (قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً وأقل عدداً) {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:21 - 24]. يقول تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)) أي: لأن ذلك لله تعالى وحده، فلا تستعجلوني بالعذاب، فهذا ليس بيدي. ((وَلا رَشَدًا)) إما أن يراد بالرشد هنا النفع تعبيراً بالسبب عن المسبب، يراد بالضر الغي، تعبيراً باسم المسبب عن السبب. ويجوز أن يجرد من كل منهما ما ذكر في الآخر، فيكون احتباكاً، والتقدير: قل إني لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ولا غياً ولا رشداً. يقول تبارك وتعالى: ((قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ)) يعني: إن أراد الله عز وجل بي سوءاً فلن يجيرني من الله أحد. ((وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) يعني: ملتجأً إن أهلكني، وأصله المدخل من اللحد. قوله تعالى: {إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:23] هو استثناء من قوله: ((لا أَمْلِكُ)). ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا)) * ((إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ))، يعني: أملك لكم نوعاً معيناً من الرشد، وهو أنني أبلغكم رسالة الله والوحي الذي يهديكم به، فإن التبليغ إرشاد ونفع، فالاستثناء متصل، وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أعني قوله: ((قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)). وجمعت الرسالات في قوله: ((وَرِسَالاتِهِ)) لأنها تعبر عن معاني الوحي وأحكام الحق؛ لأنها متعددة. ((وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) يعني: فلم يسمع ما جاء به، ولم يقبل ما يبلغه، ((فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)). ((حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ)) يعني: ما يوعدون في الرسالات الإلهية من الظهور عليهم أو العذاب الأخروي. ((فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا)) أي: أجند الرحمن أو إخوان الشيطان؟!

تفسير قوله تعالى: (قل إن أدري أقريب ما توعدون ومن خلفه رصدا)

تفسير قوله تعالى: (قل إن أدري أقريب ما توعدون ومن خلفه رصداً) يقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} [الجن:25]. ((أمداً)) يعني: غاية تطول مدتها. {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:26 - 27]. قوله: ((رَصَدًا)) يعني: حرساً من الملائكة يحفظون الرسول من تخاليط الشياطين ووساوسهم، حتى يبلغ ما أمر به من غيبه ووحيه. قال بعض المفسرين في قوله تعالى هنا: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) إن كلمة: ((غَيْبِهِ)) ليست من صيغ العموم، فيحتمل أن يقصد بها نوع معين من الغيب، وهو توقيت قيام الساعة.

تفسير الزمخشري لقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى)

تفسير الزمخشري لقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى) يقول الزمخشري: قوله: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} أي: أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى. يعني: يمكن أن الله سبحانه وتعالى يرتضي من عباده الأولياء والصالحين، لكن يقصد هنا طبقة معينة من المرتضين، وهم من خصوا بالرسالة فقط، فهم الذين يطلعهم الله على هذا الغيب. يقول الزمخشري: وفي هذا إبطال للكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب. لمزيد من التوضيح فـ الزمخشري معتزلي ينكر الكرامات، فهو يفسر الآية بطريقة معينة، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلع على الغيب إلا درجة معينة ممن ارتضاهم ورضي عنهم، وهم من خصوا بالرسالة، لكن لا يوجد أحد يدعي أن الكرامات هي ما تعلق بشيء من الغيب، وكذلك لا يوجد أحد يزعم أن الأولياء يعلمون الغيب إلا من خلال أمرين اثنين: إما رؤيا منامية، كأن يرى رؤيا صالحة تشير إلى شيء من الغيب، ومع ذلك فهذا الولي لا يقطع بها الأمر الثاني: الفراسة، والفراسة هي نور البصيرة التي ينور الله بها قلب المؤمن، فيرى ويدرك الأشياء بنور الفراسة. وهذا أيضاً لا يقطع به كمصدر من مصادر الحقائق العلمية، وإنما هو شيء مظنون. فهل تنحصر كرامات الأولياء في هذا الباب فقط، أم تنحصر في خرق العادة بالكرامات الشهيرة المعروفة؟ يعني: كون بعض الناس ادعى الاطلاع على الغيب، فهل يجعلنا نبطل جميع كرامات الأولياء؟! كيف والقرآن نفسه احتوى على شيء من كرامات الأولياء، مثل كرامة مريم، كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]. إذاً: فالكرامات لا تنحصر فيما يتعلق بالإخبار عن الغيب، مع أننا لا ندعي أن أولياء الله يعلمون الغيب، لكن نقول: ربما يكون هناك إخبار بأشياء ستقع عن طريق رؤيا لا يقطع بها، أو عن طريق الفراسة، وهي أيضاً لا يقطع بها. يقول الزمخشري: وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. وهذا صحيح، نقول: إن قوله تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) * ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) يؤخذ منها أنه سبحانه وتعالى لا يخبر بهذا الغيب إلا من ارتضاه من الرسل، ويؤخذ من هذه الآية إبطال الكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما هم أولى الناس بسخط الله، وهم أبعد الناس عن أن يرضى عليهم الله، فكيف يقال إنهم يعلمون الغيب؟!

تفسير أبي السعود لقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى)

تفسير أبي السعود لقوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى) وقد أجاب أبو السعود: بأن معنى الآية: فلا يطلع على غيبه إطلاعاً كاملاً ينكشف به جلية الحال انكشافاً تاماً موجباً لعين اليقين أحداً من خلقه. قال: قوله: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) أي: إلا رسولاً ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته. أقول: وهل الرسول يطلع على كل غيب؟ لا، بل يطلعه الله على ما شاء من الغيب المتعلق برسالته. قال: كما يعرب عنه بيان: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى)) بقوله: ((مِنْ رَسُولٍ)). إما لكونه من مبادئ رسالته، بأن يكون معجزة دالة على صحتها. يعني: قد يطلع الله سبحانه وتعالى الرسول المرتضى على شيء من الغيب، ليكون معجزة له وأنه أخبر بهذا الغيب، وهذا ركن من أركان الاستدلال به على صدق النبوة. فمن ضمن الأشياء الخمسة التي يستدل بها على صدق النبوة: النبوءات والإخبار عن غيب قبل أن يقع فيقع كما أخبر، فيكون ذلك معجزة تؤيد النبي، وتدل على صدقه. قال: وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون، وكيفيات أعمالهم، وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة. أي: فهذا غيب، والرسول عليه الصلاة والسلام اطلع على هذا الغيب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بها قصراً في الجنة)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله وبحمده، غرست له بها نخلة في الجنة). إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بهذا النوع من الغيب. قال: وما تتوقف عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة. يعني: فالرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا من خلال الوحي بأشياء لا يمكن أن يدلنا عليها العقل، وهي هذه الأمور الغيبية، من صفات الملائكة والجن وأحوالهم، أليس هذا كله غيباً؟! قال: أما ما لا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها قيام الساعة، فلا يظهر عليها أحداً أبداً؛ لأن هذا الغيب لا يرتبط بالرسالة، ولا هو من موضوع الرسالة. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن قيام الساعة قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) إن السائل جبريل والمسئول هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كان محمد عليه الصلاة والسلام وجبريل لا يعرفان متى الساعة، فهل يطمع غيرهما أن يعرف متى الساعة؟! والآيات في ذلك واضحة. قال: على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة. يعني: فمن حكمة الله أنه خبأ علينا موعد الساعة؛ لأننا لو عرفنا موعد قيام الساعة لانتهى الامتحان. قال: أيضاً: ليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء، فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكرامات بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاً، ولا يدعي أحد لأحد من الأولياء ما نسب للرسل عليهم الصلاة والسلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح.

كلام النسفي والرازي في قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى)

كلام النسفي والرازي في قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى) قال النسفي في الجواب أيضاً: أي: إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب، فإنه يطلعه على بعض الغيب، ليكون إخباره عن الغيب معجزة له. قوله: (من رسول) بيان لقوله: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى))، والولي إذا أخبر بشيء فظهر، فهو غير جازم عليه، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة، على أن كل كرامة من ولي فهي معجزة للرسول. وقال الرازي: وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه.

ملخص كلام المفسرين في قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى)

ملخص كلام المفسرين في قوله تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى) إذاً: الزمخشري ومن تابعه على أن قوله: ((عَلَى غَيْبِهِ)) ليس فيه صيغة عموم، كذلك أبو السعود والنسفي يقولان: ليس هذا هو المقصود بقوله تبارك وتعالى: ((فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) فيكفي في العمل بمقتضاه ألا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه، فنحمله على وقت وقوع القيامة، فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر على هذا الغيب بالذات أحداً، فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئاً من الغيوب لأحد. والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} [الجن:25]، فالكلام هنا عما توعدون من قيام الساعة، يعني: لا أدري وقت وقوع القيامة. فقوله بعده: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)) أي: غيبه الذي هو علم وقت القيامة. وبالجملة فقوله: ((عَلَى غَيْبِهِ)) لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد وهو قيام الساعة، لكن هناك أنواع أخرى من الغيب يمكن أن يطلع عليها الرسل، كما ذكرنا. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً، يعني: كأن الله سبحانه وتعالى قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص جداً، والغيب المخصوص هو وقت القيامة. قوله: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) أي: حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن؛ لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به والاستحقار لدينه ومقالته. وملخصه تخصيص الغيب بوقت وقوع القيامة بدلالة السياق، وتخصيص الرسول بالملك.

علم النجوم والاكتشافات والتجارب بين المشروع والممنوع

علم النجوم والاكتشافات والتجارب بين المشروع والممنوع وقال بعضهم: إن في هذه الآيات تكذيب المنجمة. وكلمة المنجمة كان لها اصطلاح غريب مخالف قليلاً لما نعرفه الآن، فالمنجم الآن ليس هو الذي يدعي النظر في النجوم ويستطلع فيما يزعم أخبار الغيب عن طريق النظر في النجوم كالكهان مثلاً، وإنما المنجم يدخل فيه كل من يشتغل بعلم الهيئة والنجوم. فعلم الفلك الذي هو علم الهيئة هذا علم يخضع للتجربة والمشاهدة والاستنتاج والدراسة والاستقراء، وممكن أن يصدق أن الكسوف يحصل في وقت معين، وليس هذا ادعاءً للغيب، وإنما هو بناء على حسابات وضبط للنظام الذي وضعه الله في هذا الكون، فأنت عندما تقول: إن الشمس غداً ستشرق من المشرق لا تخبر بالغيب، لأن ذلك شيء تعودناه ورأيناه، فنعرف أنها سوف تشرق من المشرق بإذن الله، فكذلك الإخبار عن بعض هذه الأشياء. إذاً: لا ينبغي أن نخلط بين العلوم التجريبية التي تخضع للحس وللتجارب البشرية والاستقراء، وبين من يدعي الإخبار بأشياء ستقع، بناءً على أنه يعلم الغيب، فهذه نقطة وتلك نقطة أخرى. فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بالبحث والتحري لا يكون من الغيب في شيء، فلذلك بعض الناس يختلط عليهم الأمر، يقول لك: توجد الآن أجهزة يمكن من خلالها معرفة نوع الجنين، فتراه يرتبك ويذكر قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] ثم يقول: عندنا تجرى أنواع من الفحوص ثم يقول لك الطبيب: إن هذا ذكر أو أنثى مثلاً، فهل هذا يتنافى مع إيماننا بأنه لا يعلم ما في الأرحام إلا الله؟ نقول: إن الله عز وجل يعلم ما في الأرحام بدون آلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يوجد غيب في حقه سبحانه، لكن الإنسان عندما يعلم ما في الرحم مثلاً هو لا يقول: هذا ذكر أو أنثى دون أن يجري فحوصات طبية ويستعمل آلات، كذلك عندما يكون في العظم شرخ مثلاً، فإنه لا يقول لك: هذا فيه شرخ دون أن يجرى أشعة وينظر في الأشعة. فهل هو يعلم الغيب؟ لا، ولكن وصل إليه بنفسه بجهد وبآلة. فالمقصود أن الله هو الذي يستأثر بعلم الغيب؛ لأنه لا يحتاج إلى آلة، أما نحن فلا يمكن أن نعرف إلا بآلة أو بجهد بشري نفعله، ونصل في النهاية إلى هذه الأشياء. على أي حال يقول: وقال بعضهم: في هذه الآيات تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يعرف بالتأمل، فعلم بأنهم وقفوا على علمهم من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق، وهذا الجواب يلجأ إليه المتفقهة، زعماً بأن معرفة مواقيت الكسوف وخواص المفردات مما يشمله علم الغيب، ولا يصح أن أحداً يدعي أنه يعرفه، ونكذب من يقول هذا بحجة قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26]. والصواب أن هذا ليس له علاقة بعلم الغيب؛ لأنه مما يتيسر للناس أن يعرفوه بالنظر والاستدلال والتجربة والبحث، كالعلوم الرياضية والطبيعية والزراعية والصنائع والهيئة الفلكية وعلم الأجنة، فكل ما يمكن للإنسان أن يصل إليه بنفسه لا يكون من الغيب في شيء، ولذا قال بعض الحكماء: لو كان من وظيفة النبي أن يبين العلوم الطبيعية والفلكية، لكان يجب أن تعطل مواهب الحس والعقل، وينزع الاستقلال عن الإنسان، ويلزم بأن يتلقى كل فرد كل شيء بالتكليم، ولوجب أن يكون عدد الرسل في كل أمة كافياً لتعليم أفرادها في كل زمن ما يحتاجون إليه من أمور معاشهم ومعادهم. لقد ترك الله سبحانه وتعالى البشر يترقون في العلوم الدنيوية عن طريق الأجهزة والبحوث والاستقراء، ويكتشفونها بأنفسهم، لكن العلم الذي لا يمكن للبشر أن يصلوا إليه هو علم الوحي والغيب، فهذا أوحاه الله إلى الأنبياء، لكن لو أن الأنبياء هم الذين يعلمون الناس الكيمياء والفيزياء والزراعة والفلاحة وغير هذه الأشياء بتفصيل؛ فإن ذلك سيسد على الناس باب البحث والتعلم والسير في الأرض، واستخراج كنوزها وعلومها. أما بالنسبة للعلوم الأخروية فقد اقتضت حكمة الله بأن هذا العلم النفيس لا يمكن أن تصل إليه العقول إلا عن طريق الوحي؛ لأنه لا يمكن للعقل البشري أن يصل إلى معرفة الجنة وصفات الجنة، ولا ما سيحصل في المستقبل، ولا ما حصل قبل خمسين ألف سنة من خلق السماوات والأرض، ولا أخبار الأمم الغابرة، ولا صفات الله، ولا أشراط الساعة، ولا تفاصيل يوم القيامة إلى آخره، وكذلك معرفة ما يرضي الله، ولا كيف سنصلي صلاة هي التي يريدها الله، أو نزكي زكاة ترضي الله. إذاً: الوحي يقتصر على هذا الجانب، أما الجانب الدنيوي فقال فيه عليه الصلاة والسلام: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) يعني: أمور الدنيا تترك للاجتهاد البشري. نعم إن الأنبياء ينبهون الناس بالإجمال إلى استعمال حواسهم وعقولهم في كل ما فيه منافعهم وتنمية معارفهم التي ترتقي بها نفوسهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك) ولكن مع ربطها بما يقوي الإيمان ويزيد في العبرة، وقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى وجوب استقلالنا دونه في مسائل دنيانا في واقعة تأبير النخل إذ قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم). يقول القاسمي: فاحفظه فإنه من المضنون به على غير أهله. يعني: علم خصائص النباتات أو المعادن والكلام في علم الهيئة، ونحوها ليست من الغيب، بل هذه العلوم دون العلوم الشرعية، وتركت للناس بحيث يترقون فيها وينهضون بالطريقة المعروفة.

تفسير قوله تعالى: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم)

تفسير قوله تعالى: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) يقول الله تبارك وتعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28]. قوله: ((لِيَعْلَمَ)) متعلق بقوله تبارك وتعالى: ((فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)). أي: تحفظه الملائكة من بين يديه ومن خلفه ((لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)). وإيراد علمه تعالى في قوله: ((لِيَعْلَمَ)) للعناية بأمر الإبلاغ، والإشعار بترتب الجزاء عليه، والمبالغة في الحث عليه، والتحذير من التفريط فيه. قوله: ((وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ)). أي: بما عند الرسل عليهم السلام، جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر عن طريق الرصد. قوله: ((وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)). أي: فرداًً فرداً؛ لسعة علمه، وهذا تقرير تام لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه ووعده ووعيده، كما عرف من نظائره. وهذا آخر تفسير سورة الجن.

الأسئلة

الأسئلة

وجه وجود قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في مسجده

وجه وجود قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في مسجده Q ما حكم وجود قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وقبر أبي بكر وعمر في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A هذا بحث مهم ومفيد، وهو موجود بالتفصيل في كتاب (تحذير الساجد)، وهناك بحث في الجزء التاسع من أضواء البيان في نفس هذه الآية: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. لكن باختصار شديد: نجيب بما أجاب به الداعية المبارك العلامة أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى ومتعه بالصحة والعافية، فقد قال هنا في الإسكندرية في يوم من الأيام عندما زارنا وسئل هذا السؤال، وهو واعظ في المسجد النبوي الشريف، قال: أقسم بالله إن الرسول عليه الصلاة والسلام ما دفن داخل مسجده، بل دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها، وكان لها باب إلى المسجد، وهذه الحجرة مستقلة عن المسجد، فإدخال الحجرة في المسجد إنما تم في عهد الدولة الأموية، وأنكره بعض السلف في ذلك الوقت، وهذه مخالفة صريحة لنهي النبي عليه الصلاة والسلام، في قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). كذلك العمومات الواردة كقوله: (لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، إنهم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح أقاموا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير) والأحاديث في ذلك معروفة. فكيف نترك كل هذه الأحاديث ونلوذ بفعل فعله من هو غير معصوم، وهو من خلفاء بني أمية.

العلة في عدم ذكر الجن لعيسى عليه السلام في قولهم: (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى …)

العلة في عدم ذكر الجن لعيسى عليه السلام في قولهم: (إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى …) Q لماذا ذكر موسى ولم يذكر عيسى في قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30]؟ A هذه الملاحظة تكلمنا عليها مراراً، وقلنا: إن هناك ربطاً بين موسى ومحمد عليه الصلاة والسلام في كثير من آيات القرآن، حتى إن في سورة البقرة ربطاً بين هذه الأمة وأمة موسى عليه السلام. والجواب فيها طويل لكن أقول باختصار شديد: لأن أصل رسالة عيسى إنما هي مكملة لرسالة موسى، وليست بالأصالة التي كانت في رسالة موسى، فالتوراة هي الأساس، ثم أتى عيسى عليه السلام ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، أو يبين لهم بعض الذي يختلفون فيه، فهي مكملة، أما الرسالة الأصلية فهي رسالة موسى عليه السلام، ولذلك نلاحظ هذا الربط في قول ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء إليه: (هذا الناموس الذي أنزله الله على موسى) إلى آخره. وهذا النجاشي قال: (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة). كذلك في هذه الآية قول الجن: ((إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى)). إذاً: أشبه نبي بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام هو موسى عليه السلام، فهناك شبه شديد بينهما من حيث النشأة والرسالة ومعاناة الأمة، فهذا جواب مختصر وقد فصلناه مراراً من قبل.

المزمل [9 - 20]

تفسير سورة المزمل [9 - 20]

تفسير قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو)

تفسير قوله تعالى: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو) يقول الله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل:9]. أي: لا إله إلا هو تكل إليه مهامك فإنه سيكفيكها. قال ابن جرير: ((فاتخذه وكيلاً)) أي: فيما يأمرك وفوض إليه أسبابك. ((رب المشرق والمغرب)) وهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى. ((لا إله إلا هو)) أي: لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى. ((فاتخذه وكيلاً)) أي: بما أنه هو رب المشرق والمغرب وبما أنه لا إله إلا هو، فلا رب غيره، ولا إله معبود بحق سواه؛ فاتخذه وكيلاً بحيث لا تكل أمورك إلى غيره، وتوكل على الله وحده. فهذا مما يبين أن التوكل عبادة لا تنبغي أن توجه إلى غير الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تتوكل إلا على الله سبحانه وتعالى؛ لأن التوكل عبادة كالسجود والركوع لا ينبغي أن يوجه إلا إلى الله وإلا كان شركاً. وهذا هو معنى: حسبي الله ونعم الوكيل، ومعنى: توكلت على الله، ولذلك فإن تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، وليس معناها: حسبك الله والمؤمنون هم أيضاً حسبك فتوكل عليهم! لأن التوكل عبادة لا تنصرف إلا لله، فلا يصح أن يقول رجل لآخر: توكلت على الله وعليك؛ أو: ثم عليك؛ لأنها مثل قولك: سجدت لله ثم لك! فهل هذا يقبل؟ فكذلك لا ينفعك أن تقول: توكلت على الله ثم عليك؛ لأن التوكل لا يكون إلا على الله وحده فقط، بخلاف الأمور الأخرى، فيمكن أن تستعمل لفظة (ثم) على التراخي.

تفسير قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون وعذابا أليما)

تفسير قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون وعذاباً أليماً) قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:10 - 13]. ((واصبر على ما يقولون)) من الأذى والافتراء عليك. ((واهجرهم هجراً جميلاً)) أي: بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل؛ لأن الهجر الجميل هو أن تعرض عن مقابلة الأذى بأذى مثله، وهذا كقول الله تبارك وتعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ على الله} [الأحزاب:48] أي: أعرض عن أذاهم وتوكل على الله. ((وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ)) أي: دعني والمكذبين، وكل أمرهم إلي، فإن لي قدرة على الانتقام منهم. ((أولي النعمة)) أي: أولي التنعم، ويريد بذلك عز وجل صناديد قريش ومترفيهم. ((ومهلهم قليلاً)) أي: تمهل عليهم زماناً أو إمهالاً قليلاً. ((إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا)) أي: قيوداً. ((وجحيماً)) أي: ناراً شديدة الحر والاتقاد. ((وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ)) أي: طعاماً يغص به آكله فلا يسيغه. ((وعذاباً أليماً)) أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه. كما يقول الله عز وجل في نعيم الجنة: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وقال سبحانه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]. أي: كما أن في الجنة ما لم يخطر على قلب بشر ولا يمكن لبشر أن يتصور كنهه، فكذلك النار فيها من العذاب ما لا يخطر على قلب بشر ولا يمكن أن يدرك كنهه، وهو فوق طاقة البشر ولا يستطيعون تخيله، فليست نار الآخرة كنار الدنيا. ((وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً)) أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه، فلا ترى موكولاً إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام. والمعنى: إذا كان لدينا عذاب لا يتصور كنهه ولا يدركه أحد، فحقيق ألا تفوض أمرهم ولا تكل حسابهم ولا ترجو الانتقام منهم إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أقدر على الانتقام منهم.

تفسير قوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال أخذا وبيلا)

تفسير قوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال أخذاً وبيلاً) قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:14 - 16]. ((يوم ترجف الأرض والجبال)) أي: تضطرب وترتج بالزلزال. ((وكانت الجبال كثيباً مهيلاً)) أي: رملاً متفرقاً منثوراً. ((إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)) أي: سوف يشهد عليكم -أيها الأمة- بإجابة من أجاب وإباء من أبى واستنكف عن الانقياد لشرعه. إذاً: هذا الخطاب لكل البشر من لدن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيام الساعة. ((كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً)) أي: يدعوه إلى الحق. ((فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا)) أي: أخذاً ثقيلاً، وذلك بإهلاكه ومن معه غرقاً في اليم. لقد كان فرعون يستعبد قوم موسى، وكان يطلب منهم أن يعبدوه، {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فعتى عتواً كبيراً، وطغى طغياناً عظيماً؛ لأن قومه كانوا كالذيل تبعاً له.

تفسير قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم يوما)

تفسير قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم يوماً) قال تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل:17]. أي: كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم ولم تؤمنوا بالحق يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر الله سبحانه بقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14]، ثم قال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:15 - 16]. فإذا كان يوم القيامة حاله ما ذكر، وهو يوم يجعل الولدان شيباً، أي: الطفل الصغير يشيب رأسه من أهوال يوم القيامة، مع أنه لم يرتكب معصية ولا ذنباً، فكيف تكون الأهوال في حق هؤلاء؟! وهذا كلام جرى مجرى المثل وليس ذلك على حقيقته؛ لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير صفاتهم وصورهم في الآخرة إلى الشيب، والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعاً. على أي الأحول هذا الكلام نسبه القاسمي إلى ابن أبي الحديد الذي ينسب إليه شرح نهج البلاغة، فهو يستبعد أن يكون الكلام على حقيقته، وعندنا أنه لا يوجد ما يمنع أن يكون على حقيقته، وأن الأطفال تتغير صفاتهم وصورهم في الآخرة إلى الشيب؛ لكن نقول: إن هذا يحصل في أهوال يوم القيامة وليس في ولدان الجنة. يقول أبو الطيب المتنبي في قصيدة له: والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم أي: الشخص البدين المليء إذا أصابه الهم فإنه يعود نحيفاً، وكذلك الهم يشيب ناصية الصبي، ويوصله إلى الهرم والكبر.

تفسير قوله تعالى: (السماء منفطر به إلى ربه سبيلا)

تفسير قوله تعالى: (السماء منفطر به إلى ربه سبيلاً) قال تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:18 - 19]. ((السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ))، قال الزمخشري: وصف لليوم بالشدة أيضاً، وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟! هنا ملاحظة في وصف السماء بقوله: (منفطر) مع أن السماء لفظ مؤنث، ووصفت هنا بالمذكر ولم تؤنث الصفة لأمور: منها تأويلها بالمشتق، ومنها: أن السماء ذات انفطار نحو مرضع وحائض، ومنها: أن كلمة السماء قد تذكر وقد تؤنث. قوله تعالى: ((منفطر به)) هذه الباء سببية، أي: بسبب يوم القيامة، أو للاستعانة، أو بمعنى في، أي أن السماء منفطر فيه. ((كان وعده مفعولاً)) أي أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده، فاحذورا ذلك اليوم. يقول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ)) أي: أن هذه الآيات الناطقة بالوعيد الشديد. ((تذكرة)) أي: موعظة لمن اعتبر بها واتعظ. ((فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)) أي: بالإيمان به والعمل بطاعته.

تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل)

تفسير قوله تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل) يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20]. ((إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ)) أي أنك تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتشمر للعبادة فيه هذا التشمير؛ امتثالاً لأمره وتبتلاً إليه. ((وطائفة من الذين معك)) أي: يعلم أنهم يقومون معك كذلك. ((والله يقدر الليل والنهار)) أي: يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يستويان، وتارة يأخذ من الليل في النهار فيصير النهار أطول كما في الصيف، وتارة يأخذ من النهار في الليل فيطول الليل كما في الشتاء، مما يشق لأجله المواظبة على قيامه لما علمه منكم. أو المعنى: ((والله يقدر الليل والنهار)) أي: يقدر فيهما ما شاء من الأوامر، ومنه أن يقدر لكم الوقت الذي تقومون فيه على سبيل التخيير والتيسير، كما جاء في أول السورة حيث قال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2 - 4] فهذا التخيير للترخيص والتيسير. ((علم أن لن تحصوه)) الهاء تعود إلى قيام الليل على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، أي: علم أنكم لن تطيقوا ولن تقدروا على قيام الليل كله؛ لأن في هذا حرجاً ومشقة وعسراً وإنهاكاً لأبدانكم. ((فتاب عليكم)) أي: عاد عليكم باليسر ورفع الحرج. ((فاقرءوا ما تيسر منه)) أي: اقرءوا في صلاة الليل ما تيسر بلا تقدير، أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم رحمة بأنفسكم، وفيه رد عن غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه شوقاً إلى العبادة وتوقاً إلى الكمالات. قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن يحيد عما أمر به من قيام. ((علم أن سيكون منكم مرضى)) أي: يضعفهم المرض عن قيام الليل. ((وآخرون يضربون في الأرض)) للتجارة وغيرها فيقعدهم ذلك عن قيام الليل. ((وآخرون يقاتلون في سبيل الله)) أي: لنصرة الدين فلا يتفرغون للقيام في الليل. ((فاقرءوا ما تيسر منه)) أي: من القرآن ولا تحرموا أنفسكم؛ لأنه سبحانه وتعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.

ذكر الخلاف في وجوب قيام الليل بسورة المزمل

ذكر الخلاف في وجوب قيام الليل بسورة المزمل يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذهب كثير من السلف إلى أن الآية الأولى فيها إيجاب قيام الليل، ثم هذه الآية في آخر السورة نسخت هذا الوجوب، ولذلك قال: ((فتاب عليكم)) أي: برفع الوجوب ونسخه للتيسير. يقول ابن كثير: روى ابن جرير عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب وكان بهم رحيماً، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: أيها الناس! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه، فنزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] إلى آخر الآيات، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق)، أي: كانوا من شدة قيامهم في الليل ومكابدتهم المشقة الشديدة امتثالاً للأمر الإلهي يربط الرجل الحبل ويتعلق به ويستند عليه أثناء صلاة القيام، حتى لا يقع على الأرض؛ من شدة ما كانوا يلقون من المشقة. يقول: (حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله سبحانه وتعالى ما يبتغون من رضوانه، فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل). قال ابن كثير: والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك وإنما هي مكية.

فائدة في تعدد أسباب النزول

فائدة في تعدد أسباب النزول يقول القاسمي: وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: ونزلت الآية، الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها كما بيناه مراراً. إذاً: هذا دليل من الأدلة التي تؤيد هذا البيان الذي امتاز القاسمي رحمه الله تعالى ببيانه في كل مناسبة كما تلاحظون، بخلاف التفاسير الأخرى. فالقارئ أحياناً إن لم يكن عنده خبر في هذه القضية يضطرب ويقول: هل معظم الآيات تعدد فيها النزول؟ و A أنه لم يتعدد النزول في الغالب، لكن قد يكون المقصود بقولهم: نزلت في كذا ونزلت في كذا، أي: أن حكم هذه الواقعة مما يشمله عموم هذه الآية، أو أن معناها يشمل هذه الواقعة، فكذلك هنا قوله في هذا الحديث: (ونزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]) هو بمعنى الاستشهاد بالآية في قضية تنطبق عليها، وليس المقصود إطلاق سبب النزول في كل حالة. وقد يتعدد النزول، لكن هذا قليل، فلا يتوهمن متوهم أن ما يوجد في بعض كتب التفاسير من ذكر أسباب كثيرة للنزول بعد صحة السند، بل إذا صح السند في أكثر من سبب، فإما أن يكون تكرر النزول، وإما يحمل على هذا المعنى الذي ذكرناه، وهو شمول المعنى وعمومه.

ذكر الأقوال في وجوب قيام الليل ونسخه

ذكر الأقوال في وجوب قيام الليل ونسخه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلاً، فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم فرحمهم وأنزل الله بعد هذا: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل:20] إلى آخر الآية، فوسع الله وله الحمد ولم يضيق). وعن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] قاموا بها حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] قال: فاستراح الناس. وقال ابن حجر في شرح صحيح البخاري: ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقاً، ثم نسخ بالخمس، ثم نسخ بالصلوات الخمس، وأنكره المروزي. وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة. وقال السيوطي في الإكليل: قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2] هو منسوخ بعد أن كان واجباً بآخر السورة، وقيل: محكم. واستدلت طائفة على لزومه على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ويستدلون أيضاً بآية أخرى على وجوب القيام على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] واستدل به آخرون على وجوبه على الأمة أيضاً، ولكن ليس الليل كله بل صلاة ركعتين، وعليه الحسن وابن سيرين. يقول القاسمي: هناك من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه ليس منسوخاً وأنه للندب، ويرى أن آخر السورة تعليم لهم بالرفق بأنفسهم، وحملوا الآية على الندب، فبماذا يجيب هذا الفريق الذي يرى أن الأمر الأول على الندب عن قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] إلى آخره؟ يقولون: إن المقصود بآخر السورة إرشادهم إلى أن يرفقوا بأنفسهم؛ لأنه منّ عليهم باليسر ورفع عنهم الآصار. وفيه ما يدل على شدة اهتمام وعناية الصحابة بالنوافل، يعني على هذا المذهب الذي يقول إن الأمر محكم وإن الأمر بقيام الليل على الندب، ولم يفرض على الأمة، ومع ذلك اجتهدوا هذا الاجتهاد حتى تاب الله عليهم بالتخفيف، وحتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه. ويدل عليه أثر عائشة رضي الله تعالى عنها في ربطهم الحبل للتعلق به استعانة على قراءة القرآن وكثرة تلاوته، ومعروف حديث زينب: (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً مربوطاً بين ساريتين في المسجد فقال: لمن هذا الحبل؟ قالوا: إنه لـ زينب اتخذته حتى إذا قامت من الليل تتكئ عليه حتى لا تقع من شدة التعب، فأمر بقطعه وقال: عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا).

معنى قوله: (فاقرءوا ما تيسر منه)

معنى قوله: (فاقرءوا ما تيسر منه) قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]: وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة الإسراء: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء:110] أي: بقراءتك. وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذه الآية على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية أجزأه، واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن). وقد أجابهم الجمهور بحديث: عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في الصحيحين، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). أيضاً يرد على الأحناف بحديث المسيء صلاته أن في بعض الروايات: (ثم اقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم القرآن) ولا شك أن الراجح والله تعالى أعلم أن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة. قوله تبارك وتعالى: ((وآخرون يقاتلون في سبيل الله)) هذا علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن كثير: وهذه الآية بل السورة كلها مكية، ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة؛ لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.

فائدة تتعلق بلام العهد

فائدة تتعلق بلام العهد قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15 - 16] الألف واللام في كلمة (الرسول) للعهد أي: أن الرسول هو موسى عليه السلام، بخلاف قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، فالرسول هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة قوله: (القرآن).

فضيلة التجارة

فضيلة التجارة قوله تعالى: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) فيه فضيلة التجارة لسوقها في الآية مقرونة بالجهاد. أخرج سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله، ثم تلا هذه الآية: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)). وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن تسعة أعشار أرزاق أمتي جعلت في التجارة)؛ لأن فيها توكلاً على الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)

تفسير قوله: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فهذه الآية كما يقول السيوطي: أصل في مشروعية التجارة. {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل:20] أي: زكاة أموالكم. قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة. ((وأقرضوا الله قرضاً حسناً)) أي: أن بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن وجه يكون قرضاً حسناً، وذلك كأن ينتقي المال الطيب والحسن ويخرجه ولا ينتقي المال الرديء قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]. وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فالقرض يكون حسناً إذا كان من أصل طيب أو من أطيب المال. ومن الإحسان في القرض تعجيله؛ لأن هناك ثلاثة أشياء تحمد في أي عمل معروف: تصغيره، وتعجيله، وكتمانه. تصغيره بألا تعظمه، وتعجيله بألا تؤجله، وكتمانه كي يكون سراً، كما في الحديث: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمنيه) بخلاف من يمن ويؤذي: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]. من خصائص القرض أن الإنسان يقرض بنية الأخذ؛ لأن الإنسان إذا بذل المال في سبيل الله تبارك وتعالى فإنه على يقين من أنه سوف يرجع إليه أضعافاً مضاعفة ببركة الله تبارك وتعالى، فلكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا، ولذلك قال: ((وأقرضوا الله قرضاً حسناً)) فهذا هو سر بذل المال في سبيل الله وفي الخيرات على أحسن الوجوه، فأنت إذا بذلت هذا المال لن يذهب سدى، ورجوعه إليك أمر محقق حتى سمي قرضاً، فكأنك تقرض الله، والله سوف يعيد إليك ثوابه أضعافاً مضاعفة. ((وما تقدموا لأنفسكم من خير)) أي: في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله أو غير ذلك من أعمال البر. ((تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً)) أي: أعظم ثواباً مما عندكم من متاع الدنيا. ((واستغفروا الله)) أي: سلوه غفران ذنوبكم. ((إن الله غفور رحيم)) أي: ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب، وذو رحمة فلن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.

المدثر [1 - 30]

تفسير سورة المدثر [1 - 30]

وجه الجمع بين الأحاديث في أول ما نزل من القرآن

وجه الجمع بين الأحاديث في أول ما نزل من القرآن سنشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير السورة الرابعة والسبعين، وهي سورة المدثر، وهي سورة مكية، وعدد آياتها تسع وخمسون آية. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ثبت في صحيح البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: (أول شيء نزل من القرآن: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولاً قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. وروى البخاري عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}؟ فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثلما قلت لي، فقال جابر: (لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت الوادي فسمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]). وروى الشيخان أيضاً عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء الأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] إلى آخر الآيات). فيفهم من هذا السياق أن هناك وحياً نزل قبل سورة المدثر، ففي هذه الرواية يقول جابر: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي) أي أن الوحي أول ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بسورة اقرأ، ثم انقطع فترة، وتوقف لمدة، ثم بعد ذلك عاد الوحي فكان أول ما نزل بعد فترة الوحي هو: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، وهذا الحديث يوضح ذلك. يقول جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] إلى آخر الآيات). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا السياق هو المحتوم، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)، وهو جبريل حين أتاه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد، هذا وجه الجمع. وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، (أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم: سحر يؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] إلى آخر الآيات).

تفسير قوله تعالى: (يا أيها المدثر)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها المدثر) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]. أي: المتلفع بثيابه لنوم أو استدفاء. والمدثر من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد مباشرة. وأصل المدثر المتدثر، فأدغمت التاء في الدال، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزل الوحي، أو لقوله: (دثروني دثروني). وقيل: معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة، ومن ذلك قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم، فجعل النبوة كالدثار واللباس. قال الشهاب: إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة. وهذا قول آخر، يعني أن الدثار الذي يكون فوق الشعار هو حلية وزينة، وهذه إشارة إلى أنه متحلٍ بالنبوة ومتزين بها عليه الصلاة والسلام. والتزيين بالدثار في ظهوره أو في الإحاطة، والأول أتم.

تفسير قوله تعالى: (قم فأنذر)

تفسير قوله تعالى: (قم فأنذر) قال تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]. أي: قم من مضجعك ودثارك، أو قم قيام عزم وجد؛ لأن القيام يعبر به أحياناً عن ذلك. فمن الأولى قوله: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]. ومن الثاني قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} [سبأ:46]. والمعنى: فحذر قومك من العذاب إن لم يؤمنوا. قال الشهاب: ((قُمْ فَأَنذِرْ))، ولم يقل: وبشر؛ لأنه كان في ابتداء النبوة، لأن البشارة لمن آمن ولم يكن إذ ذاك مؤمن. أو هو اكتفاء، فنقول في التفسير: قم فأنذر الكافرين وبشر المؤمنين، لكن اكتفى بهذا عن ذاك كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: سرابيل تقيكم الحر والبرد. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، الإنذار: إعلام بتخويف، فهو أخص من مطلق الإعلان، وهو متعد لمفعولين: المفعول الأول: هو المنذَر. والمفعول الثاني: المنذَر به. أما المنذَر فبينت آيات أخرى أن المراد الكافرين، كما قال تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم:97]، تخويفاً لهم، وقد يكون للمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بهذا الإنذار، فيأتي الإنذار للكافرين باعتبار أنه تخويف لهم وترهيب حتى يعودوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى الإيمان، وقد يأتي الإنذار للمؤمنين كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس:11]، فهنا قصر الإنذار على المؤمنين، لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار. وقد يكون للجميع كما قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس:2] إلى آخر الآية. أما المنذر به فهو ما يكون من أهوال يوم القيامة، ولذلك قال ابن جرير: ((قُمْ فَأَنذِرْ))، عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره.

تفسير قوله تعالى: (وربك فكبر)

تفسير قوله تعالى: (وربك فكبر) يقول تبارك وتعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3]. يقول ابن جرير: أي: فعظمه بعبادته والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد. وقال القاشاني: أي: إن كنت تكبر شيئاً وتعظم قدره فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينيك غيره، فيصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه عز وجل. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، التقديم هنا للاختصاص، أي: أن المستحق للتعظيم وحده هو الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر)

تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر) قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]. اختلف في المقصود من قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}؟ فالظاهر هو الطهارة، أي: تطهير الثياب بالماء من الأنجاس؛ لأن الماء هو الأصل في التطهير. قال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون؛ فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه. وقيل: هذا أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام. قال قتادة: العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب، أما إذا وفّى فإن العرب تسميه: مطهر الثياب. وعن ابن عباس: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، أي: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم أنشد لـ غيلان بن سلمة الثقفي قوله: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع ففي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما. أما الثاني ففيه نوع تجوز، بأن يكون المقصود بذلك طهر القلب مما يستقذر من الآثام. الوجه الثالث: حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التقصير؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرون أذيالهم خيلاء وكبراً، فأمر بمخالفتهم. ووجه رابع: حمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال عنترة: (فشققت بالرمح الأصم ثيابه) يعني: نفسه، ولذا قال: ليس الكريم على القنا بمحرم واستصوب ابن الأثير في المثل السائر الوجه الأول، قال في الفصل الثالث من فصول مقدماته: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس، ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس، وهذا لابد له من دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف، والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف، إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية؛ فإن السيف بضاربه. يعني: قد يكون لعالم وجه من الفصاحة والبلاغة حتى إنه لفصاحته وبراعته يستطيع أن ينتحي منحىً مرجوحاً عن طريق تأويل النص، ومع قوة عبارته وسحر البيان يقوي هذا القول الضعيف، وكما يقال: إن السيف بضاربه، يعني: أن السيف يقتل، لكن ليس السيف وحده هو الذي يؤثر، بل لابد له من ضارب قوي، ولذلك استشهد بعد قوله: (فإن السيف بضاربه) بشعر أبي الطيب المتنبي في قصيدة مطلعها: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني قال: إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان يقول المتنبي: إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان يعني: قد توجد السيوف الحادة القوية في أيدي أناس قلوبهم مثل قلوب النساء جبناً وهلعاً وخوفاً. تلقى الحسام على جراءة حده، أي: مع أن السيف محدد بتار في حد ذاته. تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان فالسيف يكون جباناً ما دام في كف إنسان جبان، فالسيف بضاربه وليس فقط بحده، فإنه لا يؤثر إلا إذا كان الذي يحمله يضرب ضربةً قويةً. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي (الثياب) و (فطهر) هل دلا على الحقيقة، ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات أم هما على المجاز؟ فعلى سبيل المجاز يكون المراد بالثوب البدن، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها. وذكر ابن جرير وغيره نحواً من خمسة أقوال: الأول: عن ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، أن معناه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة، واستشهد بقول غيلان: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وقول آخر: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل فاستعمل اللفظين في الكناية، وقد يستدل له بقوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]. وورد عن ابن عباس: لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب، يعني: البس ثيابك من المال الحلال، فاستعمل الثياب في الحقيقة والتطهير في الكناية. وعن مجاهد: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: وعملك فأصلح، فاستعملهما معاً في الكناية عن العمل الصالح. وعن محمد بن سيرين وابن زيد على حقيقتهما، يعني: فطهر ثيابك من النجاسة. ثم قال ابن جرير: والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك. وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف، والله تعالى أعلم بمراده. ويترجح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة، بالقرينة في الآية فإنها اشتملت على أمرين: الأول: طهارة الثوب، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. الثاني: هجر الرجز، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، ومن معاني الرجز المعاصي، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته والرجز على حقيقته أولى، إن المعنى: طهر قلبك من الآثام والمعاصي، لوقع هنا تكرار؛ لأن قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} معناه: اهجر المعاصي على أحد التفاسير، فيكون هذا تكراراً، والتأسيس أولى من التأكيد. فيترجح بذلك أن المراد بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} الطهارة بالماء من الأنجاس، فيكون المراد الثياب على حقيقتها. أما التطهير من الذنوب فأشار له قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] فيكون تأسيساً. وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بأصرح من ذلك في قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال:11]. ومثله أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، جمع بين الطهارتين: تطهير الباطن والظاهر. ولذلك جعل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هذه الآية: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} دليلاً على وجوب الطهارة للصلاة.

تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر)

تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر) يقول الله تبارك وتعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]. أي: اتركه، والرجز بضم الراء، وتأتي بكسر الراء كالرجس، والسين والزاي يتناوبان لأنهما من حروف الصفير. والرجس: اسم للقبيح المستقذر كنى به عن عبادة الأوثان خاصة كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]. أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق، والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز. وقيل: المراد بالرِجز أو الرُجز العذاب، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي، فأقيم الرجز مقام سببه الذي هو الشرك والمعاصي؛ أو هو بتقدير مضاف، أي: وأسباب الرجز فاهجر. وكما قلنا: الرِجز والرُجز تقرأ بالضم وتقرأ بالكسر، فيقول: قرئ بضم الراء وهي لغة وهما بمعنى العذاب. وعن مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم، وبالكسر بمعنى العذاب. وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك -وهو بريء منه- أمر لغيره، وهذا تعريض، أو المراد الدوام على هجره، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام ما عبد الأصنام، بل هو بريء من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أمره الله بهجرها، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، فهذا الأمر هو أمر لغيره تعريضاً، أو أن المراد الدوام على هجره.

تفسير قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر)

تفسير قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر) قال تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]. أي: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، أي: إذا أعطيت فلا تترقب ولا تتوقع ولا تؤمل أن ترد إليك هذه العطية بأكثر منها. يقال: مننت فلاناً كذا، أي: أعطيته، كما قال تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص:39]، يعني: فأعط أو أمسك. وأصله: أن من أعطى فقد منَّ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة. وجوز القفال أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العوض كيف كان زائداً أو مساوياً. قال: وإنما حسنت هذه الاستعارة؛ لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً عن العطاء، وسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر فسمي ربيباً وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، حملاً للأمر على تلك الأحوال. يقول: وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففاً وكمالاً وعلو همة. وقال بعض المفسرين: معنى الآية: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ}: لا تعط عطاءً مستكثراً هذا العطاء حتى ولو كان كثيراً، فإن من مكارم الأخلاق استقلال العطاء وإن كان كثيراً، فالسين للعد والوجدان. وسبق في سورة الروم في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39]، نفس هذا المعنى، وقد تكلمنا عنه في موضعه.

تفسير قوله تعالى: (ولربك فاصبر)

تفسير قوله تعالى: (ولربك فاصبر) قال تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7]. يعني: على أذى المشركين، وهنا نلاحظ أنه في السور المكية الأولى يخاطب الله نبيه باسم الربوبية؛ لأن تصور المشركين عن الألوهية قد ارتبط بمفاهيم وثنية، ومن هذا الخطاب قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3].

تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور غير يسير)

تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور غير يسير) قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10]. أي: إذا نفخ في الصور، والناقور من النقر. بمعنى التصويت، وأصله القرع الذي هو سبب الصوت، ومنه منقار الطائر؛ لأنه يقرع به وينقر به على الأشياء، وأريد به النفخ؛ عبر به لأنه نوع من الصوت. {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، أي: شديد. {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، أي: ليس بهين على الكافرين لما يحيط بهم من الغم والكرب، وفي قوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ}، تأكيد يمنع أن يكون عسيراً عليهم من وجه دون وجه، ويشعر بيسره على المؤمنين، ففيه جمع بين وعيد الكافرين وبشارة المؤمنين. يعني: أن وصفه اليوم أولاً بقوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، قد يتوقع بعض الناس أنه عسير على المؤمنين وعسير على الكافرين فأتى بالآية التي تليها ليدفع هذا التوهم فقال: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}. ثم إنه قد يقول قائل: (فذلك يومئذ يوم عسير) قد يكون عسيراً من وجه لكن ليس عسيراً من وجه آخر، فدفع هذا الوهم بقوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، فهذا عسر لا يسر فيه على الإطلاق. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}، الناقور: هو الصور، وأصل الناقور الصوت. قال الزمخشري: إن (غَيْرُ يَسِيرٍ)، كان يكفي عنها (يوم عسير) إلا أنه أراد ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره. يعني لأن الإنسان قد يتوقع هذا العسر يسيراً: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6]، فمهما كان هناك من شدة فإنها ستنتهي، فربما توهم بعض الناس أن شدة الأهوال يوم القيامة لها نهاية، فبين لهم عز وجل أنه لا يرجى بعده يسر، والعياذ بالله! وأيضاً فيه زيادة وعيد للكافرين، وفيه نوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم، ولعل المعنيين مستقلان، وأن قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، كلام مستقل، وهو وصف لهذا اليوم وبيان للجميع شدة هوله كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، هذا عام في الناس كلهم، وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34 - 35]. ثم بين تعالى أن اليوم العسير على الكافرين فقال: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، كما قال تعالى عنهم: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل:17 - 18]، بينما يكون على المؤمنين يسيراً، مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله، لكنه يخفف عن المؤمن، هذا هو المقصود من الآية التالية، وهي قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}، فهو في حد ذاته يوم شديد، لكنه يخفف على المؤمن، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:87 - 90]. فالفزع من الصعقة يوم ينفخ في الصور عام لجميع من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم بين تعالى أن الآمنين هم الذين جاءوا بالحسنات.

تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا ثم يطمع أن أزيد)

تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً ثم يطمع أن أزيد) يقول الله تبارك وتعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11 - 15]. {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}، أي: لا مال له ولا ولد، وقد كنت قرأت منذ زمن أن (وحيداً) لقب من ألقاب الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وهو من رءوس الكفر في قريش، وقد كان يلقب بريحانة قريش، وكان يلقب بالوحيد، أي: المتفرد. أما هنا فقال القاسمي: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11]، يعني: في أول أمره وفي مبدأ أمره كان وحيداً بلا مال ولا ولد. {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا}، أي: ثم بعد ذلك أنعمت عليه وجعلت له مالاً ممدوداً أي: مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بالنماء. {وَبَنِينَ شُهُودًا}، يعني: رجالاً يشهدون معه المحافل والمجامع، أو حضوراً معه يأنس بهم لا يحوجه سفرهم وركوبهم الأخطار لاستغنائهم عن التكسب. وهذه من النعم التي أنعم الله بها على الوليد بن المغيرة، فبعدما كان وحيداً لا مال له ولا ولد امتن الله عليه بالمال الممدود وبالبنين الحاضرين غير المسافرين؛ لأنهم لعزتهم وغناهم وثروتهم لا يحتاجون إلى أن يفارقوا أباهم بحثاً عن الرزق والربح. {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا}، أي: بسطت له في العيش والجاه والرياسة. {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:15] يعني: يطمع الزيادة من المال والولد والجاه، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وفي الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب العلم، وطالب الدنيا)، فطالب العلم مهما تجرع من العلم لا يشبع، وطالب الدنيا مهما أعطي من الدنيا لا يشبع، الإنسان أحياناً يستغرب من أناس بسطت عليهم الدنيا، ومع ذلك فهم في أشد الحرص على الاستكثار من المال والزيادة؛ لأن من طبيعة الإنسان الحرص والجري وراء الدنيا، فيصبح كالذي يشرب من البحر وكلما شرب ازداد عطشاً، فهذه إشارة إلى هذا الميل إلى الدنيا، وأن ابن آدم لا يملأ جوفه إلا التراب: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى أنه يطمع أن أزيده نعيماً وقوة، وأدخله الجنة أيضاً على كفره. وهذا التفسير أظهر في بدليل قوله تعالى بعده: {كَلَّا} [المدثر:16] أي: لا يكون ما يؤمله ويرجوه؛ لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون وليس هو منهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فهو ينعم في الدنيا لكن في الآخرة لا نصيب له ولا خلاق.

تفسير قوله تعالى: (كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ثم قتل كيف قدر)

تفسير قوله تعالى: (كلا إنه كان لآياتنا عنيداً ثم قتل كيف قدر) قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:16 - 20]. ((كَلَّا))، أي: لا يكون ما يؤمل ويرجو؛ لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون لا هو. ((إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا))، كيف أزيده وأضيف إلى نعيم الدنيا الذي أعطيته إياه نعيماً في الآخرة وهو كان معارضاً لآيات الله. فشرعت الآيات في ذكر مفاسده التي تجعله غير جدير بأن ينعم في الجنة. فقوله: {عَنِيدًا}، أي: معانداً للحجج المنزلة والمرسلة. {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا}، أي: سأغشيه عقبة شاقة المصعد كالجبل المرتفع كلما ارتفع زاد اختناقاً وضاق نفسه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، فهذا عذابه أن يصعد على جبل أو على عقبة مرتفعة شاقة في غاية العسر، وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق. والمعنى: أسوق إليه من المصائب ما يشق عليه مشقة من يكلف صعود الجبال الشاهقة العالية الوعرة. ثم علل إرهاقه بقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:18 - 22]، فهذا كله تعليل لاستحقاقه أن يرهقه الله سبحانه وتعالى صعوداً. وقوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ) يعني: ماذا يقول في هذه الآيات الكريمات، وفي هذا الذكر الحكيم؟ ((وَقَدَّرَ)) أي: قدر في نفسه ما يقوله وهيأه. {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، يعني: لعن كيف قدر ذلك الافتراء الباطل، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه، وهو يعلم في قرارة نفسه أن القرآن حق من عند الله! {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، تكرير للمبالغة في التعجب منه، وقد اعتيد فيمن عجب غاية العجب أنه يكثر من التعجب ويكرره. و (ثم) للدلالة على أن الثانية أبلغ في التعجب من الأولى؛ لأن العطف بـ ((ثُمَّ))، يدل على تفاوت الرتبة. فقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، يعني: فقتل بنوع ما من القتل، وهذه الجملة دعاء. {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}، يعني: كأنه قال بعدما قال قتل بنوع ما من القتل: لا، بل قتل بأشده، وقد أورد الزمخشري في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أن تكون تعجيباً من تقديره وإصابته فيه المحز، ورميه الفرض الذي كانت تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به. أو هي حكاية لما كرروه من قولهم: (قتل كيف قدر) تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله! ثم قال: ومعنى قول القائل: قتله الله ما أفزعه، وأخزاه الله ما أشعره، الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، أي أنه تفوق جداً في هذا المجال حتى إن الناظر إليه خليق أن يحسد على ذلك.

تفسير قوله تعالى: (ثم نظر إلا سحر يؤثر)

تفسير قوله تعالى: (ثم نظر إلا سحر يؤثر) قال تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:21 - 24]. {ثُمَّ نَظَرَ}، أي: في ذلك المقدر وتروى فيه. قال الرازي: وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه، فالنظر الأول للاستخراج، واللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط. وقال غيره: {ثُمَّ نَظَرَ}، أي: في وجوه القوم. {ثُمَّ عَبَسَ}، أي: قطب وجهه كبراً وتهيؤاً لقذف تلك الكبيرة. {وَبَسَرَ}، أي: كلح وجهه شأن اللئيم في مراوغته ومقاتلته، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه. ((ثُمَّ أَدْبَرَ)): عن الحق. ((وَاسْتَكْبَرَ))، أي: عن الإيمان به. {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}، أي: ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويتعلم، أي: يأثره عن غيره، والمعنى أنه تعلمه من شخص آخر غيره. {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}، أي: ليس بكلام الله كما يقوله. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله، وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به. قال: بل أنتم تقولون أجمع. قالوا: نقول: كاهن! قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر! قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقبيضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعبق، وإن فرعه لجنى، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته! فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون مع الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وفي ذلك قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:11 - 25]. وعن قتادة قال الوليد: لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله هذه الآيات. وقد روي عن مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة. وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه أسلم منهم ثلاثة: خالد بن الوليد. وعمارة. وهشام. قال ابن حجر في الإصابة: والصواب أنهم خالد، وهشام، والوليد، فأما عمارة فإنه مات كافراً؛ لأن قريشاً بعثوه للنجاشي فجرت له معه قصة فأصيب بعقله. وقد ثبت أنه ممن دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من قريش لما وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو يصلي، فدعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأصابته دعوة النبي عليه السلام وجن في الحبشة.

تفسير قوله تعالى: (سأصليه سقر عليها تسعة عشر)

تفسير قوله تعالى: (سأصليه سقر عليها تسعة عشر) قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:26 - 30]. {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}، أي: جهنم، وهو بدل اشتمال من قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17]. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} قال الزمخشري: أي: لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد، أو: لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}، أي: محرقة للجلود، من قولك: لوحته الشمس إذا سودت ظاهره فإن الجلد يتأثر بالشمس فيسود لونه فيقال: لوحته الشمس، يعني: سودت ظاهره وأطرافه، فمعنى قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29]، يعني: محرقة للجلود؛ لأن قوله تبارك وتعالى هنا: البشر، جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. أو أن البشر اسم جنس بمعنى الناس، فيكون قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}، يعني: محرقة للناس. {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}، أي: من الخزنة المتولين أمرها، والتخالف على أهلها، وفيه إشارة إلى أن زبانية العذاب الأخروي تفوق زبانية الجبابرة في الدنيا أضعافاً مضاعفة، تنبيهاً على عظم العذاب وكبر مكانه.

(تفسير سورة المدثر [31 - 56]) للشيخ: (محمد إسماعيل المقدم) (عدد القراء 414) عناصر الموضوع 1 تفسير قوله تعالى: (وم الكل أسماء القراء أسماء المحاضرين عناوين المحاضرات نص المحاضرات مختارات من الأذان أسماء المنشدين عناوين الأناشيد أدعية مختارة استراحة التسجيلات محور الحج اختبر معلوماتك فلاشات رسائل جوال صندوق الهدايا مواقيت الصلاة تحويل عملات الأحوال الجوية أكثر المواد استماعا على الشبكة الإسلامية اسم المستخدم كلمة السر

النبأ

تفسير سورة النبأ

تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون)

تفسير قوله تعالى: (عمّ يتساءلون) سورة النبأ السورة الثامنة والسبعون من سور القرآن الكريم، وتسمى: سورة عم يتساءلون، وهي مكية بالإجماع، وآيها أربعون. يقول ابن عطية: ليس فيها نسخ ولا حكم، إلا ما قاله بعض الناس في قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] إنها منسوخة. يقول مقاتل بن حيان: الحقب: سبعة عشر ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ:30] ونحن نقول: قوله تعالى: ((لابثين فيها أحقاباً)) خبر، والخبر لا يقبل النسخ؛ لأن خبر الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخلف، ولا يكون غير مطابق للحقيقة حتى ينسخ، فالأخبار لا يدخلها النسخ، فهذا القول إنما يحكى تنبيهاً على أنه خلاف غير معتبر، فيحكى لينبه على فساده، فهذا قول لا يصح بحال؛ لأن الأخبار لا تنسخ. قوله: ((عم)) أصلها: عن ما، ثم أدغمت النون في الميم فصارت ((عما)) في الخبر والاستفهام، ثم حذف الألف في الاستفهام فرقاً بينه وبين الخبر، وقرئ ((عم))، وقرئ (عمه) بالهاء، وهذا إنما يكون عند الوقف على ((عم))، ثم يبتدئ بقوله: ((يتساءلون)) {عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] وجمع يتساءلون لأن ما بعده جملة صلة. وقوله تعالى: ((عم يتساءلون)) أي: هؤلاء المشركون عن أي شيء يتساءلون؟ لأن بعضهم كذب، وبعضهم قال: سحر وكهانة وجنون وغير ذلك، فكثر تساؤلهم عن حقيقة هذا القرآن. قال ابن جرير: وذلك أن قريشاً جعلت فيما ذكر عنها تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوته، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى، والإيمان بالبعث، فقال الله سبحانه وتعالى لنبيه: ((عم يتساءلون)) أي: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟ و (في) و (عن) في هذا الموضع بمعنى واحد. والتفاعل في قوله: (يتساءلون) إما على بابه أي: يسأل بعضهم بعضاً، أو أنه بمعنى: فعل يعني: سأل، وعلى الأول فالمعنى: يتساءلون فيما بينهم، وعلى الثاني فالمعنى أنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم.

تفسير قوله تعالى: (عن النبأ العظيم ثم كلا سيعلمون)

تفسير قوله تعالى: (عن النبأ العظيم ثم كلا سيعلمون) {عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:2 - 5]. قوله تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}، ((عن)) هنا أيضاً بمعنى (في) أي: في النبأ العظيم يختصمون. الاستفهام هنا لتفسير الخبر عن هذا النبأ. قال ابن عباس وقتادة هو الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد وقتادة: هو القرآن خاصة بدليل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص:67] {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص:68]. وعن قتادة: هو البعث من القبور، كما قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} [النبأ:17]. وكلها متلازمة؛ لأن من كذب بواحد منها كذب بها كلها، ومن صدق بواحد منها صدق بها كلها. قوله: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} رجح بعض المفسرين القول بأن النبأ العظيم هو البعث؛ لأنه أتى بعده بدلائل وبراهين البعث، وعقبها بيوم الفصل: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}. قوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} * {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} هذا ردع للمتسائلين، والمفعول محذوف، والتكرار هنا للمبالغة في عظمته. والتقدير: سيعلمون حقيقة الحال، أو سيعلمون ما يحل بهم من العقوبات والنكال. وفي (ثم) إشعار بأن الوعيد الثاني أشد؛ أشد من الوعيد في الآية الرابعة؛ لأنها تأتي للبعد والتفاوت النسبي، ففيها ردع وزجر شديد بل أشد وأشد، فبهذا الانتظار صار كأنه مغاير لما قبله.

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهادا وجعلنا نومكم سباتا)

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض مهاداً وجعلنا نومكم سباتاً) {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} [النبأ:6 - 9]. ذكرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته فقال عز وجل: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً}، أي: فراشاً وموطئاً تفترشونها فالمهاد هو الفراش الممهد كالمهد للصبي، وكذلك الأرض، وقرئ: (مهداً). {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} أي: أرسينا الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد، حتى لا تميد بأهلها، وتكون الأرض مهاداً بسبب ذلك، فإنما كانت الجبال أوتاداً؛ لأن جذورها في الأرض مغروسة، ولأنها تمنع الأرض من الاضطراب كالأوتاد التي تربط بها السفن لتثبيتها. {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} أي: ذكوراً وإناثاً. أو: (وخلقناكم أزواجاً) أي: أنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم، فيدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير لتختلف الأحوال، فيقع الاعتبار فيشكر الفاضل، ويصبر المفضول. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: وصيرنا نومكم راحة ودعة، ليريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها؛ إطلاقاً للملزوم وهو السبات (الموت)، وإرادة اللازم وهو الاستراحة. وقيل: السبات هو الليل الممتد الطويل السكون، ولهذا يقال فيمن وصف بسكرة الموت: إنه مسبوت أو به سبات، فوجه الامتنان بذلك ظاهر لما فيه من المنفعة والراحة؛ لأن النوم يكسب شيئاً من الراحة.

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا الليل لباسا سراجا وهاجا)

تفسير قوله تعالى: (وجعلنا الليل لباساً سراجاً وهاجاً) قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ:10 - 13]. {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: كاللباس لإحاطة ظلمته بكل أحد وستره لهم، ووجه النعمة في ذلك أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عدو أو بياتاً له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه. قال المتنبي: وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب فالسياق في قوله الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً} سياق امتنان على الناس بهذه النعمة. ووجه النعمة هنا أن ظلام الليل ليس شراً كله كما تزعم المانوية، الذين يجعلون الظلام إله الشر، والنور إله الخير. فمن فوائد الليل أيضاً: راحة العين والبدن واستعادة القوى وغير ذلك. فقول المتنبي: (وكم لظلام الليل عندي من يد) أي: من نعمة وفضل ومنة (تخبر أن المانوية تكذب) أي: حين ينسبون كل شر إلى الليل، فهو يقول: كم لظلام الليل عندي من يد وإحسان، وهذه اليد وهذا الإحسان تخبران أن المانوية تكذب في نسبة الشر المطلق إلى الظلام. وأيضاً فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله، وتتكامل قوته، ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذلك لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم الذي يزيد في جمال الإنسان، وفي طراوة أعضائه، وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار. {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} أي: وقت معاش إذ فيه يتقلب الخلق في حوائجهم ومشاكلهم. وقوله: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} هي على حذف مضاف، أي: وقت معاش. والمقصود بقوله: (معاشاً) أي: متصرفاً لطلب ما يعاش به من المطعم والمشرب، وغير ذلك. {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} أي: سبع سماوات (شداداً) جمع شديدة، أي: أن السماء عظيمة الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان. وقال بعض المفسرين: السبع الشداد الطرائق السبع، وهي ما فيها من الكواكب السبعة السيارة. وهذا الكلام فيه نظر، الكواكب السبعة تحت السماوات السبع، والله أعلم أين تنتهي السماء الدنيا. {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} أي متلألئاً وقاداً، يعني به الشمس.

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا وجنات ألفافا)

تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً وجنات ألفافاً) قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:14 - 16]. {وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} المعصرات هي السحائب شارفت أن تعصر بالمطر. وقيل: المعصرات هي الرياح التي تأتي بالمطر. وقيل: المراد بالمعصرات السماء. فكلمة (المعصرات) تطلق على الرياح، وعلى السحب، وعلى السماء، لكن أقربها هنا أن المراد بالمعصرات السحاب. ((مَاءً ثَجَّاجاً)) أي: منصباً متتابعاً، والثجاج: هو السريع الاندفاع كما يندفع الدم من عروق الذبيحة، وفي الحديث: (أفضل الحج العج والثج) العج: رفع الأصوات بالتلبية، والثج: هو إراقة الدماء تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} قال ابن جرير: الحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد، والنبات الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع. يقول الزمخشري: يريد ما يتقوت من نحو الحنطة والشعير، وما يعتلف من التبن والحشيش كما قال تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54]. {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} أي: حدائق ملتفة الشجر مجتمعة الأغصان. قال الرازي: قدم الحب؛ لأنه الأصل في الغذاء، وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه، وأخر الجنات؛ لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية. ثم قال: وكان الكعبي من القائلين بالطبائع، فاحتج بقوله تعالى: (لنخرج به حباً ونباتاً) على بطلان قول من قال: إنه تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر، أي أن ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه سبحانه بحكمته الباهرة نظام العمران. على أي الأحوال هذا منهج الرازي المفسر المعروف حينما يذكر الشبهات، وهذه من عيوبه الساذجة في تفسيره أنه يذكر استدلال أهل البدع بشتى مذاهبهم وفرقهم في القرآن الكريم، حتى إذا ما بدأ يرد عليها يكون قد أنهكت قواه. إننا نحذر من القراءة في تفسير الرازي بسبب انحرافه في العقيدة، إلا لمن عنده علم ويستطيع أن يمحص هذا الفهم. عموماً الرازي من آفات تفسيره كثرة حكاية الشبهات وأقوال المنحرفين في عقائدهم وأهل البدع، وضعف الردود عليهم أحياناً.

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتا فتأتون أفواجا)

تفسير قوله تعالى: (إن يوم الفصل كان ميقاتاً فتأتون أفواجاً) قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ:17 - 18]. {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} (ميقاتاً) مفعالاً من الوقت، وميعاداً من الوعد. ((إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ)) أي: يوم يفصل بين الناس وتميز السعداء من الأشقياء باعتبار تفاوت الأعمال، وهو يوم القيامة. (كان) أي: عند الله وفي علمه وحكمه. (ميقاتاً) أي: حداً معيناً ووقتاً مؤقتاً ينتهي الخلق إليه ليرى كل جزاء عمله. {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} (يوم) هذا بدل من يوم الفصل، أو عطف بيان، كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها إلى الحياة والحشر في الآخرة. وقال الإمام محمد عبده: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والصحيح أن المقصود بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه لبعث الناس، وهو قول الجمهور. وزعم بعضهم أن الصور جمع صورة، أي يوم يرد الله فيه الأرواح إلى الأبدان، والأول أشهر وبه تظاهرت الآثار، وهو ظاهر قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. (فتأتون أفواجا) الأفواج: الجماعات يتلو بعضها بعضاً، واحدها فوج، أي: فرقاً مختلفة كل فرقة مع إمامهم على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.

تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت سرابا)

تفسير قوله تعالى: (وفتحت السماء فكانت سراباً) قال تعالى: {وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} [النبأ:19 - 20]. وقرئ (وفتِّحت السماء) بتشديد التاء على المبالغة. قال ابن جرير: أي: وشققت السماء وصدعت فكانت طرقاً، بعد أن كانت شداداً لا فطور فيها ولا صدوع، أما في يوم القيامة فإنها تتشقق ويحصل فيها هذه الفطور كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25] فهذا الفتح هو المذكور في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1]، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، بالفتح والتشقق والتفطر، وهذا كما قال ابن جرير: مثل للغاية. {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} أي: نزعت بكاملها في الهواء، وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء مفرقة كالهباء، وفي الآية تشبيه بليغ، والجامع أن كلاً منهما يرى على شكل شيء وليس هو به، فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك، والجبال إذا فتت وارتفعت في الهواء ترى كأنها جبال وليست بجبال، بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105] * {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:106 - 107] فقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88].

تفسير قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصادا جزاء وفاقا)

تفسير قوله تعالى: (إن جهنم كانت مرصاداً جزاء وفاقاً) قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:21 - 26]. قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} أي: موضع رصد، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] أي: إن جهنم معدة مترصدة تتطلع لمن يأتي، منتظرة الجزاء والحساب، يقال: أرصده إذا تتبعه وترقبه، فكذلك جهنم فهي معدة مترقبة تتطلع لمن يأتي. و (مرصاداً) صيغة مبالغة كما تقول: معصار، أي كثير العصر. قوله: (إن جهنم كانت مرصاداً) أي: يكثر منها انتظار الكفار. وقيل: يرصد خزنتها من كان يكفر بها وبالمعاد، وهذا على أن (مرصاداً) اسم مكان، أي: الموضع الذي يرصد خزنة جهنم ويترقبون من كان يكذب بها وباليعاد. {لِلْطَّاغِينَ مَآباً} أي للذين طغوا في الدنيا بالظلم، أو في دينه بالكفر، فتجاوزوا حدود الله استكباراً على ربهم. فمعنى: (لِلْطَّاغِينَ مَآباً) أي: منزلاً ومرجعاً يصيرون إليه. {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} جمع حقب، والحقب هي الدهور المتتابعة إلى ما لا نهاية لها كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:57] وكقول متمم بن نويرة وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ((لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً)) أي: غوثاً وراحة. وبرداً قيل: هو النوم لأنه يبرد العصب، ومن كلامهم منع البرد البرد، يعني: منع الهواء البارد النوم. قال الله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر:36] والنوم أخو الموت، فهم أيضاً لا ينامون لأن النوم مصدر راحة فهم يمنعون من ذلك، وقيل البرد هو الهواء البارد وهو القر، وعن ابن عباس: (البرد الشراب المستلذ) يطلق عليه الشراب كما قال الشاعر: أماني من ليلى حسان كأنها سقتني بها ليلى على ظمأ بردا يعني: شراباً. منى إن تكُن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا {إِلاَّ حَمِيماً} أي: إلا ماء حاراً في منتهى غليانه. {وَغَسَّاقاً} أي: صديداً، وهو ما يخرج من جلودهم يجتمع في حياض فيسقونه والعياذ بالله. {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] أي: جوزوا بذلك جزاء موافقاً لما اكتسبوه من الأعمال، وقدموه من العقائد والأقوال.

تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا لا يرجون إلا عذابا)

تفسير قوله تعالى: (إنهم كانوا لا يرجون إلا عذاباً) قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} [النبأ:27 - 30]. {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} * {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً} أي: يعذبون ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل، من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات، فلم يعملوا صالحاً رجاء الجزاء ولم يعلموا علماً فيصدقوا بالآيات. فقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً} أي: لا يتوقعون حساباً. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} أي: كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتاب عليهم في صحائفهم وكتبهم. {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} أي: يقال لهم: ذوقوا؛ تقريعاً وتأنيباً لهم من تكثيف العذاب، وإعلاماً بمضاعفته، قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] وقال تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] والعياذ بالله.

تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازا عطاء حسابا)

تفسير قوله تعالى: (إن للمتقين مفازاً عطاء حساباً) قال تعالى: ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً)) [النبأ:31] ((حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً)) [النبأ:32] ((وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً)) [النبأ:33] ((وَكَأْساً دِهَاقاً)) [النبأ:34] ((لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً)) [النبأ:35] ((جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً)) [النبأ:31 - 36]. لما ذكر عز وجل وعيد الكفار أعقبه بوعد الأبرار فقال عز وجل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} أي: فوزاً بالنعيم، ونجاة من النار التي هي مآل الطاغين والمفاز هو موضع الفوز؛ لأنه يحجب عن النار ويدخل الجنة، وقيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة؛ تفاؤلاً بالخلاص منها. {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} والحدائق جمع حديقة، وهي البستان الذي فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به، والأعناب معروفة. قال ابن جرير: (وأعناباً) أي: وكروماً وأعناباً، فاستغنى بالأعناب عنها. {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} أي: نواهد لم تتدل ثديهن. (أتراباً) أي: متساويات في السن، يعني: إذا ولد مولودان في وقت واحد ومسّا التراب في وقت واحد فهنا يقال: هذا ترب فلان. {وَكَأْساً دِهَاقاً} أي: ملئ من خمر لذة للشاربين، والكأس الدهاق هي المترعة المتتابعة الصافية. {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا} أي: في الجنة {لَغْواً} أي: باطلاً من القول. {وَلا كِذَّاباً} أي: مكاذبة يعني: لا يكذب بعضهم بعضاً. وقيل: لا يسمعون كذبا. واللغو هو فسق الكلام؛ لأن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ولم يلغوا، بخلاف أهل الدنيا. وخمر الجنة ليس فيها غول ولا فيها ذهاب العقول كخمر الدنيا، ولذلك لا يلهون ولا يسمعون لغواً بعد ما يشربون من هذه الكئوس؛ لأنها ليست كخمر الدنيا في إذهابها العقول، فلذلك أتبع قوله عز وجل: {وَكَأْساً دِهَاقاً} بتنزيههم عن آثار خمر الدنيا وقال: (لا يسمعون فيها لغواً ولاكذاباً) واللغو والتكذيب من أشد الأذى لقلوب المؤمنين الصادقين، فأراد الله إزاحة ذلك عنهم. {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} أي: جزاء لهم على صالح أعمالهم تفضلاً منه تعالى بذلك الجزاء. (عطاء حساباً) بمعنى: كافياً، من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي، يقول الشاعر: ونكفي وليد الحي إن كان جائعاً ونحسبه إن كان ليس بجائع قوله: (نحسبه) أي: إن كان ليس بجائع نظل نعطيه ونعطيه حتى يقول: حسبي لا أريد المزيد. وقيل: على حسب أعمالهم.

تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن)

تفسير قوله تعالى: (رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن) قال تعالى: {رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} [النبأ:37]. قال ابن جرير: لا يملكون أن يخاطبوا الله، قال: والمخاطب المخاصم الذي يخاصم صاحبه. وقال غيره: أي: لا يملكهم الله منه خطاباً في شأن الثواب والعقاب، بل هو المتصرف فيه وحده، وهذا كما تقول: ملكت منه درهماً، فـ (من) ابتدائية متعلقة بملكت وذكر ابن جرير أنهم لا يمكن أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب. وقيل: (لا يملكون منه خطاباً) أي: لا يملكون من إخباره إن خاطبوه بمعذرة ولا غيرها، وهذا في موطن خاص. وقرئ: (رب) و (الرحمن) بالجر والرفع، وقرئ بكسر الأول ورفع الثاني.

تفسير قوله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا)

تفسير قوله تعالى: (يومَ يقوم الروح والملائكة صفاً) قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38]. (يوم يقوم الروح) أي: جبريل عليه السلام، وهو المعبر عنه بروح القدس في آية أخرى، وفيه أقوال أُخر نقلها ابن جرير وما ذكرناه أصوبها، والتنزيل يفسر بعضه بعضاً، والقرآن دل على أن هذا هو اسم جبريل عليه السلام. فثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له، فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام؛ لأن بعض الناس قالوا: الروح هو القرآن؛ لأن من أسمائه الروح قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] لكن هل يليق هنا أن يكون بالروح القرآن؟! هذا لا ينبغي، لأنه ذكر القيام. فقوله: (يوم يقوم الروح) كقوله: ((تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] فهذا من باب عطف الخاص على العام، أما في هذه السورة: (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) فهو من عطف العام على الخاص. وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102] والقيام يصح من جبريل، والكلام يصح من جبريل، فيصح أيضاً أن يؤذن له. (والملائكة صفاً) أي: صافين في مراتبهم، كما قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:164 - 165]. قال الرازي: يحتمل أن يكون المعنى صفاً واحداً، ويحتمل أنهم صفان، ويجوز صفوفاً، والصف في الأصل مصدر، لأن المصدر المنكَّر قد يكون حالاً، قال في الخلاصة: ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع فينبئ عن الواحد والجمع، ورجح بعضهم الأخير لقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وقال تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف:48]. {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} أي: لا يتكلمون في الشفاعة، كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] والضمير يعود على الملائكة، وقد يعم كقوله: {يوم يأت لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود:105]. وقال الزمخشري: هنا طريقتان: أولاً: أن يكون المتكلم منهم مأذوناً له في الكلام، ثانياً: وأن يتكلم بالصواب، فلا يشفع لغير مرتضى، لقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].

تفسير قوله تعالى: (ذلك اليوم الحق كنت ترابا)

تفسير قوله تعالى: (ذلك اليوم الحق كنت تراباً) قال تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:39 - 40]. {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} أي: الواقع الذي لا يمكن إنكاره، والحق صفة أو خبر. {فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} أي: فمن شاء اتخذ للتصديق بهذا اليوم الحق والاستعداد له والعمل بما فيه النجاة مآبا ومرجعاً حسناً يئوب إليه. {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} أي: عذاب الآخرة، وصفه بالقرب لتحقق وقوعه وأنه آت، وكل آت قريب، وهذه قاعدة لا ينبغي أن يغفل عنها الإنسان أبداً، وهي أن كل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بآت، والقرب نسبي، فكل ما هو معدود ومحدود فهو قريب، ولذلك قال اليهود: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] لأن المعدود محدود وله نهاية. فكذلك هنا في قوله تبارك وتعالى: (إنا أنذرناكم عذاباً قريباً). وأما قربه فلأن مبدأه الموت يوم القيامة؛ لأن الإنسان ينتقل بالموت إلى الدار الآخرة. {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي: ينظر جزاءه من خير أو شر. {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} أي: يا ليتني كنت في الدنيا تراباً؛ لأن التراب لن يحاسب أو يلتفت إليه. ومثل هذا الكلام قد يصدر من المؤمنين الخائفين أهل الخشية، كقول عمر رضي الله تعالى عنه: ليتني كنت بعرة! وكقول بعضهم: يا ليت أمي لم تلدني! خوفاً من الحساب يوم القيامة. وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو كنت يوم القيامة بين الجنة والنار لاخترت أن أكون تراباً قبل أن أصير إلى إحداهما). يعني: ما دام يوجد احتمال أن يكون من أهل النار فيؤثر أن يكون تراباً. وعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم: أن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة، فيقتص لبعضها من بعض، ثم يقول لها من بعد ذلك: كوني تراباً فيعود جميعها تراباً، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله وقال: (يا ليتني كنت تراباً). وقال أبو القاسم بن حبيب: رأيت في بعض التفاسير أن الكافر هنا إبليس، فهو إذا رأى ما حصل للمؤمنين من بني آدم من الثواب قال: (يا ليتني كنت تراباً) أي: كآدم الذي خلق من تراب، وهو قد احتقر آدم أولاً لأنه خلق من تراب حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. وهي عامة في كل كافر لقوله: (ويقول الكافر) فإنها صيغة عموم، وأولى الكفار بذلك إبليس عليه لعنة الله. والله أعلم.

التكوير والانفطار

تفسير سورة التكوير والانفطار

تفسير الآيات من قوله: (وإذا الصحف نشرت علمت نفس ما أحضرت)

تفسير الآيات من قوله: (وإذا الصحف نشرت علمت نفس ما أحضرت) قال تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:140 - 14]. (وإذا الصحف نشرت) أي: صحف أعمال العباد نشرت لهم، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات. (وإذا السماء كشطت) أي: قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]. (وإذا الجحيم سعرت) أي: أوقد عليها فأحميت، قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. (وإذا الجنة أزلفت) أي: قربت للمتقين. (علمت نفس ما أحضرت) أي: علمت كل نفس عند ذلك ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار. أي: أن المراد من قوله: (علمت نفس ما أحضرت) أنه تبين لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. وقوله: (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط، كل ما سبق من الشروط من قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس)

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15 - 16]. (الخنس) هي الرواجع من النجوم، من خنس إذا رجع وتأخر. قال الزمخشري: الخنس الرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله. والجوار جمع جارية من الجري. وأصلها (الجواري) بالياء. (الكنس) أي: تغيب وتدخل في بروجها التي تغيب فيها. مأخوذة من كنس الوحش إذا دخل في كناسه، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صارت الغلبة في استعماله على الحقيقة.

تفسير قوله تعالى: (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس)

تفسير قوله تعالى: (والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس) قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير:18]. (عسعس) أي: أدبر بظلامه ولم يبق منه إلا اليسير، وذلك وقت السحر آخر جزء من الليل. {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}، أي: أقبل وتبين. أو إذا هب نسيمه اللطيف. أو إن زالت عنه غمة الليل وكربته، فتقول: تنفست بعد هذه الكربة، وهذا تشبيه بمن نفست عنه كربة باعتبار أن الليل كربة، فزال عنه ذلك الظلام. إن لله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه، لكنه لا يقسم إلا بما فيه آيات ودلائل على قدرته وحكمته تبارك وتعالى، ومع ذلك أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأجرام السماوية، وفي أثناء القسم بها وصفها بما ينفي عنها صفة الألوهية؛ وذلك في قوله: (فلا أقسم بالخنس) وهي الرواجع من النجوم فهي تسترجع بعدما تغيب، فكذلك قوله: (والجوار الكنس) أي: التي تغيب وتدخل في بروجها، فذهابها وغيابها يدل على حدوثها وأنها مخلوقة لله سبحانه وتعالى. فالخنوس والكنوس هو الغياب، قال عز وجل: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] فالإله الحق لا يأفل ولا يغيب عن خلقه، فهذا تقريع لمن خصها بالعبادة، واتخذها من دونه أرباباً. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بامتداد الظلمة، بعدما استعادت أسباب نشاطها، وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات، والاستعداد لما هو آت.

تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم)

تفسير قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم) يقول تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]. أي: أنه روح القدس الذي ينفث في روعه صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. هذا هو جواب القسم لما تقدم. المقصود بنسبة القول إلى جبريل عليه السلام: (إنه لقول رسول كريم) أنه يبلغ الوحي من الله سبحانه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله تبارك وتعالى في سورة الحاقة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:38 - 42] فالمقصود بالرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه قال: (وما هو بقول شاعر)، (ولا بقول كاهن). فنسب القول مرة إلى الرسول الملكي، ومرة إلى الرسول البشري؛ باعتبارهما مبلغين عن الله، فالرسول الملكي واسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين النبي عليه الصلاة والسلام؛ والنبي عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين خلقه في إبلاغهم ما أوحي إليه، لكن في الحقيقة هو كلام الله عز وجل، فالنسبة لمعنى التبليغ وحمل هذه الأمانة والرسالة. قوله: (إنه) هذه الهاء إما أنها للبعث والجزاء والنشور؛ لأن البعث والجزاء والنشور مأخوذ من قوله تبارك وتعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14]؛ لأن النفس لا تعلم ما أحضرت إلا في يوم البعث والنشور. وإما أنها للقول المذكور، وهو القرآن الكريم.

تفسير قوله تعالى: (ذي قوة وما صاحبكم بمجنون)

تفسير قوله تعالى: (ذي قوة وما صاحبكم بمجنون) قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19 - 22]. {ذِي قُوَّةٍ} أي: قوة على تحمل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تبارك وتعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وهو جبريل عليه السلام. قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي: صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تبارك وتعالى. قوله تعالى: {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في الملأ الأعلى. (أمين) على وحيه ورسالته. قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} أي: ليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن يتكلم عن ذلة ويهذي هذيان المجانين، كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه صلى الله عليه وسلم حسداً وجرماً. وفي قوله: (صاحبكم) تكذيب لهم بألطف وجه، إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم، وأنتم تعرفونه جيداً بأنه أتم الخلق عقلاً، وأرجحهم قولاً، وأكملهم خلقاً، وأتقاهم لله، فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون، فالله در البحتري إذ يقول في القصيدة التي مطلعها: في الشيب زجر له لو كان ينزجر وبالغ منه لولا أنه حجر إلى أن قال: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر يعني: إذا الخصم رأى المحاسن التي أدل بها وأفخر بها ذنوباً وتقصيراً فكيف أعتذر؟! فكذلك هنا قوله تبارك وتعالى: (وما صاحبكم بمجنون) فهو صاحبكم وأنتم تعرفون أنه منزه عن الكذب، وتقرون بأنكم ما جربتم عليه كذباً قط، حتى كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه بالأفق المبين)

تفسير قوله تعالى: (ولقد رآه بالأفق المبين) قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23]. أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق الأعلى على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح. قال ابن كثير: والظاهر والله تعالى أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية فهي المذكورة في قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13 - 15] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء. والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليه السلام أن أمره مبني على مشاهدة وعيان لا على ظن وحسبان، فما سبيله كذلك فلا مدخل للريب والتكذيب فيه. فالله سبحانه وتعالى هنا ينزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن كل هذه الأشياء المسماة بالخيالات والعوارض، فهو صلى الله عليه وسلم حينما رأى الملك رآه حقيقة، وليس كما يتخيل المجنون أنه يرى أشياء لا حقيقة لها، بل هي رؤية حسية بعينه، وليست خيالاً. (ولقد رآه) حقيقة، وحسب المكان قال: (بالأفق) أي: في الأفق المرتفع الظاهر. (المبين) أي: الواضح الذي لا شك فيه.

تفسير قوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين)

تفسير قوله تعالى: (وما هو على الغيب بضنين) قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24]. (وما هو على الغيب بضنين) أي: ببخيل، قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم من الوحي بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء: يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسي: المعنى: أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلانه حتى يأخذ عليه حلواناً. وقرئ: (وما هو على الغيب بظنين) بالظاء أي: وما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب. قال القاشاني: لامتناع استيلاء شيطان الوهم من التخييل عليه فيخلف كلامه أو يمزج المعنى القدسي بالوهمي والخيالي. كما قال هرقل لـ أبي سفيان: (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الرب سبحانه وتعالى). فيما يتعلق بقراءة: (وما هو على الغيب بظنين) يقول الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وأولى القراءتين في ذلك عندي هي ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به وذلك بالضاد؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. ثم يقول: فأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول: وما محمد على ما علمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين: أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل. ثانيهما: أن الضاد والظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة قراءة إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة. أقول: وهو كما قال، ويعرفه من قرأ الخط المسند، وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما يتوهم؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة، ولابد مما ذكره أبو عبيدة بأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثماني، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى. وقال ابن كثير: وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم.

تفسير قوله تعالى: (وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون)

تفسير قوله تعالى: (وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون) قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:25 - 26]. أي: ما هو من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام، كما في قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212] فهذا أيضاً نفي لقولهم: إنه كهانة، فرد الله هذا بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}. {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} أي: أي مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة، لا جرم أنكم بعد هذه المزاعم في الوحي قد بعدتم عن الصواب. قال الزمخشري قوله تعالى: (فأين تذهبون) استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين رب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (إن هو إلا ذكر للعالمين رب العالمين) قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:27 - 29]. (إن هو) أي: القرآن المتلو عليكم. (إلا ذكر للعالمين) أي: تذكرة وعظة للعالمين، يتذكرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير بمقتضى الفطرة، وما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أضرار الاستماع. قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} بدل من العالمين، أي أنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على طريق الحق، لصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه؛ لأن من أعرض ونأى فمن أين تنفعه الذكرى وقد زاده الران عمى؟! قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: وما تشاءون شيئاً من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم، والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار هو الإعلام بالافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عز وجل عليه، فهو خاضع لسلطان مشيئته مقهور تحت سبيله وإرادته.

تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب)

تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب) قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1 - 5]. نشرع بإذن الله في تفسير سورة الانفطار وهي السورة الثانية والثمانون حسب ترتيب المصحف الشريف، وهي مكية، وآيها تسع عشرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} أي: انشقت كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}. {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} أي: تساقطت، والانتثار يراد به إنزال الكواكب، حيث شبهت بجواهر قطع سلكها فتناثرت وتساقطت.

تفسير قوله تعالى: (وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت)

تفسير قوله تعالى: (وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت) {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي: فتح بعضها إلى بعض؛ لزلزلة الأرض وارتجاجها. {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} أي: قلب ترابها وأخرج موتاها، وأصل البعثرة من بعثر التراب أي: بدله، وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته؛ لأن الإنسان إنما يحفر في الأرض من أجل أن يبحث على حاجة تحت التراب. وقد يراد به البعث والإخراج يوم القيامة من القبور التي دفنوا فيها أحياء. قال بعض أئمة اللغة كـ الزمخشري وغيره: إن كلمة بعثر مركبة من كلمتين: البعث، والبحث، لكن دمجت الكلمتان اختصاراً، ومثله كثير في لغة العرب، وهذا يسمى بالنحت، مثلما تقول: بسمل، أي: قل: بسم الرحمن الرحيم، وكذلك تقول: حوقل، أي: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله. فعلى هذا يكون معنى (بعثرت) النبش والإخراج معاً. (علمت نفس ما قدمت) أي: لذلك اليوم من عمل صالح أو سيء. (وأخرت) أي: تركت من خير أو شر. أو: علمت نفس ما قدمت من عمل خير لم تقصر فيه. (وما أخرت) أي: ما قصرت فيه. فالمراد بالعلم بالتقديم والتأخير وجدان الجزاء عليهما؛ لأن (علمت نفس) يعني: وجدت الجزاء عليهما، وتحقق مصداق الوعد عليهما.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ما شاء ركبك)

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ما شاء ركبك) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8]. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه والانحراف عن فطرته. وذكر الكريم للمبالغة في المنع عن الاغترار؛ لأنه بمعنى العظيم الجليل الكامل في نعوته، ومن كان كذلك فجدير بأن يرهب عقابه ويخشى انتقامه وعذابه، لاسيما وله من النعم العظيمة والقدرة الكاملة، ما يزيد في الرهبة كما قال: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} أي: جعلك سوياً متكامل الأعضاء والقوى. وأصل التسوية جعل الأشياء على سواء، فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها لإعطائها ما تتم به. (فعدلك) أي: جعلك معتدلاً، متناسب الخلقة، معتدل القامة، وليس كالبهائم التي تمشي على الأربع. وقرئ بالتخفيف: (فعدَلَك) أي: صرفك عن خلقة قبيحة إلى خلقة حسنة تميزت بها على سائر الحيوان. قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} أي: في أي صورة شاءها ركبك عليها، فقد ركبك في صورة هي أبدع الصور وأعدلها. فأي استفهامية، والقصد أن من خلق هذا الخلق البديع وسواه وعدله بقدرته وتقديره، حتى أحكم صورته في ذلك التصوير، لجدير بأن يتقى بأسه ويحذر بطشه ويرهب أشد الترهيب.

أقوال العلماء في الفرق بين الرجاء وحسن الظن وبين الغرور

أقوال العلماء في الفرق بين الرجاء وحسن الظن وبين الغرور يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي: فليحذر مغالطة نفسه على هذه الأسباب، وهذا من أهم الأمور؛ فإن العبد يعرف أن المعصية والغفلة من الأسباب المضرة له في دنياه وأخراه ولابد، ولكن تغالطه نفسه. ثم يقول: ومنهم من يغتر بفهم فاسد فهمه هو وأضرابه من نصوص القرآن والسنة فاتكلوا عليه. ثم قال: وكاغترار بعض الجهال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فيقول: كرمه، وقد يقول بعضهم: إنه لقن المغتر حجته. وللأسف أن هذا مذكور في بعض كتب التفاسير. قال: كأنه إذا قيل لك: ما غرك بربك الكريم فقل له: كرمك أو لأنك كريم، وهذا جهل قبيح وإنما غره بربه الغرور: {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو الشيطان، ونفسه الأمارة بالسوء، وجهله وهواه، وأتى سبحانه بلفظ (الكريم) وهو السيد العظيم المطاع الذي لا ينبغي الاغترار به، ولا إهمال حقه، فوضع هذا المغتر الغرور في غير موضعه، واغتر بمن لا ينبغي الاغترار به. يقول الغزالي رحمه الله تعالى: وفي مثل هذا الغرور يجب على العبد أن يستعمل الخوف، فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه. ويقول: مع أنه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:3] ومع أنه كريم فقد خلد الكفار في النار أبد الآباد، مع أنه لم يضره كفرهم، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا، وهو قادر على إزالتها. وهو سبحانه قد خوفك عقابه فكيف لا تخافه؟! وكيف تغتر به؟! فالتعلق بكرم الله عز وجل بهذا المعنى ليس في الحقيقة رجاء، وإنما هو اغترار وحمق، فالخوف والرجاء يبعثان الناس على العمل، فما لا يبعث على العمل تزيين وغرور. ورجاء كافة الخلق هو بسبب قصورهم وبسبب إقبالهم على الدنيا، وبسبب إعراضهم عن الله تعالى، وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور. وقد روي: أن الغرور يغلب على قلوب آخر هذه الأمة. وقد كان ذلك، فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات، ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، يخافون على أنفسهم، ويقضون الليل والنهار في طاعة الله، يداومون على التقوى والحذر من الشبهات والشهوات، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين، مع إكبابهم على المعاصي وانغماسهم في الدنيا، وإعراضهم عن الله تعالى، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله، راجون لعفوه ومغفرته، كأنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فالأنبياء والصالحون يعرفون أن الله كريم ولم يفعلوا ما تفعلون، فإذا كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى، فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم. قال الغزالي: والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمناً بما فيه، وترى الناس يهذونه هذاً -يعني: يقرءونه قراءة سريعة لا تدبر فيها- يخرجون الحروف من مخارجها، ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرءون شعراً من أشعار العرب، لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه، وهل هناك غرور أكثر من هذا؟!

تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين يعلمون ما تفعلون)

تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين يعلمون ما تفعلون) قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:9 - 12]. {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أي: لا شيء يغرك ويخدعك بربك الكريم، بل سعة عطاء ربك وحكمته في كرمه تدلك وتوحي إلى نفسك أنك مبعوث في يوم آت، فيه ثواب أو عقاب، وإنما الذي يقع منك أيها الإنسان هو العناد والتكذيب بيوم الدين يوم الجزاء، مع أن الله تعالى لم يترك عملاً من أعمالك إلا حفظه وأبقاه عليك حتى يوفيك جزاءه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} أي: رقباء يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم. {كِرَامًا كَاتِبِينَ} أي: يكتبون ما تقولون. {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} أي: من خير أو شر، أي: يحكونه عليكم فلا يغفلون ولا ينسون. قال الرازي: إن الله تعالى أجرى أموره مع عباده على ما يتعاملون به فيما بينهم؛ لأن ذلك أبلغ في تقرير المعنى بينهم، ولما كان الأبلغ عندهم في المحاسبة إخراج الكتاب بالشهود عند المحاسبة، فخوطبوا بمثل هذا فيما يحاسبون به يوم القيامة: فتُخْرج لهم كتب منشورة ويُحْضر بذلك ملائكة يشهدون عليهم، كما يشهد عدول السلطان على من يعصيه ويخالف أمره، فيقولون له: أعطاك الملك كذا وكذا وفعل بك كذا وكذا، ثم قد خالفته وفعلت كذا وكذا، فكذا هاهنا والله أعلم. يكفي أن نوجز بأن الملائكة الكرام الكاتبين هم حفظة يحفظون أعمال العباد ويدونونها، عن اليمين وعن الشمال قعيد، أما كيف يكتبون فهذا غيب لا ينبغي إدراكه ولا علم حقيقته، بل يجب أن نكل علمه إلى الله.

تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وما هم بغائبين)

تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وما هم بغائبين) قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار:13 - 16]. {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أي: إن الذين بروا بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه في الجنة ينعمون فيها، والأبرار جمع بر، وهو المتصرف بالبر أي الطاعة. قال الأصفهاني: وقد اشتمل على البر قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} أي: الذين انحرفوا عن أمر الله وخالفوه. قوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} أي: يوم يدان العباد بالأعمال فيجازون بها. قوله: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} أي: بخارجين؛ لأنهم مخلدون في النار.

تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين) إلى آخر السورة

تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما يوم الدين) إلى آخر السورة قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17 - 19]. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}، {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} هذا تفخيم لأمر ذلك اليوم وتعظيم لشأنه، أي: أي شيء أعلمك به؟ فأنت لا تدريه مع أنه من أوجب ما تهمك درايته والبحث عنه، والخطاب للإنسان المتقدم أول السورة: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] فهنا يخاطبه الله بقوله: (وما أدراك) أي: يا أيها الإنسان (ما يوم الدين) (ثم ما أدراك ما يوم الدين). ثم فسر تعالى بعض شأنه ذلك اليوم فقال: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} أي: لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى. {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي: أمر الملك الظاهر ونفوذ القضاء القاهر يومئذ لله وحده. وهذا وعيد عظيم من حيث إنه عرفه بأنه لا يغني عنهم إلا البر والطاعة يومئذ، دون سائر ما كان قد يغني عنهم في الدنيا من مال وولد وأعوان وشفعاء. والله أعلم.

المطففين

تفسير سورة المطففين

مقدمة عن سبب تسمية السورة بالمطففين ومكان نزولها وأسباب النزول

مقدمة عن سبب تسمية السورة بالمطففين ومكان نزولها وأسباب النزول نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة المطففين، وهي السورة الثالثة والثمانون في ترتيب المصحف الكريم. قال المهايمي: سميت بالمطففين دلالة على أن من أخل بأدنى حقوق الخلق استحق أعظم ويل من الحق. حيث قال عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3]. فإذا كان من أخل بحقوق الخلق عوقب بالويل الذي هو أعظم العذاب من الله سبحانه وتعالى، فكيف بمن أخل بأعظم حقوق الله على العباد من الإيمان به وبآياته ورسله؟! وسورة المطففين هي سورة مكية على الأظهر، فإن سياقها يؤيد أنها نزلت بمكة لا سيما خاتمتها، فإنها في صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] إلى آخرها. وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد، إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك، فالمنافقون في المدينة ما تجرءوا إلى حد أن يفعلوا ذلك صراحة مع المؤمنين. وأما ما رواه النسائي وابن ماجة كما في ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] فحسنوا الكيل بعد ذلك) فقد ذكرنا مراراً أن سبب النزول في إطلاق السلف لا يكون مقصوراً على سبب النزول؛ لأنه قد تشمل الآية حكمه، فأهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة، وقيل لهم: أنزل الله ما أنتم عليه من تطفيف فأقلعوا، وهذا ظاهر. ومنه يعلم أن قول بعضهم: نزلت بمكة إلا قصة التطفيف وشيئاً آخر، وقولهم: إن كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة، إنما منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتناقل من المأثور في سبب النزول، وبين ما يدل عليه السياق، وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال، ويعلم سبب هذه الحيرة. وكثيراً ما يشير إلى هذا القاسمي رحمه الله تعالى حيث يذكر عدة أسباب للنزول في بعض السور وبعض الآيات، يقول الأول: نزلت في كذا. ويقول آخر: نزلت في كذا، في أشياء متغايرة؛ فلا يستلزم من ذلك تعدد النزول في كل الأحوال, ولا يستلزم التعارض بين هذه الأسباب؛ لأنها تكون قد نزلت لسبب واحد أو لغير سبب أصلاً, إلا أن حكمها ينطبق على هذه الوقائع، فيقال: نزلت فيمن يفعل كذا وكذا، بمعنى أن الحكم الذي تدل عليه الآية يشمل هذا وهذا.

تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين يخسرون)

تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين يخسرون) {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1 - 3]. يقول تبارك وتعالى: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)): أي: هلاك للمطففين. قال الأصفهاني: ومن قال: ويل واد في جهنم، فإنه لم يرد أن ويلاً في اللغة هو موضوع لذلك، وإنما أراد: من قال الله تعالى ذلك فيه فقد استحق مقراً من النار. ثم عرف تعالى المطففين فقال: ((الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)) أي: إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافياً زائداً، على إيهام أن ذلك تمام الكيل، فإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أقل مقداراً ففي الوزن بطريق الأولى. وهنا يقول الله: ((الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ)) ولم يقل: الذين إذا اكتالوا من الناس، فكلمة: (على) قدرت بـ (من) للإشارة إلى ما في عملهم المنكر من الاستعلاء والقهر، وبيان شأن الظالم المتحامل المتسلط الذي لا يستبرئ لدينه ولذمته. ((وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) أي: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصونهم حقهم الواجب لهم، وهو الوفاء والتمام في الكيل والوزن. قال ابن جرير: من لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك، وكلتك طعامك. بمعنى: وزنت لك وكلت لك. وفي الإكليل: في الآيتين ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن. أي: أنه من المنكر ومن المحظورات أشد الحظر؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع ولو في شيء قليل؛ لأن من دنت نفسه إلى القليل فطويته فاسدة وملكته خبيثة، وأنه لا يبعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة. يعني: لو كان قادراً على أن يستولي على ما ليس بحقه لفعل، ولو لم يكن عليه رقيب لأخذ ما استطاع، ولو لم يكن من حقه. قال ابن جرير: وأصل التطفيف من الشيء الطفيف، والطفيف هو القليل النزر، والمطفف المقلل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن، ومنه قيل للقوم الذين يسيرون سواءً في حسبة أو عدد: هم سواء كطف الصاع. وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان, فقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:9] وقص علينا سبحانه أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال.

تفسير قوله تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون لرب العالمين)

تفسير قوله تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون لرب العالمين) {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6]. يقول الله سبحانه متوعداً لهم: ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)) يعني: من قبورهم بعد مماتهم. ((لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)) أي: عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع، من خسر فيه أدخل ناراً حامية. ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) أي: لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون، في موقف يغشى العبد فيه من الهول ما يود الافتداء بكل مستطاع. وفي تأكد الويل للمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين مبالغة في المنع عن التطفيف وتعظيم حرمه؛ لأنه بعدما ذكر أحوالهم: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:2 - 3] قال: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:5 - 6]، مع اسم الإشارة الدالة على التبعيد ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ)) أي: البعداء الذين هم بعيدون؛ تحقيراً لهم. وقوله: ((لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)) فيه وصف يوم القيامة بالعظمة أيضاً. وقوله: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) هذا يدل على استعظام ما استسصغروه، يعني: هم يستصغرون هذا اليوم لكنه عظيم. وقوله تعالى: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) فعنوان رب العالمين المالكية والتربية، لأنه هو الذي يملكهم وهو الذي يربيهم, الدال على أنه لا يفوته ظالم قوي، ولا يترك حق مظلوم ضعيف، واقتضت حكمته ألا يهمل مثقال ذرة من خير أو شر. وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه, وأن من لا يهمل مثل هذا كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده؟! وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة، فتأمل هذا المقام ففيه ما تتحير فيه الأفهام. يعني: وصفهم بصفة الكفرة بقوله: ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ)) أي: إن كانوا من المسلمين المصدقين فقد تشبهوا بمن لا يؤمن بيوم الحساب ولا بالبعث والنشور, ولو كانوا يؤمنون لاتقوا الله وخشوا حسابه على هذا التطفيف؛ لأن الكافر الذي لا يؤمن بيوم الحساب لا يبالي بأكل أموال الناس.

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين كتاب مرقوم)

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين كتاب مرقوم) يقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:7 - 9]. قوله تعالى: ((كَلَّا)) هذا اللفظ فيه ردع عن التطفيف الذي يقترفونه؛ لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف استيقانهم به. قوله: ((كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)) أي: ما كتب فيه من عملهم السيئ وأحصي عليهم، وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ وهو الفجور. وفي غير القرآن كان يمكن أن يقال: كلا إن كتابهم لفي سجين. والضمير يعود على المطففين، لكن أوثر اللفظ الصريح المظهر وهو قوله تعالى: ((الفُجَّارِ)) لأن في العدول عن الضمير إلى المظهر إشعاراً بوصف لهم ثانٍ. الوصف الأول: التطفيف، الوصف الثاني: الفجور, فلو أشار إلى الضمير لما شعر أحد بالوصف الثاني وهو الفجور. وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ وهو الفجور، لخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها في الشرع والعقل. يعني: أن وصفهم بالفجور يفيد أنهم خارجون عن العدالة التي اتفق عليها العقل والشرع معاً. قوله: ((كِتَابٌ مَرْقُومٌ)) أي: مكتوب بيّن الكتابة، أو فيه علامة تنبئ عن صدقه. ((كلا إن كتاب الفجار لفي سجين)) وسجين على وزن فعيل من السجن وهو الحبس والتضييق؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، فهو بمعنى فاعل في الأصل، أو بمعنى مفعول، أي: مسجون لما ذكر في مكان مظلم. وقيل: سجين اسم مكان، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده، والتقدير: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ)) ما كتاب سجين؟ أو ما محل كتاب سجين؟ فحذف المضاف. وقيل: إنه مشترك بين المكان والكتاب. وقال الأصفهاني: السجين اسم لجهنم بإزاء عليين. يعني: في مقارنة عليين تسمى جهنم سجين. وقيل: وزيد في لفظه تنبيهاً على زيادة معناه. وقيل: هي اسم للأرض السابعة. ثم قال: وقد قيل: إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله: (وما أدراك) فسره، وكل ما ذكره من قوله: (وما يدريك) تركه مبهماً. يعني: إذا جاءت في القرآن الكريم لفظة: (وما أدراك)، فإن القرآن يبينها ويشرحها في السياق، أما قوله تعالى: (وما يدريك) فإنه يتركه مبهماً، مثل قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] أما لفظة (وما أدراك) فمثل: {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1 - 3]. وهنا أيضاً: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:8 - 9] وكذلك قوله عز وجل بعد ذلك: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:19] ثم فسر الكتاب. فقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:8 - 9] أي: ذلك الكتاب المكتوب فيه أعمالهم هو كتاب مرقوم، كتبت فيه أعمالهم وما في ضمائرهم وقلوبهم.

تفسير قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين قال أساطير الأولين)

تفسير قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين قال أساطير الأولين) يقول الله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المطففين:10 - 13]. (يكذب بيوم الدين) الدين بمعنى الحساب والمجازاة، وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف؛ لأن إصرارهم على التعدي والإجرام يدل على عدم الإيمان بالبعث، فقوله تعالى هنا مباشرة بعد أن انتهى الكلام عن المطففين: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)) يشعر أن هؤلاء المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف, وهو أنهم يكذبون بيوم الدين؛ لأن الذي يكذب بيوم الدين لا يبالي بما يقع، ولا يخشى حساباً ولا عقاباً، فبالتالي لا ينزجر عما تقوده إليه أهواؤه. إذاً: إصرار هؤلاء المطففين على التعدي والإجرام وانتقاص حقوق الناس يدل على عدم تصديقهم بالبعث، كما قال تعالى في آية أخرى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل:105] وهذه المعاصي تليق بالذين لا يؤمنون ولا يخافون يوم الحساب، فلا يبالون بما يأتونه وما يفعلونه من الجرائم، فكذلك لا تصدر هذه الأخلاق كالتطفيف ونحوه إلا ممن يكذب بيوم الدين، فهذه الأخلاق لائقة بهم. قوله تعالى: ((وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ)): أي: كل مجاوز للفطرة الإنسانية، بتجاوزه حد العدالة إلى الإفراط في ارتكاب البغي والعدوان. قوله: ((أثيم)) , أي: مبالغ في ارتكاب أفاعيل الإثم وأنواع المعاصي. قوله تعالى: ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أي: هذا القرآن حكايات وقصص وأخبار الأولين، وليس بوحي رباني ولا تنزيل إلهي.

تفسير قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)

تفسير قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. يقول تعالى: ((كَلَّا)) أي: ليست هذه الآيات بأساطير الأولين، بل هي الحق المبين وشفاء لما في الصدور. قوله: ((بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) أي: غطى على مداركهم ما اكتسبوه من الآثام، حتى كدر جوهرها, وصار صدأً عليها بالمكوث فيها. أي: إن السبب الذي حال بينهم وبين الإيمان بالحق وبآيات الله مع وضوح البراهين على أنها من عند الله كامن في الظلم؛ لأنهم لكثرة ما ارتكبوا من المعاصي رين على قلوبهم، أي: صار الران يعلو قلوبهم طبقة فوق طبقة حتى أعماها، كما يعلو الصدأ المعدن والحديد حتى يحول بينه وبين اللون الأصلي، فكذلك هذه المعاصي مع تواصلها وإصرارهم عليها وإدمانها ورسوخهم فيها رانت على قلوبهم بما كانوا يكسبون، وبالتالي حصل هذا الغطاء الكثيف على القلب الذي حال دون خروج الكفر منه ودخول الهدى فيه, فهذا هو السبب في ذلك. والرين أصل معناه الصدأ والوسخ والقار الذي لا يزول بالغسيل، وإنما يلتصق تماماً بالشيء ولا يفارقه. وشبه به حب المعاصي الراسخة في النفس, وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكة راسخة لا تقبل الزوال, وصفة في النفس قارة فيها. فكذلك هؤلاء من كثرة ما تكررت منهم المعاصي صار لديهم ملكة راسخة لا تقبل الزوال، وصفة في النفس قارة فيها، فلكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول، كالصدأ الذي لا يزول بسهولة. والران: ما غطى على القلب وركبه من القسوة بسبب الذنب بعد الذنب. فإدمان المعاصي والإصرار عليها وعدم التوبة منها يفسد القلوب ويغلفها بهذا الران، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي لولا أني أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)، وفي رواية: (مائة مرة). فهذا الران نشأ من تراكم المعاصي والإصرار عليها، حتى صار ذلك طبقة راسخة لا يستطاع التخلص منها، فيقال: ران عليه الشراب والنعاس. ران عليه الشراب يعني: غلب على عقله. وران عليه النعاس. يعني: غلب أيضاً على عقله. ونظيره الغين, والمراد هنا ما يتغشى القلب.

تفسير قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم)

تفسير قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم) يقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16]: قال ابن جرير: فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته يصل إليهم, فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته. أي: فهم محجوبون عن رؤية الله تبارك وتعالى التي ينعم بها المؤمنون, ومحجوبون عن كرامة الله أن تصل إليهم. وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب، فيراه تعالى ويرى كرامته، وهؤلاء هم المؤمنون. قال الشهاب: لما كان الحجاب هو الساتر من طرف بيت وغيره استعير تارة لعدم الرؤية؛ لأن المحجوب لا يرى ما حجب، وتارة للإهانة؛ لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء، ولذا قالت العرب: الناس ما بين مرحوب ومحجوب. مرحوب: أي مكرم ومرحب به. محجوب يعني: مهان. ونلاحظ هنا أن وصف المحجوبية إنما هو وصف للمخلوقين وليس وصفاً لله تبارك وتعالى. قوله: ((ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ))، أي: محترقون بها؛ لأن صال بمعنى دخل، أي: دخل الجحيم ليعذب فيها ويحترق بها. وقد أشار القاشاني إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة، وهو أن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالطبع على قلوبهم من الرسوخ فيها كدر جوهرها وغيرها عن طباعها، فعندها تحقق الحجاب, وانغلق باب المغفرة، ولذلك قال: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)) لامتناع قبول قلوبهم للنور. أي: أن قلوبهم لا يصل إليها النور بسبب هذه الحجب وهذا الران الذي جاء بسبب إصرارهم على المعاصي. يقول: وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري، كالماء الكبريتي مثلاً, إذ لو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهرها، بخلاف الماء الساخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته. يعني: كأنه يشير إلى أن بعض المواد تتغير صفاتها الفيزيائية بالبرودة وبالحرارة, فالماء مثلاً يكون بارداً ويكون ساخناً؛ لكن جوهره لا زال كما هو, بخلاف ما لو حصل تفاعل كيميائي للماء فتتغير مكوناته, فكذلك هؤلاء الكفار، لم يكن التغير مجرد مظاهر قابلة للتغير، بل حصل تغير في جوهرهم وطبيعتهم؛ ولذلك استحقوا الخلود في العذاب، وحكم عليهم بقوله: ((ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ)).

كلام ابن القيم في معنى قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)

كلام ابن القيم في معنى قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون) قال ابن القيم في بدائع الفوائد: في هذه الآية جمع لهم سبحانه وتعالى بين العذابين: عذاب الحجاب وعذاب النار، فألم الحجاب يجعل في قلوبهم وأرواحهم ألماً نفسانياً، تتألم وتتعذب به قلوبهم وأرواحهم، نظير ما تفعله النار في أجسادهم، كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا وأخذ بأشد العذاب. يعني: جمع له هذان الأمران, فرق إلى الأبد بينه وبين أحب إنسان إليه في الدنيا، بالإضافة إلى ذلك عذب أشد العذاب، فجسمه في عذاب، وقلبه وروحه في عذاب، والعياذ بالله. يقول: فإن أخطر عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه, وهي ممنوعة من الوصول إليه, فكيف إن حصل لها مع غياب المحجوب عنها وطول احتجابه بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟! ولذلك فـ ابن القيم يريد أن يبين أن هذا الألم الذي يقع على القلوب والأرواح ألم نفسي أشد بكثير جداً مما يقع على الأبدان، ويزداد العذاب شدة عندما يتوارى هذا المحبوب ويطول احتجابه عنها. يقول: فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه, فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه وتعالى عنها يوم لقائه من الألم والحسرة لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب. يعني: لو أن الإنسان أعمل فكره وأخذ يتأمل كيف تكون حسرته إذا كان من المحجوبين عن الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم, لاتقى أسباب هذا الاحتجاب؛ حتى لا يعذب هذا العذاب. ثم يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم -يعني إلى الموت-. فالرجل العاشق مثلاً لامرأة في غاية الجمال نهايتها الموت. ناهيك عن الأمور الأخرى التي هي دون الموت. يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يصيبهم من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره, ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة. يعني: من فراق ساعة, فالبين هو الافتراق والابتعاد, أي: كل ما حصل هو فراق ساعة من الزمان, فهو يتألم ألماً شديداً, كما يقول الشاعر يرثي أخاه لأمه: وكنت أرى كالموت من بين ليلة فكيف ببين كان ميعاده الحشر. أقول لنفسي في الخلاء ألومها لك الويل ما هذا التذلل والصبر. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له، وما فطرت عليه, وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه. فاعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلق العين للإبصار, والأذن للسمع, والأنف للشم, واللسان للنطق والذوق، واليد للبطش, والرجل للمشي، والروح لمعرفته ومحبته وللابتهاج بقربه والتنعم بذكره، وجعل هذا كمالها وغايتها, فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له وحيل بينها وبينه، بل لا نسبه لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة ألبتة، بل ألمها أشد الألم, وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها, وحيل بينها وبينه, وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها, الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به، والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه. يعني: الإنسان إذا عمر قلبه بمحبة الله سبحانه والأنس به ومعرفته, والعكوف على الشوق إليه، يعيش في الدنيا كأن في صدره جنة، ويرى من النعيم ما لا يوصف، كما قال العلماء في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]: فهذه عامة لا ينبغي تخصيصها بالنعيم في البرزخ ولا بالنعيم في الجنة, بل هي في الدور الثلاثة: في الدنيا, وفي البرزخ، وفي الجنة. ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: ما يصنع أعدائي بي، جنتي في صدري, فأينما رحت فهي معي. يقصد جنة العلم ومحبة الله عز وجل ومعرفته. وقال بعض الصالحين: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة النعيم لجالدونا عليه بالسيوف. أي: لو ذاق الملوك وأبناء الملوك النعيم الذي نتمتع به في قلوبنا من ذكر الله ومعرفته والأنس به ومحبته عز وجل لجالدونا عليه بالسيوف، لكنهم لا يعلمون؛ لأنهم يتلهون بنعيم الدنيا ويرغبون عن ذلك النعيم الحقيقي. فطريق السعادة أن تستقيم على مراد الله, كما قال بعض العلماء: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهي جنة الرضا عن الله سبحانه وتعالى ومحبته. والإنسان يشعر بهذا إذا ذاقه, أما إن كان مجرد خبر فإنه لا يوقن به كما لو ذاقه، كما يقول الصوفية: من ذاق عرف ومن حرم انحرف. ثم يقول: والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به, والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب. يعني: أعظم نعيم في الدنيا هو أن يعمر القلب بمحبة الله، وأعظم نعيم في الآخرة إذا قوبل المحبوب أن يرفع الحجب التي كانت في الدنيا بينه وبينه، كما قال النبي عليه السلام: (حجابه النور, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ففي الآخرة يخلق المؤمن ويخلق أهل الجنة خلقاً بحيث يتحملون رؤية الله تبارك وتعالى، أما في الدنيا فلا يمكن لأحد أن يرى الله: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف:143] هذا الجبل الضخم القوي لم يتحمل فما قوة موسى عليه السلام بالنسبة للجبل؟! لما تجلى الله سبحانه وتعالى للجبل اندك تماماً، فأراد الله أن يبين لموسى أنه بخلقته هذه في الدنيا لا يستطيع رؤيته سبحانه وتعالى, وأما في الآخرة فيخلقون خلقاً جديداً بحيث يطيقون رؤية الله عز وجل, فالله لا يرى بهذه العين الفانية, وإنما يرى بخلق آخر يخلقه الله في جنة الرضوان، وحينئذ يكون أعظم نعيم في حقهم, بحيث إذا نعموا به يتلهون وينسون سائر ما في الجنة من نعيم، فرؤية الله سبحانه وتعالى في اليوم المهيب ورؤية وجهه الكريم وسماع كلامه هو أعظم نعيم على الإطلاق. وفي حديث الرؤية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه) فبعداً وسحقاً لأولئك الكفرة الذين يعيرون المسلمين بأن دينهم يدعوهم إلى الجنة لينالوا فيها المتاع الحسي من الحور العين والأكل والشراب والفاكهة واللحم، وأن نبيهم يغريهم بالشهوات الجسدية، وهذا كله نابع عن جهلهم وحماقتهم وظلمة قلوبهم بالكفر، وهو ناتج عن غلوهم في تحريم الطيبات، فهم ينظرون إلى متع الحس على أنها نجس وخبث، حتى إن القذارة عندهم شيء طيب، والنظافة شيء خبيث ينفرون منه، فانعكس هذا على العقائد عندهم, فهم ليس عندهم شيء اسمه الجنة والنار بالتفاصيل التي نعرفها نحن, والتي امتن الله بها على هذه الأمة المحمدية المصطفاة، كما في كتابها القرآن الكريم وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، أما هؤلاء الضلال فأقصى شئء عندهم هو الدخول في الملكوت. ما هو الملكوت؟ لا يعرفون عنه شيئاً، ونحن امتن الله علينا بالقرآن وبالسنة فجاءت لنا بالتفاصيل لهذه الحياة الغيبية، حتى إننا لنعلم أكل أهل الجنة وملابس أهل الجنة وصفة الجنة وأشجارها وثمارها إلخ, كل هذا كي يكون محرراً وقائداً للمؤمنين إلى السعي لنيل هذا النعيم. ثم لماذا ينسى النعيم الحسي؟ أليس الإنسان مركباً من روح وجسد؟ والروح تتنعم والجسد أيضاً يتنعم، فما الذي يستغربونه من هذا الفضل الرباني الإلهي؟ أيستبعدون أن ينعم الله الروح والجسد؟ ما الذي يستغربه هؤلاء الحمقى ويعيرون به المسلمين ويقولون: إن دينكم يغريكم بالشهوات؟ ثم ما جريمته إن كانت هذه خلقة الإنسان وهذه فطرة الإنسان؟ ومع ذلك فإن أعظم نعيم الجنة في الحقيقة هو النعيم الروحي، وليس الحسي, بدليل الأحاديث التي دلت على أن أهل الجنة إذا تجلى لهم الله سبحانه وتعالى ورأوه عز وجل فإنهم يتلهون عن كل ما في الجنة من ملذات, فينسون الحور العين وغيرها من الملذات، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه). والله سبحانه يقول: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] فرضوان الله أكبر من نعيم الجنة الحسي وملذاتها, وقد عرفنا أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما نلهم النفس، والإنسان إذا نام يبقى يتنفس، فكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح؛ لأنهم في دار ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء، فلذلك لا يتعبدون بالتسبيح، كما هو الحال في الدنيا وإنما التسبيح يأتي بصورة لا إرادية. ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين, وهما ألم الحجاب وألم العذاب. وهما في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16] فألم الحجاب أن يتحسر أهل النار حينما يكونون من المحجوبين عن الله، ولا أمل عندهم أن يروا الله سبحانه وتعالى، فاجتمع لهم ألم الحجاب وألم العذاب أي: عذاب النار. يقول: فكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين وهما: ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم: نعيم الخلد والنظر, ونعيم الأكل والشرب والتمتع بما في الجنة. جمع الله لأهل الجنة

تفسير قوله تعالى: (ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون)

تفسير قوله تعالى: (ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) يقول الله تعالى: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17]. يقال لهم هذا زيادة في التنكيل والتوبيخ، فإن أشد شيء على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يزجر عن شيء وهو يتألم له؛ لأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التخطي عنه كانت في متناوله فأغفلها. يعني: لو أن إنساناً آتاه الله المال فأخذ يبدده في السفاهات والمعاصي والمخالفات، فمثل هذا ينطبق عليه قول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]. ((ملوماً)) أي: أن الآخرين يلومونك: ألم تفعل كذا، وهكذا يكون ملوماً من الآخرين. ((محسوراً)) حسرة منازعة وتوبيخ لنفسه. إن مما يعظم المصيبة على الإنسان أنه إذا وقع في المصيبة أن يتذكر وهو يتألم توبيخ الناس له: لو كنت فعلت كذا ما وقعت في كذا. ومما يضاعف عذابه وألمه أن يتذكر وهو يتألم للمصائب بأن وسائل النجاة كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التخطي عنه كانت في متناوله فأغفلها، فلذلك من أنواع العذاب المعنوي أيضاً على نفوس الكفار أن يبكتوا ويوبخوا ويعنفوا، بأن يقال لهم: ((هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)) أي: ألم تكونوا تسخرون من المؤمنين في الدنيا؟ فـ ((هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)).

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين نضرة النعيم)

تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين نضرة النعيم) يقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:18 - 24]. ((كلا)) هذا ردع عن التكذيب، أو بمعنى حقاً. قوله: ((إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)) أي: ما كتب من صور أعمال السعداء في عليين، وهو مقابل للسجين في علوه وارتفاع درجته, وكونه ديوان أعمال أهل الخير، كما قال تعالى: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ)) ((كِتَابٌ مَرْقُومٌ)) أي: محل شريف رسم بصور أعمالهم. ((يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)) أي: يحفه المقربون من حضرة ذي الجلال كما في قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]، والمقربون هم الأبرار, وأعاد ذكرهم بوصف ثانٍ؛ تنويهاً بهم وتعديداً لصفاتهم. أو المقربون: هم الملائكة؛ إجلالاً لهم وتعظيماً لشأنهم. وبعد أن عظم تعالى كتاب الأبرار أتبع ذلك بتعظيم منزلتهم بقوله سبحانه: ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُون)) ((تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)). قوله: ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) أي: عظيم دائم، وليس نعيمهم في انحلال. ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)) أي: على الأسرة ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم. ((تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)) أي: بهجته ورونقه كما يرى على وجوه المترفين ماؤه وحسنه. وكان ينبغي أن يزيد القاسمي الإشارة إلى أن نضره النعيم إنما هي أثر من آثار رؤية الله تبارك وتعالى, كما ذكر جماعة من المفسرين. قوله: ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)) يعني: ينظرون إلى وجه الله سبحانه وتعالى في جنات الرضوان، لأنه إذا وصف الفجار بأنهم محجوبون؛ فإن ذلك يستلزم أن يوصف الأبرار بأنهم غير محجوبين؛ لأنهم يرون الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه الآيات مما استدل به على رؤية الله تبارك وتعالى لأهل الجنة.

تفسير قوله تعالى: (يسقون من رحيق مختوم)

تفسير قوله تعالى: (يسقون من رحيق مختوم) يقول الله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25]: (من رحيق) , أي: خمراً، إلا أنه خص بالخالص الذي لا رجس فيه، كما قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل. ومنه قولهم: مسك رحيق لا غش فيه، وحسب رحيق لا شوب فيه. قوله: (مختوم) أي: ختم على أوانيه تكريماً له لصيانته عن أن تمسه الأيدي، على ما جرى فيه العادة من ختم ما يكرم ويصان. الختم هنا كما يفهم من كلام العلماء مثل غطاء الزجاجة مثلاً, وهو ما يختم به عليها كي تحفظ، فكذلك قوله: ((يسقون من رحيق مختوم)) يعني: مختوماً على أوانيه كي لا تتعرض للتلف، ولا تمسها الأيدي كي تكرم. قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26]. قال: القفال: الذي يختم به رأس قارورة, ذلك الرحيق هو المسك. فكأن ذلك المسك رطب ينطبع فيه الخاتم. ومن المسك ما يكون صلباً وليس سائلاً، فكأن هذا هو الذي يختم به على رأس تلك القوارير. وعن بعض السلف واللغويين: المختوم هو الذي له ختام، يعني: عاقبة. وقد فسر قوله تعالى: ((ختامه مسك)) أي: من شربه كان ختم شربه على ريح المسك. يعني: يشرب من هذا الرحيق، فآخر شيء يشربه من داخل هذا الرحيق يكون المسك. والقصد هو اللذة وزكاء الرائحة، على خلاف خمر الدنيا الخبيثة الطعم والرائحة، فهنا وصف لخمر الجنة بالصفات التي تشيع في القرآن الكريم من كونها شراباً طهوراً طيب الطعم والريح؛ لأن ختامه مسك. وإذا ذكر أي شيء من نعيم الجنة فالقاعدة كما ذكرناها مراراً: أنه ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، أما الحقيقة فلا يمكن للإنسان مهما اجتهد أن يتخيل حقيقة نعيم أهل الجنة، فإذا قلنا: (ختامه مسك)، فلا يتخيل أنه نفس مسك الدنيا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أطيب الطيب المسك)، فهذا تشابه في الاسم فقط؛ لكنه لا شك أنه يتفاوت تفاوتاً عظيماً.

تفسير قوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)

تفسير قوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) يقول الله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. ((وفي ذلك)) أي: في ذلك النعيم المنوه به وما تلاه. ((فليتنافس المتنافسون)) أي: فليرغب الراغبون بالإقبال على طاعة الله تعالى. قال ابن جرير: التنافس أن ينفس الرجل على الرجل بالشيء يكون له, ويتمنى أن يكون له دونه, وهو مأخوذ من الشيء النفيس, وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتطلبه وتبتغيه، وكأن معناه في ذلك: فليجدّ الناس فيه وإليه، وليستبقوا في طلبه ولتحرص عليه نفوسهم. قال الرازي: إن مبالغته تعالى بالترغيب فيه تدل على علو شأنه. يعني: كون الله سبحانه وتعالى هو الذي يحرضنا على التنافس في هذا النعيم، فهذه أعظم دليل على علو شأن هذا النعيم. يقول: وفيه إشارة إلى أن التنافس يجب أن يكون في مثل ذلك النعيم العظيم الدائم، لا في النعيم الذي هو سريع الفناء. فالناس إنما يتنافسون في الدنيا، والتنافس في الدنيا والتحاسد عليها يورث البغضاء؛ لأنها ضيقة، والناس تتحاسد على الشيء الذي يكون محدوداً؛ لكن الجنة واسعة جداً وأدنى أهل الجنة منزلة له مثل الكرة الأرضية مرتين، فالتنافس لا يكون فيما هو مكدر؛ لأن الإنسان الذي يحسد في الدنيا إما أن يحسد مؤمناً أو يحسد كافراً، فإذا كان يحسد كافراً فإن نهايته الخلود في الجحيم إلى الأبد, فعلام يحسد هذا الشخص الذي نهايته الخلود في الجحيم؟! وإذا كان يحسد مؤمناً على هذا النعيم الذي أوتيه فما هو هذا النعيم بالنسبة لنعيم أهل الجنة، فالمؤمن صائر إلى الجنة والكافر صائر إلى النار, فلا ينبغي أن يحسد، والناس حينما يتنافسون على الشيء الضيق تحصل عداوة، كأن تكون المنافسة على الأموال أو المناصب والانتخابات؛ فتجد الأحقاد والتخاصم، لكن التنافس ينبغي أن يكون في شيء مستحق، بأن نتنافس فيما ندبنا سبحانه وتعالى للتنافس فيه, ففي الشرع هناك تنافس مأمور به، وهناك تنافس منهي عنه، أما المأمور به فهو في هذه الآية: ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) وفي قوله تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]. أما التنافس المنهي عنه ففي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تنافسوا) يعني: في الدنيا؛ ولذلك قالوا: من ينافسك في الدنيا فادفعها في نحره. أي: لا تنافس في الدنيا، وإنما التنافس الذي ينبغي أن يكون في ابتغاء رضوان الله تبارك وتعالى، وهو الذي قيل فيه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وقيل فيه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] وقيل فيه: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61] فالمسابقة والمنافسة إنما تكون في أعمال الآخرة؛ لأن نعيمها عظيم كبير دائم، أما نعيم في الدنيا فهو نعيم مكدر سريع الفناء, إن بقيت أنت له لم يبق لك، وإن بقي لك لم تبق، وكل ما له نهاية فهو قليل.

تفسير قوله تعالى: (ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون)

تفسير قوله تعالى: (ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون) يقول عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27 - 28]. ((ومزاجه من تسنيم)) الواو هنا واو العطف، معطوف على ((ختامه مسك)) لكن بينهما قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. فالمعنى: ختامه مسك ومزاجه من تسنيم، عطف على أنه صفة أخرى لهذا الرحيق المختوم. وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته. يعني: ما يوجد في ذلك الرحيق من ماء تسنيم، والتسنيم في الأصل مصدر سنمه، بمعنى رفعه، ومنه سنام الجمل. قوله: ((وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)) أي: ذات تسنيم. قوله تعالى: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ))، أي: هذا الماء ماء عين تسمى تسنيماً، وسمي الماء به لارتفاعه وانصبابه من علو، وقد بينه بقوله: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)) أي: يشربون بها الرحيق. والكلام في الباء، كما في قوله تعالى: ((عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6]، من كونها زائدة, أو بمعنى (من) فقوله: ((يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)) يعني: يشرب منها المقربون، أو تضاف للتلذذ.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون) يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)) وهم كفار قريش. ((كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)) أي: استهزاءً بهم لإيمانهم بالله وحده، وبما أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم, ونبذهم ما ألفوا عليه آباءهم، فإذا تأملنا كلمة: ((كانوا)) وجدنا أن المشهد يتكلم عن موقف يوم القيامة، فكل الآلام التي عاناها المؤمنون في الدنيا صارت ذكريات ماضية وانتهت، وصارت العاقبة للتقوى فما أعظم ما تواسينا هذه الكلمة، فربنا سبحانه وتعالى يصف هؤلاء بالإجرام، فهذا يفيد أن الكافر في ميزان الله مجرم. ((كانوا)) استرجاع لما كان يعانيه المؤمنون في الدنيا في سبيل الله تبارك وتعالى, وفي سبيل دينهم، مثل قوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] يعني: لو أن هؤلاء المجرمين ينقمون منهم أنهم سرقوا أموالهم واعتدوا على أعراضهم أو ظلموهم ونهبوهم، لكان هناك ما يسوغ، لكن أن ينقموا منهم وليس لهم جريمة سوى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، أو أنهم يقيمون دين الله تبارك وتعالى أو يدعون إليه, فهذا هو الذي لا يمكن أن يسوغ لهم المعاداة للدين وأهله. (إن الذين أجرموا) هم المعتدون الأثمة الذين خبثت نفوسهم، وصمت آذانهم عن سماع دعوة الحق، هؤلاء كانوا يضحكون من الذين آمنوا؛ وذلك لأنه حين رحم الله هذا العالم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأي الدهماء وفي ضلال العامة، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته صلى الله عليه وسلم، ثم يُسِرُّ بها بعض من يليه، ويجيب دعوته من الضعفاء الذين لم تطمس أهواؤهم سبيل الحق إلى قلوبهم، فيسروا بها إلى من يرجون، ولا يستطيعون الجهر بها لمن يخافون قتله وبطشه. ومن شأن القوي المستعد بالقدرة والكثرة أن يضحك ممن يخالفه بالمبدأ ويدعوه إلى غير ما يعرفه، وهو أضعف منه قوة وأقل عدداً. فطبيعة الإنسان إذا استغنى بكثرة المال أو كثرة الولد والقوة أن ينظر إلى من هو دونه بمنطق القوة لا بمنطق الحق، فهم يعتمدون على حق القوة، أما المؤمنون فيعتمدون على قوة الحق, حتى لو كانوا ضعفاء في عددهم أو عدتهم، أما الآخرون فيعتمدون على حق القوة, أي: بما أنه قوي ومتغلب فهو يسخر ممن هو دونه حتى ولو كان الحق له, فكذلك كان شأن جماعة من قريش كـ أبي جهل والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل وأشياعهم، وهكذا يكون شأن أمثالهم في كل زمان. فمتى عمت البدع, وتفرقت الشيع، وخفي طريق الحق بين طرق الباطل، وضيع معنى الدين، وأزهقت روحه من عباراته وأسانيده, ولم يبق إلا ظواهر لا تطابقها البواطن، وحركات أركان لا تسايرها السرائر، وتحكمت الشهوات فلم تبق رغبة تحدو بالناس إلى العمل، إلا ما تعلق بالطعام والشراب والزينة والرياسة والمناصب والألقاب، وتشبثت الهمم بالأمل الكاذب، وأحب كل واحد أن يحمد بما لم يفعل، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل، واستوى في ذلك الصغير والكبير، والأمير والمأمور، والجاهل والملقب بلقب العالم. إذا صار الناس إلى هذه الحال ضعف صوت الحق، وازدرى التابعون قول الداعي إليه، وانطبق عليهم نص الآية الكريمة: ((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ))؛ لأنهم يستندون إلى حق القوة. ((وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)) أي: إذا مروا بالمؤمنين فإنهم يتغامزون فيما بينهم استهزاء وسخرية بالمؤمنين، كما يحصل الآن من السخرية بالإخوة والأخوات المتدينين من هؤلاء القوم. والغمز هو الإشارة بالجفن والحاجب. قال السيوطي: في هذا دلالة على تحريم السخرية بالمؤمنين, والضحك منهم, والتغامز عليهم. ولذلك عد العلماء من المكفرات معاداة المؤمن لأجل دينه. يعني: لو كان الواحد يعادي مؤمناً بسبب الاعتداء على أرض أو على مال أو أي شيء من الدنيا -بغض النظر من المحق ومن المبطل- فقد يكون المتدين هو المبطل فلا مشكلة هنا، لكن عندما تعاديه من أجل تدينه فقد عد العلماء هذا من المكفرات.

تفسير قوله تعالى: (وإذا انقلبوا إلى أهلهم عليهم حافظين)

تفسير قوله تعالى: (وإذا انقلبوا إلى أهلهم عليهم حافظين) {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:31 - 33]. ((وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} أي: إذا انقلب هؤلاء المجرمون من مجالسهم إلى أهليهم انقلبوا فكهين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان، أو فاكهين بما هم فيه من الشرك والطغيان والتنعم في الدنيا. ((وَإِذَا رَأَوْهُمْ)) يعني: إذا رأوا المؤمنين. ((قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ)) يعني: تركهم لما عليه العامة، والاعتصام بغيره. ((وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ)) يعني: ما أرسل هؤلاء المجرمون القائلون ما ذكر على المسلمين حافظين لأعمالهم، فهذه جملة حالية من واو (قالوا) أي: قال أولئك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون بغيهم وضلالهم. وهذا تهكم بهم! وقد جوز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين، كأنهم قالوا: إن هؤلاء لضالون, وما أرسلوا علينا حافظين يعني: إنكاراً لصدهم عن الشرك ودعوتهم إلى الإسلام، وإنما قيل (عليهم) نقلاً له بالمعنى، كما في قولك: حلف لأفعلن.

تفسير قوله تعالى: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ما كانوا يفعلون)

تفسير قوله تعالى: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ما كانوا يفعلون) {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36]. قال تبارك وتعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] أي: يوم القيامة. هذا متعلق بما قبله من قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ} [المطففين:29 - 34] أي يوم القيامة. وقد قال تعالى عن الكفار: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة:82] أي: من يضحك الآن فسوف يبكي غداً بكاء طويلاً لا ينتهي، والمهم أن المؤمن هو الذي يضحك في النهاية وتكون له العاقبة. يقول تعالى: ((فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)) هذا تفريع على ما قبله، للدلالة على أنه جزاء سخريتهم, والجزاء من جنس العمل. قوله: ((فاليوم)) هو يوم الدين والجزاء. وضحكهم من الكفار ضحك المسرور بما نزل بعدوه من الهوان والصغار بعد العزة والكبرياء. ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ)) أي: ينظرون ما أوتوا من النعيم وما حل بالمجرمين من عذاب الجحيم وأيضاً: ينظرون أعظم نعيم على الإطلاق وهو رؤية الله تعالى في الآخرة، خاصة وأن الآية اشتملت المقابلة بين عاقبة المؤمنين وعاقبة الكافرين، فعاقبة الكافرين فيها عذاب البدن وعذاب الحجاب، فالنعيم يشمل الأمرين: رؤية الله سبحانه وتعالى، وينظرون ما أعد لهم من النعيم، وينظرون أيضاً ما حل بالمشركين من عذاب الجحيم. يقول تعالى: ((هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) أي: جوزوا ثواب ما كانوا يفعلون في الدنيا. والاستفهام للتقرير، كأنه خطاب للمؤمنين؛ تعظيماً لهم وتكريماً، كأن الله سبحانه وتعالى يقول: وهل رأيتم كيف جازيت الكافرين بأعمالهم وكيف فعلت بهم؟! وثوبه وأثابه يعني: جازاه، وهو من ثاب بمعنى رجع، فالثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير. ونظير هذه الآيات قول الله تبارك وتعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:108 - 111]. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الأئمة الفائزين.

البروج

تفسير سورة البروج

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج واليوم الموعود)

تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج واليوم الموعود) سورة البروج هي السورة الخامسة والثمانون من القرآن الكريم، وهي سورة مكية، وآيها اثنتان وعشرون آية. روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق). قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:1 - 2]. قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) أي: الكواكب والنجوم، شبهت بالبروج -وهي القصور- لعلوها، أو البروج منازل عالية في السماء. قال ابن جرير: وهي اثنا عشر برجاً، فمسير القمر في كل برج منها يومان وثلث، فذلك ثمانية وعشرون منزلة، ثم يستتر لليلتين، ومسير الشمس في كل برج منها شهراً. وأصل معنى البروج الأمر الظاهر من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصور العالية، فالقصر العالي يطلق عليه برج؛ لأنه ظاهر للناظرين، ويقال لما ارتفع من سور المدينة: برج أيضاً. يقول ابن كثير: يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام كما تقدم بيان ذلك في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]. وقيل: البروج النجوم. وقال مجاهد: البروج التي فيها الحرس. وقال يحيى بن رافع: البروج قصور في السماء. وقال المنهال بن عمرو: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ) ذات الخلق الحسن. واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجاً. قوله: (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي: الذي وعد فيه العباد بفصل القضاء بينهم، وذلك يوم القيامة.

تفسير قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)

تفسير قوله تعالى: (وشاهد ومشهود) قال عز وجل: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3]. يقول القاسمي: الشاهد هو كل ما له حس يشهد به، والمشهود: هو كل محس يشهد بالحس، فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها. وتخصيص بعض المفسرين بعضاً مما يتناوله لفظهما لعله الأهم أو الأولى أو الأعرف والأظهر لقرينة عنده، وإلا فاللفظ على عمومه حتى يقوم برهان على تخصيصه. قوله: (وشاهد ومشهود) اختلف المفسرون في ذلك، ومن ذلك ما حكاه ابن كثير رحمه الله تعالى أن الشاهد هو يوم الجمعة وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه. قوله: (وَمَشْهُودٍ) هو يوم عرفة، والحديث الوارد في هذا ضعيف، ثم ذكر جملة من الأحاديث مما ذكرنا. وعن ابن عباس قال: الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]. يعني: يوم القيامة. وسأل رجل الحسن بن علي عن قوله: (وشاهد ومشهود) قال: سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم. سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا: يوم النحر ويوم الجمعة، فقال: لا، ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرأ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] والمشهود: يوم القيامة، ثم قرأ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]. وقال الضحاك وغيره: الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة. وعن عكرمة: الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم الجمعة. وعن ابن عباس: الشاهد: الله، والمشهود: يوم القيامة. وعنه أيضاً: (وشاهد ومشهود) قال: الشاهد: الإنسان، والمشهود: يوم الجمعة. وعن سعيد بن جبير: الشاهد: الله، وتلا: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، والمشهود: نحن. ثم قال ابن كثير: والأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة. وقد ذكر القاسمي كلاماً قوياً، وهو: أن الشاهد هو كل ما له حس يشهد به، والمشهود هو كل مُحَس يُشهد بالحس، فيدخل فيه العوالم المشهودة كلها، وتخصيص بعض المفسرين بعضاً مما يتناوله لفظهما؛ لعله الأهم أو الأولى أو الأعرف والأظهر لقرينة عنده، وإلا فاللفظ على عمومه حتى يقوم برهان على تخصيصه.

تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود)

تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود) قال تبارك وتعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]. هم الذين كانوا يعذبون المؤمنين، قتلهم الله وأهلكهم وانتقم منهم، على أن الجملة خبرية وهي جواب القسم، أو دليل جوابه إن كانت جملة دعائية، والتقدير: لتبلون كما ابتلي من قبلكم، ولينتقمن الله منكم -يا كفار قريش- كما انتقم من الذين ألقوا المؤمنين في الأخدود. قال الزمخشري: وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن الكفار ملعونين عند الله بمنزلة أولئك المعذِّبين بالنار، أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش كما قيل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، والأخدود: الحفرة المستطيلة في الأرض.

تفسير قوله تعالى: (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود)

تفسير قوله تعالى: (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود) قال تبارك وتعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5]. قوله: (النار) بدل من الأخدود، أي: النار سبب في الوقود. والوَقود بالفتح الحطب الذي يوقد به، لكن الوُقود بالضم هو الإيقاد، مثل الوَضوء والوُضوء والطَهور والطُهور. قوله تبارك وتعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] أي: على حافة أخدودها. (قُعُودٌ) أي: قاعدون يتشفون من المؤمنين، ويتلذذون برؤية المؤمنين وهم يحترقون.

تفسير قوله تعالى: (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود)

تفسير قوله تعالى: (وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) قال تبارك وتعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] يعني: حضور يشاهدون احتراق الأجساد الحية وما تفعل بها النيران، لا يرقون لهم؛ وذلك لقسوة قلوبهم. يقول عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] أي: وما أنكروا منهم ولا كان لهم ذنب إلا الإيمان بالله وحده! قال الراغب: نقمت من الشيء ونقمته إذا أنكرته، إما باللسان وإما بالعقوبة ومنه الانتقام. قوله: (الْعَزِيزِ) أي: الغالب على أعدائه بالقهر والانتقام. قوله: (الْحَمِيدِ) أي: المحمود على إنعامه وإحسانه. يقول الحافظ ابن كثير: قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، وجمعه أخاديد، وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا عليهم؛ فحفروا لهم في الأرض أخدوداً وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين. قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجانبه، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس. قال تبارك وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9]، من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما. قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية. قال القاسمي: أي على كل شيء من أفاعيل هؤلاء الفجرة أصحاب الأخدود وغيرهم شاهد شهوداً لا يخفى عليه منهم مثقال ذرة، وهو مجازيهم عليه. وفي توصيفه تعالى بما ذكر من النعوت الحسنى إشعار بمقام إيمانهم، فإن كونه تعالى قاهراً ومنعماً، له ذلك الملك الباهر، وهو عليم بأفعال عبيده؛ مما يوجب أن يخشاه من عرف المصائب. وفي الآية نوع من البديع يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو معروف في كتب المعاني، وهناك بيت شعر مشهور فيه تأكيد للمدح بما يشبه الذم، يقول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وقد تمدح شخصاً فتقول: لا عيب فيه إلا أنه سيموت، فهذا تأكيد المدح بما يشبه الذم، فالشاعر يقول: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم قد يتوقع أن سيوفهم قصيرة، أو أن سيوفهم من خشب، أو أي شيء فيه ذم، لكن قال: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب أي: أن كثرة الخدش في سيوفهم هو من كثرة ما يقاتلون الأعداء ويبارزون في القتال. قوله: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) يعني: ما أمسكوا عليهم ذنباً إلا أنهم يعمرون المساجد بالعبادة، فهذا تأكيد للمدح بما يشبه الذم، لكن هو في هذه الآية ليس بذم، بل هذا أعظم ما يمدح به الإنسان.

أقوال المفسرين في أصحاب الأخدود

أقوال المفسرين في أصحاب الأخدود روى ابن جرير عن ابن عباس في أصحاب الأخدود قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها. وقال الضحاك: هم من بني إسرائيل أخذوا رجالاً ونساء فخدوا لهم أخدوداً، ثم أوقدوا فيه النيران فأقاموا المؤمنين عليها، فقالوا: تكفرون أو نقذفكم في النار. وقال مجاهد: كان الأخدود شقوقاً بنجران، كانوا يعذبون فيها الناس. وتفصيل النبأ: أن دعوة المسيح عليه السلام الأولى العارية عن شوائب الإلحاد لما دخلت بلاد اليمن، وآمن كثير من أهلها كانت في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران، وكان أقام عليها ملك الحبشة أميراً من قبله نصرانياً مثله، وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع، ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على إزالة السلطة النصرانية من اليمن والإيقاع بمن تنصر بغضاً في المسيحية. والحقيقة أن كلمة المسيحية كلمة غير صحيحة؛ لأن المسيحية ليست مثل الناصرية والماركسية بمعنى أن ينسب المذهب إلى مؤسسه، بل المسيح لم يؤسس دعوة المسيحية وإنما جاء بالإسلام، يقول عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فجميع الأنبياء دعوتهم هي دعوة الإسلام، لكن اشتهرت دعوة المسيح بأنها النصرانية، وهناك نصرانية حقة ونصرانية مزيفة. إذاً: فكلمة المسيحية ما ينبغي التساهل فيها، إنما هي النصرانية، فينبغي أن تقول: فلان نصراني ولا تنسبه إلى المسيح؛ لأن المسيح بريء منه، كالذين ينتسبون إلى علي وما هم بعلويين، بل هؤلاء أعداء لـ علي وهو يتبرأ منهم. فالشاهد أن القاسمي أتى من كتب هؤلاء بقصة معروفة عند النصارى بخبر أراكا ورفقته، ويرادفونها بعام (524م) من تاريخهم، والله تعالى أعلم. وهؤلاء الذين عذبوا في الأخدود كانوا قطعاً مسلمين بشهادة القرآن الكريم. يقول الحافظ ابن كثير: وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ فعن علي رضي الله عنه أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم فامتنع عليه علماؤهم فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم، واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم. وعنه: أنهم كانوا قوماً باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها. وعنه: أنهم كانوا من أهل الحبشة، واحدهم حبشي. وعن ابن عباس: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5] قال: ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء فعرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه. وقيل غير ذلك. وروى الإمام مسلم والإمام أحمد رحمهما الله تعالى عن صهيب رضي الله عنه، وهذا الحديث لا نستطيع القطع بأنه مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويوجد احتمال أنه قصة حكاها صهيب الذي كان رومياً، وعنده علم من أخبار النصارى، فيحتمل أن يكون من كلام صهيب، ويحتمل أن يكون مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إلي غلاماً لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً فكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر. قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، فمضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بني! أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي. فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم -أي: بإذن الله-، وكان للملك جليس فعمي فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان! من الذي رد عليك بصرك؟ فقال: ربي. فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله. قال: أولك رب غيري؟! قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني! بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟! قال: ما أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أولك رب غيري؟! قال: ربي وربك الله، فأخذه بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتي بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه -يعني دحرجوه- فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت! فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله. فبعث به مع نفر في قرقور -والقرقور: سفينة صغيرة-، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟! قال: كفانيهم الله. ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي. قال: وما هو؟! قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام. فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟! فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم! فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي -وهو أحد الأطفال الرضع الذين نطقوا-: اصبري يا أماه! فإنك على الحق) وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح إلى آخره. يقول الحافظ ابن كثير: وهذا السياق ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. قوله: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) أي: بلوهم بالأذى والنار ليرجعوا عن دينهم. قال أبو السعود: والمراد به إما أصحاب الأخدود خاصة أو المفتونين المطروحين في الأخدود، والذين بلوهم في ذلك داخلون في جملتهم دخولاً أولياً. قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) يعني: صرفوهم عن دين ربهم وعن طاعته عز وجل. قوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) يعني: عن كفرهم وفتنتهم. قوله: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) أي: عذابان منوعان: عذاب على الكفر، وعذاب على الفتنة، أو هما واحد، أي: (فلهم عذاب جهنم) بسبب الكفر، (ولهم عذاب الحريق)؛ لأن الجزاء من جنس العمل، كما أحرقوا المؤمنين فلهم أيضاً عذاب الحريق، أو كلاهما شيء واحد، أو هو من باب عطف الخاص على العام للمبالغة فيه؛ لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما، والأظهر أنهما واحد، وأنه من باب عطف التفسير والتوضيح. يقول ابن كثير: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) أي: حرقوا. قوله: (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي: لم يقلعوا عما فعلوا، ويندموا على ما أسلفوا. قوله: (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل. وقال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة! أي: قتلوا أولياءه ومع ذلك يقول: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} دلالة على أن التوبة تجب ما قبلها كائناً ما كان.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات) قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البروج:11] بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم ثم قال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11]. يقول القاسمي: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني: من هؤلاء المفتونين وغيرهم. قوله: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) أي: لهم في نشأتهم الأخرى (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ). قوله: ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي: التام الذي لا فوز مثله.

تفسير قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد)

تفسير قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد) قال عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأن لكفار قومه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يصدر عنه التعرض لتوحيد الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في قوله: (ربك)، والبطش هو الأخذ بعنف، وحيث وصف بالشدة، فقد تضاعف وتفاقم. قوله: (إن بطش ربك لشديد) أي: أن بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام لشديد، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، وهو تعالى ذو القوة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر أو هو أقرب.

تفسير قوله تعالى: (إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود)

تفسير قوله تعالى: (إنه هو يبدئ ويعيد وهو الغفور الودود) قال عز وجل: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] أي: يبدئ الخلق ثم يعيده، وهو في كل يوم يبدئ خلقاً من نبات وحيوان وغيرهما، ثم إذا هلك أعاد الله خلقه مرة أخرى، وهذا فيه دلالة على أنه يعيد الناس في اليوم الآخر ويبعثهم بعد موتهم للجزاء والحساب. (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) بلا ممانع ولا منازع. قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] أي: هو الغفور لمن يرجع إليه بالتوبة، يغفر ذنب من تاب إليه وخضع له ولو كان الذنب من أي شيء كان. قوله: (الْوَدُودُ) أي: المحب لمن أطاعه وأخلص له. وقال ابن عباس وغيره: الودود هو: الحبيب.

تفسير قوله تعالى: (ذو العرش المجيد)

تفسير قوله تعالى: (ذو العرش المجيد) قال عز وجل: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] أي: صاحب العرش المعظم العالي على جميع الخلائق. الشيء المحزن أن القاسمي يفسر العرش بالملك والسلطان أو السماء، مع أن العرش مشهور ومعروف أنه من أعظم مخلوقات الله تبارك وتعالى! قوله: (المجيد) المجيدُ صفة لمدح الله سبحانه وتعالى، وهناك قراءة أخرى بالجر (ذو العرش المجيدِ) ولذلك يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: و (المجيد) فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب عز وجل، والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح. يقول القاسمي: (المجيد) أي: العظيم في ذاته وصفاته، وقرئ بالجر صفة للعرش. ومجده علوه وعظمته.

تفسير قوله تعالى: (فعال لما يريد)

تفسير قوله تعالى: (فعال لما يريد) قال تبارك وتعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] أي: لا يريد شيئاً إلا فعله، فلا يحول بينه وبين مراده شيء، فمتى أراد إهلاك الجاحدين ونصر المخلصين فعل؛ لأن له ملك السماوات والأرض، ولهذا أتبع ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:17 - 20]. قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ يقول ابن كثير: أي: مهما أراد فعله لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقهره وحكمته وعدله، كما روينا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إليك الطبيب؟ قال: نعم. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الإنسان عندما يكون في مرض الموت، فإننا نجد أهل هذا المريض يذهبون به من مستشفى إلى مستشفى، تجد السيارات آتية وذاهبة، بينما لا تجد واحداً من الأقارب لهذا المريض ولا الزوار يحاول أن يذكره بالموت، وينبهه أنه على وشك أن يرحل من الدنيا، وينصحه ويوصيه، ويرغبه في عفو الله ومغفرته! فنقول: المريض يحتاج منك إذا كنت محباً له حقيقة أن تنفعه في هذه اللحظة، وهي أشد لحظة أن يقف صديقه أو قريبه إلى جانبه فيذكره بالتوبة، ويذكره بلا إله إلا الله، لكن للأسف لا نجد من كثير من الناس إلا الاهتمام بالأسباب الدنيوية، حتى وإن ظهر لهم أنه مرض الموت، وأنه على وشك أن تخرج منه الروح! إذاً: ينبغي أن ننتبه لهذا الأمر، وهو أمر السياق الأخير، وذلك عند خروج الروح، فهذا أبو بكر وهو في مرض الموت لما سئل: هل نظر إليك الطبيب؟ قال: نعم. إذاً: علينا أن نهتم بالأولويات وأن نعطيها مكانها، ليس فقط أن نأتي بالطبيب والدواء والحقن للمريض حتى نقول له: نحن لم نقصر معك، فقد ذهبنا بك إلى أحسن مستشفى، وأحضرنا لك الأدوية من آخر الدنيا، واستوردناها من الخارج، وفعلنا كذا؛ لكن من منا ذكره بأنه مقبل على الموت؟ حتى لو لم يكن مرض الموت، فالموت آت وقد يأتي فجأة وقد يأتي بعد رسل ونذر كالشيب والمرض وهو الغالب، ولذلك تجد الفقهاء يذكرون أحكام المرض ثم يعقبونها بأحكام الموت؛ لأن الموت إما أن يأتي فجأة وإما أن يأتي بعد مرض، ورب إنسان مرض مرضاً ما كان يتصور أنه سيموت منه ثم إذا به يموت منه! فالإنسان إذا كان مريضاً فعليه أن يوصي أولاده ويذكرهم بالموت: يا أولادي إذا مت فافعلوا كذا وكذا، حافظوا على الصلاة والحجاب، علي حقوق لفلان فأدوها، هذا هو أمر الشرع، حتى لا تضيع حقوق الناس. كذلك على المريض أن يحافظ على الصلاة، وإذا عجز تماماً عن الوضوء فيمكنه أن يتيمم، وإذا عجز عن الصلاة حال القيام أو القعود فإنه يصلي مضطجعاً أو يشير بعينه أو يمر الأركان على قلبه. أيضاً المريض في لحظات المرض هو أحوج إلى من يذكره بالصلاة ويعينه عليها ويذكره بهذه الأمور، وألا يلتفت إلى الأسباب كالطبيب وغيره؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إنك لست الطبيب، إنما الله هو الطبيب وأنت رفيق)، فلا بد أن نتوكل على الله سبحانه وتعالى ونعطي الأمور حجمها، وأن نرتبط دائماً بالله عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (هل آتاك حديث الجنود فرعون وثمود)

تفسير قوله تعالى: (هل آتاك حديث الجنود فرعون وثمود) يقول تبارك وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:17 - 18]. قوله: (هل أتاك حديث الجنود) أي: الذين تجندوا على الرسل بأذاهم. قال ابن جرير: (هل أتاك) يعني: قد أتاك ذلك وعلمته، فاصبر لأذى قومك إياه لما لابد فيه من مكروه كما صبر الذين تجند هؤلاء الجنود عليهم من رسلي، ولا يثنينك عن تبليغهم رسالتي، كما لم يثن الذين أرسلوا إلى هؤلاء، فإن عاقبة من لم يصدقك ويؤمن بك منهم إلى عطب وهلاك، كالذي كان من هؤلاء الجنود. فالجملة -كما قال أبو السعود: (استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة والكفرة العتاة). وكونه فعالاً لما يريد متضمن البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب قومه ما أصاب الجنود. قوله: (فرعون وثمود) هذا بدل من الجنود؛ لأن المراد فرعون وجنده كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]. قوله: (وثمود) المراد ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال.

تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط)

تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط) قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20]. قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي: هم في شك وغي وكفر وعناد، وفي تكذيب بالحق والوحي مع وضوح آياته وظهور بيناته عناداً وبغياً. والإضراب انتقالي، فقوله: (بل الذين كفروا في تكذيب) كأنه قيل: ليس حال فرعون وثمود بأعجب من حال قومك، فإنهم مع علمهم بما حل بهم لم ينزجروا. وفي قوله: (بل الذين كفروا في تكذيب) إشارة إلى أنهم كانوا غارقين في التكذيب مهووسين متمسكين به، وقيل: إنه إشارة إلى تمكنه من أنفسهم، وأنه أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بغريقة، مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله. قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} أي: قادر عليهم قاهر ظاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه، أو المعنى: محص عليهم أعمالهم لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيهم على جميعها، فهم في قبضته وحوزته كالمحاط إذا أحيط به من ورائه، فسد عليه مسلكه فلا يجد مهرباً. وفيه تعريض لهم بأنهم نبذوا الله وراء ظهورهم، وأقبلوا على الهوى والشهوات، والله من ورائهم محيط.

تفسير قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)

تفسير قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) قال تبارك وتعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]. قوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي: كامل كريم عظيم لا يماثل في أسلوبه وهدايته. قوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} قرئ (محفوظ) قرئ بالرفع صفة لقرآن، والتقدير: بل هو قرآن محفوظ، وعلى قراءة الجر يكون صفة للوح (في لوح محفوظٍ). قال ابن جرير: والمعنى على القراءة الأولى: محفوظ من التغيير والتبديل في لوح، وعلى الثانية: محفوظ من الزيادة فيه والنقصان منه عما أثبته الله فيه. و (بل) إضراب عن شدة تكذيبهم وعدم كفهم عن التكذيب. ووصف القرآن بما ذكر للإشارة إلى أنه لا ريب فيه، ولا يضره تكذيب هؤلاء؛ فإنه تعالى تولى حفظه وظهوره أبد الآبدين. يقول ابن كثير: قوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي: هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل. وقال الحسن البصري: إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه. قال بعض العلماء: إذا كان القرآن محفوظاً عند الله سبحانه وتعالى في السماء في اللوح المحفوظ، فكذلك سيحفظ في الدنيا في لوح، فمن أراد حفظه فليحفظه في اللوح. وكانت هذه هي الطريقة التقليدية القديمة في الكتاتيب، فقد كان الصغار يحفظون القرآن عن طريقة الكتابة في لوح.

الأعلى

تفسير سورة الأعلى

فضل سورة الأعلى

فضل سورة الأعلى سورة الأعلى هي السورة السابعة والثمانون في ترتيب المصحف الشريف، وهي سورة مكية، وآيها تسع عشرة. قال ابن كثير: والدليل على أنها مكية ما رواه البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رضي الله عنهما فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد رضي الله عنهم، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين رضي الله تعالى عنهم، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، فما جاء حتى قرأت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] في سور مثلها) يعني: فما وصل المدينة حتى كنت قد حفظت سورة ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)) في سور مثلها. وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}) تفرد به الإمام أحمد. وثبت في الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ رضي الله تعالى عنه: هلا صليت بـ ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى))، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]). وعن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما) رواه مسلم وأهل السنن. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين)

تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)

تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى) قال تبارك وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]. أي: نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180]، فالاسم صلة، وسر إيراده أن المنوه به إذا كان في غاية العظمة فكثيراً ما تضاف ألفاظ التفخيم إلى اسمه، فيقال: سبح اسمه، ومجد ذكره، كما يقال: سلام على المجلس العالي، هذا هو القول الأول في تفسير هذه الآية الكريمة، وهو أن قوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)) أي: سبح ربك الأعلى، ويؤيده أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، ولم يكونوا يقولون: سبحان اسم ربنا الأعلى. وأيضاً: فإن الحق تعالى إنما يعرف بأسمائه الحسنى؛ فقوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) فيه تنبيه على أن علينا أن نعرف الله سبحانه وتعالى عن طريق أسمائه الحسنى. ومما يؤيده ما ذكر من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (أنهم كانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى) رواه ابن جرير وغيره. وذهب بعضهم إلى أن المراد تنزيه اسم الله وتقديسه عن أن يسمى به شيء سواه؛ لأن المشركين كانوا يسمون آلهتهم بأسماء يزعمون أنها مشتقة من أسماء الله عز وجل، كاللات زعموا أنها مؤنث من الله، وأخذوا العزى من العزيز. فالمقصود بقوله: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) أي: نزه اسم ربك وقدسه عن أن يسمى به شيء سواه تبارك وتعالى، كما كان يفعل المشركون في تسميتهم لآلهتهم ببعضها كاللات والعزى، وهذا ما اعتمده الإمام ابن حزم في الفصل حيث رد على من استدل بهذه الآية في مسألة هل الاسم عين المسمى أم غيره؟ وهذه من المسائل المحدثة المبتدعة، وقد كره العلماء الانشغال بها، فالإمام ابن حزم رد على من استدل بهذه الآية على أن الاسم عين المسمى؛ لأن المعنى: سبح ربك، فالاسم هو نفس المسمى، ومن الممتنع أن يأمر الله عز وجل أن يسبح غيره، فلو كان الاسم غير المسمى لما أمر الله بتسبيح اسمه عز وجل. قال ابن حزم: وأما قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] فهو على ظاهره دون تأويل؛ لأن التسبيح في اللغة التي نزل بها القرآن وخاطبنا بها الله عز وجل هو تنزيه الشيء عن السوء، وبلاشك أن الله تعالى أمرنا أن ننزه اسمه -الذي هو كلمة مجموعة من حروف الهجاء- عن كل سوء. فينبغي تعظيم اسم الله عز وجل عن كل سوء، سواء كان في النطق به أو في كتابته. فأي ورقة كتب فيها اسم الله فينبغي صيانتها عن الامتهان وهكذا. ووجه آخر: وهو أن معنى قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:95 - 96] معنى واحد، وهو أن يسبح الله تعالى باسمه، ولا سبيل إلى تسبيحه تعالى ولا إلى دعائه ولا إلى ذكره إلا باسمه، فكلا الوجهين صحيح، وتسبيح الله تعالى وتسبيح اسمه كل ذلك واجب بالنص، ولا فرق بين قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وبين قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور:48 - 49]، والحمد بلاشك هو غير الله عز وجل، وهو تعالى يسبح بحمده كما يسبح باسمه ولا فرق، فبطل تعلقهم بهذه الآية. وفي الحقيقة هناك تعليق على قول ابن حزم الأخير هذا: من أنه لا فرق بين قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور:48]؛ لأن قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يعني ملابسة الحمد للتسبيح، فتقول: سبحان الله وبحمده، فتقرن التسبيح بالحمد معاً، يعني: أنا أسبح الله وأحمده، فهذه تفيد الملابسة بخلاف الباء في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وهذا الذي أشار إليه القاسمي بقوله: وقد يقال: فرق بين الآيتين، فإن الباء في قوله: ((بحمد ربك)) للملابسة، ولا كذلك هي في قوله: ((باسم ربك)). ومع اتساع اللفظ الكريم للأوجه كلها، فالأظهر هو القول الأول: ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)) يعني: نزه ربك عما يصفه به المشركون من الولد والشريك ونحوهما؛ وذلك لما أيده من الأخبار، وبقوله تعالى: {فَسَبِّحْهُ} [ق:40]، وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} [الصافات:180]، والله تعالى أعلم. قوله: ((الأعلى)) أي: الأرفع من كل شيء قدرة وملكاً وسلطاناً، واستدل السلف بظاهره في إثبات العلو بلا تكييف، والمسألة معروفة في إثبات العلو لله تبارك وتعالى على كل مخلوقاته عز وجل.

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق فسوى)

تفسير قوله تعالى: (الذي خلق فسوى) قال عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2]. قال الزمخشري: أي: الذي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم. أي: أن الله عز وجل خلق كل المخلوقات محكمة متفقة متلائمة سوية، وفي هذا دلالة على أنها صدرت عن عالم سبحانه وتعالى، ودلالة على أنها صنعة حكيم؛ لأن كل شيء خلقه الله تبارك وتعالى ستجد أنه وضع بحكمة وبسابق علم في موضعه. إن جميع الصفات البشرية للإنسان سواء الحسية أو النفسية، والأشياء التي لا ترى أصلاً بالعين المجردة وهي ما يسمى (بالجينات) و (الكرموزومات) وهذه الأشياء التي تكون صفات الإنسان بعد ذلك من هذه الجينات؛ دليل أكيد على أن هناك من دبر هذا وأحكمه وأتقنه: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}. إذا تأمل الإنسان مثلاً: الأسنان، لو أن أضراس الإنسان في الأمام والقواطع في الجانبين مثلاً، كيف يأكل الإنسان؟! إذاً: كل شيء وضع بحكمة. كذلك لو أن لسان الإنسان في قفاه في مؤخرة رأسه، أو الفم كانت في القلب، أو العين كانت تحت والأنف فوق! يعني تتعجب وتستغرب هذا، فهذا يدل على أن كل شيء وضع بحكمة. إذاً: الإنسان والنباتات والحيوانات وكل خلق الله تبارك وتعالى فعلاً تنطق بأن لا إله إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل وفي قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} لم يذكر الله سبحانه المفعول به؛ ليعم كل ما خلق، فكل خلق الله تبارك وتعالى مستو ومحكم ومتقن؛ أو ليدلنا على أنه قادر عالم، وأنه صنعة حكيم.

تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى)

تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى) قال عز وجل: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3]. أي: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به. والهداية أنواع: منها: الهداية العامة، وهي هداية كل مخلوق إلى ما يصلحه، حتى لو لم يكن عنده عقل، لكن الله سبحانه وتعالى يهديه إلى ما يصلحه. أنت إذا طاردت نملة هل تستسلم النملة أم تهرب؟ تهرب وكذلك الذبابة أو الصرصور أو أي شيء من هذه الدواب، فإنها إذا رأت شيئاً يؤذيها فإنها تتجنبه، فهذه هي الهداية العامة لجميع المخلوقات. والطفل الصغير مجرد أن يولد يمارس عملية الرضاعة وكأنه خبير! فهذا الطفل من علمه؟ إنه الله سبحانه وتعالى. إن باب الهداية من أبواب العلم للتأمل في خلق الله عز وجل، ومما يفتح على القلب معرفة الله سبحانه وتعالى، واليقين بحكمته وعلمه وقدرته عز وجل، وهذا الباب اهتم به العلماء جداً في مصنفاتهم، ويوجد الآن في زماننا مئات الكتب في هذا المجال، فنحن مطالبون جميعاً بأن نتأمل، ولذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه المبارك: (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) عقد فصلاً في هذا الموضوع، وأتى بأمثلة من هداية المخلوقات إلى ما يصلحها، وحكى أشياء عجيبة جداً في هداية المخلوقات إلى ما يصلحها. من ذلك مثلاً قال: إن طائراً ابتلعت الحية فرخه، فماذا فعل لينتقم لفرحه؟ أتى بنوع معين من الأعشاب السامة القاتلة، وهذا الطائر لم يدرس الصيدلة، فمن أين عرف ذلك؟! إنها هداية الله الهداية العامة، فظل هذا الطائر يقترب أمام تلك الحية منها حتى فتحت فمها فأسقط فيه هذه المادة السامة فقتل الحية! وحكى ابن القيم أيضاً عن إناء كان فيه عسل في وسط الحجرة، وكان الإناء في حوض من الماء، فالنمل لا يستطيع أن يصل إليه، لكن النمل اخترع حيلة وهي أنه مشى في اتجاه الجدار ثم صعد الجدار ثم مشى على السقف حتى صار موازياً للعسل فألقى بنفسه ليقع فيه، فالنملة ما عندها عقل، فمن علمها؟ إنها هداية الله، وهذه هي الهداية العامة، فيلهم الله سبحانه وتعالى كل مخلوق ما يصلحه. ومن ذلك أيضاً قال: إن هناك بعض الدببة في المناطق الجليدية إذا أراد أن يصطاد شيئاً معيناً فإنه يختبئ داخل غرف الثلج حتى تأتي الفريسة فينقض عليها! وهذا حديث يطول، والحديث عن عجائب صنع الله تبارك وتعالى شيق، وحكى ابن القيم أيضاً أن فأراً كان يشرب زيتاً من برميل معين، فظل يشرب الزيت حتى نزل ونقص البرميل ولم يستطع أن يشرب منه، فذهب الفأر وأخذ ماء في فمه، فصبه على الزيت حتى يرتفع؛ لأن كثافة الزيت أخف من كثافة الماء، فارتفع الزيت فشرب، فمن علم هذا الفأر هذا الفعل؟! إنه الله سبحانه وتعالى. قوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} كقوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] أي: ثم هداه إلى ما يصلحه. وابن القيم رحمه الله رغم أنه عاش في زمن بعيد لكن كان مطلعاً اطلاعاً واسعاً جداً في هذا الباب، ونحن عندنا الآن العجب العجاب، وتوجد قناة تلفزيونية أمريكية اسمها الطبيعة، هذه القناة متخصصة فقط في ذكر هذه الآيات وتصويرها، وهم يأخذونها كنوع من الانبهار بالطبيعة وصنعة الطبيعة، ولا ينسبونها إلى الله سبحانه وتعالى! لكن المؤمن يستفيد من هذه الأشياء؛ لأن الذي صنعها هو الله عز وجل، فمن عجائب صنع الله سبحانه وتعالى (البكتيريا) التي تسبب الأمراض والالتهابات، وهي مع كثرة استخدام الأدوية المضادة لها لا تستطيع أن تقاومها، فمن الذي هداها إلى التفلت من هذه الأدوية؟! إنه الله سبحانه. وهذه الأشياء مما استطعنا أن نكتشفها وما خفي من آيات الله كان أعظم، فنقول: إنه ينبغي التفكر في هذه الآيات العظمى، ونرجو أن تأتي فرصة لنذكر هذه الأنواع من الهداية العامة. إذاً: قوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} يعني: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به.

تفسير قوله تعالى: (والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى)

تفسير قوله تعالى: (والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى) قال عز وجل: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى:4]. أي: أخرج من الأرض ما ترعاه الأنعام من صنوف النباتات. قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:5] قوله: ((فجعله)) يعني: هذا المرعى الذي ترعاه الأنعام كان أخضر من صنوف النبات، ثم جعله وصيره وحوله بعد خضرته ونضرته ((غُثَاءً أَحْوَى)) أي: جافاً يابساً تطير به الريح. قوله: ((أحوى)) يعني: أسود، وهذه الصفة مؤكدة لغثاء؛ لأن النبات إذا يبس تغير إلى الحوة وهي السواد. قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن المعنى: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السواد، فجعله غثاء بعد ذلك، ويعتل لقوله ذلك بقول ذي الرمة: حواء قرحاء أشرطية وكفت فيها الذهاب وحفتها البراعيم وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود؛ غير صواب عندي؛ بخلاف تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا لتقديمه عن موضعه أو تأخير، أما وله وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير.

تفسير قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى)

تفسير قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) قال تبارك وتعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]. قوله: ((سنقرئك)) أي: سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة فلا تنسى ما تقرؤه، يعني: سندعك تحفظ بدون جهد، وبدون مراجعة، بخلاف الواحد منا إذا أراد أن يحفظ فإنه لابد من التكرار الكثير والمذاكرة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد ضمن الله له أن القرآن الذي يوحى إليه سوف يتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه في قلبه فلا ينساه صلى الله عليه وسلم، وهذه آية من آيات الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ من الكتب، أما غيره فإنه يقرأ عن طريق معرفة القراءة والكتابة فينظر في الكتاب فيقرأ، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يكون قارئاً وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب؟! هذه هبة من الله عز وجل ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: بشره الله بإعطاء آية بينة: وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه صلى الله عليه وسلم. وقال الرازي: هذه آية تدل على المعجزة من وجهين: أحدهما: إنه كان رجلاً أمياً، فحفظه لهذا الكتاب المطول عن غير دراسة ولا تكرار ولا كتابة خارق للعادة، فيكون معجزاً. وثانيهما: إن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، ومع ذلك فيها إخبار عن أمر عجيب غريب مخالف للعادة سيقع في المستقبل {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}. فمعظم القرآن نزل بعد ذلك، وهذه من أوائل السور في مكة. وقوله: ((فلا تنسى)) قيل: نهي، لكن في غير القرآن إذا كانت ناهية نقول: فلا تنس، يجزم الفعل بحذف الياء أو الألف. والجواب عن هذا عند من يقولون: إنها ناهية أن الألف للإطلاق في الفاصلة، مثل قول الله تبارك وتعالى {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] والمعنى: لا تغفل قراءته وتكريره فتنسى، فالنهي هنا مجاز عن ترك أسبابه الاختيارية. قال الرازي: والقول المشهور: أن هذا خبر ليس بنهي. يعني أن الله سبحانه وتعالى سيقرئه فلا ينسى، (فلا) هنا على هذا القول نافية. ويقول: والمعنى سنقرئك إلى أن تصير بحيث لا تنسى وتأمن النسيان كقولك: سأكسوك فلا تعرى. أي: فتأمن العري. قال الرازي: واحتج أصحاب هذا القول على ضعف القول الأول، بأن ذلك القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية، فعلى القول بأن (لا) ناهية، (فلا تنس) تكون نهياً عن النسيان، والنهي مجاز عن ترك الأسباب الاختيارية. وهذا القول لا يتم إلا عند التزام مجازات في هذه الآية: منها: أن النسيان لا يكون إلا بقدر الله تعالى، فلا يصح ورود الأمر والنهي به، فلا بد وأن يحمل ذلك على المواظبة على الأشياء التي تنافي النسيان، مثل: الدراسة وكثرة التذكر، وكل ذلك عدول عن ظاهر اللفظ. ومنها: أن نجعل الألف مزيدة للفاصلة، وهذا أيضاً خلاف الأصل. ومنها: أنا إذا جعلنا قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} خبراً كان معنى الآية: بشارة الله إياه بأني أجعلك بحيث لا تنساه، أما إذا جعلناه نهياً كان معناه: أن الله أمره أن يواظب على الأسباب المانعة من النسيان وهي الدراسة والقراءة، وهذا ليس في البشارة وتعظيم حاله مثل الأول الذي هو الخبر، وهذا على خلاف قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] قال ابن عباس: جمعه لك في صدرك وتقرؤه، فالآية الأولى فيها ضمان من الله سبحانه وتعالى أنه لا ينسى شيئاً، وهذه الآية فيها نهي عن أن يحرك لسانه خلف جبريل خشية أن ينسى هذا الوحي {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} أي: اطمئن، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] أي: سوف نجمعه لك في صدرك {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة:18] يعني: إذا قرأه عليك الملك جبريل عليه السلام، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] يعني: أنصت لقراءته ولا تحرك لسانك؛ لأنه كان يحرك لسانه خشية أن ينسى، فأوحى الله إليه هذه الآيات التي فيها الضمان والتأمين من النسيان.

تفسير قوله تعالى: (إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى)

تفسير قوله تعالى: (إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى) قال عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6 - 7] هذا استثناء مفرغ أي: لا تنسى مما تقرؤه شيئاً من الأشياء، إلا ما شاء الله أن تنساه مما تقتضيه الجبلة البشرية أحياناً. قال الزجاج: إلا ما شاء الله أن ينسى فإنه ينسى، ثم يتذكر بعد ذلك ولا ينسى نسياناً كلياً دائماً؛ لأن ما في الجبلة لا يتغير، وإلا لكان الإنسان عالماً آخر. وقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله فلاناً! لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها) وفي رواية: (كنت أنسيتها)، وهذا النسيان إنما يكون عارضاً طارئاً، كمن ينسى في الصلاة مثلاً آية أو نحو ذلك، فهذا هو المقصود بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، وليس هو النسيان الذي يترتب عليه عدم التذكر مطلقاً. وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} يعني: على وجه القلة والندرة، كأن تقول مثلاً: قل من يقول كذا، وأنت تريد أنه لا يقول أحد هذا الكلام. وقال الفراء فيما نقله الرازي: إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره ناسياً لقدر عليه، كما قال: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا} [الإسراء:86]، ونحن نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك، هل شاء الله أن يذهب ما أوحى إليه؟ لا، بل هذا لمجرد بيان قدرة الله تعالى على ذلك، كذلك قوله هنا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7] للتذكير بأن الله قادر على أن ينسيك إياه، فهذه فائدة الاستثناء هنا. قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} يعني: يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من الأقوال والأفعال، وهو تعليل لقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:6 - 7]، مبين لحكمته، وهو سبق علمه تعالى لحاجة البشر إلى إقرائه الوحي، وإخراجهم به من الظلمات إلى النور. وكيف يكون هذا تعليلاً لقوله: ((سَنُقْرِئُكَ)) لأنه ((يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى))؟ A أن الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه الأزلي أن البشر محتاجون إلى إقرائه الوحي، لأن الصلة بين الله سبحانه وتعالى وبين الرسول عليه الصلاة والسلام ركنها المتين هو الوحي، لأن النبي هو من يوحى إليه، ونبوة الله هي الوحي، فهذا الوحي لو افترض وجود خلل في نفسه خاصة في حق هذا الدين الخاتم أو أصل الرسالة الخاتمة أو الشريعة الخاتمة؛ فتخيل الذي يمكن أن يحصل في البشر وهم بحاجة إلى الوحي أشد من حاجتهم إلى الهواء والطعام والشراب؟! فلذلك يفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى ((يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى))، فمما يعلمه الله سبحانه وتعالى مسيس حاجة البشرية إلى أن يضمن الله لنبيه حفظ هذا القرآن، وذلك بأن يحفِّظه القرآن بحيث لا ينساه أبداً، ويجعله قارئاً بقدرة الله لا بأسبابه الحسية كالتكرار والمذاكرة، وإنما بتوفيق الله سبحانه وتعالى. فأول تأمين للقرآن أنه عليه الصلاة والسلام حُفظ من نسيان شيء منه {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى}، ((إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى)) هذه تعليل لقوله: (سنقرئك) أي: سنقرئك حتى تحفظ القرآن؛ لأن الله يعلم السر وأخفى، ومما يعلمه شدة حاجة البشر إلى هذا القرآن أن تبلغهم إياه كما أنزله الله إليك، وليخرجوا به من الظلمات إلى النور.

تفسير قوله تعالى: (ونيسرك لليسرى)

تفسير قوله تعالى: (ونيسرك لليسرى) قال الله تبارك وتعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8]. أي: فهذا الدين وهذا القرآن الموحى به لا حرج فيه ولا عسر فيه، وإنما هو يسير وسهل وسمح. واليسرى صفة لمحذوف تقديره: الطريقة اليسرى. قوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} أي: نوفقك للطريقة اليسرى، أي: الشريعة السمحة والسهلة التي هي أيسر الشرائع وأوفقها لحاجة البشر مدى الدهر.

تفسير قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى)

تفسير قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى) قال عز وجل: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]. قوله: ((فذكر)) أي: ذكر العباد بعظمة الله عز وجل وعظهم وحذرهم عقوبته. قوله: ((إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى)) (إن) هنا بمعنى: إذ، أي: فذكر إذ نفعت الذكرى، كقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وكقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: وأنتم الأعلون إذ كنتم مؤمنين. أو (إن) بمعنى: قد على ما قاله ابن خالويه. وقيل: (إن) هنا صرفية، والمعنى: ذم المُذَكَّرِينَ واستبعاد تأثير الذكرى فيهم بسبب الطبع على قلوبهم. يعني: أنت مطالب بالبلاغ والبيان فقط! لأن الله سبحانه وتعالى قال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، أما هداية القلوب فلا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى. إذاً: قوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} ممكن أن تفهم في ضوء الآية الأخرى التي في سورة الذاريات: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] يعني: إذا كان ذكراً نافعاً فيجب عليك أن تذكر به، وهذا التذكير لن ينتفع به إلا المؤمنون، أما الكافرون المعرضون فعليك إبلاغهم بالحق، سواء انتفعوا أم لم ينتفعوا به.

تفسير قوله تعالى: (سيذكر من يخشى ثم لا يموت فيها ولا يحيا)

تفسير قوله تعالى: (سيذكر من يخشى ثم لا يموت فيها ولا يحيا) قال تبارك وتعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]. قوله: ((سيذكر)) أي: سيقبل التذكرة وينتفع بها من يخاف عقاب الله على الجحود والعناد بعد ظهور الدليل. وفي قوله: ((سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)) حذف المفعول وهي التذكرة. ثم قال عز وجل: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:11] يعني: يتجنب التذكرة الأشقى. قوله تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] أي: العظمى ألماً وعذاباً. قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13] أي: لا يهلك فيستريح، ولا يحيا حياة تنفعه. قيل: إن العرب كانت إذا وصفت الرجل بوقوعه في شدة شديدة، قالوا: لا هو حي ولا ميت، فجاء على مألوفهم في كلامهم قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}، وقوله: ((ثم)) هنا للتفاوت الرتبي إشارة إلى أن سبيله النار الكبرى، ليس هذا فحسب بل هناك ما هو أعظم وأشد رتبة وهي أن هذا عذاب خالد دائم لا ينقطع أبداً. وفي الحقيقة لو أن القلوب فقهت هذا المعنى الخطير لذهلت وبهتت وتحيرت وشابت الرءوس، فينبغي أن نتأمل هذا المعنى، من يستطيع أن يدخل النار أو يضع جزءاً من يده مثلاً داخل النار أو وجهه لا نقول: لمدة ساعة أو يوم كامل، وإنما لمدة دقيقة أو ثانية؟! من يتحمل ذلك؟ لا يستطيع أحد ذلك. فعذاب النار -والعياذ بالله- في غاية الخطورة، وليس هذا كلاماً للتخويف، بل هو حقيقة، ومن مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى وعدله وجود هذا العذاب، والملاحدة الزنادقة يؤولون آيات القرآن تأويلاً عجيباً جداً، يقولون: إن عذاب النار المذكور في النصوص الشرعية ليس حقيقياً، وإنما الله عز وجل يخوف بها مجرد تخويف فقط! وهذا كفر وزندقة وتحريف وإلحاد في آيات الله سبحانه وتعالى. إذاً: الخلود في النار أشد من أن يدخل الواحد النار ويحترق فيها ويموت وانتهى، فالمعذب فيها ليس له نهاية، فالأمر خطير، فياويل الكافر الذي يكفر بالله سبحانه وتعالى بعد أن أعطاه الله العقل وأرسل الأنبياء وأنزل الكتب! لقد جاهد الصحابة رضي الله عنهم الكفار وفتحوا البلاد وضحوا بالدماء والأموال والأولاد والأنفس من أجل تبليغ دين الله وإيصال الحجة للناس، كذلك العلماء اتجهوا لتحقيق العلم وتقييده وبذله وتعليمه، وتناقلوه جيلاً عن جيل؛ كي تقوم الحجة، والكرة الأرضية لا تخلو أبداً من حجة الله، فالحجة قائمة، والقرآن موجود. فأي كافر على ظهر الأرض ممن سمع عن دين الإسلام يستطيع أن يبحث ويفتش حتى يصل إلى الدين الحق، فليس هناك سلاسل ستقيده وتمنعه عن الوصول إلى الدين الحق، كل من أراد الحق بإخلاص فإن الحق متاح وهو أقرب إليه من حبل الوريد، ولكنهم يعرضون ليس هذا فحسب، بل يصدون عن سبيل الله، ويريدون إطفاء نور الله سبحانه وتعالى بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. إن الكافر نوى عن إصرار وتعمد أنه ما دام حياً فسوف يكفر بالله إلى الأبد، فلذلك كان الجزاء من جنس العمل، فعوقب بالخلود في النار إلى الأبد، كذلك المؤمن أطاع الله وصبر على البلاء وهو لا يدري متى ينتهي عمره، فهو يطيع الله وينوي طاعته إلى الأبد، وليست الطاعة مؤقتة أو مؤجلة بأجل؛ ولذلك كوفئ بنعيم الجنة إلى الأبد بلا انقطاع وبلا نهاية، فتخيلوا مدى خسارة الكفار الذين يقول الله فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر:63]، وقال: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]. ونار الآخرة ليس فيها من نار الدنيا إلا الأسماء، مع البون الشاسع بين هذه وتلك. وحين يتيقن الكافر من الخلود فيها يتمنى حينئذ أن يرجع إلى الدنيا ويكون مسلماً كما أخبر الله عنه: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]. إذاً: عذاب النار مهما حاولت أن تتخيله هو أفظع مما تتخيله والعياذ بالله، فلابد من الوقوف كثيراً عند قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [البينة:8]، وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] ((مؤصدة)) أي: تغلق عليهم ولا تفتح ولا يستطيع أحد أبداً الهروب منها. أعظم أمنية للكافر الذي يعذب في النار الموت، لكن لا يمكن أبداً أن يموت؛ لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [الأعلى:13]، وقال عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. وهذه الآية من آيات الله سبحانه وتعالى التي فيها إعجاز علمي؛ لأن الجلد هو مكان الإحساس، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن ينجينا وإياكم من أهوالها.

تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى)

تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) قال تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]. قوله: ((قَدْ أَفْلَحَ)) أي: فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي، وعمل بما أمره الله سبحانه وتعالى به. ((مَنْ تَزَكَّى)) أي: أعلى تزكية هي تزكية النفس بالتوحيد، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم تزكية النفس أن يعلم المرء أن الله معه حيث كان كما صح في الحديث. قال بعض المفسرين قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} يعني: من آتى الزكاة. وقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] يعني: أقام الصلاة، وقالوا: إنه مما عهد في كلام الله تبارك وتعالى الجمع بين الصلاة والزكاة في عدة آيات من القرآن الكريم، مثل قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة:5]، والزكاة والصلاة مبدأ كل خير، وعنوان السعادة، لكن قيل: إن المعهود في التنزيل الكريم عند ارتباط الصلاة بالزكاة تقديم الصلاة على الزكاة، فهنا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] يخالف المعهود في القرآن من ذكر الصلاة قبل الزكاة، فهذا مما يبعد هذا التفسير. وأجيب بأنه لا ضير في مخالفة العادة مع أن العادة الجارية المعهودة في القرآن الكريم تقديم الصلاة إذا ذكرت بالاسم على الزكاة، كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، وقوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة:5]، وقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55]، أما إذا ذكرت بفعل مأخوذ منها فلا، كقوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31]، فهنا أتت الصدقة أولاً، لكن صدق هنا الأقرب أنها من التصديق المقابل للتكذيب، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:32]، وهي في مقابل التكذيب. والتفسير الأول أظهر؛ لأنه لا يتعارض مع هذا بل يشمله، فقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] يعني: فاز وظفر من تطهر من دنس الشرك والمعاصي وعمل بما أمره الله به، فقمة التزكية هي التوحيد؛ ولذلك من ليس في قلبه التصديق بلا إله إلا الله فإن قلبه نجس، والمراحيض والمجاري والخنازير أطهر منه، وقد قال الله تعالى عنهم: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]، وليست نجاسة المشركين نجاسة حسية وإنما هي نجاسة معنوية، نجاسة في قلوبهم والعياذ بالله، فأولى الزكاة على الإطلاق هي تطهير القلب بلا إله إلا الله من دنس الشرك والمخالفات، فالتزكية هنا عامة بالتوحيد وبالطاعات واجتناب الشرك والمخالفات. قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي: تذكر جلال ربه وعظمته فخشع وأشفق وقام بما له وعليه.

تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا)

تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا) يقول عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] هذا إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: أنتم لا تفعلون ذلك، يعني: مع أن من زكى نفسه وطهرها وذكر ربه فصلى هو الذي يفلح، لكن أنتم لا تزكون أنفسكم، ولا تذكرون اسم ربكم وتصلون، بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها! والخطاب إما للكفرة فيكون المراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها، والإعراض عن الآخرة بالكلية، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس:7]، أو الخطاب للكل للمؤمن والكافر، فيكون المراد بإيثار الحياة الدنيا ما هو أهم مما ذكر، وما لا يخلو عنه الإنسان غالباً من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ. إذاً قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} خطاب لكل البشر، وذلك لتعلقهم بالحياة الدنيا. وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] وأنتم لا تفعلون ذلك {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]، فهنا تلاحظون أن الكلام الأول في سياق الغيبة ثم التفت إلى الخطاب: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]، وهذا الالتفات لتشديد التوبيخ على الكافر، فوبخ بأنه لا يفعل لا الزكاة ولا التزكية ولا الصلاة، بل يؤثر الحياة الدنيا. أما على القول الثاني: فالالتفات في حق الكفرة لتشديد العتاب، وفي حق المسلمين على أن الكفار معروف عنهم أنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الإطلاق، فلا يليق بالمسلمين أن يتشبهوا بهم في ذلك، فهم يستحقون أيضاً العتاب؛ ولهذا جاء الالتفات. وقرئ: (يؤثرون) بالياء، وعلى هذا فلا التفات.

تفسير قوله تعالى: (والآخرة خير وأبقى)

تفسير قوله تعالى: (والآخرة خير وأبقى) قال تبارك وتعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]. يقولون: شربت من النهر، والأصل شربت من ماء النهر، لكن شاع استعمالها بدون ذكر المضاف، وهكذا قوله تعالى: ((والآخرة)) أي: الدار الآخرة، فنقدر كلمة الدار، فيكون المعنى: والدار الآخرة خير، كذلك الآخرة هي صفة للدار الآخرة. قوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ} أي: أفضل لخلوصها عما يكدر. قوله: ((وأبقى)) أي: أدوم لعدم انقضاء نعيمها. يعني: نعيم الجنة لا ينقطع بل هو دائم. إن على المؤمنين والمسلمين ألا ينخدعوا بما يزينه لهم شياطين الإنس والجن من حولهم باسم الإسلام أحياناً، مثل قولهم: إننا نريد المجتمع المتحضر والحضارة والمباني والعمائر وناطحات السحاب والبساتين والخضرة، كما يحصل في البرازيل وغيرها. نقول: الاهتمام بمثل هذه الأشياء من العبث، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في القرآن، قال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] هذا هو العبث، وإذا لم يكن هناك إلا تضييع الأموال وتبذيرها؛ بسبب المنظر حتى يكون جميلاً والخضرة وكذا وكذا لكان ذلك كافياً للترك. أيضاً الدنيا ليست وطنك، ومشكلة المسلمين حب الدنيا وكراهية الموت، فالإنسان إذا عمرها وزينها فإنه بالتالي يحب البقاء فيها. أيضاً الدنيا والآخرة ضرتان إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فلا يمكن أن يجتمعا، إما الدنيا وإما الآخرة، فلذلك القرآن دائماً ينبهنا لهذا المعنى، وهو الالتفات إلى الآخرة وتعمير الآخرة وعدم الانخداع بزخرف الدنيا؛ لأن الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). قوله: (الدنيا حلوة خضرة) يعني: تخدع وتسحر ألباب الناس، فينبغي الحذر منها، والصبر على المشقة في الدنيا، وعلى البلاء في الدنيا، وألا ننجرف مع من ينجرفون وراءها؛ لأن الدنيا لا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، كنت دائماً أقرأ هذه الآية وأنا أنظر في الأفق إلى ناطحات السحاب في مدينة نيويورك، وهم في غاية الفخر بالإعمار وناطحات السحاب وهذه الأشياء الضخمة؛ فتيقنت زوال تلك العمارات الضخمة، مصداقاً لهذه الآية. وقد قيل: حب الدنيا رأس كل خطيئة، وإذا فكرت في هذا القول ستجد فعلاً أن حب الدنيا هو رأس كل خطيئة، فما يقع إنسان في معصية إلا من أجل الدنيا، الذي يسرق يسرق لأجل الدنيا، والذي يرتكب الفواحش يرتكبها لأجل شهوات الدنيا، الذي يرتشي، الذي يفعل كذا أو كذا هذا كله راجع إلى حب الدنيا. إذاً: مرضنا وداؤنا حب الدنيا وكراهية الموت كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للمسلم العاقل أن ينخدع بما ينخدع به الآخرون؛ لأن الإنسان الذي يعظم الدنيا إنما يعمر الدنيا ويخدمها، وفي الأثر: (يا دنيا اخدمي من خدمك) أي: أسعدي من خدمك، والإنسان يكد ويكدح في الدنيا ولا يأتيه إلا ما قدر له، والسعي الحثيث وراء الدنيا لن يغير شيئاً مما كتب الله سبحانه وتعالى؛ لأن الرزق لا يجلبه حرص حريص ولا يرده كراهية كاره، فيعطى الإنسان رزقه رغم أنفه كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن ابن آدم يهرب من الرزق كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه أجله). إذاً: على الإنسان ألا يجزع؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اتقوا الله وأجملوا في الطلب) يعني: هونوا عليكم طلب الدنيا، وقال عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] امشوا مشياً، لكن في الآخرة قال سبحانه: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، وقال عز وجل: {وَسَارِعُوا} [آل عمران:133]، وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]. فالإنسان المسلم في الدنيا يهون على نفسه، ولا يكون مثل هؤلاء الكفار الدواب الذين لا هم لهم إلا الدنيا، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب في الأسواق، جيفة في الليل، حمار بالنهار). قوله: (جيفة في الليل) أي: لا يذكر الله سبحانه وتعالى، وهناك شعوب ينطبق عليها هذا الوصف أشد الانطباق، وهم اليابانيون، لقد قاموا بمظاهرات احتجاجاً على الحكومة؛ لأنها عملت إجازة في يوم معين! فهم من شدة حرصهم على الدنيا استنكروا على الحكومة أنها جعلت ذلك اليوم إجازة! قال لي أحد الإخوة من رجال الأعمال: كان هناك رجل من اليابان يعمل في القاهرة، وجاء إلى الإسكندرية لسبب معين، ثم يعود إلى القاهرة، فكان مجيئه يوم الخميس بالليل، ويوم الجمعة إجازة، فمن حرصه على العمل جعل السائق يرجعه إلى القاهرة في نفس الليلة؛ حتى يواصل الشغل؛ لأنه لا يطيق البعد عن العمل! قوله: (حمار بالنهار) يعني: يعمل كالحمار بالنهار من المشقة التي يبذلها في السعي وراء الدنيا. إذاً: العاقل الذي يسمع عن الجنة فيحرص على طلبها، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها! ولا مثل النار نام هاربها!) فالجنة تستحق التعب والنصب والتضحية والفداء والبذل، قال عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). ويقول الشاعر: أيها النائم دعني لست أصغي للملام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام قوله: ((والآخرة خير وأبقى)) الجملة مبتدأ وخبر، والجملة من المبتدأ والخبر في محل نصب حال من فاعل ((تؤثرون)) مؤكدة للتوبيخ والعتاب. وقال الله تبارك وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4] يعني: الدار الآخرة خير من الدار الأولى التي هي أقرب إلينا. قوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17] هي أفضل وخير ومع ذلك هي دائمة وأهلها مخلدون فيها لا يموتون. والذي يؤثر الحياة الدنيا يؤثرها للمتاع الذي فيها، والنعيم الذي خلق في الدنيا ما خلق إلا لينبه على نعيم الآخرة، كما أن الآلام التي في الدنيا تنبه على آلام الآخرة، والدليل على ذلك قوله تعالى في النار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] أي: جعلنا نار الدنيا تذكرة بحيث إذا رأيتموها تذكرتم نار الآخرة فتعوذتم بالله منها. ونعيم الدنيا لا يمكن أن يكون بغير تنغيص، لابد أن يشوبه تنغيص بصورة أو بأخرى، إما التنغيص الذي يلقاه في سبيل الحصول عليه، أو تنغيص عند تناول الأطعمة والأشربة؛ لأنه ليس المقصود منها أن تتمتع بالدنيا، بل المقصود أن تنبهك إلى نعيم الجنة الذي لا ينقطع، فمتاع الدنيا يقطع ويشوبه الأكدار والآلام والمنغصات وما أكثرها! فلذلك العاقل يؤثر الآخرة على الدنيا ولا يؤثر الدنيا على الآخرة، وإلا يكون قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. فخلاصة الكلام لا ينبغي لمن يؤمن بالآخرة ويعلم أنها خير وأبقى أن ينساق مع من ينساق في تعظيم الدنيا، ومع من يجعلون الإسلام دين حضارة من عمران ومباني وغيره فقط وينسون أن القضية الكبرى للإسلام هي قضية تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى. وأذكر في هذا السياق مدرساً في بعض البلاد الإسلامية، أتى وفد أجنبي ليزور تلك البلاد، وشاء الله أن يدخل هذا الوفد هذه المدرسة التي فيها هذا المدرس، فطاف هذا الوفد في المدرسة، فدخل فصلاً فيه حصة لهذا الأخ الفاضل، فهذا الأخ أخذ يشرح الإسلام وكيفية الصلاة إلى آخره، فسأله بعض الناس لماذا تفعل هذا؟ قال: لأننا عندنا العمارات والمباني والحدائق إلى غيره من مظاهر الدنيا الخداعة، وكل كلامه كان على أن الإسلام دين الحضارة، تاركاً الحديث عن الآثار والأحجار التي تصرف للنظر عن جوهر القضية، فقضيتنا أعظم بكثير من ذلك، وهي قضية تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى في الأرض، فلا ننساق مع الذين يدعون في أن الإسلام جاء لتزيين الدنيا! الشاهد أن هذا الأخ قال لمن أنكر عليه هذا الأمر: إن هؤلاء لن تطلعوهم على شيء إلا وعندهم ما هو أفضل منه في بلادهم من المباني والمصانع، فمهما رأوا سوف يلاقونها هناك عندهم، {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف:65]، لكن نقدم لهم ما يفتقرون إليه وهو الإسلام وشريعة الإسلام ومكارم الإسلام والنبوة والرحمة وكذا، هذا هو الذي يحتاجون إليه. وبالنسبة للرياضة النافعة التي تعود عليك ببناء جسمك، هي الرياضة المطلوبة في الإسلام، التي فيها الصحة والقوة، أما أنك تجلس تتفرج وتقعد تشجع فريقاً على فريق، وتتابع البطولات، فنقول: أين البطولة في فلسطين؟! هل البطولة في إجازة؟! إذاً: لا يليق بنا أن ننشغل بما ينشغل به الآخرون، نحن كما قال ربعي بن عامر لما سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. إذاً: لا تنسوا في زحمة الحياة الدنيا وزحمة الضغوط التي شغلتنا في كل وقت وفي كل أوان ومن كل جهة أن تتذكروا هـ

تفسير قوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى)

تفسير قوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى) قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى:18]. قوله: ((إن هذا)) أي: هذا الذي ذكر من أول قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] إلى قوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى}، يعني هذا الكلام مدون وموجود وثابت في الصحف الأولى. قوله تعالى: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19]. قوله: ((صحف)) بدل من قوله: ((الصحف الأولى)) ووصف الصحف بالقدم كقوله: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] أي: القديمة، فأبهمها أولاً في قوله: ((إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى))، ووصفها بالقدم ثم بينها وفسرها بقوله: ((صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى))، وهذا فيه تفخيم لشأنها، وتعظيم لأمرها.

الغاشية

تفسير سورة الغاشية

بين يدي سورة الغاشية

بين يدي سورة الغاشية سورة الغاشية هي السورة الثامنة والثمانون، وهي مكية، وآياتها ست وعشرون، وقد تقدم حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، والغاشية في صلاة العيد، ويوم الجمعة). وروى الإمام مالك: (أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير رضي الله عنه: بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية). رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية عاملة ناصبة)

تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية عاملة ناصبة) قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم. {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. أي: هل أتاك خبرها وقصتها؟ والغاشية: هي القيامة، وأصل الغاشية: الداهية التي تغشى الناس بشدائدها. والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: ذليلة، وهي وجوه أهل الكفر للحق والجحود له، وعبّر بالجزء عن الكل، فالمقصود بالوجوه الذوات، بدليل أنه قال: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:3 - 5]، فهذا مما يؤكد أن المقصود بالوجوه الذوات. وقوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، أي: تعمل أعمالاً صعبة تتعب فيها، ونلفت النظر إلى هذا المعنى المهم؛ وهو أن الأشغال الشاقة المؤبدة نوع من العقوبة، ففي النار أشغال شاقة، والدليل هذه الآية، فكأن ملائكة العذاب تكلف الكفار بهذا النوع من أنواع العذاب الذي لا يتناهى والعياذ بالله، فتكلفهم بأعمال شاقة؛ إتعاباً لأبدانهم وتعذيباً لهم. إذاً: قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، أي: تعمل دائماً أعمالاً صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، فهم يرمون -والعياذ بالله- في النار، ثم يكلفون بارتقاء العقبات العالية المرتفعة، فهذا بلا شك فيه تعب ونصب شديدان. أو (عاملة) من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة من جنس أعمالها التي رضيت بها في الدنيا، وإتعابها فيها من غير منفعة لها منها إلا التعب والعذاب؛ لكنهم في الدنيا كانوا يجنون من ورائها ربحاً ومالاً، أما في النار فالعذاب بالإصعاد والأعمال الشاقة التي يكلفونها ليس فيه مقابل إلا التعب والعذاب. ويجوز أن تكون {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}: إشارة إلى عملهم في الدنيا، فيكون المعنى: كانت عاملة ناصبة في الدنيا. إذاً: يوجد وجهان للآية: الأول: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: عاملة ناصبة في أعمال الدنيا، كالذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث بقوله: (جيفة بالليل، حمار بالنهار) أي: يكدح بالنهار في عمل الدنيا كالحمار. الثاني: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: الكافر الذي يتعب نفسه في العبادة كالرهبان الذين يعيشون في حرمان، بسبب تحريم الطيبات على أنفسهم من أطعمة وألبسة، وكذا التمتع بمتاع الحياة الدنيا الذي أباحه الله لخلقه، فيَحْرمون أنفسهم ويعذبونها بأنواع المشاق، ويجتهدون في الصلاة والصيام وغيرها من العبادات، ثم تكون هباءً منثوراً يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]، فتحبط جميع أعمالهم بالكفر، وكما قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، فهذا أشد الخسران، ففي حقهم يكون معنى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} أي: أنهم يكدّون ويكدحون ويتعبون في التعبد بكافة أنواع المشقات، وهم يرجون بذلك الثواب من الله سبحانه وتعالى، ثم إذا بهم يفاجئون يوم القيامة كما قال الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]. ويجوز أن يكون قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} إشارة إلى عملهم في الدنيا، أي: عملت ونصبت في أعمال لا تجزى عليها في الآخرة، فيكون بمعنى: حابطة أعمالها، أو جعلت أعمالها هباءً منثوراً كما تدل عليه آيات أخر، مثل قوله تعالى في سورة النور {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]. ويؤيده مقابلة هذه الآية لقوله في أهل الجنة: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9]، فأول صفة للكفار هنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}، وأول صفة للمؤمنين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8]. الصفة الثانية للكفار: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، والصفة الثانية للمؤمنين: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}، ما هو السعي؟ السعي الذي كان في الدنيا، فالمؤمن يأتي راضياً عما سعى في الدنيا من الأعمال الصالحة، ويقابلها: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}، وهذا يقوّي قول من قال: إن المقصود بـ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}: عملها في الدنيا، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (تصلى نارا حامية لا يسمن ولا يغني من جوع)

تفسير قوله تعالى: (تصلى ناراً حامية لا يسمن ولا يغني من جوع) قال تعالى: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:4] أي: تدخل ناراً متناهية في الحرارة. {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5] آنية: أي بلغت غايتها في شدة الحر، فذكر أولاً الشراب، وقوله: (تُسقى) إشارة إلى أنه لا يقبل هو أن يشرب، ولكنه يُسقى رغماً عنه، ولا يستطيع أن يمتنع. {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] الضريع: هو نوع من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته -أي: تجنّبته-، وهو سُمُّ قاتل. قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له: الشبرق، ويسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:36]؛ لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات، فمنهم: أكلة الغسلين، ومنهم: أكلة الضريع عافانا الله وإياكم. وقيل: الضريع أُريدَ به طعام مكروه حتى للإبل التي تتميز برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوماً أو غسليناً، فيكون الضريع كناية عن الطعام المكروه الذي تعافه الإبل رغم أنها تمتاز برعي الشوك، فليس لهم طعام إلا هذا الشيء المكروه، وهذا يناسب كونه زقوماً أو غسليناً. {لا يُسْمِنُ} [الغاشية:7] أي: لا يسمن بدن الآكل، {وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] أي: لا يسكّن داعي النفس ونهمها، فيظلون يتعذبون بالجوع والعطش، فلا الشراب يرويهم، ولا الطعام يشبعهم، وهذا نوع من أنواع العذاب أيضاً والعياذ بالله. وإذا صرخوا وطلبوا السقيا فكما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29] أي: إذا اقتربوا منه ليشربوا شوى وجوههم لقوة حرارته!! فما بالك إذا شربوا منه؟! قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، نسأل الله العافية! فما أقوى هذا الكلام وما أشد تأثيره، ولكنها الغفلة التي تُخيّم على القلوب، وتحول بينها وبين الانتفاع بكلام الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة وزرابي مبثوثة)

تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة وزرابي مبثوثة) قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] بمعنى: أنها متنعمة بين النعيم، خلافاً لحُسن المنظر المحروم من التنعم، مثل أن نقول: فلان يعيش حياة ناعمة، أي: متنعمة في نعيم ورفاهية، أو أن المقصود بقوله: (ناعمة) من النعومة أي: وجوه أهل الجنة ذات حُسْن -إذ ليس في وجوههم لحى-. {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] أي: لعملها الذي عملته في الدنيا، وحزمها في طريق الجد، واكتساب الفضائل، فهي شاكرة لا تندم ولا تتحسر، فيقول أحدهم عند أخذه الكتاب باليمين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] فهو في غاية الفخر، لماذا؟ يقول: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:20 - 22]. فقوله هنا: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي: للسعي الذي عملته في الدنيا راضية، ويحمدون الله أن وفقهم للعمل الصالح في الدنيا، وأن هداهم للإيمان وسائر أنواع البر، بخلاف الذي يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29]. قوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية:10] أي: مرتفعة في المحل أو رفيعة القدر، فقوله: (عالية): إما علو القدر والمكانة، وإما علو المكان، ولا تعارض بين الصفتين، فالجنة عالية القدر، وهي أيضاً عالية في المكان والمحل. {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11] أي: لغواً، أو كلمة ذات لغو، أو نفساً تلغو؛ لأن كلامهم فيه الحشمة والعلو، والتسبيح والتحميد. {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:12] أي: لا انقطاع لها. {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] أي: مرتفعة؛ لأن السرر إذا كانت مرتفعة يتمكنون من رؤية جميع ما حولهم من النعيم. {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:14] الأكواب: جمع كوب، وهو الإناء الذي لا أذن له، (مَوْضُوعَةٌ)، أي: بين أيديهم لا يعجزهم أخذها، فهي موضوعة ومهيأة أمامهم، فلا يذهبون للبحث عنها وإحضارها. {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:15] النمارق: الوسائد، مصفوفة: صف بعضها إلى جانب بعض فوق الأسِرّة أو في الجوانب للاستناد إليها. {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] الزرابي: البُسط والطنافس، ((مَبْثُوثَةٌ)) يعني: مفروشة.

تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى الأرض كيف سطحت)

تفسير قوله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى الأرض كيف سطحت) قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17]، هذا استئناف مسوق لتقريب ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مدلول عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون للاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره، لكن ما علاقة هذه الآيات بالتي قبلها؟ إن الآيات السابقة فيها إخبار عن الغاشية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وبيان حال أصحاب الجنة، وحال أصحاب النار، وهذا كله مبني على الإيمان بالبعث والنشور، والدار الآخرة، والحساب والجزاء، والكفار ينكرون البعث، فالله سبحانه وتعالى يوجه أنظارهم إلى الإيمان به عز وجل وبقدرته على الخلق، وهذا سيلزمهم بالإيمان بالبعث والنشور، وأحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار، فدلّهم إلى الإيمان بالله عن طريق أدلة محسوسة لا يستطيعون إنكارها؛ لأنها مشاهدة؛ فلذلك قال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، (أَفَلا) الهمزة: للإنكار والتوبيخ، والفاء: للعطف على مُقدّر يقتضيه المقام. ((أَفَلا يَنْظُرُونَ)) يعني: أينكرون ما ذُكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل؟! أفلا ينظرون إلى الإبل -التي هي نصب أعينهم ويستعملونها كل حين- كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات؟! فالإبل فيها أشياء اختصت بها دون سائر الحيوانات، من عِظَم جثتها، وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة لحمل الأشياء الثقيلة، وجرّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة - البعيدة-، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إن إظماءها لتبلغ العشر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم، فأنت ترى الإبل ترعى ما تيسر من أنواع النبات، فهذه من خصائصها. وأيضاً انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والجلوس والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، فإن الجمل على رغم قوته الشديدة، إلا أنه يقوده طفل صغير أو رجل ضعيف أمامه! فالله سبحانه وتعالى يذلله ويسخره للإنسان. {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية:18] السماء التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار، ((كَيْفَ رُفِعَتْ)) أي: رفعت كواكبها رفعاً سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكاً لا يختل سيره، ولا يفسد نظامه. {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19] الجبال التي ينزلون في أقطارها، ((كَيْفَ نُصِبَتْ)) أي: أقيمت منتصبة، فلا تبرح مكانها حفظاً للأرض من الميلان. {وَإِلَى الأَرْضِ} [الغاشية:20] التي يضربون فيها ويتقلبون عليها، {كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:20] أي: بُسطت ومُهّدت حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق. قال الزمخشري: والمعنى: أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق؛ حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤمنوا به ويستعدوا للقاء الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر ثم إن علينا حسابهم)

تفسير قوله تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر ثم إن علينا حسابهم) قال تعالى: ((فَذَكِّرْ)) ذكّر من أُرسِلْت إليه بآياته تعالى التي تسوق إلى الإيمان بخالقها على الفطرة. {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] أي: مُبلِّغ ما نُسي من شرعه تعالى. {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] أي: بمتسلط تقهرهم على الإيمان. وقرئ بالسين على الأصل (بمسيطر). {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:23 - 24]، وهو عذاب جهنم والعياذ بالله، والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} منقطع، يعني: لكن من تولى وكفر فإن لله الولاية عليه والقهر له فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق، فليس هنا استثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ}، إذ ليس معناه أن الرسول يسيطر على من تولى وكفر! لكن المقصود: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}، لكن {مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:23 - 24]، على جحده الحق. {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية:25] أي: رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث، والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] نلاحظ هنا أن الضمير جمع، أما في قوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:23 - 24] فإن الضمير مفرد، والإفراد هنا في قوله: (فيعذبه) باعتبار اللفظ، أما الجمع في قوله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} فهو باعتبار معنى (من). إذاًَ: جمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى (من) كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها. وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}، أي: سنجازيهم بالعذاب الأكبر، فإن القهر والغلبة لله تبارك وتعالى وحده.

البلد

تفسير سورة البلد

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)

تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) سورة البلد مكية بإجماعهم، وهي عشرون آية. قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:1 - 3]، (لا أُقْسِمُ) فيها قولان: القول الأول: أن معناها: أقسم، وإنما أدخلت (لا) في التوكيد، فـ (لا) زائدة، وهذا معهود في لغة العرب، كما قال الله تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29]، يعني: ليعلم، فهي مزيدة للتوكيد. القول الثاني: أن هذا التركيب: (لا أقسم) صيغة من صيغ القسم. فقوله تعالى: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: أقسم بهذا البلد، وهو مكة المكرمة.

تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)

تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) قال تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] يعني: أقسم بهذا البلد وأنت في هذا البلد، فالقسم مقيد بكون النبي صلى الله عليه وسلم حالاً بهذا البلد، وفيه عناية بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأن الله أقسم بالبلد لأجل وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وفيه الإشارة إلى عدم شرف أهل مكة، وأنهم جهلوا جهلاً عظيماً بهمهم بإخراج من هو حقيق بالبلد، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحق الناس أن يقيم في بلد الله الحرام، وشرف هذا البلد يتم بحلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فمثل هذا حقه أن يوقر وأن يؤمن به وأن يتبع وأن يصدق، لا أن يطرد ويخرج من هذا البلد. قال الشهاب: والحل صفة أو مصدر بمعنى: الحال، ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة. إذاً: قوله تعالى: ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) أي: وأنت حال مقيم موجود في هذا البلد، وقيل معناه: وأنت يستحل فيه حرمتك، ويتعرض لأذيتك، ففيه تعجيب من حالهم في عداوته، وتعريض بتجميعهم وتفريقهم؛ لأنه لا يستحل فيه الحمام، فكيف يستحل فيه دم مرشد الأنام عليه الصلاة والسلام! وقيل: معناه ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) به في المستقبل، أي: سيحل له القتال فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا البلد حرمه الله عز وجل، وإن مكة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار) يعني: ساعة الفتح، فعندما فتحها أحل الله له أن يفعل بأعدائه ما يشاء، ثم قال: (فإن ترخص أحد بقتال النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لك)؛ فلذلك فإن مكة البلد الحرام لا يجوز لأحد أن يستحل القتال فيها بحال من الأحوال. وهذه السورة مكية بإجماع المفسرين، وسورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] إلى آخرها هي آخر سورة أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يدل على أن في هذه الآية إخباراً بشيء لم يكن قد وقع، فقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) يعني: سوف يأتي وقت تحل لك فيه مكة، وذلك ساعة من النهار كما حصل في فتح مكة، ثم عادت حرمتها بعد الفتح كما كانت قبل الفتح. فهذه الآية إشارة إلى ما سيقع من فتح مكة وإحلالها له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يقتل فيها ويأسر، مع أنها ما أحلت لأحد قبله ولا تحل لأحد بعده، ففيه تسلية له ووعد بنصره وإهلاك عدوه. والحل على هذين الوجهين ضد الحرمة، قال بعض المفسرين: هذا فيه بعد، لاسيما الوجه الأخير، فالتفسير الأول أولى، يعني: وأنت حال في هذا البلد، أي: أقسم بهذا البلد وأنت حال فيها، وفي ذلك زيادة في شرفها لوجودك وحلولك فيها. قال بعضهم: وإنما كان الأول أولى لتشريفه صلى الله عليه وسلم، بجعل حلوله به مناطاً لأعوانه، فهذا تشريف لمكة حتى أقسم الله بها؛ وإنما زاد شرفها لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، مع التنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب بذكر بعض مواد المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وأنه كابد المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله ما لم يكابده داع قبله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن هذا القسم: (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) جوابه في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فذكر هذا القسم بالبلد مع حلول النبي صلى الله عليه وسلم فيه تحقيق لمضمون الجواب، وهو أن الإنسان بالفعل خلق في كبد، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كابد من المشاق، ولاقى من الشدائد في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ما لم يكابده داع قبله صلوات الله عليه وسلامه.

تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)

تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد) قال تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] هذا عطف على قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] يعني: أقسم بوالد وما ولد، قيل: يعني: آدم وذريته، وقيل: إبراهيم وولده، والصواب -كما قال ابن جرير -: أن المعني به كل والد وما ولد؛ لأن الصيغة صيغة عموم، قال ابن جرير: وغير جائز أن يخص ذلك إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل، يعني: من أراد أن يخصصه بآدم أو بإبراهيم أو غيرهما، فلابد أن يأتي بحجة نقلية أو عقلية، ولا سبيل إلى شيء من ذلك، قال ابن جرير: ولا خبر بخصوص ذلك، ولا برهان يجب التسليم له بخصوصه. وقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) عبر بما مكان من للعاقل كما في قول الله تبارك وتعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] والمقصود: من طاب، فإذا كان التركيب على الوصف تستعمل ما، ومثله قول الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بأي مولود عظيم الشأن وضعته. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فإدخال (ما) على (من) لإرادة الوصف، يفيد التعظيم في مقام المدح، وكأنه لا يحتمل كنهه لشدة إبهام ما؛ لأن الإبهام في (ما) أشد، فكأن هذا الشيء المعظم لا يشتبه وصفه؛ ولذا أفادت التعجيب وإن لم يكن استفهاماً كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) أي: أي مولود عظيم الشأن وضعته. فقوله تعالى: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) إن كان المقصود آدم أو إبراهيم فذكر (ما) ظاهر، فيكون المراد إبراهيم الوالد، وولده محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عظيم عجيب، أو يكون المراد آدم وذريته فالتعجب من كثرتهم يعني: وما أدراك ما هذا الذي ولد له هذا الوالد وهو: آدم وكل ذريته؟! فالتعجيب هنا من خصائص آدم وذريته التي اختصوا بها على سائر المخلوقات كالنطق والعقل وحسن السيرة إلى آخر تلك الخصائص.

تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)

تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) قال عز وجل في جواب القسم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] أي: في شدة يكابد الأمور ويعالجها في أطواره كلها، من حمله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار، من بداية ما يحصل الحمل به وهو نطفة مذرة ثم يستمر نموه شيئاً فشيئاً إلى أن يخرج من بطن أمه باكياً، ثم ينمو ويمر بالأطوار التي يمر بها كل إنسان من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، إلى الموت، إلى القبر، إلى البعث والنشور، إلى أهوال يوم القيامة، ومقداره خمسون ألف سنة، إلى الميزان، إلى الصراط، ثم إلى نهاية الرحلة وهي الاستقرار في دار القرار إما في الجنة وإما في النار، فالإنسان في كل هذه المراحل يكابد المشاق، ولا يخلو الإنسان أبداً من المشاق. قال الزمخشري: الكبد مأخوذ من قولك: كبد الرجل كبداً فهو أكبد إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع في هذا التعبير حتى استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه، وأصله كبده، إذا أصاب كبده، قال لبيد: يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. وفي هذه الآية الكريمة: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً. (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) يعني: كل إنسان يعاني ويكابد المشاق، فهذه سنة الله الماضية، وهذا فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش، من جهة أن الإنسان لم يخلق للراحة في الدنيا، ولذلك لما قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: إذا خلف جسر جهنم وراءه. فالإنسان لا يجد الراحة إلا إذا مر على الصراط، ونجا من أهوال يوم القيامة، وأبصر النار بعيدة عنه، وأوشك أن يدخل الجنة، فعندها يجد طعم الراحة، أما قبل ذلك فهو في كبد، فمن يطلب الراحة في الدنيا فهو يطلب المحال؛ لأن الدار التي ليس فيها نصب هي الجنة فقط كما قال الله عنهم: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:35]، أما الدنيا فلا يمكن أبداً أن يجد الإنسان فيها الراحة دائماً، فكل إنسان لم يخلق للراحة، وكل من كان أعظم إيماناً فهو أشد نصباً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه قوة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة). قال القاسمي رحمه الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أي: مكابدة ومشقة، ومما ابتلي به هواه فهو معه في صراع ومجاهدة كما قال الشاعر: إني ابتليت بأربع يرمينني بالنبل قد نصبوا علي شراكا إبليس والدنيا ونفسي والهوى من أين أرجو بينهن فكاكا فالعبد في مكابدة ومشقة مع نفسه وهواه والدنيا والشيطان. والكبد مصدر القوى الطبيعية، فاستعير غلظ الكبد لغلظ حجاب القلب ومرض الجهل.

تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد)

تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) قال تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] أي: أيحسب هذا الإنسان لغلظ حجابه ومرض قلبه واحتجابه بالطبيعة أن لن تقوم قيامته، وأن لن يقدر الله سبحانه وتعالى على مجازاته وقهره وغلبته؟! هذا مع أن ما هو فيه من المكابدة يكفي لإيقاظه من غفلته واعترافه بعجزه.

تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالا لبدا)

تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً) قال تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] يعني: يقول الإنسان: أهلكت مالاً كثيراً، (لُبَدًا) من تلبد الشيء إذا اجتمع، كما قال الله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] فسر أنهم كانوا طبقات بعضهم فوق بعض، وكذلك قوله هنا: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) يعني: مالاً كثيراً متراكماً بعضه فوق بعض، والمراد هنا: ما أنفقه للافتخار والمباهاة والرياء، فيفتخر بأنه أنفق كثيراً، مثل قول بعض الناس إذا أنفق على شخص: خسرت عليه كذا وكذا يعني: ضحيت بهذا المال الكثير من أجل هذا الشخص، فهذا الإنسان الجحود يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة ولجهله، فمن الجواد؟ ومن البخيل؟ الجواد هو: الذي يعطي في موضع العطاء، ويمنع في موضع المنع، والبخيل هو: الذي يمنع في موضع العطاء، فلو أن إنساناً يعطي في غير موضع العطاء، بل لأجل المفاخرة والمباهاة؛ فهذا لا يمدح، ولا يسمى هذا جوداً وكرماً، وإنما هذه سفاهة وإسراف وتبذير، فالإنفاق لا يمدح على الإطلاق، وإنما يمدح الإنفاق إذا أنفق في المحل اللائق به، أما من ينفق ماله سفاهة فهذا لا يمدح، وليس هذا من الكرم ولا من الجود في شيء، مثل هذا الذي يقول: ((أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)) فأنفق مالاً كثيراً يباهي به الناس، ويتفضل عليهم بالتبذير والإسراف، ويحسب أن هذا الإسراف فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله.

تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد)

تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد) قال الله سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7] أي: أيحسب أن الله تعالى لم يطلع على باطنه ونيته حين ينفق ماله في السمعة والرياء والمباهاة لا على ما ينبغي في مراضي الله، وهذه رذيلة على رذيلة، من حيث التبذير في النفقة، ومن حيث أنه لا يريد بذلك وجه الله، فإن كانت رذيلة فوق رذيلة، فكيف يحسبها فضيلة؟!

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين)

تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين) قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9] أي: ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من البصر والكلام، فهذا تذكير بنعم الله على العباد، وما يسر عليهم في تكاليفهم، وما تفضل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويدفعون بها المضار عنهم؛ لأن الحاجة إلى أكثر المنافع الدينية والدنيوية ماسة، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، وللنطق أيضاً.

تفسير قوله تعالى: (وهديناه النجدين)

تفسير قوله تعالى: (وهديناه النجدين) قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: طريقي الخير والشر كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، ومعنى: ((هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) أي: بينا له ووضحنا له طريق الخير وطريق الشر، والنجد هو الطريق المرتفع، والمراد بهما: طريقا الخير والشر، سماهما نجدين ليشير إلى أن في كل منهما وعورة وصعوبة، فليس الشر بأهون من الخير كما يظن، وكذلك ليشير إلى أنهما واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك. فالله تعالى بين طريق الخير وطريق الشر فهما كالنجدين المرتفعين، والشيء العالي لا ينكره أحد إذا رآه، وقد بين الله الطريقين بما أوحى، فهما طريقان واضحان جليان لا يخفى واحد منهما على سالك في أحد الطريقين، فالعبد يختار أحدهما وهو على بصيرة؛ لأنه طريق غير ملتبس، بل طريق واضح. وهذه الآية: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) يفسرها قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، وقيل: أي: أوزعنا في فطرته التمييز بين الخير والشر، وأقمنا له من وجدانه وعقله أعلاماً تدله عليهما، ثم وهبناه الاختيار بعدما بينا له، فعليه أن يختار أي الطريقين شاء، فالذي وهب الإنسان هذه الآلات، وأودع في باطنه تلك القوى؛ لا يمكن للإنسان أن يفلت من قدرته، ولا يجوز أن يخفى عليه شيء من سريرته، فأدوات الإدراك كلها منة من الله سبحانه وتعالى، فإذا كان الله هو الذي أعطاك العينين واللسان والشفتين، وهو الذي هداك النجدين، فكيف تحسب بعد ذلك أن الله لم يطلع عليك حينما أنفقت مالاً لبداً للمباهاة والرياء والتفضل على الناس من غير ابتغاء وجه الله؟! وكيف يحسب أن الله لم ير ما في باطنه من النية الفاسدة والرياء؟! كيف يحسب ذلك والله هو الذي امتن عليه بكل آلات الإدراك، وهو المدبر الحكيم لهذه القوى، والإنسان لا يرى إلا بالله؟! وقول الله سبحانه وتعالى: {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] هذا اللسان نعمة عظيمة، ولكن هذه الجارحة لها خطورة مهلكة إن لم يحترز صاحبها؛ ولهذا جعل الله أمام اللسان باباً من عظم وهو الأسنان، وباباً من لحم وهو الشفتان؛ كي يستحكم إغلاقه، ولا يخرجه إلا بحساب؛ لخطورة هذا اللسان الذي إذا خرج كان كالثعبان يلدغ خلق الله سبحانه وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)

تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة) قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] يعني: ألم يشكر الإنسان تلك النعم الجليلة باقتحام العقبة؟! فحق هذا الإنسان الذي آتاه الله هذه النعم أن يقتحم العقبة، لكنه لم يقتحم العقبة! والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة، والعقبة هي: الطريق الوعرة في الجبل التي يصعب سلوكها، والتعبير بهذا اللفظ هنا لما فيه من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. والمراد بالعقبة هنا بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:12 - 17]، فهذا كله هو معنى اقتحام العقبة، فاقتحام العقبة يكون بالإتيان بهذه الأمور التي فيها مشقة ومجاهدة نفس. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي: أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟! والاستفهام هنا فيه زيادة تشويق لها، وأن لها عند الله تعالى مكانة. وقوله: (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة أو المعاونة على عتقها وتخليصها من الرق وأسر العبودية، رجوعاً بها إلى ما فطرت عليه من الحرية.

تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)

تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) قال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14] يعني: إطعام في يوم مجاعة. وإطعام مصدر، مفعوله يتيماً، أي: إطعام يتيماً، {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] يعني: ذا قرابة، وهذا حض على تقديم ذوي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الإطعام؛ لأن الصدقة على المسكين صدقة، أما الصدقة على القريب فهي صدقة وصلة، وثوابها أكثر؛ لأنها صدقة من جهة، وصلة رحم من الجهة الأخرى، وهذه الآية يفهم منها أن الإحسان إلى القريب المحتاج أولى وأفضل وثوابه أعظم من الإحسان لغير القريب. وقيل: المقربة هنا غير مأخوذة من القرابة والقربى، بل من القرب، والقرب: هو الخاصرة، فكأن المعنى: أنه يطعم من خاصرته لصقت من شدة الجوع والضر، وهذا أشبه بقوله تعالى: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)، والآية تحتمل أنه من ذوي القرابة، وتحتمل التفسير الآخر؛ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالقرب. وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] أي: ذا فقر شديد لا يواريه إلا التراب، يقال: ترب يعني: لصق بالتراب، ويقال: الفقر المدقع أو فقير مدقع بمعنى: لاصق بالدقعاء وهي: التراب، فالفقر المدقع الذي يلصق صاحبه بالتراب. وذهب الأكثرون إلى أن (لا) نافية في قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11]، وإنما لم تكرر مع أن العرب لا تكاد تفردها كما في آية: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31] وكقوله تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38]؛ وكما تقول: لا في العير ولا في النفير، استغناء بدلالة بقية الكلام على تكراره، فسياق الكلام يفيد تكرارها؛ لأن التقدير: لا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً. وفي الآية أجوبة أخرى منها أنه لما عطف عليه كان هو منفي أيضاً، فكأنها كررت، وقيل: لا للدعاء، كما تقول: فلان لا نجا ولا سلم، يعني: أسأل الله ألا يسلمه ولا ينجيه، وقيل: أصلها ألا للتحضيض، وقيل: إنها للنفي فيما يستقبل، وقال بعضهم: قولهم: (لا) إذا دخلت على الماضي وجب تكرارها؛ قول لا يلتفت إليه؛ لأن القرآن نفسه حجة في الفصاحة، ولم تتكرر (لا) في هذه الآية، وقد ورد في كلامهم عدم تكرارها.

تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة)

تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) هذه الأعمال التي ذكرها الله في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:12 - 16] لا تنفع إلا مع الإيمان، فلا تنفع صاحبها في الآخرة إلا إذا كان مؤمناً، قال الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] فيشترط الإيمان حتى تنفع الأعمال الصالحة؛ ولهذا قال سبحانه هنا: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17]، و (ثم) هنا بمعنى: الواو، يعني: هو يفعل هذه الأشياء، ثم بعد ذلك يؤمن. قوله تعالى: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: بالحق الذي جاءهم. ((وَتَوَاصَوْا)) أي: أوصى بعضهم بعضاً. ((بِالصَّبْرِ)) أي: على ما نالهم في سبيل الدعوة إلى الحق. ((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) أي: بالرحمة على بعضهم كقوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، أو المعنى: بموجبات رحمته تعالى من القيام بالحق والصدع به، فالمرحمة هنا: أن يرحم بعضهم بعضاً، وكما قال سبحانه: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] أي: يتواصوا فيما بينهم بالأشياء التي إن فعلوها توجب لهم رحمة الله إياهم، وهي الأعمال الصالحة، والجهاد، والدعوة، والصدع بالحق، والصبر على ذلك. وقوله: {الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18] أي: اليمين، أو المراد جهة اليمين التي فيها السعداء أصحاب اليمين.

فوائد في قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)

فوائد في قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة) يقول القاشاني: يشير قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] إلى آخره إلى قهر النفس بتكلف الفضائل، والتزام سلوك طريقها، والتزامها حتى يصير ذلك طبعاً، فهذه الآية إشارة إلى أن يقهر الإنسان نفسه وأن يجاهد نفسه، ويتكلف الفضائل حتى لو لم يكن متحلياً بالفضائل كلها، لكن يجاهد نفسه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد أن يجاهد العبد نفسه وهواه في ذات الله) أو كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا يستفاد من قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)، فإن العقبة المرقى الوعر جداً في جبل، وصعود الجبال يترتب عليه مشقة كبيرة؛ لأن التنفس يصعب كلما ارتفع الإنسان إلى أعلى، فهو يقتحم هذه العقبة، ويتكلف المشقة في الارتفاع في هذه الطريق الوعرة، فالله سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه الآية إلى مجاهدة النفس، وتحمل المشقة في جهاد النفس، فقال: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فكأنه يقتحمها بقوة وجرأة، والمقصود أن الإنسان يغالب نفسه ويقهرها، ويعودها الفضائل، ويلزم نفسه سلوك طريقها واكتسابها حتى يصير التطبع طبعاً، فيتطبع أولاً ومع المداومة يستطيع أن يغير طبعه إلى الخير وإلى الأحسن. وقال بعض المفسرين: الإطعام في وقت شدة الاحتياج للمستحق هو من باب وضع النفقة في مستحقها، بخلاف الذي ينفق مالاً كثيراً مفاخرة ومباهاة ورياء، ويظن أن ذلك فضيلة، بل هي رذيلة فوق رذيلة، فضلاً عن كونها تبذيراً وإسرافاً من أجل المراءاة والتباهي؛ ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إجابة دعوة المتباريين وقال: (إن المتباريين لا يجابان ولا يؤكل طعامهما)، فإذا كان غنيان كل واحد منهما يعمل الوليمة، ويدعو الناس إليها مباهاة، وكانا يتباريان ويتنافسان، فإنهما يعاقبان بألا تجاب دعوتهما، ولا يؤكل طعامهما، فالمتباريان لا تجاب دعوتهما ولا يؤكل طعامهما؛ لأنهما لا ينفقان ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، وهذا يعلم بالقرائن، فإذا عرف أنهما يريدان المباهاة لا النفقة في سبيل الله تبارك وتعالى فلا يجيبهما، أما هذا فيخرج الطعام في وقت المجاعة: ((فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ))، يطعم الطعام في وقت شدة احتياج الشخص المستحق للصدقة وللطعام، وهذا من باب فضيلة الإيثار، بل هو أفضل أنواعها؛ لأن المجاعة في الغالب تعم، فيكون هو محتاجاً للطعام، لكنه يطعم مع ذلك في وقت المجاعة.

اقتحام الأهوال في سبيل الله

اقتحام الأهوال في سبيل الله قوله تعالى: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا))، الإيمان هو العلمي اليقيني ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) الصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، والإيمان مقدم الشجاعة، فالإنسان يكون عنده يقين ثم تكون عنده الشجاعة، كما في الجهاد، فالمجاهد يضحي بنفسه وبروحه وعنده يقين بأن له عند الله الجنة، وهذا غيب، ولو لم يكن عنده يقين بالغيب لما أقدم، ولما حصلت له هذه الشجاعة، وهذه هي المشكلة التي تؤرق أعداء الإسلام في كل زمان، فالكفار الذين حاربوا المسلمين منذ العصر الأول إلى يومنا هذا مشكلتهم أن المسلمين يحبون الموت أشد من حب الكفار للحياة! وهذا هو الذي يقض مضاجع اليهود، وشواهد هذا من التاريخ كثيرة جداً، وما أكثر فزع الكفار من شدة حب المسلمين للموت! ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد في عهد ريجن حصلت في لبنان عملية دك المبنى الأمريكي، ومات عدد كبير جداً من العسكريين الأمريكان في هذه الحادثة في بيروت، وعلى أثرها فرت أمريكا من لبنان كالجرذان الهاربة، وعاتبوا ريجن وقالوا له: كيف أن أمريكا أقوى دولة في العالم وعندها تكنولوجيا وكذا وكذا، ومع هذا يحصل هذا التفجير؟! فرد عليهم رداً منطقياً فقال: إن أقوى إجراءات الأمن في العالم لا تقف في وجه رجل يريد أن يموت! فالشاهد أن هذا هو الذي أقض أعداء الإسلام في كل وقت، وهذا من خصائص هذه الأمة، وما هو السر؟! الكفار لا يفقهون؛ لأنهم لو فقهوا لعلموا السر، السر هو أنه لا يقدم على هذا إلا وهو موقن بأنه سوف ينتقل إلى ما هو أفضل؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه)، والذنوب دائماً تصيب الإنسان بالجبن والهلع والخوف، فيخشى من الموت فيلقى الله بذنوبه، لكن الله سبحانه وتعالى يزيل من أمامه هذه العقبة، فيقول له: ضمنت لك إذا استشهدت في سبيلي أن أمحو عنك ذنوبك في أول دفعة من دمك، فتمسح منه كل الخطايا التي ارتكبها تماماً، فمن منا لا يحرص أن تمحى خطاياه بهذه السرعة؟! قال عليه الصلاة والسلام: (يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج سبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، فهذا هو سر هذه القوة عند المسلمين، مع أنهم قد يدخلون في كثير من المعارك وهم في حالة شديدة من الضعف مادياً، لكن هذه النقطة بالذات هي التي أقضت الروم وأقضت الفرس وأقضت كل من يتصدى للمسلمين. في حرب فلسطين سنة 1948م كان اليهود أخوف ما يخافون من المجاهدين من الإخوان المسلمين، فكانوا يخافون منهم جداً، ويهربون من أي مكان يجدونهم فيه، قال أحد الضباط اليهود في ذلك الوقت: نحن أتينا إلى فلسطين لنعيش، وهم جاءوا إلى هنا من أجل أن يموتوا! فهم معترفون أنهم من أشتات الأرض، منهم اللصوص المجرمون، فالحل أن يرجع كل واحد إلى وطنه، يرجع الفلسطينيون إلى بلادهم، ويرجع اليهود من حيث جاءوا من أشتات الأرض التي كانوا فيها. وإلى الآن يفزع اليهود من المجاهدين الفلسطينيين مع أنه لا وجه للمقارنة بين قوة هؤلاء المساكين أطفال الحجارة، وبين جيش عرمرم، ومع ذلك يضجون ويخافون ويفزعون! ولا أريد الآن الدخول في تفاصيل موضوع ما يسمى بالعمليات الانتحارية، فهو يحتاج إلى شيء من التفصيل من ناحية فقهية، لكن هي تدل على أن الشجاعة تأتي بعد اليقين، فلابد أولاً من اليقين، فالمجاهد يعلم أنه إذا قتل في سبيل الله فهو حي عند الله كما قال سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فهو يصدق خبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، ووعد الله لا يمكن أن يخلف، فإن الله لا يخلف الميعاد، قال الله حاكياً عن المؤمنين قولهم: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشهيد لا يجد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) فألم السيف أو الرصاص أو العذاب لا يشعر به. وقال النبي عليه السلام: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)، فلذلك الشهيد يجار من عذاب القبر، ولا يفتن في قبره، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه، فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا، وهو سيموت ولا بد بأي سبب؟ تعددت الأسباب والموت واحد ولن يموت إلا بأجله، قال خالد رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت: ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح أو ضربة بسيف، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! ومن الحكم: احرص على الموت توهب لك الحياة. إذاً: فضيلة الشجاعة لا تأتي إلا مترتبة على فضيلة اليقين، فلابد من اليقين أولاً، ثم اليقين هو الذي يجعل الإنسان شجاعاً، أما إذا لم يوجد عند الإنسان يقين، فهو يريد الدنيا ولا يريد الآخرة، وهذا يجعله يرفع شعار: الجبن سيد الأخلاق كما يقولون.

الصبر على الشدائد

الصبر على الشدائد الصبر على الشدائد من أعظم أنواع الشجاعة، وأخره الله عن الإيمان في قوله: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))؛ لامتناع حصول فضيلة الشجاعة بدون اليقين، فأولاً يؤمن فإذا آمن يكون واثقاً من ثواب الصبر، وعنده يقين بالعاقبة الحسنة لهذه الشجاعة والإقدام. وقوله تعالى: ((وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) أي: بالتراحم والتعاطف، وهذا من أفضل أنواع العبادة. قال بعض المفسرين: هنا عدد الله أجناس الفضائل الأربع التي يحصل بها كمال النفس، بدأ بالعفة التي هي أولى الفضائل، وعبر عنها بمعظم أنواعها وأخف خصالها الذي هو السخاء، ثم أورد الإيمان الذي هو الأصل والأساس، وجاء بلفظة (ثم) لبعد مرتبته عن الأولى في الارتفاع والعلو. ثم رتب عليه الصبر لامتناعه بدون اليقين، فالصبر واليقين توءمان، والصبر أعلى درجات الشجاعة، والقرآن يربط رباطاً وثيقاً بين الصبر والإيمان، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، يقول العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة الإمامة إلا ومعه الصبر واليقين، وكذلك هنا ربط بينهما فقال: ((ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) فالإيمان هو اليقين، ثم ذكر الصبر، ولا يمكن أن يحصل صبر إلا باليقين، ولذلك تجد المؤمن أقل الناس جزعاً عند المصائب، فالمؤمن لا يجزع عند المصائب، حتى يعجب الناس من حاله إذا نزلت به مصيبة؛ لأنه يوقن أن ما عند الله خير وأبقى. أحد الإخوة الشباب كان راكباً في طائرة فاختطفت، فكان يجلس بجواره بالطائرة رجل أمريكي، وكانت تحصل مفاوضات بين الخاطفين للطائرة وغيرهم، وكان الركاب في فزع وهلع وجزع؛ لأنهم يخافون من الموت، أما هذا الأخ فكان عنده سكينة ويقين وبرد وسلام، يذكر الله سبحانه وتعالى وكأن شيئاً لا يحصل، راضياً بما يقدره الله سبحانه وتعالى من موت أو حياة، فهو يستغفر الله ويذكر الله في غاية من الاطمئنان والهدوء والسكينة، فكان هذا يستفز الرجل الأمريكي الذي بجانبه، فقد كان في غاية من القلق والفزع والهلع من هذا الذي يحدث، فما صبر الأمريكي وكان كبيراً في السن، فقال له: ما هذا؟! نحن في هذه الحالة من الفزع وأنت جالس تتمتم بالأذكار مطمئناً! فقال له: لأنني مسلم، فقال له: ماذا تعني؟ فشرح له أن كل شيء سيكون بقضاء الله وقدره، والمسلم كل أمره له خير، ومهما حدث له فسيكون خيراً له إلى آخره، فالرجل من شدة إعجابه قال: لو نجوت من هذه الحادثة فسوف أدخل في الإسلام الذي يجعل أتباعه يصمدون أمام الشدائد بهذه الطريقة، فنجوا ولكن للأسف الشديد لم يسلم هذا الرجل! والله أعلم بحاله، وحسابه على الله. الشاهد أن المؤمن بما عنده من اليقين لا يجزع عند الشدة ولا يخاف، بسبب ما عنده من اليقين، فاليقين هو أصل الشجاعة. واستغنى بذكر المرحمة التي هي: صفة الرحمن عن سائر أنواعها كما استغنى بذكر الصبر عن سائر أنواع الشجاعة.

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)

تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أي: كفروا بأدلتنا من الكتب والرسل وغير ذلك من آيات الأنفس والآفاق التي يرتقى بها إلى معرفة الصراط الذي تجب الاستقامة عليه في الاعتقاد والعمل، ((هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ)) أي: الشؤم على أنفسهم، أو الذهاب بهم إلى الشمال التي هي النار، قال الله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41]، واليمين في لسان الإسلام هو: عنوان السعداء، والشمال هو: عنوان الأشقياء والعياذ بالله. {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20] أي: مطبقة أبوابها، كناية عن لبثهم المخلد فيها، وسد سبل الخلاص منها، أجارنا الله بفضله وكرمه منها!

الشمس

تفسير سورة الشمس

بين يدي سورة الشمس

بين يدي سورة الشمس سورة الشمس هي السورة الواحدة والتسعون وكلها مكية بإجماعهم، وآياتها خمس عشرة آية، وجاء في حديث جابر في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (هلا صليت بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، (والشمس وضحاها)، (والليل إذا يغشى)).

تفسير قوله تعالى: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها)

تفسير قوله تعالى: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها) قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1 - 2]. قوله: (وضحاها): وضوئها إذا أشرقت، قال الراغب: الضحى: انبساط الشمس وامتداد النهار، وبه سمي وقت الضحى. قال الألوسي: وحقيقته تباعد الشمس عن الأفق المرئي وبروزها للناظرين، ثم صار حقيقة في وقته، يعني: هذا الوقت الذي تصعد الشمس فيه عن الأفق وتبرز للناظرين هو وقت الضحى. ويقسم الله سبحانه وتعالى بالشمس نفسها إذا ظهرت أو غابت لأنها خلق عظيم، قال الله هنا: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) فالله سبحانه وتعالى يقسم بالشمس في حد ذاتها سواءً كانت ظاهرة أو كانت بعد الغروب؛ لأنها في حد ذاتها آية من آيات الله تبارك وتعالى. وهذه الشمس هي أكبر من الأرض بمليون مرة! ثم أقسم الله بضوئها فقال: (وَضُحَاهَا) أي: وضوئها؛ لأنه سبب الحياة ومصدر الهداية في الأرض، وهل سترى أحداً لولا ضياء الشمس؟! وهذه الشمس قد سماها الله آية النهار فقال: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]، وهي آية من آياته وعجيبة من عجائب خلقه سبحانه وتعالى. والشمس لها ارتباط وثيق جداً بالحياة على وجه الأرض، فأي تعديل في وضعها عن الوضع الحالي تتأثر منه الحياة تماماً، فلو اقتربت قليلاً أو بعدت أكثر، فهذا يفني الحياة على وجه الأرض تماماً، فالمسافة بيننا وبين الشمس (93) مليون ميل! وهي سبب أساسي جداً من أسباب الحياة، ولا حياة في الأرض بدون الشمس؛ لأن الله سبحانه وتعالى ضبطها على وضع معين، وارتباط الشمس بالأرض له تأثير كفيل جداً ببقاء الحياة على وجه الأرض. قوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} أي: والقمر إذا تبعها، ويكون ذلك في الليالي البيض، أي: الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى الخامسة عشرة، وهو قسم بالقمر عند امتلائه أو قربه من الامتلاء؛ ليضيء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر، وهو قسم بالضياء في طور آخر من أطواره، وهو أثناء الليل كله! والقمر تابع للشمس من حيث الإضاءة لأن القمر مثل المرآة يعكس ضوء الشمس، فالأساس هو الشمس، فقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) يعني: إذا تبع الشمس، قال المفسرون: وذلك في الليالي البيض؛ لأن فيها إضاءة طوال الليل.

تفسير قوله تعالى: (والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها)

تفسير قوله تعالى: (والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها) قال تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:3 - 4]. قوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) أي: والنهار إذا أظهر الشمس، وذلك عند ظهور النهار وانبساطه؛ لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء! وفي هذه الأقسام كلها إشارة إلى تعظيم أمر الضياء، وإعظام قدر النعمة فيه، ولفت أذهاننا إلى أنه من آيات الله الكبرى، ونعمه العظمى، فالضياء ليس فقط من أجل نعمة البصر والرؤية وإنما هو سبب عظيم جداً من أسباب الحياة، فمثلاً: النباتات الخضراء لا يمكن أبداً أن تحيا بدون الشمس. وقوله تعالى: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) قسم بالنهار في حالة معينة (إِذَا جَلَّاهَا)، فهذا بيان للحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الفتنة الباهرة والآية الظاهرة، وهي حالة الصحو. وقوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) مفهومه أنه لا يدخل في قسم النهار إذا كان هناك غيم، وإنما القسم بيوم الصحو حيث لا سحاب يحول بين الناس وبين الشمس، فالحالة التي ينطق فيها النهار بتلك الفتنة الباهرة والآية الظاهرة هي حالة الصحو، وأما يوم الغيم الذي لا تظهر فيه الشمس فحاله أشبه بحال الليل. قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} أي: يغشى الشمس، ويعرض دون ضوئها، فيحجبه عن الأقطار، وذلك من خلال الظلمة الحالكة المشار إليها في قوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْر} [الفجر:2]، وهي ليالي عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان، وفيها تكون الظلمة حالكة حيث لا قمر طوال الليل. يقول بعض المفسرين: إن الله قال في النهار: (جَلَّاهَا) بالماضي، لكن في الليل قال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) بالمضارع، والحكمة من ذلك أنه لقلة أوقات الظلمة عبر في ذلك بالمضارع المفيد للحاق الشيء وعروضه المتأخر عما هو أصل في نفسه، أما النهار فإنه يجلي الشمس دائماً من أوله إلى آخره، وذلك وصف له في ذاته، ولا ينفك عنه إلا لعارض، فالغيم أو الكسوف قليل العروض، ولهذا عبر في النهار بالماضي المفيد لوقوع المعنى من فاعله بدون إشارة أنه مما ينفك عنه.

تفسير قوله تعالى: (والسماء وما بناها والأرض وما طحاها)

تفسير قوله تعالى: (والسماء وما بناها والأرض وما طحاها) قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس:5 - 6]. قوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) يعني: والسماء ومن رفعها وهو الله سبحانه وتعالى، فيعبر بـ (ما) عن الله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 5]، فكذلك هنا. فقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) يعني: ومن بناها، أي: ومن رفعها وصيرها بما فيها من الكواكب كالسقف أو القبة المحكمة المزينة المحيطة بالأرض، وبناء السماء بناء في غاية الإتقان والإحكام، وهو دليل على قدرة الله تبارك وتعالى، فـ (ما) هنا موصولة بمعنى (من). فالمقصود بقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا) يعني: والقادر الذي أبدع خلقها، فعبر بما لأنها تدل على وصف الله عز وجل بأنه القادر على إبداع خلقها. وقيل: إن (ما) هنا مصدرية، فيكون المعنى: والسماء وبنائها، يعني: الذي رفعها، فالسماء مرفوعة أصلاً، وفي اللغة كل ما علاك فهو سماء. والحكمة من أن الله سبحانه وتعالى قال: (وَمَا بَنَاهَا) مع أنه لو قال: (والسماء) فقط لدل على ارتفاعها، أن في ذلك دلالة على إيجادها وموجدها صراحة، فالدلالة على إيجادها بمعنى أنها مخلوقة حادثة، والدلالة على موجدها صراحة، بمعنى: أن الله هو الذي بناها وهو الذي خلقها. قوله: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} أي: بسطها من كل جانب لافتراشها وازدراعها والضرب في أثنائها، وليس في ذلك دليل على أن الأرض غير كروية كما يزعم بعض الجاهلين بتحريفهم الكلم عن معناه المراد منه، فبعض الناس يظن أن معنى: (وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) أنها غير كروية، لا، لكن الأرض لضخامة حجمها وسعتها، فهذا البسط فيها لا يلمح من قرب إنما يلمح بنوع من التأمل، وكروية الأرض حقيقة حسية لا تستنكر على الإطلاق، وليس فيها أي شيء غريب، ولا يوجد الآن أحد ممكن يقول: إن الأرض ليست كروية، لأن هذا شيء صعب جداً، وأدلة كروية الأرض كثيرة جداً، وأكبر دليل حسي على ذلك أن الناس الذين يخرجون للفضاء يصورونها كروية، وفي بعض رحلات الطيران تكون الطائرات محلقة في ارتفاع عال جداً، فيتضح تكور الأرض بصورة لا شك فيها. ومن الأدلة كذلك أن راكب البحر يرى مركباً في الأفق، فلا يرى إلا مقدمه ثم إذا تقدم رآه كله. فلا ينبغي الاستدلال بأن الله جعلها منبسطة، وجعلها مهاداً على أنها غير كروية، لكن لاتساعها لا يظهر هذا التكور إلا بما ذكرنا.

تفسير قوله تعالى: (ونفس وما سواها وقد خاب من دساها)

تفسير قوله تعالى: (ونفس وما سواها وقد خاب من دساها) قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10] قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي: خلقها فعدل خلقها ومزاجها، وأعدها لقبول الكمال، فالنفس مخلوقة. قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قال القاسمي: أي: أفهمها إياهما، وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي، والتمكين من معرفتهما، وحسن التقوى وقبح الفجور معلومان بالعقل الهيولاني. وأصل كلمة (الهيولى) هي: مادة الشيء الذي يصنع منه، وهذا التعبير عند الفلاسفة، فمثلاً الهيولى بالنسبة للكرسي هو الخشب، والهيولى بالنسبة للمسمار هو الحديد، والهيولى بالنسبة للملابس القطنية هو القطن. أما عند القدماء فالهيولى هو: مادة ليس لها شكل ولا صورة معينة، قابلة للتجديد والتطوير بشتى الطرق، والفلاسفة يقولون هي: المادة التي صنع الله منها أجزاء العالم المادية، والمراد بالعقل الهيولاني الذي ما زال في الحالة المبدئية، نقول: هذا رسم هيولاني، يعني رسم أولي لم يجاوز الخطوط الأساسية، ونحن نسميه رسم (كروكي)، فالرسم (الكروكي) هو الذي يُقال فيه: الرسم الهيولاني، بمعنى: ما زال في حالة مبدئية. قول القاسمي: ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) أي: أفهمها إياهما، يعني: أنه بين للإنسان طريق الخير وطريق الشر، طريق الفجور وطريق التقوى. قوله: وأشعرها بهما بالإلقاء الملكي، يعني: أن الملك يلقي في قلب الإنسان الخير كما هو معروف في الحديث الذي ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم للصراط، وقال فيه: (والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم) فهذا هو الإلقاء الملكي، فالملك يحدث الإنسان بأن هذا خير فافعله، وهذا شر فاجتنبه. قوله: والتمكين في معرفتهما، يعني: أن الله آتى الإنسان قدرات وعقلاً حتى يستطيع أن يميز بين الخير والشر {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]. قوله: وحسن التقوى وقبح الفجور معلومان بالعقل الهيولاني، يعني: بالعقل المبدئي أو المادة الخام للعقل إن جاز التعبير. وفي صحيح مسلم أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها). وجوز أن تكون (ما) مصدرية في كل هذه الآيات: يعني: والسماء وبناءها، والأرض وطحيها، ونفس وتسويتها، ونفس وإلهامها. وأما تنكير (نفس) فللتكثير أو التعظيم، والإنسان طبعاً روح وبدن، ومعظم الناس إذا تفكر في خلق الله للإنسان فينظر فقط للبدن، أي للناحية العضوية أو الفسيولوجية لكن قلَّ من ينتبه ويفكر في النفس، فالإنسان مكّون من نفس كما أنه مكون من بدن، فهناك روح وهناك بدن. قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أي: زكى نفسه وطهرها من رجس النقائص والآثام، لأن التزكية تطلق على التطهير أو (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) يعني: نماها بالعلم والعمل والوصول إلى الكمال وبلوغ الفطرة الأولى. قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} قال ابن جرير: أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله تعالى. وقال غيره: أي: نقص تزكيتها وأخفى استعدادها وفطرتها التي خُلقت عليها. فالإنسان أصلاً عنده استعداد للحق وللفضائل، لكنه يرسي هذه الفطرة السليمة ويخفيها ويدفنها عن طريق المعاصي والجهل والفسوق، وهو مأخوذ من دس الشيء في التراب، قال تعالى: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59]، فدس الشيء في التراب يعني: أدخله فيه وأخفاه، وأصل دس: دسسه. وجملة (قَدْ أَفْلَحَ) جواب القسم، وحذفت اللام للطول. وهنا نتأمل الأقسام المذكورة في هذه السورة: 1 - (وَالشَّمْسِ) 2 - (وَضُحَاهَا) 3 - وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا 4 - وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا 5 - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا 6 - (وَالسَّمَاءِ) 7 - (وَمَا بَنَاهَا) 8 - (وَالأَرْضِ) 9 - (وَمَا طَحَاهَا) 10 - (وَنَفْسٍ) 11 - (مَا سَوَّاهَا) وجواب هذه كلها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا). قال البيضاوي: وكأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته، الذي هو أقصى درجات القوة النظرية، ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوة العملية. وذهب الزمخشري إلى أن هذه الجملة كلام تابع لقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) على سبيل الاستطراد. وجواب القسم محذوف تقديره: ليدمدمن الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً عليه السلام.

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود بطغواها ولا يخاف عقباها)

تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود بطغواها ولا يخاف عقباها) قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس:11 - 15]. قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} الباء هنا سببية، أي: بسبب طغيانها ومجاوزتها الحد في الفجور، والطغوى مصدر، ويجوز أن يراد به العذاب نفسه، يعني: كذبت بالعذاب على حذف المضاف، أي: كذبت بما وعدت به من عذابها بالطغوى كقوله: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:5] فالطغوى التجاوز عن الحد والزيادة من العذاب. قوله: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} إذ هنا ربط بين (كذبت ثمود بطغواها) وبين مقام أشقى ثمود، وهو عاقر ناقة صالح عليه السلام، وكانوا نهوا عن قربها بسوء، وأنذروا عاقبة المخالفة، قال الله: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]. وأشقاها هو قدار بن سالف، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه مثل أبي زمعة) رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم. قوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} يعني: صالح عليه السلام. وقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} أي: احذروا واتقوا ناقة الله التي جعلها آية بينةً، واحذروا أيضاً سقياها يعني: شربها الذي اختصها الله به في يومها. وكان عليه السلام تقدم إليهم عن أمر الله أن للناقة شرب يوم ولهم شرب يوم آخر غير يوم الناقة، كما بينته آية الشعراء: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155 - 156] أي: لا تؤذوا الناقة ولا تتعدوا عليها في شربها ويوم شربها. قوله: ((فَكَذَّبُوهُ)) أي: فيما حذرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا، {فَعَقَرُوهَا} يعني: قتلوها، وأصل العقر ضرب قوائم البعير أو الفرس بالسيف وهو قائم، ثم استعمل في القتل والهلاك؛ وذلك أنهم أجمعوا على منعها من الشرب، ورضوا بقتلها، وبسبب رضا جميعهم عن قتل قاتلها، وعقر من عقرها؛ نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم، فالفاعل في قوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) ضمير جمع مع أن الفاعل واحد، لكنه عقرها بتواطؤ ورضا الجميع. قوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} أي: أهلكهم وأبعدهم بسبب كفرهم به وتكذيبهم رسوله، وعقرهم ناقته؛ استهانة به واستخفافاً بما بُعث به، وقيل: دمدم يعني: أطبق عليهم العذاب، وقيل: الدمدمة حكاية صوت الهرة. قوله: {فَسَوَّاهَا} أي: فسوى الدمدمة عليهم جميعاً فلم يفلت منهم أحد، بمعنى: جعل الله سبحانه وتعالى الدمدمة سواء عليهم، فتساووا في أن أصابتهم هذه الدمدمة ولم يفلت منهم أحد، أو (فَسَوَّاهَا) الضمير لثمود يعني: جعلها عليهم سواء، وقال المؤرِّج: الدمدمة إهلاك باستئصال. قوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} أي: لا يخاف تبعة إهلاكهم. والفاعل هنا فيه أقوال: القول الأول: يخاف الله سبحانه وتعالى العقبى، أي تبعة هذا الإهلاك، هل هناك غالب يغالب الله؟! الكفار هم أحقر الخلق عند الله، ولا وزن لهم عنده، فأهلكهم. فقوله: {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} يعني: لا يخشى تبعة إهلاكهم؛ لأنه سبحانه وتعالى العزيز الذي لا يغالب، قال الله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، وقال: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41] وقيل: لا يخاف الله عاقبتها كما يخاف الملوك عاقبة ما يفعلون، وهذا لأهانتهم وبيان أنهم أذلاء عند الله تبارك وتعالى، فالضمير في (يخاف) لله وهو الأظهر، ويجوز عوده لصالح عليه السلام، يعني: أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم. وقيل: الضمير للأشقى الذي عقر الناقة، أي: أنه لا يخاف عاقبة فعله الشنيع. إذاً: الأشقى لا يخاف عقباها؛ فهو أقدم على هذا الفعل وهو لا يخشى عاقبته؛ لأنه كان يكذب الوعيد الذي تهددهم به صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو لا يخاف عاقبة ما صنع، والواو هنا للحال أو للاستئناف، أي أنه: لا يخاف عقباها حال عقره للناقة. قال الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة: والمقصود أن الآية أوجبت لهم البصيرة فآثروا الضلال والكفر عن علم ويقين، ولهذا -والله أعلم- ذكر قصتهم من بين قصص سائر الأمم. قال الله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59]، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]. يقول ابن القيم: ولهذا -والله أعلم- ذكر الله قصتهم من بين قصص سائر الأمم في سورة (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)؛ لأنه ذكر فيها انقسام النفوس إلى النفوس الزكية الراشدة المهتدية، وإلى الفاجرة الضالة الغاوية. وذكر فيها الأصلين القدر والشرع، فقال: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) فهذا قدره وقضاؤه، ثم قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وهذا أمره ودينه. فثمود هداهم الله كما في سورة فصلت: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]؛ فذكر الله قصتهم ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى والتدسية على التزكية. لكن لماذا خصت سورة الشمس بذكر قصة ثمود دون غيرهم من الأمم المهلكة؟ A لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه السورة انقسام النفوس إلى الزكية الراشدة، وإلى الغوية الضالة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) وذكر فيها الخبر والشرع، الخبر في قوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) والشرع في قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) فهذا أمره ودينه، فثمود هداهم الله، كما قال الله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) يعني: بينا لهم كل شيء (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) فذكر قصتها ليبين سوء عاقبة من آثر الفجور على التقوى، والتدسية على التزكية، والله تعالى أعلم.

الليل

تفسير سورة الليل

تفسير قوله تعالى: (والليل إذا يغشى وما خلق الذكر والأنثى)

تفسير قوله تعالى: (والليل إذا يغشى وما خلق الذكر والأنثى) سورة الليل سورة مكية، وآياتها إحدى وعشرون آية، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ (هلا صليت بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، (والشمس وضحاها)، (والليل إذا يغشى)). بسم الله الرحمن الرحيم: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3]. قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: يغشى الشمس أو يغشى النهار بظلمته، فيذهب بذاك الضياء. قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي: إذا ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين بطلوع الشمس. والتعبير في الغشيان بالمضارع (يغشى) وفي النهار بالماضي (تجلى) لقلة أوقات الظلمة، أما النور فهو أسمى مظاهر الوجود حتى عبر به عن الوجود نفسه. قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي: ومن خلق الذكر والأنثى، فـ (ما) موصولة، (وما خلق) أي: والذي خلق الذكر والأنثى من كل نوع له توالد. وإنما أقسم الله بذاته بهذا اللفظ (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى) ولم يقل: والله؛ لما فيه من الإشعار بصفة العلم المحيط بدقائق المادة، والإشارة إلى الإبداع في الخلق عند التفريق بين الذكر والأنثى، وأن خلقهما لا يحصل بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها فيما تفعل كما يزعم بعض الجاهلين، فإن الأجزاء الأصلية في المادة متساوية، فتكوين الجنين من عناصر واحدة وجعله تارة ذكر وتارة أنثى دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، محكم لما يصنع.

تفسير قوله تعالى: (إن سعيكم لشتى)

تفسير قوله تعالى: (إن سعيكم لشتى) قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] هذا هو جواب القسم، أي: إن سعيكم مختلف في جزائه، ومفترق في عاقبته، منه ما يسعد به الساعي ومنه ما يشقى به، فشتان ما بينهما كما فصله فيما بعد. قوله: (شَتَّى) جمع شتيت بمعنى مفترق، و (سعيكم) مصدر مضاف يفيد العموم، فأي مصدر إذا كان مضافاً فإنه يفيد العموم؛ فهو من حيث المعنى جمع، ومن حيث اللفظ مفرد، لذلك أخبر عنه بالجمع في قوله: (شتى) فهو جمع شتيت وهناك وجه آخر وهو أنه: مفرد، وتكون شتى مصدراً مؤنثاً لذكرى وبشرى، وتكون خبراً لسعيكم بتقدير مضاف، أي: ذو شتى، أو بتأويله بالوصف، أي: شتيت، أو بجعلها عين الافتراق مبالغة، ويأتي في القرآن نفس المعنى في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20] وأيضاً قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].

تفسير قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى فسنيسره لليسرى)

تفسير قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى فسنيسره لليسرى) قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5]. قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} هذا تفصيل أنواع السعي المذكور في قوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى، فالله عز وجل يفصل تلك المساعي الشتى ويبين مآلها. وقوله: (أعطى) فيها قولان: القول الأول: أنفق المال في كل أمور الخير، من صدقات وعتق وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه، سواء كان الإعطاء في فرض أو في نفل، وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] فإن المراد منه كل ما كان إنفاقاً في سبيل الله سواء كان واجباً أو نفلاً، وقد مدح الله قوماً فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]، وقال في آخر هذه السورة {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18]. القول الثاني: أن قوله: (أعطى) يتناول إعطاء حقوق المال، وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى، فاستفرغ وسعه في طاعة الله تعالى. والقول الأول هو المناسب للإعطاء، فهو إنفاق المال في جميع أمور الخير؛ لأن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصاً، وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال، وهذا يقوي القول الأول، فإنه قال: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) ثم ذكر في المقابل البخل في المال فقال: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل:8]. وقوله: {وَاتَّقَى} أي: اتقى ربه فاجتنب محارمه. قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: بالمثوبة الحسنى، أي: صدق بموعود الله الحسن، وهو الجنة، قال الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وكما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى:23] فسمى مضاعفة الأجر حسناً. قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي: فسنهيئه ونوفقه للطريقة اليسرى التي هي سلوك طريق الحق، فهذه الطريق تؤدي إلى اليسر وإلى الأمر السهل الذي يستريح به الناس.

تفسير قوله تعالى: (وأما من بخل واستغنى فسنيسره للعسرى)

تفسير قوله تعالى: (وأما من بخل واستغنى فسنيسره للعسرى) قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10]. قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} أي: بخل بالنفقة في سبيل الله، ومنع ما وهبه الله له من فضله، ولم يصرف ماله في الوجوه التي أمر الله بصرفه فيها، واستغنى عن ربه فلم يرغب إليه بالعمل بطاعته، فاستغنى عن ربه، ولا أحد يستغني عن الله، لكن المعنى: لم يرغب إلى الله بالعمل بطاعته أو استغنى بماله عن كسب الفضيلة. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي: بوجود المثوبة الحسنى لمن آمن بالحق واغتر بالحياة الدنيا ولم يستعد لعالم الآخرة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي: للطريقة العسرى المؤدية إلى الشقاء الأبدي، وهي الطريقة التي يحط الإنسان فيها من نفسه، ويقصر في حقها، وينزل بها إلى حضيض البهيمية، فيغمسها في أوحال الخطيئة، واختيار طريق الفسق والفجور هو أعسر الطريقين على الإنسان.

تفسير قوله تعالى: (وما يغني عنه ماله إذا تردى وإن لنا للآخرة والأولى)

تفسير قوله تعالى: (وما يغني عنه ماله إذا تردى وإن لنا للآخرة والأولى) قال الله تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل:11 - 13]. قوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} أي: وما يفيده ماله الذي تعب في تحصيله، وأفنى عمره في جمعه، وبطر الحق لأجله، تم مات مثل من تردى من الجبل، وتردى في الهوة؟! وفي التعبير بتردى إشارة إلى أنه بما قدمه من أعماله الخبيثة هو المهلك لنفسه والموقع لها في الهاوية. وقوله: (ما) نافية، أي: لا يغني عنه ماله أو تكون استفهامية والجواب لا شيء. قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي: علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة أن نبين لخلقنا طريق الهدى، فالله سبحانه وتعالى تكفل بأن يبين للناس طريق الهدى، وقد فعل سبحانه ذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتمكين العقل من الاستدلال. قوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} يعني: ملكاً وخلقاً، فلا يضرنا توليكم عن الهدى؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين لنا الهدى وهو غني عنا، قال سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] فالله سبحانه وتعالى غني عنكم، وليس بحاجة إلى طاعتكم {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15]. فالله تعالى له التصرف المطلق في الدارين، والخلق في قبضة تصرفه، لا يحول بينهم وبينه أحد، ولا ينفعه أحد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً. وفي قوله: (وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى) إشارة إلى كمال عظمته، وتكامل قهره وجبروته، وأن من كان كذلك فجدير أن يبادر بطاعته، ويحذر من معصيته.

تفسير قوله تعالى: (فأنذرتكم نارا تلظى الذي كذب وتولى)

تفسير قوله تعالى: (فأنذرتكم ناراً تلظى الذي كذب وتولى) قال الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14 - 16]. قوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} يعني: الله الذي يملك الآخرة والأولى، وهو غني عن عباده لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم، فمن كان هذا فعله فينبغي للمخلوق أن يبادر نفسه إلى طاعته، وأن يحذر من معصيته؛ ولذلك رتبت هذه الآية: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) على قوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}. ومعنى (تَلَظَّى) أي: تتلظى وتتوهج، وهي نار الآخرة. قوله: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي: كذب بالحق لما جاءه، ((وَتَوَلَّى)) أي: تولى عناداً عن آيات ربه وبراهينها التي وضح أمرها وظهر نورها. وهذه الآية مما تعلق به بعض المغرورين فزعموا أن قوله تعالى: (لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى) دليل على أنه لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأن هذه النار موصوفة بقوله: (نَارًا تَلَظَّى) ولأن النار طبقات، فدرجات الجنة تذهب علواً، ودركات النار تذهب سفلاً، ولأهل النار منازل، وسياق الآيات في الأشقى الذي أتى بأفظع أنواع الكفر والإجرام، فلا ينافي هذا أن هناك من عصاة الموحدين من يدخل النار كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، فلو كان كل من لا يشرك لا يعذب لم يقل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ويكون -على هذا- قوله تبارك وتعالى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) كلاماً لا معنى له إذا كان العاصي الموحد لا يعذب. وأيضاً في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:17 - 18]، فهؤلاء لا يتوب الله عليهم مع أن الفريق الأول ليسوا كفاراً، فالعصاة الموحدون إذا تابوا عند حضور الموت لا يتوب الله عليهم، فالتوبة عند الغرغرة لا تقبل. إذاً: الذي يموت على شيء من المعاصي أو الكبائر وهو لم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فلا يصح أن يتعلق بهذه الآية على أنه لا يدخل النار إلا الأشقى؛ لأن أهل النار منازل.

تفسير قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى ولسوف يرضى)

تفسير قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى ولسوف يرضى) {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21]. قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أي: ينفق ماله في سبيل الخير، (يَتَزَكَّى) أي: يطهر نفسه من البخل. {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي: من يد يكافئه عليها، فليست صدقاته من باب المكافأة والمعاوضة، فهو لا ينفق لمقابلة إحسان سابق، وإنما ينفق ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، وطلب مرضاته، لا لغرض مكافأة أو محمدة أو سمعة. وفي قوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى) حصر للأتقى، مع أن الأتقى يعمل أعمالاً صالحة أخرى، لكن انظر إلى الترغيب في هذا العمل الذي استوجب له ذلك: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) أي: ينفق ليزكي نفسه، ويؤتي ماله لوجه الله لا للمكافأة. وقوله: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) (نعمة) نكرة في سياق النفي، فظاهرها العموم، وإذا دخلت (من) على النكرة فهي قطعية في العموم. قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} قال ابن جرير: أي: ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل يتزكى، بما يثيبه الله في الآخرة عوضاً مما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي ربه تبارك وتعالى. فقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فيه وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها، إذ به يتحقق الرضا، وهذا باعتبار أن فاعل (يرضى) ضمير مستتر يعود إلى الأتقى. وذهب بعضهم إلى أن قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي: ولسوف يرضى الله عن ذلك الأتقى الطالب لرضاه. والتعبير بسوف لإفادة أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفي القليل من المال؛ لأن العبد إذا أراد أن يرضي ربه فلا بد أن ينفق في سبيل الله حتى يرضى الله عنه.

سبب نزول قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى ولسوف يرضى)

سبب نزول قوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى ولسوف يرضى) قال ابن كثير: ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها. وقال بعض العلماء: هو أبو بكر في قول جميع المفسرين. لكن لفظ الآية لفظ العموم، لكن أولى الناس بالدخول في هذا العموم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

ذكر بعض فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

ذكر بعض فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال ابن كثير: ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصاف الحميدة رضي الله تعالى عنه، فإنه كان صديقاً سخياً كريماً جواداً بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم من دراهم ودنانير بذلها في ابتغاء وجه ربه الكريم! ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولقد كان فضله وإحسانه على السادات والبؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود -وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية-: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. وذلك أن عروة بن مسعود سيد ثقيف قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليق بأن يفروا ويدعوك، أي: في ساعة الجد يفر الصحابة عنك ويتركوك لوحدك، فغضب أبو بكر فقال له كلمة شديدة جداً، فقال: من هذا؟! قالوا: أبو بكر. فقال: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، ولكن هذه بتلك، يعني: أنت لك فضل علي فيما مضى. فهذا اعتراف من عروة بن مسعود الثقفي بأن أبا بكر متفضل عليه. فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف إحسانه على المسلمين؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعته أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام نودي من باب الريان، فقال أبو بكر: هل من أحد يدعى من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم) رواه البخاري. والأحاديث في مناقب أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كثيرة جداً، فلـ أبي بكر حق في عنق كل واحد من هذه الأمة؛ لأن أبا بكر هو الرجل الثاني في الإسلام، وأبو بكر أفضل البشر بعد الأنبياء رضي الله تعالى عنه. فلـ أبي بكر مكانة عظيمة جداً في الإسلام، ويكفي أن الله سبحانه وتعالى قال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فكان الله معهما، وليس هذا فحسب بل لقب بعد وفاة النبي عليه السلام خليفة رسول الله، فالله مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع الخليفة، وما نودي أحد بهذا اللقب إلا أبا بكر؛ لأن عمر لما صار خليفة رأى أن اللقب سيطول، فيقال: خليفة خليفة رسول الله، ثم يقال: خليفة خليفة خليفة رسول الله؛ فاستبدل ذلك اللقب بلقب أمير المؤمنين. وفضائل أبي بكر رضي الله تعالى عنه يطول الحديث فيها جداً، وفيها مصنفات مستقلة.

ضلال الرافضة الذين يسبون الصحابة

ضلال الرافضة الذين يسبون الصحابة ينبغي أن نحذر من أن يختل ميزان الولاء والبراء في قلوبنا؛ لأن بعض الناس ينبهر بأفعال الشيعة، وأفعال إيران، ويتغاضون عن جريمتهم في سب الصحابة، لا سيما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فينبغي للمسلم ألا ينخدع وينبهر بهم لمجرد مواقف حصلت مما يسمى بحزب الله ضد اليهود، ولو كانت هناك دولة إسلامية سنية لظهر منها أضعاف أضعاف أضعاف هذه المواقف ضد اليهود، لكن أهل السنة والجماعة ليس لهم دولة على وجه الأرض، ولا توجد دولة تطبق الإسلام كما أنزله الله، فأهل السنة مقهورون في كل مكان، بل ومحاربون، أما الشيعة فصارت لهم دولة، فلذلك يسمع لهم هذا الصوت، ويحصل انبهار بأفعالهم، لكن نحن لا نحبهم أبداً وهم يبغضون أصحاب الرسول عليه السلام، وما يجتمع في قلب مؤمن أبداً حب الصحابة وحب من يسب عائشة ومن يكفرها ويلعنها وأباها كما في دعاء صنمي قريش الذي وقع عليه الخميني، وهما عندهم أبو بكر وعمر والعياذ بالله! وفيه: اللهم العن صنمي قريش وطاغوتيهما وزوجتيهما وابنتيهما والعياذ بالله! فهذا كلام كله حقد على الصحابة، فمهما فعلوا لا يشفع لهم إزاء هذه الجريمة العظمى التي فيها تكذيب قول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] فهم يقولون: الصحابة شر الأمة، والمناقب يحولونها إلى مثالب، فيأتون إلى قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] وهي أعظم منقبة لـ أبي بكر، حيث اختاره النبي عليه السلام إياه رفيقاً له في الهجرة، فكيف يتصرفون في هذه الآية وهم يسبون أبا بكر؟ يقولون: الرسول عليه السلام اصطحب أبا بكر معه حتى لا يدل قريشاً عليه! ويقولون: أبو بكر لقي كاهناً في الجاهلية، فأخبره أنه سوف يبعث نبي، فاقترب منه حتى تكون خليفة له، ويكون لك الملك من بعده! كل هذا أساطير وخرافات؛ لأن التضحية إذا لم تبن على إيمان صحيح وعقيدة صحيحة لا تجدي على الإطلاق، وكم من شجاعة معروفة عن أناس من الكفار، لهم مواقف كثيرة جداً في التضحية في كثير من البلاد الكافرة. والمعلوم أنه توجد قرابة كبيرة بين الرافضة واليهود، وبينهم مودة عظيمة، فالذي أسس دين الرافضة هو يهودي اسمه عبد الله بن سبأ، وكان يلقب بـ ابن السوداء. والشاهد أن القرآن يثني في آيات كثيرة جداً على أبي بكر وعمر والصحابة أما هؤلاء فإنهم يكفرون الصحابة إلا خمسة أو ثلاثة، بل كل الأمة مرتدة عن الإسلام في زعم هؤلاء المجرمين الأفاكين الحاقدين على خير أمة أخرجت للناس. وهذه المسألة ليست مسألة جزئية، بل هي من صلب عقيدتنا؛ ولذلك ينص العلماء في كتب العقيدة على حب الصحابة، فحب الصحابة ليس اختيارياً، بل لها قوانين وضوابط بحسب بلائهم في نصرة الدين، وفي سبيل نشره. والصحابة في الحكم والموالاة لهم ترتيب معين، فأفضل الصحابة على الإطلاق هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم عمر، ولذلك يجب أن يكون للصحابة ترتيب معين في قلب المسلم، ولا يجتمع حب الصحابة مع حب أعداء الصحابة الذين يلعنونهم. وهناك أهداف كثيرة مشتركة بين اليهود وبين الروافض، والأيام ستكشف شيئاً منها، ولو كان الرافضة يريدون أن يحرروا الأقصى فما الذي يمنعهم؟! يقول الرافضة: الطريق إلى القدس يمر بمكة! يعني: لازم يحررون مكة من الاستعمار الأمريكي من أجل أن يبدءوا في تحرير القدس، فطريق القدس عندهم يمر بمكة. وعلينا نحن المسلمين ألا نغتر بالمواقف السياسية التي تحصل من الرافضة، كمواقف الخميني أو حزب الشيطان الذي هو حزب حسن نصر الله، فنحن في زمان مقفر، ما نجد أحداً يتكلم بعزة إلا هؤلاء، لأن لهم دولة، ولو كان لأهل السنة والجماعة -الذين هم أهل الحق وأصحابه- دولة تعمل بالإسلام كما أنزله الله سبحانه وتعالى؛ لكان هناك أضعاف أضعاف هذه المواقف. والرسول عليه الصلاة والسلام عندما ذكر افتراق الأمة قال: (كلها في النار إلا واحدة، فسئل عنها فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). فالنجاة لا تكون إلا على مثل ما كان عليه الصحابة، فهل يجتمع هذا السبيل مع محبة من يلعن الصحابة ويكفرهم، ويقول عنهم: منافقون وزنادقة كـ الخميني وغيره من هؤلاء المجرمين الضالين؟! ونحن لا ننسى الحادثة التي حصلت في المدينة وبسببها أوقف الحذيفي إمام المسجد النبوي، وذلك أن رئيس إيران رفسنجاني دخل المسجد النبوي، فدخل الحجرة النبوية، ووقف أمام قبر الرسول عليه السلام وسلم عليه، ثم لعن أبا بكر وعمر، فالحارس أبلغ الشيخ الحذيفي، فجعل خطبة الجمعة في البراءة من هؤلاء الرافضة، فأوقفته الدولة السعودية عن الخطابة إرضاءً لإيران. إن الشعوب التي عاشرت الرافضة يعرفون حقدهم وعداءهم للمسلمين، والشيعة يخدعون الناس بالتقية، إذا واجهتهم يقولون لك: الصحابة رضي الله عنهم، وعائشة هي أم المؤمنين، وهكذا! فالكذب عندهم عبادة، ويسمونها التقية. والقرآن عندهم محرف، ويعتقدون أن ثلاثة أضعاف القرآن فقدت، وينكرون أن أبا بكر جمع القرآن، وينكرون مناقبه رضي الله تعالى عنه، وأنه الرجل الثاني في الإسلام، وأفضل البشر بعد الأنبياء على الإطلاق. فلا تغض الطرف عن شيء غير قابل للتهوين من فعلهم، فكيف تحب هؤلاء الذين يلعنون الصحابة ويكفرون الصحابة، ويجعلون لعنهم أفضل من التسبيح والتهليل والتكبير؟! فينبغي الكلام في الشيعة بالتفصيل حتى يكون عندنا بصيرة، وحتى لا يتهاون في هذا الأمر، ولا يغتر بالفكر الرافضي. وقد ألف أحد الرافضة كتاباً أسماه: (أهل السنة والجماعة شعب الله المختار) فاعتبرهم مثل اليهود! ومما يغيض أنك تجد بعض الشباب المسلم ينبهر بالشيعة، ويغض الطرف أو يحاول أن يعمي نفسه عن حقيقة هؤلاء الذين هم مع أعداء الله من اليهود والنصارى في خندق واحد ضد أهل السنة، ولا شك في هذا، فهؤلاء أعداء لنا، ولو تمكنوا منا لن يرحمونا، فينبغي الحذر منهم.

الضحى

تفسير سورة الضحى

حكم التكبير عند قراءة سورة الضحى وما بعدها من السور وكيفيته

حكم التكبير عند قراءة سورة الضحى وما بعدها من السور وكيفيته سورة الضحى هي السورة الثالثة والتسعون من سور المصحف الشريف، وهي سورة مكية، وآيها إحدى عشرة. قال ابن كثير: روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرىء، قال: قرأت على عكرمة بن سليمان، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد، فلما بلغت {وَالضُّحَى}، قالا لي: كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة، فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك، وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس رضي الله عنهما فأمره بذلك، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب رضي الله عنه فأمره بذلك، وأخبره أبي أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بذلك. فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة وكان إماماً في القراءات، فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال: لا أحدث عنه، وكذلك قال أبو جعفر العقيلي: هو منكر الحديث، لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي: أنه سمع رجلاً يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال: أحسنت وأصبت السنة. وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته، فقال بعضهم: يكبر من آخر: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] وقال آخرون: من آخر {وَالضُّحَى}. وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول: الله أكبر، ويقتصر. ومنهم من يقول: الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر. وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى: أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتر تلك المدة، ثم جاء الملك فأوحى إليه {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، إلى آخر السورة بتمامها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً وسروراً، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف، فالله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (والضحى والليل إذا سجى)

تفسير قوله تعالى: (والضحى والليل إذا سجى) قال الله عز وجل: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]. قوله تعالى: (وَالضُّحَى)، تقدم في تفسير سورة الشمس: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، تفسير الضحى بالصعود وارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً، قال تعالى: {أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98]، أي: وقت ارتفاع النهار ارتفاعاً عالياً. قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى): أي: اشتد ظلامه، وأصله من التسجية وهي التغطية لستره بظلمته، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10]؛ لأن هذا الليل يستر ويغطي. ويقال: سجى بمعنى أظلم، وقيل: ذهب، وقيل: أقبل، وقيل: سكن، وقيل: استقر ظلامه. قال الطبري: قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)، يعني: والليل إذا سكن بأهله وثبت بظلامه، كما يقال: (بحر ساج) إذا كان ساكناً. وأرجح الأقوال في معنى سجى: سكن واستقر ظلامه وثبت.

تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى)

تفسير قوله تعالى: (ما ودعك ربك وما قلى) قال تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، هذا هو جواب القسم، والمعنى ما تركك وما قطعك قطع المودع. قال الشهاب في العناية: إنه عبر عن التوديع بالترك هاهنا، وفيه من اللطف بالنبي عليه الصلاة والسلام والتعظيم له ما لا يخفى؛ فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته، كما قال المتنبي: حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا فلم أدر أي الظاعنين أشيع والمعنى: أن هذا المحبوب لما حصل الفراق وودعنا، فروحي ونفسي أيضاً فارقتني معه ليس هو وحده فقط، حتى إنني احترت أي واحد منهما أودع، أَأُودع هذا المحبوب الذي فارقني أم أودع روحي أو نفسي التي فارقتني أيضاً؟! فهذا شاهد على أن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته. وقيل في شرح الوداع: الوداع له معنيان في اللغة: الترك، وتشييع المسافر، فإن فسر بمعنى تشييع المسافر على طريق الاستعارة يكون فيه إيماء إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يتركه أصلاً، وأنه معه أينما كان في كل حال وفي كل زمان، أما الترك لو تصور في جانبه فهو يدل على الرجوع، فالتوديع إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده، وإليه أشار الأرجاني بقوله: إذا رأيت الوداع فاصبر ولا يهمنك البعاد وانتظر العود عن قريب فإن قلب الوداع عادوا أي: أن قلب كلمة (عادوا) هو (وداع). فهذا فيما يتعلق بالتوديع. والتوديع كما يقول أبو حيان: مبالغة في الودع؛ لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. كما قلنا: إن التوديع يكون بالترك، ويكون بتشييع المسافر. وقوله عز وجل: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)، يعني: ما تركك وما أعرض عنك، فهذا يؤكد نفس المعنى في قوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ). وقال بعضهم: وهذا لم أر من ذكره مع غاية لطفه، وكلهم فسروه بالمعنى الأول: (وَدَّعَكَ) بمعنى: تركك. ولما رأوا صيغة الفعل تفيد زيادة المعنى والمبالغة فيه، فيقتضي الانقطاع التام، قالوا: إن المبالغة في النفي لا في المنفي. وقرئ: (ما وَدَعَكَ) بالتخفيف، يعني: ما تركك. وهناك شاهد من السنة في استعمال كلمة ودع بمعنى ترك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره)، قوله: (من ودعه) يعني: تركه الناس وابتعدوا عنه، اتقاء لسانه وبذاءته وفحشه. وورد شاهد أيضاً في الشعر يقول الشاعر: فكان ما قدموا لأنفسهم أعظم نفعاً من الذي ودعوا يعني: من الذي تركوا. وقال أبو الأسود: ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه يعني: حتى تركه. وقال الشاعر أيضاً: وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر يعني: هناك تركنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف السيوف. وبعضهم استبعد قراءة اسمها: (ودعت) باعتبار أن استعمال ودع في اللغة العربية نادر، لكن يكفي أن القرآن الكريم ورد به، فما دامت صحت هذه القراءة فلا عبرة في هذه الحالة بكلام النحاة. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وإن كان استعمالها نادراً. وقد كان أحد الأدباء يكتب مقالات لبعض المجلات السيارة فلما عنّ له السفر كتب يودع القراء بقوله: أودعكم والله يعلم أنني أحب لقاكم والركون إليكمُ وما عن قلى كان الرحيل وإنما دواعٍ تبدّت فالسلام عليكمُ قوله: (وما عن قلى كان الرحيل) يعني: ليس هذا الرحيل عنكم هجراً ولا إعراضاً ولا بغضاً؛ لأن القلى يكون تركاً ينضم إليه بغض. فقوله تعالى: (وَمَا قَلَى) يعني: ما هجرك عن بغض. وقال الشهاب: وحذف مفعول قلى اختصاراً للعلم به، وهنا عدة أراء: قوله: (وَدَّعَكَ) فالمفعول هنا هو حرف الكاف، بينما هنا في كلمة (قلى) اقتصر على الفعل وحذف المفعول، الذي هو الكاف، فقال بعضهم: إنما اختصرها للعلم بها، وليجري على نهج الفواصل التي في السورة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:3 - 5]، أو لئلا يخاطبه بما يدل على البغض، فمجرد وضع الضمير مع الفعل لم يرضه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فما بالك بالفعل نفسه، فهو سبحانه لم يقل: (وما قلاك) مع أنه ينفيها، لكن أراد ألا يتعب قلب نبيه عليه الصلاة والسلام إذا قرن الضمير بالفعل مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} [الأحزاب:35]، فقوله: (والذاكرات) أي: والذاكرات لله كثيراً، لكن حذفت للعلم بها، وأيضاً مراعاة للفواصل. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَمَا قَلَى) حذف كاف الخطاب لثبوتها في قوله: (ودعك) فدلت عليها. وقال بعضهم: تركت لرأس الآية، يعني: مراعاة للفواصل، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، يعني: كلمة التوديع مأخوذة من توديع المسافر. مثلاً: الذي يودع المسافر ويخرج معه مسافة هم أحبابه الذين يريدون أن يبقوا معه إلى آخر لحظة ممكنة، حتى يتحرك القطار. إذاً: التوديع يكون فيه ملاطفة وود ومحبة ووحدة، فالموادعة تشعر بالوفاء والود، فمن ثم أبرزت فيها كاف الخطاب (مَا وَدَّعَكَ) يعني: لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب والمصطفى المقرب صلى الله عليه وسلم. أما (قلى) ففيها معنى البغض فلم يناسب إبرازها؛ إنعاماً في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى؛ لأنه ما قلاه، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك وما أهنت، ولقد قربتك وما أبعدت، وهذا المثال فيه إمعان في نفي الإهانة ونفي الإبعاد. والقلى يمد ويقصر وهو يعني: البغض. يقول الشاعر: أيام أم الغمر لا نقلاها ولو تشاء قفلت عيناها وقال كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ويبين دوام موالاته سبحانه وتعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم وعنايته به وحفظه له، فهو سبحانه ما تركه أبداً، فقد سخر له سبحانه عمه أبا طالب لينصره ويحفظه وقال عمه أبو طالب في ذلك شعراً: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً هذا ناشئ عن محبة طبعية؛ لأنه ابن أخيه، لكن ليست محبة شرعية. وذكر ابن هشام في رعاية عمه له صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا فرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أولاده، حتى إذا أخذ كل مضجعه عمد عمه إلى واحد من أبنائه فأقامه وأتى بمحمد صلى الله عليه وسلم لينام موضعه، ويجعل ولده مكان محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان هناك من رأى مكانه في أول الليل ثم جاء يريده بسوء وقع السوء لابنه، وسلم محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعل الصديق رضي الله تعالى عنه عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار. (لقد كان أبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة تارة يمشي أمامه صلى الله عليه وسلم وتارة يمشي وراءه، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك) يعني: أتذكر العدو فأكون أمامك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني قبلك، ثم أتذكر الطلب من الخلف فأكون وراءك حتى إذا كان هناك سوء يصيبني ولا يصيبك. ويقول القاسمي رحمه الله تعالى: روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً فعير بذلك، فقال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]) وفي رواية: (إن قائل ذلك إمراة أبي لهب) وفي أخرى: (إنها خديجة رضي الله تعالى عنها) ولا تنافي لاحتمال وقوعه من الجميع، إلا أن خديجة لو صح أنها قالت له ذلك فيكون على سبيل التوجع والحزن والأسف. وفي رواية إسماعيل مولى آل الزبير قال: (فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه، فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني -يعني: جبريل- فجاء جبريل بهذه السورة {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]).

تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى)

تفسير قوله تعالى: (وللآخرة خير لك من الأولى) قال عز وجل: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:3 - 4]. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، فخير تأتي مصدراً كقول الله سبحانه والله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180]، قوله: (ترك خيراً) يعني: مالاً كثيراً بمعنى المصدر، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة بمعنى أخير. وهي هنا أفعل تفضيل: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ) والدليل هنا على أنها أفعل تفضيل قوله: (من). مما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة، وما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا، فيتوهم بعض الناس من الآية: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى)، أن الآخرة خير له صلى الله عليه وسلم وحده من الأولى. فجاء النص يدل على أن هذا ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده، بدليل قوله تبارك وتعالى: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران:198]، أي: للأبرار من المؤمنين، وكما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5]. أما بيان الخيرية هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففيها بيان ثواب الخيرية له في الدنيا، ثم الأفضل منها هو ما يكون في الآخرة، وصيغة أفعل التفضيل تأتي للمفاضلة بين طرفين يشتركان في أصل الوصف، بل إن أحدهما يزيد على الآخر، حينما تقول: علي أقوى من حسن، يعني: كلاهما مشترك في صفة القوة، لكن الأول أقوى من الثاني في هذه الصفة، فكذلك قوله: (خير لك من الأولى) تتضمن أن الدنيا خير له أيضاً، لكن الآخرة أفضل وأخير له من الأولى. فأما الخيرية التي آتاه الله إياها في الدنيا، فأشار إليها القرآن الكريم في هذه السورة وفي التي بعدها، ففي هذه السورة قال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] يعني: تعهده الله سبحانه وتعالى منذ ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم فصانه عن دنس الشرك وطهره، وشق صدره ونقاه، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش صلى الله عليه وسلم، حتى روي أن عمه قال عند خطبته خديجة له صلى الله عليه وسلم: فتى لا يعادله فتى من قريش حلماً وعقلاً وخلقاً إلا رجح عليه. كذلك قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:7 - 8] فهي نعم يعددها الله سبحانه وتعالى عليه، وهي من أعظم خيرات الدنيا من صغره إلى شبابه وكبره. ثم اصطفاؤه بالرسالة، ثم حفظه من الناس: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. ثم نصره على الأعداء، وإظهار دينه وإعلاء كلمته. أيضاً من الناحية المعنوية، قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4]. أما خيرية الآخرة على الأولى، فهي في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]، يعني في الآخرة، وليس بعد الرضا مطلب. وفي الجملة فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام، فهي لا شك أفضل من الأولى. قال ابن جرير: أي: وللدار الآخرة وما أعد الله لك فيها خير لك من الدار الدنيا وما فيها. ثم يقول: فلا تحزن على ما فاتك منها، فإن الذي لك عند الله خير لك منها. وقال القاضي: (وَلَلآخِرَةُ) يعني: لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يتصاعد بالرفعة والكمال.

تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى)

تفسير قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) قال عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]. أي: يعطيك من فواضل نعمه في العقبى حتى ترضى، وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا. وبعض الناس أخطأ في تفسير هذا العطاء فقال: هي الشفاعة في أمته حتى يرضى. فعن ابن عباس قال: (عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفتح على أمته من بعده كفراً كفراً -يعني: بلداً بلداً- فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:4 - 5])، قال ابن كثير: إسناده صحيح، ومثله لا يقال إلا عن توقيف. ولذلك عمم القاسمي هنا فقال: وهذه عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين، وظهور الأمر وإعلاء الدين من فتوح واقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين، وغيرهم من ملوك الإسلام، وفشو دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وبالجملة هذه الآية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع السعادة، وثبوت الإنعام في الدارين، حيث أجمله ووكله إلى رضاه، وهذا غاية الإحسان والإكرام. يعني: سيظل يعطيك ويوالي عليك النعم في الدنيا والآخرة حتى ترضى. وقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) هذه الآية كنا قد أشرنا إليها مراراً أن بعض العلماء قال: إنها أرجى آية في القرآن الكريم، ووجه ذلك أن الله يشفعه في أمته حتى يرضى. وروى بعض الناس في ذلك بعض الأحاديث، وهي لا تصح، ومن هذه الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال عند نزول هذه الآية الكريمة {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5]: (إذاً: لا أرضى، وواحد من أمتي في النار) وإذا صح الحديث فإن المقصود بالأمة أمة الإجابة. وعبر بعض الشعراء عن هذا المعنى فقال: قرأنا في الضحى ولسوف يعطي فسر قلوبَنا ذاك العطاءُ وحاشا يا رسول الله ترضى وفينا من يعذب أو يساءُ هناك نصوص كثيرة في القرآن وفي السنة فيها أن من مات من أهل الكبائر وأهل المعاصي دون توبة يعذب في النار، وهناك أناس من الموحدين سوف يدخلون النار، ومنهم من يخرج بالشفاعة، ومنهم من يمكث إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، والحديث معروف في آخر من يخرج من النار. إذاً: هناك من يعذب في النار، ويبقى إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، لكنه لا يخلد فيها. وهذا الحديث: (إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي في النار) إذا صح فيكون معناه: إذاً: لا أرضى وواحد من أمتي يخلد في النار، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يرضيه ما يرضى ربه عز وجل، وهذا الحديث لم يثبت. ثم إن التعلق بهذا المعنى يفتح على الناس باب التواكل، ويغتر به بعض الجهال من أنه لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم؛ فإنه صلوات الله عليه وسلامه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، وقد ولع الحشوية بتقوية أمثال هذه الآثار المفتراة؛ تغريراً للجهال، وتزييناً لموارد الضلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إذاً: الله سبحانه وتعالى حكم عدل، كما أن إدخال الجنة يكشف عن صفات الرحمة والإحسان والتفضل والإكرام، كذلك أيضاً كونه شديد العقاب فيعذب الكفار بعد إنذارهم، أو يعذب العصاة بعد إقامة الحجة عليهم، فهذا أيضاً يكون مظهراً لعدله وحكمته، وهذه من صفات كماله سبحانه وتعالى. إذاً: هذا الكلام يتعارض مع النصوص التي وردت من كون العصاة يدخلون النار فضلاً عن الكفار، مما ينبغي الحذر منه، وعدم الاعتراف بأقوال هؤلاء الشعراء وبهذه الروايات الضعيفة؛ لأنه لا يفرح بها كثيراً إلا المرجئة. ونحن قلنا: إذا صح قوله: (لا أرضى وواحد من أمتي في النار) فالمقصود أمة الإجابة، وإن كان هناك أحاديث أخرى فيها معنى قريب من هذا، لكن ليس بنفس الإطلاق، مثل حديث: (لا أزال أشفع يوم القيامة فأشفع حتى يناديني ربي: أقد رضيت يا محمد؟! فأقول: أي رب رضيت) هذا في حق من أذن له في الشفاعة فيهم. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسله: ما يبكيك؟ فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره، فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: اذهب إلى محمد فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك). فهذا يئول بالشفاعة وبغير ذلك. أما أنه لا يدخل أحد من أمته النار على الإطلاق، وأن هذا هو الذي يرضيه، فنحن نقول: يرضيه ما يرضي ربه تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (ألم يجدك يتيما فآوى)

تفسير قوله تعالى: (ألم يجدك يتيماً فآوى) قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6]. هذا تعديد لما أفاض عليه من أول أمره إلى ذلك الوقت. يعني: من أول نشأته يتيماً والله سبحانه وتعالى يرعاه ويحفظه ويكلؤه. فهذا تعديد لما أفاض عليه عز وجل من أول أمره إلى ذلك الوقت، من فنون النعماء العظام؛ ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود. فقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) هذه كلها في الماضي، حتى يستشهد بالحاضر في إحسان الله فيما مضى، على إحسانه المترقب بقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). يعني: أنت قد لمست ذلك في ما مضى، فقطعاً سوف يحصل هذا فيما يستقبل ويكون أمرك إلى ازدياد. يقول الشاعر: إن رباً كفاك بالأمس ماكان فسيكفيك في غد ما يكون فيطمئن قلبه وينشرح صدره، والهمزة لإنكار النفي وتقرير المنفي على أغلب وجه، كأنه قيل: قد وجدك يتيماً فآوى، وقد وجدك ضالاً فهدى. والوجود هنا بمعنى العلم، روي أن أباه مات وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن ست سنين، فكفله جده عبد المطلب ثم مات جده وهو ابن ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب وعطف عليه فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه عليه الصلاة والسلام المذكور في قوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى).

تفسير قوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى)

تفسير قوله تعالى: (ووجدك ضالاً فهدى) قال عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]. أي: غافلاً عما أوحاه إليك من الهدى والفرقان، فهداك إليه وجعلك رسولاً له، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]. وقال الشهاب: الضلال مستعار من ضل في طريقه إذا سلك طريقاً غير موصلة لمقصده؛ لعدم ما يوصله من علوم نافعة من طريق الاكتساب. يعني: لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يسلك طريقاً يوصله للعلوم الفكرية التي ينالها الإنسان بالكسب، وإنما كان الذي امتن الله عليه به هو علم وهبي وليس كسبياً؛ لأن النبوة لا تكتسب، والله سبحانه وتعالى امتن على النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الوحي الذي هو العلم الوهبي. وقال بعضهم: قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) يعني: وجد قومك ضالين فهداهم بك، على تقدير مضاف، كما في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالاً قبل الوحي، مع أن قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف، ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه، بل لم يزل باقياً على الفطرة حتى بعثه الله رسولاً، ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء، فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على بقائه صلى الله عليه وسلم على الفطرة. والجواب أن معنى قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، أي: غافلاً عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين، التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل، وإنما تعلم بالوحي، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك. فمعنى الضلال على هذا القول: الذهاب عن العلم. وفي القرآن الكريم أن الضلال يطلق على الذهاب عن العلم بالنسيان أو نحو ذلك، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]، فقوله: (أن تضل) أي: تذهب عن العلم، ومنه أيضاً قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52] يعني: لا يذهب عن العلم، وكذلك قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95]. ويقول الشاعر: وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلاً أراها في الضلال تهيم إذاً: قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) يعني: ووجدك غافلاً عن هذا العلم، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] أي: قبل القرآن، وقال عز وجل: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] وقال عز وجل: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:86]. وبعضهم فسر الضلال في قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) تفسيراً حسياً فقال: هو أنه ضل الطريق وهو صغير في شعاب مكة. وقيل: ضل الطريق في سفره إلى الشام، والقول الأول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.

تفسير قوله تعالى: (ووجدك عائلا فأغنى)

تفسير قوله تعالى: (ووجدك عائلاً فأغنى) قال تبارك وتعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:8]. قوله: (عَائِلًا) أي: فقيراً. قوله: (فَأَغْنَى) يعني: فأغناك بمال خديجة رضي الله عنها الذي وهبته إياك، أو بما حصل لك من ربح في التجارة. وقيل في تفسيرها: رضاك بما أعطاك من الرزق؛ لأن الغنى كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس). ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إلا الغنى العالي عن الشيء لا به فغنى النفس أعلى درجات الغنى. فقوله: (عَائِلًا) أي: فقيراً، يقول الشاعر: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل يعني: وما يدري الغني متى يفتقر. وقال ابن قتيبة: العائل الفقير. أي فقير يسمى عائلاً، سواء كان له عيال أو لم يكن له عيال، لكن يقال: عال يعيل إذا افتقر. وأعال يعني: كثر عياله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3].

تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر)

تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) قال عز وجل: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، لا تنهره على ماله، فتذهب بحقه استعطافاً منك له. قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10]. قال ابن جرير: أي: وأما من سألك من ذي حاجة فلا تنهره، ولكن أطعمه واقض له حاجته؛ لأن للسائل حقاً كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]. قوله تعالى: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. فالمسلم إما أن يعطي وإما أن يقول كلمة طيبة، كما قال الله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28]، فإذا أردت أن ترده ترده بكلمة طيبة، يقول الشاعر: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال يعني: أنفق الكلمات الطيبة التي لا تكلفك شيئاً. وقال الله سبحانه وتعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]. يعني: قد يلح السائل في السؤال فيحاول أن يحرج المسئول ويستفزه إذا أحس أنه لن يعطيه شيئاً، فقال الله سبحانه وتعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ) يعني: إما أن تقول قولاً معروفاً، وأيضاً مغفرة يعني: تتجاوز عما يحصل منه من الأذى أو الإلحاح أو الإحراج أو نحو ذلك، فلا ترد عليه إذا قال كلاماً لا ينبغي. وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة. يعني: لو كنت مسافراً من مكان إلى مكان بعيد ومعك الزاد والمتاع الثقيل فقال لك رجل: أنا أحمل عنك هذا المتاع وأوصله إلى المكان الذي تريده. فهو يشبه السؤّال الذين يسألون الصدقات بعمال البريد، يعني: أنهم ينقلون لنا الزاد من الدنيا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء؟! يعني: هل تريد أن تبعث لوالدك أو لوالدتك أو لقريبك الذي مات بشيء؟! وقد ذهب الحسن فيما نقله الرازي عنه إلى أن المراد من السائل من يسأل العلم، فيكون في مقابلة قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، يعني: كما أنك كنت غافلاً عن هذا القرآن، وعارياً من هذا العلم النبيل، ثم إن الله سبحانه وتعالى هداك إليه بالتعليم وبالهبة وبالوحي، فتقابل هذه النعمة بألا تنهر من يسألك أو يسترسل من علمك. قال ابن كثير: أي: وكما كنت ضالاً فهداك الله، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد. ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بيان ما يشتبه عليهم، فمنهم: أهل الكتاب الممارون، ومنهم: الأعراب الجفاة، ومنهم: من كان يسأل عما لا يسال عنه الأنبياء، فلا غرو أن يأمره الله تعالى بالرفق بهم، وينهاه عن نهرهم، كما عاتبه على التولي عن الأعمى السائل في سورة عبس. وقال ابن العربي رحمه الله تعالى: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم على الكفاية. (وكان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث فيبسط رداءه لهم ويقول: مرحباً بأحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أنه كان إذا أتاه طلبة العلم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً).

تفسير قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)

تفسير قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث) قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11]، ما المراد بهذه النعمة؟ قيل: هي النبوة، وقيل: القرآن، وقيل: هي عامة في جميع الخيرات. فالتحديث بنعمة الله يكون بشكرها وإظهار آثارها، كما جاء في الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثياب رثة فسأله: ألك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قال: من كل المال آتاني الله سبحانه وتعالى، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: من كان له مال، فليرى أثر نعمة الله عليه وكرامته)، فهذا تحديث فعلي بنعمة الله، وكذلك يشرع الحديث القولي إذا أمن الإنسان العجب، فيتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى عليه. أما النبي عليه الصلاة والسلام فقد أوجب الله عليه التحدث بهذه النعم بشكرها وإظهار آثارها، وعلى المسلم أن يحرص على أن تقضي الحاجات من طريقه، وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها، فالغني مثلاً يظهر أثر النعمة عليه بحيث يتوجه الفقير إليه ويسأله. وفي الآية تنبيه على أدب عظيم: وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها؛ حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى، ومن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم؛ لتقوم لهم الحجة في خفض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من القل، أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد بما أفاض عليهم من رزقه، فالتحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين، فهذا هو معنى قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). ويشهد لذلك قول الله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فأنت عرفت في نفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء، وليس القصد في مجرد ذكر الثروة، فإن هذا يتنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاوياً صلى الله عليه وسلم. وقد يقال: إن المراد من هذه النعمة النبوة، ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} فيقابلها قوله عز وجل هنا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فتكون النعمة بمعنى الغنى، ولو كانت بمعنى النبوة لكانت مقابلة لقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر).

الشرح

تفسير سورة الشرح

تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)

تفسير قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك) سورة الشرح هي السورة الرابعة والتسعون، وهي سورة مكية، وقيل: مدنية، وهذا أقوى، فإن استقرار هذه النعم المعدودة فيها إنما كان بالمدينة النبوية كما لا يخفى، وآيها ثمان. قال تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)، أي: ألم نوسعه بإلقاء ما يسره ويقويه، وإظهار ما خفي عليه من الحكم والأحكام، حتى علم ما لم يعلم، وصار مستقر الحكمة، ووعاء حقائق الأنباء. والهمزة لإنكار النفي، ونفي النفي إثبات، ولذا عطف المثبت عليه {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]. ما معنى قوله: نفي النفي إثبات؟ معنى ذلك: أن الهمزة نفسها فيها معنى النفي، ثم أتت بعدها أداة نفي وهي (لم)، فنفي النفي إثبات، كما قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، وقال أيضاً على لسان فرعون: (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18]. وقال الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح إذاً: هذا استفهام معناه التقرير، فقوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فيكون معنى الآية: قد شرحنا لك صدرك، فلذلك عطف على هذا قوله: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]. وأصل الشرح بسط اللحم ونحوه مما فيه توسيع مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه. واستعمل في القلب الشرح والسعة؛ لأنه محل الإدراك لما يسر وضده، فجعل إدراكه لما فيه مسرة، يزيل ما يحزنه فرحاً وتوسيعاً؛ وذلك لأنه بالإلهام ونحوه مما ينفس كربه ويزيل همه، وبظهور ما كان غائباً عنه وخفياً عليه مما فيه مسرته، كما يقال: شرح الكتاب: إذا وضحه، ثم استعمل الشرح في الصدر، والصدر محل القلب؛ لأن اتساع الشيء يتبعه اتساع ظرفه، ولذا تسمع الناس يسمون السرور بسطاً ثم سموا ضده ضيقاً وقبضاً.

تفسير قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك)

تفسير قوله تعالى: (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك) قال تبارك وتعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:2 - 3]. الوزر: هو الحمل الثقيل، ووضعه: إزالته عنه؛ لأنه إذا تعدى بعلى كان بمعنى التحميل، وإذا تعدى بمن كان بمعنى الإزالة، مثلاً تقول: وضعت على الجمل الأثقال. هذا بمعنى التحميل، لكن وضعت عنه هذه الأثقال بمعنى الإزالة. قوله: (الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ) الإنقاض: هو حصول النقيض بالضاد، والنقيض هو صوت فقرات الظهر. وقيل: صوت الجمل أو الرحل أو المركوب إذا ثقل عليه، فالإنقاض التثقيل في الحمل حتى يسمع له نقيض، أي: صوت. وقال ابن عرفة: هو الأثقال يجعل ما حمل عليه نقضاً، أي: مهزولاً ضعيفاً، وقد مثل بذلك حاله صلى الله عليه وسلم مما كان يثقل عليه ويهمه من كثرة المستهزئين بدعوته، وضعف من سبق إلى الإيمان به، وشيوع الشرك والضلال في جزيرة العرب، وقوة أهلها؛ ووضع الأثقال عنه هو كثرة من آمن به، ودخولهم في دين الله أفواجاً، وقوة أتباعه، وانمحاء الشرك والجاهلية من الجزيرة، وذل أهلها بعد العز، وانقيادهم بعد شدة الإيذاء. وقيل: الآية كناية عن عصمته وتطهيره من دنس الآثام، كما قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2]. والوجه الأول أقوى؛ لأن الوزر هو حال النبي عليه الصلاة والسلام مما كان يثقل عليه من تألمه بحال المستهزئين به، وعدم استجابتهم له، وضعف أتباعه إلى آخره. وسبق أن تكلمنا بالتفصيل في سورة الفتح، في تفسير قوله تعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) وبينا أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم من المعاصي، وأن الأنبياء كلهم معصومون من المعاصي والآثام، وأن ما ورد في الكتاب أو السنة مما يفهم منه خلاف ذلك فهو محمول على أحد أمرين: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما هو خلاف الأولى، فيكون هذا في حقه كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فعد معصية بالنسبة إلى مقامه العالي الشريف وعوتب عليه. وإما أن يكون عليه الصلاة والسلام اجتهد في هذا الأمر وظن أنه يوافق مرضاة الله، ثم بعدما فعله اتضح أنه بخلاف ذلك، فعد ذنباً بهذا الاعتبار، لكن تعمد مخالفة أمر الله لا تصدر عنه. والقاعدة المقررة عند أهل السنة: هي عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)

تفسير قوله تعالى: (ورفعنا لك ذكرك) قال عز وجل: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] يعني: بالنبوة، وفرض الاعتراف برسالتك. ولذلك: يجب على كل إنسان من البشر أن يؤمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان به شرط في قبول الإيمان وصحته؛ ولأنه لا يمكن أبداً أن يدخل أحد الجنة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إلا من طريقه. وقال قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة عليه الصلاة والسلام، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وقال مجاهد: لا أُذكر إلا ذكرت معي. قال الشهاب: وهذا -أي: قول مجاهد - إن أخذ كلية خالف الواقع؛ فإنه كم ذكر لله وحده، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وإن عين موضعاً فهو ترجيح بلا مرجح، وإن جعلت القضية مهملة فلا يخفى ما في الإهمال من الركاكة. فينبغي لمن كان من أهل العلم أن يناقش الكلام بتمحيص، فهنا مجاهد رحمه الله فسر قوله: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي. فيفهم منها على إطلاقها أنه لا يمكن أن يذكر الله إلا ويذكر معه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يوافق الواقع؛ لأن ما أكثر ما يقول المسلم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، دون أن يذكروا معه النبي صلى الله عليه وسلم، وكم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وحده. ثم قال الشهاب: وقد أمعنت فيه النظر حتى لاح لي أن الجواب الحق أن يقال: الذكر محمول على الذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، فإن ذكره صلى الله عليه وسلم مقرون بذكره في الصلوات وفي الخطب، فلا ترى مشهداً من مشاهد الإسلام إلا وهو كذلك، فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها فتتجه الكلية. وعلى هذا التفسير نقبل القاعدة الكلية التي أطلقها مجاهد في تفسير الآية بقوله: لا أُذكر إلا ذكرت معي، يعني: لا أذكر في مجامع العبادة ومشاهدها، كصلاة العيد وصلاة الجمعة. والتشهد في الصلاة مثلاً، وفي الأذان إلا ذكرت معي. في الأذان كما قال حسان بن ثابت وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول الإمام الصرصري: لا يصح الأذان في الفرض إلا باسمه العذب في الفم المرضي ويقول أيضاً: ألم تر أنا لا يصح أذاننا ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما ويقول الشاعر أيضاً: يا آل بيت رسول الله حبكم من الله فرض في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم المجد أنه من لم يصل عليكم فلا صلاة له صلى الله عليه وآله وسلم والمعنى: أنه لا يوجد وقت على الإطلاق إلا ويذكر فيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأرض كروية، والليل هنا يكون نهاراً في مكان آخر، فتنتقل مسافات الزمن، ونحن الآن ندرك هذه الأمور بما اكتشف من العلوم الحديثة، بحيث لو اتصلت إلى أمريكا في الساعة الثامنة والربع مساءً فإن الوقت عندهم يكون الساعة الواحدة والنصف ظهراً؛ لأن الوقت يترحل باستمرار يقول عز وجل: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر:5]. يقول: فلا ينفك ذكره صلى الله عليه وسلم عن ذكره تعالى، لا ينفصل عنه في يوم من الأيام، ولا ليلة من الليالي، بل ولا في وقت من الأوقات المعتد بها، فتتجه الكلية، أي: قول مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي. فإن قلت: من أين لك هذا التخيير؟ فهل هو إلا ترجيح من غير مرجح؟ قلت: المقام ناطق بهذا القيد، فإن المراد التنويه بذكره صلى الله عليه وسلم وإشاعة قدره، الدال على قربه من ربه، كقرب اسمه من اسمه، وإنما يكون هذا بذكره في المحافل والمشاهد والجوامع والمساجد، وأي إشاعة أقوى من الأذان، لا في الأسواق والطرق التي يطرح فيها كل ذكر. ثم قال: واعلم أن تحقيق هذا المقام ما قاله الإمام الشافعي في أول رسالته الجديدة وبينه بالتفصيل، فقال رحمه الله تعالى: قول مجاهد في تفسير الآية: لا أذكر إلا ذكرت معي، أي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. يعني: ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية. قال السبكي: هذا الاحتمال من الشافعي جيد جداً، وهو مبني على أن المراد بالذكر الذكر بالقلب؛ لأن الفاعل للطاعة أو الكاف عن المعصية امتثالاً لأمر الله تعالى به ذاكر للنبي صلى الله عليه وسلم بقلبه؛ لأنه المبلغ لها عن الله، وهذا أعم من الذكر باللسان؛ فإنه -أي: الذكر باللسان- مقصور على الإسلام عند الدخول في الإسلام والأذان والتشهد والخطبة ونحو ذلك. قال الشافعي: فلم تمس بنا نعمة ظهرت ولا بطنت نلنا بها حظاً في دين أو دنيا، أو رفع عنا بها مكروه فيهما أو في واحد منهما إلا ومحمد صلى الله عليه وسلم سببها. فعلم من هذا أنه إن أبقى العموم والحصر على ظاهره، حمل الذكر على الذكر القلبي، فيشمل كل موطن من مواطن العبادة والطاعة، فإن العاقل المؤمن إذا ذكر الله تذكر من دل على معرفته وهداه إلى طاعته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قيل: فأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل ولك أن تقول: المراد برفع ذكره عليه الصلاة والسلام تشريفه بمقارنته بذكره في شعائر الدين الظاهرة، وأفضلها كلمتا الشهادة، وهما أساس الدين، ثم الأذان والصلاة والخطب كلها تنحصر في شعائر الدين. يقول الشيخ عطية سالم: وقد نص القرآن أن الله جعل الوحي ذكراً له ولقومه، فقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:43 - 44]. ومعلوم أن ذكر قومه ذكر له، كما قال الشاعر: وكم أب قد علا بابن ذرى رتب كما علت برسول الله عدنان فتبين أن رفع ذكره صلى الله عليه وسلم، إنما هو عن طريق الوحي، سواء كان بالوقوف على توجيه الخطاب إليه كمثل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، والتصريح باسمه في مقام الرسالة {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، أو كان في فروع التشريع كما في الأذان والإقامة، والتشهد والخطب والصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا)

تفسير قوله تعالى: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً) قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]. قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، إشارة إلى أن الذي منحه صلى الله عليه وسلم من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر بعد ضيق الأمر، واستحكام حلقات الكرب في أول السير، كان على ما جرت به سنته تعالى في هذا النوع من الخليقة، وهو أن مع العسر يسراً، ولهذا وصل العبارة بالفاء التي هي لبيان السبب، فَإِنَّ سببية. و (أل) في قوله: (العسر) للاستغراق، يعني: مع كل عسر. ولكنه استغراق بالمعهود عند المخاطبين من أفراده وأنواعه، فهو العسر الذي يعرض من الفقر والضعف، ودهن الصديق وقوة العدو وقلة الوسائل إلى المطلوب، ونحو ذلك مما هو معهود ومعروف. فهذه الأنواع من العسر مهما اشتدت، وكانت النفس حريصة على الخروج منها ظافرة لكثرة شدتها، واستعملت من وسائل الفكر والنظر والعمل ما من شأنه أن يعد لذلك في معروف العقل، واعتصمت بالتوكل على الله، حتى لا تدركها الخيبة لأول مرة. ولا تضر عزيمتها بما تلاقيه عند الصدمة الأولى، فلا ريب في أن النفس تخرج منها ظافرة، وقد كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ضيق الأمر عليه كان يحمله على الفكر والنظر، حتى آتاه الله ما هو أكبر من ذلك وهو الوحي والنبوة. ثم لم تكسر مقاومات قومه شيئاً من عزمه، بل ما يزال يلتمس الغنى في الفقر، والقوة في الضعف، حتى أوتي من ذلك ما زعزع أركان الأكاسرة والقياصرة، وترك منه لأمته ما تمتعت به أعصاراً طوالاً. ثم يذكر القاسمي لطيفة حول تنكير قوله: (يُسْرًا) يقول: فتنكير (يُسْرًا) للتعظيم، والمراد يسر عظيم، وهو يسر الدارين، وفي كلمة (مَعَ) إشعار في غاية سرعة مجيء اليسر، كأنه مقابل للعسر. يعني: أنها تفهم كما في قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7] يعني: الشدة أولاً، ثم يتبع ذلك الفرج. فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل لعباده الأمل في تفريج الكربات، بأن جعل اليسر مقارناً للعسر وليس قريباً منه. فاستعير لفظ (مع) بمعنى: بعد. وقوله تعالى: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) تكرير للتأكيد، أو عظة مستأنفة؛ لأن هذا العسر سيأتي بعده يسر آخر، كثواب الآخرة؛ ولذلك جاء في الأثر: (لن يغلب عسر يسرين). يقول أبو بكر: (إنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة، يجعل الله بعده فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين). إشارة إلى ما جاء في هذه الآية: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فالعسر واحد؛ لأنه أتى بـ (أل) أما اليسر فأتى منكراًً فهو يسرين. فإن المعرف إذا أعيد، يكون الثاني عين الأول، سواء كان معهوداً أو جنساً. أما اليسر في الآية الأولى وفي الثانية فهو منكر (يُسْرًا) فيكون مغايراً لما أريد بالأول، فلذلك قالوا: لن يغلب عسر يسرين. يقول الشاعر: إذا اشتد بك العسر ففكر في ألم نشرح فعسر بين يسرين إذا ذكرته فافرح

تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب)

تفسير قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب) قال عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]، أي: إذا فرغت من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك، فانصب، أي: خض في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب لما تجنيه من ثمرة العمل. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى بعدما بين أنه لا سبيل إلى الفراغ عند المؤمن الحق، يقول: المؤمن لا يعرف الفراغ، فموضوع ما يسمى ضبط الفراغ، وتجزية وقت الفراغ، حتى يقول قائلهم: أنا أقتل الوقت، وفي الحقيقة هو يقتل نفسه. النصب: هو التعب بعد الاجتهاد، يقول تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2 - 3] أي: أنها تعمل وتكد وتجتهد وتكدح فيترتب عليه النصب. وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة. فلذلك اختلف في المقصود من قوله هنا: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، فقال بعضهم: فانصب في الدعاء، أو في الذكر بعد الفراغ من الصلاة، وقيل: إذا فرغت من الفريضة فانصب في النافلة. يعني: فاجتهد فيه ما استطعت، والذي يشهد له القرآن، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة، بعد الفراغ من عمل الدنيا، كما في مثل قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وسكون الليل، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]، يعني: أديت مهمة تبليغ الدين، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، فيكون وقته كله مشغولاً إما للدين وإما للدنيا. وفي قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم، حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا وإما في عمل للآخرة. ولذلك مر بعض السلف بأناس يلهون فقال: ما بهذا أُمر الفارغ. يعني: من فرغ من العمل ما أمر باللعب واللهو، إنما أمر بالنصب وتلا قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ). وعن عمر أنه قال: (إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً، لا في عمل دنيا ولا دين). لذلك السلف لم يعرفوا مشكلة الفراغ وضياع الوقت، فالوقت هذا أعظم نعمة كما قال عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). فالفراغ رأس مال الإنسان وهو الوقت، فمن جمع الله له الأمرين: الصحة والفراغ، فهما أعظم نعمة، ومغبون من ضيع الصحة والفراغ، ممكن واحد معه صحة، لكن ليس عنده فراغ، ممكن واحد عنده فراغ، لكنه مبتلى بالأمراض والأوجاع، فلا يستطيع استثمار هذه النعمة، لكن إذا جمع الله لك هاتين النعمتين: الصحة والفراغ؛ فاعلم أنهما أعظم نعمة. فلذلك ينبغي على الإنسان أن يحافظ على الوقت والصحة. وقد ذكر الألوسي في قوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ قراءة شاذة: (فإذا فرغت فانْصِب) بمعنى التنصيب، يعني: عيِّن الإمام من بعدك. وهذا هو مذهب الشيعة الضلال، فالشيعة قالوا: (فَإِذَا فَرَغْتَ) إذا فرغت من أعباء النبوة وأديت ما عليك، فنصب علياً إماماً، هذا من إلحادهم في آيات الله وما أكثرها. وقال الألوسي: ليس الأمر متعيناً بـ علي. الألوسي يرد على الشيعة، يقول لهم: ليس الأمر متعيناً بـ علي؛ لأن السني قد يقول: معنى قوله: (فانصب) يعني: نصب أبا بكر رضي الله عنه، كذلك إذا احتج الشيعي بما كان في غدير خم، احتج السني بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) وهذا كان بعد بعد حادثة غدير خم، وكان قرب فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأنه كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، فأولى أن يكون هذا في حق أبي بكر. وعلى كل حال إذا كان الشيعة يحتجون بهذه القراءة، فيكفي لرد احتجاجهم أنها شاذة، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير، وهو صرف اللفظ عن ظاهره لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة. ولقد استطرد الشيخ عطية سالم وذكر صوراً أخرى من اللعب في التأويل في هذه الآية الكريمة، يقول: ومن اللعب في التأويل في هذه الآية ما يفعله بعض العوام، يقول: رأيت رجلاً عامياً عادياً قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب قصير وحزام جميل مما يسمونه نصبة -النصبة يعني: بدلة كاملة- فقال له رجل: ما هذه النصبة يا فلان؟ فقال له: لما فرغت من عملي نصبت كما قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ. وسمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده، ويقول: يا فلان! ألا تعرف لي شخصاً أنصب عليه، يعني: أقترض منه، فقلت له: ولم تنصب عليه، والنصب كذب وحرام؟ فقال: إذا لم يكن عند الإنسان شيء، ويده خالية فلا بأس، إذا فرغت يدك من الأموال (فانصب) فلا بأس؛ لأن الله قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم، أو أصحاب الأهواء لضلالهم. يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطاً فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة، ومن هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء).

تفسير قوله تعالى: (وإلى ربك فارغب)

تفسير قوله تعالى: (وإلى ربك فارغب) قال تبارك وتعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8] يعني: وإلى ربك ترغب، التقديم هنا مشعر بالتخصيص، مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا نعبد غيرك، وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه وتعالى. كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه؛ لأنه سبحانه هو الذي أنعم عليك بكل هذه النعم المعدودة في سورة الضحى والشرح. فإذا كان كل هذه النعم هي من عند الله، فلا ينبغي أن ترغب إلا بما عند الله سبحانه وتعالى لا فيما سواه: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ). يقول القاسمي: قوله: (فإذا فرغت) أي: من عمل من أعمالك النافعة لك ولأمتك. قوله: (فانصب) أي: خض في عمل آخر واتعب فيه، فإنك تجد لذة الراحة عقب النصب بما تجنيه من ثمرة العمل. قوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي: في الدعوة إليه، ولا ترغب إلا إلى ذاته، دون توان أو غرض آخر، لتكون دعوتك ووجهتك إليه وحده. وقال ابن جرير: اجعل نيتك ورغبتك إليه دون من سواه من خلقه، إذ كان هؤلاء المشركون من قومك قد جعلوا رغبتهم في حاجاتهم إلى الأنداد. يقول القاسمي: والأظهر عندي اعتماداً على ما صححناه من أن الآية مدنية، وأنها من أواخر ما نزل، وأن يكون معنى قوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) أي: إذا فرغت من مقارعة المشركين، وظفرت بأمنيتك منهم بمجيء نصر الله والفتح، فانصب في العبادة والتسبيح والاستغفار. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

التين

تفسير سورة التين

تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وهذا البلد الأمين)

تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وهذا البلد الأمين) سورة التين هي السورة الخامسة والتسعون، وهي مكية، وقيل: مدنية، والأرجح الأول لقوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3]، إشارة إلى المكان الذي نزلت فيه السورة، وهو مكة. وآيها ثمان. عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بـ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]، فما سمعت أحسن صوتاً أو قراءة منه) أخرجه الجماعة. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3].

أقوال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين)

أقوال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين) اعلم أن المفسرين لم يختلفوا في أن البلد الأمين هو مكة المشرفة، الآمن أهلها أن يحاربوا، فهذا الحرم آمن وأمين في اللغة بمعنى: آمن، كما قال الشاعر: ألم تعلمي يا أسم ويحكِ أنني حلفت يميناً لا أخون أميني! أميني: أي: آمني، فمكة هي البلد الأمين، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]. أما المقسمات بها قبل ففيها أقوال للسلف؛ لاحتمال موادها لكل البشر، وقد أقسم بأربعة أشياء وهي: التين، والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد الأمين. فالثلاثة الأولى هي محل الخلاف، لكن البلد الأمين لم يختلف في أنها مكة، فعن مجاهد والحسن أن التين: الذي يؤكل، والزيتون: الذي يُعصر، قالوا: وخصّهما لكثرة فوائدهما وعظم منافعهما. وعن قتادة قال: التين: هو الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس. وعن كعب وابن زيد: التين: مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس. وعن ابن عباس: التين: مسجد نوح الذي بُني على الجودي، والزيتون: بيت المقدس. فظهر أنهما الشجرتان المعلومتان أو جبلان أو مسجدان. وصوّب ابن جرير الأول منها، وهو: أن التين والزيتون هما الشجرتان المعروفتان، حيث قال: والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: التين هو التين الذي يؤكل، والزيتون: هو الزيتون الذي يُعصر منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروف عند العرب، ولا يُعرف جبل يسمى تيناً، ولا جبل يقال له: زيتون، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون، والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين ومنابت الزيتون، فيكون ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوّز خلافه؛ لأن دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون. انتهى كلامه وفيه نظر؛ لأن مَن حَفظ حجة على من لم يحفظ.

كلام القاسمي في قوله تعالى: (والتين والزيتون)

كلام القاسمي في قوله تعالى: (والتين والزيتون) يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن جرير: لا، مَن حفظ حجة على من لم يحفظ، ومعروف في التاريخ القديم أن جبل الزيتون جبل بفلسطين، يكون معروفاً ذلك عند علماء أهل الكتاب والمؤلفين. قال صاحب الذخيرة في تعداد جبال فلسطين: ويتصل بجبال إسرائيل جبل الزيتون، وقد دعي كذلك لكثرة الزيتون فيه، وهو قريب المسافة من أورشليم، وفيه صعد المسيح لكي يرتفع إلى السماء، ويسمى أيضاً: طور زيتا إلى الآن، أي: جبل الزيتون. فعلى قول ابن جرير الطبري: إن التين والزيتون هما الشجرتان. وكان طور سينين موضعاً أو مكاناً، والبلد الأمين مكان، فإذا أمكن أن نحمل التين والزيتون على أنهما منابت التين والزيتون، أو أنهما موضعان، فسيكون هناك اتفاق بين المقسمات كلها. ثم يقول القاسمي: على أن في ما قرره ابن جرير تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين، وحكمة جمعهما معاً في نسق واحد غير مفهوم، فالأرجح أنهما موضعان أو موضع واحد معروف، ويكون المقسم به ثلاثة مواضع مقدسة.

كلام ابن كثير قي قوله تعالى: (والتين والزيتون)

كلام ابن كثير قي قوله تعالى: (والتين والزيتون) قال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة -أي: أماكن ثلاثة- بعث الله من كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محلة التين والزيتون، وهو بيت المقدس الذي بعث الله فيه عيسى بن مريم عليهما السلام. والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء، وسيناء: الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة وفيها: (جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران). وهذا اللفظ موجود في التوراة إلى اليوم، وهو بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يستطيع أن ينكره إلا مكابر. قوله: (جاء الله من طور سيناء)، أي: الذي كلم الله عليه موسى، (وأشرق من ساعير)، أي: جبل بيت المقدس، الذي بعث الله عنده عيسى، (واستعلن من جبال فاران)، فاران: مكة في لغة ما يسمى بـ (العهد القديم)، وجبال فاران: أي: جبال مكة. ويوجد أيضاً في التوراة لفظ: (إن إسماعيل نشأ في جبال فاران) أو (بين جبال فاران). قال ابن كثير: أي: جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب المدني بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم بالأشرف منهما. انتهى كلام ابن كثير.

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: (والتين والزيتون وهذا البلد الأمين)

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: (والتين والزيتون وهذا البلد الأمين) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضي عنه كتاب: (الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح)، وهذا الكتاب من روائع شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو كتاب جدير أن يفنى العمر في دراسته؛ لأنه كتاب قيم جداً، ومن أروع الكتب في هذا الفن، والأمريكان من اهتمامهم بهذا الكتاب ترجموه، وتوجد منه نسخة في مكتبة الكونجرس باللغة الانكليزية، مع أن منا من لم يره أصلاً -فضلاً عن أن يقرأه أو يبحث فيه- فليعلم أن هذا الكتاب من أروع الكتب، وأكثر من ألّف في بحث عقيدة النصارى إنما كان عالة على هذا الكتاب. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فصل: شهادة الكتب المتقدمة بنبوته صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: وذلك مثل قوله في التوراة ما قد ترجم بالعربية: جاء الله من طور سيناء. وبعضهم يقول -في الترجمة-: تجلّى الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. قال كثير من العلماء -واللفظ لـ أبي محمد بن قتيبة -: ليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء: إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء، كالذي هو عند أهل الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير -أرض الخليل- بقرية تدعى: ناصرة، وباسمها يسمى من اتبعه: نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران: إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وجبال فاران هي جبال مكة. قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة، فإن ادّعوا أنها غير مكة، فليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم. قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟! وقلنا: دلّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران؟! والنبي الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح؟! أوليس (استعلن) و (عَلِنَ) هما بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف؟! هل تعلمون ديناً ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه؟ إن استعلن هي: الظهور والإعلان والانتصار الكبير، وهذا ليس إلا من ملة الإسلام. وقال أبو هاشم بن ظفر: (ساعير) جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح عليه السلام. قلت -القائل: ابن تيمية -: وبجانب بيت لحم -القرية التي ولد فيها المسيح- قرية تسمى إلى اليوم: ساعير ولها جبال تسمى: جبال ساعير وعلى هذا فيكون ذكر الجبال الثلاثة حقاً، جبل حراء الذي ليس حول مكة جبل أعلى منه، ومنه كان نزول أول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وحوله من الجبال جبال كثيرة. وجبل النور أو الجبل الذي فيه غار حراء شكله مميز جداً، حيث ترى المنظر في قبة الجبل كأن الجبل مُنطوٍ يستقبل شيئاً من السماء. ثم يقول ابن تيمية رحمه الله: (وذلك المكان يسمى (فاران) إلى هذا اليوم، وفيه كان ابتداء نزول القرآن، والبرية التي بين مكة وطور سيناء تسمى: برية فاران، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة، ثم الإنجيل، ثم القرآن، وهذه الكتب نور الله وهداه. وقال في الأول: جاء أو ظهر، وفي الثاني: أشرق، وفي الثالث: استعلن. وكان مجيء التوراة مثل طلوع الفجر أو ما هو أظهر من ذلك، ونزول الإنجيل مثل إشراق الشمس زاد به النور والهدى، وأما نزول القرآن فهو بمنزلة ظهور الشمس في السماء، ولهذا قال: واستعلن من جبال فاران. فإن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعظم مما ظهر بالكتابين المتقدمين، كما يظهر نور الشمس إذا استعلت في مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا سماه الله (سراجاً منيراً)، وسمى الشمس (سراجاً وهاجا). والخلق يحتاجون إلى السراج المنير أعظم من حاجتهم إلى السراج الوهاج؛ فإن الوهاج يحتاجون إليه في وقت دون وقت، بل قد يتضررون به في بعض الأوقات، وأما السراج المنير فيحتاجون إليه كل وقت وفي كل مكان، ليلاً ونهاراً، سراً وعلانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زُويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها) اهـ. ونحن نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرجح القول بأن قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] أن القسم هو بالمكان الذي ينبت فيه التين والزيتون، وأيضاً: {وَطُورِ سِينِينَ} [التين:2] مكان، {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] مكان أيضاً. وذلك يتضح من قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق: (وهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله بها في القرآن في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3] الآيات. فأقسم بالتين والزيتون وهو الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك، ومنها بعث المسيح وأنزل عليه فيها الإنجيل، وأقسم بطور سيناء، وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، وناداه من واديه الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة، وأقسم بهذا البلد الأمين، وهو مكة، وهو البلد الذي أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه هاجر فيه، وهو الذي جعله الله حرماً آمناًَ ويتخطف الناس من حولهم، وجعله آمناً خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً. ثم قال شيخ الإسلام في بسط هذه الآيات الثلاث: فقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3]؛ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة، التي ظهر فيها نوره وهداه، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، كما ذكر الثلاثة في التوراة بقوله: جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. ولما كان ما في التوراة خبراً عنها أخبر بها على ترتيبها الزماني، فقدم الأسبق فالأسبق). إذاً: التوراة جاءت في الترتيب الزماني الأول، حيث بدأ بها بقوله: جاء الله من طور سيناء. أي: رسالة موسى، وأشرق من ساعير. أي: رسالة عيسى، واستعلن من جبال فاران. أي: رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ثم قال شيخ الإسلام: (وأما القرآن فإنه أقسم بها تعظيماً لشأنها؛ وذلك تعظيم لقدرته سبحانه وتعالى وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فختمها بأعلى الدرجات. فأقسم أولاً بالتين والزيتون، ثم بطور سينين، ثم بمكة؛ لأن أشرف الكتب الثلاثة: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل). والتوراة أعظم وأهم بكثير من الإنجيل؛ لأن الإنجيل جاء مكملاً ومتمماً فقط، كما قال عيسى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50] إلى آخر الآيات. لكن الشريعة كاملة كانت في التوراة، فانظر إلى هذه الدقة؛ لأن السياق في القرآن سياق تعظيم لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فبدأ بها حسب دلالتها، فقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] هذه رسالة عيسى، {وَطُورِ سِينِينَ} [التين:2] رسالة موسى عليه السلام، {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3] القرآن الذي أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال شيخ الإسلام: وكذلك الأنبياء، فأقسم بهم على وجه التدريج حسب مقامهم، فهذا كقوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:1 - 4]. فأقسم بطبقات المخلوقات طبقة بعد طبقة، فأقسم بالرياح الذاريات، ثم بالسحاب الحاملات للمطر، فإنها فوق الرياح، ثم بالجاريات يسراً، وقد قيل: إنها السفن، ولكن الأنسب أن تكون هي الكواكب المذكورة في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:15 - 16]. انتهى كلامه رحمه الله. (فالمقسمات أمراً): هي الملائكة التي هي أعلى درجة من هذا كله.

تفسير آخر لقوله تعالى: (والتين)

تفسير آخر لقوله تعالى: (والتين) استظهر بعض المعاصرين أن قوله تعالى: {وَالتِّينِ} [التين:1] أي: شجرة بوذا مؤسس الديانة البوذية، والتي تحرفت كثيراً عن أصلها الحقيقي. وقال هذا المعاصر: فإن تعاليم بوذا لم تكتب في زمانه، وإنما رويت كأحاديث بالروايات الشفهية، ثم كتبت بعد ذلك حينما ارتقى أتباعه. ثم قال: والراجح في ذلك -بل المحقق- إذا صح تفسيره لهذه الآية: أنه كان -أي: بوذا- نبياً صادقاً، ويسمى: خيامونجي أو زوناما، وكان في أول أمره يأوي إلى شجرة تين عظيمة، وتحتها نزل عليه الوحي وأرسله الله رسولاً، فجاءه الشيطان ليفتنه هناك فلم ينجح معه، ولهذه الشجرة شهرة كبيرة عند البوذيين، وتسمى عندهم: التينة المقدسة، وبلغتهم: أجافالا. ثم قال: ففي هذه الآية ذكر الله تعالى أعظم أديان البشر الأربعة الموحاة منه تعالى لهدايتهم ونفعهم في دينهم ودنياهم، فالقسم فيها كالتمهيد لقوله بعده: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، فبدأ تعالى بالقسم بالبوذية؛ لأنها أقل درجة في الصحة وأشد الأديان تحريفاً عن أصلها، ثم ارتقى إلى النصرانية، ثم اليهودية، ثم الإسلامية إلخ.

تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)

تفسير قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] هذا هو المقسم عليه، والمعنى: في تقويمٍ هو أحسن تقويم، فـ (أحسن تقويم) نعت لمحذوف، والتقويم هو التعديل كما في قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَاً * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2]، والتعديل أو التقويم حسّاً ومعنى، حساً: في شكل الإنسان وبُنيته، حيث يمشي منتصب القامة، ولا يمشي على أربع، وهذه أكمل وأجمل صورة. وأما معنوياً: فمن حيث أن الله سبحانه وتعالى ميّزه بالروح الإنسانية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7]، أي: عدلها. وهذا التقويم الذي قوم الله الإنسان أو عدله عليه هو من دلائل القدرة ودلائل البعث، وبالتالي يكون دليلاً على قدرته على البعث والنشور، كما يقول الشاعر: دواؤك منك وما تشعرُ وداؤك منك وما تبصرُ وتزعم أنك جُرْمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ يقول تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:37 - 40]؟ بلى. وقوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ) الإنسان هنا مفرد لكنها اسم جنس، والدليل على أنها اسم جنس أنه قال بعدها: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:6] يعني: أن كلمة الإنسان يستثنى منها الذين آمنوا فدلّ على أنها اسم جنس، مثل سورة العصر: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:2 - 3] فهذا الاستثناء يدل على أن كلمة (إنسان) اسم جنس. قوله: (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي: في أحسن تعديل خلقاً وشكلاً صورة ومعنى، فهو في أحسن صورة وأعدلها.

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)

كلام الشنقيطي في قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] تُوهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه، فالكفار لما أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأن الإعادة أيسر من البدء، فأكد لهم الإيجاد الأول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]. ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7]، أي: إذا كان الله هو الذي خلقك وبدأك بأحسن تقويم (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ)، الدين: هو الجزاء، كما قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، يوم الدين: يوم الجزاء. أي: ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء بعد علمك أن الله أوجدك أولاً؟! فمن أوجدك أولاً فهو قادر على أن يوجدك ثانياً، كما قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] , وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج:5] إلى غير ذلك من الآيات. فلذلك ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي إيجاده الأول، مع أنه مُقرّ بأن الله هو الذي خلقه، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فهم لا ينكرون أن الله هو الذي خلقهم، لكنهم تصرفوا تصرف الذي ينكر أن الله خلقهم؛ لأنهم ينكرون البعث والنشور، فلذلك زعموا بأنهم أيضاً ينكرون الإيجاد الأول، ولذلك فإن الإنسان لا ينكر البعث والنشور إلا إذا نسي الإيجاد الأول، قال الله سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]. وقال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ} [مريم:66 - 67]. وفي هذا إشارة إلى أنه ليس من الممكن أنه ينكر النشور إلا إذا نسي البعث، فتأمل كلمة: (أولا يذكر!)، وفي سورة يس: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78]، أي: أنه يقرّ أن الله هو الذي خلقه، لكنه ينسى؛ لأنه بإنكاره البعث والنشور يلزمه أن ينكر أيضاً بداية الخلق، فلذلك هو ينسى الخلق الأول: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم:66 - 67]. وبعض المفسرين قالوا في تفسير: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7]، أي: من يقدر على تكذيبك يا نبي الله! بالثواب والعقاب بعدما تبين أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا.

تفسير قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) إلى آخر السورة

تفسير قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) إلى آخر السورة يقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]، أي: جعلناه أسفل من سَفُل، وهُم أصحاب النار؛ لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين. وأسفل سافل للمتعثر المتفاوت؛ لأن دركات النار كلما كانت أسفل تكون أسوأ، فقوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] يعني: أحطّ منزلة، و (ثم) للتراخي الزماني، أو هو رتبي، أو (أسفل سافلين) أي: إلى مكان أشد سفولاً وهو النار بمعنى: جهنم. وقوله: (أسفل سافلين) قيل: نزلهم منزلة العقلاء، كذا قالوا، ولو قيل: هم أهل النار والدركات؛ لأنهم أسفل السفل لكان أولى. قوله: (ثم رددناه) يعني: أننا نفعل هذا بكثير من الناس، وليس بكل إنسان، والعرب تقول لمن ينفق: أَنفَقَ ماله على فلان. مع أنه لم ينفق كل المال، وإنما بعض المال، ويقول تعالى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] هل يقصد كل ماله؟ لا، بل بعض ماله. وبعض المفسرين ذهبوا إلى أن معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، أي: القوة والشباب والفتوة، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]، أي: بأن يُردّ إلى أرذل العمر.

الاختلاف حول معنى قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين)

الاختلاف حول معنى قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) يقول تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين:6]. المقصود بهذا الاستثناء قولان: القول الأول: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: فإنهم لا يُردون إلى الخرف وأرذل العمر، وإن عُمّروا طويلاً فهم في عافية من أن يصيبهم الخرف ونحوه. قال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يُردّ إلى أرذل العمر. القول الثاني: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: فإنهم لا يُردّون إلى النار، فالنار هي المقصودة بقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]. قوله تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) أي: غير مقطوع، أو غير منقوص، أو غير محسوب، أو غير ممنون به عليهم، وسبق في سورة القلم البيان بالتفصيل أن هذا التفسير الأخير لا يصح؛ لأن الذي يمنّ هو الله سبحانه وتعالى، فله المنّة وله الفضل، وما من خير إلا من الله سبحانه وتعالى.

تفسير ابن جرير لهذه الآيات

تفسير ابن جرير لهذه الآيات وقد اعتمد ابن جرير في تخريج الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن معنى الآية: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] أي: ثم رددناه إلى أرذل العمر، وأن من كان يعمل بطاعة الله في شبيبته كلها، ثم كبر حتى ذهب عقله، كُتب له مثل عمله الصالح الذي كان يعمله في شبيبته، ولم يؤاخذ بشيء مما عمل في كبره وذهاب عقله من أجل أنه مؤمن وكان يطيع الله في شبيبته. انتهى كلامه. وهذا غير صحيح؛ لأن الواقع يشهد بخلافه، فكم نرى من أناس صالحين أصابهم الخرف، مثل بعض علماء الحديث تجد أنه تغير في آخر عمره واختلط حفظه! وهذه سنة الله سبحانه وتعالى، فإن كل كمال يؤول وينتهي إلى النقصان، ومهما بلغ الإنسان فلابد أنه يرجع إلى الضعف، وتضمحل قواه، وهذا ليس بعيب، وإن كان يوجد فعلاً بركة في العمر وفي الصحة لكثير من الناس والعلماء الأفاضل ممن طعنوا في السن، ومع ذلك لم تذهب عنهم العافية، وهذا من بركة القرآن وبركة العلم والطاعة، لكن هل نقول: إن عدم وجودها نذير شؤم وبلاء على صاحبه وعلامة سوء خاتمة والعياذ بالله؟! A لا؛ لأنه لا يُتصور أن الإنسان الذي اجتهد طول عمره في الطاعة والاستقامة ثم ابتلي بمرض من أمراض الشيخوخة المعروفة، مثل فقدان الذاكرة أو نحو ذلك أن نعامله كأنه إنسان مجنون. فالله سبحانه وتعالى هنا كأنه يُطمئن من جرت عليه هذه السنّة حين طعن في السن ورد إلى أرذل العمر أنه ما دام مكلفاً فهو ينال ثواب عمله إذا ابتلي بأي مرض، وبعض الناس لو رأى أحداً ممن ابتلي بالسرطان أو غيره من الأمراض فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه أن هذه علامة سوء! نقول: لا، هذه سنن الله، وهي تمضي على كل خلق الله سبحانه وتعالى، وربما ترتفع بها درجات الإنسان إذا ابتلي بالبلاء الكبير. وعلى هذا، فقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:6]، كأنها بشارة ومواساة وتعزية لمن يبتلى بمثل هذا، أنه إذا اختلّ عقله مثلاً بسبب كبر السن، فلا يؤاخذ على ما يصدر منه من أشياء غير حميدة، وفي هذه الحالة يبشره الله سبحانه وتعالى أنه ما دام حياً فإنه يجري عليه ثواب الأعمال الصالحة التي كان يعملها قبل أن يبتلى بهذا المرض؛ لأنه ظل مستقيماً إلى آخر إمكانياته. ولذلك قال تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) يعني: غير منقطع عند تغير العقل بسبب كبر السن، وسيظل يجري عليه أجره تامّاً، كما جاء في الحديث: (إذا سافر العبد أو مرض كتب الله مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً). ومثله من كان مواظباً على قيام الليل ثم فاته قيام بعض الليالي لمرض أو نحوه، فإنه يكتب أجره كاملاً كما كان يقوم الليل من قبل، ما دام أن الذي أقعده هو المرض. فكذلك قوله: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) أي: أنه إذا دخل في هذا السن وأصابه المرض فلا ينقطع أجره، بل يجري عليه أجر ما كان يعمله في حال شبابه وقوته؛ لأنه ما حال بينه وبين الطاعة إلا عذر سماوي لا يد له فيه. وفي آخر العمر يصيب الإنسان الضعف وذهاب العقل، يقول الشاعر: إن الثمانين وقد بُلَّغْتُهَا أحوجت سمعي إلى ترجمان فالحواس كلها تضعف، والآيات في هذا واضحة بأن معنى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) أي: الرد إلى أرذل العمر، يقول تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس:68]، ولذلك قال الله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} أي: لأن الكبير يعود إلى حال الأطفال بالضبط، وكما كانت أمك وهي تنظفك من النجاسات والأقذار دون أن تتأفف أو تتضجر، فإذا احتاجت هي وأبوك لهذا في يوم من الأيام {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]. قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54] سبحانه وتعالى!!

تفسير النخعي وابن قتيبة لقوله تعالى: (فلهم أجر غير ممنون)

تفسير النخعي وابن قتيبة لقوله تعالى: (فلهم أجر غير ممنون) يقول النخعي رحمه الله تعالى: إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل، كُتب له ما كان يعمل، وهو قوله تعالى: ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)). وقال ابن قتيبة: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) يعني: إلا الذين آمنوا في وقت القدرة والقوة، فإنهم حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات؛ لأن الله تعالى علم أنه لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير، فهو يجري لهم أجر ذلك. فكأن الله من رحمته يثيبه على النية، مثلما يحصل في سبب خلود أهل النار وخلود أهل الجنة، فإن الخلود للنية، مع أن الكافر يكفر لفترة سنوات محدودة، والمؤمن يؤمن ويطيع الله لمدة محدودة، وله مقابل إيمانه وعمله الخلود في الجنة؛ لأن المؤمن ينوي أن يستقيم على طاعة الله مهما امتدّ به العمر، ولو عاش للأبد سيظل مستقيماً على طاعة الله، مؤديا ًحق الله، والكافر مُصرّ على الكفر إلى آخر ما أمكنه، فعامل الله هذا بنيته وذاك بنيته. فكذلك المؤمن في حياته، ما دام ينوي الاستقامة على الطاعة، ثم حيل بينه وبينها بمرض أو عذر، كما في هذه الأحوال التي ذكرنا، فإنه لا ينقطع أجره، بل يستمر وكأنه يعمل نفس الأعمال التي كان يعملها قبل هذه الشيخوخة.

إيراد كلام ابن جرير حول هذه الآيات، وما رجح في تفسيرها

إيراد كلام ابن جرير حول هذه الآيات، وما رجح في تفسيرها قال ابن جرير: (وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة قول من قال: معناه: ثم رددناه إلى أرذل العمر، ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) في حال صحتهم وشبابهم، ((فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)) بعد هرمهم، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل). والسورة فيها الإشارة إلى المراحل التي يمر بها ابن آدم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4 - 5]. فهذا الكلام جاء في سياق الاحتجاج بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت؛ لأن الآية بعد إقامة هذه الحجة والدليل الواضح على البعث والنشور لا يجرؤ إنسان على أن يكذب بالدين، وهو هنا: الجزاء، لذا قال في آخر السورة: ((فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ)) أي: من الذي يقوى ويتجاسر ويجرؤ على أن يكذب بالبعث والنشور بعد هذه الحجة، وقد احتج الله عليهم بما لا يقدرون على دفعه مما يعاينونه ويحسونه. يقول الإمام ابن جرير رحمه الله: قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5] فيها احتمالين: الأول: إما (رددناه أسفل سافلين) بأن يُردّ إلى أرذل العمر والكبر. الثاني: أن يدخل النار في أسفل سافلين. وسياق الآيات هنا سياق إقامة الحجة عليهم بقدرة الله على البعث والنشور، وأنت إذا أردت أن تقيم الحجة على الخصم، فإنك تأتي له بكلام لا يمكن أن ينكره أو يدفعه، فأنت لو قلت له: إن معنى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7]، أي: فما يكذبك بعد هذه الحجة -وهي: أن العصاة والكفرة يردون إلى أسفل السافلين من جهنم؟ فمن الممكن أن يقول لك الخصم: أنا أنكر النار أصلاً، ولا يوجد شيء اسمه نار! فالله سبحانه وتعالى هنا في سياق إقامة الحجة بمراحل الخلق لإثبات القدرة على البعث والنشور، أتى بشيء لا يستطيعون أن ينكروه، فهو يصلح أن يكون حجة على البعث والنشور. يقول الإمام ابن جرير: وإنما قلنا: هذا القول أولى بالصواب في ذلك؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم وتصريفه في الأحوال، احتجاجاً بذلك على منكري قدرته على البعث بعد الموت، ألا ترى أنه يقول: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] يعني: بعد هذه الحجج، ومحال أن يحتج على قوم كانوا منكرين معنى من المعاني بما كانوا له منكرين، وإنما الحجة على كل قوم بما لا يقدرون على دفعه، مما يعاينونه ويحسونه، أو يقرون به وإن لم يكونوا له محسين، وإذا كان ذلك كذلك، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة منكرين، وكانوا لأهل الهَرَم والخرف من بعد الشباب والجلد شاهدين، عُلم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا له معاينين من تصريفه خلقه، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد، إلى الهرم والضعف وفناء العمر وحدوث الخرف.

إيراد كلام الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان

إيراد كلام الشيخ عطية سالم في تتمة أضواء البيان يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: لأن الله تعالى قال في آخرها: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} [التين:7] أي: بعد هذه الحجج الواضحة، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين، وهذا هو الشاهد لهم، يحتج به عليهم. أما رده إلى النار فأمر لم يشهدوه ولم يؤمنوا به، فلا يصلح أن يكون دليلاً يقيمه عليهم؛ لأن من شأن الدليل أن ينقل من المعلوم إلى المجهول، والبعث هو موضع إنكارهم، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه، وهذا الذي ذهب إليه. ومما يشهد لهذا الوجه: أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة، فعلقة، فطفلاً، فغلاماً، فشيخاً، فهرماً، فهرم وعجز، جاء مثلها في النبات، وكلاهما من دلائل البعث، كما في قوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد:20] إلى قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20]. وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [الزمر:21]. فكذلك الإنسان؛ لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:17 - 18]. ويكون الاستثناء: ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)) فإنهم لا يصلون إلى حالة الخرف وأرذل العمر؛ لأن المؤمن مهما طال عمره فهو في طاعة وفي ذكر الله، فهو كامل العقل، وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته لا يصاب بالخرف ولا الهذيان. وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة، الشيخ: حسن الشاعر لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن، ويعلمهم القراءات العشر، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع، وهو يضبط على الجميع. انتهى كلامه. وهذا أمر ملاحظ، ولكنه ليس قاعدة في أن من وصل إلى هذه السن وحفظ الله عليه صحته، فإن ذلك يكون بسبب العلم أو نحوه، وليس معناه أن من ابتلي بأمراض الشيخوخة يكون هذا بذنب منه أو أن هذا غمز فيه، لا، بل هذه سنة الحياة. فمثلاً: العلامة الألباني رحمه الله تعالى توفي عما يقارب تسعين سنة، والشيخ ابن باز كان عمره حوالي واحد وتسعين سنة، رحمهم الله أجمعين. فهذا موجود ومشاهد، ومن العجيب جداً ما كان من أمر العلامة الكبير القاضي الشيخ عبد الله بن يوسف، الذي تلقيت عنه شيئاً بسيطاً من العلم في أبها، وكان قرين ابن باز أو ربما أكبر منه قليلاً، وهو إلى الآن حي يُرزق، وهو مشهور جداً بصفة معينة -والشيخ عائض القرني باعتباره من بلده يعرف هذه الصفة- وهي: أنه لا يفتر أبداً عن ذكر الله بأي حال من الأحوال، ولا يمكن أن يوقف لسانه عن الذكر مطلقاً، وهذا من العجائب، وهذا الشيخ كبير جداً في السن، ومع ذلك -ما شاء الله- يحفظ بعض كتب العلم بالحرف، فهو يحفظ كتاب (المغني) من الجلدة إلى الجلدة عن ظهر قلب، وأنا كنت أقرأ عليه أحياناً في كتاب (لطائف المعارف) لـ ابن رجب، فكان يصحح لي في الكتاب غيباً. فالله أعلم، ربما ما تعلم كتاباً إلا وكان حافظاً له. وقد كان على درجة عظيمة جداً من العلم، وكان إذا تغيب شيخه عن الدرس فإنه يقوم مقامه في إلقاء الدرس للشيخ ابن باز ورفاقه. وقد كنت أظن أنه توفي؛ لأنه كبير جداً في السن، ولكن قبل شهور قليلة فوجئت بأحد الإخوة من أبها يقول لي: إنه ما زال حياً يُرزق، حفظه الله تعالى. فالشاهد: أن هذا شيء ملاحظ، وهو أن الله سبحانه وتعالى يحفظ العبد إذا حفظ جوارحه.

البينة

تفسير سورة البينة

ذكر بعض الأحاديث الواردة في فضل سورة البينة

ذكر بعض الأحاديث الواردة في فضل سورة البينة هذه السورة ترتيبها في المصحف: الخامسة والتسعون. وتسمى بسورة البينة، وسورة لم يكن، وسورة القيمة، وسورة المنفكين، وسورة البريّة. وعدد آياتها ثمان، وهي مدنية على الأصح. روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال: وسماني لك؟ قال: نعم. فبكى رضي الله عنه) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم. وفي رواية للإمام أحمد عن أبي حبة البدري قال: (لما نزلت: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)) [البينة:1] قال جبريل: يا رسول الله! إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، قال أبي: وقد ذُكرت ثَم يا رسول الله؟! قال: نعم، قال: فبكى أبي رضي الله تعالى عنه). وهذا الحديث فيه فضيلة عظيمة لـ أبي رضي الله تعالى عنه، إذ أمر الله رسوله أن يقرأ عليه هذه السورة، وهذا يشير إلى أنه أقرأ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. واختصاص هذه السورة بالذكر يقتضي اختصاصها وامتيازها بأمور معينة؛ وذلك أن هذه السورة على وجازتها وقصرها اشتملت على أمهات أمور العقيدة والدين من التوحيد والرسالة والإخلاص والصحف والكتب المنزلة على الأنبياء وذكر الصلاة والزكاة والمعاد وبيان أهل الجنة وأهل النار، فكل هذه المعاني الأمهات موجودة في هذه السورة الوجيزة الجامعة. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار لا قراءة تعلم واستذكار. وذلك بأن يقرأ شخص على آخر إما لأجل التعلم منه، أو الاستذكار، أو العرض عليه، كما يقرأ مثلاً متعلم القرآن على شيخه، فهذه قراءة تعلم، أو يقرأ على صاحبه للاستذكار والمراجعة. وقال ابن العربي رحمه الله: وفيه -أي: في هذا الحديث- من الفقه: قراءة العالم على المتعلم؛ لأن الأصل أن المتعلم هو الذي يقرأ على العالم، لكن يجوز أن يقرأ العالم على المتعلم. وقال بعض العلماء: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ليعلم الناس التواضع؛ لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة.

تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:1 - 3]. قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) كلمة (منفكين) معناها: منفصلين وزائلين، يقال: فككت الشيء فانفك أي: انفصل، والمراد من الآية: لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى تأتيهم البينة، وقيل: لم يكونوا منتهين عن كفرهم مائلين عنه حتى تأتيهم البينة. والمراد من قوله عز وجل هنا: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بعنادهم بعدما تبينوا الحق منها. وقوله: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) أي: اليهود والنصارى الذين عرفوه صلى الله عليه وسلم، وسمعوا أدلته، وشاهدوا آياته، فإنهم لم يكونوا هم والمشركون وهم وثنيو العرب ((مُنفَكِّينَ)) أي: منفصلين وزائلين عن كفرهم وشركهم، أو منتهين عن كفرهم مائلين عنه ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: الحجة القاطعة المثبتة للمدعى، وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى: ((رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ)). فمجيئه صلى الله عليه وسلم هو الذي أحدث هذه الضجة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومكابرتهم بأنه كان شيئاً معروفاً لهم يصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحَقّ أن يتبع، فإن ما هم فيه أجمل وأبدع، ومتابعة الأذى فيه أشهى إلى النفوس وأنفع. وقوله تعالى: ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ)) عبر هنا بالفعل المضارع الذي يدل على الاستقبال، مع أنها في الماضي، فمعنى ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ)) أي: حتى أتتهم البينة، وتلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي رسول من الله، وأطلق على النبي صلى الله عليه وسلم بيّنة؛ لأنه هو الذي بين لهم ضلالهم وجهلهم، وهذا السياق فيه بيان نعمة الله على من آمن من الفريقين؛ إذ أنقذهم به. وقيل: معنى الآية: لم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم نبياً، فلما بُعث إليهم نبي افترقوا. وقوله: ((رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ)) هو محمد صلى الله عليه وسلم، ((يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً)) وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط والباطل وحذف المدلسين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق فيعرفه طالبوه ومنكروه معاً. وقوله عز وجل هنا: ((يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً)) المقصود: يتلو ما تضمنته الصحف، والمكتوب فيها، وهو القرآن الكريم، والدليل على أنه يتلو ما تضمنته تلك الصحف وهي القرآن الكريم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلب لا من كتاب؛ لأنه كان أمياً عليه الصلاة والسلام. ثم وصف الله تبارك وتعالى هذه الصحف المطهرة فقال: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: مستقيمة لا عوج فيها، واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل، كما قال تعالى في وصف هذا القرآن الكريم: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]. وقد اختلف المفسرون في المقصود من قوله تبارك وتعالى: (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)، فقيل: إن هذه الكتب القيمة هي ما تضمنه القرآن الكريم من أحكام. وقيل: هي اقتباسات من الكتب السماوية التي سبق إنزالها من قبل، فالقرآن فيه أشياء مما في صحف إبراهيم وموسى كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19] أي: هذه المعاني التي وردت في سورة الأعلى. وكذلك هناك آيات منها قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] إلى آخره، فهذا أيضاً إشارة إلى تلك الكتب القيمة التي أشار القرآن إلى مواضع منها، وكما في آخر سورة الفتح أيضاً: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29]، ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29]، فهذا إخبار عن أشياء موجودة في الكتب السابقة قبل إنزال القرآن الكريم، فإن الكتب التي في صحف القرآن هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما مما حكاه الله في كتابه عنهم، فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم، وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه. وهذا الكلام فيه نظر، فكيف يُقال: ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون وإنما كلامنا هنا عن التوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله؟! لا ما طرأ عليه التحريف من بعد، فهذا الاحتمال غير وارد أصلاً؛ لأن القرآن الكريم حينما يشير إلى الكتب السابقة فالمقصود بها تلك كما أنزلها الله، وليست كما طرأ عليها التحريف، فهذا التعليل بأن الله سبحانه وتعالى قص علينا ما يوافق الحق وكان قوياً وسليماً، كما قال هنا القاسمي، فهذا غير وارد ابتداء؛ لأن هذه الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى ليس فيها إلا الحق والتوحيد، فالإشارة هنا إلى الكتب كما أنزلها الله، وليست إلى الكتب المحرفة، فليس هناك حاجة أبداً إلى أن يقول: وقد ترك حكاية ما لبس فيه الملبسون. يقول: ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب سبيلاً إلى إنكار الحق، وإنما فضلوا عليه سواه، ومعنى (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: سور القرآن، ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: الرسول عليه الصلاة والسلام. وهناك تفسير آخر لقوله: (يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) (فالصحف مطهرة) قد يراد بذلك ما بينه تبارك وتعالى في قوله تبارك وتعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، أو أنه في اللوح المحفوظ، و (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) يعني: فيها سور القرآن وآياته، وإنما قيل لها: كتب؛ لأن الكتب -كما قلنا مراراً- هو الجمع، فسميت الآيات والسور كتباً لما جمعت من أحكام وأمور شتى، ((قَيِّمَةٌ)) يعني: عادلة مستقيمة تبين الحق من الباطل. وهناك قول بأن الكتب المقصود بها الأحكام (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي: فيها أحكام قيمة، واستدل من قال بذلك بقول الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] أي: حكَم وقضى الله، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: (والله! لأقضين بينكما بكتاب الله) أي: بحكم الله؛ لأن الذي قضى به في هذا الحديث ليس مذكوراً في القرآن؛ فدل على أنه حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هناك قول بأنها (كتب قيمة) يعني: سور القرآن، فإن كل سورة من سوره كتاب قويم، فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة مجموعة قيمة، ولما كان لسائل أن يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين قد انفكوا عن ذلك الضلال المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟! فأجاب الحق تعالى: بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعة على الحق الذي لا يختلف وجهه بما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله؛ حتى لا ينحرفوا عنه، فإذا عرض لأحد شبهة رجع في تفسيرها إلى العارف بمعاني الكتب، ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها، وفهم أسانيدها، وأن يحافظوا عليها؛ حتى لا يضللهم فيها مضلل، لكن هذه البينة لم تفدهم شيئاً، فإنهم اختلفوا في التأويل، وتفرقوا في المذاهب، حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر، وكان ذلك بغياً منهم، واستمراراً في المراء، وإصراراً على ما قاد إليه الهوى، وهذا هو قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا} [البينة:4 - 5] يعني: في كتبهم، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وقال بعض العلماء: إن صدر السورة من أول قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) * (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً) * (فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) في مدح الذين آمنوا من أهل الكتاب وأسلموا، ثم من أول قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] إلى آخره في ذم الذين كفروا ولم يهتدوا بهذه البينة. ونزيد هذه الآية إيضاحاً؛ لأن للعلماء في هذه الآية كلام مميز.

كلام الشيخ عطية سالم في تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب)

كلام الشيخ عطية سالم في تفسير قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) يقول العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: ذكر هنا الذين كفروا ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) وجاء بعدها ((أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ)) مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلاً من أهل الكتاب والمشركين، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب؛ لوجود العطف، فالعطف يقتضي المغايرة. إذاً فالمشركون ليسوا من أهل الكتاب، وأهل الكتاب ليسوا من المشركين، وهذا لا يؤخذ من مجرد لفظ الآية، وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأن المشركين هم عبدة الأوثان، وأن الكفر يجمع القسمين، ولكن الخلاف: هل يجمعهما الشرك أيضاً أم لا؟ فهل يوصف أهل الكتاب أيضاً بأنهم مشركون كما يوصفون بأنهم كفار؟ يقول الشيخ: بين الفريقين عموم وخصوص، عموم في الكفر، وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان. إذاً: الوصف العام في الكفر، ثم هناك اختص اليهود والنصارى بأنهم يسمون أهل كتاب، واختص عبدة الأوثان بكونهم هم المشركين، وهذا في حدود فهم هذه الآية فقط. وقد جاءت آيات أخرى تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضاً، كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:30 - 31] فالشاهد في آخر هذه الآية وهو قوله تعالى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ)، ولا شك أن الإشارة هنا إلى اليهود وإلى النصارى، فوصفهم أيضاً بالإشراك، لأن النصارى قالوا: ثالث ثلاثة، واليهود قالوا: عزير ابن الله، واليهود أيضاً مشبهة كما هو معلوم من كفرهم، فهذا من الشرك. وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه منَع نكاح الكتابية، وقال: وهل هل هناك شرك أكبر من قولها: اتخذ الله ولداً؟ فالشاهد هنا في وصف عبد الله بن عمر الكتابية بالشرك، وإن كان جمهور العلماء يختلفون معه في ما ذهب إليه من منع الزواج من الكتابيات، ومن هنا وقع النزاع في مسمى الشرك: هل الشرك يشمل أهل الكتاب أم لا؟ مع أننا وجدنا فرقاً في الشرع بين معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين، فأحل الله سبحانه وتعالى ذبائح أهل الكتاب، ولم يحل ذبائح المشركين، وأحل نكاح الكتابيات، ولم يحله من المشركات كما قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221]، وقال عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10]، وقال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، ثم بين ما في حق الكتابيات وقال عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة:5] إذاً: فهناك مغايرة في الحكم بين أهل الكتاب وبين المشركين. وقد فصل العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) عند الكلام على الآيات في سورة براءة، وذلك عند قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون؛ بدليل قوله فيهم سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بعد أن بين وجوه شركهم بجعلهم الأولاد لله، واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، أي: أنّ الآيات التي نعت على المشركين شركهم في أي نوع من أنواع الشرك كثيرة، كزعمهم أن الملائكة بنات الله، فهذا شرك، وكذلك الذين قالوا: (عزير ابن الله) فهذا شرك، والذين قالوا: (المسيح ابن الله) فهذا أيضاً شرك. فيقول الشيخ رحمه الله تعالى: ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فأجمع العلماء على أن كفار أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم؛ لأن مقتضى قول بعض الضالين المضلين المنافقين الزنادقة الذين يتجرءون ويزعمون أن أهل الكتاب مؤمنون، وأن صالحهم يدخل الجنة، والعياذ بالله، وهذا تكذيب صريح بالقرآن، ومن شك في كفر اليهودي أو النصراني فهو كافر خارج من الملة، ولا يمكن أن يكون له حظ من الإسلام، ومع ذلك تجد بعض هؤلاء الزنادقة والمضلين يتلاعبون بآيات الله، ويريدون أن يمارسوا هواية اليهود القديمة في تحريف كلام الله عز وجل عن مواضعه، فالقرآن الكريم صريح في هذه المسألة بلا خلاف، ومقتضى كلامهم أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر لمن يعبدون الأوثان فقط، وأما اليهود والنصارى فهؤلاء داخلون في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهذا إلحاد في آيات الله تبارك وتعالى. يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين، كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6]. وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة:105]، والعطف يقتضي المغايرة. والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه -هو العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أن وجه الجمع: أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع، وأن أهل الكتاب متصفون ببعضها، وغير متصفين ببعض آخر منها. فأما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحاً، أي: أن عبادة الأوثان صراحة غير موجودة في أهل الكتاب، نعم أنه يوجد فيهم هذه العبادة، ولكنه ليست بطريقة صريحة، فهم الآن يتوسلون بالأصنام، ويبكون أمامها، ويتبركون ويتمسحون بها، فعبادة الأصنام موجودة، ولكنها ليست بصورة صريحة كما هو الحال في مشركي مكة. إذاً: فعطفهم عليهم هو لاتصاف كفار مكة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف. أي: أن الوثنيين تلبسوا بنوع من الشرك غير النوع الذي تلبس به أهل الكتاب، فهذا هو معنى المغايرة هنا، فكل واحد اختص بنوع من الشرك، فالشرك أنواع، والجنون فنون، فعبادة الأوثان شرك، وعبادة الكواكب شرك، وعبادة الأحجار شرك، وعبادة الأنبياء شرك، وعبادة الملائكة شرك، وعبادة الفئران كما في شرق آسيا شرك، بل وتبني القصور الفخمة من الرخام لعبادتها، وكذلك عبادة الأبقار شرك، فالشاهد أنّ الشرك أنواع، فالمغايرة ناشئة من أن شرك هؤلاء غير شرك هؤلاء، فلا تنافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان، فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد للشيطان، ومشرك بعبادته للشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار، كما بينه قوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:117 - 118] أي: وما يعبدون إلا شيطاناً؛ لأن عبادتهم للشيطان هي طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم. وقوله تعالى أيضاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]. وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]. وقال تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137]. فكل هذا الكفر هو بشرك الطاعة في معصية الله تعالى، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ فإنه إذا قال عليه الصلاة والسلام: الله قتلها، أوحى إليهم أن يجادلوا المسلمين ويقولوا: ما قتلتموه بأيدكم حلال وما قتله الله حرام؟! فأنتم إذاًً أحسن من الله! فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] وما أشبه كثير من الناس في طريقة وأسلوب طعنهم في الأحكام الشرعية -بأسلوب الشيطان وطريقته، وذلك حتى يشككوا الناس في دين الله تبارك وتعالى، فالأسلوب نفس الأسلوب، فهؤلاء ليس لهم رد غير التوقف عن جدالهم، وعدم التنزل إلى هذه الدرك المهلك، (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله فإنه مشرك بالله، ولما سأل عدي بن حاتم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن

اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (منفكين)

اختلاف المفسرين في معنى قوله تعالى: (منفكين) يقول الشيخ عطية رحمه الله: اختلف في (منفكين) اختلافاً كثيراً عند جميع المفسرين، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. ثم أشار إلى وجود إشكال في هذه الآية، لكنه لم يفصل، ولم يبين وجه الإشكال؛ ولذلك يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم بينة، والبينة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان شيخنا الشنقيطي يبين الإشكال، ثم بعد ذلك في مرحلة ثانية يرد على هذا الإشكال. فالشيخ عطية يريد هنا أن يقول: إنّ الرازي نقل أنّ هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، يعني: في تفسيرها، ومع ذلك لم يبين وجه صعوبة هذه الآية، ولا وجه الإشكال، فالمرحلة الأولى يريد الشيخ عطية سالم رحمه الله أن يستخرج الإشكال، ثم في مرحلة لاحقة سوف يرد على هذا الإشكال. ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء الذي لم ينفك عنه الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فقيل: هو الكفر الذي كانوا عليه، إذاً فقوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) أي: عن الكفر الذي كانوا عليه حتى تأتيهم البينة، والتي هي الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم قال الشيخ عطية بعد ذلك: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هناك تناقض في الظاهر بين الآية الأولى والآية الثانية، وأما في حقيقة الأمر وعند تحرير المسألة فلابد أن يرتفع التناقض، فلا يمكن أبداً أن يقع تناقض في القرآن الكريم، بل إنّ القرآن الكريم يصدق بعضه بعضاً، فالإشكال يكون في عقولنا وفي أفهامنا نحن، فإذا رجعنا إلى الراسخين في العلم أزالوا لنا هذا الإشكال بما لديهم من ملكات تؤهلهم لذلك. ففي الجزء الأول من الآية: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أنهم لن يتركوا الشرك والكفر الذي هم عليه حتى تأتيهم البينة، فمعنى ذلك أن البينة إذا جاءت فسوف يزول عنهم ذلك الشرك، وسوف ينفكون عنه، وفي الآية الأخرى: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أنهم لما جاءتهم البينة ازدادوا كفراً وتفرّقاً، في حين أن صدر السورة يُفهم أن البينة إذا جاءت فسيزول عنهم الشرك. وقد سبق أن بينا في أثناء الكلام أن فريقاً من العلماء قال: إن الشطر الأول من الآيات يتكلم فيمن آمن فعلاً لما جاءته البينة، وأما قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ} [البينة:4] إلى آخره، فهي في شأن الذين لم يهتدوا ولم يؤمنوا بعدما جاءتهم البينة، فهذا فريق وهذا فريق. وهذا الإشكال مبني على أن منفكين بمعنى: تاركين، وعليه جميع المفسرين، والذي جاء عن الشيخ رحمه الله تعالى: أن معنى (منفكين) أي: مرتدعين عن الكفر والضلال ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) يعني: وقد أتتهم. يقول: ولكن في (منفكين) وجه يرفع هذا الإشكال، وهو أن تكون (منفكين) بمعنى: متروكين، لا بمعنى تاركين، أي: لم يكونوا جميعاً متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما كان ليتركهم سدى، ولا ليهملهم حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا مثل قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] يعني: لا نوحي إليه وحياً، ولا نجعل له حساباً ولا جزاءً، ومثل قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: أنهم لن يتركوا، وقريب من هذا قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53]. وقد حكى أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة، ويتم على من آمن به النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، فالله سبحانه وتعالى لابد أن يرسل إليهم رسولاً يقيم عليهم الحجة، فهذا القول يزيل هذا الإشكال الكبير عند المفسرين. يقول: ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله، وأورد في الكلام على هذه السورة، وفي كون المشركين وأهل الكتاب لم يكونوا منفكين ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين: هل المراد: لم يكونوا منفكين عن الكفر؟ أو المراد: لم يكونوا مكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث؟ يعني: أنهم قبل أن يبعث لم يتركوا التصديق به؛ لأنهم يعرفون صفته من كتبهم، لكن لما بُعث كفروا به وجحدوا، أو أن المراد: أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول؟ وهذا هو الراجح كما قلنا. وناقش شيخ الإسلام تلك الأقوال وردها كلها ثم قال: فقوله: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ)) أي: لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم على هواهم يفعلون ما يهوونه ولا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه إلى أن قال: فالمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا ترسل إليهم رسل، والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36] أي: لا يؤمر ولا ينهى، يعني: أيظن أن هذا يكون؟! فهذا ما لا يكون البتة، بل لابد أن يؤمر وينهى. وقريب من ذلك قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:3 - 5]، فقوله: (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا) [الزخرف:5] أي: أنعرض عنكم بسبب إشراككم؟! فهذا استفهام إنكاري بمعنى: ألأجل إشراككم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل؟! فهذا ما لا يكون. فتبين من ذلك كله أن الأصح في تفسير قوله تعالى: ((مُنفَكِّينَ)) أي: متروكين، وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى وبالله التوفيق.

تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب)

تفسير قوله تعالى: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4]. قوله: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) المقصود بذلك هنا من لم يؤمن من أهل الكتاب، المقصود ((إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ))، وهذا مثل قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا} [الشورى:14]. والبينة هنا قيل: هي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث، وقد سبقت الإشارة إلى هذا المعنى، وقيل: ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: القرآن الكريم، وقيل: ((مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي: ما في كتبهم من بيان نبوته صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وما تفرقوا في كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن تبينوا أنه الذي وعدوا به في كتبهم. يقول القاسمي في تفسير قوله: (إلا من بعد ما جاءتهم البينة): أي: على ألسنة أنبيائهم، فهكذا كان شأنهم في النبي صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم في كتبهم، كذلك أيضاً جحدوا بينته في القرآن الكريم لما بعث عليه الصلاة والسلام، فتفرقوا فيها، وابتعدوا عن حقيقتها بسبب هذا التفرق، فإن هذا كان شأن أهل الكتاب في بينته وبينتهم، أي: إذا كان أهل الكتاب وهم الذين أنزل إليهم الكتابان من قبل: الإنجيل والتوراة، وهذان الكتابان مملوءان بالبشارات ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن كلمة الإنجيل نفسها تعني البشارة، والبشارة هي أساس البيان لمحمد عليه الصلاة والسلام، حتى إن معنى اسمه في الإنجيل: البشارة، والمقصد من دعوة المسيح هو البشارة بمحمد صلى الله عليه وعلى آله سلم، فإذا كان هؤلاء هم أهل الكتاب، وكانوا على علم بوصف الرسول عليه الصلاة والسلام، ووصف أصحابه، فإن ذلك كان موجوداً في كتبهم، ومع ذلك اختلفوا فيه، وجحدوا بعدما بعث، فما ظنك بالمشركين الذين هم أميون لا كتاب لهم، وهم أبعد عن العلم!! فلا شك أنهم سيكونون أولى بالانقياد للهوى، والغرق في الجهالة. وقال بعض العلماء: خص أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين؛ لأنهم مظنون بهم العلم، فالمفترض أن يكونوا على علم، فإن تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف، وأولى بوصف الكفر، والإعراض عن دين الله تبارك وتعالى. وقد فاتنا تنبيه مهم يتعلق بقوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3]. يقول الشيخ عطية سالم: مدلول الكتب على ظاهرها، أي: أن بعض العلماء -كما قلنا- قالوا: الكتب هنا هي الآيات وسور القرآن الكريم، أو هي الأحكام. وقول آخر: أن الكتب على ظاهرها جمْع كتاب، والمراد الكتب المنزلة على الأنبياء من قبل كما في قوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16 - 17]، ثم قال بعدها: ((إِنَّ هَذَا)) يعني: هذا الكلام نفسه {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19]. وكقوله أيضاً في عموم الكتب الأولى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف:30]، وقال أيضاً: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ} [آل عمران:3 - 4]. وقال أيضاً: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114]؛ لأن ما فيه يصدّق ما في كتبهم التي سبق إنزالها، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:34]. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، فهو مهيمن على ما عندهم، ومحاسب ومرسخ للحق، ومبين للباطل، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:92]، فهذا كله يدل على أن آيات القرآن متضمنة كتباً قيمة مما أنزلت من قبل. وقال الله سبحانه وتعالى أيضاً: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) أي: في التوراة {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، فهذا الكلام موجود في التوراة، وهذا هو معنى قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3] يعني: أنّ القرآن فيه أشياء من الكتب القيمة التي سبقت. وقال أيضاً: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموماً من أهل الكتاب والمشركين، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ))؛ وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين؛ لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم وبما سيأتي به، فكانوا {مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89]، وكقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى:14] فاختصوا بالذكر هنا لمعرفتهم بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل مجيئه، واختلافهم فيه بعد مجيئه. ثم يقول الشيخ عطية سالم: ومما يدل على ما ذكرنا من معنى (كتب قيمة) أمران من كتاب الله: الأول منهما: اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث عن الذين كفروا، مما يؤكد أنّ تفسير (كتب قيمة) يكون بهذا المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً. والثاني منهما: أن القرآن لما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام يتلو على المشركين قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] فجاء نفس الأسلوب الذي استعمل مع المشركين فقال: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)؛ لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى، ولذا قال: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) فاقتصر على الآيات، وأما أهل الكتاب فذكر أن فيها كتباً قيمة؛ لأنهم على علم بالكتب -يعني- السابقة.

تفسير قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)

تفسير قوله تعالى: (وما أمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) قال تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [البينة:5]. قوله: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، أي: موحدين لا يعبدون سواه، ومذعنين خاضعين لا يشركون بالله سبحانه وتعالى شيئاً: لا واسطة، ولا مالاً، ولا كرامة، ولا جاهاً. إذاً: فأهل الكتاب تفرقوا بعد ما جاءتهم البينة، مع أن المفروض أن البينة والعلم تجعلهم يتحدون وينقادون لها، ومع ذلك أعرضوا عنها. فالواو في قوله: ((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) واو الحال، أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، فهذا يقتضي أن يؤمنوا به، فيأتي النبي، وتأتي البينة، ويأتي القرآن يدعوكم إلى أن تعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، فعلام التفرق والأمر في غاية الوضوح؟! ولذلك فأنا أعجب من عقلية هؤلاء اليهود والنصارى وغيرهم؛ فالمسلمون لا يدعونهم إلى عبادة محمد عليه الصلاة والسلام، ولا ادعاء أنه ابن لله، ولا إلى عبادة الأصنام والأحجار، وإنما يدعونهم إلى عبادة الله الواحد الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهل مثل هذا يعرض عنه الإنسان؟! قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))، واللام في قوله: ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) بمعنى: (أن) والمعنى: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله، قال الفراء: والعرب تجعل اللام في موضع (أن) في الأمر والإرادة كثيراً، فأحياناً يستعملون اللام مكان (أن) كقول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء:26] أي: يريد الله أن يبين لكم، وهذا يتعلق بالإرادة، وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] فمعناه: يريدون أن يطفئوا، وقال في الأمر: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]، أي: وأمرنا أن نسلم، وهذا في الأمر، فهذا له شواهد كثيرة كما بينا. فقوله: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) أي: أن يكونوا موحدين لا يعبدون سواه، ((حُنَفَاءَ)) أي: مائلين عن الأديان كلها إلى الإسلام، فالحنيف: هو المائل، والحنف الذي يكون في السقف هو الميل الذي يكون في السقف. فمعنى (حنيفاً) أي: مائلاً عن الأديان ومعرضاً عنها إلى دين الإسلام، والحنفية هي ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ((حُنَفَاءَ)) أي: متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله، وأصله: جمع حنيف وهو المائل المنحرف، وسمي به إبراهيم عليه السلام؛ لانحرافه عن وثنية الناس كافة. قوله: ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ)) أي: يقيمون الصلاة المكتوبة، ويأتون بها بحدودها، وفي أوقاتها، بإحضار القلب هيبةَ المعبود، وترهيبه به، وأن تكون بخشوع لا أن تكون الصلاة مجرد حركات ظاهرة، فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء البتة. وقوله: ((وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ)) أي: عند وجوبها، وذلك بصرفها في مصارفها التي عينها الله تبارك وتعالى. قوله: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: وذلك الذي أمروا به سواء على لسان أنبيائهم وفي كتبهم، أو على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: الكتب القيمة، وهناك اختلاف بين العلماء في المقصود بدين القيمة، ولكن قبل أن نبين ذلك ننقل قول ابن كثير رحمه الله تعالى، قال: استدل كثير من الأئمة كـ الزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. أقول: يشيع الاستدلال بهذه الآية: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) في كل أبواب العبادات على الإخلاص، وأن أي عبادة يشترط فيها النية، فالنية ركن أساسي في الصلاة، والنية ركن في الحج، والزكاة لابد فيها من النية، والصيام لابد فيه من النية، فلو أن رجلاً أخرج في آخر السنة مالاً ولم ينو أنه زكاة ماله فلا تسقط عنه فيها الزكاة. ولو أن شخصاً كان جنباً فانغمس في البحر وخرج، أو اغتسل بسبب حرارة الجو، فلا يرفع ذلك جنابته، لأنه لم ينو رفع الحدث الأكبر، إذن: فالنية ركن متين في العبادات، وهذا موضوع كبير ومهم، لكن هذه إشارة تابعة، فهذه الآية دائماً نجدها في كل باب من أبواب الفقه عند بيان ركنية النية، فهي تميز العادة من العبادة، فلو رجلاً جلس في المسجد عشرة أيام متواصلة ولم يغادره، ولم ينو الاعتكاف، وآخر يعمل نفس العمل لكنه نوى الاعتكاف، فالأول لا يكتب له أجر الاعتكاف، والآخر يكتب، والمفرق بينهما هي النية. فالنية لها شأن خطير جداً في الشرائع الإسلامية، وهي أيضاً تميز العبادات عن بعضها، فتميّز بين النفل وبين الفرض، فقد تشتبه صورة الصلاة في النفل والفريضة، ثم تأتي النية فتميز وتفرق بينهما. قوله تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (وذلك) أي: الذي أمروا به، (دين القيمة) أي: دين الكتب القيمة، أو وذلك دين الأمة القيمة الوسط، وهي أمة الإسلام، فتكون لفظة (القيمة) صفة لمحذوف. ومعنى الآية: إن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها، وكانت فرقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا، ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله، ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى، وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وأن يَصِلوا عباد الله بوفائهم، فإذا كان هذا هو الأصل الذي يُرجع إليه في الأوامر فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيُردّ إليه كل ما يعرض لهم من المسائل، ويحل به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحتم الإخلاص في الأنفس تخلق الإنصاف عليها فكانت فيها الرحمة، ولم تطرق طرقها الفرقة، وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب، فما نقول في حالنا؟! أفما ينعاه كتابنا الشهيد علينا بسوء أعمالنا في افتراقنا في الدين، وأن صرنا فيه شيعاً، وملأناه محدثات وبدعاً؟! من خلال ما تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عند دعوته إلى قبول ما جاء به، وأن (مِن) في قوله تعالى: ((مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) للتبعيض؛ لأن منهم من آمن ومنهم من كفر، وهذا كلام القاسمي رحمه الله تعالى. فالمقصود: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) في قول أنها ماذا؟ من للتبعيض يعني: لأن في طائفة أخرى أسلمت واضح؟ وأن معنى (لم يكن منفكين) أي: لم يكن وجه الحق ينكشف لهم فيقع الزلزال في عقائدهم فينفك عن الرهبة المحضة التي كانوا فيها حتى تأتيهم البينة.

كلام الشيخ عطية سالم في قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله)

كلام الشيخ عطية سالم في قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) يقول العلامة الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ)): وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم، وقد بيّن القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل كتبه يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. وقال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:40 - 41] إلى آخر الآيات. فهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن فإنها لا تقتضي التفرق، بل تستوجب الاجتماع والوحدة. قوله تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) القيمة: فيعلة من القوامة، وهي غاية الاستقامة، وجاء بعده قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:3] أي: مستقيمة بتعاليمها. وبين الله سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم هو أقوم الكتب وأعدلها على الإطلاق في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2] فنفى عنه العوج، وأثبت له الاستقامة، فهذه غاية القيام، فإن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات، لكنه قد ينحرف تارة يميناً وشمالاً مع أنه مستقيم، إذن فقد يكون الشيء مستقيماً لكن لا يخلو من العوج، لكن أكمل الأحوال أن ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة، فهو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين، مع استقامته في سطحه، وهكذا هو القرآن، فهو الصراط المستقيم، ولذلك قال تعالى: ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي: دين الملة القيمة، فهي قيمة في ذاتها، وقيمة على غيرها ومهيمنة عليه، قال تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161 - 163]. وفي قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى فيها: إن في هذه الآية رداً صريحاً على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك، حيث لم تسلم من لبس، وهي دعوة وحدة الأديان، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق ومنه باطل. أقول: والصواب أن نقول: وحدة الأديان بالكسر أي: أن الدين واحد، وأما وَحدة الأديان بالفتح فمعناها أن هناك أديان مختلفة ثم توحدت مع بعضها، وهذا غلط. فالحق أن هذه الدعوة فيها شيء من الحق، وفيها تلبيس وباطل، فأما الحق فهو أن هذه الأديان كلها في الأصل دين واحد، فوحدة الأديان أي: وحدة أصولها، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فهذا جوهر جميع الرسالات السماوية. لذلك، فالصواب أن يقال: الرسالات السماوية، ولا يقال: الديانات السماوية؛ لأن الدين واحد، فجميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فهو دين واحد، وإلا فكيف تكون كلها سماوية وهي يضرب بعضها بعضاً؟ فكيف تكون الأديان متضاربة ومتناقضة وقد نزلت من مصدر واحد؟! فجميع الأنبياء دعوا إلى دين واحد، وهو دين الإسلام، ودين الإسلام مكون من جملتين: لا إله إلا الله، فلان رسول الله، فجميع الأنبياء من آدم عليه السلام وحتى خاتمهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام كلهم دعو إلى: (لا إله إلا الله) نفس الإله، وأمروا بعبادته وبالإيمان وبالقضاء والقدر، والإيمان بالملائكة، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث والنشور، فهذه أمور ثابتة في جميع رسالات الأنبياء عليهم السلام. والشق الثاني: نوح رسول الله مثلاً، وهذا في عهد نوح عليه السلام، ففي عهد نوح كانت النجاة بأن يشهدوا هاتين الشهادتين أي: لا إله إلا الله نوح رسول الله، وفي عهد موسى: لا إله إلا الله موسى رسول الله. فلا يصح أن تؤمن وتعبده دون أن تؤمن بالرسالات؛ لأن معرفة ما يرضي الله، وما يقرب من الله، وما يبعد عن الله لا يصل إليها العقل بمفرده، بل لا بد فيها من الوحي، فهو الذي يبين ذلك؛ لأن العقل لا يدرك المعاني التعبدية في كثير من الأحيان، فالبتالي فكلمة النجاة ألّا تعبد إلا الله وفق ما يشرعه لك على لسان نبيه ورسوله، فإن معنى: محمد رسول الله، أو نوح رسول الله، أو عيسى رسول الله معنى ذلك: أن تتبع هؤلاء الرسل لا أن تتبعوا وتخترعوا من تلقاء أنفسكم. فهذه كانت كلمة النجاة، وأما الفرق بين الأديان فهو اختلاف في بعض الشرائع: في أحكام الطلاق والزواج، وتفاصيل بعض العبادات، وأما التوحيد فهو جوهر جميع الرسالات، وكل الأنبياء دعوا إليه، وهذه الحقيقة هي أنصع وأطهر وأهم حقيقة في الوجود كله وهي: لا إله إلا الله، فما خلق الخلق كلهم إلا من أجل لا إله إلا الله، وما بعث الأنبياء إلا من أجل لا إله إلا الله، وما خلقت الجنة والنار إلا من أجلها، وما شرعت فريضة الجهاد إلا من أجلها، وما شرع الحلال والحرام إلا من أجلها، وما قسم الناس إلى أهل الجنة وأهل النار إلا على أساسها وهكذا، فهي إذن محور الحياة كلها، ولذلك ذكرت في مناسبة سابقة أن التفسير الوحيد الصحيح للتاريخ هو أن يفسر على أنه صراع بين أهل التوحيد وبين مناوئيهم من المشركين والكفار، فهذا هو التفسير الحقيقي، وليس كما يقولون: إن الصراع إنما هو بين طبقات حاقدة من الفقراء وبين البرجوازيين، كما هو معروف من خرافات الشيوعية، أو أنه من أجل صراع سياسي، أو صراع من أجل الشهوات كما ذهب إليه بعضهم. فالشاهد: أن المحور الحقيقي للتاريخ منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إنما هو صراع بين الإسلام والكفر، فهذا هو التفسير الوحيد المقبول في التاريخ، ويجب أن ينظر إلى الموضوع من هذا المحور، وليس كما يقول بعضهم: إن أحداث الدنيا كلها من أجل الدنيا، وفي هذا الزمان الذي نعيش فيه نرى الصراع واضحاً بين الإسلام والكفر، فمن الخداع أن يصور بصورة أخرى خلاف ذلك، بل من العدوان على الحق وغمطه أن يسوى بين الكفر والإسلام، ولو زال الحد الفاصل بين الإسلام والكفر: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] لاختلت الموازين، فهذا ياسر عرفات يقول لزوجته لما أرادت أن تدخل في الإسلام وقد كانت نصرانية: لا، ليس هناك داعٍ، فالكل شيء واحد، فلتبقِ على النصرانية؛ فإنها والإسلام سواء، فعنده أن كل الأديان شيء واحد. فالشاهد هذا تشويش على الإسلام وخصوصاً إذا صدر من أناس لهم ثقلهم في العلم أو في الإسلام، فهذه القضية لا تحتمل مساومة على الإطلاق. فهذا الذي يدعون إليه يعتبر جناية في حق البشرية، فطالما قررتُ أن أعظم حق، وأول حق، وأهم حق من حقوق الإنسان -لمن عقل- هو ألّا يحال بينه وبين الإسلام كما أنزله الله، وأعظم جريمة ترتكب في حق الإنسان ليست أن يستعبد، ولا أن يعذب، ولا أن تؤخذ أمواله، لا، بل هي أن يحال بينه وبين الدخول في الإسلام بالتشويش على الإسلام، ووصف المسلمين بالإرهابيين، ووصف الإسلام بأنه دين التطرف، وغيرها من عبارات التنفير، فهذه أكبر جريمة في حق البشرية كلها وخصوصاً الكفار؛ لأنهم إذا حرموا من هذه النعمة فسوف يخلدون أبد الآباد في نار جهنم، فأي جريمة في حق الإنسان أكثر من أن يحال بينه وبين سعادة الدارين في الدنيا والآخرة؟! إذاً: فأصحاب هذه الدعوى يتسترون ويقولون: الأديان الإبراهيمية، وهي كلمة حق، لكننا لا نسميها أدياناً، بل إن ملة إبراهيم عليه السلام دين واحد، وهو دين الإسلام. فكأنه من هذه الآية: ((وَمَا أُمِرُوا)) أي: كل هؤلاء الكفار، وما أمروا سواء كان في كتبهم أو جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا الأمر لا يقبل التصرف ولا الاختراع ((إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) وحده ((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) بلا شرك ولا ند، ((حُنَفَاءَ)) كما كان إبراهيم، ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) وأما الباطل في دعوة الأديان الإبراهيمية أو توحيد الأديان فهو الإبهام بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع؛ لأن فروع الإسلام قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر، كالصلاة والصيام إلى آخره. فالذي جاء به القرآن هو دين القيمة ((وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) فالإسلام هو الدين القيم، والقرآن يهدي للتي هي أقوم، وليست كلمة (أقوم) أفعل تفضيل، فلا يمكن أن يص

مراحل الدعوة إلى وحدة الديان

مراحل الدعوة إلى وحدة الديان هذه القضية في غاية الأهمية، وهي أخطر قضية عُرفت في الوجود كله، وهي عملية إزالة الحد الفاصل بين الإسلام والكفر، وهي الآن تجري على قدم وساق، وهذا أخطر خطر يتعرض له الإسلام، وهذه القضية تعرض لها العلامة الجليل الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتاب له يسمى: (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان) والشيخ بكر أبو زيد حفظه الله تعالى رجل مبدع في كتاباته، فإنه يغوص في أعماق الأسفار، ويخرج لنا من بطونها هذه الكنوز، فأي كتاب عليه اسم الشيخ بكر أبو زيد فلابد أن يشترى، فهو لا يؤلف في موضوع إلا وقد أتقنه، فلابد أنك سوف تستفيد منه، فهذا الكتاب ناقش فيه هذه القضية بالتفصيل نقاشاً رائعاً جداً، وفصل فيها تفصيلاً رائعاً، ففي هذا الدرس نقتنص منه بعض الأشياء، وقد جعل غالبه في ذكر المصدر التاريخي لهذه النظرية، فذكر أن هذه هي نظرية اليهود والنصارى لسحب المسلمين عن الإسلام، وهذه المؤامرة يراد منها الخلط بين الأديان، وأن المسلمين يخرجون من الملة، ويزحفون من الإسلام إلى ضلال اليهود والنصارى، وهذا من تدابيرهم الكيدية ومواقفهم العدائية للإسلام والمسلمين، ففي عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانت محاولتهم دائبة لإضلال المسلمين عن إسلامهم، وردهم إلى الكفر، يقول تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:111 - 112]. وقال تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135]. فشاء الله سبحانه وتعالى أن تبقى هذه الآيات على مر الزمن تتلى في المحاريب؛ حتى لا يغيب هذا الكيد عن قلوب المؤمنين. والمرحلة الثانية: مرحلة الدعوة إليها بعد انصرام القرون المفضلة، وهذا كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما انصرمت القرون المفضلة وجاءت القرون التي بعدها جاءت الدعوة لإخراج المسلمين من إسلامهم تحت اسم: الاتحاد والحلول، وذلك على أيدي ملاحدة المتصوفة في مصر والشام وفارس وأقاليم العجم وهكذا الرافضة، حتى بلغ الحال أن بعض هؤلاء الملاحدة يجيز التهود والتنصر! بل إن فيهم من يرجح دين اليهود والنصارى على دين الإسلام!! وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كان له مواقف في الرد على هؤلاء الغلاة مثل الحلاج الحسين بن منصور الفارسي المقتول على الردة سنة (309هـ)، وابن عربي: محمد بن علي الطائي قدوة القائلين بوحدة الوجود كما في كتابه (الفصوص)، وابن سبعين والتلمساني وابن هند وغيرهم كثير، والملاحدة أعداء الإسلام يحاولون ويجتهدون الآن في أن يعيدوا تراثهم، وهذه وصية أيضاً لإضعاف انتماء المسلمين إلى الإسلام، والهدف هو إخراج المسلمين من الإسلام، وليس من المهم أن يتهودوا أو يتنصروا، فهذا غير ممكن، وهم عاجزون عنه أصلاً، لكن يهمهم إخراج المسلم عن إسلامه، فمن الصور التي فيها إخراج عن الإسلام قول: إن الذي يعبد أي شيء هو أصلاً ما عبد إلّا الله، كما يقول الخبيث ابن عربي: العبد رب والرب عبد فليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف أستغفر الله، انظر إلى هذا الكفر، ويقول: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة ويعتبر ابن عربي أن أكبرَ موحدَينِ في الدين هما: محمد عليه السلام، وإبليس لعنه الله، فهذا الشرك والضلال كله كان الهدف منه إخراج المسلمين من دين الإسلام، وبعضهم الآن يؤلف الكتب في الحلاج، ويعمل المسرحيات وكل الضلالات، ويتكلمون في الوهابيين بحجة أنهم هم الذين قتلوا الحلاج، ويظهرون الحلاج بأنه كان رجلاً مظلوماً إلى آخر هذا الكلام، وذلك كله من أجل أن يعيدوا هذا التراث العفن، سواء كان هذا التراث لـ كمال مصطفى، أو لـ ابن عربي، أو للحلاج أو لـ ابن سبعين، أو للتلمساني، أو لـ ابن هند. وأيضاً مرحلة الدعوة إليها في النصف الأول من القرن الرابع عشر، فهذه الدعوة جمدت في وقت من الأوقات، ثم عادت من جديد تحت اسم جديد وهو الماسونية، وهي منظمة يهودية هدفها السيطرة على العالم، ونشر الإلحاد والإباحية تحت غطاء الدعوة إلى وحدة الأديان، ونفي التعصب، وأن كل الناس مؤمنون بالله تعالى، وقد دخل في دعوتهم وتورط فيها رجل شيعي أصلاً، وهو المسمى بـ جمال الدين الأفغاني، وهو شيعي إيراني وليس أفغانياً. وتلطخ بها أيضاً زعيم الطائفة ميرزا محمد باقر الإيراني، فدخل في جمعية التقريب بين الأديان الثلاثة، ودخل فيها بعض الإيرانيين، وبعض الإنكليز، وبعض اليهود. وأما مرحلة الدعوة وهي في العصر الحاضر في الرُّبع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، وذلك في ظل النظام العالمي الجديد، فظهر اليهود والنصارى بالدعوة إلى التجمع الديني بينهم وبين المسلمين، وبعبارة أخرى: التوحيد بين الموسوية والعيسوية والمحمدية، ونحن نؤمن بمحمد وعيسى وموسى عليه السلام جميعاً، بل لو كفر مسلم بأحد هؤلاء الأنبياء لخرج من الملة تماماً، ولكان مشركاً كافراً مرتداً، فنحن نؤمن بالأنبياء ونعظمهم، لكن لا على ما يزعم هؤلاء. فالدعوة إذاً أخذت صورة الدعوة للتقريب بين الأديان، ونبذ التعصب الديني، ثم اسم الإخاء الديني، ومجمع الأديان واسم الصداقة الإسلامية النصرانية، التضامن الإسلامي النصراني ضد الشيوعية، ثم خرجت من بعد شعارات وحدة الأديان: توحيد الأديان الإبراهيمية، والوحدة الإبراهيمية، ووحدة الدين الإلهي، والمؤمنون المتحدون، والناس المتحدون، والديانة العالمية، والتعايش بين الأديان الملية العالمية، وتوحيد الأديان، ووحدة الكتب السماوية، وآخر ما وصلوا إليه: الإعلان عن فكرة طبع القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد مع بعض، ثم دخلت في الحياة التعبدية العملية، فدعا ما يسمى بالبابا إلى إقامة صلاة مشتركة بين ممثلي الأديان الثلاثة: الإسلاميين والكتابيين في قرية أسيس في إيطاليا، وأقيمت الصلاة جماعة في تاريخ (27/ 10/1986م) ثم تكرر هذا الحدث مرات أخرى باسم صلاة روح القدس، لكن يا تُرى إلى أي قبلة اتجهوا؟!! وفي أي مكان صلوا؟!! وما يتبع ذلك من الأساليب البارعة للاستدلال ولفت الأنظار إليها، والالتفاف حولها، كالتلويح بالسلام العالمي، ونشر الطمأنينة والسعادة الإنسانية والإخاء والفضيلة والمساواة والبر والإحسان، وهذه مثل شعارات الدعوة إلى الحرية والإخاء والمساواة أو السلام والرحمة والإنسانية. أيضاً: فالدعوة الروحية الحديثة قائمة على تحضير الأرواح: روح المسلم واليهودي والنصراني والبوذي وغيرهم، وكل هذه دعاوى طغيانية هدامة.

آثار دعوى وحدة الأديان

آثار دعوى وحدة الأديان أول آثار هذه الدعوى: اقتحام العقبة لكسر حاجز الهيبة من المسلمين، وكسر حاجز النفرة من الكافرين. ومن آثارها: تقديم هذا المدعو بالبابا نفسَه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان جميعاً، وأنه حامل لرسالة السلام العالمي الإنساني. ومن آثارها: أنه اعتبر يوم (27/ 10/ 1986م) عيداً لكل الأديان، وأول يوم من شهر يناير هو يوم التآخي. ومن آثارها: اتخاذ نشيد يردده الجميع، وأسموه نشيد الإله الواحد: رب وأب. ومن آثارها: انتشار عقد المؤتمرات لهذه النظرية، وقد عقد المؤتمر الإبراهيمي سنة (1987م) في قرطبة بمشاركة عدد من اليهود والنصارى والمنتسبين للإسلام من القاديانيين والإسماعيليين، باسم: مؤتمر الحوار الدولي للوحدة الإبراهيمية. كان المتولي لذلك النصراني، والذي يفخر بأنه ما زال نصراني وهو رجل يهودي، وليس كما يفهم الناس، فقد قال: أنا ما تخليت عن النصرانية، وله فكرة في غاية الخطورة، وبعد ذلك تأسست الجماعة العالمية باسم المؤمنون متحدون، ونادي الشباب المتدين أيضاً، وجماعة أخرى باسم الناس متحدون، وعمل لهذه المؤسسات لوائح وأنظمة داخلية ركّزت على إذابة الفوارق بين الإسلام واليهودية والنصرانية، وتجريد الشخصية الإسلامية من هويتها، فينسى المرء أن الإسلام ناسخ لما قبل، أو أن القرآن ناسخ لجميع الكتب، وأنه مهيمن عليها، باسم وحدة الأديان. ويبلغ رأس مال جماعة (المؤمنون المتحدون) (800. 000 دولار) وفي حال حل الجمعية تعود أموالها إلى الصليب الأحمر، ومؤسسة الصدقات الكنيسية. من معتبرات هذه الجمعية رموز: رمز الإحسان هو مؤسس الصليب الأحمر. رمز التطور هو داروين. رمز المساواة هو كارل ماركس. ورمز السلام العالمي للبشرية والإخاء الديني هو البابا. واتخذت هذه الجمعية راية عليها الشعارات الآتية: شعار الأمم المتحدة، وألوان علم الأمم المتحدة متخذة من التوراة الدين السماوي، وشعار قوس قزح وهذا أيضاً مأخوذ من سفر التكوين التوراتي، وشعار السبعة رمز النصر عندهم، وهو اسم أول سفينة اكتشفت القارة الأمريكية، وحملت النصرانية إلى هذه القارة. ومن آثار هذه النظرية جلبها إلى ديار الإسلام، وتأييدها على بعض الألسنة، ومنها ما حصل في مؤتمر شرم الشيخ في مصر سنة (1416هـ) وقد تركزت كلمات بعض أصحاب الفخامة على الصفة الجامعة بين المصلين وهي الإبراهيمية، وهو مؤتمر يجمع لفيفاً من المسلمين واليهود والنصارى والشيوعية. وفي تاريخ (10/ 10/ 1416هـ) أعلن بعضهم عن إصدار كتاب يجمع بين دفتيه القرآن الكريم والتوراة والإنجيل، وفي بعض الآفات صدر قرار رسمي بجواز تسمية موالي المسلمين بأسماء اليهود المختصة بهم، ونلاحظ أن من المسلمين من سمى ابنه رابين، والله المستعان. ومن ذلك أن نصرانياً سمته أمه محمداً فأصبح اسمه: محمد صبحي، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا شيء مؤلم جداً أن يكون نصرانياً ويسمى محمداً. ومن ذلك أن سورياً كان معجباً بـ هتلر، وفي سنة (1930م) رزق ولداً، وسماه محمد هتلر، وهناك رجل كويتي سمى ابنه عبد الله جورج بوش الصالح، ووالدته دكتورة اسمها: بدور المطوع، قالت: سمينا الطفل على اسم الرئيس الأمريكي؛ كبادرة عرفان في تحرير بلادنا، وهذا مظهر من مظاهر ذوبان الهوية، وذوبان الحد الفاصل بين المسلمين وبين غيرهم. فالشيخ بكر فصل جداً في هذا الكتاب، وأنا أنصح بقراءة هذا الكتاب القيم جداً واسمه: (الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان). هذا ما تيسر المرور عليه من موضوعات هذا الكتاب.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين)

تفسير قوله تعالى: (إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]. قرئت: البريّة، وقرئت: البريئة أي: شر من برأه الله سبحانه وتعالى وخلقه، فأكثر العرب وأكثر القراء على ترك الهمز، أي: البرية؛ لكثرة ما جرت على الألسنة، وهي فاعلة بمعنى مفعولة من برأ الله الخلق فهي بريئة، أي: مخلوقة من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]. فهذه الآية تضمنت أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها، وأنهم شر البرية، ومن البرية: الدواب والطيور، فاللفظ هنا على العموم. ومفهوم الآية أن هؤلاء شر الخليقة كلها، أي: أنهم شر من الحيوانات والدواب؛ لأنها تدخل في البرية، وهذا ما صرح به القرآن في موضع آخر فقال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، وقال تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، فبان بذلك أن المراد بهم الكفار، وقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزخرف:40]، فهل الدواب في ضلال مبين؟ لا، ليست الدواب في ضلال مبين، بل إن الكفار في ضلال مبين. وأما الدواب فتؤمن بوحدانية الله، فهدهد سليمان عليه السلام أنكر شرك بلقيس وقومها فقال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:22 - 23]، ثم يقول: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24] إلى آخر الآية، فالهدهد فاهم لقضية التوحيد فهماً عميقاً كما في هذه السورة. وفي الحديث في فضل يوم الجمعة: (وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة)، فهذا خبر الصادق المصدوق، والكفار ليس لديهم من ذلك خبر، فلذلك فإن الدواب أفضل منهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]. وفي الآخرة لما يجمع الله سبحانه وتعالى جميع الدواب فيقتص للعجماء من القرناء، ويقول لها: كوني تراباً، فحينئذ يتمنى الكافر لو أنه كان مثلها، وهيهات أن يحصل مثل ذلك، قال تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] فالدواب لم تعمل خيراً حتى تجازى عليه، ولم تعمل شراً لتعاقب عليه، فالدواب خرجت من الدنيا لا لها ولا عليها، إلا ما كان فيما بينها، فإذا نطحت ذات القرن التي بدون قرن فإنه يقتص من بعضها البعض، ثم تكون نهايتها وعودتها إلى منبتها، وهو التراب، بخلاف الكافر فإن عليه حساب وعقاب المخالفة، فيعاقب بالخلود في النار، فكان بذلك شر البرية.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية)

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] أي: إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أولئك هم خير البرية. وقد جاء حديث في هذا المعنى عن أنس رضي الله عنه قال: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم)، وجواب العلماء عن هذا ونحوه كحديث: (لا تفضلوني على يونس بن متى) إما أن هذا الخبر كان قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام أنه أفضل الأنبياء والمرسلين، أو أنه قاله على سبيل هضم النفس والتواضع صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: ((أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)) هنا يعقد العلماء مسألة، وهي: المفاضلة بين صالحي البشر وبين جنس الملائكة. يقول ابن كثير: اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال، فأكثر ما قيل في هذه المسألة في كتب المتكلمين، والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم. وأقدم كلام روي في هذه المسألة ما جاء في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلساً لـ عمر بن عبد العزيز وعنده جماعة، فقال عمر: ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم، ومن الصالح من بني آدم، واستدل بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7]، فوافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد، فقال أراق بن مالك: ما أحد أكرم على الله من ملائكته، فهم خدم داريه، ورسله إلى أنبيائه، واستدل بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، فأجاب المخالف فقال: قد كرم الله آدم فخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعل من ذريته الأنبياء والرسل، ومن تزوره الملائكة. وهنا نبيّن باختصار موضع النزاع فنقول: لا خلاف في أن الكفار والمنافقين غير داخلين في هذه المفاضلة على الإطلاق؛ لأنهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، وليس المقصود بهذه المفاضلة المفاضلة بين حقيقة البشر وحقيقة الملائكة من حيث العنصر مثلاً، أو الجنس الذي خلق منه، لا، إنّها المفاضلة في هذه المسألة بين صالحي البشر وبين الملائكة، فهذا هو محل النزاع، وذهب بعضهم إلى أن الملائكة أفضل من سائر المؤمنين، وقالوا: إنّ الخلاف بين الملائكة وبين الأنبياء فقط. ولن نناقش هنا الأدلة، ولكن نختم الكلام بترجيح ابن تيمية في المسألة وهو: أن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، وذلك حينما يدخلون الجنة، وينالون الزلفى، ويسكنون الدرجات العلى، ويحييهم الرحمن، ويخصهم بمزيد قربه، ويتجلى لهم فيستبشرون بالنظر إلى وجهه الكريم، وتقوم الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم. فصالحو البشر أفضل باعتبار كمال نهايتهم في الجنة، والملائكة أفضل باعتبار البداية، فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى متنزهون عما يلابسه بنو آدم، ومستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحول البشر، فهذه خلاصة الكلام في هذه القضية.

تفسير قوله تعالى: (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري)

تفسير قوله تعالى: (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري) قال تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] قوله: (عدن) تعني: إقامة، فمعدن الشيء مستقره ومركزه الذي يوجد فيه، فمعنى قوله: ((جَنَّاتُ عَدْنٍ)) أي: جنات إقامة. قوله: (رضي الله عنهم) أي: بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا في خلوصهم من عقابه، ((وَرَضُوا عَنْهُ)) أي: رضوا عن ثوابه تبارك وتعالى، ولا شك أن مقام رضا الله تعالى عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم، والدليل قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، فهذا النعيم أعظم بكثير من كل ما أوتوه من النعيم، ((ذَلِكَ)) أي: هذا الجزاء ((لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ))، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، قوله: (لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي: خاف الله تعالى في الدنيا في سره وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.

الزلزلة والعاديات القارعة

تفسير سورة الزلزلة والعاديات القارعة

تفسير سورة الزلزلة

تفسير سورة الزلزلة

تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) إلى قوله: (يومئذ يصدر الناس أشتاتا) ليروا أعمالهم)

تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) إلى قوله: (يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً) ليروا أعمالهم) سورة الزلزلة هي السورة التاسعة والتسعون، قال ابن كثير: مكية. ورجح السيوطي أنها مدنية. وآيها ثمان. بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1]. الزلزال: هو الحركة الشديدة بسرعة، ومما يدل على تركب معنى كلمة: (الزلزال) من الحركة الشديدة والسرعة، تكرار الحروف في كلمة: (الزلزال) وكذلك أيضاً (التضعيف) يدل على هذه الشدة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}، أي: أصابها ذلك الزلزال الشديد، والاهتزاز الرهيب، فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص. أي: الزلزال المخصوص بها، وهي الرجة التي لا غاية وراءها. والأقرب الأول، أي: أن هذه الإضافة للتفخيم، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]. وقرئ بفتح الزاي: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زَلْزَالَهَا}، وقد قيل: هما مصدران، وقيل: المفتوح اسم، والمكسور مصدره وهو المشهور. قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2]، أي: قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك؛ لشدة الزلزلة وتدفق ظهرها كقوله تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:3 - 4]. فالأثقال هنا في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} بمعنى: موتاها وكنوزها، أو تكون بمعنى: التحدث بما عمل عليها الإنسان. وأرجح هذه الأقوال -والله تعالى أعلم- هو أن هذه الأثقال هي الموتى، فتخرج الأرض موتاها، بدليل قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]. وأيضاً: إخراج الكنوز إنما يكون قبل النفخة، فحينما يخرج الدجال يقول للأرض: أخرجي كنوزك؟ فتخرج الكنوز تتبعه، أما التحدث بالأعمال فهو منصوص عليه في نفس السورة فالأرجح أن أثقالها: موتاها، والله تعالى أعلم. والأثقال: جمع ثَقَل -بفتحتين- وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون، وإذا قلنا: ثِقَل؛ فيكون بمعنى: حمل البطن؛ لأنه يسمى ثِقَل، بدليل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف:189]. قوله تعالى: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:3]، فيه دليل على أن هناك أناس أحياء في ذلك الوقت يشهدون ذلك الزلزال، فيقول من يكون من الناس مشاهداً لهذا الزلزال المفاجئ المدهش، الذي لم يحدث مثله: ما لهذه الأرض رُجّت هذه الرجّة الهائلة وبَعثر ما فيها من الأثقال المدفونة؟! قوله: (وقال الإنسان) سواء كان مؤمناً أو كافراً، بدليل قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52]. وقيل في قوله: {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}، أي: الإنسان الكافر، أما المؤمن فهو لا يُعذب؛ لأنه يؤمن أن هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، فلم يكن أمراً جديداً عليه. قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، كلمة (يومئذٍ) بدل من (إذا) أي: في ذلك الوقت ((تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)) أي: تخبر بما عمل على ظهرها. قال القاسمي: أي: تبين الأرض بلسان حالها ما لأجله زلزالها وإخراج الأثقال منها، فتدل دلالة ظاهرة على ذلك. وهذا أيضاً من التأويل الغريب! فما الذي يستبعد أن الأرض تنطق وتحدث بما عمل على ظهرها؟! وما الذي يمنع من ذلك؟! فيكون معنى: ((تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)) أي: بما عمل على ظهرها، وهذا ليس ببعيد في قدرة الله تبارك وتعالى. قوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5]، الباء هنا سببية متعلقة، أي: أن الأرض تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. قال القاسمي: الإيحاء استعارة أو مجاز مرسل ليس المقصود ظاهره. وهذا أيضاً كلام غير مقبول، فالله سبحانه وتعالى يمكن أن يوحي للأرض كما أوحى إلى النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68]. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، أي: ينصرفون من مراقدهم إلى مواطن حسابهم وجزائهم، متفرقين إلى سعداء وأشقياء، فقوله: ((يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا)) مثل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، ومثل قوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]. قوله: (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أي: ليريهم الله جزاء أعمالهم.

تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره)

تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]، أي: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة في الخير يرى ثوابه هنالك، والذرة: النملة الصغيرة، وهي مَثَلٌ تضربه العرب في كل ما هو صغير ودقيق، وقيل: الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من النافذة، فينعكس ضوء الشمس على الذر الدقيق جداً. وبعض الناس ممن يستغرقون في التفكير العلمي يفخرون بأن القرآن دل على أن الذرة تنقسم، واستدلوا بالآية: {وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ}، حيث زعموا أن فيها إشارة إلى الذرة، كما في سورة سبأ ويونس. لكن هذا الكلام لا يسلم لهم؛ لأن المعهود والمعروف عند العرب من كلمة (ذرّة) أنها النمل الصغير، أو هذا الهباء، والعرب لم يقصدوا بكلمة (ذرّة) أنه الجزء الذي بتجمعه تكون الجزيئات، بل هذا اصطلاح علمي حادث. فلا يجوز محاكمة القرآن أو فهم القرآن في ضوء ما حدث من الاصطلاحات، إنما نفهمه على لغة العرب، ولا نربط القرآن بمثل هذا الكلام، ونزعم أن القرآن جاء بهذا أو دل على أن الذرة تنقسم بدليل قوله: {وَلا أَصْغَرَ}، فالآية تعني أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وأما ذاك التفسير فإنه من التعمق والتوسع في الربط بين القرآن وبين الاكتشافات العلمية. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:8]، أي: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر فإنه يرى جزاءه ثمة، أي: هناك. قال السيوطي في الإكليل: في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره، والتحذير من قليل الشر وكثيره، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن، وفي لفظ: أجمع آية في القرآن، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: الجامعة الفاذّة. ففي الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن زكاة الحمر وسكت عن البغال) والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم والثواب المستمر سأله السائل عن الحمر؛ لأنه لم يكن عندهم يومئذٍ بغال ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تسمى (الدلدل) والتي أهداها إليه المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وأن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة، وسياق الحديث كان في الخيل، وثواب المجاهد في الخيل وما كان عليها من حبل وما خرج منها من روث كذلك يكون في ميزان حسنات المجاهد إلى آخره. فسأله الرجل عن الحمير فأفتاه بعموم الآية، كما جاء في الحديث قال له: (ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]). فإذا كان من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومثقال ذرة شراً يره، فكم في الحمار من مثاقيل الذر؟! فلو أن إنساناً عنده حمار يستعمله في الخير فإن له أجراً على قدر ذلك. فالشاهد هو: الاستدلال بعموم هذه الآية وأنه لم يخص الحمار بشيء معين، فهذا ينطبق على أي شيء قابل لأن يكون معيناً للإنسان على الخير أو على الشر، كل بحسبه. وفي الموطأ: أن مسكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت: أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة؟! وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وبالتمرتين مثاقيل ذر كثيرة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة)، فهذا الذي أتيح له أنه يتصدق له بتمرتين، لكن السائل استنكف أن يأخذ تمرتين! مع أن ربنا قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:7]، فكم فيها من مثاقيل الذر؟! وروى الإمام أحمد والنسائي في الكبرى عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق: (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} إلى آخر السورة، قال: حسبي لا أبالي ألّا أسمع غيرها).

تفسير سورة العاديات

تفسير سورة العاديات

تفسير قوله تعالى: (والعاديات ضبحا فوسطن به جمعا)

تفسير قوله تعالى: (والعاديات ضبحاً فوسطن به جمعاً) سورة العاديات هي السورة الثلاثون، وآيها إحدى عشرة. بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:1 - 3] هذا قَسَمٌ بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدو لتهاجمه، وأثناء هذا العَدْو تضبح، والضَبْح: صوت أنفاسها إذا عَدَتْ، وليس المراد هنا: الصهيل؛ لأن الخيول لها حالتان: حالة الصهيل: وهو الصوت العادي المعروف. أما الضَبْح فهو صوتها عند النزال حيث تلهث أثناء الجري للعدو، فتصدر الصوت المسموع عند الشهيق والزفير. قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:2] أي: أن هذه الخيول توري النار بحوافرها، والقدح هو الضرب لإخراج النار، والإيراء يترتب عليه؛ لأنه إخراج النار وإيقادها، فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة وهي تعدو، لا سيما إذا اصطدمت بالصخور، فذلك يُخرج شرارة أو ناراً، وتسمى: نار الحداحد، ولما كان هذا مرتباً على عدوها عطفه بالفاء بقوله: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}. قوله تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:3] أي: تُغِيْر على العدو في وقت الصبح، يقال: أغار على العدو، إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يسترد منه ماله، فهذا وصف للخيل بالغاية التي جهزت لها، أي: أنها تعدو ويشتد عَدْوها حتى يخرج الشرر من حوافرها؛ لتهجم على العدو وقت الصباح، وهو وقت المفاجأة حينما يكون العدو على غير أُهْبة، وهذا أفضل وقت يُغار فيه على العدو. قوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} [العاديات:4] أي: فَأَهَجْن في ذلك الوقت غباراً، وهو مأخوذ من الإثارة، وهي التهييج وتحريك الغبار حتى يرتفع. والنقع الغبار، وورد بمعنى الصياح، فجوز إرادته هنا، بمعنى صياح من هوجم عليه وأوقع به، لا صياح المغير المحارب، لكن الأول الأقرب. قال الشهاب: وذِكْرُ إثارة الغبار إشارة إلى شدة العَدْو وكثرة الكر والفر، وتخصيص الصبح هنا؛ لأن الغارة كانت معتادة فيه، أي: لمباغتة العدو، والغبار إنما يظهر نهاراً وليس ليلاً. قوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:5] أي: فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء ففرّقنه وشتتنه.

تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود وإنه لحب الخير لشديد)

تفسير قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود وإنه لحب الخير لشديد) قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6]، هذا هو جواب القسم. قوله: (كنود) أي: كفور، يكفر نعمة الله ولا يشكرها، أي: لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه. قال المهايمي: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} أي: لكفور، فيوجب قتاله بهذه الخيول، وقهره بهذا الغضب. يعني: بما أنه كفور؛ فإنه يستحق أن يسلّط الله عليه المجاهدين ليقهروه بهذه الخيول وبهذا الغضب؛ لأنه كنود كفور، إذ كفر بالله سبحانه وتعالى وبنعمه. وعن أبي أمامة قال: الكنود الذي يأكل وحده، ويظلم عبده، ويمنع رفده. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}، أي: وإن الإنسان على كفره وجحوده لشهيد، يشهد على نفسه به؛ لظهور أثره عليه، فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفره وعصيانه بلسان حاله. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، أي: وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها لقوي، والخير: المال والدنيا، بدليل قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180]، فيطلق الخير على المال؛ لأن الأصل في المال أنه خير، فيستعان به على طاعة الله، وهو في حُب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. قوله: (لحب) لو قلنا: إن اللام للتعليل، فيكون المعنى: وإنه لأجل حب المال (لشديد) أي: لبخيل، فلذلك يحتجب به غارزاً رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه، مشغولاً به عن الحق معرضاً به عن جلاله.

تفسير قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) إلى قوله: (إن ربهم بهم يومئذ لخبير)

تفسير قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) إلى قوله: (إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير) قال تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات:9] أي: بعد هذا الاحتجاج ومخالفة العقل، أفلا يعلم بنور فطرته وقوة عقله، (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ)، أي: بُعث وأُثير ما في القبور وأُخرج موتاها، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10]، أي: أُظهر وأُبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونيّاتهم المكتومة، مع ما فيها من خير أو شر. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11]، أي: عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم، فيجازيهم عليها يومئذٍ، وهنا نلحظ تقديم الظرف، فلم يقل: (لخبير يومئذ) وإنما قال: (يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل، أو للتخفيف لوقوع علمه تعالى كناية عن معجزاته وإنما تكون يومئذٍ. قال الرازي: قوله تعالى: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، خصّ هُنا أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح؛ ولذلك جعلها تعالى هي الأصل في الذم، فقال: {آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]، وهي كذلك الأصل في المدح كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2].

تفسير سورة القارعة

تفسير سورة القارعة

تفسير قوله تعالى: (القارعة ما القارعة) إلى قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)

تفسير قوله تعالى: (القارعة ما القارعة) إلى قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) سورة القارعة هي السورة الواحدة بعد المائة، وهي سورة مكية، وآيها إحدى عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 3]. القرع هو: الضرب بشدة واعتماد بحيث يحصل منه خوف شديد، والقارعة هي القيامة، وهذا الاسم من أسماء القيامة التي سُميت بها؛ لأنها تفزع القلوب والأسماع بهموم الأفزاع والأهوال، وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال: السماء بالانشقاق والانفطار، والشمس والنجوم بالتكوير والانكدار والانكسار، والأرض بالزلزال والتبديل، والجبال بالدّك والنسف. قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:2] (ما) مبتدأ خبره قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَةُ}، أيْ: أيّ شيء عجيب في الفخامة والفضاعة؟! قوله: (القارعة) لم يقل: ما هي؟ وإنما قال: (ما القارعة) حيث وضع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}، تأكيد لهولها وفضاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، على معنى: أن عِظَم شأنها ومدى شدتها بحيث لا تحيط به دراية أحد حتى يدرك حقيقتها، فقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3]، أي: وأيّ شيء أعلمك بشأن القارعة؟! ولما كان هذا ينبئ عن الوعد الكريم بإعلامها أنجز ذلك بقوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4]، أي: هي يومٌ يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، أي: في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار. وكلمة (يوم) إما أن تكون منصوبة بإضمار كلمة: اذكر، وكأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة، وتشويقه عليه الصلاة والسلام في معرفتها، فيكون تقدير الكلام: اذكر (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث). قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:5]، أي: كالصوف المندوش في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو، ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبدأ فيه الحياة الآخرة، وفيها تعرف مقادير الأعمال، وما تستحقه من الجزاء رتّب عليه ما يأتي من الآيات.

تفسير قوله تعالى: (فأما من ثقلت موازينه) إلى قوله: (نار حامية)

تفسير قوله تعالى: (فأما من ثقلت موازينه) إلى قوله: (نار حامية) قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7]. قال ابن جرير: أي: فأما من ثقلت موازين حسناته، يعني بالموازين: الوزن، والعرب تقول: لك عندي درهم بميزان درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك، ووزن دارك يراد حذاء دارك. قال الشاعر: قد كنتُ قبل لقائكم ذا مرة عندي لكلّ مخاصمٍ ميزانُهُ يعني: كلامه وما ينقض عليه حجته، وكان مجاهد يقول: ليس ميزان إنما هو مَثَل يُضرب. وعليه: فهو كالموازين، جمع ميزان. وجوز كونه جمع موزون، وهو العمل الذي له أثر ووزن عند الله تعالى، والأرجح المعنى الأول إثباتاً لحقيقة الميزان؛ لأن هذا من عقائد أهل السنة، وهي أننا نعتقد ثبوت الميزان، وأن هناك ميزان توزن فيه الأعمال، كما ثبت ذلك في الأحاديث، فكان لائقاً أن يشار إلى هذا الاعتقاد، لا أن يُحام حول هذه المعاني اللغوية بما يفهم في أنه لا يوجد ميزان حقيقي، بل هناك آيات أخرى مثل قوله تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ولولا الحرص على الاختصار لأفردنا ذلك ببحث مستقل نبين فيه الاعتقاد الصحيح في موزاين الأعمال. قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:7]، أي: في عيشة قد رضيها في الجنة، راضية أي: مَرضيّة. قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8]، أي: وزن حسناته، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9]، أي: فمأواه ومسكنه الهاوية التي يأوي بها على رأسه في جهنم والعياذ بالله. فسمّى المأوى أُمّاً على التشبيه تهكماً؛ لأن أم الولد مأواه ومستقره، وقيل: المراد أم رأسه، أي: يُطرح في النار منكوساً على رأسه والعياذ بالله، والأول هو الموافق لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10 - 11]، يعني: مأواه ومسكنه الهاوية، يقذف فيها على رأسه والعياذ بالله في الجحيم. قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10]، أي: ما أدراك ما الهاوية؟ فقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}، أصلها: (وما أدراك ما هي) كناية عن الهاوية، فأدخلت فيها هاء السكت وقفاً، وتحذف وصلاً، وقد أجيز إخفاؤها مع الوصل. وجواب هذا السؤال هو قوله: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:11].

الهمزة [1]

تفسير سورة الهمزة [1]

الوعيد الشديد لمن يضحك الناس بالحديث الكاذب

الوعيد الشديد لمن يضحك الناس بالحديث الكاذب عن بهز بن حكيم قال: حدثنا أبي عن جدي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم؛ ويل له ويل له)، رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وحسنه الحاكم، والنسائي؛ ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني. وهذا الحديث يرويه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة رضي الله عنه. و (ويل) أي: هلاك عظيم، أو واد عميق في جهنم؛ (لمن يحدث)، أي: لمن يخبر الناس؛ (فيكذب) في حديثه؛ (ليضحك به القوم) يضحك هنا من الإضحاك، أي: بسبب تحديثه، أو يضحك بهذا الكذب القوم؛ (ويل له ويل له). يقول الإمام المناوي في شرح هذا الحديث: (كرره إيذاناً بشدة هلكته) فكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الويل وهذا الوعيد إيذاناً بشدة هلكة من أتى هذا الفعل الشنيع. ويقول الإمام القاري في شرحه: (كرره إما للتأكيد أو للتأذية؛ فتكون الويل الأولى للبرزخ) أي: ويل له أنه يلقى هذا العذاب وهذا الوعيد في البرزخ في قبره، (ثم ويل الثانية يلقاها عند الموقف أمام الله عز وجل؛ والويل الثالثة يلقاها في النار). وهذا ما يعرف بـ: (النكتة) فهو يكذب في الكلام من أجل أن يضحك الناس، وهذا من الكبائر، وعليه هذا الوعيد الشديد، وقول المناوي: (كرره إيذناً -يعني إعلاماً- بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه -أي: إلى الكذب- استجلاب الضحك الذي يميت القلب) بدليل ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجة في سننه، فإذا انضم إليه استحلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان، ويورد الرعونة؛ كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة؛ فهو ينكت ويضحك ويكذب أيضاً ليضحك القوم. وقال المباركفوري في شرح هذا الحديث: (ثم المفهوم منه؛ يعني إذا كان هذا حق من يكذب ليضحك به القوم, فمفهوم المخالفة: أنه إذا حدث بحديث صدق ليضحك القوم فلا بأس) إن كان إنسان على سبيل الندرة ليس على سبيل العادة، وأن حياته كلها تكون هزلاً ومزاحاً وضحكاً؛ فإن كان يضحك القوم بحديث صدق فلا حرج في ذلك ولا ويل له، كما صدر مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين غضب على بعض أمهات المؤمنين. وهو يشير بذلك إلى ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت -يعني واجم كأنه حزين- فقال عمر -في نفسه-: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك)، حاول أن يضحك النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى من حاله الذي يظهر منه الحزن (فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -يعني امرأته- سألت النفقة آنفاً فوجأت عنقها -يعني: أرادت أن أوسع عليها فقطعت عنقها- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) أراد سيدنا عمر أن يضحكه لكن بالحق وليس فيها كذب، (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها ليضربها. وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها، كلاهما يقولان: تسألن النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضربهما، فقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده؛ قال: وأنزل الله عز وجل الخيار بسورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]؛ فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـ عائشة فقال: إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28]؛ قالت: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال: إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً؛ لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها). المقصود من الحديث: أن عمر رضي الله عنه هنا في هذا الحديث فعل فعل الإضحاك، وتعمد الإضحاك لكن بحق ولم يكذب. فمفهوم الحديث: أن الذي يضحك القوم في الحق فلا حرج عليه، لكن الحرج فيمن يضحكهم بحديث الكذب. وقال الغزالي: وحينئذ إذا أراد الإنسان أن يضحك القوم بحديث صدق فينبغي أن يكون من قبيل مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا أراد أن يمزح فليكن على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في مزاحه، فلا يقول إلا حقاً؛ ولا يأتي بمزاح إلا من المزاح الحق كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله) يعني: طلب منه أن يحمله على دابة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا حاملوك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق!) فأراد أن يداعبه النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه فهم أنه يريد ولد الناقة الصغير وهو لا يحمل، وهذا الحديث رواه الإمام أبو داود والترمذي. وقال زيد بن أسلم: (إن امرأة يقال لها: أم أيمن، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك. قال: ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض! فقالت: والله ما بعينه بياض، فقال: بلى إن بعينه بياضاً، فقالت: لا والله، فقال: ما من أحد إلا وبعينه بياض)؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي في عين كل إنسان وهو المحيط بالحدقة، أما هي فقد فهمت منه البياض الذي يكون على الحدقة. وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج) كان إذا قدم من البادية يأتي معه بهدية، فإذا أراد أن يخرج من الحضر إلى البادية يعود لكي يجهزه النبي ويهديه هدية أخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديكم ونحن حاضره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، ولم يبصره زاهر، فقال: أرسلني، من هذا، فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه -فلم يعد يطلب أن يقول له: أرسلني- وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذن والله تجدني كاسداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (لكنك عند الله غال) وهذا الحديث رواته ثقات. فسياق هذا الحديث يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليبيع رجلاً حراً، ولكن أراد بكلمة العبد: (من يشتري العبد)، يعني: عبد الله؛ وكلنا عبيد لله. وأخرج الترمذي في الشمائل عن الحسن قال: (أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز؛ فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:35 - 37])، يعني: أنها تعود إلى صباها ولا تدخلها وهي على هيئة الشيخوخة. وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين) يعني: يمازحه؛ لأن كل إنسان له أذنان. وهذه الأحاديث حتى وإن لم يصح بعضها لكن جملتها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولكن بالحق ولم يكن يغلب عليه هذا المزاح. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقاً)، فهذا شأن النبوة، وفي هذا ينبغي أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم. يقول الغزالي: (وحينئذ ينبغي أن يكون م

تفسير سورة الهمزة

تفسير سورة الهمزة يقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1 - 9]. اسم هذه السورة: سورة الهمزة. وهي: مكية بإجماع من نقل عنه من المفسرين، وقال هبة الله بن سلامة المفسر: (وقد قيل إنها مدنية) ولا شك أن البناء للمجهول يدل على ضعف هذا القول، لكن ذكر بعض المفسرين أنها مكية بإجماع. وعدد آياتها تسع آيات بلا خلاف.

مناسبة موضع سورة الهمزة لما قبلها وما بعدها من السور

مناسبة موضع سورة الهمزة لما قبلها وما بعدها من السور أما مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة العصر: لما ذكر سبحانه فيما قبلها في سورة العصر أن الإنسان سوى من استثنى الله سبحانه وتعالى في خسر: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2 - 3]، بين هنا في السورة التالية أحوال بعض الخاسرين على وجه التفصيل، فقال عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]. أما مناسبة هذه السورة لما بعدها وهي سورة الفيل: فكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة الذين كانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم نوع كيد له عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل؛ للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم، فإن عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته بالبيت، أي: إذا كانت عناية الله لبيته الحرام أدت إلى إهلاك أصحاب الفيل فعنايته بنبيه الذي تهمزونه وتلمزونه أتم وأتم؛ فالسورة تشير إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئاً، يعني {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2 - 3]، هؤلاء ليسوا ممن {جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:2 - 3]، ويتوهم أن النجاة بكثرة المال وكثرة تعداده، وإنما النجاة كما في سورة العصر بالعمل الصالح والصبر عليه. أو تكون كالاستدلال على قدرته عز وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه: {لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة:4]، فالله عز وجل الذي قدر على أن يعاقب أصحاب الفيل في الدنيا بهذه العقوبة الشديدة وهذا الخزي وذلك النكال قادر سبحانه وتعالى بالأولى على أن ينفذ هذا الوعيد المتوعد به في هذه الآية: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}. أما سبب النزول فلم يرد من طريق ثابت أو صحيح سبب مباشر في نزول الآية، لكن حكى بعض المفسرين أقوالاً في أن هذه السورة نزلت في أشخاص معينين. قال ابن الجوزي: واختلف المفسرون هل نزلت في حق شخص بعينه، أم نزلت عامة؟ على قولين، ويأتي إن شاء الله التفصيل.

القراءات في سورة الهمزة

القراءات في سورة الهمزة أما بالنسبة للقراءات في هذه السورة، فقد قرأ الجمهور: (ويل لكل همزة لمزة) كما هي رواية حفص؛ وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج: (ويل لكل همزة لمزة) بسكون الميم فيهما. قرأ الجماعة أيضاً: (الذي جمع مالاً وعدده)، (الذي جمع) فعل مخفف الميم، وشددها الحسن وابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير، واختار أبو عبيد تشديد الميم لقوله تعالى: (وعدده) فهو أوفق به. وقال الطبري: أما قوله: (الذي جمع مالاً) فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان، يعني: كلاهما قراءة صحيحة (الذي جمع) أو (الذي جمع) لأنهما قراءتان معروفتان عند قرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية: (الذي جمع مالاً وعدده) أي: قرأ الموضعين بالتخفيف، فأظهروا هذا التبعيض فقالوا في قوله: (الذي جمع مالاً وعدده) قالوا: العطف هنا على المال، أي: جمع المال ثم جعل (وعدده) أي: عدد هذا المال. قال الطبري تعليقاً على قراءة (وعدده): (وقد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت أنه قرأه (جمع مالاً وعدده) بتخفيف الدال، بمعنى جمع مالاً وجمع عشيرته وعدده، وهذه القراءة لا القراءة بها، بخلافها قراءة الأمصار وخروجها عما عليه الحجة مجمعةً في ذلك). فالمقصود: أن القراءة بالتشديد والتخفيف في ميم (جمع) (الذي جمع) أو (جمع مالاً وعدده) وجهاً واحداً. قوله: (كلا لينبذن) قرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن بالتثنية (كلا لينبذان) أي: لينبذن هو وماله؛ وعن الحسن أيضاً (كلا لينبذنه) يعني لينبذن ماله، وعنه أيضاً (كلا لننبذنه) أي: بدون العظمة وهاء النصب ونون التوكيد (لننبذنه) على أنه أخبر الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال ويلقيه في الحطمة، وعن الحسن أيضاً (لينبذن) بضم الذال على أن المراد الهمزة واللمزة والذي جمع مالاً وكأن على هذا المجموع كله لينبذن كلهم في الحطمة، وقرأ زيد بن علي: (لينبذن في الحاطمة * وما أدراك ما الحاطمة). وقال الطبري في تفسير في قوله تعالى: (إنها عليهم مؤصدة) بالهمز؛ قال: (مؤصدة يعني: مطبقة وهي تهمز، ولا تهمز وقد قرئتا جميعاً) يعني ممكن تقرأ (مؤصدة) أو (موصدة). وليس معنى هذا أننا في الصلاة نجمع بين القراءتين في وقت واحد، وإن بدأت بقراءة حفص عن عاصم تستمر فيها، لكن لا تجمع في المجلس الواحد بين قراءتين مختلفتين كما يفعل بعض القراء؛ لأن هذا من البدع. قوله: (في عمد ممددة) اختار أبو عبيد (عمد) بفتحتين، وكذلك أبو حاتم، اعتباراً بقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2]؛ وأجمعوا على فتحها، فهو قال: بما أنهم أجمعوا في سورة الرعد على فتح كلمة (عمد) فكذلك هنا تقرأ على مثالها. وفي قراءة ابن مسعود: (إنها عليهم مؤصدة * بعمد ممددة) وقراءة حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: (في عمد ممددة) جمع عمود في حاله، فقرأ هارون عن أبي عمر بضم العين وسكون الميم (في عُمد ممددة) لكن قراءة الجمهور بالفتح: (في عمد ممددة) وقال الطبري: (قرأته عامة قراء المدينة والبصرة (في عمد ممددة) بالفتح، وقرأ عامة قراء الكوفة (في عمد ممددة) بالضم. والقول في ذلك عندنا: أنهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القراء، ولغتان صحيحتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. لكن لو كان في صلاة جماعة والإمام يقرأ مستمراً على قراء حفص عن عاصم ثم خالف وقرأ بقراءة أخرى حتى ولو لم يقصد، لكن في هذه الحالة لا تفتح عليه؛ لأن هذا لا يعتبر خطأً، فمادام أن القراءة التي قرأ بها الإمام هي أحد أوجه القراءة الصحيحة فلا تنكر عليه، ولا تفتح عليه في الصلاة.

سبب نزول سورة الهمزة

سبب نزول سورة الهمزة يقول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]، قال الإمام أبو حيان: هذه السورة مكية، لما قال فيما قبلها: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2]؛ بين حال الخاسر فقال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}. ونزلت في الأخنس بن شريق، لكن الحافظ ابن حجر صحح في الإصابة أنه أسلم، وكان من المؤلفة قلوبهم، فإذاً: إن صح هذا فلا يتأتى هذا الوعيد في حقه، فإما ألا يصح ذلك، أو لا يصح إسلامه. وقيل: إنها نزلت في: العاص بن وائل السهمي، أو جميل بن عامر الجمحي، أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف، أو أبي بن خلف. وهذه كلها أقوال ذكرها المفسرون في الشخص الذي نزلت فيه هذه السورة، ويمكن أن تكون نزلت في الجميع، وهي مع ذلك عامة في من اتصف بهذه الأوصاف، وقال السهيلي: هو أمية بن خلف الجمحي كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه، وإنما ما ذكرته -إن كان اللفظ عاماً-؛ لأن الله سبحانه وتعالى تابع في أوصافه، أي: أن بعض العلماء يرى أنها نزلت في شخص بعينه؛ لأن الله تابع في ذكر أوصاف هذا الشخص والخبر عنه: (ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالاً وعدده) فكل كلامه على ضمير معين، حتى فهم أنه يشير إلى شخص بعينه، وكذلك قوله في سورة نون: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم:10 - 12] إلى آخر الآيات، فتابع في ذكر الصفات حتى علم أنه يريد إنساناً بعينه هو الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله عنه. قال الطبري: فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عم بالقول كل همزة لمزة، كل من كان بالصفة التي وُصف هذا الموصوف بها، سبيله سبيله، كائناً من كان من الناس؛ لأن اختصاص السبب لا يستدعي خصوص الوعيد بهم، بل كل من اتصف بوصف القبيح فله ذنوب مثل ذنوبهم. وقال بعض أهل العربية: هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء العام، وهي تقصد به الواحد، ويسمونه في أصول الفقه (تخصيص العام بقرينة العرف) يعني: هي عامة والمقصود بها شخص بعينه، كما يقال فيما لو كلم الأول الثاني فيقول له: لا أزورك أبداً، أي: أنا لن أزورك أبداً، فيرد عليه الثاني: كل من لم يزرني فلست بزائره، وهو يقصده هو بالذات، فظاهر اللفظ أنه يعني أناساً كثيرين، لكن يظهر من سياق الكلام أنه يقصد المتكلم نفسه، وقائل ذلك يقصد جواب صاحبه ويريده هو بهذه الصيغة العامة. المهم: هناك خلاف في الآية، لكن لاشك -كما يرى الكثير من المفسرين- أن المقصود هنا العموم حتى وإن نزلت في سياق خاص؛ لأنه لا تعارض؛ والعبرة بعموم الألفاظ وليست بخصوص الأسباب.

تفسير قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة)

تفسير قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة) قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].

معنى كلمة (ويل)

معنى كلمة (ويل) اختلف المفسرون في معنى كلمة (ويل) فقال الشوكاني: الويل مرتفع على الابتداء، أي: أنها مبتدأ، وهي أصلاً نكرة لمفعول، لكن ساغ أن يبتدأ بها لأنها بمعنى الدعاء، وخبر (ويل): (لكل همزة لمزة) والمعنى: خزي، أو عذاب، أو هلكة، أو واد في جهنم (لكل همزة لمزة). وقال الطبري: (الويل هو الوادي يسيل من صديد أهل النار وقيحهم). وقيل: هي كلمة عذاب وهلاك، وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في قوله تعالى في سورة الجاثية: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7]. ويشهد لهذا المعنى ما جاء في حق أصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم، أنهم قالوا عند رؤيتهم إياها: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:31]؛ فكلمة (ويل) كلمة تقال عند نزول المصائب، وعند التقبيح؛ فنقول: (ويل لك) إذا أردت أن تقبح الشخص، وكذلك عند نزول المصيبة الشديدة يقول: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14]. وقال الفخر الرازي: (أصل الويل: لفظ السخط والذم، وأصلها: (وي لفلان) يعني: ويل، ثم لما كثرت في كلام العرب وصلت باللام، فأصبحت (ويل) ويقال: ويحك للترحم لكن هذه للتوبيخ)، ومما يدل لهذا القول الذي حكاه الرازي قوله عز وجل حاكياً في قصة قارون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]؛ ومثله أيضاً ما قد يستخدم في التعجب كما في قوله عز وجل: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]؛ وقوله: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} [المائدة:31] فالظاهر أن (يا ويلتا) كلمة تقال عند الشدة والهلكة، أو عند شدة التعجب مما يشبه الأمر المستبعد، والذي يشهد له القرآن هو هذا المعنى. وسبب الخلاف في ذلك راجع لمجيئها تارةً مطلقة؛ كقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:19]، وها هنا أيضاً تنزل: (ويل لكل همزة لمزة) وتجيء أيضاً مع ذكر ما يتوعد به؛ كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، وقوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف:65]، يعني: ويل لهم من عذاب يوم أليم، فذكر النار والعذاب الأليم مع كلمة الويل، لكن في هاتين الآيتين: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وهذه السورة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}، لم يبين هل هي من النار أو غيرها، وكذلك قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37]، فهي في هذا كله في سياق الوعيد الشديد مما ذكر معها من النار والعذاب الأليم، ومشهد اليوم العظيم، وليست مقصودة بذاتها دون ما ذكر معها. فالمقصود: أنها كلمة تدل على الهلكة وعلى الوعيد الشديد.

أقوال العلماء في معنى الهمزة اللمزة

أقوال العلماء في معنى الهمزة اللمزة اختلف العلماء في المراد بالهمزة اللمزة اختلافاً كبيراً، فهناك قول: بأنهما متفقان، بمعنى أن الهمزة واللمزة فعل شخص واحد، والقول الثاني: بأنهم متغايران، فقيل: إن الهمزة العياب الطعان الذي يكثر منه عيب الناس، والطعن عليهم، واللمزة أيضاً مثله، عن أبي الجوزاء قال: قلت لـ ابن عباس: (من هؤلاء الذين بدأهم الله بالويل؟) يعني: من هؤلاء الذين لما بدأ الله الكلام في حقهم بدأه بتوعدهم بهذا الويل، وفي لفظ: (من هؤلاء الذين ندبهم الله إلى الويل؟ قال: هم المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العيب). فقوله: (المشاءون بالنميمة) يعني: الذين يمشون بالنميمة، فيكثر منهم ويغلب عليهم؛ لأنها صيغة مبالغة. وقوله: (الباغون للبرآء العيب) يعني: ينسبون إلى الناس البرآء من الصفات ما هم بريئون منها، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحبكم إلي أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلي المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبرآء العنت والعيب)، وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الصغير، وقال الألباني: ضعيف له شواهد ترقى به إلى مرتبة الحسن. وقال الزجاج: (الهمزة اللمزة) الذي يغتاب الناس ويردهم، يعني: ينتقص أقدارهم ويحتقرهم، قال الشاعر: إذا لقيتك عن كره تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وفي لفظ آخر: إذا لقيتك عن شحط مكاشر، فقوله: (عن شحط) أي: عن بعد ومعنى البيت: أنك أول ما تنظر إلي تقطب وجهك، وإن كنت غير موجود في المجلس كنت الهامز اللمزة الذي يغتاب ويطعن ويعيب الناس! إذا لقيتك عن شحط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وقال زياد الأعجم: تدلي بودي إذا لاقيتني كذباً وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه والمعنى: إذا قابلتني تظهر لي المودة، وإن أغيب فأنت الهامز اللمزة، يعني: الطعان العياب. وقال ابن قتيبة: أصل الهمز واللمز الدفع. ومن ذلك قول بعض الشعراء: ومن همزنا عزه تبركعا على استه زوبعةً أو زوبعا يقال: بركعه فتبركع. يعني: صرعه فوقع على استه. فالمقصود أن هذا قول من قولين، وهو أن الهمزة اللمزة هي صفة واحدة هي العيب والطعن في الناس. وهناك قول آخر: أنهما مختلفان، فالهمزة غير اللمزة، وأصل الهمز: الكسر والعض على الشيء بعنف، ومنه همز الحرف، ويقال: همزت رأسه، وهمزت الجوز بكفي كسرته، يمسكه بيديه بعنف فيكسره. وقيل لأعرابي: أتهمزون الفارة، أي: أنتم عندكم في البادية كيف تنطقون هذه الكلمة؟ يعني: أتنطقونها الفأرة بالهمزة وليس بالألف؟ فقال: إنما تهمزها الهرة، والذي في الصحاح: قيل لأعرابي: أتهمز الفارة؟ فقال: السنور يهمزها، والسنور اسم القط، فالسنور يهمزها، فالقول الأول قاله الثعلبي، وهو يدل على أن الهة يسمى الهمزة. إذاً فمن ناحية اللغة ممكن أن نسمي القط الهمزة، وقال العجاج: ومن همزنا رأسه تهشماً، يعني: كسرنا رأسه. إذاً: هناك أقوال متعددة تصل إلى سبعة أقوال في التفريق بين الهمزة واللمزة؛ فمنهم من قال: إن الهمزة هو المغتاب القتات النمام وفي الحديث: (لا يدخل الجنة قتات) والقتات هو النمام الذي ينقل كلام الناس ليفسد بينهم، والواجب أن كون الإنسان إذا سمع كلاماً قبيحاً عن الناس فإنه لا ينقله؛ لأن هذه نميمة، وماسميت امرأة أبي لهب وبحمالة الحطب؛ إلا لأنها كانت نمامة. وقال الحسن وعطاء وأبو العالية: الهمزة الذي يغتاب ويهمز الإنسان في وجهه إذا قابله، أما اللمزة فالذي يلمزه ويغتابه إذا غاب عنه أو أدبر عنه، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]؛ عندما يغيب عليه الصلاة والسلام يلمزوه في الصدقات. ومن هذا المعنى أيضاً قول حسان: همزتك فاختضعت بذل نفسٍ بقافية تأجج كالشواظ وقال مجاهد: الهمزة: هو الطعان في الناس، واللمزة: الطعان في أنساب الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت)، والطعن في الأنساب بأن يقول: فلان هذا ليس ولد فلان، أو فلان هذا كذا، هذا طعن في الأنساب وهو من الكفر والعياذ بالله وهو من شأن الجاهلية، فـ مجاهد يقول: إن الهمزة طعان في الناس عموماً بأي طعن، لكن اللمزة الطعان في النسب بالذات. وقال قتادة: الهمزة الذي يهمز بعينيه ويغمز بعينيه ويغتاب الناس بعينيه، فهذا الذي يستعمل عينيه في الهمز، أما اللمزة فيهمز باللسان. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، أما اللمزة فالذي يلمزهم بلسانه. وقال سفيان الثوري: الهمزة الذي يهمز بلسانه جهراً، واللمزة الذي يلمز بعينه وبحاجبه سراً. وقال مقاتل: الهمزة المغتاب، الذي يغتاب الناس في عدم وجودهم، واللمزة الطاعن على إنسان في وجهه، على عكس ما ذكرناه عن الحسن وعطاء وأبي العالية. وقال الإمام ابن كثير: الهماز بالقول، اللماز بالفعل. وقال ابن كيسان: الهمزة: الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ، واللمزة: الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير بيده وبرأسه وبحاجبه بها في المجلس. وهذه الأقوال ذات وجوه متقاربة وترجع إلى أصل واحد. بالنسبة للمغايرة؛ فقد جاء استعمال القرآن للفظتين (الهمزة واللمزة) بمعان استخدمت فيها كل كلمة مفردة عن الأخرى، مما يؤيد أن هناك نوع مغايرة بين الهمزة واللمزة؛ فالهمزة قال الله عز وجل فيه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11]، مما يدل على أن المقصود به هنا: الغيبة والكذب والنميمة، وفي اللمزة قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]؛ وقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، وكلها تدل على التنقص والعيب في الحضور لا في الغيب، فتغايرا في المعنى وفي الصفة، والجمع بينهما جمع بين القبيحين، فلهذا كان فاعلهما مستحق لهذا الوعيد الشديد: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1]. وعلى كلٍ فإن الأقوال التي قيلت في الآية متقاربة المعنى، ويمكن أن نرجعها إلى أصل واحد، وهذا الأصل هو: أن الهمز واللمز هو الطعن وإظهار العيب في الآخرين؛ ثم هذا الطعن وإظهار العيب على قسمين: إما أن يكون بالجد، كما يكون عند الحقد والحسد فيهمز ويلمز ويطعن ويظهر عيوب الناس، وإما أن يكون بالهزل، فهو يطعن فيهم بمزح كما يكون عند السخرية وإضحاك الآخرين، ثم كل قسم من هذين: (الجد أو الهزل) إما أن يكون في أمر يتعلق في الدين أو في أمر يتعلق في الدنيا بما يتعلق بجلسته أو شكله أو صورته، وأنواعه كثيرة وغير مضبوطة. والطعن أيضاً إما يكون لحاضر أو لغائب، وقد يكون باللفظ، وقد يكون بالإشارات، كمن يشير برأسه أو بعينه أو بيده أو بلسانه أو بحاجبه إلى آخره.

نماذج من الهمز واللمز في العصر الحديث على الدين وأهله

نماذج من الهمز واللمز في العصر الحديث على الدين وأهله لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس منصباً في الدين؛ كان الطعن فيه عظيماً عند الله عز وجل؛ فلا جرم حينها أن نزل قوله عز وجل في حق من يهمزه ويلمزه قائلاً: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:1 - 3]؛ فهل يوجد في هذا العصر أناس يستحقون مثل هذا الوعيد؟ لا شك أن العصر الذي نعيشه يخرج لنا ويظهر الكثير من الذين يقعون في هذا الهمز واللمز بل في أقبح أنواعه، فنجد مثلاً المستشرقين أو الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم كثيراً ما يطعنون في النبي صلى الله عليه وسلم، أو القرآن، أو دين الإسلام، أو المسلمين؛ وهؤلاء بلا شك يدخلون في هذا الوعيد الشديد. كذلك أيضاً هناك الذين يطعنون في أحكام الشريعة الإسلامية فيقولون: هذا تأخر ووحشية وقسوة. كل هذا الكلام هذا أيضاً من الهمز واللمز والطعن في الشريعة. كذلك رمي المسلمين بأنهم أناس متعصبون أو متطرفون أو متشددون أو متزمتون، أو هؤلاء عندهم هوس ديني، أو هؤلاء نسوا حياتهم وضيعوا شبابهم إلى آخر هذه الأوصاف المعروفة والطعون التي توجه إلى المسلمين كل هؤلاء يدخلون تحت الهمز واللمز. وهذه نماذج نمر عليها سريعاً. هذا رجل يدعى مصطفى أمين، وهو معروف ولا يوجد أحد إلا ويعرفه، وقلما يظهر حقيقة، وهذا الشخص بالذات دائماً يتكلم عن الإنسانية وخدمة الناس، لكن حقيقة أهدافه قلما يفصح عنها، ومن مقولاته: إن حضارة مصر عمرها سبعة آلاف سنة، ولا يمكن أن تعود إلى الخلف. وكان هذا في معرض رده على تطبيق الدعوة التي نادت إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. وهذا من الهمز واللمز إلى أن الشريعة متخلفة. وقال في مناسبة أخرى: (حارب الأحرار في هذا البلد سنوات طويلة) والأحرار هنا ليس بالمعنى الذي يتبادر للذهن، ولكن يقصد اللبراليين، يقول: إن الحرية مطلقة والإنسان على أن يتحرر في تفكيره من أي قيود وبالذات قيد الدين؛ لأن معنى اللبرالية ما عرف في أوروبا إلا بعد الثورة على الكنيسة وفصل الدين عن الحياة واللبرالية تعني التحرر من القيود كلها وبالذات قيد الدين. يقول: (حارب الأحرار في هذا البلد سنوات طويلة لتحصل المرأة على بعض حقها، لكن يظهر أن بعض الناس يريدون العودة بها إلى الوراء، وقد يحدث هذا في أي مكان، ولكن لا نفهم أن يحدث في الجامعة مهد التقدم والفكر الحر). وهذا الرجل يصرح كان بأهدافه منذ زمن، وله كلام قبل استقلال مصر تحت عنوان الأهداف التي سوف تعمل لها مصر بعد الاستقلال. قال: ومن الأهداف التي سأعني بها وأقود إليها الرأي العام أن أحارب التعصب الديني. وأن أجدد الأزهر، وأنادي بتحرير المرأة قلبياً؛ لأن الحب الطاهر لا يزال جريمة يعاقب عليها المجتمع، والمجتمع المصري إلى اليوم مجتمع لا روح فيه؛ لأنه خالٍ من المرأة، والشباب المصري لا شخصية له؛ لأنه ليس في حياته امرأة. ومن أهدافه: أن يشجع المرأة على المطالبة بحقوقها السياسية وتولي الوظائف، وأن ترث كما يرث الرجل تماماً. والعياذ بالله. فهو يدعو إلى اتحاد شرقي على نظام الولايات المتحدة الأمريكية ولا يريد اتحاداً إسلامياً. هذا الكلام نقله عنه الأستاذ نور الدين في كتاب اسمه: (الصحافة والأقلام المسمومة)، ففيه قصة كاملة عنه في (99 - 106). فهذا نموذج من الهمز واللمز والطعن في هذه الشريعة الحنيفية. ومن نماذج الهمز واللمز -وما أكثرها- ما تراه أحياناً في كل شيء، حتى أنهم ما تركوا لنا أي شيء من مظاهر الإسلام إلا وقد طعنوا فيه، فلو تكلم عالم عن اللحية، يعملون له ألف حملة، وتنطلق الكلاب المسعورة من جحورها. ومن نماذج الهمز واللمز المرأة التي كانت ترد على العلماء الذين ينادون بتطبيق الشريعة الإسلامية، فتقول: كيف نخضع لفقهاء أربعة ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟! وتقول أيضاً: إنني لا أطمئن على حقوق المرأة إلا إذا تساوت المرأة مع الرجل في الميراث. ومن ضمن الحملات التي قامت بها الهمز واللمز في حجاب المسلمات فتقول: إن هذه الثياب الممجوجة قشرة سطحية لا تكفي وحدها لفتح أبواب الجنة أو أكتساب رضا الله، فتيات يخرجن إلى الشارع والجامعات بملابس قبيحة المنظر يزعمن أنها زي إسلامي، لن أجد ما يعطيني مبرراً منطقياً معقولاً لارتداء فتيات على قدر مذكور من التعليم إلى لبس أجسادهن من الرأس إلى القدمين بزي هو والكفن سواء. وتقول أيضاً: هل من الإسلام أن ترتدي البنات في الجامعة ملابس تغطيهن تماماً وتجعلهن كالعفاريت؟ وهل لا بد من تكفين البنات بالملابس وهن على قيد الحياة؛ حتى لا يرى منها شيء وهي تسير في الشارع؟ وتقول في ضمن حملاتها: اقتراحي بإجراء تلقيح صناعي لزوجة عقيم من زوجها أقام الدنيا وأقعدها، ومطالبتي بإلغاء المحاكم الشرعية كاد أن يدخلني السجن؛ أما مهاجمتي لقانون الأحوال الشخصية فقد أثارت الدنيا من حولي، وجاءت مظاهرة إلى دار الهلال تهتف بسقوطي. وهي تذكر هذا بأنه من مناقبها. ومنه الكلام على المنقبات؛ تقول: والأدهى من ذلك: المقنعات وهن قلة من المتصلفات في إعلان تدينهن، فقد ذهبن في ثيابهن إلى تحريم ما أحله الله، فغطين وجوههن -هي تبحث عن الحلال والحرام- بأنسجة كثيفة ليس بها سواء خرمين صغيرين للاستعانة بهما في النظر، ولم يكتفين بذلك بل ذهبن في مبالغتهن إلى تغطية الخرمين الصغيرين بنظارات سوداء خوفاً من أن تتغلغل الأنظار من خلال الخرمين إلى حدقة العينين، وهو كل ما يحتمل أن يظهر من هذا القناع العجيب الدقيق. وهذا حقيقة همز ولمز!! وتقول: وهذا بالطبع غير جائز في الإسلام، بدليل الفتوى التي أصدرها سيد الأئمة كلهم، الشيخ محمد عبده. وعندما تكلمت عن الحجاب قالت: هذا تشبه بالكفار؛ لأن هذا مثل الراهبات. فهي غير راضية عنه؛ لأنه زي فيه تشبه بالكفار، وهي عندما تتعرى تتشبه بمن؟! الغيرة على الإسلام تتدفق وتنهال، الغيرة على حرمات الله والتشبه بالكفار!! وتقول: وما يقال عن الحجاب من أنه تشبه بالراهبات يسري أيضاً على ملابس الرجال، فمع عظيم إجلالي للعمامة والجبة والقفطان أعرف أنها ليست زياً إسلامياً أصلياً وإنما هي مقتبسة من ملابس الأحبار اليهود في قديم الزمان. ومن الذين حملوا حملات كبيرة في مجال الهمز واللمز الفيلسوف لهرم العجوز المسمى: زكي نجيب محمود، هذا الرجل كان مرشحاً لخلافة مقعد طه حسين، وله كتاب اسمه (خرافة الميتافيزيقا) وهو ما وراء الطبيعة، أي: الغيب، فهو يعني: خرافة الغيب، وخرافة الاعتقاد بالغيب، وهو يتكلم أيضاً عن نفس الموضوع، فكتب مقالات معروفة من مدة سماها: (ردة في عالم المرأة) وعندما نسمع كلمة (ردة في عالم المرأة) يعتقد أنه يتكلم عن النساء اللاتي ارتدين عن الإسلام، أو أحلوا ما حرم الله أو حرموا ما أحل الله أو شيء من هذا، لكنه يعبر عن عودة النساء إلى الالتزام بالحجاب والالتزام بأحكام الإسلام، ويقول: هذه ردة، ونكسة، ويقول: إنها مأساة، ويقول: إن المرأة نكصت على عقبيها؛ لأنها عادت إليه بعد أن ألقت الحجاب على شواطئ الإسكندرية أيام سعد زغلول. بل اتهم المرأة أيضاً في فرجها، حيث يقول: إن المرأة التي تتحجب تشبه السلعة التي تقف وتصيح بالناس ها هي ذي سلعة من عصور الحريم تباع فمن يشتري؟! فنقول له: هل الشيء يصان هو السلعة، أو الشيء الذي يعرض على الناس هو السلعة؟ على أي حال هذه نماذج من بعض الحملات أو بعض المواقف التي يقع فيها بعض المعاصرين في الهمز واللمز فهم أولى بقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1].

الهمزة [2 - 7]

تفسير سورة الهمزة [2 - 7]

تفسير قوله تعالى: (يحسب أن ماله أخلده)

تفسير قوله تعالى: (يحسب أن ماله أخلده) قال تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] هذه جملة حالية أو جملة استئنافية، فإذا كانت حالية فالمعنى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2]، وحالته وهو يجمع هذا المال ويعدده أنه يظن أن ماله أخلده. وإذا كانت جملة استئنافية فهو ابتداء معنى جديد وجملة جديدة، فهو همزة لمزة، وهو يجمع الأموال ويعددها، وهو بجانب أنه جمع المال وعدده ((يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)) أي: يظن أن ماله مانع له من الموت، فهو يعمل عمل من يظن أن ماله سيتركه حياً مخلداً لا يموت. يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه وبخل بإنفاقه، مخلده في الدنيا فمزيل عنه الموت؛ وقيل: أخلده، فعل ماضي المقصود به المضارع والمستقبل، يعني: يحسب أن ماله يخلده فيما يستقبل، كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سبباً لهلاكه: عطب والله فلان، أو هلك والله فلان، وهو لم يهلك بعد، ولا دخل النار، لكن المقصود أن هذا العمل سوف يهلكه فيما يستقبل، بمعنى أنه يعطب من فعله ذلك، ولما يهلك بعد ولم يعطب، وكالرجل يأتي الموبقة من الذنوب فيقال له: دخل والله فلان النار. انتهى كلام الطبري. وقال الزمخشري ((يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ)) أي: طول المال أمله، ومناه الأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت. وهذا ليس ببعيد في البخلاء، فالبخلاء لهم أخبار عجيبة، كما قال الله عنهم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37]، فبعض البخلاء من شدة تمكن هذه الصفة القبيحة الذميمة في قلبه يتأذى لو رأى غيره يجود! إذاً: يحسب أن ماله سيبقيه حياً لا يموت، أو يبقيه ماكثاً مكثاً طويلاً جداً، لأن هذا من معنى الخلود، أو يزيد في عمره.

تفسير قوله تعالى: (الذي جمع مالا وعدده)

تفسير قوله تعالى: (الذي جمع مالاً وعدده) قال تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2]. يلاحظ أن الله عز وجل أظهر هنا المال في موضع الإضمار فقال عز وجل: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة:2] فكرر كلمة المال، مع أن السياق يقتضي أن يقول: يحسب أنه أخلده، فتعود الهاء على (مالاً)، لكن هذا التكرار لعلة وحكمة، قال بعض العلماء: إن المقصود بتكرار كلمة المال زيادة التقرير، وللتقريع والتوبيخ. وقيل: في الآية تعريض بالعمل الصالح، فالمال لا يخلد صاحبه، لكن العمل الصالح هو الذي يخلد الإنسان، وينبغي للعاقل أن يكب عليه، ويسعى للآخرة حيث الخلود الحقيقي، فتكرار كلمة المال للتعريض بأن المخلد الحقيقي ليس هو المال، وإنما هو العمل الصالح الذي يخلد صاحبه في الجنة، فهذا الحسبان المذموم هو المنصب عليه الوعيد، فإن هذا الشخص لا يؤمن بالبعث ولا يوقن به كما قال صاحب الجنة -وهو سلفه من قبل-: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] يعني: غير معقول أن هذه الجنان وهذا المتاع وهذا النعيم ليبيد أبداً. يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:35 - 36]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه، الذي ضر به مثلاً مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء، أنه دخل جنته في حال كونه ظالماً لنفسه، وقال: إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى؛ لما رأى من حسنها ونضارتها، وقال: إنه لا يظن الساعة قائمة، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيراً من الجنة التي أعطاه في الدنيا، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضاً بالمال والولد كما أنعم عليهم في الدنيا، جاء مبيناً في آيات أخر كقوله في سورة فصلت: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:50]، وقوله في سورة مريم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم:77 - 78]، وقوله في سبأ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، وقوله في هذه السورة الكريمة: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وقوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3]. وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) يعني: لييسره للعسرى حتى يستحق مزيداً من العذاب نتيجة المزيد من كفران النعم؛ يقول عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]. وقال عز وجل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183]، وقوله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178]، وقال عز وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وقال عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]، فهذا المال الذي جمعه وعدده، وكان زينته في الدنيا، هو الذي صرفه عن التفكر في المآل وفي المصير، ودفعه إلى الهمز واللمز واحتقار خلق الله، يقول الله عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]، ويقول عز وجل إن هذا الظالم يقول يوم القيامة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. روى أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب)، هو لا يكذب، فهو رأى، لكن لا يذكر ذلك، بل ينساه بمجرد أن صبغ في الجنة صبغة، بل يحلف إنه ما رأى بؤساً ولا شدة قط، نسأل الله يجعلنا منهم.

مسألة الذهب المحلق

مسألة الذهب المحلق مسألة الذهب المحلق كثر الكلام فيها، ونحتاج إلى بيان آراء العلماء المخالفين لأحد أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وهو سيدنا الشيخ ناصر الدين الألباني فيما ذهب إليه في مسألة الذهب المحلق، وهو لا يحرم الذهب مطلقاً على النساء، لكن يحرم على النساء الذهب المحلق، وهو الذي يكون على هيئة حلقة مثل الخواتم والأساور أو أي حلية تكون دائرية على هيئة حلقة متماسكة، هذا هو مذهب الشيخ ناصر في هذه المسألة، وقد رد كثير من العلماء على الشيخ ناصر في هذه المسألة، وألف الشيخ إسماعيل الأنصاري كتاب إباحة الذهب المحلق للنساء، وكذلك الدكتور محمد عبد العزيز عمرو في كتاب له، وكذلك الدكتور نور الدين عتر في كتابه (ماذا عن المرأة؟) وكذلك الشيخ أحمد بن حجر القطامي في بعض فتاواه.

أدلة جواز لبس النساء للذهب المحلق

أدلة جواز لبس النساء للذهب المحلق الأدلة من الكتاب والسنة على جواز تحلي النساء بالذهب المحلق كثيرة، منها قوله عز وجل: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فالله عز وجل يعيب على المشركين أنهم كانوا ينسبون إليه الملائكة، ويصفونهم بأنهم إناث، ويرتضون لأنفسهم الذكور، ويفضلون الذكور على الإناث، فيختارون لأنفسهم ما يحبونه، وينسبون إلى الله عز وجل الإناث، فالله عز وجل أنكر عليهم هذا فقال: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ)) يعني: أتنسبون إلى الله عز وجل الإناث اللاتي تعتقدون أن فيهن نقصاً ظاهراً في البدن، ونقصاً باطناً في العقل؟! ومن النقص الظاهر في بدن المرأة أنها تحاول أن تكمله وتعوضه بالحلية وبالزينة، أما نقص العقل فعلامته أنها ((فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)) يعني: لا تكاد امرأة من النساء تقدر على الخصام والمجادلة والنقاش إلا ما استثني، فهذا نقص باطنها، ونقص ظاهرها. فالشاهد أن قوله تعالى: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ)) المقصود به: الإناث، فتنشأ الطفلة من صغرها على حب الزينة، وتعويض هذا النقص الذي فيها، وهذه فطرة من الله عز وجل؛ فبين سبحانه أن للنساء حاجة أصلية إلى التحلي بالذهب وغيره من أنواع الحلي، وأنهن ينشأن عليه، وأن ذلك من دواعي أنوثتهن؛ وأباح لهن الذهب بإطلاق، يستوي في ذلك الذهب المحلق وغير المحلق، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة على حل الذهب مطلقاً للنساء. وجاء عن أبي العالية أنه سئل عن الذهب للنساء فقال: لا بأس به، يقول الله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]. وأسند عبد الرزاق في تفسيره عن مجاهد رحمه الله أنه ذكر له أنهم يقولون: من تحلى بخربيصيصة كوي بها في النار؛ والخربيصيصة قطعة طويلة من الذهب؛ فقال مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير، ثم تلا هذه الآية: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، وقوله: رخص للنساء في الذهب والحرير فيه إشارة إلى أن هذا كان بعد التحريم، والإمام مجاهد من أئمة التفسير الذين تلقوا التفسير عن ابن عباس رضي الله عنه، فقد قرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره يستوقفه عند كل آية ويستفسره عنها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مجاهد إمام المفسرين، وكان آية في التفسير، ويقول سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وقد أكثر الإمام الشافعي في الاعتماد على أقوال مجاهد في التفسير، وكذلك الإمام البخاري. وجاء في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق للنساء أحاديث كثيرة تلقتها الأمة بالقبول من سائر المذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، وقدم العلماء أحاديث الإباحة على ما خالفها من أحاديث الحظر؛ لأنها أقرب إلى القرآن وأشهر وأصح، ومن ذلك حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذا الحديث صححه الإمام ابن حزم، وإن كان بعض العلماء طعن فيه بأنه من رواية محمد بن إسحاق وهو مدلس، لكنه قد صرح بالتحديث كما ذكر في عون المعبود فزال هذا الاعتراض، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم حلية من عند النجاشي أهداها له، فيها خاتم من ذهب فيه فص حبشي، قالت: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معرضاً أو ببعض أصابعه، ثم جاءت أمامة بنت أبي العاص ابنة ابنته زينب فقال: تحلي بهذا يا بنية)، فهذا خاتم ذهب محلق، ومع ذلك أمرها أن تتحلى به. ومن ذلك الحديث المشهور والمعروف: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بالذهب والحرير فقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم)، وهذا الحديث له طرق كثيرة صحح بعضها الإمام الترمذي وابن حبان والحاكم وابن حزم وابن العربي المالكي، ونقل الحافظ عبد الحق عن علي بن المديني أنه حسن بعض طرقه، بل عده الكتاني من الأحاديث المتواترة، وفيه دليل على الإباحة المطلقة للذهب للنساء. ومن الأدلة ما جاء من طريق عبد الله بن جعفر عن محمد بن عمارة عن زينب بنت نبيط عن أمها قالت: (كنت أنا وأختان لي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحلينا من الذهب والفضة)، وفي رواية أبي نعيم عنها قالت: حدثتني أمي وخالتي، وهذا الحديث من جملة ما استدركه الحاكم على الصحيحين وأقره الذهبي على تصحيحه. وعن عائشة رضي الله عنها عند الإمام أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان أسامة جارية لحليته وكسوته حتى أنفقه)، وهذا الحديث صححه الحافظ العراقي في المغني عن حمل الأسفار، واستدل به البزار على هذا الحكم. ومن ذلك ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: قدمت صفية وفي أذنها خرصة من ذهب، فوهبت منه لـ فاطمة وللنساء معها؛ وصفية إنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة؛ لكن هذا حديث مرسل. ومن ذلك أيضاً الأحاديث التي تدل على زكاة الحلي من الذهب، وخلاف العلماء فيها معروف، وتلك الأحاديث تدل على إباحة التحلي بالذهب مطلقاً للنساء. ومن ذلك حديث صلاة العيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطب النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بعد صلاة العيد ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي قرطها في ثوب بلال)، وفي رواية: (فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن) يعني: يخلعن الذهب الذي في آذانهن وفي حلوقهن، وهذا يدل على أنهن كن يلبسن الذهب المحلق. فهذه النصوص استدل بها العلماء على إباحة الذهب المحلق للنساء. يقول الإمام البخاري في صحيحه: باب الخاتم للنساء، وكان على عائشة خواتيم الذهب، وعن عمرو بن أبي عمرو قال: سألت القاسم بن محمد فقال: لقد رأيت -والله- عائشة تلبس المعصفر وتلبس خواتيم الذهب. وفي لفظ آخر: سألت القاسم بن محمد فقلت: إن ناساً يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأحمرين المعصفر والذهب، فقال: كذبوا والله، لقد رأيت عائشة تلبس خواتيم الذهب. يقول القاضي أبو المحاسن في توجيه هذا: لا يمكن أن عائشة تخالف الأحاديث في النهي عن لبس خواتم الذهب إلا بعد وقوفها على ناسخ؛ فكونها لبست مع علمها بالأحاديث الناهية يدل على أنها وقفت على حديث ينسخ هذه الأحاديث المحرمة للبس الذهب.

كلام العلماء في جواز لبس النساء للذهب المحلق

كلام العلماء في جواز لبس النساء للذهب المحلق حكى الإجماع غير واحد على إباحة التحلي بالذهب المحلق للنساء، مثل الإمام الجصاص في أحكام القرآن، والكيا الهراسي، والبيهقي في السنن الكبرى، والنووي في المجموع، وابن حجر في فتح الباري، والهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر، والسندي في حاشيته على سنن النسائي. أما الجصاص فقال في تفسير قوله تعالى: ((أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ)) بعد أن ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في منع الناس من الذهب، وحديث أبي هريرة في الوعيد على اتخاذ الخرص: الأخبار الواردة في إباحته للنساء عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر وأشهر من أخبار الحظر، ودلالة الآية ظاهرة في إباحته للنساء، وقد استفاض لبس الحلي للنساء من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن، ومثل هذا لا يعترض عليه بأخبار الآحاد. ذكر القرطبي في تفسيره قول مجاهد: رخص للنساء في الذهب والحرير وقرأ هذه الآية، وقال الكيا الهراسي: فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء، والإجماع منعقد عليه، والأخبار فيه لا تحصر. وقال البيهيقي في السنن الكبرى بعدما أورد حديث أبي هريرة: (من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب) إلى آخره، وحديث أسماء: (أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب)، وحديث ثوبان في شأن بنت أبي هريرة: هذه الأخبار وما في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن، وعلى نسخ الأخبار الدالة على تحريمه لهن خاصة. وهذه المسألة مثل الأحاديث التي تحصر تعدد الزوجات بأربع، فهي لا تخلو من كلام من حيث السند، لكن استدل العلماء على الحصر بأربع بانعقاد الإجماع، فهو يدل على وجود ناسخ للتعدد المطلق؛ وكذلك هنا استدل العلماء بالإجماع على وجود الناسخ؛ لأن الأمة معصومة في إجماعها من الضلال. وقال الإمام النووي في المجموع: يجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة والذهب للأحاديث الصحيحة، وقال أيضاً: أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعاً كالطوق والعقد والخاتم والسوار والخلخال والتعاويذ والتمائم والقلائد وكل ما يتخذ في العنق وغيره، وكل ما يعتدن لبسه، ولا خلاف في شيء من هذا. ونفس هذا الكلام ذكره الإمام ابن قدامة في المغني، وقال النووي في شرح صحيح مسلم في باب: تحريم خاتم الذهب على الرجال ونسخ ما كان من إباحته في أول الإسلام: أجمع المسلمون على إباحة خاتم الذهب للنساء. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح حديث البراء: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: نهانا عن خاتم الذهب): النهي عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء، فقد نقل الإجماع على إباحته للنساء، وأيد الحافظ ابن حجر ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم من الذهب فأخذه وإنه لمعرض عنه، ثم دعا أمامة بنت بنته فقال: تحلي به). وقال ابن حجر الهيتمي الفقيه في الكبيرة السادسة بعد المائة: تحلي الذكر البالغ العاقل بالذهب، يعني: لبس الرجل العاقل والبالغ الذهب من الكبائر، هذا من الكبائر، سواء خاتم أو غير خاتم، يقول: وأخرج ابن حبان في صحيحه: (ويل للنساء من الأحمرين: الذهب والمعصفر) وهو حديث صحيح، وفي الحديث: (أريت أني دخلت الجنة فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المؤمنين، وإذا ليس فيها أحد أقل من الأغنياء والنساء، فقيل لي: أما الأغنياء فإنهم على الباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الذهب والحرير)، يقول: وبه يعلم معنى قوله: (ويل للنساء) في الحديث قبله أي: أن هذين سبب للهوهن وإعراضهن عن الخير وليس المراد به ظاهره؛ لأنهما حلالان لهن إجماعاً. وقال الإمام السندي في حاشيته على النسائي بعد أن حكى نقل النووي في شرح مسلم إجماع المسلمين على نسخ الأدلة القائلة بحظر خواتيم الذهب بحديث: (إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها): قلت: ولولا الإجماع -هذا كلام السندي - لقلت بتحريمه على النساء، يعني لأن الظاهر أن يقال: كان الذهب حلالاً للكل ثم حرم على الرجال فقط ثم حرم على النساء أيضاً، لكن لأن الإجماع انعقد على هذا فلا يخالفه.

أدلة الألباني على تحريم لبس النساء للذهب المحلق

أدلة الألباني على تحريم لبس النساء للذهب المحلق استدل الشيخ الألباني رحمه الله بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خاتم الذهب). وبعض الأحاديث صححها وخالفه أغلب العلماء في تصحيح هذه الأحاديث، لكن لا شك أن علماء الحديث من صميم عقيدتهم أنه إذا صح الحديث عند أحدهم فلا يملك أن ينصرف عنه إلى غيره، فهو بنى مذهبه على صحة هذه الأحاديث، ورأى أن إباحته مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا عذره، فهو يهاب مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنده، وهذا هو اللائق به كعالم من علماء الحديث. ومن الأحاديث التي استدل به قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يحلق حبيبه بحلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقاً من نار فليطوقه طوقاً من ذهب، ومن أحب أن يسور حبيبه سواراً من نار فليسوره سواراً من ذهب، ولكن عليكم بالفضة، فالعبوا بها، العبوا بها، العبوا بها)، وهذا الحديث قد أجاب عنه العلماء على فرض ثبوته بأن الرواية: (من أحب أن يحلق حبيبه) بدون التاء، قال صاحب بذل المجهود الإمام السهارنفوري الحنفي في شرح هذا الحديث: وهو إلى الصغير أقرب منه إلى الكبير؛ لأن الصغير هو الذي يلبس غالباً، والكبير يلبس بنفسه، فمعنى يطوق حبيبه أن يلبس حبيبه مثل ابنه طوقاً من ذهب. وقال الشيخ محمد سعيد ألباني الدمشقي: يفهم من نظم هذا الحديث أنه مسوق للصبيان دون النساء؛ لأن تحلق المرأة بحلقة من ذهب جائز.

تفسير قوله تعالى: (كلا لينبذن في الحطمة)

تفسير قوله تعالى: (كلا لينبذن في الحطمة) قال تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة:4] أي: ليطرحن في جهنم التي من أسمائها الحطمة؛ لأنها تحطم وتأكل ما ألقي فيها، كما يقال في وصف الرجل الأكول: كأنما في جوفه تنور، يعني: فرن، فهو يهضم الطعام في الحال، ويطلب المزيد والجديد. وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ هذه الآية: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)) بالتثنية: (لينبذان) يعني: هذا الهمزة وماله سينبذان في النار، كما قال عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] يعني: لا يغني عنه هذا المال، وقال تعالى حاكياً عنه: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]. قال ابن الجوزي: ((الْحُطَمَةِ)) اسم من أسماء جهنم؛ سميت بذلك لأنها تحطم كل ما يلقى فيها، أي: تكسره، فهي تكسر العظم بعد أكلها اللحم، وقال الضحاك: ((الْحُطَمَةِ)) الدرك الرابع من النار؛ وقال الكلبي: الطبقة الثالثة من جهنم، وقال الواحدي: باب من أبواب جهنم؛ وقال مقاتل: هي تحطم العظام، وتأكل اللحوم، حتى تصل إلى القلوب والعياذ بالله. ووزن حطمة فُعَلة، وهذا يكون لتنزيل الفعل مكانه الطبيعي، فالنار عادتها أنها تحطم وتأكل. قال القرطبي: سميت بذلك؛ لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشمه؛ قال الراجز: إنا حطمنا بالقضيب مصعباً يوم كسرنا أنفه ليغضبا فالحطم يستعمل في كل كسر متناه، يعني تكسر الشيء إلى أقصى مدى من التكسير، فالحطم هو التكسير المتناهي البليغ. وقوله: ((كَلَّا)) (كلا) في القرآن تأتي بمعنى حقاً أو تأتي بمعنى لا للنفي، يقول الألوسي: ((كَلَّا)) ردع له عن ذلك الحسبان الباطل، أو ردع عنه وعن جمع المال، يعني: لا تحسب أن مالك مخلدك، أو ((كَلَّا)) يعني: لا تجمع المال، فهو ردع له عن حبه المفرط، واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز، وهذا بعيد؛ لأن القريب هو جمع المال. وقوله: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ)) يفسره قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] أي: ينبذ نبذاً فيهوي على أم رأسه عياذاً بالله من ذلك. إذاً: ((الْحُطَمَةِ)) اسم من أسماء النار؛ سميت بذلك لأنها تحطم -أي: تكسر وتهشم- كل ما يلقى فيها تكسيراً بليغاً متناهياًَ، ويقال أيضاً: شر الرعاء الحطمة، ويقال: راعي حطمة، وهو الذي يحطم الماشية، لأنه يسوقها سوقاً عنيفاً، ويسيء معاملتها وقيادها، فكأنه يكسرها فسمي: الحطمة. والنبذ فيه معنى الإلقاء والطرح، فهذا يفيد أن لها قعراً عميقاً جداً، وقد جاءت أدلة كثيرة من السنة تدل على هذا الوصف، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع وجبة -يعني: صوت وقع الشيء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم؛ قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً فهو يهوي في النار، الآن حيث انتهى إلى قعرها). أيضاً لفظ النبذ يدل على الإهانة؛ لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة كما قال الله: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، وقال سبحانه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فالكافر يظن أن إعطاء المال له والتوسيع عليه في الدنيا يقتضي كرامته على الله عز وجل في الآخرة، فالله عز وجل يقول: ((كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ)) فيعامل بنقيض قصده وبنقيض اعتقاده؛ لأن كلمة النبذ معناها الطرح والرمي والإلقاء، قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص:40]؛ ومنه النبيذ؛ لأنك تنبذ التمر -مثلاً- في الماء، فيكون عصيراً، فإذا أسكر فهو محرم، أما إذا لم يسكر فيطلق عليه نبيذ، وهذا في اللعنة وإن كانت الآن عرفاً تطلق على المسكر، وهو محرم بلا شك؛ والمقصود أنه سمي نبيذاً لأنك تنبذ وترمي فيه التمر، وولد الزنا يسمى منبوذاً؛ لأنه ينبذ ويرمى على الطريق. قال أبو الأسود: وخبرني من كنت أرسلت أنما أخذت كتابي معرضاً بشمالك نظرت إلى عنوانه فنبذته كنبذك نعلاً أخلقت من نعالك وقال آخر: إن الذين أمرتهم أن يعدلوا نبذوا كتابك واستحلوا المحرم

الحكمة من ذكر اسم الحطمة

الحكمة من ذكر اسم الحطمة يقول الرازي: اعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم هاهنا وجوه: الأول: الاتحاد في الصورة، فالله عز وجل قال: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] على وزن فُعَلة، فاتحدت الصورة بقوله تعالى: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ))، كأنه تعالى يقول: إن كنت الهمزة اللمزة فوراءك الحطمة، فهذا من التشابه في الصورة. الثاني: أن الهامز يكسر غيره ليضع قدره، فالهامز اللامز يستخدم عينه أو حاجبه أو شفته أو نحو ذلك ليضع من قدر الناس، ويكسر أقدار الناس، فيقول الله عز وجل له: وراءك الحطمة، فالحطمة تكسرك كسراً وتلقيك في حضيض جهنم، فهي ((لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)). الثالث: أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس، و ((الْحُطَمَةِ)) اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم، فيمكن أن يقال: ذكر وصفين: الهمز واللمز، ثم قابلهما باسم واحد: ((لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ))، فكأنه قال: خذ واحداً مني وهو الحطمة، باثنين منك وهما الهمز واللمز، فإنه يفي ويكفي، فكأن السائل يقول: كيف يفي الواحد بالاثنين؟ فكأن A إنك لا تعرف خطر وقدر هذا الواحد، فلذلك قال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5].

تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما الحطمة التي تطلع على الأفئدة)

تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما الحطمة التي تطلع على الأفئدة) قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5] يعني: وأي شيء أشعرك -يا محمد- ما الحطمة؟ ثم أخبره عنها فقال جل ثناؤه: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:6 - 7] يعني: التي يطلع ألمها ووهجها القلوب، تطلع بمعنى يصل عذابها ويبلغ، وسمع من العرب قولهم: متى طلعت أرضنا؟ يعني: متى وصلت أرضنا؟ أو متى بلغت أرضنا؟ إذاً: معنى (تطلع): تصل وتبلغ، فتأكل الجلد ثم اللحم ثم تنفذ في النهاية إلى القلب وهو ألطف شيء في بدن الإنسان، فمعنى ذلك: أنه يبلغ أقصى درجات العذاب والعياذ بالله. يقول الشوكاني: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} [الهمزة:5]، هذا الاستفهام للتهويل والتفظيع حتى كأنها ليست مما تدركه العقول وتبلغه الأفهام، ثم فسر الله عز وجل الحطمة فقال: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6] أي: هي نار لا كسائر النيران، التي تعرفونها، ((نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ)) موقدة بأمر الله عز وجل، أي: هي النار التي لا تنسب إلا إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو منشئها في عالم لا يعلمه سواه. يقول أبو السعود: وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه. وقوله: ((الْمُوقَدَةُ))؛ لأنها غير خامدة. وهذه الإضافة إلى الله سبحانه وتعالى إضافة للتخصيص، فهي نوع معين من النيران، وليست كالنيران التي يعرفونها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) (ناركم) فأضافها إلى المخاطبين، وفي لفظ آخر قال صلى الله عليه وسلم: (نار بني آدم التي يوقدون)، فلبني آدم نار، ولكن جهنم ليست كنار بني آدم التي تعرفونها لكنها نار الله الكبرى كما جاء في آية أخرى، فلو جمعنا كل النيران التي على وجه الأرض فهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم! (قالوا: والله إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها)، رواه البخاري ومسلم والترمذي. قال الغزالي: نار الدنيا لا تناسب نار جهنم، ولكن لما كان أشد عذاب الدنيا عذاب هذه النار عرف عذاب نار جهنم بها، وهيهات لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها هرباً مما هم فيه والعياذ بالله! يعني: أهل جهنم لو يروا مثل هذه النار التي لو جمعنا كل نار الدنيا واجتمعت في مكان واحد وأهل الجحيم رأوها لخاضوها وألقوا بأنفسهم فيها هرباً مما هم فيه من جحيم الآخرة والعياذ بالله!. نار جهنم هي نار الله الموقدة، وهي لا تخمد أبداً، فنار الدنيا يمكن أن تخمد، لكن نار الله عز وجل هي الموقدة، وهذه صفة ثابتة لها لا تنفك عنها. قال أبو هريرة رضي الله عنه: أترونها حمراء كناركم هذه؟! يعني: لا يحملنكم هذا الوصف من النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة جهنم أن تظنوها حمراء؛ لأن نار الدنيا يمكن أن ننتفع بضوئها أو بدفئها، قال: لهي أسود من القار! والقار هو: الزفت. قال الباجي: ومثل هذا لا يعلمه أبو هريرة إلا بتوقيف؛ لأنه خبر غيبي، ولا يخبر به أبو هريرة إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فله حكم الرفع. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بشدة أمرها في الحر، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخبر عن شدة أمرها في لونها؛ لأن سوادها أشد في العذاب وفي النكال، يقول بعض السلف: عجباً لمن علم أن الجنة تزين فوقه، والنار تسعر تحته، كيف ينام بينهما؟ قوله: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة:7]. يقول ابن الجوزي: أي: تأكل اللحم والجلود حتى تقع على الأفئدة فتحرقها. أولاًَ تبدأ باللحم والجلود ثم تصل إلى القلب، وتطلع يعني: تصل وتبلغ إلى القلوب والعياذ بالله! ثم ما صفة جلد الكافر؟ جلده ليس كالجلد في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن غلظ -يعني: سمك- جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً)، فالكافر يزاد في خلقه يوم القيامة حتى جاء في الحديث: (إن ضرس الكافر يكون مثل جبل أحد)، فيزاد في حجمه حتى يزداد إحساسه بالعذاب، وجبل أحد طوله ستة آلاف متر، يعني: ستة كيلو متر، فهذا قدر ضرس الكافر في جهنم والعياذ بالله! قال: (وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي هريرة مرفوعاً: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) رواه مسلم. قال الفراء: حتى يبلغ ألمها الأفئدة، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى واحد، والعرب تقول: متى طلعت أرضنا؟ أي: بلغت. وقال ابن قتيبة: ((تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ)) أي: توفي عليها وتشرف. وقال الشوكاني: أي: يخلص حرها إلى القلوب فيعلوها ويغشاها، وخص الأفئدة مع كونها تغشى جميع الأبدان؛ لأنها محل العقائد الزائفة.

المسد

تفسير سورة المسد

بين يدي سورة المسد

بين يدي سورة المسد قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]. سورة المسد سورة مكية، آياتها خمس، ويقال لها: سورة أبي لهب، ولم يفرد الله سبحانه وتعالى سورة لذم أحد الناس بالتعيين سوى هذه السورة التي تناولت ذم أبي لهب وامرأته؛ ولذلك لشدة عداوتهما للنبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة إيذائهما له. ويجتنب كثير من الناس قراءة هذه السورة في الصلاة معتقدين كراهة قراءتها؛ لأنها تذم عم النبي صلى الله عليه وسلم! وهذا شيء لا أصل له، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يضيره ذم عمٍ له كان أكفر قريش بالله، وأشدهم عداوة لرسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وما أحسن ما قاله الزمخشري في تفسير قوله تعالى: ((حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)) وحكى القراءتين فيها: قراءة: (حمالةُ الحطب) و (حمالةَ الحطب) والقراءة الثانية بالنصب هي رواية حفص، وقد وجهها بأن النصب على الشتم، يعني: أشتم حمالة الحطب أو أذم حمالة الحطب، ثم قال: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل من أحب شتم أم جميل، وهي امرأة أبي لهب وكنيتها أم جميل. إذاً: ما يعتقده العامة الذين يجتنبون قراءة هذه السورة ظناً منهم أن هذا يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام لكونه عمه، اعتقاد باطل، بل الرسول عليه الصلاة والسلام هو أولى الخلق بالله، وأعلمهم بالله، وأولى من يحب في الله ويبغض في الله ولو أقرب قريب له، ولو كان عمه الشريف أبا لهب.

سبب نزول سورة المسد

سبب نزول سورة المسد يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: قال البخاري: حدثنا محمد بن سلام حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى: يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد. فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟! تباً لك، فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] إلى آخر السورة)، وفي رواية: (فقام ينفض يديه وهو يقول: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}).

تفسير قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب)

تفسير قوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]. قوله: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)) دعاء عليه، كما في قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17]. وقوله: ((وَتَبَّ)) خبر، فالأولى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) دعاء عليه، والثانية: (وتبَّ) خبر بأن هذا الدعاء قد تحقق في حقه، وهلك فعلاً. وأبو لهب هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسمه: عبد العزى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عتبة، وإنما سمي أبا لهب لإشراق وجهه، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشديد البغض والتنقص له. روى الإمام أحمد بسنده عن رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهلياً فأسلم قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله؛ تفلحوا، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب. يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب). وفي بعض الروايات: (إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل، ووراءه رجل أحول وضيء ذو جمة، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: يا بني فلان! إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به. فإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان! هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة؛ فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال: عمه أبو لهب). فقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) أي: خسر وخاب، وضل عمله وسعيه، (وتبّ) أي: وقد تب، أي: تحققت خسارته وهلاكه. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: التبُّ هو: القطع، وهذه المادة: (بت) تدور على معنى القطع، كما يفيده فقه اللغة في دوران المادة على معنى واحد، التب والتبب والتباب والتبيب والتتبيب: النقص والخسارة، وتبت يداه أي: ضلتا وخسرتا. إذاً: التباب: الهلاك، ونظيره في القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37] أي: إلا في هلاك، فـ أبو لهب أهلك نفسه بفساد اعتقاده، وسوء فعاله، كما قال الأعرابي: (هلكتُ وأهلكت) يعني: في جماع أهله في رمضان، وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101] يعني: غير خسران، والخسران يؤدي إلى الهلاك والقطع، وفي قصة صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63]. فظهر من هذا كله: أن معنى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) دائرٌ بين معنى القطع والهلاك والخسران، أما قطعهما فلم يُقدَّر عليه قطع يديه قبل موته، لكن حصل له الهلاك، فقد هلك بالغدة، وقد تخلف عن غزوة بدر بسببها، وأرسل نائباً عنه، ثم هلك بعد ذلك، وأما الخسران فما أشد خسرانه بعد هذا الحكم عليه من الله تبارك وتعالى. وإذا كان المعنى قد تعين بنص القرآن بالهلاك والخسران، فلا بد من حمل قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) على الهلاك والخسران، فلماذا أسند التب لليدين؟! A أن ذلك أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية وهو: إطلاق البعض وإرادة الكل، كما في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16]، فالمقصود: صاحبها، وهو الكاذب الخاطئ، لكن حينما يخص الله سبحانه وتعالى الناصية بقوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] لابد لها من زيادة اختصاص بالمعنى المراد، فالمراد بها الإنسان كله، لكن تخصيص هذا الجزء من بدنه يستلزم زيادة اختصاص بهذا المعنى المراد، وهو أن الكذب يسود الوجه، ويذل الناصية التي هي أشرف شيء في وجه الإنسان، بعكس الصدق الذي يبيض الوجه، ويعز الناصية، ويرفع الرأس، فأسند الكذب إلى الناصية لزيادة اختصاصها بالكذب عن اليد مثلاً، فالناصية تختص بالكذب أكثر من اختصاص اليد بالكذب، ولما كان الهلاك والخسران غالباً ما يكتسب عن طريق الجوارح، واليد أشد اختصاصاً في ذلك؛ أسند إليها البت؛ لأن اليد أشد الجوارح اختصاصاً بعمل الأشياء وبالكسب، ومما يدل على أن المراد صاحب اليدين، وليس اليدين فقط؛ قوله تعالى: ((وَتَبَّ)) ولم يقل: (وتبتا) لليدين. إذاً: قوله تعالى: (وتب) المراد: أبو لهب نفسه. وقوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب) يحتمل أن يكون على سبيل الإخبار أو الإنشاء، لكن لا يوجد إلا احتمال واحد في قوله تعالى: (وتب) وهو أنها للإخبار، ففي تفسيرها نقول: (وتب) أي: وقد هلك، وفي قراءة ابن مسعود: (وقد تب) وهذه القراءة تفسيرية؛ فإنه لابد في إثبات القراءة أن توافق رسم المصحف، فعندما يقال: فلان قرأ الآية كذا، ويزيد كلمة، فالمقصود أنه فسرها، وتكون قراءة تفسيرية.

تفسير قوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)

تفسير قوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب) قال تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2]. (ما) استفهامية تقتضي الإنكار، يعني: ما أغنى عنه شيئاً في الحقيقة، ويحتمل أن (ما) نافية: (ما أغنى) فهو نص على أن ماله لم يغن عنه شيئاً. قوله: (وما كسب) يعني: وما كسب من المال، واكتساب المال إما أن يكون مالاً اكتسبه بالميراث ونحوه أو ما كسب من عمل جر عليه هذا الهلاك، وهو عداوته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11]، وقال تبارك وتعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية:10]. وفي هذه الآية سؤالان: السؤال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو قومه في مكة برفق وحلم، فما الحكمة من هذا الدعاء على عمه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]؟ A أنه كان يلاطفهم وهو يطمع في إسلامهم، أما عمه فقد يئس من إسلامه، فكان هذا الدعاء في محله، كما وقع من إبراهيم عليه السلام حينما كان يلاطف أباه ويقول: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:43 - 44]، فلما يئس منه تبرأ منه، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وكذلك نوح عليه السلام لما أوحي إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] حينئذٍ دعا عليهم بدعائه المعروف. السؤال الثاني: ما الحكمة من مجيء قوله تعالى: (وتب) بعد قوله: (تبت يدا أبي لهب) مع أن الجملة الأولى كافية سواء قلنا: إنها إنشاء للدعاء أو إخبار بوقوع ذلك؟ الجواب -والله تعالى أعلم-: أن الجملة الأولى محتملة للخبر وللإنشاء، فإذا كانت خبراً فقد يمحو الله ما يشاء ويثبت، والإنشاء قد لا ينفّذ، كقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17]، ويحمل على الذم فقط والتقبيح، فقوله بعد ذلك: (وتب) هو لبيان أن الهلاك واقع به لا محالة، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك، فيئس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من إسلامه، وهنا تنقطع الملاطفة معه، والله تعالى أعلم. وقد وقع ما أخبر الله به، وهذا من إعجاز القرآن الكريم ومن علامات النبوة، فإنه استمر على كفره حتى مات، قال الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:33]، فهذه السورة من دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب)

تفسير ابن كثير لقوله تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب) يقول الحافظ ابن كثير: قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] قال ابن عباس وغيره: (وما كسب) يعني: ولده، وفي الحديث: (وإن ولده من كسبه). وذكر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي، فأنزل الله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:2 - 3] أي: ذات شررٍ ولهيب وإحراق شديد.

تفسير قوله تعالى: (وامرأته حمالة الحطب)

تفسير قوله تعالى: (وامرأته حمالة الحطب) قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4]. كانت زوجة أبي لهب من سادات نساء قريش، وهي أم جميل، واسمها: أروى بنت حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده؛ فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم، والجزاء من جنس العمل، فلما كانت معينة ومساعدة لزوجها في عناده وكفره وجحوده، فالجزاء أنها تكون عوناً عليه في عذابه في جهنم والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: ((حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)) يعني: تحمل الحطب في النار فتلقيه على زوجها ليزداد عذاباً على ما هو فيه، وهي مهيئة لذلك مستعدة له. وروي عن بعض السلف أنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة، وفي بعض الروايات أنها كانت تضع الشوك في طريق النبي صلى الله عليه وسلم.

من أخبار حمالة الحطب

من أخبار حمالة الحطب جاء عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: لما نزلت: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة، وفي يدها فهر وهي تقول -والعياذ بالله-: مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا لقد كان المشركون لعنهم الله من حقدهم على الرسول عليه الصلاة والسلام وعداوتهم له يسمونه (مذمماً) عكس كلمة محمد، ومعنى محمد: ممدوح ومثنى عليه الصلاة والسلام. قالت أسماء: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله! قد أقبلت، وأنا أخاف عليك أن تراك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تراني) وقرأ قرآناً واعتصم به -كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]- فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني؟ قال: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولّت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها. ومن أخبارها أنها عثرت في مرطها وهي تطوف بالبيت فقالت: تعس مذمم، فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب: إني لحصان فما أكلم وثقاف فما أعلم وكلتانا من بني العم وقريش بعد أعلم

تفسير قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد)

تفسير قوله تعالى: (في جيدها حبل من مسد) قال تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] أي: في عنقها حبل من نار، قال مجاهد وعروة: من مسد النار، وقال بعض أهل العلم: في عنقها في الآخرة حبل من نار ترفع به إلى شفيرها، ثم يرمى بها إلى أسفلها، ثم كذلك دائماً. وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة، فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأعقبها الله بها حبلاً في جيدها من مسد النار. وقال عروة بن الزبير: المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً، وقيل: هي قلادة من نار طولها سبعون ذراعاً. وقيل: المسد حبل من ليف أو من خوص، وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها، ومسدت الحبل أمسده مسداً إذا أجدت فتله بإتقان. وقال مجاهد: (في جيدها حبل من مسد) أي: طوق من حديد؛ لأن العرب يسمون البكرة مسداً، والبكرة هي التي يستقى عليها. وعبر بالمسد عن حبل الدلو، كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات: كل مسد رِشاء- يعني: رشاء الدلو- وأنشد في ذلك: وبكرة ومحوراً صراراً ومسداً من أبق مغاراً قال: والأبق: القنب. وقال الآخر: يا مسد الخوص تعوذ مني إن كنت لدْناً ليناً فإني ما شئت من أشمط مقسئن

فوائد من سورة المسد

فوائد من سورة المسد

ظهورة معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

ظهورة معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم قال العلماء: في هذه السورة معجزة ظاهرة، ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نزل قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:3 - 5]، فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، ولم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما لا ظاهراً ولا باطناً، لا مسراً ولا معلناً، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة. وهذا ذكره الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه السورة.

أولاد أبي لهب

أولاد أبي لهب قال الشهاب: الذي صححه أهل الأثر أن أولاد أبي لهب لعنه الله ثلاثة: معتب، وعتبة وقد أسلما، وعتيبة وهو الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليه لما جاهر بإيذائه وعداوته، ورد ابنته وطلقها، فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك)، فأكله السبع في خرجة خرجها إلى الشام، والمقصود بالكلب هنا: الأسد، وفيه يقول حسان رضي الله عنه: من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع

زيادة بيان لمعنى قوله: (سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب)

زيادة بيان لمعنى قوله: (سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب) قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] أي: ذات توقد واشتعال، وهي نار الآخرة، جزاء ما كان يأتيه من مقاومة الحق ومجاهدته. وقوله: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] يعني: وستصلاها معه امرأته أيضاً، فامرأته مرفوع عطفاً على الضمير في (سيصلى) أي: هو وامرأته، أو مرفوع على الابتداء، ويكون قوله: (في جيدها) هو الخبر. وقرئ: (حمالةَ) بالنصب على الشتم والذم، وبالرفع نعتاً أو بدلاً أو عطف بيان، وإنما قيل لها ذلك-على قراءة النصب- لأنها كانت تمشي بالنميمة، قال الزمخشري: ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم- لأن نقل الكلام يؤدي إلى اشتعال الفتن بين الناس- أي: يوقد بينهم ويورث الشر، قال الشاعر: من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب يمدح الشاعر امرأة بأنها لم تمش بين الحي بالحطب الرطب، يعني أنها بريئة من المشي بالنميمة بين الناس. وقال القاسمي: أي في عنقها حبل من المسد، أي: أنها في تكليف نفسها المشقة الفادحة للإفساد بين الناس، وتأجيج نيران العداوة بينهم في منزلة حامل الحطب، الذي في عنقه حبلٌ ثفن، يشد به ما حمله إلى عنقه، حتى يستقل به، وهذه أشنع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب، ففي عنقها حبل من المسد تشد به الحطب إلى كاهلها حتى تكاد تختنق به. وقد أنزل الله في أبي لهب وفي زوجته هذه السورة ليكونا مثلاً يعتبر به من يعادي ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مطاوعة لهواه، وإيثاراً لما ألفه من العقائد والعوائد والأعمال، واغتراراً بما عنده من الأموال، وبما له من الصولة أو المنزلة في قلوب الرجال، وأنه لا تغني عنه أمواله ولا أعماله شيئاً، وسيصلى ما يصلى، نسأل الله سبحانه وتعالى العافية.

الإخلاص

تفسير سورة الإخلاص

بين يدي سورة الإخلاص

بين يدي سورة الإخلاص سورة الإخلاص هي السورة الثانية عشرة بعد المائة من القرآن الكريم وهذه السورة مكية، وآياتها أربع. روى الإمام أحمد بسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك، أي: اذكر نسب ربك، فأنزل الله تعالى هذه السورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]). وروى البخاري بسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن -وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله سلم- عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه بأن الله تعالى يحبه)؛ أي: لأنه أحب صفة الله تبارك وتعالى. وفي بعض الروايات عند البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: (يا فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: إني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة). وثبت أيضاً أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن، فروى البخاري بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن). وروى البخاري بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟! فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن) يعني: سورة قل هو الله أحد. وروى الإمام الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احشدوا -يعني: اجتمعوا وأحضروا الناس- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحُشد من حُشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبراً جاء من السماء -يعني: جاءه خبر من السماء يأمره بأن ينصرف ولم يشرع في قراءة ثلث القرآن ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن). وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، ورواه مسلم في صحيحه. وقال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] في ليلة فقد قرأ ليلتئذٍ ثلث القرآن). ومما صح أيضاً في فضيلة هذه السورة العظيمة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات حتى يختمها بنى الله له قصراً في الجنة، فقال عمر: إذاً نستكثر يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب). قوله: (إذاً نستكثر) يعني: إذاً نقرؤها كثيراً. قوله: (الله أكثر وأطيب) أي: الله أكثر أجراً وثواباً من عملكم. وعن بريدة: (أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي ويدعو، يقول: اللهم! إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فسمعه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: والذي نفسي بيده! لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب). ومن الأحاديث الواردة في فضيلة هذه السورة العظيمة أيضاً ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله! بم نجاة المؤمن؟ قال: يا عقبة! أخرس لسانك -أي: تصرف كأنك أخرس، أي: أمسك عليك لسانك، وجاء في بعض الروايات الأخرى: أملك عليك لسانك، أمسك عليك لسانك-، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك). وهكذا سلوك المؤمن في الفتن أن يكف لسانه ولا يخوض؛ لأن اللسان إذا أطلق فهو سبع عقور، يقطع في أعراض الناس، ويجني ويحصد صاحبه بهذه العضلة القصيرة الآثام والكبائر والذنوب، فتهلكه. قوله: (أمسك عليك لسانك) أي: أغلق هذا الباب من الشر. (قال عقبة: ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأني فأخذ بيدي، فقال: يا عقبة بن عامر! ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم؟ قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك، قال: فأقرأني: قل هو الله أحد، وقول أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم قال: يا عقبة! لا تنسهن، ولا تبت ليلة حتى تقرأهن إلى آخر الحديث). وأيضاً ثبت الاستشفاء بهذه السورة العظيمة، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما -أي: ينفخ بريق لطيف، فهذه رقية يومية كان الرسول عليه السلام يرقي بها نفسه قبل أن ينام-، فقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات). وقوله هنا في هذا الحديث: (ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما) ليس على ظاهره وإنما المقصود: أنه قرأ أولاً، ثم نفث بعد القراءة؛ حتى تحصل بركة تلاوة القرآن في كفيه. قوله: (نفث فيهما) أي: بعد القراءة، فينبغي أن يحمل الحديث على هذا، فإذا أراد الإنسان أن ينام فإنه يجمع كفيه، ثم يقرأ المعوذات الثلاث، وإذا قيل: المعوذات فالمراد بها: قل هو الله أحد، والفلق، والناس، المعوذات بالجمع. قوله: (يجمع كفيه ثم ينفث فيهما) أي: بعد أن يقرأ. قوله: (ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده)، فيبدأ أولاً برأسه ووجهه، ثم ما أقبل من جسده، ثم ما استطاعت يده أن تصل إليه من جسده، فيرقي نفسه بهذه السور الثلاث.

تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد)

تفسير قوله تعالى: (قل هو الله أحد) قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]. يقول الشيخ عطية سالم -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة الإخلاص: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، (قُلْ) أي: لا تقله من عند نفسك؛ بل قل: هذا الذي عرفته صادقاً يقول لي: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي: الواحد الوتر الذي لا شيبه له ولا نظير ولا صاحبة ولا ولد ولا شريك. ومعلوم أن هذه المعاني كلها صحيحة في حقه تبارك وتعالى؛ فالله هو الواحد الوتر، الذي لا شريك له ولا ند ولا نظير. فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى أَحد في ذاته وفي صفاته، فلا شيبه له ولا شريك ولا نظير ولا ند له سبحانه وتعالى. فهذه صفات الرحمن كما جاء في الحديث الذي سبق أن ذكرناه، وفيه قصة ذلك الصحابي الذي قال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن -تبارك وتعالى-. وهذا مما يدل على خطورة موقع قضية معرفة الله سبحانه وتعالى. ومعرفة الله كما يقول البعض: زلة حاضرة، فكيف يعرف الله؟ إن معرفة الله سبحانه وتعالى لا تكون بالعقل، وإنما يعرف بالوحي، فصفات الله وأسماؤه لا يمكن أن يجتهد الإنسان فيها بعقله حتى يصل إليها، فكيف لهذا المحدود أن يدرك المطلق سبحانه وتعالى؟! إذاً: فمعرفة الله لا تكون إلّا بالوحي، فيأتي الوحي ويخبرنا عن أسماء الله وصفاته وأفعاله عز وجل، وليس الأمر كما يقول بعض الناس: ربنا عرفناه بالعقل، فبالعقل نتأمل في مخلوقات الله، فنصل بذلك إلى حكمته وعلمه وقدرته، وآيات توحيده، وأما معرفة الله فإنما تكون عن طريق الوحي. وقضية الأسماء والصفات قضية في غاية الخطورة، خلافاً لبعض الجهلة ممن لم تسبقهم إلى بدعتهم وقولهم وجهلهم أي طائفة، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة؛ لأن الفرق كلها تعطي هذه القضية الأولوية المطلقة في قضايا الدين، فقضية معرفة الله وأسمائه وصفاته قضية لها الأولوية المطلقة، معرفة الله وما يليق به وما لا يليق به؛ لأن علم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، فالعلم يشرُف بشرف المعلوم، فمثلاً: هل علم الطب مثل علم الحشرات؟ لا؛ لأن موضوع علم الطب هو رأس مال الإنسان في الحياة الدنيا، وهي الصحة، وأما علم الحشرات فعلم أقل من ذلك بكثير، وهكذا، فبشرف المعلوم يشرف العلم، فأشرف معلوم في الوجود هو الله سبحانه وتعالى، فمن ثَم فإن علم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق؛ لأن موضوعه معرفة الرب عز وجل، ومعرفة ما يليق بالله، ومعرفة ما ينبغي أن ننزه الله تبارك وتعالى عنه. إذاً: فقضية التوحيد قضية محورية جوهرية لها مرتبة أولية على كل ما عداها من القضايا. ومع ذلك نسمع بعض الجهلة يقولون: التوحيد يفرق الناس، فدعونا في الأمور التي وراءها عمل، فالمسكين يظن أن هذا ليس بعمل! أليس القلب إذا عرف الله وصدّق فهذا منه عمل؟! ألم يقل تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225]، فالكسب هو اليقين في القلب، أليس هذا عملاً، وأليس هذا تصديقاً؟! إذاً: فهذه السورة هي ثلث القرآن، وقد بشر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الصحابي الذي كان يختم بها في الصلاة أن الله تعالى يحبه؛ لأنه يحب صفة الرب تبارك وتعالى، فليس فيها إلا الصفة، وليس فيها حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، وإنما فيها خبر عن صفات الله، وما يليق بالله وما لا يليق بالله. وأيضاً فإن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي، ومع ذلك ليس فيها الأمر أو النهي أو العمل الذي يزعمونه، وليس فيها سوى الخبر عن الله: إثباتاً لما يليق به، ونفياً لما لا يليق به، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فيه نفي وإثبات، ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) فالحي القيوم لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]. وقد سبق مراراً أن نبهنا على هذا الأمر، فنكتفي بهذه الإشارة. وقد دلت هذه الآية الكريمة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} على أن الله سبحانه وتعالى أحد، أي: في ذاته وصفاته، فلا شبيه له ولا شريك ولا نظير ولا ند. فقوله تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فسره ضمناً قوله تبارك وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]؛ أي أن الله سبحانه وتعالى واحد فرد لا شريك له ولا ند ولا نظير ولا شبيه، لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله. وكذلك أيضاً (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يفسرها قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)). ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) تفسيرها: ليس كالله شيء. وأما المعنى العام: فإن الرسالة المحمدية كلها، بل وجميع رسالات الأنبياء إنما جاءت لتقرير هذا المعنى؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد أحد، ولا يدل على هذا آيات القرآن الكريم فقط، ولا الكتب المنزلة على الأنبياء من قبل فقط، بل يحوم ويدندن حول هذه القضية كل ما في الوجود، كما يقول الشاعر: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ويقول الآخر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خُطَّ فيها لو تأملت خطَّها ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطل وأما نصوص القرآن على هذه الحقيقة الخالدة، والتي هي أعظم حقيقة في الوجود، فكثيرة جداً، وكل الوجود يدور حول إثبات هذه الحقيقة وهي: التوحيد لله تبارك وتعالى، ونفي النظير والشريك والند والمثل له. يقول تبارك وتعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]. ويقول تعالى في سورة التوبة: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:31]. وفي سورة ص: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص:65]. وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [إبراهيم:52]. فسبحانه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وتنزهت صفاته، فهو واحد أحد في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله. وقد جاء القرآن أيضاً بتقرير هذا المعنى عقلاً كما أقره نقلاً، أي أنه جمع بين العقل والنقل. فما مضى فتملك أدلة نقلية، وإخبار من الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له. وقد عرض القرآن هذه القضية على سبيل الاستدلال العقلي، فقال تبارك وتعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:42 - 43]. وقال تبارك وتعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، فدلل على عدم فسادهما بعدم تعددهما، فهل فسدت السموات والأرض؟ A لم تفسد، بل هي على نظام ثابت مستقر بمشيئة الله، فيدل هذا على عدم تعدد الآلهة. وجُمع العقل والنقل في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91].

تفسير قوله تعالى: (الله الصمد)

تفسير قوله تعالى: (الله الصمد) قال تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2]. قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ يفسره قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، قال ابن كثير: وهذا معنىً حسن. وقال بعض العلماء: الصمد هو المتناهي في السؤدَد، وفي الكمال من كل شيء. وقيل: الصمد من يصمد الخلائق إليه في حاجاتهم، ولا يحتاج هو إلى أحد. فكل الخلق محتاجون إليه، وهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد، ومن ذلك قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]، وقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]. ونبدأ في تفسير ما بعده الذي أشرنا إليه، فقد قلنا في قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ: إنه يفسره ما بعده، وهو قوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وفي إمعان النظر في مبدأ: يفسره ما بعده، يتضح لنا أن السورة كلها هي تفسير لأول آية فيها. فسورة الإخلاص هي أربع آيات، والثلاث الآيات الأخيرة منها تفسير للآية الأولى. فقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فسرها وشرحها قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:2 - 4]؛ لأن الأحدية هي تفرد الله سبحانه وتعالى بصفات الجلال والكمال كلها، ولأن المولود ليس بأحد؛ لأنه جزء من والده. فلو وُلد لرجل مولود، فهذا المولود لا يقال له: أحد؛ لأنه ليس بأحد، وإنما هو جزء من والده الذي تناسل منه، وكذلك الوالد لا يقال له: أحد؛ لأن جزءاً منه في ولده. وكذلك لو لم يكن له والد ولا ولد لكنه له كفؤ وله نظير وله شبيه ومثيل، فليس بأحد أيضاً، فكل من له كفؤ ونظير ومثيل لا يوصف بأنه أحد؛ لأنه غير منفرد فله نظير، فكيف يكون منفرداً، وكيف يكون واحداً أحداً؟! إذاً: فالسورة كلها تقرير لمعنى (أحد) في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].

تفسير قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد)

تفسير قوله تعالى: (لم يلد ولم يولد) قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]. قوله: (لَمْ يَلِدْ)، ومثله قوله تعالى: {وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111]، وهذه الآية هي آخر آية في سورة الإسراء، وتسمى آية العزة. إن نفي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة؛ لأنه يمكن أن يتخذ الشخص ولداً بطريقة غير طريقة التناسل المعروفة، وذلك عن طريق التبني مثلاً، ففي قصة يوسف عليه السلام يقوله سبحانه وتعالى عن عزيز مصر: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21]. إذاً: فيمكن أن يُتخذ الولد عن طريق الإلحاق، أو عن طريق التبني، فيكون في هذه السورة نفي أخف. فقوله: (لم يلد) أخف من قوله: (ولم يتخذ ولداً)، ففي هذه السورة نفي أخف. فقوله: (ولم يتخذ ولداً) نفي لاتخاذ الولد مطلقاً بالنسب وغيره. فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة التي هي سورة الإخلاص والتي تعدل ثلث القرآن؛ لأن هذه السورة مختصة بحق الله تبارك وتعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية ونفي الولادة والولد ونفي الكفؤ، وكلها صفات انفرد الله سبحانه وتعالى بها، ولذلك جاء في هذه السورة (سورة الإخلاص) النص الصريح بعدم الولادة في قوله: (لم يلد) وأنه سبحانه وتعالى (لم يلد ولم يولد)، فهي أخص من تلك، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعاً بدون شك ولا نزاع، ولم يؤثر فيها أي خلاف. وهذه الحقيقة ليس فيها شك على الإطلاق، وليس فيها أدنى خلاف بين من ينتسب إلى الإسلام، ومن قال بخلاف ذلك فليس بمسلم، بل يصير كافراً. إذاً: فقد سلم جميع المسلمين بهذه الحقيقة: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، ولكن غير المسلمين لم يسلموا بهذه الحقيقة. فاليهود قالوا: عزير ابن الله، وهذه صورة من صور الشرك، ولهم صور أخرى في الشرك كتشبيه الله بخلقه، وهذا باب آخر، فإن كلامنا الآن في نفي الوالدية لله سبحانه وتعالى، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، فاتفقوا على ادعاء الولد لله، ولم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود، أي: أن له أبوين. وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه، وهذه السورة وهي المختصة بصفات الله لم يأتِ فيها السليم عن المانع من اتخاذ الله للولد، ومنه كونه سبحانه وتعالى لم يولد. يقول الشيخ عطية سالم: جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلاً - أي: بأن الله لم يلد ولم يولد- مع الإشعار بالدليل العقلي وذلك في قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [البقرة:116]، فهذا تنزيه لله؛ لأن هذا شتم لله كما جاء في الحديث القدسي: (يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني) أي: أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى الولد. {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:116 - 117]. فهذا نص صريح فيما قالوه: اتخذ الله ولداً، وهو أيضاً نص صريح في تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يقولون. ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم فقال: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) ففيه بيان المانع عقلاً من اتخاذ الولد بما يُلزم الخصم، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون باراً بوالده، وأن ينتفع الوالد بولده كما جاء في قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، أو يكون الولد وارثاً لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6]. أما الله سبحانه وتعالى فهو حي باقٍ، يَرث ولا يُورث كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:180]. إذاً: فكل ما في السموات والأرض في قنوت وامتثال طوعاً أو كرهاً لله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:92 - 93]، إذاًَ: فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى الولد؛ لغناه عنه. ثم بيّن سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع فقال: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، وهذا واضح في نفي الولد عن الله عز وجل. وقد تمدّح سبحانه في قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111] أي: الله أكبر كبيراً. وأما أنه لم يولد فلم يدع أحد عليه ذلك؛ لأنه ممتنع عقلاً بدليل الممانعة المعروف، فلو توقف وجود الله سبحانه وتعالى على أن يولد لكان محتاجاً في وجوده إلى من يلده، ثم يكون من يلده بحاجة إلى والد وهكذا، وهذا يسمى بالتسلسل أو الدور، وهو من الأمور المستحيلة. وأورد بعض المفسرين سؤالاً في هذه الآية، وهو: لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة؟ فقوله: (لم يلد) نفي للولد. وقوله: (ولم يولد) نفي للولادة. والأصل في المشاهدة أن الإنسان يولد أولاً ثم يلد بعد ذلك. و A أن هذا من باب تقديم الأهم؛ لأنه رد على النصارى في قولهم: عيسى ابن الله، وعلى اليهود في قولهم: عزير ابن الله، وعلى المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود لأحد، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى كما قال تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وقال عز وجل: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:88 - 93]. فمع أن أحداً لم يدع لله سبحانه وتعالى الولادة جاء القرآن بنفي كلا الاحتمالين؛ لتسليم النفي والتنزيه كما في حديث البحر لما سئل الرسول عليه السلام عن الوضوء بماء البحر فقيل له: (إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته). فلأن الشيء الذي يحتمل أن يسأل عن مائه، يحتمل -أيضاً- الاشتباه في حكم ميتته، فهذا جواب للسائل بأكثر مما سأل عنه.

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفوا أحد)

تفسير قوله تعالى: (ولم يكن له كفواً أحد) قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. يقال: كفواً، وكفؤاً، وكفاءً، وهي كلها بمعنى واحد، وهو المثْل. وكل أقوال المفسرين في هذه الآية الكريمة تدور على معنى نفي المماثلة، وأنه سبحانه ليس له مثيل ولا نظير ولا شبيه. فعن كعب وعطاء: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا) -بضم الفاء- لم يكن له مثلٌ ولا عَديل. وعن ابن عباس أنه بمعنى: ليس كمثله شيء. وعن مجاهد أي: لا صاحبة له. وقد جاء نفي الكفؤ والمثل والند والعِدل عن الله سبحانه وتعالى. فنفي الكفؤ عن الله في قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا). أما نفي المثل جاء في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وفي قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]. أما نفي الند ففي قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]. أما نفي العِدل ففي قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يساوونه بغيره. وهو مأخوذ من العِدل، وهو أحد شقي حمل البعير.

سبب نزول سورة الإخلاص

سبب نزول سورة الإخلاص روي في سبب نزول هذه السورة أن المشركين قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: انسب لنا ربك؛ فنزلت هذه السورة، وقال عز وجل فيها: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، رداً على إثبات النسب له سبحانه وتعالى. وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عليه السلام عن ربه فقال له: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فجاء جوابه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:24 - 27]. فما موجب قول فرعون -لعنه الله- عن موسى عليه السلام إنه لمجنون؟ لأنه سأله بـ (ما) فقال: (وما رب العالمين)؟ و (ما) يُسئل بها عن شرح الماهية، فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب عز وجل، من أي شيء هو؟ كما يقال في جواب قول القائل:-ولله المثل الأعلى- ما الإنسان؟ فيجاب: هو حيوان ناطق مثلاً. ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون؛ لأنه جاهلٌ بالله ولا يعرف ما الذي يليق أن يُسئل به عن الله وما الذي لا يليق؛ فسأل فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى، أو لتجاهله عن هذه الحقيقة، أو كان ذلك منه جحوداً وعناداً، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]. فأتى الجواب بما يخصه هو، فالله سبحانه وتعالى لا يعلم كيفيته إلا هو. إذاً: لا يوجد أي أمل على الإطلاق في أن يدرك الإنسان ربه، أو يحيط به علماً، فهذا لا مطمع لأحد فينا به على الإطلاق، فلا يعرف كيفية الله إلا الله عز وجل، فغير وارد أبداً أن يحاط بالله سبحانه وتعالى علماً، فأي إنسان مهما حاول أن يُعمل عقله وخاض بكل ما أوتي من قوة ومن علم أن يعرف كيفية الله فالله قطعاً بخلاف ما توهمه؛ لأنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] أي: ليس كالله شيء. فأنت تستطيع أن تتصور في خيالك وفي عقلك الشيء الذي رأيته من قبل، فإذا قلت لك مثلاً: قلم، كوب، طائرة، دبابة، سيارة، عمود، حجر، ماء، فهذه أسماء وألفاظ قلتها، وكل منكم في مخيلته صورة لها فتستطيعون أن تتخيلوها؛ لأنكم رأيتموها، فيستطيع المرء أن يتصورها بالكيفية التي رآها عليها، وأما الله تعالى فمتى رآه حتى يتصوره ويكيفه بصورة معينة؟!! إذاً: فهذا الأمر في غاية الأهمية، وقد أيأسنا الله سبحانه وتعالى من تخيل بعض المخلوقات كالجنة مثلاً، فقد جاء في الحديث القدسي: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) أي: أنك مهما حاولت أن تتخيل نعيم الجنة وما فيها من فاكهة ونخيل وأعناب وأنهار فلا تستطيع، مع أننا قد رأينا في الدنيا هذه الأشياء، ومع ذلك فالجنة بخلاف ذلك، ولا موافقة بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا في الأسماء فقط، فإذا كان هذا في المخلوقات فكيف بحق الله سبحانه وتعالى؟! فلا أمل على الإطلاق في هذا، فينبغي للإنسان ألّا يهدر طاقته العقلية والذهنية في التفكير في شيء أيأسنا الله من أن نصل إليه، ولذلك لما كان بعض الناس يخوض في تشبيه الله بخلقه أفحمه بعض العلماء، فاستقرأه حديث الإسراء، وكيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (رأيت جبريل في صورته وله ستمائة جناح، ما منها جناح إلا قد سد ما بين المشرق والمغرب). فإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله تعالى فكيف بالله تعالى! فقال له: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح؟ فعجز، فقال له: فأنا أضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين جناحاً، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ فبهت وتحير، فقال له: يا أبا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز. إذاً: فلا مطمع ولا أمل على الإطلاق في أن يعرف أحد كيفية الله أبداً، فعلينا أن نثبت له الصفات كما وردت في القرآن والسنة، ولا نكيف، ولا نمثل، ولا نعطل. إذاً: ففرعون يسأل عن ماهية رب العالمين في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، وهذا سؤال لا يمكن أن يدرك أحد جوابه، فموسى عليه السلام رد عليه بما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أن الله سبحانه وتعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وليست كربوبية فرعون الكاذبة. ومثل ذلك في القرآن: عندما سألوا عن الأهلة لماذا تبدو صغيرة وبعدها تكبر؟ فهذا سؤال عن حقيقة تغيرها، فترك القرآن الجواب على سؤالهم، وأجابهم بما يخصهم، وما يلزمهم وينفعهم، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]. وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمرود عندما حاجه في ربه كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]، فهذا أسلوب في المناظرة، فإبراهيم عليه السلام لم ينتقل عجزاً عن جواب السؤال الأول، فالنمرود كان عنده مخارج في المشاغبة، فقال: أنا أحيي وأميت، فأتى برجلين فحكم على أحدهما بالإعدام والثاني أطلقه، فقال له: أنا الآن أحيي وأميت، فهذا نوع من الشغب، فلم يتفرغ إبراهيم لمناقشة شغبه، وانتقل إلى حجة لا يمكن بحال من الأحوال أن يدعي أن له قدرة عليها، فقال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]. وقد جاء أيضاً أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة ربه كما جاء في بعض الرويات: وإلهك هذا من نحاس، أم من خشب، أم من كذا أم من كذا؟ وفي بعض الرويات أنهم قالوا: انسب لنا ربك، فجاء الجواب بصفات الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، لأن النسب لا يكون إلّا للمخلوق، وعندما تسأل عن الماهية فهذا في المخلوق، لكن الله سبحانه وتعالى لا يسأل عنه أبداً بهذا السؤال، فما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه وتعالى، وفي الممكن لا في الواجب الوجود، فهو سبحانه لا يدرك كنهه غيره عز وجل، وصدق الله العظيم في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وفي قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتابان في تفسير سورة الإخلاص، وهذه السورة لو مكثنا سنة كاملة في تفسيرها لا نفرغ؛ لأن فيها من المعاني والأسرار والحكم ما تنقطع دونه الأعناق، والكتابان هما: (تفسير سورة الإخلاص)، والثاني: (جواب أهل العلم والإيمان في ما ورد من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)، وهذا من أبدع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فنكتفي بهذا القدر من تفسير سورة الإخلاص.

§1/1